وجوب موالاة حزب الله ومعاداة حزب الشيطان
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:54 - 55]، (إنما) أسلوب قصر وحصر للولاية، فلا يجوز نصرة وطاعة ومتابعة الكفار، ولا التحالف والتعاضد والتعاون إلا مع من وصفهم الله عز وجل؛ لأن أغراض هؤلاء معلومة وهي طلب الجنة، وأغراض من خالفهم معلومة {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]، قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، فالله عز وجل إرادته الشرعية بينة في إعلاء كلمته سبحانه، وكذا يكون الأمر كوناً، فكلمة الله هي العليا في عاقبة الأمر، فلا بد أن يظهر الدين، ويعلو الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فيحصل الذل بمخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)، فيفهم من ذلك: أن العز يحصل لمن أطاعه وآمن به واتبعه، قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، فلا بد أن يبور مكرهم ويضل سعيهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، ولا بد أن يخطئوا الهدف، وألا يحققوا مقصدهم؛ لأنهم يريدون مقصداً مستحيل التحقيق {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32]، فهل تطفأ الشمس بأفواه النافخين؟ كلا، فنور الله عز وجل أعظم من نور الشمس، وحاجة الناس إلى دين الله أعظم من حاجتهم إلى الشمس بل وأعظم من حاجتهم إلى الهواء والماء؛ فلذا يستحيل أن يطفئ هذا النور؛ لأن الله هو الرحمن الرحيم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9]، فرحمته بعباده تقتضي ألا يضيع الحق من الأرض بالكلية، وعزته تقتضي ألا يترك الجبارين المتكبرين الطغاة بل ينتقم منهم ويقصمهم ويريهم من المؤمنين ما كانوا يحذرون بعزته وقدرته وعظمته ووحدانيته، فهو الملك الحق المقتدر الذي لا قوة إلا به القوي العزيز سبحانه وتعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فهذه صفات بينة واضحة لا تحتمل لبساً لمن يتحالف ويتعاون ويتعاضد ويوالي أهل الإيمان، فلا بد على أهل الإيمان أن يتصفوا بهذه الصفات، كما قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
فهل بعد بيان هذه الصفات من شك في أعضاء هذا الحزب الغالب لا يوجد شبهة التباس في ذلك، فلا بد أن يتولى المؤمن من يؤمنون بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحققون التوحيد والإيمان، ويدعون إلى الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا الذين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فلا بد أن يكون المؤمن الذي تواليه عابداً لله، مؤدياً حق الله فيما بينه وبينه بإقامة الصلاة، وفيما بينه وبين الناس بإيتاء الزكاة، وفي الجملة التزامه بالطاعة {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71] أي: التزام بالكتاب والتزام بالسنة {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أي: في الدنيا والآخرة، كما وعدهم الله بالنصر في الدنيا والآخرة {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من حزبه الغالبين، وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين، وأن ينصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظهم في كل مكان.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والشيشان وأفغانستان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم عليك باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين! (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]!(33/6)
ليس لك من الأمر شيء
إن الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق كل شيء في هذا الوجود، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة والأمر والنهي.
والله سبحانه هو المالك والمتصرف في هذا الكون حقاً، فلا يجوز للعبد أن يدعو غيره، أو أن يخاف من أحدٍ سواه؛ لأن كل ما سوى الله مخلوق لا يملك لنفسه من الأمر شيء، فضلاً عن أن يملك ذلك لغيره.(34/1)
معاني الربوبية
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: (فاللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) هذا الدعاء الذي كان يستفتح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته بالليل، والذي هو معجزة من معجزاته الباهرة صلى الله عليه وسلم، وهو مما خصه الله عز وجل به عن الأنبياء؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام فيما أوتيه ولم يؤته أحد قبله: (وأوتيت جوامع الكلم)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام الذي بين فيه أسس التوحيد، ومعاني الإيمان، وأسس السلوك والأخلاق السوية التي بها يصلح الإنسان، والتي إذا طبقها في حياته سعد سعادة الدنيا والآخرة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن)، فيه تحقيق توحيد الربوبية في نفس العبد، وأن يشهد الإنسان أن الله سبحانه وتعالى الذي له الحمد على كمال أسمائه وصفاته، وكمال ربوبيته وألوهيته، وعلى عظيم نعمه على خلقه، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن، فلا يشاركه في ربوبيته سبحانه وتعالى مخلوق، ولا نصيب لأحد دونه في شيء من معاني الربوبية.(34/2)
الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر لكل ما في هذا الكون
المعنى الأول من معاني الربوبية: أن الله عز وجل هو الخالق الرازق والمدبر لكل ما في هذا الكون، وهذا المعنى يجب على العبد أن يبتدئ به فاتحة صلاته حين يقرأ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فهو سبحانه وتعالى رب هذا العالم، والرب بمعنى: المصلح الذي يرب غيره، أي: يقوم عليه بالإصلاح، وربوبية الله سبحانه وتعالى للخلق جميعاً لا تشبهها ولا تدانيها ربوبية غيره، ذلك أنه عز وجل تفرد بخلقهم ورزقهم وضرهم ونفعهم، وهو عز وجل وحده الذي يفعل ذلك بالصلاح الذي لا فساد فيه، وقد قدر وجود أنواع من المفاسد فيما خلق، لكنه عز وجل جعل وراءها من المصالح والحكم والغايات المحمودة ما تضمحل معها تلك المفاسد كفعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فلا يوصف عز وجل في شيء من أسمائه أو صفاته أو أفعاله بالفساد أو الشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، وإنما يخلق الشر للخير، فالصلاح الذي يقع في العالم بسبب وجود بعض أنواع المخلوقات التي فيها من الشر أضعاف مضاعفة عن الشر الذي فيها، فإذا علمنا أن هذا الخير وهذه المصالح لا يمكن أن تحصل إلا بوجود هذه المخلوقات التي فيها شر لأدركنا أنه سبحانه وتعالى المصلح لشأن خلقه جميعاً بما لا يشبهه إصلاح غيره.
فالصلاح في هذا الكون لا يلزم أن يكون خاصاً بعبد بعينه، وإنما يكون في المجموع، فالله سبحانه وتعالى يفعل الخير، ويخلق الخير والشر، يخلق الشر لما يترتب عليه من أنواع المصالح والحكم والخير العظيم الذي لا يحصل إلا بوجود الشر، فهو سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يصلحهم، ولذا كان آخر ما يقع في قلوب الخلق وعلى ألسنتهم: الحمد الله رب العالمين، كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75].
قالها المؤمنون بألسنتهم وقلوبهم، شاهدين فضل الله عز وجل عليهم، وأما الكفار فقد وقع في قلوبهم ذلك الحمد رغماً عنهم لا يملكون غير ذلك؛ لأنهم رأوا من المصالح والحكم والخير الذي لم ينالوا منه بسبب إعراضهم عن أمر ربهم عز وجل، ما جعلهم يدخلون النار حين دخلوها، كما قال الحسن: إن أهل النار دخلوا النار، وإن حمد الله لفي قلوبهم لا يملكون غير ذلك، وإن كانوا لا يحمدونه على أنه أنعم عليهم، ولكن يحمدونه على كمال عدله، وكمال حكمته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى، ولا يملكون أن يصفوا ربهم عز وجل بنقص أو فساد، فهو رب العالمين الذي خلق الخلق وقدر مقاديرهم، وهو الذي رزقهم وأعطاهم ومنعهم، وهو الذي خفض ورفع، وأعز وأذل، وجعل من وراء ما يقدر من الآلام والشرور حكماً ومصالح تعجز قدرة العباد عن إدراكها والإحاطة بها.
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والرزق والتدبير {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وهذا هو معنى قيام السموات والأرض الذي ذكر في الدعاء الشريف.(34/3)
الله سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض ومن فيهن
المعنى الثاني من معاني الربوبية: أنه سبحانه وتعالى مالك من في السموات ومن في الأرض، فهو المالك لكل ذرات هذا الكون وما فوق هذه الذرات، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
وهذا المعنى من أوضح المعاني وأجلها عند التأمل والتدبر في هذا الكون، فالخلق كلهم لا يملكون شيئاً، وتأمل لحظات الإنسان وهو في بداية نشأته كيف كان عدماً محضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان الله ولم يكن شيء غيره)، ثم وجد بعد ذلك كروح بعيدة عن الجسد، ثم أذن الله عز وجل في وقت معين أن تدخل هذه الروح إلى هذا الجسد، وقدر سبحانه وتعالى أن يوهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل، وسائر الحواس التي صار بها في ظاهر الأمر وفيما يبدو للناس يأمر وينهى، ويملك مالاً، وأرضاً وداراً، ويملك أن يعطي ويمنع، والحق أن ذلك كله عارية مستردة.
وتأمل فقه أم سليم رضي الله تعالى عنها وهي تقول لزوجها أبي طلحة وقد قبض ابنها، وهي أمه التي مات على يديها، تقول له: يا (أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم أرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك) فأنت أيها الإنسان عارية مستردة، فسمعك وبصرك، وكل ما في يدك من مال، أو ما تحت تصرفك من قوة وجاه وسلطان، وما أعطاك الله عز وجل من أهل ومنزلة وغير ذلك كله عارية مستردة لا تملكه ملكاً حقيقياً، بل أنت فقير من كل جهة من جهاتك، فتذكر البداية وتذكر النهاية؛ لتعلم أن الله عز وجل هو المالك الحق، وأنه هو الغني الحميد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
إن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين، وهو مالك كل الأيام، ولكن يوم الدين يظهر فيه ملكه بلا منازع ولا معارض، ولا يدعي أحد مع الله عز وجل ملكاً يوم القيامة لا اسماً ولا صفة، لا على سبيل العارية المستردة ولا على سبيل الحقيقة، ولا تخدع أحدٌ نفسه يوم القيامة حتى يتسمى بالمالك أو بالملك، وينادي ربنا عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ) [غافر:16]، فيجيب نفسه سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود، وهذا يقتضي شهود فقر العباد وعجزهم، وعدم طلب شيء من أيديهم، كما قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، والقطمير: هو الغلافة الرقيقة التي على نواة البلحة، هذه الغلافة الرقيقة لا يملكها أحد من دونه سبحانه وتعالى، فكيف يدعى أحد من دونه؟ وكيف يسأل؟ ولذا كان أصل سؤال الخلق ممنوعاً منه، ولا يجوز فيما يقدرون عليه مما خولهم الله وأعطاهم إلا للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع، وما سوى ذلك فسحتاً يأكلها صاحبها).
فلا يجوز سؤال الناس إلا للضرورة، بل رغب النبي صلى الله عليه وسلم طائفة خاصة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً على الإطلاق، وأسر ذلك، فبايعهم على كلمة أخفاها وهي: ألا يسألوا الناس شيئاً.
وكانوا قلة من أصحابه، فكان أحدهم ربما سقط السوط من يده فينزل من على بعيره ويأخذ سوطه حتى لا يقول لأحد ناولنيه، فلا يسأل الناس شيئاً على الإطلاق وذلك من كمال التوحيد الأفضل والأعلى فلا يحتاج إلى أحد، ولا يتعلق قلبه ولا لسانه بشيء من الخلق، بل ينزل حاجته بالله سبحانه وتعالى، وقد يقدر الله على عبده المؤمن ما تنقطع به الأسباب حتى يفرد ربه بشهود ملكه، وبالسؤال، والتضرع، وطلب كل حاجته منه سبحانه وتعالى؛ لأنه ربما لا يحقق كمال التوحيد مع وجود الأسباب، وأكثر الخلق إذا وجدت الأسباب ظنوا لمن بيده هذه الأسباب نوعاً من الملك؛ فتعلقت قلوبهم به، فسألوه أو طلبوا منه أو رجوه أو خافوه، فعند ذلك يقع النقص في قلوبهم من جهة هذا المعنى من معاني توحيد الربوبية، وعندها يقدر الله لمن شاء من عباده أن يقطع عنهم الأسباب، وإن كان ذلك مكروهاً لهم، أو كان فيما يبدو لهم تضييقاً وتعسيراً عليهم، وهو في الحقيقة فتحاً لأبواب الخيرات لهم، فحين تيأس قلوبهم من الخلق جميعاً ومن أنفسهم، عند ذلك لا يكون لهم ملجأ إلا إلى الله، وهذا أمر مشهود معلوم يقدره الله كدليل على وحدانيته ليظهره سبحانه وتعالى حتى للمشركين قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فكثير من الناس يعرض في وقت الرخاء، وفي وقت الشدة عندما تنقطع الأسباب يشهد حقيقة أن الله هو المالك الحق سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]، فتأمل كيف قرن بين الخوف والرجاء، وبين شهود أن أحداً لا يملك كشف الضر ولا تحويلا، فشهود الملك لله سبحانه وتعالى يجعل العبد محباً خائفاً راجياً يبتغي إلى ربه القربة، ويبتغي رضوانه وفضله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه لأنه المالك الحق.
وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22 - 23]، وهذا في حق من يعبد الملائكة الذين هم عباد مكرمون عند الله عز وجل، فقد ظن المشركون أن لهم شفاعة يملكونها عند الله سبحانه وتعالى، فأخبر سبحانه وتعالى بأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فنفى الملك المستقل، فربما ظن البعض أن له شريكاً، فقال: ((وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ))، فما من ذرة من ذرات هذا الكون إلا والله يملكها كلها، لا يشركه في ذرة منها أحد من المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي صالح، ولا شيطان رجيم، أو عدو لله سبحانه وتعالى ولأوليائه، ولا يملكها من هو دون ذلك كالمخلوقات المسخرة من شمس وقمر، أو من حجر وشجر، إذ عدم ملكهم ظاهر لكل عاقل يرى تحرك هذه الأشياء في الكون، ويرى عجزها وفقرها، وأنها مسخرة مدبرة يفعل الله عز وجل فيها ما يشاء، وإنما الذي يمكن أن ينسب إلى نفسه ملكاً هو الإنسان، وكذا الجن ربما ظنوا أن لهم ملكاً فكان النفي عنهم.
فنفى الله عز وجل الملك المستقل، ونفي المشاركة، ونفى المعاونة عن كل أحد يدعى من دون الله من ملك أو نبي أو ولي فضلاً عمن دونه؛ لأنه ربما ظن البعض أنهم لا يملكون على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الشركة، ولكن معاونة، وهذا فيما يتعلق بالملائكة كثير، فقد يعتقد كثير من الناس أن الملائكة تعاون الله عز وجل على تدبير الأمر، وليس الأمر كذلك قطعاً، قال عز وجل: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ))، بل هم ينفذون أوامر الله بما أعطاهم من القدرة، فقدرتهم وقوتهم وعلمهم إنما هو هبة منه، وهو المالك لذلك سبحانه وتعالى.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]، فالله سبحانه هو الذي جعل الملائكة يعملون الأعمال التي كلفهم بها بقدرته، فأعطاهم ما بأيديهم من قوة، فمن جعله سبحانه وتعالى ذا قوة مكيناً عنده إنما هو محض فضله وعطائه، وهو المالك لذلك كله.
{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فلله عز وجل ما بين أيديهم وما خلفهم، وله ما أعطاهم من أنواع القوة والقدرة، فهم لا يعاونون الله ولا يحتاج إلى معونتهم، فهو وحده المستعان، وهو الذي يعين عباده بما شاء، ويوفقهم ويقدرهم ويقويهم على ما شاء من أفعالهم.(34/4)
ملك الله للشفاعة
لم يبق بعد هذه الأنواع الثلاثة -الملك المستقل، والشركة، والمعاونة- إلا الشفاعة؛ فأثبت الله الشفاعة الشرعية ونفى الشفاعة الشركية، فقال: ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))، فلا يملك أحدٌ الشفاعة، إنما الشفاعة جميعاً له سبحانه كما قال عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وتأمل الاقتران بين ملك الشفاعة وملك السموات والأرض، فهو وحده الذي يملك الشفاعة؛ ولذلك لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والشفاعة دعاء وتضرع إلى الله سبحانه من الشافع، حتى يضم طلبه إلى طلب المشفوع فيه ليكون طلباً شفعاً -أي: زوجاً- وذلك ليقضي الله ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى لا يبدأ عنده بالشفاعة حتى يأذن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علم في الدنيا قبل الآخرة أنه الذي أُعطي الشفاعة، وذلك عندما يذهب إليه الناس يوم القيامة، فيقولون له: (اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لها أنا لها)، ومن دونه من الأنبياء لم يعلموا أن لهم الشفاعة فلذلك لم يسألوها ابتداء، وإنما قال كل منهم: نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة الله ومرضاته، ومع ذلك هابوا وخافوا أن يسألوا ربهم في ذلك الموقف غير أنفسهم.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلأن الله أوحى إليه أن له الشفاعة، وأنه لها، قال: (أنا لها، فيأتي فيدخل على ربه في داره) أي: وهو سبحانه فوق عرشه الذي هو سقف لجنته، وجميع المخلوقات تحته، قال (فآتي فإذا رأيته خررت له ساجداً قدر جمعة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويفتح الله عليه من حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبله، وقال في حديث آخر: (لا أستطيعه الآن، ثم يأذن له الله عز وجل أن يرفع رأسه، ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطى، واشفع تشفع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإخلاص والتوحيد من أمته بالنجاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما ينتفع بشفاعته أهل الإخلاص، ثم يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون في من لا يشرك بالله شيئاً، فيخرجونهم من النار بأمر الله سبحانه وتعالى، ثم يعود النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة فيقول: (يا رب! ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله).
إن الله عز وجل جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاة الخلق من أهوال القيامة، ثم في دخولهم الجنة، ثم في نجاتهم من على الصراط، ثم في خروج أقوام منهم من النار بعد أن احترقوا فيها، ثم يطلب من ربه أن يرحم من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط؛ فيخبره الله عز وجل أن ذلك ليس له، ولكنه سوف يفعل ذلك سبحانه وتعالى حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: من وجب عليه الخلود بموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، فدل هذه كله على أن الشفاعة مملوكة لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات الكريمة دالة على ذلك: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وقوله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [سبأ:22 - 23]، هي التي قال عنها أهل العلم: إنها تقطع فروع الشرك من القلب لكمال التعلق بالله سبحانه وتعالى، ودليل هذا الأمر خوف الملائكة من الله عز وجل ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ)) أي: حتى إذا زال الفزع الذي أصاب قلوبهم؛ بسبب سماعهم كلام الرب سبحانه، فخافوا أن يكون نزل أمر فيه هلاك العالم، فعند ذلك يخرون لله سجداً، ويكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيوحي الله إليه من أمره ما شاء، وينزل بأمر الله إلى السموات ومن فيهن من الملائكة، فيقولون وقد رفعوا رءوسهم لما زال الفزع عن قلوبهم: ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول: ((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فيقولون كلهم مثل قول جبريل: ((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فهذا كله دليل على أن الله وحده هو المالك لكل ما في هذا الوجود، ولا يملك أحد دونه شيئاً، حتى على سبيل الشفاعة فإنها مملوكة له لا يملكها الشافعون، فهو الذي يأذن لأهل التوحيد والإخلاص -لمن شاء منهم- أن يشفعوا في أهل التوحيد والإخلاص، ولا يشفعوا في أهل الشرك، ولا تنفع المشركين شفاعة الشافعين، وهو الذي يأذن للشافعين ليغفر للمشفوعين عن طريق دعاء الشافع، لينال الشافع بذلك المقام العالي، وليعلي قدره، ويري الناس منزلته.
وأعلى الناس في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل له في محكم كتابه: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من شجوه في وجهه، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فاستبعد هدايتهم وفلاحهم، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟!) ودعا على أعيان منهم شهراً، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فتاب الله على من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه جميعاً، فهداهم إلى الإسلام، ومن دعا لهم بالمغفرة وحرص على هدايتهم فإن بعضهم لم يقبل فيه ذلك، كـ أبي طالب فإنه قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنه)، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزور قبر أمه استأذن ربه في ذلك فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له.
فالله عز وجل هو مالك السموات والأرض ومن فيهن، وهذا كله يجعل العبد لا يسأل ولا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه وتعالى، ولا يرى لنفسه ملكاً ولا حقاً، بل يرى نفسه مملوكاً من كل وجه، ويجب أن يتصرف -فيما أعطاه الله من سمع وبصر ويد ورجل وبطن وفرج ومال وأهل، وغير ذلك من أنواع التصرف والتمكين والسلطان- يتصرف فيه تصرف العبد المملوك لا تصرف المالك الحر، ولذلك فإن قضية الحرية لا بد أن توضع في نصابها، فالحرية إنما تكون بين العباد بعضهم بعضاً بما شرع الله سبحانه وتعالى، أما أن تطلق قضية الحرية ويقال: إن الناس أحرار حتى مع أوامر الله وشرعه، فيأتون ما يريدون ويتركون ما لا يريدون، فهذه منابذة للربوبية، ومنازعة لله عز وجل في أخص معنى من معاني الربوبية وهو معنى الملك، فالله سبحانه وتعالى هو الملك الحق، وهو المالك الحق، فمن زعم أنه يملك نفسه، وأنه يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أمر الله وشرعه، فهو ينازع الله في ربوبيته، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن لا رب إلا الله، بل زعم أنه رب مع الله، وإذا زعم أن له على غيره من الخلق ذلك، وأنه حر يفعل فيهم ما يشاء دون أن يراجع، فهو منازع لله في الربوبية وشقيق لفرعون وإبليس اللذين زعما أنهما أرباب بلسان الحال أو المقال.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(34/5)
الله رب السماوات والأرض ومن فيهن
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: المعنى الثالث من معاني الربوبية: أن الله رب السموات والأرض ومن فيهن، وهذا مذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، فكما كان المعنى الأول: الخلق والرزق والتدبير -وهو كما ذكرنا بمعنى الإصلاح الذي يربِّ الشيء، أي: يصلحه- مذكور في قوله: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ)) فكذا كان المعنى الثالث مذكور في هذه الآية، وهو: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))، فلله الأمر وحده لا شريك له، وهو الذي له الأمر كوناً، وهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، وإن كان أكثر الناس في غفلة عن أن الله إذا أمر بشيء كان {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فهذه أوامره سبحانه نافذة في أقطار العوالم السفلية والعلوية، يحيي ويميت، يسعد ويشقي، يمن على من يشاء ويمنع من يشاء، يأمر بما يشاء في من يشاء، وهذا وإن أقر به أكثر الناس لساناً إلا أنهم ينازعون فيه حالاً وسلوكاً وعملاً، وذلك حين ينازعون الله سبحانه في أوامره.
وأما المعنى الثاني من هذا فهو: الأمر الشرعي، فالله له الأمر شرعاً، وهذا ما يجب أن يعتقده كل مؤمن، وهو أنه لا يأمر ولا يشرع لخلق الله جميعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرع ما شاء، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فمن ادعى أن لأحد أن يشرع من دون الله أو مع الله عز وجل شيئاً لنفسه أو لغيره، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في أمره، وادعى مع الله عز وجل شريكاً، كما أن الذي يرى نفسه حراً مع أوامر الله فقد نازع الله في ملكه، فالذي ينازع الله سبحانه في أمر التشريع والتحليل والتحريم، والأمر والنهي يعتبر منازعاً لله سبحانه وتعالى في ربوبيته، كما قال عز وجل عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، دلت الآية على أنهم عبدوهم لما اتخذوهم آلهة مع كونهم اتخذوهم أرباباً؛ ولذا قال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا))، ودل الحديث على أنهم عبدوهم باعتقاد أن لهم حق تبديل الشرع، وأنهم يطاعون في ذلك فأطاعوهم، فقد جاء في الحديث أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم بعد، وعلى عدي صليب من فضة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم (أن يلقي هذا الوثن عنه، وسمعه يقرأ قوله عز وجل: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:31]، فقال: إنا لسنا نعبدهم، قال: ألم يحرموا الحلال، ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، وقد ورد هذا المعنى عن غير واحد من السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، فهم لم يعتقدوا أن الأحبار والرهبان خلقوا ورزقوا ودبروا الأمر، ولم يعتقدوا أنهم يملكونهم ملك الرقيق، وإنما اتبعوهم واعتقدوا أن لهم أولاً حق التشريع، وأن لهم أن يبدلوا ويحللوا ويحرموا، بل لهم أن يبدلوا العقائد، فتارة يجتمعون فيقررون أن الله ثالث ثلاثة، وتارة يقررون أن اليهود هم الذين قتلوا المسيح، وتارة أنهم لم يقتلوه، وهكذا اعتقدوا أن لهم حق تبديل العقائد والتشريعات، فكان ذلك من الشرك في الربوبية، ولما اتبعوهم على ذلك كان شركاً في العبادة والألوهية.
ولذا يصر أهل الإيمان على اختلاف الأزمان أن الله وحده هو الحكم العدل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
فحين يشهد العبد ويقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ويقول: اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، يستشعر هذا المعنى ضمن معاني الربوبية، ويرى حقاً لله سبحانه وتعالى عليه، وهو: أن يقبل شرعه وأمره، فله الخلق وله الأمر، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الخلق، أو الرزق أو التدبير، أو الضر أو النفع فهو مشرك، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الأمر فهو أيضاً مشرك، وكذلك من جعل مع الله سبحانه وتعالى شريكاً في الملك؛ يملك مع الله أو يملك الشفاعة على الله كان مشركاً، وهذه الأمور من أوضح ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولا بد أن يتحرر الإنسان من رق هذا الشرك بأنواعه المختلفة حتى يتحقق توحيده لله، وكل معنى من معاني الربوبية الثلاثة يترتب عليه أنواع من العبودية لله سبحانه وتعالى، وذلك بطريق التلازم الذي لا ينفك، فإذا شهد العبد أن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأنه سبحانه الذي يملك الضر والنفع وحده لا شريك له، فكيف يطلب من غيره سبحانه وتعالى شيئاً من ذلك؟! وكيف يجعل مع الله آلهة أخرى؟! لذا قال عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59 - 60]، فاستدل بخلقه عز وجل للسموات والأرض على وجوب افرده سبحانه وتعالى بالإلهية وحده لا شريك له.
فكذلك من كان يعتقد أن مع الله عز وجل من يملك ويتصرف تصرف المالك فهو مشرك، فالمؤمن يرى أن الله وحده هو الملك، فيتعبد لله سبحانه وتعالى بذلك، فيرى ما بيده مما أعطاه الله أمراً لا يملكه، ولا يرى لنفسه أمراً مع أوامر الله التي بلغتها رسل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فهو يتصرف كتصرف العبد المملوك في ماله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فما بيدك من مال وأهل وولد وسلطان تتصرف فيه تصرف العبد المملوك لله سبحانه، وترجع إلى شرعه وتقبل أوامره سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وهذه الأمور لا بد أن يشهدها العبد، ولا بد أن يستحضر معانيها في قلبه، ويفرد الله سبحانه وتعالى في كل عبادة، فيكون قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) قولاً صادقاً خالصاً لله سبحانه وتعالى، صدر من قلب محب له عز وجل، خاضع له، شاهد لربوبيته، متعبد له سبحانه وتعالى بإلهيته، فيكون مقبولاً عنده سبحانه وتعالى.
وهكذا يتحقق معنى توحيد الربوبية في قلب العبد المؤمن إذا شهد هذه المعاني، وتعبد لله سبحانه وتعالى بها، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع عباده المخلصين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بالكفرين والمنافقين والظالمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
اللهم فرج كرب المكروبين من المسلمين في كل مكان، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلك سخائم صدورنا.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.
اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.(34/6)
ليلة القدر والعشر الأواخر
من نعم الله عز وجل على العباد أن جعل لهم محطاتٍ إيمانية يتزودون منها ما يعينهم على السير إلى رب العالمين، ومن تلك المحطات المباركة شهر رمضان، فشرع الله لعباده فيه الصيام والقيام، ثم زاد امتناناً عليهم بليلة القدر التي يفوق فضلها وخيرها ثلاثاً وثمانين سنة، وهذا من فضل الله العميم، ومن فيض خزائنه التي لا تنفد، فلم يبق بعد هذا الفضل لمتكاسلٍ عذر أمام ربه، وقد فتح أبواب كرمه وفضله لهم.
فينبغي الإكثار من قراءة القرآن وتدبره، خاصةً في رمضان؛ لكونه شهر القرآن وفيه أنزل، وكذا لابد أن تعظم حرمات الله فيه أعظم من غيره.(35/1)
فضل ليلة القدر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
وقال الله سبحانه وتعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:1 - 6].
لقد أنزل الله عز وجل القرآن في شهر رمضان، أنزله في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في ثلاث وعشرين سنة مفرقاً على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يتنزل على حسب الوقائع التي وقعت، فكان إنزال القرآن في شهر رمضان علامة ودليلاً على اصطفاء الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر، وكان نزوله في ليلة القدر دلالة أيضاً على فضيلة هذه الليلة، قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5].
وقد سميت ليلة القدر بذلك لشرف قدرها، ولأنه تقدر فيها مقادير السنة، فانظروا عباد الله إلى شرف هذه الليلة التي جعل الله عز وجل العبادة فيها تعادل ما يربوا على ثلاث وثمانين سنة، وكم عمر الواحد منا؟ سرعان ما تمر الأيام، والشهور، فها هو رمضان قد بقي منه أيام وينقضي، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن قام وصام رمضان إيماناً واحتساباً فغفر له، ونسأله عز وجل أن يوفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، وأن يغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.(35/2)
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان
إن العمر يمر كما تمر هذه الأيام والشهور، ولا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح، وهذه أيام مباركات، وليال فاضلات ولذا جعل الله عز وجل العبادة فيها أعظم من العبادة في غيرها، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في القيام والذكر في هذه الليالي المباركات كلها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -أي: الأواخر من رمضان- أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وذلك كناية عن اعتزال النساء وعدم معاشرتهن تفرغاً للعبادة.
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقوم وينام، أي: ينام بعض الليل، وفي هذه الليالي -أي: العشر الأواخر من رمضان- كان يحيي ليله كله.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإيقاظ أهله في ليالي رمضان سوى العشر، بل كان يرغبهم في ذلك كما مر على علي وفاطمة ليلاً فقال: (ألا تصليان؟)، وقال ليلة: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، يقصد بصواحب الحجرات: أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهن.
فقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) هذا فيه ترغيب في القيام وإحياء الليل بالذكر من غير حث شديد، وإنما كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان؛ حتى يحيين الليل بالقيام والذكر ونحوه، فهذه الليالي الفاضلة أولها ليلة الحادي والعشرين، وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أنها كانت في إحدى السنوات هي ليلة القدر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر، ثم أري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فخرج في صبيحة يوم عشرين، فقال: (من كان اعتكف معي العشر الأوسط فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر)، وكذا ورد عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنها في العشر الأواخر.
وفي هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) أي: مطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد مصنوعاً من جذوع النخل ومسقوفاً بجذوعه كذلك، فوكف المسجد، أي: نزل المطر على أرضه، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر وقد سجد في ماء وطين، وظهر أثر الطين على وجهه وأنفه عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت في سنة ثانية في ليلة الثالث والعشرين، رأى نفس الرؤيا عليه الصلاة والسلام.
وثبت أيضاً عند الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)، فكانت ليلة القدر التي هي ليلة إنزال القرآن كانت ليلة أربع وعشرين، وهي أول السبع الأواخر.(35/3)
أرجى ما تكون فيه ليلة القدر
وثبت من حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرهم أن يقوموا ليلة السابع والعشرين، وأخبرهم أن الشمس تخرج في صبيحتها بيضاء نقية لا شعاع لها).
والذي يظهر من مجموع الأدلة أن ليلة القدر تنتقل في ليالي العشر الأواخر من رمضان، فإذا كانت الليالي ليالي الأوتار فهي أرجى، وإن كانت الليالي ليالي الشفع فهي كذلك ترجى، وذلك أن ليلة الرابع والعشرين هي أول السبع الأواخر؛ فإن ليالي الشفع هي تاسعة تبقى، وخامسة تبقى، وسابعة تبقى، وخامسة تبقى، وثالثة تبقى، أي: من آخر الشهر، فهي أوتار من آخر الشهر، وكل قد رغب فيه، فينبغي أن لا تفرط في هذه الليالي، فكلها ليال فاضلة، وليلة القدر في وسطها كالشمس في وسط النجوم، فاحرص أن لا تضيع منك لحظاتها، فإن الدقيقة الواحدة بشهور طويلة، وأنت مهما قضيت في العبادة لا تقضي أياماً متواصلة، حتى تصل إلى الشهور والسنين؛ فإنما تقوم ساعات معدودة ولابد لك بعد ذلك من راحة، ولابد لك من طعام وشراب، ولابد لك من دخول الخلاء، فلابد أن تقضي أوقاتاً لا تستطيع أن تواصل العبادة فيها، وأنت في الدقيقة الواحدة من ليلة القدر تحصل على عبادة أشهر طويلة، فكيف يليق بك أن تضيع هذا الفضل العظيم؟ فالدقيقة في هذه الليلة المباركة لها قيمة فكيف بالساعة؟ الساعة بعدة سنوات، فمن يضيع ليلة القدر محروم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن رمضان: (فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).(35/4)
الحكمة من الاعتكاف
شرع الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان التماساً لهذه الليلة، وشرع كذلك حتى يعكف القلب على عباد الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تحضر ببدنك إلى المسجد وقلبك خارجه، فإياك أن تهتم بجعل الخباء فقط في المسجد وقلبك منفتح على الدنيا ينهل منها ويأكل ويشرب ويرتع مع الراتعين، فإنما جعل الاعتكاف بهذه الصفة وعلى هذه الكيفية؛ لكي يعكف القلب على الله عز وجل، لكي يتدبر القرآن، ويحيا بهذا الوحي والروح المنزل من عند الله عز وجل، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
والإنسان يحتاج إلى النور؛ ليبصر به وسط الظلمات، خصوصاً في زمن كثرت فيه الفتن وتتكاثر يوماً تلو آخر، وإنما يحتاج الإنسان لحياة القلب لكي يزن الأمور بميزان الإيمان، ولكي يضع الأمور في مواضعها كما وضعها القرآن، ولكي يعظم ما عظمه الله، ويحقر ما حقره، ويعظم ما عظمه ربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى تصير الأمور عنده كما هي في حقيقتها الشرعية.
فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدنا أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، فهل تعكف قلوبنا عليها بعد ذلك؟ وهل لنا أن نسعى لإصلاح هذه القلوب حتى تخلص لله سبحانه وتعالى؟ وحتى تصدق مع الله عز وجل؛ ليدخل الإيمان فيها، فحينها تصلح أحوالنا ويشع النور ممن علت مرتبته في الإيمان فيضيء قلبه ثم يفيض النور على من حوله، بنصحهم وتهذيبهم وتعليمهم، فإذا بالمجتمع يحصل فيه من أنواع الصلاح، من أنواع الخير ما نعجز عن إصلاحه في سنين بل قرون، وما لا يستطيع الناس أن يحصلوه بدون معاني الإيمان في سنين طوال.(35/5)
أهمية تدبر القرآن وتذوق معانيه
تمر بالأمة أزمات متعددة، كما مرت بها قبل ذلك محن طويلة، وإنما كان الإصلاح بصلاح قلوب طائفة من الأمة، فإذا صلحت ظهرت، فكان حالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإنما يتفاوت الظهور على حسب تفاوت معاني الإيمان في القلوب، وليس فقط على معرفة الألسنة بالكلام، ومعرفة العقول بالقضايا، ولا شك عندنا بأهمية الفهم الدقيق، ولا شك قطعاً في أهمية الكلم الصحيح الطيب، لكن لا ريب أن ذلك كله مرتبط بحال القلب.
وانظروا كيف تعلم الصحابة الإيمان، ثم تعلموا القرآن؛ فازدادوا إيماناً بفضل الله سبحانه وتعالى، والقرآن من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب إزالة أمراض القلوب، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
وهذا كله يحصل بكثرة تدبر القرآن، والإيمان به حق الإيمان أي: أن تعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، وتصدق أخباره وتستحضرها كأنك تراها، ففيما مضى من الأحداث وأخبار الرسل والصالحين، وأنواع الصراع الذي جرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين أهل الحق وأهل الباطل عبر شتى وفوائد.
ومعنى تستحضره أي: كأنك حاضر فيه، وتستشعر معاني الإيمان التي كانت هي الوقود الذي سار به أهل الإيمان في طريقهم تلك، وكانت هي النور الذي استبصروا به، فرأوا الحق حقاً والباطل باطلاً.
كذلك يكون تدبرك للقرآن بأن تستحضر ما تستقبل من أمور الآخرة، من أمر الجنة والنار، وأهوال القيامة، والحساب والميزان والصراط، كما دلت عليه الأدلة من القرآن السنة.
وكذلك تتدبر القرآن بأن تستحضر آثار أسماء الله عز وجل وصفاته، بل هذا هو المقدم على ذلك كله؛ لأنه تحقيق الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فتستحضر ربوبيته وملكه لهذا الكون، وأمره النافذ فيه، وتستحضر إلهيته، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده المستحق للعبادة، وأن كل ما يعبد من دونه باطل، وأن كل عبادة لغيره عناء وشقاء، وتستحضر منة الله عز وجل عليك ونعمته الظاهرة والباطنة، فبهذا يحصل لك تدبر القرآن، وتزداد معاني الإيمان، لكن هذا يحتاج منك إلى قلة خلطة بالناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وليس ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم من احتجار الحصير إلا تقليلاً لهذا الاختلاط، وذلك الذي ينبغي أن تفعله، وكثير من الناس يجعل الاعتكاف موضع عشرة وخلطة! والأمر ليس كذلك؛ لأن الأمر ليس مبنياً على أحوال البدن بقدر ما هو مبني على حال القلب، فاجتهد أن تخلص نيتك لله عز وجل، وأن تشغل فكرك بأمره، وأن تشغل اهتمامك بالآخرة وما يكون فيها، وأن تفتش في نفسك، وتجتهد في إصلاح عيوبها، فليس صحيحاً ولا صواباً منك أن تجتهد في أن تأتي المسجد وقلبك قد امتلأ بأنواع الأمراض المختلفة، نعوذ بالله من ذلك.
فاجتهد أن تتخلص من هذه الأمراض، وفتش في نفسك هل الحقد والحسد والرياء والسمعة تابعاً فيها؟ وفتش في قلبك عن الغفلة وعن سائر الأمراض، ثم اعمل على التخلص منها فوراً بقدر استطاعتك حتى تلقى الله سبحانه وتعالى وقلبك قد تطهر، فتنال من كتاب الله سبحانه وتعالى ما تزكو به نفسك.
قال عثمان رضي الله تعالى عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله.
وقال ربنا سبحانه وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75 - 79].
ومن وجوه تفسيره: أن الكتاب المكنون هو الذي في السماء ولا يسمه إلا الملائكة المطهرون، ومن وجوه تفسيره -وهو من لوازم تطهير الكتاب وكونه كتاباً كريماً-: أنه لا ينال من نعيمه، ولا يدرك معانيه، ولا يتعظ بما فيه إلا من تطهر قلبه، والوجه الأول هو أصح التفاسير، والثاني تفسير حسن طيب، وهو من لوازم الأول، فلا يمس القرآن إلا من تطهر قلبه، أي: لا يجد حلاوته ولا يذوق طعم الإيمان إلا من تطهر قلبه، فإذا كانت بينك وبين إخوانك شحناء فاعلم أن ذلك من أعظم أسباب بعدك عن لمس معاني كتاب الله، وعن أن تدرك ما فيه.
فهذه الملاحاة والخصومة يجب أن تسعى في إزالتها، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهو يريد أن يخبرهم في سنة من السنوات بليلة القدر أي ليلة هي، فتلاحا رجلان -أي: تجادلا- فرفعت، وعسى أن يكون ذلك خيراً؛ حتى تطلب في الليالي كلها، وكما أن اختلاف مطالع الهلال عند المسلمين في هذا الشهر قد يؤلم البعض، ولكنه عسى أن يكون خيراً؛ فإن الناس يطلبون ليلة القدر في الليالي كلها، فتجد أن ليالي الأوتار عندنا، ليالي أشفاع عند غيرنا وبالعكس، فينبغي أن تهتم بالليالي كلها، وأن تجتهد فيها، واجتنب الملاحاة والخصومة، واجتنب المجادلة ما استطعت إلا ما أمر الله عز وجل به من الجدال بالتي هي أحسن، الذي شرعه الله لإظهار الحق، وكثير من أنواع الجدال بيننا إنما هو وللأسف ليس بالتي هي أحسن، وإنما يوقع العداوة والبغضاء فينبغي تركه، فاجتهد في إصلاح القلب، وتهذيب النفس وتطهيرها حتى تمس معاني القرآن، وتجد طعمه وحلاوته، والله المستعان، وهو سبحانه وتعالى الذي يمن على من شاء من عباده بما شاء من عطائه، وأنت تعبده وتسعين به كما نقول في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فمن استطاع منكم أن يقضي العمر والأجل في طاعةِ الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بإعانةٍ من الله عز وجل وتوفيقه وفضله وجوده، ولن نهتدي إلا أن يهدينا الله، فاللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، ولا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تبارك وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.(35/6)
تعظيم حرمات المسلمين
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد: (فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) صلى الله عليه وسلم، وكان جوده عليه الصلاة والسلام على خلق الله مريداً بهم الخير، وهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وإذا كان مجرد الملاحاة والمجادلة بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمراً رفع علم ليلة القدر في تلك السنة بسببه! فكيف إذا ساءت العلاقات بين المسلمين إلى ما هو أشد من ذلك؟ فكيف بانتهاك حرماتهم أو سفك دمائهم؟ فيجب أن نعلم أن الجود على المسلمين ومراعاة حقوقهم من أعظم أسباب الخير، ومن آثار القرب من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكلما اقتربت من القرآن كلما ازددت تعظيماً وإكراماً لحقوق المسلمين، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وذلك أن القرآن يغني القلب، والله سبحانه وتعالى إذا أغنى قلب العبد فاض هذا القلب خيراً وصلاحاً عاماً وخاصاً، وفاض ما يتبعه من البدن الذي هو تابع يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، يفيض منه على من حوله جوداً وعطاءً.
إن تعظيم حرمات المسلمين من أعظم الأمور أهمية في هذه الأوقات، ونرى أن انتهاك حرماتهم، وسفك دمائهم من أعظم الأمور خطراً على المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يرضى مسلم أبداً بسفك دماء المسلمين، ويغتاظ من سفك الكفار لدماء المسلمين، وكذلك يغيظه ويتألم قلبه إذا فعل ذلك بغير حق من ينتسب إلى الإسلام، وإن كان ذلك لا يصح ولا يجوز أن ينسب إلى الإسلام، أو العمل الإسلامي خاصةً في هذا الشهر الكريم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، هذا في سائر الأحوال، فكيف بفعله في رمضان؟! وكثير من الناس يستهين بهذا الأمر ولا يعبأ به، ولا يحرك له ساكناً، مع أنه أمر عظيم الخطب، لا يصح أن ينسب إلى العمل الإسلامي بوجه من الوجوه، وإنما ينشر الغرب وعملاؤهم أن المسلمين هم الذين يفعلون ذلك، ومعلوم أنه لا يرضى مسلم بسفك دم أخيه في شهر من الشهور، فضلاً عن هذا الشهر، فضلاً أن يكون ترويعاً للمسلمين في بلادهم التي نسأل الله عز وجل أن يجعلها آمنة مطمئنة رخاء وكل بلاد المسلمين.(35/7)
غاية الجهاد في سبيل الله
لا يصح أن ينسب سفك الدماء بغير حق إلى الجهاد في سبيل الله؛ فإن ذلك منفصل تماماً عما شرع الله عز وجل من الجهاد، وإنما شرع الله سبحانه وتعالى الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وليس من ذلك سفك دماء المسلمين بغير حق، ولقد قال ربنا سبحانه وتعالى في أسباب كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن مكة عام الحديبية: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]، فالله سبحانه وتعالى كف رسوله صلى الله عليه وسلم المجتبى المصطفى المختار ومن معه من خيرة أهل الأرض، وخيرة من صحب الأنبياء، كفهم عن مكة المكرمة وقد كان فيها أوثان تعبد من دون الله، وقد كان بيت الله الحرام يسيطر عليه المشركون في ذلك الوقت، فكفهم الله تعالى تعظيماً لحرمات الطائفة المؤمنة المستضعفة التي كانت بمكة في ذلك الوقت، كل ذلك لعظيم حرمات المسلمين عند الله سبحانه وتعالى.(35/8)
أقسام الجهاد في سبيل الله
شرع الله عز وجل الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذا هو النوع الأول من أنواع الجهاد وهو: جهاد الطلب الذي شرعه الله عز وجل بقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
وقال في الآية الأخرى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وذلك لأن الأرض أرض الله، والعباد عباده، فيجب أن تعلوهم كلمته، ومن أراد أن يختار الكفر فهذا شأنه، ولكن لا يحق له أن يفرضه على الخلق، ولا أن يعليه على الأرض، فإنها ليست ملكاً له ولا لآبائه.
وأما النوع الثاني من أنواع الجهاد: فهو جهاد الدفع، فعندما ينزل العدو ببلاد المسلمين، أو يحتل شيئاً منها، فحينها يصبح الجهاد فرض عين، أما النوع الأول من الجهاد فهو فرض كفاية على أمة الإسلام، وأما النوع الثاني: وهو إذا نزل العدو ببلاد المسلمين: فهذا يتحتم دفعه على أهل المحلة أو البلد التي نزل بها واحتلها، ثم على من بجوارهم على مسافة القصر، ثم من بعدهم يجب عليهم أن يعينوهم، فهذا النوع فرض عين على أهل البلد، وواجب عليهم أن يدفعوا ذلك العدو، وهو فرض كفاية على من بعد من المسلمين عنهم أكثر من مسافة القصر، ومن كان منهم في حقه فرض كفاية فعليه أن يعينهم بما يحتاجون إليه، حتى يدفع ذلك العدو، وتراعى في ذلك مصالح المسلمين وقدواتهم.
وكذلك إذا أسر الكفار مسلماً، فإن المسلمين فرض عليهم أن يتعاونوا لتخليصه من الأسر، وفرض عليهم أن يقاتلوا لأجل تحريره إذا غلب على ظنهم تحصيل ذلك، وأما إذا علموا العجز فعليهم أن يصبروا إلى أن يمكنهم الله سبحانه وتعالى، حتى يقويهم الله، وعليهم أن يأخذوا بأسباب القوة.(35/9)
صورة جهاد الدفع، وإمكانية كل مسلم المشاركة فيه
جهاد الدفع هو: الذي افترضه الله عز وجل على أهل كل بلد نزل بها العدو، وعلى من على مسافة القصر منهم، ومن زاد على مسافة القصر ففرض كفاية عليه، بقدر حاجة أهل البلد المحتل، فهؤلاء فرض عليهم أن يعينوهم، وأن يدفعوا عنهم ما استطاعوا، وأن يعينوهم بما يحتاجونه في دفع أعدائهم، وليس بفرض عين على كل المسلمين طالما كان بأهل البلد التي نزل بها العدو كفاية في دفعه، والله تعالى أعلى وأعلم، ومن لم يحضر في ذلك لكونه ليس فرض عين عليه، أو لكونه عاجزاً عن الوصول وإغاثة المسلمين، فلا يخلو حاله من دعاء لهم، وتألم لآلامهم، وفرح لانتصارهم، فإن ذلك من حقيقة الولاء والبراء على دين الله عز وجل، ومن حقيقة الحب في الله والبغض في الله، وهو -والله- من أوثق عرى الإيمان.
فإذا لم يكن جهاد الدفع واجباً عليك، ولم تستطع أن تعين إخوانك بأي سبب من الأسباب فلا يخلو منك الحال من دعوة صادقة، وشعور قلبي بآلام المسلمين، وبيان لحقيقة قضيتهم، واستحقاقهم لدفع عدوهم، ومناصرة لهم بالقلب، وفي الحديث: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم؟) فالله سبحانه وتعالى يدفع بالدعاء ما لا يدفع بالسيوف ولا بالقوة المادية، وقد شرع لنا من أسباب نصرة المسلمين ما ربما يكون أقوى من الأسباب المادية كلها، والله المستعان.
ذلك هو ما شرعه الله عز وجل، ولم يشرع سفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً، ولا استهانة بذلك، حتى يتجرأ الإنسان على سفك الدماء بأدنى احتمال، بمجرد أنه يظن أنه يسوغ له ذلك لقتل الكفار، فضلاً: عن أن يكون مبتدعاً ضالاً يكفر المسلمين، ويرى انتهاك حرماتهم ديناً له، والعياذ بالله، هذا أمر لابد أن يحذر المسلمون منه، ولابد أن يكرهوا وجود المنكر قرب منهم أو بعد، وأن يكرهوا وجود سفك الدماء، وانتهاك الحرمات، ويفرحون بظهور الإسلام، ويودون زوال تسلط أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين عن المسلمين وبلادهم، فكلها بلاد لهم بإذن الله تبارك وتعالى، وتعظيم حرمات المسلمين دلالة على كمال الإيمان في القلب وصحته، والاستهانة بذلك دليل على رقته وضعفه، أو زواله؛ لأن المسلم يعرف حرمة المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فنعوذ بالله من سفك دماء المسلمين، وتضييع حرماتهم، ونسأله عز وجل أن يحفظ دماءهم، وأعراضهم، وأموالهم في كل مكان، وأن يرفع تسلط الأعداء عنهم، وأن يحفظهم في هذا الشهر الكريم، وأن يجعل بلادنا وسائر بلاد المسلمين بلاداً آمنة رخاء مطمئنة بفضله سبحانه وتعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(35/10)
ليميز الله الخبيث من الطيب
من حكمة الله أنه لا يترك المؤمنين على ما هم عليه، بل يقدر شيئاً من المحن حتى يظهر فيها وليه، ويفتضح فيها عدوه، ويعرف بها المؤمن الصادق من المنافق الفاجر، كما امتحن الله الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزيمة يوم أحد، فظهر إيمان المؤمنين وصبرهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله، وظهرت حقيقة المنافقين ومخالفتهم للدين وخيانتهم لله ورسوله والمؤمنين.(36/1)
تمييز الخبيث من الطيب يكون بالمحن والشدائد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أما بعد: فقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:176 - 180].
قال ابن كثير رحمه الله في قوله: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي لابد أن يقدر سبباً من المحنة يظهر فيه وليه ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصادق والمنافق الفاجر، وذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين؛ فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم، وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين؛ فظهرت مخالفتهم للدين، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد.
وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة.
وقال السدي: قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا، ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي: حتى يخرج المؤمن من الكافر، يخرجهم أمام الناس، روى ذلك كله ابن جرير.
ثم قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) وهذه أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك.
ثم قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27].
ثم قال تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) أي: أطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه فيما شرع لكم، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ))].
هذه الآية الكريمة وردت في بيان حكمة الله عز وجل فيما قدر من المحنة على المؤمنين يوم أحد، وكذلك كل ما يقدره الله عز وجل من أسباب المحن التي تجري لأهل الإسلام تجري عليهم وهي في مصلحتهم، كما قال عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] فكل هذه الأمور من البلاء والهزيمة والآلام للمسلمين فيها مصلحة، وكذلك النصر والتمكين والعز وقهر الأعداء فيها للمسلمين مصلحة.
وقد بين عز وجل حكمة تقديره البلاء عموماً في يوم أحد وما بعد ذلك وما قبله، فله سنته الماضية سبحانه وتعالى بأنه يقدر الأسباب التي يحصل بها التمييز الظاهر بين المؤمنين والمنافقين.(36/2)
بيان خطر المنافقين
دعا الله عز وجل خلقه إلى الإيمان فاستجابت طوائف من الناس، منهم من أجاب صادقاً ومنهم من أجاب كاذباً، واختلط الفريقان، وأظهر كل أحد الإسلام، وهذا الاختلاط إذا لم يتميز فسيحصل منه ضرر عظيم؛ وذلك بأن يتصدر أمور الدين وإمامة الخلق من يدعوهم إلى النار ممن يتكلم بألسنتنا وقلبه قلب شيطان، فيحصل من ذلك ضرر عظيم كما حصل من المنافقين في غزوة تبوك، وكانوا نسبة ضئيلة جداً في المجتمع المسلم، فالذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك قال كعب بن مالك: كانوا بضعاً وثمانين رجلاً، وكان الجيش قوامه نحو الثلاثين ألفاً.
وهذه النسبة الضئيلة قال الله عز وجل عنها: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا اضطراباً وخللاً وفساداً.
ومعنى (ولأوضعوا) أي: لأسرعوا بالإفساد فيما بينكم.
وقوله: (يبغونكم الفتنة) أي: يبغون أن تقعوا في الفتن، فتن الشهوات والشبهات، يفسدون العقائد والتصورات وكذلك الأعمال والسلوكيات.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) أي: فيكم من لا يعرفهم؛ فيقبل كلامهم ويصدق حديثهم، فيقع فيما وقعوا فيه والعياذ بالله، أو وفيكم سماعون لهم ينقلون لهم الأخبار ويعرفونهم بأحوال المسلمين الباطنة، وكلا المعنيين صحيح، فالله عز وجل من أجل ذلك قدر أن يثبطهم كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:46 - 47]، فتصور أن جيشاً فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرون، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، والذين ثبتوا في أحد، وكل هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصادقين المخلصين يبلغون نحو الثلاثين ألفاً، والمنافقون أقل من مائة، ولو خرجوا فيهم بلا وزن ولا قيادة ولا إمامة ولا تبليغ للدين ولا تعليم للناس؛ لم يكن لهم شأن من ذلك، ومع ذلك كانوا يستطيعون أن يوقعوا الفساد، فتخيل وتصور هذا، وانظر إلى واقع المسلمين الحاصل اليوم، فبعد ثلاثة قرون من الزمان أو أكثر من ذلك ظهر الأمر جلياً، وتجد الآن الأمثلة متعددة في أجزاء متفرقة من العالم الإسلامي، تجد أثر ظهور النفاق وعدم التميز بسبب الجهل بسنن الله الشرعية والكونية، فتصدر من ليس ممن جعلهم الله عز وجل أئمة في الدين، فإن الله إنما يجعل الأئمة من الذين يهدون بأمره مع تحليهم بالصبر واليقين، كما قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، والله لا ينال عهده الظالمين كما قال تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، فلا يكون إماماً من كان موصوفاً بالظلم، وإنما يقع الفساد وتخرب الدنيا إذا صار الصم البكم رءوس الناس.
ولم يستفد المسلمون من محنهم، ومن فترات أزماتهم، وجهلوا سنة الله عز وجل في خلقه الشرعية والكونية، فالله سبحانه وتعالى يقدر المحن للمسلمين، وهو عز وجل يريد أن يظهر شيئاً من الغيب الذي علمه من قلوب الناس إيماناً ونفاقاً، فهو عز وجل يريد أن يظهره للناس؛ ليتعاملوا به بناء على ذلك، وليس هذا فقط في أمر المنافقين، بل في الكافرين أيضاً، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
تأمل هذا الأمر، وتأمل كل كلمة من هذه الكلمات، تجد أنها دليل على أن الأمر يقع بالتراخي وليس مباشرة كما قال سبحانه: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) أي: بعد حين سيتحسرون على ما صنعوا، حين تظهر النتائج العكسية لما خططوا ومكروا ودبروا من إضعاف للإسلام، وإبطال للحق، وإطفاء لنور الله عز وجل؛ فلا يحصل لهم إلا عكس مقصودهم.
قال الله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) فلابد من مرور هذه الوقائع بهذا الترتيب، وبهذا التراخي؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، (ثم يغلبون)، ففي نهاية المطاف يغلب أهل الباطل.(36/3)
الحكمة من تمييز الله الخبيث من الطيب
قال الله: ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))، لام التعليل هنا صريحة في بيان الحكمة الكونية من الابتلاءات، فإن الله لم يشرع أن تنفق الأموال في الصد عن سبيل الله، ولا أن تحزب الأحزاب لإطفاء نور الله، ولكن قدر الله ذلك الأمر المكروه ليدرأ عن أهل الإيمان أمراً مكروهاً أشد، وهو اختلاط الطيب بالخبيث، واختلاط المؤمنين بالمنافقين، الذي يؤدي ذلك إلى أن يتولى الإمامة في الدين من ليس أهلاً لها، وأن يتولى إقامة أمر المسلمين من لم يجعله الله عز وجل إماماً بصبره ويقينه، وإنما هو من الظالمين، فلا يحل ولا يجوز أن يكون إماماً في الدين، لما يرتب على ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله.
وإذا كانت طائفة ضعيفة قليلة من المنافقين في جيش عظيم البركة والخير لا تزيده إلا خبالاً، فما الظن إذا صار المنافقون هم الذين يتكلمون في كل الأمور، وصاروا هم الأئمة والعلماء والقادة والمقاتلين وغير ذلك؟ ماذا يظن من الفساد العريض الذي يحصل للمسلمين إذا لم يتميز الخبيث من الطيب؟! وقد قدر الله أسباب التمييز لكن لم يستفد منها المسلمون، بسبب كثير من الجهل والغفلة عما سن الله عز وجل لعباده.
والله عز وجل قد بين حكمة تقديره وإقداره الكفرة على أن ينفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وبين أنه يتراخى ظهور تحسرهم وأمر هزيمتهم، وأنهم يغلبون، فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، يتراكم الباطل بعضه فوق بعض ويجتمع؛ لأنه يجذب بعضه بعضاً، رغم أنه يتضح جلياً أنه باطل.
ولو تأملت سنة الله في خلقه فستجد أنه كلما كانت أدلة ظهور الباطل قوية جداً كانت قوة الباطل المؤقتة أيضاً قوية جداً، فمثلاً لو تأملت في قصة الدجال تكون فتنته عظيمة تعم الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ويكون له جنود وأتباع خصوصاً من اليهود في أجزاء مختلفة، ومعه ما يظنه الناس جنة وناراً، ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ومن يؤمن به تروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ومن لم يؤمن به يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء مما كان في أيديهم، وكنوز الأرض تتبعه، فهذه فتنة عظيمة مع ظهور عجز الدجال وبطلان أمره؛ لأنه أعور مكتوب بين عينيه كافر.
فمهما كانت قوى الباطل فسيظهر بطلانها بما لا يخفى على أحد، ومن يتبعه يتبعه وهو يعلم أنه باطل، وأنه كفر ونفاق وشرك، ومع ذلك يتبعه الكثيرون؛ لأجل الفتنة، ويطول الأمر عند الناس، ودائماً لحظات التعب والمحنة تكون طويلة، يراها الإنسان كدهر، ويريد أن تنتهي، ولكنها سوف تمر قطعاً.
إذاً: قدر الله عز وجل المحن ليميز الخبيث من الطيب ويطلع العباد على الغيب الذي لا يطلع عليه إلا من شاء أن يطلعه من رسله.
وأنت تلاحظ في هذه الآيات جملاً من الفوائد وأنواعاً من العلوم، كما ذكرنا في بيان سنة الله سبحانه وتعالى في أمر البلاء حتى يظهر الحق جلياً وبحجة قوية وإن كان شديد الضعف، فقوة الباطل منهارة بلا تردد، والباطل يتناقض في نفسه في اليوم الواحد كما تلحظه وتراه في واقع الحياة، تراه يتناقض فيما يعلن ويفعل ويقول، تناقضاً ظاهراً في كل شيء، فليس عنده ميزان، ولا يمتثل ديناً، أو شرعاً، أو حتى قانوناً مخترعاً باطلاً وضعه برأيه، فلا يلتزم بشيء، لا يقيم توراة ولا إنجيلاً ولا قانوناً دولياً ولا شيئاً يخالف هواه على الإطلاق، ولا يعبأ بأمر من الأمور، وهذا هو التناقض في أوضح صوره، وفي نفس الوقت معه قوة عجيبة، وهذه فتنة ومحنة من الله؛ ليحصل التميز، لأجل أن لا يشك أحد حين تتغير الأمور فتنقلب أو تعتدل الموازين -بإذن الله تبارك وتعالى- أن من تابع الباطل في هذا الوقت فهو من ركامه الذي جعله الله عز وجل ممحوقاً، ونهايته في جهنم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال أن يكون أهلاً للإمامة في الدين، وأن يكون خليطاً للمسلمين دون أن يعرف أمره، ولذلك كان من هدي أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الاستفادة من محنة الردة، حيث كانت محنة هائلة أوشكت أن تعصف بالمسلمين، حيث ارتدت العرب ورجعوا إلى عبادة الأوثان، واتبعوا مسيلمة والأسود العنسي وسجاح وأمثال هؤلاء، ومنع منهم طائفة الزكاة وغير ذلك، ولم يعد يسجد لله عز وجل في الأرض بعد التمكين ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا في مكة والمدينة ومسجد جواتا بالبحرين، وهم وفد قبيلة عبد القيس، وسائر الأرض أصبحت حرباً على الإسلام، فلما مكن الله عز وجل للمسلمين وانهزم المرتدون وجاءوا يعلنون رجوعهم وتوبتهم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزي، ففرض عليهم السلم المخزي فلا يحملوا سلاحاً ولا يركبوا خيلاً حتى يري الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيهم أمراً، ولم يكن لأحد منهم أبداً صدارة، أقصى ما يسمح له أن يكون في آخر الصفوف جندياً إن أراد الصدق مع الله عز وجل كما وقع ممن تاب وحسنت توبته، لكن لم تسمع عن روايته للحديث، ولا أنه صار معلماً للناس، فالذين كانوا معلمين للمسلمين في أقطار الأرض المفتوحة هم فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، مثل الخلفاء الأربعة وأبي هريرة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء، الرجال الكمل رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، الذين علموا الناس الدين، والذين تولوا قضاء المسلمين، وتولوا الجهاد في سبيل الله، مثل سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وإنما تولوها بصدقهم الذي عرف منهم في فترات المحن، فلابد أن نستفيد من المحن ولا تمر بنا كما جاءت، ونخرج منها كما خرجت علينا.
إن الأمر مؤلم للمسلمين بلا شك، ولكن لها فوائد؛ ليظهر المصلح من المفسد، ليظهر ذو العمل الصالح من ذي العمل الطالح، ليظهر أهل الإيمان من أهل النفاق، ليميز الله الخبيث من الطيب كما قال سبحانه: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: من النفاق، ((حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)).(36/4)
وجوب العمل بالظاهر والله يتولى السرائر
إن الله عز وجل لا يطلع عباده على ما في القلوب، فليس من سنته سبحانه وتعالى أن تنكشف القلوب للناس؛ ولهذا لا يجوز أن يدعي أناس بلا بينات أن في قلب فلان رياء أو كذباً أو غشاً أو شكاً، فهذا أمر ليس من سنة الله، ومن أطلعه الله من الأنبياء كما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين، فإنه لم يجعله يعمل بذلك، بل يعمل بالأمر الظاهر، فأبى أن يقتل صلى الله عليه وسلم من علم أن في قلبه نفاقاً، وقال: (لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولم أؤمر أن أشق عن قلوبهم) قال ذلك لمن عمل بالقرائن من أصحابه، مثل قوله لـ أسامة حين قتل الرجل الذي أكثر في المسلمين قتلاً، فقال عندما علاه بالسيف: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فقال: (إنما قالها متعوذاً، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟!).
فمع أن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما في قلوب كثير من المنافقين ومع ذلك لم يعاملهم بذلك؛ لأنها سنة الله الشرعية في هذا الأمر، وهي أنه لا يطلع أنبياءه على ما في قلوب الناس اطلاعاً تاماً يعرف به كل أحد بل قال سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]؛ وذلك أن الله استأثر بعلم الغيب سبحانه وتعالى، فإذا أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين فهو لم يطلعه على جميعهم، كما أنه لم يجعل هذا الأمر تنبني عليه الأحكام، وإنما تبنى على الأمور الظاهرة، فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة، أو عمل بخصال النفاق، ولا يجوز بالأولى أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة، ولو تصورنا أن الله أطلع بعض أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم على غيب القلوب، فتصور ما يمكن أن يدعيه من يأتي بعدهم، فيقتل أناساً وتنتهك حرماتهم بدعوى من يقلد هؤلاء، ويقول: أنا وقع في قلبي أن هذا رجل منافق فقتلته، أو أن هذا رجل منافق فسجنته، أو أبعدته، أو أن أنه كذاب فعاملته بمقتضى ذلك، فيحصل فساد عريض، فيتهم البريء، وتنتهك الحرمات بالدعاوى والظنون الكاذبة، ويدعي أن له في ذلك أسوة بالصحابة رضي الله عنهم حين عاملوا الناس بما وقع في قلوبهم.
ولذا كان من ضلالات بعض الصوفية: أن منهم من يزعم أنه يطلع على ما في قلوب أتباعه وتلامذته، أو قلوب الناس، فيعاملهم بمقتضى ذلك الكشف كما يزعمون، وهذا أمر باطل لا شك فيه، فنحن أمرنا أن نعامل الناس بالظاهر، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) فهذا الاستثناء الاستدراك حتى يبين أن الرسول قد يطلع على بعض ما في قلوب بعض الناس، لكن إنما يطلعه الله عز وجل، يخصه بمعرفة وعلم دون سائر الخلق، وهذا لا يجعل الغيب شهادة، وتبقى مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله عز وجل بها لا يعلمها إلا هو.
وما أطلع الله نبيه عليه ليس من الغيب المطلق الذي لا يطلع عليه إلا الله، ثم إنه لا يبنى عليه حكم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يعمل بالظاهر، ولا يكون اطلاعاً كاملاً بل جزئياً، فيعلم شيئاً ولا يعلم غيره، ولا يعلم إلا ما أوحاه الله عز وجل إليه، إما في أمر قد وقع أو في أمر لم يقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يخبر عن غيبيات في المستقبل، ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن تفاصيل وقوعها، ولا يخبر بوقوعها في وقت محدد، فالأمر لا يزال غيباً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عن الفتن والملاحم، والدجال، ونزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولم يخبرنا عليه الصلاة والسلام بوقت ذلك، وإنما أخبرنا أن ذلك سيقع.
وأما ما أخبر به باليوم، وبتحديد المكان فقد علقه بالمشيئة كما قال في ليلة غزوة بدر: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله)، فجعله معلقاً بالمشيئة، فحين حددها تحديداً كاشفاً علقها بالمشيئة؛ لأنه قد يغير الله عز وجل ذلك وقد يمضيه، وحين جزم دون تعليق على المشيئة بقي الأمر غيباً؛ لأنه لم يخبر بكل التفاصيل زماناً أو مكاناً أو يخبر بالزمان دون المكان أو المكان دون الزمان، ونحو ذلك مما يظل الأمر معه غيباً، فهذا مما ينبغي فهمه في قوله عز وجل: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ))، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26].
كذلك لا يخرج الأمر عن كونه غيباً انكشف لبعض الناس، بل لا يزال غيباً حتى في حق الرسول؛ لأن الله عز وجل قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وهذا عام لم يستثن، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].(36/5)
تدفع المحن بالإيمان والتقوى
قال تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يصدق، وما أمر به يجب أن يتبع، وما وقع بعد ذلك للمؤمنين الصادقين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم من المحن هي في مصلحتهم، في دنياهم وأخراهم، وهي من أسباب نقائهم أو حصول الخير لمجتمعهم وأفرادهم بفضل الله عز وجل.
فلا يزعزعك ما ترى من تسلط الكفرة وقتلهم للمسلمين، ومن انتهاك الحرمات، ولابد أن نتهم أنفسنا كما قال الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فالذي أصابنا هو بسبب الذنوب، وهذا حق، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الناس قد خرجوا عن الطريق بالكلية، فهم ما زالوا على الطريق وقد وقع أمر شديد في غزوة أحد لأناس هم خيرة أهل الأرض، ووقع لهم ما وقع، فإذا رأيت انتهاكاً للحرمات، وسفكاً للدماء، وتسلطاً للأعداء، فلا يمنعنك ذلك من الالتزام الصادق، ومن أن تؤمن بالله ورسله، وأن تصدق الأخبار، وأن تلتزم الأوامر وتجتنب النواهي.
قال الله: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) فالصبر والتقوى مفتاح خير الدنيا والآخرة، مفتاح خير الدنيا في رد كيد الأعداء كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]، وفي الآخرة كما قال سبحانه: ((فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)).(36/6)
بيان عقوبة البخل
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180].
تعلقت هذه الآية بأحداث غزوة أحد تعلقاً ظاهراً، إذ إن الجهاد في سبيل الله عز وجل لا يقوم إلا على النفقة في سبيله سبحانه، والمنافقون دائماً يبخلون بما آتاهم الله من فضله، فكان الوعيد الشديد لمن يبخل بما أوجب الله عز وجل عليه، وفيها إنكار ظن البخلاء أن ما آتاهم الله هو خير لهم، فأنكر الله عليهم كما أنكر حسبان الذين كفروا أنما يملي لهم خير لأنفسهم.
وكذلك ما يعطي للكفرة والمنافقين من أموال ومن زينة في الحياة الدنيا فذلك ليس خيراً لهم: كما قال تعالى: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) فأطلق الشر؛ ليعم الدنيا والآخرة، وذلك كما قال عز وجل في بيان شره عليهم في الدنيا: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وكم من أناس كان المال والملك والسلطان سبباً للشقاء الدنيوي والعذاب فيها، فضلاً عما ينتظرهم في برزخهم، وعما أعد الله لهم يوم القيامة، فقد يكون جمع المال ورصده وحسابه عذاباً، وقد تكون نفقته ونقصانه والخوف كذلك، وهذا -والله- أمر مطرد، فكلما كسب الإنسان مالاً من حرام شقي به أعظم شقاء، وتعس به أعظم تعاسة، مع أنه يزداد حرصاً عليه كالذي يشرب من ماء البحر ويزداد عطشاً وشرباً وألماً، ويضطرب نظام جسمه بالكلية بسبب شربه لهذا الماء المالح، وكذلك المال إذا أخذه الإنسان من حرام وصرفه في الحرام.(36/7)
الآثار الواردة في الزجر عن البخل
قال ابن كثير رحمه الله: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له بشجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة)، الشجاع ثعبان، أقرع أي: سقط شعره من كثرة سمه.
له زبيبتان: نقطتان سوداوان بين عينيه، يطوقه يوم القيامة أي: يكون هذا الثعبان طوقاً في عنقه فيلتف حول رقبته؛ لأنه لم يؤد زكاة ماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (يأخذ بلهزمتيه) يعني بشدقيه، والشدق جانب الخد من الداخل، ومعنى (يأخذ بلهزميته) أي: يتسلط عليه الثعبان حتى يدخل في فمه من الداخل ويلدغه في هذه المواطن.
قال: (يقول: أنا مالك، أنا كنزك) أي: يتحول هذا المال إلى ثعبان حقيقي فعلاً، وهذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل، فإن الله عز وجل قادر على أن يحول هذه الأموال إلى ثعابين يوم القيامة، تأخذ برقاب البخلاء، ويعذبهم الله بهذا العذاب.
قال: (ثم تلا هذه الآية: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) [آل عمران:180]) وهذا وعيد شديد لمن منع الزكاة، فيجب على المسلم أن يتعلم فقه الزكاة ويؤدي ما افترض الله عز وجل عليه، وهذا فرض عين على كل من له مال تجب فيه الزكاة، فكل من له مال يجب أن يتعلم نصاب الزكاة؛ حتى لا يتأخر عن أدائها إذا وجبت، ويعلم متى تجب عليه، وكثير من الناس يفرط في هذا فيدخل في هذا الوعيد الشديد.
فالآية إذاً في الزكاة الواجبة والنفقة الواجبة، وفي الجهاد في سبيل الله أيضاً كما دل عليه السياق.
والحديث تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه.
حديث آخر رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك)، وهكذا رواه النسائي عن أبي هريرة.
قال ابن كثير: قلت: ولا منافاة بين الروايتين رواية ابن عمر عن أبي هريرة، وقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين عن ابن عمر وعن أبي هريرة، وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح عن أبي هريرة.
حديث آخر رواه الإمام أحمد عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه فيقول: أنا كنزك، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))) وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود موقوفاً، رواه في مستدركه عن ابن مسعود به، ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً، ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، بل له حكم الرفع.
حديث آخر: رواه الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك بعده كنزاً)، والكنز: هو ما لم يؤد زكاته، قال: (من ترك بعد كنزاً مثل له شجاع أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه ويقول: من أنت ويلك؟! فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها) يعني من شدة التعب يريد أن يريح نفسه فيعطيه شيئاً من بدنه فيلقمه يده، فيقضم يد البخيل والعياذ بالله، قال: (ثم يتبع سائر جسده) إسناده جيد قوي.
وهذا يعني أنه لا يكتفى باليد، بل يعذب جسده كله بهذا الثعبان، رغم محاولة صاحبه الفرار منه، فلو أن الناس فروا في هذه الدنيا من المال الحرام، أو من المال الذي منع الحق فيه، كما يفرون من هذا لما حصل لهم هذا، نسأل الله العافية، إنما يفرون يوم القيامة من هذه الكنوز التي أصبحت لا قيمة لها، نسأل الله العافية.(36/8)
وجوب النفقة على الأقارب والمعنى الآخر للبخل
قال ابن كثير: ورواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي وابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منعه) ومعنى: (لا يأتي الرجل مولاه) أي: قريبه، أو كل من كان قريباً له.
(فيسأله من فضل ماله عنده)، وهذا من أقوى ما يحتج به على وجوب النفقة على الأقارب.
قوله: (شجاع يتلمظ) يعني: يتغيظ عليه ويعد فمه للأكل.
ما هو هذا الشجاع؟ هذا الشجاع هو فضله الذي منع، هذا لفظ ابن جرير.
وروى ابن جرير عن أبي قزعة عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه) نعوذ بالله.
ثم روى حديثاً ضعيف السند لكنه شاهد لما قبله، وفيه: عن ابن عباس قال: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، فالتفسير الثاني للبخل هو: البخل المعنوي، وهذا أولى بالذم؛ لأن منع المال يؤدي إلى ضياع دنيا الناس وافتقارهم وحاجتهم، أما البخل المعنوي وذلك بمنع الحق، ومنع آيات الله من البيان فإنه يترتب عليه ضياع آخرة الناس، وضياع دينهم وتحريفه، الذي يؤدي إلى شقائهم، وليس فقط في جيل بل في أجيال، فلا تزال أمم كثيرة على الضلال والشرك بسبب أن آباءهم وأجدادهم حين جاءهم الحق فكتموه ولم يؤمنوا به، فورثوا الكفر لأجيال تلو أجيال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: والصحيح الأول، وإن دخل البخل المعنوي في معناه، وقد يقال: إن هذا أولى بالدخول، وهذا الذي علموه من الحق هو شر لهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك)، فالذين آتاهم الله الكتاب فلم يقوموا به، والذين آتاهم الله العلم فلم يعملوا به، ولم يقولوا الحق للناس، بل كتموه وبخلوا به لكي ينالوا حظاً من الدنيا فسينالهم ما أخبر الله عز وجل من العقاب.
قال سبحانه: ((وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) قال ابن كثير: أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل، فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم.
((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) أي: بنياتكم وضمائركم.(36/9)
بيان فساد اعتقاد اليهود والنصارى
فرح اليهود بهزيمة المسلمين في أحد من أجل أن يظهروا على المسلمين، ولقد يسر الله عز وجل إهلاك كبارهم وتدمير قبائلهم في الغزوات الثلاث التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد غزا بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة جزاء على خيانتهم، وما أكثر الآيات في ذم أهل الكتاب، وفي بيان فساد اعتقادهم في حق الله سبحانه وتعالى، مثل أنهم يقولون: إن الله فقير وهم أغنياء عياذاً بالله، وهذه عادتهم في السب والانتقاص من الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات العجز، ولا تزال كتبهم المحرفة مليئة بهذه الأوصاف لرب العزة، من العجز، والمرض، والحزن والبكاء، وزاد النصارى الأمر فساداً وضلالاً فاعتقدوا فيه الموت، والألم والعجز والصراخ، وأن يتمكن الأعداء منه أعظم تمكن، فهذه سيرة هؤلاء ونسأل الله العافية، والحمد لله الذي عافانا من هذا البلاء! وأناس كثيرون يعتقدون في الله عز وجل صفات النقص، ويزعمون بعد ذلك أنهم يحبونه ويعبدونه، وهم يصفونه بأفظع الأوصاف، والحمد لله الذي أحق الحق وأبطل الباطل.
وقد بين سبحانه وتعالى كيف كان تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن المؤمنين سيسمعون منهم ومن المشركين أذىً كثيراً، ثم بين حقيقتهم في كونهم لم يوفوا بما أخذ عليهم من العهد في تبيين الكتاب للناس، بل كتموه، ونبذوه وراء ظهورهم، فليسوا في الحقيقة مؤمنين بالكتب التي بين أيديهم، وإن عوملوا أنهم أهل كتاب، فهم يشترون الثمن القليل في الدنيا ببيعهم دينهم وكتابهم وعهد الله لهم، وهم يفرحون بما أتوا من الكفر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأخبر الله بعذابهم ثم ختم الله السورة بالحث على التفكر في خلق السماوات والأرض، وهي آيات الله المشهودة التي تدل عليها آياته المسموعة أحسن دلالة، وتحيي القلب المؤمن بما ينزل الله عز وجل عليه من فضله، حين يشاهد آياته سبحانه، ويدعوه عز وجل بالتوحيد والإخلاص، ويتذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، إلى آخر المعافي في الآيات العشر من خاتمة سورة آل عمران، والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها حين يستيقظ من الليل ناظراً إلى السماء وهذه الآيات هي دعاء المؤمنين الذي علمهم الله عز وجل إياه في قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:191 - 194].
وقد بين عز وجل استجابته لعباده المؤمنين، وأن منهم من تحمل الأذى في سبيل الله من الهجرة والإخراج من الديار، والجهاد في سبيل الله والقتال والقتل، وكل ذلك لن يضيعه الله عز وجل.
ثم حذر سبحانه وتعالى الإنسان من أن يغتر بما عليه الكفرة وتقلبهم في البلاد، بل مأواهم جهنم وبئس المهاد، وبين عز وجل إيمان طائفة من أهل الكتاب، وأن طائفة منهم مؤمنة بالحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، ولا يوجد مؤمن إلا من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كما آمن بما أنزل من قبل، ثم ختم السورة بالأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
هذا غاية ما أردنا ذكره من تفسير سورة آل عمران فيما يتعلق بغزوة أحد؛ للاستفادة من الدروس التربوية الإيمانية التي تتضمنها هذه الآيات، ولنعلم كيف ربي المجتمع المسلم والطائفة المؤمنة، من خلال الوقائع التي حدثت لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة أعدائهم.
نسأل الله عز وجل أن يقضي حاجات المحتاجين، وأن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسرى المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن ينصر عباده المؤمنين، وأن يهدينا أجمعين.(36/10)
الأسئلة(36/11)
حكم تصدّر من ارتد ثم أسلم للمناصب والقيادات
السؤال
ذكرتم أن المرتدين لا يصدرون في المناصب، وأنهم ينبغي أن يكونوا في آخر الصف، فكيف الجمع بين قولكم هذا وبين ارتداد عبد الله بن أبي السرح ثم رجوعه وقيادته معركة ذات الصواري؟
الجواب
هذا الأمر أولاً يحتاج إلى ثبوت الإسناد فيه، فكثير من أمور السير تذكر بغير إسناد.
ثانياً: قال أبو بكر: حتى يري الله خليفة رسول الله والمسلمين أمره، فلو حسن إسلام هذا الرجل وظهر إخلاصه وثبت على ذلك فيرجى منه خير إن شاء الله، ويكون تابعاً لغيره في الجملة.(36/12)
كيفية إخراج زكاة المال
السؤال
كيف تخرج زكاة المال؟
الجواب
على المرء أن يعرف اليوم الذي ملك فيه النصاب، ويحسب النصاب في قول عامة المذاهب على الفضة، فالمذاهب الأربعة تحسبه على الفضة، وهو الصحيح؛ لأنه مال يمكن أن يشترى به من السوق فضة تبلغ نصاباً، فقيمة النصاب على الفضة أو على ما يبلغه النصاب على الأقل من الذهب والفضة، فلو افترضنا أن الفضة غلت في بعض البلاد، وكان الذهب أقل فيحسب على الأقل، وهو الأحظ للفقراء، ونصاب الفضة (595) جراماً عيار ألف، من الفضة النقية، وكذلك يعرف التاريخ الذي ملك فيه هذا النصاب، فيحسب من هذا اليوم مرور سنة هجرية قمرية، ويحسب ما معه من المال، وذلك إذا لم ينقص المال عن النصاب خلال السنة، ويحسب المال الموجود ولو أتى بالأمس، طالما كان من جنس الأصل، فعلى أصح قولي العلماء: أن المال المستفاد من جنس الأصل يزكى بحول الأصل، فيخرج ربع العشر من هذا المال المولود.
وإذا كان عليه دين خصم هذا الدين من المال؛ لأن ما في يده ليس -في الحقيقة- ملكاً له، وإن كان له ديون فإنه يزكيها إذا قبضها لما مضى من السنين، إذا كانت تتجاوز عدة سنوات.
وكذلك عروض التجارة يلزمه أن يزكي عنها كل عام من تاريخ ملك النصاب؛ لأنها ملحقة بزكاة المال.
ففي كل سنة يعمل جرداً -كما يقولون- للبضاعة الموجودة، ويحسبها بقيمتها، وهو سعر الجملة الذي يشتري به التجار، فيخرج ربع العشر.
وأصح قولي العلماء في مسألة زكاة عروض التجارة: أنه يجزئ فيها أن يخرج من العروض، كما يجزئ فيها أن يخرج القيمة النقدية من ذهب أو فضة أو نقود في مقابل تلك العروض، وأكثر أهل العلم يقولون: إنه يجب أن يخرج القيمة -وهي ربع العشر- نقوداً.
والصحيح: أنه يجوز له أن يخرج الزكاة من العروض نفسها؛ لأن زكاة المال وعروض التجارة من باب واحد، ومثلها زكاة الذهب والفضة لمن بلغ نصاباً، لكن نصاب الذهب يختلف في هذه الحالة، فنصابه عشرون ديناراً، أي: خمسة وثمانون جراماً عيار أربعة وعشرين، فمن كان عنده ذهب ولو كان معداً للزينة فيجب فيه الزكاة على أصح قولي العلماء؛ لدخوله في عموم الآيات الدالة على وجوب الزكاة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابيتين بأن يخرجا زكاة السوارين اللذين تحليتا بهما، فقال: (أيسركما أن يسوركما الله بسوارين من نار؟!)، فليس الذهب هنا معداً إلا للزينة فقط، ومع ذلك أمرهما أن يخرجا الزكاة فيه، فقال: (أديا زكاته)، وتوعدهما بأنهما إن لم يؤديا زكاة هذه الأساور فإن الله يسورهما بسوارين من نار والعياذ بالله، فكل هذا فيه ربع العشر.
وأما زكاة الزروع: فعند الحصاد وبعد التنقية، ومعرفة قدرها، فإذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء كفي الرجل المتوسط، وكثير من الناس يعرفون الصاعات بالأوزان المعاصرة، وأما زكاة الفطر: فتخرج من كل ما يعد للإدخار ويقتات، فيخرج منه العشر أو نصف العشر، فالعشر إذا كان يسقى بالسماء، ونصف العشر إذا كان يسقى بالآلة، وزكاة الحيوان لها تفصيلات في موضعها.(36/13)
حكم سوء الظن بالناس والحكم عليهم بالباطل
السؤال
عرفت بعض الصوفية قبل الالتزام، ودائماً أحاول البحث عن قلوب الناس كما علموني، وأحكم على الناس دائماً بالباطل، فهل من علاج لهذا؟
الجواب
هذا من الوساوس فعلاً، واعلم أن الله يجتبي من رسله من يشاء، كما قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ))، فإياك أن تجعل نفسك في مصاف الرسل، والرسول صلى الله عليه وسلم حين علم، لم يعامل الناس بما علم من قلوبهم، وإنما قال: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس)، بل عاملهم بالظاهر، وعلم أصحابه ذلك.
والفراسة لا تنفى لكن لا يُجزم بها، وإياك أن تعامل الناس بالظنون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] فكلما وقعت في قلبك الخواطر عن قلوب الناس فتذكر قوله: ((اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ))؛ حتى لا تغرك نفسك وشيطانك؛ فتظن نفسك في مقام الأنبياء.(36/14)
حكم الاحتفال بعيد شم النسيم
السؤال
ما حكم الاحتفال بما يسمى شم النسيم؟ وهو احتفال خاص بالنصارى، وهل يصح التهنئة به فيما بين المسلمين وبين المسلمين والنصارى؛ مجاملة لهم؟
الجواب
لاشك أن هذا العيد الباطل مرتبط بأعياد النصارى ارتباطاً وثيقاً، وهو يتغير كل سنة، يكون يوم فطرهم بعد صومهم الذي ينتهي مع ما يسمونه بعيد القيام المجيد، وهو عيد يدل على الشرك والكفر من وجوه متعددة وهي: اعتقاد موت الإله، ثم اعتقاد قيامته من الأموات، واعتقاد صلبه، وقد قال عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
فلا يجوز لنا أن نحتفل بذلك، ولا أن نشاركهم، ولو بالأكل والشرب القليل، أو بأنواع اللعب والفرح والسرور مما يجذب القلوب إلى هذه الأعياد، وهو للأسف عيد غير إسلامي يحتفل به كثير من المسلمين كاحتفالهم بأعياد المسلمين، ولا يوجد عيد آخر وطني ولا قومي، ولا أعياد ميلاد، ولا غيرهما بمنزلة هذا العيد، فهو أخطر عيد؛ لأنه يشارك فيه كثير من المسلمين نسأل الله العافية.
وأما أن أصله فرعوني فالله أعلم بذلك، لكن الظاهر أن له تعلقاً بالنصارى؛ لأنه -كما ذكرنا- يتغير بتغير صومهم، وعلى أي الأحوال فالفراعنة وعباد الأوثان أسوأ حالاً من النصارى، فلا يجوز التهنئة بهذا العيد بحال من الأحوال، بل إن كان هذا على اعتقاد ما فيه من قيام المسيح من الأموات، فهذا من الكفر والشرك والردة عن الإسلام والعياذ بالله.(36/15)
حكم مشاهدة فيلم عن عيسى عليه السلام
السؤال
ما حكم مشاهدة فيلم عن السيد المسيح؟
الجواب
قال الله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، فلا يجوز للإنسان أن يحضر مجالس تكذيب القرآن العظيم، أو أن يحضر مجالس يخالف فيها نص الكتاب العزيز، فهنا قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، وربما وقع في قلبه تصديق ذلك ثم التأثر به، وقد سمعنا أن بعضهم يبكي عند رؤية هذه المشاهد، وهذا لا يحصل إلا بسبب التصديق.
فالأصل أنك لو رأيت كلاماً تكذبه فإنك تضحك من سخافة عقل قائله، وأما أن تتأثر به فهذا لا يحصل إلا بسبب نوع من التصديق، وكثير من الناس كأن هذا الأمر مصدق عندهم، وأصبح كثير من المسلمين يسألون عن هذا الشيء العجيب فيقولون: هل صُلب المسيح أم لا؟ وهل مات على الصليب أم أنه صلب ولم يمت عليه؟ ونحو ذلك، فهذا شيء عجيب! فقد نص القرآن على هذه المسألة وأصبح كثير من المسلمين يجهلونها، قال الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
نعم وقع هناك صلب، فقد صلب إنسان آخر غير المسيح عليه السلام، ولاشك أن كل الحواريين -فضلاً عمن أتى بعدهم- لم يشهد أحد منهم تلك الواقعة كما نصت الأناجيل، بل إنهم كلهم أنكروا المسيح وتخلوا عنه وتركوه، ولم يشهد واحد منهم ذلك، وإنما ذكروا ما سمعوه من الناس، واعتقاد أن المسيح قد صلب أو قد مات أو قد قتل لم يكن كفراً إلى أن نزل القرآن، فنزل القرآن وبين أنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وأنه سبحانه قد رفعه إليه، قال سبحانه وتعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، لذلك من اعتقد ذلك فهو مكذب للقرآن العظيم، فيكون مرتداً عن الإسلام والعياذ بالله من ذلك.(36/16)
حكم تهنئة النصارى بأعيادهم
السؤال
رجل نصراني هنأني بعيد الفطر والأضحى، فهل لي أن أهنئه بعيد الفصح وأقول له: كل عام وأنتم بخير بمناسبة أن الله قد مات ثم قام من الأموات؟
الجواب
نسأل الله العافية، أيجوز أن يكون الحق كالباطل؟ وأن يكون الشرك كالإيمان؟ ما لكم كيف تحكمون؟ هو هنأك بحق؛ وهو إتمام النعمة عليك بعبادة الصيام والتضحية في سبيل الله عز وجل بالأضحية، فكيف يجوز لك أن تهنئه بالكفر والشرك، نعوذ بالله من ذلك؟!(36/17)
حكم التمثيل بجثث الجنود الكفار في حربهم مع المسلمين
السؤال
ما حكم التمثيل بجثث الجنود الكفار في حربهم مع المسلمين؟
الجواب
إن الغيظ يملأ قلوبنا من القوم الكافرين، فنسأل الله أن يذهب غيظ قلوبنا منهم، وأن يشفي صدورنا منهم، ولكن حكم الشرع في هذه المسألة بيِّن، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم تألماً شديداً عندما رأى عمه حمزة وأصحابه قد مثل بهم، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعد أن عزم أن يمثل بالمشركين مثلة لم يسمع بها، فلا يجوز التمثيل ولو من أجل إرعاب الكفار أو نحو ذلك، فلا يصح هذا الأمر، وإنما يخوفون بما شرع الله لا بمخالفة الشرع، ونسأل الله أن يفرج كربة المسلمين في العراق وفي فلسطين وأفغانستان والشيشان، وأن ينجيهم من الحصار والظلم والعدوان.(36/18)
حكم تأجير الأماكن لقضاء أيام شم النسيم الصيفي فيها، وحكم المال المكتسب من ذلك
السؤال
ما حكم العمل في تأجير الأماكن الخاصة لقضاء أيام شم النسيم الصيفي فيها؟ وما حكم المال الذي يكتسب من ذلك العمل؟
الجواب
قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وفي بعض الأحاديث: (من باع عنباً لمن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة)، فكل بيع أو إجارة أعانت على محرم من فعل الفواحش، وكشف العورات، وفعل المنكرات، أو الإعانة على تعظيم شعائر الكفار؛ فذلك -والعياذ بالله- من التعاون على الإثم والعدوان، فلا يجوز المعاونة عليه بوجه من الوجوه؛ لأنه محرم، والذي أجر هذا المكان يستحق الأجرة على المكان ولكنه يأثم بذلك، وذلك المال ليس مالاً طيباً، وهو ماله يجوز له أن يتصرف فيه على أصح أقوال العلماء، كثمن العنب إذا باعه لمن يتخذه خمراً، فننهى الرجل الذي اشترى العنب عن أن يتخذه خمراً، ونقول للرجل الذي باعه: تب إلى الله ولا تعد، وخذ مالك وانتفع به.
ويقول بعض أهل العلم بالبطلان، فلا بد أن يرد العنب أو أن يرد مثله والعقد باطل.
والصحيح: أن هذا العقد صحيح مع الإثم، وينتقل به ملك المنفعة ويأثم الطرفان، هذا لارتكابه المحرم، وهذا لعلمه بأن الطرف الآخر يرتكب المحرم بهذه البقعة ويستحق الأجرة، وهو مال غير طيب، ولكن يجوز التصرف معه فيه.
ومثل ما مضى تأجير السيارات لمن يعلم أنه يذهب بها إلى أماكن الفساد، كمن قال لك: تعال اذهب معي إلى الملهى الليلي، أو رجل عنده تكسي فأوقفه رجل، وقال له: اذهب بنا إلى الملهى الفلاني، أو إلى الخمارة الفلانية، وهو يعلم أنه يذهب إلى هناك ليشرب الخمر، فهذا لا يجوز أن يحمله والعياذ بالله.(36/19)
موقف المسلم من تقاتل الرافضة والكفار
السؤال
ما موقف المسلم حول ما يحدث في العراق، حيث يقاتل الكفار الأمريكان وغيرهم الشيعة؟
الجواب
لا شك أن الشيعة يخافون من أهل السنة، ونسأل الله أن يعافي المسلمين جميعاً، وعلى أي الأحوال لا شك أن المسلم المبتدع خير من الكافر، فالذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في الجملة خير من الكفار، وإن كان عنده كثير من العقائد الفاسدة الباطلة التي لو أقيمت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة والتأويل؛ لكان كافراً، لكن لم يحدث ذلك لانتشار الجهل، وقلة العلم خاصة في بلد منعت فيه الدعوة إلى الله عز وجل عقوداً من الزمن، وانتشر فيه الجهل قروناً بسبب انتشار المذهب الباطل.
لكن إجمالاً لا يزال حكم عوامهم خصوصاً، وكثير من مشايخ السوء الذين عندهم في حكم العوام لأجل الجهل، وإن ترأسوا المناصب، فمثل هذا كما ذكرنا يمنع من تكفيرهم، فنقول في الجملة: كل مسلم يحرم سفك دمه حراماً ولابد أن يتورع المسلم من ذلك، ولا يرضى به، ويحزن عليه، فحزنك على قتل أي مسلم من الدين، ولو كان مبتدعاً، ولا يجوز أن نفرح بقتل هؤلاء على أيدي الكفار والعياذ بالله.
ولا شك أن المسلمين كانوا يفرحون بانتصار الروم على الفرس، ويحزنون لانتصار الفرس على الروم؛ لأن الروم أهل كتاب، فالأمر أشد من ذلك، فالشيعة الرافضة مبتدعة، ولا نكفر إلا الغلاة منهم، الذين يعتقدون ألوهية علي أو ألوهية أحد من آل البيت أو نبوة علي، أو نبوة أحد من آل البيت، ولاشك أن هؤلاء مرتدون وشر من اليهود والنصارى، والذين لا يعتقدون ذلك وإنما يطعنون في أبي بكر وعمر والصحابة فهم من شر أهل البدع، لكن ليسوا بخارجين من الملة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وهي غير حاصلة.
فيجب علينا أن نبرأ مما جاء به هؤلاء الكفار الذين يسفكون دماء المسلمين، ثم أطفال هؤلاء المسلمين ما ذنبهم؟ والله لو أن كافراً قتل مظلوماً لتبرأنا من ذلك؛ لأن الظلم أمر محرم، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من قتل امرأة فقال: (ما كانت هذه لتقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والصبيان)، فنبرأ من قتل نساء الكفار وصبيانهم، أما الكفار فعندهم دماء المسلمين لا قيمة لها، وتهديم المساجد واقتحام الحرمات كلها مباحة والعياذ بالله! نسأل الله أن ينتقم منهم، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.(36/20)
حكم مقاطعة بضائع الكفار
السؤال
ما حكم مقاطعة بضائع الكفار؟
الجواب
المقاطعة تحتاج إلى دراسة جيدة، وهي مازالت مفقودة للأسف، فما رأينا دراسة صحيحة تثبت قدر الضرر الذي يحصل للكفار من كساد بضائعهم ذات العلامة التجارية، فأنا أحبذ جداً مقاطعة البضائع التي ينتجها الكفار فعلاً في بلادهم، وليس لنا بها حاجة، وهذا أمر يفت في عضدهم فعلاً، وخصوصاً إذا كان جماعياً.
والأصل في بضائعهم الإباحة طالما احتجنا إليها، وكانت مصلحتنا فيها، لكن إذا كنا نستغني عنها وعندنا البديل، فالأولى والأفضل أن نقاطعها فعلاً، لكن ما يتعلق بما ينتجه المسلمون أو ما ينتج في بلادهم فقد تضرر طوائف عريضة من الناس، ويقع الضرر فيها على المسلمين أضعاف ما يقع على الكفار، فهذا أمر يحتاج إلى موازنة، فلابد من النظر والدراسة، وللأسف لا زالت هذه الدراسة مفقودة، ولا زالت قضية المقاطعة تسير بالطريقة الغوغائية، وشركات تريد تضرب شركات أخرى، تقول: إن هذه الشركات أمريكية يهودية؛ فترتب على ذلك خلل كبير، نسأل الله العافية.
وأنا كنت أتمنى أن يكون رجل عنده خبرة اقتصادية يقوم بهذه الدراسة، ولو أن أحداً يستطيع ذلك فجزاه الله خيراً، سواء أكان من كليات التجارة أم من كليات الاقتصاد أم من فروع هذه العلوم، ويستطيع فعلاً أن يقوم بدراسة الضرر الذي يقع على صاحب العلامة التجارية، والضرر الذي يقع على العاملين، وعلى الذي اشترى العلامة التجارية أو أجرها مدة من الزمن، ويحسب كمية المنتجات الموجودة في بلادنا بالنسبة إلى المنتجات التي في العالم، وهل يؤثر ذلك عليهم فعلاً؟ ولا نريد نتائج مقاطعة القرن الماضي التي أثارتها الدول العربية لإسرائيل، خسرت إسرائيل كذا وكذا وكذا، لا ليست هذه المقاطعة التي نتكلم عنها اليوم، الشركات الإسرائيلية ليست هي التي نتعامل معها الآن، فنريد دراسة جيدة.(36/21)
حكم النصيحة للكفار
السؤال
نصيحة الكفار هل هي من الموالاة؟
الجواب
نصيحتهم بالدخول في الإسلام والتوبة إلى الله عز وجل، ليست موالاة لهم، بل هذا من حب الخير، ومن موالاة الدين والنصح له؛ لأن دخول الناس في الدين هو نصح لدين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين أيضاً، وهذا النصح واجب، فيجب أن تنصح الكفار بأن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، والدعوة إلى الله عز وجل واجبة.
وإذا استنصح كافر مسلماً في أمر دنياه فيجوز له أن ينصحه، إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين، وهذا من القسط.(36/22)
مراتب العذر بالجهل
السؤال
ما هي مراتب العذر بالجهل؟
الجواب
هناك معذور في الآخرة، ومعذور في تكفيره لا في إقامة الحد عليه، أو في العقاب، وهناك معذور في الدنيا والآخرة وهو من لم يقصر في طلب العلم، وهو مسلم نطق بالشهادة ووقع في شرك، لكن بدون تقصير، أو لم يبلغه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فهذا إنسان معذور ليس عليه عقاب، فنحن نعذره في أحكام الدنيا؛ لثبوت الإسلام، ونعذره في أحكام الآخرة؛ لأن الله عز وجل لا يعذب إلا بعد التبليغ بالقرآن، قال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: ويبلغه خبره التفصيلي بعد الإجمالي في حق من آمن إجمالاً؛ لأن الإيمان إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي، فالذي آمن إجمالاً لا يكون مكذباً أو آبياً أو مستكبراً أو راداً ناقض للإيمان إلا بأن يبلغه التفصيل، فهذا إذا لم يقصر في طلب العلم لا يكفر، بل ولا يأثم، طالما كان هذا هو المتاح له، مثل الذين يأتون في آخر الزمان لا يدرون إلا كلمة لا إله إلا الله، ولا يعرفون غيرها، ولا شك أن الإسلام قد درس في ذلك الوقت، فلا صلاة ولا صام ولا يعرفون أنواع العبادات، فلا يعرفون الصلاة فضلاً عن أن يعرفوا الذبح والطواف والنذر والحلف، لا يعرفون إلا هذه الكلمة إجمالاً بلا تفصيل.
ونحن في زمان يعرف الناس فيه الصوم والصلاة ولا يعرفون الذبح والنذر؛ بسبب انتشار الجهل؛ لأن هذه الصلاة والصيام أشهر من الذبح والنذر والحلف، وذلك لأنها أركان الإسلام الكبرى، ولذلك درست الأمور التي ذكرنا قبل أن تدرس الصلاة.
ومعنى درست أي: انقرض علمها في الناس، وليس انقضى علمها تماماً، لكن قل علمها في الناس، فسوف يأتي زمان لا يدري الناس ما الصلاة نفسها، فلا يعرفون الركوع ولا السجود، ومع ذلك يقولون: لا إله إلا الله، فينجيهم الله من النار كما قال حذيفة رضي الله عنه.
وأما المعذور في الآخرة: فهو الكافر الذي لم تبلغه الرسالة، فهو كافر؛ لأنه لم ينطق بلا إله إلا الله، ولم يعتقدها، ولم يقلها بلسانه، ولكن لم يصله، بلا بلاغ، وقد قال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهذا من أهل الامتحان، يقبل عذره حين يقول: رب ما أتاني من رسول، فيمتحن يوم القيامة، وكذا الأحمق والمجنون والأصم فيقول: رب لقد جاءني الإسلام وما أسمع شيئاً، فهؤلاء معذورون في أحكام الآخرة، وأما في أحكام الدنيا فهم كفار، هذا هو المقصد من كلمة معذور في الآخرة، فلا نقول عنه: مسلم، وإن كنا لا يجوز أن نقاتله، ولا أن نسفك دمه، ولا أن نسبي نساءه ولا أولاده، ولا نغنم أمواله بغير أن يبلغ، ومن فعل به ذلك ضمنه؛ لأنه مثل المستأمن حتى يسمع حجة الله عز وجل.
والمرتبة الثالثة: معذور في التكفير لا في إيقاف العقوبة أو إقامة الحد، مثل الخوارج، فقد عذرهم علي فلم يكفرهم، مع أنهم اعتقدوا كفراً، وهو تكفير علي بن أبي طالب وتكفير الصحابة، وتخليد عصاة الموحدين في النار، فهذه عقيدة مناقضة للمتواتر، لكن لم يتواتر عندهم وحصلت لهم الشبهات، فاستحقوا العقاب في الدنيا والآخرة، وقاتلهم علي وقتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يلزم أن يكونوا مخلدين في النار.
وستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يوجد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة أهل السنة من يكفر الثنتين والسبعين فرقة كفراً ناقلاً عن الملة، ولكن يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات، ومن كان منهم منافقاً في الباطن فهو في الدرك الأسفل من النار.
فالاثنتان والسبعون فرقة كلهم في النار، ولكن لا يلزم أنهم مخلدون فيها، بل منهم من يموت على التوحيد وإن كانوا قلة، والفرق الكبرى يخشى على أصحابها أنهم يموتون على غير التوحيد، لكن من مات منهم على التوحيد رغم البدعة فيدخل النار ويعذب بقدر بدعته، ولكن مآله إلى الجنة.(36/23)
حكم غسل يوم الجمعة في ليلة الجمعة
السؤال
هل يجزئ غسل الجمعة بعد غروب الشمس من يوم الخميس؟
الجواب
الصحيح أن الغسل لا يكون إلا بعد أن يطلع الفجر من يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة)، ويوم الجمعة إذا أطلق يكون بعد طلوع الفجر.(36/24)
الفرق بين الفتنة والابتلاء
السؤال
هل يبتلي الله كل مسلم؟ وما الفرق بين الفتنة والابتلاء؟
الجواب
قال عز وجل: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] فلا بد من الابتلاء والامتحان والفتنة، أي: التي بمعنى الامتحان، أما الفتنة التي بمعنى السوء والشر الذي ظهر من الممتحن عند امتحانه فهذا لا يلزم أن يتعرض له الإنسان، بل هناك من يفتتن أي يمتحن ويبتلى فيصبر.
وقد ابتلى الله داود عليه السلام بعدة بلاءات أثناء المعركة وقبلها، وزلزلوا زلزالاً شديداً عندما قال المؤمنون الذين عبروا النهر مع طالوت: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، وتجرأ داود عليه السلام وهو شاب على قتل جالوت، القائد الكبير الذي يرعب منظره الأعداء مع كثرة العدد، فهذا كله كان ابتلاء، وابتلي داود عليه السلام قبل ذلك أثناء فترة المحنة بـ طالوت والنهر، ثم ابتلي داود عليه السلام في أمر الخصمين، وقد ذكر كثيرون أنه قال لصاحبه: انزل لي عن المرأة، وذلك أمر عدَّ في حقه ذنباً، ولم يزد على ذلك، ولم يقع منه محرم ولا فاحشة، وقيل: إنه أخطأ في الحكم بين الخصمين، والله أعلم، والأول عندي أصوب.(36/25)
وضع مال في البنك وأخذ فائدة عليه
السؤال
رجل وضع خمسة آلاف في البنك وبعد عشر سنين أخذها عشرين ألفاً، فهل هذا ربا؟
الجواب
إن لم يكن هذا ربا فلا ربا في العالم، والله! هذا ربا عند الأقارب والأباعد، إلا أهل السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون هذا فائدة، والذين اخترعوا البنوك يسمون هذه فائدة وربا، ولا يقولون: إن هذا ليس بربا، فهم يعرفون أن النقود لا تلد، والربا هو: الزيادة، فهذا هو الربا بعينه، فعلى المسلم أن يستثمر ماله عن طريق المضاربة الشرعية، أو عن طريق البيع والشراء، أو عن طريق الشركة، أو عن طريق المرابحة مثلاً.
وعلى أي الأحوال فتجب عليه الزكاة، ويجب عليه أن يتخلص من القدر الزائد، فالمال الزائد عن الخمسة الآلاف يصرفها في مصالح المسلمين، تخلصاً منه نيابة عن أصحابه المجهولين، فالبنك رابى معهم فكان عليه أن يرجع لهم هذه الفلوس، لكن لا سبيل إلى ذلك، والواجب شرعاً: أن تأخذ ما أودعت فقط، قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279].
فالخلاصة: أن هذا المال جاء من خلال معاملة ربوية، مثل الذي يسمونه نظام الائتمان، وقليل جداً جاء بسبب معاملات مباحة في البنوك، والأصل في هذه الأموال أنها تأتي بالأرباح عن طريق الائتمان، وهو ليس ائتماناً وإنما هو خيانة، وهو الربا المحرم.
ومن علامات قوة النشاط الاقتصادي: أن الفوائد في البنك تقل؛ لأنه دليل على أن الناس يستثمرون أموالهم في المشاريع أكثر من استثمارها في البنك، والبنك عند الائتمان يجعل الفلوس تتراكم فيه، وهذا من علامات ضعف الاقتصاد في الحقيقة؛ ولأجل ذلك تجد الدولار أقل فائدة موجودة، ففائدته في السنة لا تصل إلى اثنين ونصف في المائة في البنوك، لماذا؟ لأن اقتصاد أمريكا قوي من أقوى الاقتصادات.(36/26)
حكم إصلاح أجهزة الفيديو والتلفزيون
السؤال
ما حكم إصلاح الأجهزة الإلكترونية والكهربائية كالفيديو والتلفزيون؟
الجواب
يجوز أن تصلح هذه الأجهزة للملتزمين الذين يستعملونها في الحلال، وأما إصلاحها لمن يستعملها في الحرام -وهم الأغلب- فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان.(36/27)
نصيحة للشباب الذي لا يستطيع الزواج
السؤال
ماذا يفعل الشباب أمام فتنة النساء في الجامعة وفي غيرها -نسأل الله العافية- ونحن لا نستطيع الزواج؟
الجواب
نسأل الله أن ييسر الزواج للمسلمين، وعلى أي الأحوال من لم يستطع فعليه بالصوم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
وأنصح بقراءة كتاب الداء والدواء لـ ابن القيم، فإن فيه منهجاً طيباً لإصلاح القلب، ومبنى الأمر على عمل القلب وحراسة الخواطر وإصلاح حال القلب حتى يتعلق بالله عز وجل، وسؤال الله العافية.(36/28)
حكم من أفطر أياماً لا يدري عددها
السؤال
ما حكم من أفطر عمداً أياماً من رمضان ولا يعلم عددها، ثم تاب وهو الآن يكثر من صيام التطوع؟
الجواب
يجب عليه أن يقضي تلك الأيام أولاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع في رمضان: (واقض يوماً مكانه) فيجب عليه أن يقضي تلك الأيام، وأن يتحرى عدد تلك الأيام التي أفطرها في رمضان، ويصومها بنية القضاء، والأفضل أن يصوم التطوع بنية القضاء.
والصحيح من قولي العلماء: أنه يلزمه عن كل يوم كفارة، وهي صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة يخير فيها، والأفضل الترتيب: العتق ثم الصيام ثم الإطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وهو مد من الأرز أو من غيره من الحبوب، ومن لم يجد فتبقى في ذمته إلى أن يفتح الله عز وجل عليه، وعليه أن يبادر بالقضاء.(36/29)
أسباب ثبات العقيدة
السؤال
كيف يثبت المسلم العقيدة في قلبه؟
الجواب
بالتفكر في آيات الله المسموعة والمشهودة، فيتدبر القرآن، ويتفكر في خلق السماوات والأرض، ويسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويتدبرها ويعمل بها، ويكثر من العبادة والذكر ومن العمل الصالح.(36/30)
علاج الوسواس
السؤال
ما علاج الوسواس؟
الجواب
يقول: لا إله إلا الله، ولينته، وليصرف تفكيره عن ذلك، فإن كان مرض الوسوسة قهرياً فيمكنه أن يأخذ بعض العلاج.(36/31)
الإنسان ميسر لما خلق له
السؤال
هل الإنسان مخير أم مسير؟
الجواب
الإنسان ميسر لما خلق له.(36/32)
منطلقات الدعوة
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تقوم على أسس ومنطلقات لا بد للداعية أن يكون على علم بها، ليطبقها في دعوته، حتى تؤتي هذه الدعوة ثمارها المرجوة.
وهذه المنطلقات هي: العلم والحلم والصبر، فعلم يسبق الدعوة، وحلم يكون أثناءها، وصبر يكون بعد القيام والبدء بها، ولا يعني هذا بقاء الصبر فقط في آخر المطاف، وانتهاء كل من العلم والحلم، بل إن هذا للترتيب فقط، فإن ما كان أولاً يجب أن يستمر آخراً.(37/1)
منطلقات الدعوة: أهميتها وتعدادها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد بعث رسله مبشرين ومنذرين، فأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الرسل أشرف المهمات، وهي مهمة إرشاد الخلق إلى طريق الحق، مهمة تذكير الناس بربهم وتعريفهم بحقوقه سبحانه وتعالى، وتذكيرهم بلقائه عز وجل.
ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نبي بعده فقد ورثت أمته من بعده هذه المهمة العظيمة، فكانت وظيفتها هي وظيفة أنبياء الله سبحانه وتعالى في التذكير بآيات الله وتعليم الناس الكتاب والسنة، وفرض الله عز وجل عليها أن تكون معلمة للأمم كلها وشاهدة عليهم، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فالله عز وجل جعل مهمة الأمة الشهادة على الأمم، كما إن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، إنما كان شهيداً عليهم بما علمهم وبلغهم وذكرهم وأمرهم به من المعروف ونهاهم عنه من المنكر، وهم كذلك من باب أولى، أي: إنما يكونون شهداء على الناس إذا قاموا بهذه المهمة، أما إذا لم يقوموا بها فكيف يشهدون على الناس وهم لم يبلغوهم ولم يذكروهم ولم يأمروهم ولم ينهوهم؟ ولذلك نقول: إن وسطية هذه الأمة -ومعنى الوسطية الخيرية- إنما هي مرتبطة بقيامها بهذه الوظيفة؛ وظيفة الدعوة إلى الله، قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وليس بمستغرب أن يبدأ في هذه الآية الكريمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يعقب ذلك بالإيمان بالله، مع أن الإيمان بالله أعظم أهمية في نجاة الإنسان، وأعظم واجب عليه في وجوده كله، ولكن لأجل أن هذا المقام مقام بيان وجه خيرية هذه الأمة، على سائر الأمم؛ لأن خيرية هذه الأمة على الأمم إنما يظهر من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يكون ذلك بدون الإيمان، فإن الدعوة بدون الإيمان شجرة خبيثة لا حقيقة لها ولا ثبات ولا استقرار، وإنما قدر الدعوة إلى الله وثمارها على قدر الإيمان الذي يكون في القلوب، ولكن يظهر للناس أثر الإيمان من خلال الدعوة إلى الله، ومن خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لابد لهذه الأمة أن يكون فيها هذا الواجب الذي لا يسعهم تركه جملة، بل لو تركوه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما بين ذلك أهل العلم، وهذا معنى فرض الكفاية.
وقد ذكرنا قبل أن فرض الكفاية في هذا المقام معناه أن يوجد المعروف الواجب وأن يزول المنكر المحرم في الناس، فإذا حصل ذلك حصل القدر الواجب، وإلا أثم كل قادر بحسب قدرته.
والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لها منطلقات ثلاث لابد لكل داع إلى الله عز وجل أن يحصلها، وأن تكون من صفاته الأساسية في أخلاقه ومعاملاته مع الناس؛ وذلك لأن نجاح الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مرتبط بصفات معينة.
المنطلق الأول: في قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
المنطلق الثاني: في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
المنطلق الثالث: في قوله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128].
وحقيقة هذه المنطلقات: أن الآية الأولى دلت على وجوب العلم والبصيرة؛ وذلك أن الداعي إلى الله لابد أن يكون داعياً إليه على بصيرة وأساسها العلم.
ونأخذ من الآية الثانية: أن يكون الداعية حليماً، وإلا فسيفشل في دعوته.
أما الآيات الأخيرة: ففيها الأمر بالصبر، فلابد أن يكون الداعية صابراً، فالعلم قبل الدعوة، والحلم معها والصبر بعدها، ولا شك أن ما كان قبل يمتد بعد ذلك، فليس العلم منزلة تتركها، بل تبقى معك إلى نهاية الطريق.(37/2)
المنطلق الأول للدعوة: العلم
فأما الأمر الأول: فهو العلم ولا نعني به مجرد إدراك أو فهم المسائل، ولكنه ما ذكر الله عز وجل في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
إذاً: فلابد أن يكون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، على بصيرة، ولكن -كما ذكرنا- أساس البصيرة العلم، والبصيرة بالنسبة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، فالإنسان يبصر بالعلم الحقَّ من الباطل، والسنةَ من البدعة، والهدى من الضلال، فبدون العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وحقوقه تفقد الدعوة روحها وحقيقتها، وبدونه تكون الدعوة دعوة مفرغة من مضمونها ومن حقيقتها، فلابد أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، فبدأ بنفسه سبحانه وتعالى، ثم ثنى بالملائكة ثم ثلث بأولي العلم، ولا شك أن في ذلك دليلاً على علو شأنهم وارتفاع قدرهم.
وقد ذكر الله تعالى بأن العلماء هم الذين يخشونه من بين عباده، قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلم هو الخشية، فكفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً، وقال سبحانه وتعالى في ذم الذين لا يفقهون: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56]، فذكر عز وجل أن انعدام العلم والفقه في الدين هو صفة الكفرة والمنافقين، وهذا من أعظم المنفرات من إهمال طلب العلم ومن تضييعه وعدم الحرص عليه؛ فإن الجهل يعتبر من الأمراض التي تقتل القلوب وتميتها والعياذ بالله، بل وتدمر الأمم، فهي علامة على قرب خراب الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يكثر الجهل ويقل العلم) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه الكتاب).
فكان يدعو لمن يحب عليه الصلاة والسلام بالفقه والعلم، وهذا يقتضي منا مزيد اهتمام بمداواة هذا الداء العضال الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم؛ داء الجهل بدين الله عز وجل، حتى وجد الكفر أحياناً والناس تظنه إيماناً وهدى.
وإن كنا كثيراً ما نتكلم عن العذر بالجهل، فذلك لا يعني فضيلة الجهل حتى يكون الإنسان حريصاً على بقائه، بل هذا الجهل الذي يكون العذر فيه هو الناشئ عن عدم البلاغ، ويكون عذراً في عدم التكفير فقط، ولا يعني أنه يكون عذراً في عدم الإثم، بل إنه يأثم بجهله إذا كان العلم قد وجب عليه، فإن الإنسان إذا وجب عليه عمل معين، فإنه يلزمه أن يتعلم العلم الذي يصح به هذا العمل، وإلا أثم بترك طلب العلم، فمن بلغ وهو عاقل فقد وجب عليه أن يتعلم فقه الطهارة والصلاة والصيام، وإذا كان له مال وجب عليه أن يتعلم فقه الزكاة، وكذا الحج إذا وجب عليه، ومن تزوج وجب عليه أن يتعلم فقه الزواج، ومن طلق وجب عليه أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يؤدي كل امرئ الحقوق التي عليه، ولذلك نقول: إن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة ليس بعذر، وكذا التقصير في طلب العلم ليس بعذر في وقوع الإثم، بل إن الإنسان يأثم بما ترك من العلم الواجب عليه بالإضافة إلى تركه العمل الذي لزمه، فإن ترك العلم من أجل ترك العمل ليس بعذر.
وكثير من الناس يرى أنه ينبغي أن يُترك جاهلاً، فيقول لك: لا تخبرني بهذا الأمر؛ لأنك إذا أخبرتني لزمني، والأمر ليس كذلك، فإنه لازم له حتى ولو لم تخبره؛ لأنه قادر ومتمكن من العلم، والتمكن من العلم يجعل الإنسان آثماً إذا ترك الواجب الذي عليه من ذلك، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وليس المقصود به العلم الدنيوي؛ لأن العلوم الدنيوية بلا علم شرعي كلا علم، قال عز وجل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7].
فلما كان علمهم مقتصراً على الدنيا وصفهم الله بأنهم ليس عندهم علم، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فعلم الدنيا بلا علم الآخرة كعدم العلم، ولذلك لا يجوز أن نطلق على الكفرة أنهم علماء، بل لابد أن تقيد بأنهم علماء دنيا أو علماء في الباب الفلاني، فلا يصح الإطلاق فيهم؛ لأنهم أجهل من الدواب، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
ومن هنا نقول: إن أمر العلم لابد أن يكون أحد المنطلقات الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يحرص عليه الكبير والصغير، ولا يتوقف عند مرحلة معينة من عمر الإنسان، بل كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، فيبقى الإنسان طالباً للعلم ولو مع كبر سنه، أو تقدم عمره، أو ضعف جسده، فكل ذلك فيه الثواب العظيم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرحلون في طلب العلم أشهراً رغم كبر سنهم وسبق منزلتهم، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أحد أكابر الأنصار وممن شهد المواقع الكبرى، وهو في سنه الكبير يسمع أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يشافهه النبي صلى الله عليه وسلم به، فيشتري بعيراً ويضع عليه رحلاً ويرحل إلى الشام شهراً، يسير ذهاباً شهراً وإياباً شهراً؛ ليسمع حديث القصاص، الذي جاء فيه: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها)، ويرجع من يومه الذي وصل فيه، فقد سافر شهرين متتابعين؛ لأجل أن يسمع حديثاً واحداً، رغم كبر السن وعظم المنزلة.
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يخبره الله عز وجل أن هناك عبداً هو أعلم منه، وهو في الحقيقة أعلم منه ببعض المسائل وليس مطلقاً، ولكن الله عز وجل أطلق ذلك لأجل أن يعلم موسى، ولأجل أن يجعله متواضعاً لله سبحانه وتعالى، بل قد قال الخضر: يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ثم وقف عصفور على حرف السفينة فقال: وما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، فكان الخضر أعلم نسبياً، يعني: أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام في بعض المسائل، قص القرآن علينا منها ثلاث مسائل.
فانظر كيف أن رحلة طويلة قضاها موسى صلى الله عليه وسلم وجد فيها ما وجد من التعب والنصب؛ وذلك ليطلب ثلاث مسائل، وهذا يدلنا على أن الإنسان مهما بلغ من القرب من الله، فإن عليه أن يزداد من طلب العلم وإن وجد ما وجد من المتاعب والمشاق في سبيل تحصيله، ويدلنا كذلك على شرف طلب العلم وأهمية الحرص عليه، ولو كان لمسألة واحدة يسافر الإنسان إليها.
ولهذا فالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول العلم الشرعي إلينا يرجع إلى علماء الحديث والآثار، وما بذلوا من جهد في طلب الحديث، فقد كان الواحد منهم يسافر البلاد البعيدة من أجل حديث واحد، فلولا هؤلاء بعد الله سبحانه وتعالى لما اجتمعت لدينا هذه الكتب العظيمة التي فيها درة الإسلام وبيان كلام الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(37/3)
أنواع العلم
العلم المطلوب في الدعوة نوعان: علم بخطاب الشرع وعلم بالواقع: والعلم المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل نوعان: علم بخطاب الشارع، والعلم بالواقع الذي يعيشه الإنسان؛ ليطبق هذا الخطاب على الواقع.
فمثلاً: لابد أن يعلم أن الشرع قد حرم الخمر، ثم بعد ذلك لابد أن يعلم أن الذي في هذا الإناء خمر، حتى يمكنه إراقته، ليغير المنكر ويدعو إلى الله عز وجل أو ينكر على من يشربه، وأما إذا لم يعلم الواقع سيترتب عليه إما أن يضيع واجباً أو أن يأتي محرماً، فربما كان هذا الإناء على سبيل المثال فيه شراب محترم، أي: شراب نافع، فهو مال لأخيه المسلم فقد يريقه بدون معرفة.
ولذلك نقول: إنه لابد من الأمرين معاً، العلم بخطاب الشرع، والعلم بالواقع، وكم من أمور مبناها على معرفة الواقع، ولكن هذا لا يعني أن نغالي في ذلك كما قد يغالي فيه البعض، فيجعل همة الناس في معرفة ما يجري من أخبار وما قاله الساسة، ومعرفة التفاصيل التي يخرف بها المفكرون والمتكلمون والصحفيون وغير ذلك.
إنما المطلوب من علم الواقع هو ما يدرك به الحكم الشرعي على هذا الواقع: أما التفاصيل الكثيرة فهي أكثر من أن تحصى، وعمر الإنسان لا يتسع لذلك، فلا يطلب منك أن تكون على بينة بكل كلمة يقولها الأعداء، أو كل شبهة وضلالة تطلق في الدنيا، وإنما تعرف من ذلك ما يضر وما يحتاج منك إلى أمر وموقف وبيان ونحو ذلك، وتعرف حقيقة من توالي ومن تعادي، فلابد أن تعرف هذه الأمور جيداً من خلال العلم بالواقع، أما أن يكون الإنسان تاركاً للعلم الشرعي الذي يلزمه، وفي نفس الوقت يكون منشغلاً بنشرات الأخبار ليل نهار، يسمع عشر نشرات في نصف اليوم ربما، ويقرأ عشرات الجرائد مع أن جريدة واحدة مختصرة أو ربما بعض أخبارها تكفيه، فهذا خلل يحدث عند الكثيرين، وبالتالي تجده يحسن أن يخبر عما جرى وعما وقع، ولا يحسن أن يخبر عن حكم الشرع في ذلك؛ لأنه أهمل الجانب الأهم، وهو العلم بالشرع.
ولا شك أن العلم بالشرع مطلوب لذاته، والعلم بالواقع مطلوب لغيره، فأنت لا تثاب على معرفة تفاصيل ما يجري إلا أن يكون لذلك تعلق بالعمل الشرعي والعلم الشرعي، بينما لو تعلمت الشرع فأنت تثاب على ذلك حتى ولو لم تكن من أهل تطبيقه، فلو أن إنساناً ما قسم ميراثاً في حياته، ولكنه تعلم فقه المواريث لكان مثاباً على ذلك؛ لأن هذا من العلم بما شرع الله، وهو مقتضى العلم بكلامه عز وجل وبما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم أي التصديق به، وهذا يثاب عليه.
وأما تصديقك أنه قد حدث في البلد الفلاني كذا وأنه وقع في الحادثة الفلانية بالكيفية الفلانية، فهذا لا تثاب عليه ولا تذم على تكذيبه أو الشك فيه، إلا أن يترتب على ذلك حق لعباد الله، أو يترتب عليه موقف للدين لابد أن تتخذه، فهنا ينبغي عليك أن تتحرى حتى تؤدي ما عليك، وإلا فالجهل بالحال بالتأكيد يؤدي إلى ترك الواجب في كثير من الأحيان، فلو أن الناس مثلاً جهلوا حقيقة أعدائهم من اليهود أو النصارى أو المشركين وقالوا: إن هؤلاء ليسوا بكفار أو ليسوا بأعداء، ترتب على ذلك الاستسلام والخضوع لهم، وترتب على ذلك أحياناً ترك معاونة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، وترك ما لزم الإنسان من البذل والدعاء والتضحية وغير ذلك، بل ربما وصل الأمر إلى أكبر من ذلك، فقد يستجيب الإنسان لدعاة على أبواب جهنم لجهله بحالهم، وربما جروه إلى النار وهو لا يشعر، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشر بعد الخير الذي فيه دخن، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: قلت يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس).
ولذلك نقول: إن كثيراً من الناس عندما لا يعلم الواقع ويظن أن العلم به أمر لا فائدة منه، فإنه يترتب على ذلك أن يمدح أهل الزندقة والنفاق، وأن يسوغ للناس طاعتهم ومتابعتهم والاستجابة لهم، ويذم أهل الإيمان والتقوى بما يروج عنهم من أباطيل، وبما يذكر عنهم من أكاذيب، فيترتب على ذلك خلط للأمور.
لكن نقول: لابد من تحقيق التوازن بين الشقين المطلوبين للداعي إلى الله عز وجل، أي: لابد من تحقيق التوازن بين العلم بالشرع وهو كما ذكرنا المقصود لذاته والمقصود الأصلي، وهذا بأن تتعلم كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وشروح ذلك من كلام أهل العلم، والعلم بالواقع، وهو واقع الحال؛ حتى تستطيع أن تطبق الشرع على الواقع الذي تعيشه، ولا يختلط عليك الأمر فيما تواجهه من مشكلات، فهذا أمر ضروري لا شك فيه.
- لا يشترط في الداعية إلى الله أن يكون في منزلة المجتهدين: وبناء على ذلك هل نقول: لا يجوز لغير العلماء أن يدعوا إلى الله سبحانه وتعالى؟ هذا قد يفهمه بعضهم فهماً غير سليم؛ وذلك لظنهم أن العلم المشترط في الدعوة إلى الله هو أن يحصل الإنسان مراتب المجتهدين، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الأمور تنقسم إلى قسمين: قسم معلوم من الدين بالضرورة، وهو ما اشترك في العلم به العالم والجاهل والخاص والعام، فهذا كل المسلمين علماء به، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحرمة الزنا، وشرب الخمر، وحرمة الربا والميسر ونحو ذلك مما لا يتنازع المسلمون فيه إجمالاً، فكل المسلمين علماء بذلك.
ولذلك وجب على كل المسلمين أن يأمروا وينهوا في هذا الباب، وأن يدعوا إلى الله عز وجل، وهذا مما يستهين به الكثيرون، وقد يظن بعضهم أن هذا ليس في دائرة الدعوة، مع أن جزءاً كبيراً من هذا العلم هو في دائرة الدعوة الأهم، فكم من الناس يترك الصلوات الواجبة! ويترك الصوم الواجب، فيفطر في رمضان علناً! وكم من الناس يفعل الفواحش! فهل يعقل أن أحداً من المسلمين يجهل مثلاً أن تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية محرم؟! والله هذا مما لا يجهله أحد، فالبلاء الذي وجد في الأمة من انتشار الفواحش وتكشف النساء حتى قد شوهد في بعض بلاد المسلمين من يقبل النساء في الشوارع، نسأل الله العافية والسلامة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تكاد تصدق، فهل هذا كله يحدث بسبب الجهل بأحكام هذه الأمور؟ لا والله! فكل الناس يعرفون أن هذه الأمور محرمة بلا شك، ولكن كل واحد منهم يؤثر السلامة، فليس عنده عزيمة على التغيير ولو بكلمة واحدة، فإن كل واحد منا لو قال هذه الكلمة لكان لذلك أثر عظيم وكبير، فلو أن كل متبرجة سمعت وهي تمشي أن الحجاب فرض، أو سمعت: اتقي الله، حرام، فإنها ستتغير في يوم من الأيام، لكنها ربما قد تسمع كلمات الإعجاب أضعاف كلمات الإنكار والعياذ بالله، فهذا الأمر ليس مرده إلى الجهل، وإنما مرده إلى تقاعس الناس وتعودهم على عدم الإنكار؛ وذلك راجع إلى أسباب كثيرة أهمها: التعود المفرط على متابعة القنوات الفضائية وما تبثه من سموم فتاكة، من تعليم للقتل والسرقة والفاحشة، فيعتاد الناس ذلك وتنتشر هذه الأمور في المجتمع، هذا أحدهم ينقل لي إحصائية يقول فيها: في الفترة الصباحية: عدد المشاهدين للتلفزيون خمسة وثلاثون مليون شخص، وا مصيبتاه! خمسة وثلاثون مليون شخص يشاهد التلفزيون في الصباح! فكم سيكون العدد بعد العودة من العمل؟! وهذا العدد غير مستغرب، فإننا لو سألنا: هل يوجد بيت في هذه الأيام ليس فيه تلفزيون؟! بل إنه قد انتقل من البيوت إلى المحلات، وفوق ذلك أصبح في السيارات، إذاً: فالأرقام هذه غير مستغربة، بل هي من الحقيقة بمكان.
فالأمر كما قلنا: لا يعني انتشار هذه المعاصي أن الناس يجهلون حكمها، بل كل واحد منهم يعلم حكمها الشرعي، ولذلك يجب عليه أن يدعوا إلى الله وأن يأمر وينهي في هذه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وليس الأمر متروكاً للعلماء فقط في مثل هذه المسائل.(37/4)
العلم الذي يسوغ الإنكار فيه والذي لا يسوغ
والعلم ينقسم إلى قسمين: علم انتشر بين المسلمين، وعلم لم ينتشر، والعلم الذي لم ينتشر إنما يأمر فيه وينهى العلماء، أو من أخُبر من قبَلهم أن هذا مما يشرع فيه الإنكار، أو أنه أمر مجمع عليه، أو أمر لا يسوغ فيه الخلاف، وبالتالي عليه أن يدعو ويأمر وينهي في هذا الأمر حتى ولو لم يكن منتشراً.
إذاً: فهذان شرطان أساسيان يجب توفرهما إذا أراد العامي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما لم ينتشر علمه وسط المسلمين.
فالعامي لا يأمر ولا ينهى إلا فيما يعرفه الصغير والكبير؛ لأن كل الناس يعرفون وجوب الصلوات الخمس، وكثير من الناس لا يصلون فيتركونها حتى يخرج وقتها، وينامون عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، نسأل الله العفو والعافية، بل إن كثيراً من الناس الذين يقولون: نحن نصلي، تجد أحدهم يصلي آخر النهار كل الصلوات مع بعضها، ويترك ما أوجب الله عليه من الصلاة في وقتها، وربما يجمع صلاتين مع بعضهما، وهذا أمر معتاد لدى الكثيرين من الناس، ولا حول ولا قوة بالله.
وأيضاً لا بد أن يسمع العامي فتوى العلماء في حكم هذا الأمر الذي ينكره، ويسمع الدليل على ذلك، ويعرف أن المسألة ليس فيها خلاف سائغ، أو ليس فيها خلاف أصلاً، ففي مثل هذا يسوغ للعامي أو الذي لم يبلغ مراتب العلماء أن يأمر وينهى، فضلاً عن طالب العلم المميز، الذي هو في الحقيقة قد جمع كثيراً من المسائل وعرف الراجح من أقوال العلماء بأدلتها، وعرف ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ، فهو في هذه المسائل التي قد جمع أدلتها ملحق بالعلماء، والتي لم يجمع أدلتها هو فيها ملحق بالعوام، فينظر فيما أفتاه به العالم، ولكن الشرط -كما ذكرنا- أن يفتي العالم ليس فقط بأن هذا الأمر واجب أو هذا الأمر محرم، بل لابد أن يفتي أيضاً بأن هذا الأمر مما يسع فيه الإنكار ولا يسوغ فيه الخلاف، أو إنه مما أجمعت عليه الأمة فلا عبرة بمن يخالف في ذلك.
وأما ما فيه خلاف سائغ وهو ما لا يصادم البينات، أي: لا يخالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع القديم أو القياس الجلي، فإن هذا يجب التوقف عن الإنكار فيه؛ لأنه يسع فيه الخلاف، فلا ينكر إلا بمجرد المناظرة العلمية ولا يسمى إنكاراً في الاصطلاح.
وأما إذا صادم الخلاف نصاً من كتاب أو سنة، أو صادم إجماعاًَ قديماً أو قياساً جلياً فإن الإنكار على من فعله واجب، كمن رأيته مثلاً يبيع الأرز بالأرز مع التفاضل، فهذا نوع من الربا، وقول الظاهرية في جوازه غير معتبر؛ لأن قياس الأرز على القمح قياس جلي واضح، ولو وجدت إنساناً مثلاً يزرع أرزاً ولا يخرج الزكاة، ويقول: الزكاة وردت في القمح والشعير والزبيب والتمر، ولم ترد في الأرز، فلن أخرج الزكاة فيه، فلا شك في أنه ينكر عليه إنكاراً شديداً، ويؤمر بإخراج الزكاة.
ولو وجدت إنساناً لا يخرج زكاة الأوراق النقدية، ويقول: الزكاة في الذهب والفضة، فلا أخرجها في الأوراق النقدية ولا في عروض التجارة، وهو تاجر بالملايين، ولكن البضاعة عبارة عن سلع وأوراق مالية، وليس عنده ذهب ولا فضة، فلو حدث هذا، لأنكر عليه أغلظ الإنكار، بل ربما ضُلل وفُسق بسبب هذا؛ لأن هذا القياس من أجلى أنواع القياس؛ فإن هذه الأوراق المالية هي بمنزلة الذهب والفضة، وأما عروض التجارة فهي رءوس أموال الناس في التجارة، فهذا ينكر عليه لأنه خالف القياس الجلي، ومن باب أولى إذا خالف الإجماع.
مثلاً: إذا ثبت إجماع قديم كإجماع السلف على عدم تأويل الصفات، فالذي يؤول الصفات بعد أن يعلم هذا الإجماع يبدع، ولذلك ينكر عليه أن يقول بذلك، وهكذا من يخالف إجماع أهل السنة في أي مسألة من مسائل الاعتقاد الكبرى؛ كتكفير المصر على الكبيرة مثلاً أو تكفير مرتكب الكبيرة، أو كونه مثلاً يجعل الإيمان قول بلا عمل، أو اعتقاد بلا عمل، وغير ذلك مما اتفق عليه السلف الصالح، فخالفهم في ذلك فيعد مخطئاً وخلافه باطل.
وأما مصادمة الخلاف للنص فمثاله: عندما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فلو قيل: البيرة ليست حرام؛ لأنها مصنوعة من عصير الشعير، وإنما الخمر تكون من العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، فنقول: هذا أمر ينكر على قائله، بل ويحد شارب البيرة شرعاً؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة، فذكروا أصنافاً).
إذاً: فالخمر ليست فقط عصير عنب، بل من ضمنها الشعير وغيره، وقد وردت النصوص الصريحة الواضحة في أن الخمر كل ما أسكر، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، فلا عبرة بقول بعض العلماء المتقدمين ممن لم يبلغهم الحديث صحيحاً؛ في أن غير عصير العنب جائز الشرب إذا كان قليلاً ولم يسكر، فهذا كلام باطل.
مثالاً آخر: ابن حزم يجوز الموسيقى والغناء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - كما سبق معنا- أنه قال: (ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالمعازف محرمة بهذا، واستحلال الخمر بتسميتها بيرة خلاف غير معتبر، واستحلال المعازف أو القول بأنها لم يرد فيها نص كلام غير معتبر؛ لورود النص بذلك وضعف قول من يحتج بجوازه مثلاً بغناء بعاث؛ لأنه كان بغير آله، واستحلال الحر الذي هو الفرج بنوع شبهة؛ باطل باتفاق العلماء، وهذا يفعله كثير من الشباب اليوم في قضية الزواج العرفي، بأن يتزوج بغير ولي وربما بغير شهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنحاكها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، والقول بأن هذا الأمر فيه خلاف، لأن بعض المشايخ المتقدمين أفتى بأن الزواج يقاس على البيع والشراء فيجوز أن تنكح المرأة بلا ولي طالما كان هناك شهود، فهذا القول باطل لا عبرة به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (نكاحها باطل)، فلا عبرة بمن يخالف، وإن كان هذا قد يمنع إقامة الحد لوجود الشبهة، خصوصاً مع انتشار الجهل، لكن من علم بطلان هذا النوع من الزواج وأقدم عليه، فالصحيح أنه يقام عليه الحد شرعاً؛ لأنه يعلم أنه يقدم على زنا والعياذ بالله من ذلك.
إذاً: فإذا صادم الخلافُ النصَّ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي فلا عبرة بالمخالف، ولذلك يشرع الإنكار، والعلم بفتوى عالم لابد أن تتضمن ذلك، والعالم نفسه لا يجوز له أن ينكر إلا ما خالف البينات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، فذم الخلاف بعد البينات، وأما قبل البينات فهو خلاف معتبر، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم، وكما ذكر الله عز وجل قبل ذلك اختلاف سليمان وداود فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
فهذا هو المنطلق الأول وهو منطلق العلم، ويعتبر من أعظم المنطلقات للدعوة إلى الله.(37/5)
المنطلق الثاني: الحلم
أما المنطلق الثاني فهو منطلق الحلم، معناه: أن يكون الإنسان رحيماً شفيقاً يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، يعلم أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
فالأصل في الدعوة إلى الله الرفق والعنف طارئ، فالعنف إنما يستعمل عند الضرورة ولا ننفيه بالكلية، فإن نفي العنف بالكلية يؤدي إلى ترك الجهاد، لكنه ليس هو البداية الأصل، ولا يصح أن نقول: لا عنف في الإسلام مطلقاً، ولكن الأحب إلى الله عز وجل الرفق، والعنف يستعمل في موضعه وبالضوابط الشرعية كما ذكرنا، مثل الجهاد في سبيل الله، وتغيير المنكر باليد، وغير ذلك بضوابطه الشرعية، وليس أن الدين مطلقاً ليس فيه عنف ولا شدة، فمثلاً: الأب إذا رأى ابنته مع شاب! فلا شك أنه يبدأ المعالجة بالرفق واللين، لكن لابد من وجود نوع من العقاب في كثير من الحالات، وليس أن الأمر دائماً يتوقف بلا عنف، ولذلك نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، ومع ذلك جلد في الحدود، ورجم صلى الله عليه وسلم، وقطع الأيدي، وجاهد في سبيل الله عز وجل، كل ذلك في موضعه، قال الله عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
إذاً: فلابد أن نكون رفقاء في الدعوة إلى الله عز وجل ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، وما دام الأمر -كما ذكرنا- في بدايته فلابد أن يكون الرفق هو الأصل، ونعلم أن من صفات المؤمن التي يحبها الله عز وجل الحلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة)، أي أنه يتأنى، ولا يقدم على الأمر مباشرة من غير بحث ومعرفة وتمهل، فلابد من هذه الأمور.(37/6)
المنطلق الثالث: الصبر
وأما المنطلق الثالث فهو منطلق الصبر؛ لأن الإنسان لابد وأن يصيبه في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من الأذى، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فإن هناك من الأمور التي إذا أخذ الإنسان بها فقد أخذ بعزيمة عظيمة، وهذا من العزم الواجب؛ لأن الإنسان لابد أن يصيبه من أذى الناس، وسعة صدر المؤمن وانشراحه يقتضي أن يتحمل أذاهم ويكف أذاه عنهم؛ وذلك من البر بالخلق، وهو من أسباب نجاح الدعوة، أي: أن تواجه كل العقبات بالصبر، ولا تواجه السيئة بالسيئة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من وصفه في التوراة أنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح، فقد قرأ عبد الله بن عمرو بن العاص في التوراة: محمد نبي أرسلته حرزاً للأميين، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به الله قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وعيوناً عمياً، أو كما قال ربنا عز وجل في الكتب السابقة.
الغرض المقصود: أن الصبر يقتضي الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل، فلا تترك الدعوة بمجرد أن يصيبك بلاء أو فتنة، وكأنك لا تعلم أن من سلك هذا الطريق فإنه سوف يطارد ويمتحن ويصاب، كما قال عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، فعندما تعلم أنك متبع، وأنه ستكون هنالك مشاكل، فلابد أن تصبر إذاً، أما إذا كان الإنسان ينسحب من الدعوة بمجرد أن يصيبه شيء، فهذا لم يصبر ولا يصلح في الدعوة إلى الله.
والصبر على فتنة السراء أهم من الصبر على فتنة الضراء، فإن الإنسان قد تفتح عليه الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، وقال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، إذاً: فالخير فيه فتنة، وهو أن الإنسان تفتح عليه الدنيا ومطالبها الكثيرة، ولا يزال ينتقل من مطلب إلى مطلب ولا يزال يجره الشغل إلى أشغال حتى يترك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فتكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه.
هذا من أعظم المخاطر على الإنسان، ولذلك فالصبر أنواع: صبر على البلاء، وعن المعاصي وعن الدنيا المنفتحة، التي تشغل الإنسان وتجره إلى أعماق أمواجها التي قد تغرقه بعد حين، نسأل الله العفو والعافية.
فالصبر من أهم الأمور التي لابد أن يحرص المرء على أن يتصف بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فأنت تصبر بالله مستعينا، وتصبر لله عز وجل مخلصاً، وتصبر مع الله عز وجل دائراً مع أوامره الشرعية، فتعمل ما أمرت به؛ لأن الصبر قد يكون بعيداً عن أوامر الشرع، كما يفعل أصحاب المعاصي والملاهي في صبرهم واستمرارهم في أعمالهم مع بعدها عن الحكمة التي خلقوا من أجلها، فصاحب الحق أولى بالصبر منهم.
إذاً: فالصبر يكون في دائرة أوامر الله، فتصبر مع الله، وتصبر بالله، قال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))، أي: تستعين بالله، وتعلم أنك لن تصبر إلا أن يصبرك الله سبحانه وتعالى، وتصبر لله مخلصاً، لا تصبر من أجل أن يقال عنك قوي متحمل جلد، بل تصبر لكي تأخذ الأجر من رب العباد سبحانه وتعالى، فتصبر مع الله، أي: تدور مع أوامره شرعاً، فتترك ما أمرت بتركه، وتفعل ما أمرت بفعله، ولا يلزم أن تعذب نفسك بما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.(37/7)
الأسئلة(37/8)
حكم حضور سرادقات العزاء
السؤال
يعتزل الإخوة ما يجتمع عليه عامة الناس في سرادقات العزاء، مما يؤدي إلى الجفو بينهم وبين الناس فما البديل؟ الإجابة: البديل: أن الإخوة يحضرون الجنازة ويعزون أهل الميت هناك، وإذا فاتهم ذلك فيذهبون إلى بيت الميت للعزاء بعد أن ينصرف الناس من الاجتماع على التعزية؛ لأن الاجتماع هذا يعتبر من النياحة، فلا يجوز أن يحضروا هذه السرادقات، إلاّ للإنكار، ولكن لا يبقوا بعد ذلك معهم، ولا يقولوا الكلمة ضمن ديكور أصحاب السرادق.(37/9)
حكم اغتسال المرأة الحائض
السؤال
امرأة اغتسلت وهي حائض، هل عليها إثم؟
الجواب
لا ليس عليها إثم، ويصح ذلك.(37/10)
حكم بيع البصل الأخضر من أجل عيد شم النسيم
السؤال
ما حكم بيع البصل الأخضر وغيره في عيد شم النسيم؟
الجواب
مشاركة الناس في الأعياد الباطلة المحرمة كشم النسيم لا تجوز شرعاً، فالذي يبيع البصل وغيره من أجل أن يأكل الناس في ذلك العيد؛ فهذا لا يجوز له ذلك، بل على صاحب البصل أن يحضر كمية مثل الكمية التي يحضرها كل يوم، حتى إذا نفدت فلا يأت بثانية؛ لأن الاحتفال بشم النسيم هذا احتفال باطل ومنكر ومحرم، فهو أشد وأضل والعياذ بالله من أعياد الفراعنة؛ لأن الفراعنة مشركين وعباد أوثان فقط، أما هؤلاء فكل شيء عندهم له إله وآلهة، إله للربيع وإله للخطب وإله للحب وإله للسماء، هكذا كل شيء له إله عندهم، فهذا الاحتفال عادة فاجرة والعياذ بالله، والأقرب: أن شم النسيم هذا مرتبط بعيد القيامة المزعوم عند النصارى، وهو أن الرب قد قام من الأموات! تعالى الله عن قولهم، علواً كبيراً، أي أنهم يرون أن الله مات ثم قام! فكيف يجوز لمسلم أن يهنئ أو يشارك في هذا العيد أو حتى يأخذ إجازة! فإن حصل وأعطى إنسان إجازة، فيحاول أن ينشغل بأي عمل، ولا يجوز تخصيص هذا اليوم بعبادة، إذاً: فالمشاركة في شم النسيم لا تجوز بلا شك.(37/11)
التوقف في نبوة الخضر من عدمها
السؤال
الخضر هل هو نبي أم ولي؟
الجواب
الراجح فيه التوقف؛ لأننا لا ندري، فهناك أدلة محتملة، وليس هناك دليل صريح في النفي ولا في الإثبات، فهو عبد صالح، والله أعلم هل وصل إلى درجة الأنبياء أم لا.(37/12)
حكم استخدام أسطح المساجد للإجارة وغيرها
السؤال
ما حكم استخدام أسطح المساجد في عمل مستشفى أو مستوصف أو غير ذلك؟
الجواب
إن كان هذا العمل عملاً خيراً يستفيد منه الفقراء، وعائده يعود على المسجد فمحتمل، أما إذا كان للإجارة والربح فلا يجوز.(37/13)
حكم أخذ المال على الحجاج وأصحاب العمرة من قبل مكاتب السفر
السؤال
بعض الناس يعملون في مكاتب سفر لإخراج الحجاج والمعتمرين فما حكم المال الذي يأخذونه منهم؟
الجواب
هذا الأمر جائز بشرط عدم أخذ عمولة على التأشيرة، فلا يجوز أن يأخذ ثمن التأشيرة؛ لأن هذه تأشيرة دخول مجاناً، بل له أن يأخذ أجرة عمله ومجهوده فقط، مثل قيامه بتأجير المواصلات وتنظيم الرحلات وقطع التذاكر وغير ذلك.(37/14)
أنواع البدعة
السؤال
سمعت عالماً يقول: البدعة هي التي ليس لها نص في الشرع ولا أصل في الدين، أما التي لها أصل فليست بدعة، مثل المصافحة بعد الصلاة، فما رأيكم؟
الجواب
لا، فإن البدعة نوعان: بدعة لا أصل لها وهي البدعة الحقيقة، وبدعة لها أصل لكن الكيفية مبتدعة ومحدثة، وهذه تسمى البدعة الإضافية، مثل أن يكون الشرع قد حدد عدد معين للتسبيح فيخترع إنسان عدداً آخر، فالوارد شرعاً ثلاثة وثلاثون بعد الصلاة، فيأتي أحدهم ويقول أنا أسبح بعد الصلاة أربعين مرة، ويأتي آخر ويقول: أنا أسبح مائة مرة وهكذا، فمع أن التسبيح وارد، لكن هذه بدعة في الكيفية.
ويراجع في ذلك كتاب الإمام الشاطبي رحمه الله المسمى بـ: الاعتصام.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(37/15)
مواقف إيمانية يوم أحد
كانت غزوة أحد من أعظم الغزوات التي تعلم فيها الصحابة دروساً أفادتهم فيما بعد في حياتهم الجهادية وغيرها.
وعلى الرغم من أن النتيجة كانت في غير صالح المؤمنين إلا أنهم أظهروا شجاعة وبسالة ورباطة جأش لا نظير لها في الدفاع عن هذا الدين العظيم، وخصوصاً بعد انصراف كثير من جنود الجيش المسلم.(38/1)
شجاعة أنس بن النضر في أحد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:149 - 155].
قال ابن كثير رحمه الله: [وقوله تعالى ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، -أحد بني عبيد بن النجار- قال انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنهم].
إنه موقف عظيم القدر من أنس بن النضر رضي الله عنه، وكلمات أغلى من الذهب قالها: (فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه)، وهي منهج لحياة المؤمن، فهو ظل يجاهد في سبيل الله حتى يموت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قيلت في سياق الجهاد والقتال إلا أنها أعم من ذلك، وهي في كل مواقف المسلم.
وتدل هذه القصة -رغم أنها مرسلة- على شدة الحال الذي وصل إليه الصحابة رضي الله عنهم، الذي يجعل أناساً من المبشرين بالجنة يجلسون ويتركون القتال لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل، إلا أن هذه الكلمات من أنس أثرت فيهم أعظم تأثير، فقاموا وقاتلوا ودافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أشد الناس في هذا الموقف عطاءً وبذلاً وتضحية رضي الله عنهم، كحال طلحة عند أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت بضربة من سيف.
وروى البخاري عن أنس بن مالك: أن عمه -يعني: أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم، لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: مشهداً- ليرين الله ما أصنع، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -أي: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركون- فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه أو بشامة، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم، هذا لفظ البخاري، وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه.
وهذا الموقف من أعظم فضائله، وهو الذي أنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] هذا هو الصدق مع الله عز وجل، فـ أنس بن النضر غاب عن غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوعب النفير فيها، وإنما خرج على عجالة يريد إدراك القافلة، فتأسف رضي الله عنه عن غيابه عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، وهكذا هو حال المؤمن دائماً يحزن على فوات الخير، وعلى فوات بعض العبادة، فهو يريد أن يكون سباقاً إلى طاعة الله عز وجل.
يقول: غبت عن أول قتال للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.
هاب أن يقول غير ذلك حتى لا يكون مزكياً لنفسه ولا يفي، ولكن كان في نيته أن يجاهد أعظم الجهاد ووفى بعهده مع الله، وقضى نحبه كما قال الله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23] أي: عهده ونذره، فهو قد عاهد الله بهذه الكلمة: (ليرين الله ما أصنع) أي: من الجهاد والقتال في سبيله، فقد صدق مع الله عز وجل، وقضى نحبه وعهده، فقاتل حتى قتل فلقي يوم أحد العدو فهُزم الناس، أي: المسلمون، وانصرف أناس من المعركة، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وهذا موقف المسلم دائماً يعرف الفرق بين المسلم والكافر، فهو وإن كان الفرار كبيرة من الكبائر لكن المسلم يعتذر عنه؛ لأصل إيمانه، بخلاف الكافر فإنه يتبرأ منه، لذا نجد أنساً يبرأ إلى الله عز وجل من الكافر ومما جاء به، فإنهم جاءوا للصد عن سبيل الله، والمسلم وإن ارتكب المعاصي فإنه يعتذر عنه؛ لأن أصل إيمانه لا بد أن يراعى ويحب لأجله، بخلاف المنافقين فإنهم كما وصفهم الله عز وجل يسلقون المؤمنين بألسنة حداد، وتجدهم بحاثين عن عوراتهم، همازين لمازين، ويعيبون المؤمنين بما ليس من صفاتهم، وإنما يدعون عليهم صفات السوء ليعيبوهم بها، وفي نفس الوقت يتولون المشركين.
فأما المؤمن الصادق يعتذر إلى الله عز وجل عن إخوانه المسلمين، ويدعو الله عز وجل أن يغفر لهم، وحبه لإخوانه في الله يجعله يريد دائماً أن يرحمهم الله وأن يغفر لهم؛ ولذا يعتذر عنهم، وأما بغضه للكافرين فمستقر ثابت، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، أي: المشركون، وهكذا موقف المؤمن فهو يتبرأ من الشرك وأهله ومما جاءوا به، وأما الزنادقة المنافقون فهم أولياء المشركين: يؤيدونهم، ويطيعونهم، ويعاونونهم على أهل الإسلام.
ومن فضائله رضي الله عنه: أنه لقي سيد الأنصار سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بقدومه، والذي مناديله في الجنة خير من الحرير رضي الله تعالى عنه، وهو أفضل الأنصار ومع ذلك كان قد جلس ضمن الجالسين فشجعه أنس بن النضر وثبته، وأمره بمواصلة الجهاد رضي الله تعالى عنه، فقال: (أين يا سعد؟) يعني: أين تذهب أين تترك المعركة؟ وهذه اللحظات التي مرت على هؤلاء الأفاضل تجعل المؤمن لا ييئس إذا أصابه شيء من التقصير ومن النقص، ولكن يبادر ولا يدع مدة الفتور تستمر معه، هذه اللحظات تطول وتقصر مع الناس تفاوتاً كبيراً.
فكثير من الصحابة جلس تاركاً للقتال في ميدان المعركة ثم عاد إليها قبل أن ينصرف.
وهذا طلحة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) وكذا أبو بكر وعمر لم يتركا النبي صلى الله عليه وسلم حين رأياه بعد ذلك، وجماعات من الصحابة رضي الله عنهم، وكان منهم سعد بن معاذ وغيره فكانت هذه اللحظات التي تصيب الإنسان من فتور أو من يأس، أو من شبهة أوقات محدودة، ودقائق معدودة تزول بسرعة عند تذكر معاني الإيمان، وبوجود ناصح صادق مثل أنس رضي الله عنه، فكان موقفه هذا من أعظم العوامل والأسباب التي أدت إلى ثباتهم، وارتفعوا مراتب عالية بعد توقفهم هذه اللحظات.
فالخطر أن يستمر الفتور، فالفتور وترك الطاعة واليأس أمر عظيم الخطر، وهذه اللحظات ربما مرت على الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لكنها كانت كالبرق الخاطف، أعني: أنها لحظات يسيرة جداً تمر ثم ترحل سريعاً، فيشكون فيها إلى الله عز وجل ضعف القوة، وقلة الحيلة، وهوانهم على الناس وهم الأعزة عنده عز وجل، ويشكون إليه سبحانه وتعالى أنهم مغلوبون، ويستنصرون به.
فعند الرسل تكون كالبرق، وعند أصحابهم ربما كالدقائق المعدودة، وربما تطول مع البعض، وهذا الذي يجب أن نقاومه ولا نترك أنفسنا لهذا اليأس ليفترس قلوبنا ويغترس معاني الإيمان فيها، وذلك بحسن الظن بالله وبالثبات، وباليقين بوعد الله عز وجل.
وانظر إلى يقين أنس وهذه الكرامة التي أكرمه الله عز وجل بها، قال: (أين يا سعد؟ إني لأجد ريح الجنة دون أحد) فهذه كرامة، فهو صادق رضي الله عنه في أنه بالفعل وجد رائحة الجنة دون أحد أي: أقرب(38/2)
لا يأس مع توبة
قال ابن كثير رحمه الله: [وروى البخاري أيضاً عن عثمان بن موهب قال: (جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني؟ قال: سل، قال: أنشدك بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم.
فكبر)].
صفات عجيبة تظهر من بعض البشر فهو يبحث عن الأخطاء حتى التي ليست موجودة، وبتر للوقائع والأحداث كما يبترون الكلمات؛ ليعيبوا أهل الإيمان، قوله: فكبر، يعني صاح قائلاً: الله أكبر، يستحق أن يقتل، يستحق أن يخرج عليه، ولا يناسب أن يكون أمير المؤمنين ويكبر، أنظر الشيء العجيب؟! إنه يكبر؛ لأنه سمع سلبيات عثمان رضي الله عنه.
وفي آخر الأمر تبين له أن السلبيات التي كبَّر عليها ليست كذلك، ونسي الأعمال العظيمة التي قام بها عثمان، ولا يذكرها من باب: ولا تقربوا الصلاة، ويترك: وأنتم سكارى، والعياذ بالله.
قال: [(فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه)].
لأن الله عز وجل قد قال: ((ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) فقد عفا الله عز وجل عنه؛ لأنه صدق وتاب توبة نصوحاً، ثم وجد قلباً نادماً عازماً على الثبات في سبيل الله بعد ذلك، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى، فكأن هذا الذنب لم يكن.
إننا نقول: هذه فيها فائدة مهمة: عثمان رضي الله عنه ثالث الأربعة الخلفاء الراشدين، وسادس أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي باتفاق أهل السنة.
وكان هناك خلاف قديم على تفضيل علي على عثمان لكن اتفقت كلمة أهل السنة على تقديم عثمان كما قدمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبايعوه كلهم بالخلافة، ووقع منه هذا الأمر، وقع منه الفرار يوم أحد وغفر الله عز وجل له.
فائدة: في هذا أننا لا نبتئس إذا وقع منا تخاذل، ولا نيأس من رحمة الله عز وجل ولا من عفوه، بل نرجوا عفو الله عز وجل ونبادر بالرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولنا في الصحابة الأسوة الحسنة، ولنا في عفو الله الرجاء العظيم، ولنا في سعة رحمته الرغبة لأن نثق برحمته سبحانه وتعالى لا بأعمالنا، وأن الأمور عنده سبحانه وتعالى بموازنة الحسنات والسيئات، أعني: أن هذه الكبيرة التي اُرتكبت ليست تحبط الأعمال الصالحة العظيمة التي قام بها هؤلاء الأفاضل رضي الله تعالى عنهم.
ويؤلمك هذا الأمر، وهو أن الهول كان شديداً حتى جعل هؤلاء الأفاضل يفرون من المعركة، وعوتبوا فيه ورُبوا وهذبوا حتى صلحوا لقيادة العالم؛ فعاتبهم الله بقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143].
فالكلام سهل، والأماني تغر صاحبها أحياناً ويظن أنه صادق في الطلب، فإذا كان قد وقع من هؤلاء الأفاضل أنهم حين رأوا الموت لم يتحملوا الثبات هذه اللحظات وهم من هم في المنازل العالية؟ فكيف بغيرهم؟ فإياك أن تغرك نفسك، وإياك أن تكون أحلامك وأمانيك عندك كأنها حقائق، فإنها لا تصبح كذلك إلا إذا نزلت على أرض الواقع، ومورست هذه الأعمال الإيمانية فعلاً بالصدق واليقين.
قال ابن عمر: [(أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)].
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن له الأجر في الآخرة، فهو ممن شهد بدراً بالمعنى؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استبقاه لرعاية ابنته التي كان يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لأجلها، وهذا من فضائل عثمان رضي الله تعالى عنه.
قال: [(وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة)].
وبيعة الرضوان كانت بسبب إشاعة قتل عثمان، فالعجب من هؤلاء الخارجين الذين يطعنون في أهل الإيمان ولا ينظرون إلى فضائلهم.
قال ابن عمر: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده، بايع لـ عثمان فيد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يد عثمان في نفسه فأي شرف أفضل من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبايع عن عثمان.
قال: اذهب بها الآن معك)].
وهكذا يصنع القوم إشاعات من أجل أن يبيحوا الخروج على عثمان وقتله رضي الله عنه.
والشاهد من هذا: أن من ضمن من صِرفوا إناساً من أفاضل وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكنها كانت درساً عظيماً للصحابة رضي الله عنهم استفادوا منه في حياتهم بعد ذلك، وفي جهادهم في سبيل الله، وفيما قاموا به من نشر الإسلام في كل المواطن، فاختلفت مواقفهم بعد أحد، فقد صاروا أكثر إيماناً، وأكثر قرباً من الله بعفوه وفضله ورحمته.
ثم قال ابن كثير: [وقوله تعالى: ((إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد)) أي: صرفكم عنهم، (إذ تصعدون) يعني: حين (إذ تصعدون) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم، وقرأ الحسن وقتادة: (إذ تَصْعَدون) أي: في الجبل.
(ولا تلوون على أحد) أي: وأنتم لا تلوون على أحد، (لا تلوون) لا يلوي: لا يلتفت، لا ينظر إلى أحد من الدهش والخوف والرعب مواقف شديدة].
((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)) أي: وهو وقد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة].(38/3)
عدم عصمة الصحابة عن الخطأ
عندما يفكر الإنسان في الوقائع الإسلامية الكبرى والتي ذكرت في القرآن يجد أنها دائماً تحتوي على الإصلاح.
وأحياناً: كأن النفس تقول: يعني هو كلام على كبار الصحابة لماذا هم هكذا؟ نحن لا نريد أن نتصور صورة مثالية غير واقعية لا تكون في واقع الحياة، وأن هؤلاء الناس ما كان عندهم أخطاء أبداً، وإلا فمن السهل جداً أن يحصل انتصار، ونحن لا نشبههم، ونحن غيرهم تماماً، وحينها نظن أن هؤلاء ليس لهم مثيل، وهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذن لا أحد مثلهم.
وكان الهدف من جود هذه الأمور: أن تبين لك كيف تعالج نفسك إذا حصل خطأ، وإذا كان الخطأ قد وقع من هؤلاء فلا بد أن يعالج الإنسان مثل هذا الأمر، وهذا الأمر يحصل عند الشدائد.
هناك نوعيتين، أو مرضين خطيرين في مثل هذه الأمور: أن البعض يجعلها سبباً للطعن في عثمان رضي الله عنه، ولا يزال إلى زمننا هذا يتعرض للطعن رضي الله تعالى عنه، مع أن فضائله رفعته إلى أعلى المنازل كما ذكرنا، وهو بعد أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يظن أنهم معصومون حتى لا نفوت على أنفسنا المصلحة العظيمة بعلاج الأمراض التي تقع في القلوب، وهي التي في واقع الحياة كما عالجها القرآن، وكما شفاهم الله عز وجل بالشفاء لما في الصدور بهذه الآيات العظيمة.
قال ابن كثير رحمه الله: [قال السدي: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها].
وتفاوتوا في شدة الفرار: منهم من فر إلى المدينة -مسافة طويلة- ومنهم من فر إلى أعلى الجبل؛ يقف ينظر ما الذي يحصل في المعركة-.
قال: [فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: (إلي عباد الله!.
إلي عباد الله!) فذكر الله صعودهم إلى الجبل، ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: ((إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)) وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد وقال عبد الله بن الزبعري -يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها-: يا غراب البين! أسمعت فقل إنما تنطق شيئاً قد فعل إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل].
فهذا المشرك يقول: إن للخير وللشر مدى، يعني: يريد أن يقول: شر المسلمين يأتي له آخر، وقد انتهى، وكان آخره هزيمة أحد، وهي كانت آخر الشر إلى أن هداه الله بعد ذلك.
قال ابن كثير: [إلى أن قال: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل].
يقول: يا ليت الذين قتلوا في بدر يرون جزع الخزرج من وقع السيوف عليهم، طبعاً الذي قتل المشركين في غزوة بدر أكثرهم من الأنصار، فقد كان أكثر الجيش المسلم من الأنصار، قال: [حين حكت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل ثم خفوا عند ذاكم رقصاً رقص الحفان يعلو في الجبل].
وهذا الشاهد منها، خفوا عند ذاكم، يعني: صعدوا يسعون.
رقصاً: يشبههم في شدة جريهم بالذي يرقص.
رقص الحفان يعلو في الجبل.
[فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل.
والحفان: صغار النعم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه.(38/4)
خطأ الرماة
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً: عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعاً، وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال: فهزموهم، قال: فأنا والله! رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن)].
نساء المشركين هند وصاحباتها قد رفعن عن سوقهن لتستطعن الجري.
قال: [(فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة -أي: يا قوم الغنيمة اذهبوا لجمعها- ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟)].
وهذه كانت إرادة الدنيا التي محصهم الله عز وجل بها، فقال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)).
قال: [(قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله! لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فذلك الذي يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً)].
والجيش كان ألفاً، ثلاثمائة عادوا من منتصف الطريق، وأثناء المعركة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم من خلاصة الخلاصة اثنا عشر رجلاً، وهذا أمر عظيم وهائل، فأكثر الصحابة ليسوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هزيمة ولولا أن الله عز وجل عفا عنهم لاستُؤصِلُوا، وهذا من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: أن اثني عشر رجلاً وسط ثلاثة آلاف شخص فلا بد أن يقتلوه، فيمنعه الله عز وجل ويحفظه صلى الله عليه وسلم، وبطولات الصحابة رضي الله عنهم الاثني عشر خصوصاً، سبعة منهم من الأنصار على الأقل غير خافية.(38/5)
مناداة أبي سفيان للنبي والصحابة وأسلوب الرد عليه
قال: [(فأصابوا منهم سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين: سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً، قال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ ثلاثاً -صلى الله عليه وسلم- قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟)].
فسأل عن هؤلاء الثلاثة؛ لأن عليهم قيام الدين، مع أنه يوجد أناس أشد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في القتال، لكن قوام الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي بكر وعمر.
قال: [(ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله! يا عدو الله! إن الذين عددت لأحياء كلهم -هذه صدمة عظيمة لـ أبي سفيان والمشركين- قال: وقد بقي لك ما يسوؤك، فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال -يفتخر بقوله: الحرب سجال يعني: مرة علينا، ومرة عليكم- قال: وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز ويقول: اعلُ هبل اعلُ هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)].
فالدفاع على العقيدة مأمور به، وإغاظة المشركين جائز ومباح، والانتصار للنفس منهي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال أولاً عندما سأل أبو سفيان عنه: (لا تجيبوه)؛ لأن في السكوت عنه كانت المصلحة وعندما بدأ يفتخر بنفسه فكان أمر إغاظته مسكوت عنه فانتهز الفرصة عمر وأجابه، وفي الثالثة لما ذكر الثلاثة مجموعين وقال: (أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم) لم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أذن لـ عمر في الانتصار للنفس.
وقال لهم: أجيبوه لما افتخر بإلهه وقال: (اعل هبل، فقال: ألا تجيبوه؟!) فعندما يُطعن في الدين لا بد أن يجاب عن الطعن، ولا بد أن يرد على الطاعن، وعندما يكون الطعن في أشخاصنا فيمكن أن نسكت، وممكن أن نرد.
قال: [(قال -أي: أبو سفيان -: لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).
وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً، ورواه بأبسط من هذا أيضاً].(38/6)
شجاعة طلحة يوم أحد
[وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: (انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل، فلحقهم المشركون، فقال: ألا أحد لهؤلاء؟ فقال طلحة أنا يا رسول الله، فقال: كما أنت يا طلحة -يعني: انتظر- فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل عنه وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء؟ فقال طلحة مثل قوله -قال طلحة: أنا رسول الله! وكان طلحة مستعداً من أول الأمر- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله -أي قال كما أنت يا طلحة - فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله! فقاتل عنه وأصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة: فأنا يا رسول الله! فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة، فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله)].
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعده للساعة الشديدة رضي الله عنه، فقد قاتل قتال أحد عشر رجلاً من الأنصار، وهو الذي ردهم رضي الله عنه.
[وأصيبت أنامله فقال: حس حس -صوت التألم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك، حتى تلج بك في جو السماء)].
وهنا تتجلى أهمية التربية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه وهو في شدة المعمعة أن يقول: باسم الله، وهذا دليل على أنه ليس هناك شيء يشغل عن ذكر ربنا، فإن القتال كان هائلاً جداً، والناس يقتلون بين أيديهم، وهو يقاتل قتال الأحد عشر رجلاً رضي الله عنه، فعندما قال: حس، وهي مثل قولنا: أي، متألماً من الجرح فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لو قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة).
قال: [ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون].
فالذي رد المشركين هو طلحة رضي الله تعالى عنه.
قال: [وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: يوم أحد].
شلت يده رضي الله عنه؛ لأنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقى بها النبي ضربة ليس لها واق إلا يد طلحة رضي الله عنه.
والإنسان عنده رد فعل في الجسم البشري طبيعي وهو أنه عندما يأتي عليه شيء مؤلم يبتعد عنه، وهذه كرامة عظيمة لـ طلحة، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن السيف يراد به ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما تأتي الضربة لشخص يرفع يده تلقائياً رغماً عنه من غير شعور في حينه، فهو من غير شعور حرك يده ناحية النبي صلى الله عليه وسلم ليقي بها النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه من جراء الضربة.(38/7)
انفراد النبي في اثني عشر من أصحابه ومنقبة سعد بن أبي وقاص يوم أحد
قال: [وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال (لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما).
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش قال: من يردهم عنا وله الجنة -أو وهو رفيقي في الجنة- فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً -أي: أوشكوا أن يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) -أي: أصحابنا الذين فروا ما أنصفونا حين تركونا في هذا العدد القليل وسط المشركين- وفي رواية: (ما أنصَفْنا أصحابنا) رواه مسلم.
وقال الحسن بن عرفة: وفي رواية حدثنا مروان بن معاوية عن هشام بن هشام الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبي وأمي)].
يعني: نثرها صلى الله عليه وسلم، وأخرج له جعبة السهام؛ ليرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفداه بأبيه وأمه، وهذه منقبة عظيمة لـ سعد.
[وأخرجه البخاري أيضاً.
وروى محمد بن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به)].
يعني: يرمي بأي شيء موجود حتى يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: (رأيت يوم أحد رجلين يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني: جبريل وميكائيل عليهما السلام)].
الحديث متفق على صحته، وهو من معجزات النبوة الظاهرة.
[وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت بن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو وهو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً، فقال: من يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) رواه مسلم].
قوله: (ما أنصفنا أصحابنا) يعني: المهاجرين ما أنصفوا الأنصار إذ قتل سبعة منهم، لكن الرواية الأولى أشهر، (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا عنا.(38/8)
قتل النبي لأبي بن خلف
[وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: (كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحليفة -اليمين- قال: بل أنا أقتله إن شاء الله، فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد -صلى الله عليه وسلم- فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير)].
وهو في الحديد، وليس هناك شيء ظاهر منه، من ذا الذي يقتله، ولكن مصعب ضحى بنفسه وليس عليه إلا نمرة فقط، وليس عنده ثياب، وليس عليه شيء من الحديد، ولما أرادوا تكفينه فإن غُطي بنمرته رأسه ظهرت قدماه، وإن غطيت قدماه ظهر رأسه رضي الله تعالى عنه، فقاتل شخصاً في الحديد وقاية للنبي عليه الصلاة والسلام، مصعب رضي الله عنه هو سفير الإسلام، الذي دخل أهل المدينة الإسلام على يديه رضي الله تعالى عنه، الذي يقول عنه عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب وهو أفضل مني رضي الله تعالى عنهم.
قال: [(فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة)].
يعني: البيضة المغطية على الرأس، والدرع المغطي على الصدر، فهناك بقعة ما بين عظمة الترقوة فقط بقعة من جلد أغلبه من غير عظم.
قال: [(وطعنه فيها بحربته)].
- فالنبي صلى الله عليه وسلم طعن أبي في البقعة الضيقة هذه.
[(فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم)].
فالمكان ضيق جداً فالأمر لا يزيد عن الخدش.
[(فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور -يصيح صياح الثور من شدة الألم وهم رافعون له- فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش)].
لماذا أنت خائف؟ فالحربة لم تدخل في المسافة ما بين البيضة والدرع! قال: [فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا أقتل أبياً)].
فخوفه كله من أن الرسول قال ذلك، وهو يعلم أنه صادق.
قال: [(والذي نفسي بيده! لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين)].
معناه: أن السوق الكبير في الحج لو توزع عليهم ضربة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي لماتوا من الألم، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] أي: إنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك عندما قال: (بل أنا أقتل أبياً) ظل يتذكرها ظاناً أنه سوف يموت.
قال: [(فمات إلى النار) -والعياذ بالله- {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11].
وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وذكر محمد بن إسحاق قال: (لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله! يعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم: -ما ذكر لي- فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض)].
أي: هزها الرسول بشدة تركت الصحابة يبتعدوا من شدة النفضة.
قال: [(ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها -أي: سقط منها- عن فرسه مراراً) وذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك.
وقال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ].
أي: بينما هو عائد إلى مكة مات بسبب هذا الجرح في الطريق، في رابغ وهو مكان بين مكة والمدينة.
قال ابن عمر: [فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل، إذا أنا بنار تأجج فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش].
أي: رجل خارج من النار يشد على نفسه بسلسلة ويقول: العطش العطش.
[وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف]- نعوذ بالله- وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، - أي: سن النبي صلى الله عليه وسلم التي كسرت- واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) وأخرجه البخاري عن ابن عباس قال: (اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله، واشتد غضب الله على قوم دمّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
ومعنى: أدموه ودموه أي: جعلوا الدم يسيل من وجهه عليه الصلاة والسلام، وذلك حين جرحوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم.
[وقال محمد بن إسحاق: (أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته)].
كلمت أي: جرحت شفة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت سنه الرباعية اليمنى السفلى، وجرحت وجنته عليه الصلاة والسلام، وهشمت البيضة فوق رأسه، وهو رسول صلى الله عليه وسلم، والذي فعل به ذلك هم من اشتد غضب الله عليهم.
لنعلم حقيقة التوحيد، وأن الله بيده الأمر كله، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان غاضباً من ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يقاوم المشركين ومع ذلك قدر الله أن يقع ذلك ليكون ما جرى على سيد البشر صلى الله عليه وسلم وسادات الأولياء من بعده من الجرح والألم والقتل من أدلة التوحيد، ولنعلم أن هذا الأمر قدره الله عز وجل ليبتلي عباده المؤمنين، وكذلك ليكونوا أسوة لعباد الله عبر العصور في الصبر والثبات والتضحية والتحمل في سبيل الله عز وجل.(38/9)
درس في الولاء والبراء
قال: [وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص فحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط مثل ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، إن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضاً في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وعتبة بن أبي وقاص مات كافراً، ولنا في الولاء والبراء درس عظيم فـ سعد حرص أعظم الحرص على قتل أخيه؛ لأنه كان كافراً ولأنه دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى ثمرة البغضاء التي وقعت لهذا الرجل في قول سعد: إنه كان سيء الخلق مبغضاً في قومه؛ لأن الله أبغضه واشتد غضبه عليه؛ لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كريهاً مكروهاً والعياذ بالله.
قال: [وروى عبد الرزاق: عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: (اللهم! لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً) فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار.(38/10)
ذكر ما أصيب به المصطفى يوم أحد
ذكر الواقدي عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري].
الذي هو عم الإمام محمد بن شهاب الزهري.
[يقول يومئذ: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد -واقف بجانبه وهو يقول: دلوني عليه- ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان -يقول له: كان واقف بجانبك- فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: والذي ثبت عندنا أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
قال ابن كثير: [وقال أبو داود الطيالسي: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد أي: قال: ذاك يوم كله لـ طلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد -أول من رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام- فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال حمية فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه].
طلحة أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه، لكن هو يعرف أن طلحة هو الذي يقدر أن يدافع على النبي عليه الصلاة والسلام، فتمنى أن يكون طلحة وبدا أنه ليس هو الذي كان يقاتل في ذلك الموقف، يقول: [لو كان رجلاً من قومي أحب إلي] من أن يكون من بلد آخر، كأن يكون واحداً من الأنصار مثلاً أو من غيرهم.
قوله: [وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطئه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح].
معنى: [خطفاً لا أخطئه].
يعني: خطفاً لا أعرفه، وفي رواية: لا أحفظه.
قال: [فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكما صاحبكما) يريد طلحة وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت الآن أنزع ذلك من وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته] وحديثه هذا فيه ضعف.
قال: [فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة].
سن أبي عبيدة بن الجراح وقعت مع حلقة المغفر، وهذه قصة ثابتة مشهورة؛ لأن اللفظ الذي هو غريب منكر هو قوله: أقسمت عليك بحقي، فإن الحلف بغير الله لا يجوز.
قال: [ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة أحسن الناس هتماً].
الأهتم هو من تكسرت ثناياه من أصلها.
[فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفر فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه].
فأبقاه الله عز وجل لقتال المشركين والكفار بعد ذلك في الوقائع العظمى رضي الله عنه.
[ورواه الهيثم بن كليب والطبراني، وعند الهيثم قال أبو عبيدة: أنشدك الله يا أبا بكر! إلا تركتني؟].
ولعل هذا هو الأقرب.
[فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي، وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم.
وروى ابن وهب عن عمر بن السائب: أنه بلغه أن مالكاً أبا سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه -أي: من الدم- ولاح أبيض فقيل له: مجه - أي: اتفل الدم- فقال: لا والله! لا أمجه أبداً ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد)].
وهذا أيضاً ضعيف، فلا يستدل به على طهارة الدم، وبعضهم يقول: طهارة دم النبي صلى الله عليه وسلم وفضلاته خصوصية، وليس على هذا دليل.
[وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن].
وضع الماء في الترس؛ لأنه ليس عندهم أدوات.
[فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم].
هذا فيه مشروعية المداواة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى من جرحه.(38/11)
الأسئلة(38/12)
حكم الدعاء على المعين
السؤال
هل يجوز الدعاء على المعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة: (اللهم لا تحل عليه الحول)؟
الجواب
الأفضل أن لا ندعو على المعين، والرواية المذكورة مرسلة، وهناك أشياء في السيرة تذكر بأسانيد فيها مقال، وهي تذكر لمعرفة الوقائع، أما إذا كان سيترتب عليها أحكام، مثل لفظة: (أقسمت عليك بحقي)؛ فإننا نبين ضعفه، وكذلك حديث: (اللهم! لا تمر عليه الحول حتى يموت كافراً) فهو حديث ضعيف، وإن صح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه يموت كافراً، فدعا عليه أن يموت في ذلك العام.(38/13)
حكم تهنئة النصارى في أعيادهم
السؤال
هل يجوز تهنئة النصارى بأعيادهم على سبيل المجاملة ورد التهنئة كما يهنئوننا في عيدنا؟
الجواب
حين هنئونا بعيدنا هنئونا بحق فلا يجوز أن نهنئهم بباطل، فلا شك أن أعياد المسلمين أعياد تستحق أن يُهنئوا عليها؛ لأنهم أتموا طاعات لله عز وجل: فقد أتموا صيام رمضان، وعبدوا الله في الأيام العشر، وضحوا لله عز وجل بالأضحية، وصلوا صلاة العيدين، وفعلوا طاعات فالتهنئة بها تهنئة على خير.
أما هم فهم يسبون الله سبحانه وتعالى، وهذا بنص الحديث في الصحيحين: يقول الله عز وجل فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) فهل تهنئوهم على شتم الرب سبحانه وتعالى وعده؟ وهل يتصور مسلم ذلك؟ بمعنى: لو أن إنساناً سب أباك أو أمك، فأتيت في موعد السب من كل عام وقلت له: كل سنة وأنت طيب، والعياذ بالله، فهم يسبون الله عز وجل بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116] نعوذ بالله، أيُهنَئون على ذلك؟ ونقول: إن هذا من باب المجاملة، فما أسوأ هذه المجاملات.
إنما يمكن أن يُهنَئوا بما كان من خير لو أرادوا به طاعة الله، مثل الزواج فإنه عفة، فيجوز تهنئتهم بالزواج، وقد يهنأ أحدهم بأمر دنيوي كمولود يحصل له، أما أن يهنأ على كفر على باطل على شرك، أو يهنأ على رئاسة كفرية، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
وهذا من متابعتهم على باطلهم، فما أصاب المسلمين هذا إلا بسبب مثل هذه المجاملات بالباطل، حتى وصل الأمر إلى أن يقال للناس: إن من حق الكفار أن يسنوا ما شاءوا، وأن ذلك دبلوماسية أو مجاملة، فالكفر هكذا يجعل الباطل حقاً والحق باطلاً.
والإنسان عندما يداهن الكفار، يزعم أنه يكون من حقه أن يخالف صريح القرآن، فيرى أن من حق الإنسان أن يكفر بالله عز وجل، وأن يحارب دينه، نعم يكون هذا من حقه؛ لأنه كفر أول مرة، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:37 - 38].
فكوننا نجامل على حساب الدين هذا من المداهنة بالباطل، ومن الركون إلى الذين ظلموا والعياذ بالله!(38/14)
بيان موت النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
زاد الكلام اليوم عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس وخاصة الصوفية يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ولكن سوف يموت بعد فترة وهو حي الآن، ويستشهدون بالآية الكريمة التي تقول: إن الشهداء أحياء عند ربهم، والشهداء أقل مرتبة من الأنبياء، وبالتالي: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت.
الجواب
هذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف نص القرآن، قال عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فالذين يقولون: إنه سوف يموت، نقول لهم: قد قال أبو بكر رضي الله عنه في محضر الصحابة: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات) وهذا متفق على صحته، والذي يشكك في ذلك كاذب ضال مضل.
وأما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي عند ربه، فهذا الذي نعتقده، وحياته أكمل من حياة الشهداء، فهو يعيش حياة برزخية لا تنافي الموت، وكما أن الشهداء لا يعاملون معاملة الأحياء في الدنيا، وقل كما قال الله عز وجل، بأن الرسول حي عند ربه وهو أكمل من حياة الشهداء بلا شك، ولكن عند ربه ليس في الدنيا، فإن الشهداء -بإجماع المسلمين- يورثون ويدفنون، ويجوز التزوج بنسائهم، وكل الأحكام الشرعية والدنيوية، وكل العقلاء يقولون: إن هؤلاء قد ماتوا وهم أحياء، لكن حياة لا تنافي الموت الدنيوي، ولا تنافي الموت على الأرض؛ لأنها حياة عند الله وليست حياة على وجه الأرض، وكذلك هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/15)
حكم بيع الخمور ولحم الخنزير في البلاد غير الإسلامية لغير المسلمين
السؤال
أفتى بعض المشايخ بجواز بيع الخمر ولحم الخنزير في البلاد غير الإسلامية لغير المسلمين، فما صحة هذه الفتوى؟
الجواب
هذا كلام باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
وقد نقل الاتفاق على منع بيع هذه الأربعة غير واحد من أهل العلم، والحديث في ذلك صحيح متفق على صحته، وقد سمع أن بعض المشايخ أيضاً يفتي بذلك بشرط أن لا يتجاوز حاجة المسلم الذي يبيع ذلك، وهذا باطل والمال مال محرم، فلا يجوز بيعه لمسلم ولا لكافر فإن الله سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء، بل لعن من باعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم جملوه -يعني: أسالوه- فباعوه وأكلوا ثمنه) وقال: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم أكل ثمنه).(38/16)
معنى حديث (من رأى منكم منكراً)
السؤال
حديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) هل يمكن حمل هذا الحديث على حال معينة: وهي مثلاً: أن يرى الإنسان رجلاً يهم بقتل آخر، فيغير بيده، ولا وقت لأن يغير المنكر باللسان؟
الجواب
لا شك أن هذه أحد الصور، لكن إذا أمكنه أن يدفعه بلسانه أولاً فعل، كأن يحذره، وقد ذكر الله ذلك في الصائل، فإن لم يندفع بقوله دفعه بفعله، فإن لم يمكن القول؛ لأنه يعلم أنه سوف يبادر إلى قتله، أو مثلاً: يختطف امرأة وهو شاهر السلاح، ولو كلمه لأخذها وهرب، فيجب هنا أن يغير بيده؛ لأنه عجز عن التغيير باللسان في تلك اللحظة، وهذا هو الترتيب الشرعي.(38/17)
حكم قضاء الصلوات الفائتة في مدة طويلة
السؤال
هل يلزم على من ترك الصلاة مدة طويلة وهو يسعى جاهداً لإدراك ما فات، وقد تاب إلى الله عز وجل، فهل يقضيها رغم كثرة تعدادها؟ وهل يلزم أن أقول له: إن هذا الأمر لا يجوز خصوصاً أنه الراجح من الخلاف والحق عندي، أي: عدم مشروعية قضاء الفوائت؟ أم أكون آثماً إن لم أفعل؟
الجواب
لا، لا يلزمك أن تقول ذلك، لكن إن سألك فتجيبه؛ لأن مسألة قضاء الفوائت مسألة خلافية، فإذا رأيت شخصاً يقضي الفوائت واستفتاك فيلزمك أن تقول ما تعتقد إن كنت طالب علم مميز، أو تنقل ترجيح من ترى من أهل العلم، لكن لا يلزمك ذلك، فالمسألة فيها خلاف، والذي يفعله هذا الرجل هو قول جمهور العلماء، وإن كنا نرى خلافه، لكن لا يلزم في المسائل التي فيها اجتهاد وخلاف سائغ أن تغير مذهب الآخرين، ولا ينبغي أن تنكر عليهم في مسألة فيها خلاف سائغ.(38/18)
كيفية إخراج زكاة العروض
السؤال
زكاة المال على البضاعة المعروضة في المحل كيف أخرجها؟ علماً بأن هناك بضاعة تدخل وتخرج وبضاعة تبقى لعدة سنوات فما العمل؟
الجواب
عليك أن تعرف يوم ملك النصاب، وفرض على كل أحد معه مال بلغ النصاب أن يعرف تاريخ ملكه للنصاب، ونصاب الفضة 595 جراماً، فهذا اليوم يتم حفظه، وفي كل سنة هجرية من هذا اليوم عليه أن يجرد البضاعة التي عنده، والمال السائل الذي معه، ويخرج على الموجود بقيمة البضاعة، إضافة إلى المال السائل التي هي سعرها يوم حساب الزكاة، ثم يخرج 2.
5% من المجموع، ويخصم منها الديون التي عليه إذا كان عليه ديون لأحد، وإذا كان له ديون على أناس فهو مخير بين أن يخرج زكاتها مقدماً 2.
5% أو عندما يقبضها يخرج منها فوراً 2.
5% لما مضى من السنوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(38/19)
موانع الالتزام
كما أن للجنة دعاة فللنار دعاة، وفي كل السبيلين سالكون، وشتان بين مشرق ومغرب، ومن عزم على سلوك الجنة فسيجد دعاة النار من حوله يعيقونه، وقد يؤذونه، ولكن الكيس تهون أمامه كل الموانع والعقبات، ويستسهل كل صعب، ويبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إلى مطلوبه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.(39/1)
أهمية الالتزام
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: الالتزام هو مفتاح حل مشاكل الأمة، إذ الأمة في محنة عظيمة وخطيرة وفي مفترق طرق، وعدوها يتربص بها من كل جانب، ويمكر بها لصرفها عن دينها، ولأخذ ثرواتها، وتدنيس مقدساتها، وتفريق جمعها، ولإضلال رجالها ونسائها وشبابها، فما هو المخرج؟ إن الالتزام قضية يجب أن تكون محور اهتمام كل واحد منا؛ لأنه في الحقيقة ليس باباً يفتح ثم يجلس الإنسان بجواره، بل عمل مستمر دائم، فأنت تطلب من الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم سبع عشرة مرة، وقد أسلمت بحمد الله، فدل ذلك على حاجتك الماسة إلى سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم علماً تفصيلياً بحدوده، وحباً لسلوكه، وامتثالاً وانقياداً وسيراً فعلياً على ذلك، وثباتاً عليه إلى أن تلقى الله سبحانه وتعالى.
إن قضية الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالكتاب والسنة قضية عظيمة لابد أن تكون لدى كل واحد منا هي الهدف الأول في حياته؛ لأنها تحقيق العبودية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].(39/2)
موانع الالتزام(39/3)
الشيطان العدو الأول
عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد، ويريد أن يصدك عن الالتزام بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشيطان الرجيم، فإذا علمت أن عدوك هذا يريد أن يسرق منك هذا الكنز العظيم فلابد أن تدرك قيمة هذا الكنز، ولابد أن تحرص عليه، وتسبق إليه، وتحوطه وتحميه، وإذا لم تكن قد وصلت إليه بعد فسارع قبل أن يفوتك، وإذا علمت أن عدوك اللدود يقف لك بالمرصاد فيضع الحواجز والعقبات ليمنعك من الالتزام، فتحرم من الفوز بهذا الكنز العظيم: كنز الاقتراب من الله عز وجل، وحبه سبحانه وتعالى، ومخافته والشوق إليه، وعبادته بكل أنواع العبادة، فلا بد من الاجتهاد في مدافعته؛ لأنه لا يتركك، بل يحاول معك من داخلك ومن خارجك، يحاول معك جاهداً أن يبعدك عن حقيقة الالتزام، فيستغل ما فطرت عليه من رغبات وإرادات وشهوات، لكي يدفعك لترتكب الحرام وإن كنت في ظاهرك أو في قناعتك قد التزمت، فغايته أن يبعدك، ولذا يسلط عليك أولياءه وأعوانه لينالوا منك أنواع الأذى إن لم يستطيعوا أن يأخذوك بعيداً عن الكنز الذي يريد أن يسرقه منك؛ لأنه حرم هذا الكنز، فقد رُفع في الملأ الأعلى، ثم طرد وأبعد وأهبط وصغِّر وحُقِّر لما تكبّر وأبى، ورد أمرَ الله سبحانه بما وقع في قلبه من الحقد، والحسد، وكل ذلك أدى به إلى الكفر -والعياذ بالله- فهو يحسدك -أيها المسلم- على ما من الله عز وجل عليك به من هذا الدين، وما يرزقك ربك سبحانه وتعالى من معرفته، ومحبته، فهو لشدة غيظه يكاد يموت لولا أن الله كتب له البقاء إلى يوم يبعثون.
فإنه إذا شاهد إنساناً قد سلك طريق الالتزام والقرب من الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، زاد حنقه وجزعه، ولذا لابد أن تعلم أنك في حرب ضروس، فتستشعر خطورة هذه الحرب، وبالتالي تقف على كل الصفوف، وتدافع عن نفسك، فقلبك هو أرض المعركة الذي يراد أن يلقى في سجن الشهوات والرغبات المحرمة وسجن الشبهات المضلة والأفكار والتصورات الردية التي تهلك الإنسان، فأنت أرض المعركة، وأنت من يريدون أن يأخذوه بعيداً عن أن يقترب من الله عز وجل، وأن يحب الله سبحانه وتعالى.
من هنا نقول: هذا السؤال ليس موجهاً إلى غير الملتزمين فقط، بل هو موجه إلى الملتزمين أيضاً؛ لأن الالتزام -كما ذكرنا- بحاجة إلى رعاية وحراسة، وإلى ازدياد؛ لأنه إذا لم يزدد نقص، وإذا توقف أدركه الأعداء قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله، قال الله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فلابد أن تدرك هذه العداوة وتعد للحرب عدتها.
تصور أن دولة يُعِدُ الأعداء العدة لحربها وقادتها ومن فيها يلهون ويلعبون ولا يفكرون بالحرب، ولا بإعداد العدة، ولا بوضع الخطط، ولا بتحصين الثغور، ماذا تكون النتيجة؟! لذلك نقول: إن أول موانع الالتزام هو الشيطان، وإن مما تقاوم به شيطانك أن تستشعر عداوته، ولم يكتف ربنا سبحانه وتعالى بأن أخبرنا بعداوته لنا بل قال: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا))، لأنك بمجرد أن تقول لإنسان: فلان عدو لك، فإنه تلقائياً إذا صدق الخبر أخذ منه موقف العداء، لكن الله سبحانه قال: ((فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)) وهذا تأكيد، لماذا؟ لأن كثيراً من الناس يعلم أنه عدوه وفي نفس الوقت يتخذه ولياً والعياذ بالله فيطيعه ولا يستحضر عداوته، وينسى تلك العداوة بعد حين، بل يجعله راعيه كمن جعل الذئب راعي للغنم، ويجعل من همه وإرادته إضلاله وتوصيله إلى السعير ولياً له! قال عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
فإنهم تولوه حين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون.
ولذا لا بد أن تعلم أن الشيطان يجري منك مجرى الدم، وهذا يقتضي منا حراسة الثغور، وأكثر الناس يؤتون من قبل عدم أخذ العدة، فيتركون الثغور التي ينفذ منها الشيطان إلى القلب، فيترتب على ذلك الامتناع عن الالتزام، وأن يدخل العدو إلى القلب، فهناك ثغر العين، وهناك ثغر الأذن، وهناك ثغر الفم، وهناك ثغر البطن، وهناك ثغر الفرج، وهناك ثغر اليدين والرجلين، فكلها ثغور إن لم يكن عليها حراسة دخل العدو إلى الأرض، فاستباح الحرمات، وأسر الملك، وصرّف هذه الجوارح في غير مرضاة الله سبحانه وتعالى، صرفها في غير مصلحتها، واستعمر المكان يعني استخربه في الحقيقة، وألقى القلب في السجن، وأمَّرَ النفس الأمارة بالسوء، وهذا كما نرى في الدول فعلاً، عندما يحتل الأعداء البلد يأتون بعملاء، ثم يوجهونهم ويأمرونهم، وهم ينفذون لهم خططهم، فهو يؤمِّر النفس الأمارة بالسوء؛ لتتصرف في الجوارح، ولتجعل كل الثغور مستغلة لمصلحة العدو والعياذ بالله.
كثير من الناس بدل أن ينظر إلى آيات الله سبحانه وتعالى بعينه فيتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آيات الله المكتوبة فينظر في المصحف، وينظر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتب العلم؛ تجده ينظر ليل نهار فيما حرم الله عز وجل عليه، ينظر إلى العورات المكشوفة، ينظر إلى ما يهيج عليه شهواته، وسائر المفاسد متعلقة بثغر العين وهي كثيرة جداً، فلا بد أن تقف بالمرصاد لتحرس هذا الثغر وتمنع وصول مدد الأعداء إليه، فتغض بصرك عما حرم الله عز وجل، كما قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فهذا من أعظم موانع الالتزام، أعني ترك ثغر العين مفتوحاً بلا حراسة، وعدم تحقيق غض البصر، وإطلاقه إلى العورات المكشوفة في الطرقات وفي وسائل الإعلام من فيديو، وتلفزيون، ومجلات، ودش، والبحث عما حرم الله سبحانه وتعالى من ذلك، كل ذلك من أعظم أسباب الانحراف؛ لأنه أقصر المداخل إلى القلب، فالعين إذا لم تحرسها وتدفعها من النظر إلى الحرام دخل الشيطان بأسهل طريق إلى القلب وسيطر عليه وقذف فيه حب الشهوات، والشهوة الجنسية من أقوى الشهوات الإنسانية، حتى لقد قال الزنادقة والكفرة: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الأساسي لعالم البشر، وإنها هي التي تدور حولها كل رغباتهم وإراداتهم، وكذبوا في ذلك، فالإنسان أعلى قدراً من هذا، ولكن قلوبهم المطموسة وأفكارهم المنكوسة هي التي أدت بهم إلى أن يقولوا: إن الشهوة الجنسية هي المحرك الحقيقي لكل رغبات الإنسان، لكنها بلا شك من أقوى الشهوات، ولا يمل الناس منها، فهل وقف الغرب عند حد في أمر الشهوة الجنسية؟! هل توقفوا وزهدوا في هذه الشهوة؟! هل زهدوا في هذه المناظر مع أنهم يرون ليل نهار أنواعاً من الفتن والمضلات؟! لا.
لذلك نقول: لابد أن تحرص على غض البصر، فهذه الشهوة تجر شهوات بعدها، فشهوة الفرج مبنية على شهوة العين في المقام الأول، وكم يأتي الصيف بأنواع المصائب، وإن كان الصيف والشتاء في زماننا قد صار مليئاً بالمصائب بهذه الملابس الضيقة وهذه العورات المكشوفة وهذا التبرج والسفور المنكر الذي حرمه الله عز وجل وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من الكبائر، قال عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فالله سبحانه وتعالى حرم الجنة على هؤلاء المتبرجات، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، وإني لأعجب لماذا تفتح على نفسك باب الشهوات من خلال النظر؟! بل كثير من الشباب من موانع التزامه الحقيقي أنه يستسلم للشهوة الجنسية، إما بأن يسير مع الفتيات المنحلات، وإما بأن يرتكب العادة السيئة المعروفة بالعادة السرية (الاستمناء)، وإما بأن ينظر إلى الصور العارية، وذلك يفتح عليه أبواب الفتنة، التي لو سدها من أول الطريق لكان ذلك من أعظم ما يعينه على الالتزام.
كما أن حراسة الخواطر من أهم الأبواب وأعظمها؛ ولا شك أن ثغر العين هو المفتاح، والصورة المحرمة تشمل الشكل الحي وتشمل أيضاً الصورة المرسومة أو المجسمة أو المتحركة التي تراها في وسائل الإعلام، بل كلام العلماء من السلف على عشق الصور مقصودهم به: الصورة الحسية كالنساء والولدان وغير ذلك، فمثل هذا الأمر لابد من الحذر منه، أن يحرس الخواطر عن التفكير حتى يبتعد عن هذه الشهوة المحرمة، فعليه أن يتقي الله عز وجل في تفكيره في تلك اللحظات التي يقضيها بمفرده غارقاً في أحلام يقظته، فالخواطر من أعظم الأسباب الجالبة للمنكر، ومثال ذلك إنسان يمشي بسيارته على أسرع ما يمكن، وهو يريد أن يوقفها بعد عدة أمتار عند حاجز معين، فيظل يزيد من سرعة السيارة، ويجعلها تنطلق بأقصى سرعة، فلا يمكنه ذلك لزيادة السرعة، وكان عليه وهو يريد أن يقف عند حد معين أن يهدئ السرعة بالتدريج حتى يقف عند الحد المطلوب، أما أن يسير بأقصى سرعة ومِن ثم يوقفها مرة واحدة فهذا غير ممكن.
وكذلك الإنسان الذي يداوم على استحضار الأفكار ويتخيل أنه سوف يفعل كذا وكذا وكذا، مستحضراً للصورة في ذهنه، خصوصاً قبل النوم، أو في أماكن الخلاء كالحمام وغيره، فإذا ظل يفكر في هذه الشهوة، فإنه ولا شك سوف يعجز عن أن يوقف هذه الشهوة عند حدها، وسوف يمارس العادة السيئة، أو يسعى في نيل الحرام والعياذ بالله.
وأهل الباطل يزينون لكثير من الشباب أن بعض العلاقات تخفف الشهوة، فيدعون إلى الصداقة البريئة -كما يزعمون- مع الفتيات، ويبيحون الاختلاط، بحجة أن هذه الأمور تهدئ الشهوة الجنسية، وإليك ما قاله علماء الغرب، والحكمة تؤخذ من كل قائل لها، وأبلغ ما يكون ذلك من الأعداء الذين ابتدعوا هذا الاختلاط، فهذا خبر منشور في الجرائد وعلى النت، وهو أن الهيئات التعليمية الأمريكية أع(39/4)
فضل حلق الذكر
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل حلق الذكر فقال: (إن لله عز وجل ملائكة سيارة يتتبعون حلق الذكر، فإذا وجدوا حلقة من حلق الذكر تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، -جعل الله فيهم رغبة في أن يتتبعوا حلق الذكر- فيحفونهم إلى السماء الدنيا، ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيقولون: يا رب! أتينا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، فيقول الله عز وجل: وهل رأوني؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروك، فيقول الرب سبحانه وتعالى: كيف لو رأوني؟ فتقول الملائكة: كانوا لك أشد تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً، فيقول الله عز وجل: ماذا يسألونني؟ فيقول الملائكة: يسألونك الجنة، فيقول الله عز وجل: وهل رأوها؟ فتقول الملائكة: لا يا رب! لم يروها، والله عز وجل أعلم -وإنما يسأل الملائكة تكريماً لعباده المؤمنين وإظهاراً لفضلهم- فتقول الملائكة: لا يا رب لم يروها، فيقول الله: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: كانوا أشد لها طلباً، فيقول: ومم يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذون بك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب! لم يروها، فيقول: وكيف لو رأوها؟ قالوا: كانوا أشد منها هرباً، فيقول الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول أحد الملائكة: يا رب! فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جلس لحاجة، -أي جلس لمصلحة كان يريد أن يقضيها- فيقول الله عز وجل: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وأقص عليكم قصة أحد الإخوة في سبب التزامه، حكى لي هذه القصة فذكر أنه كان أكره شيءٍ إليه الملتزمين، كان طالباً معهم يراهم في الكلية ويبتعد منهم، يراهم أسخف الناس، ولا يقبل شيئاً من كلامهم أبداً، وفي مرة من المرات كان يحتاج إلى تجهيز شيءٍ في الشقة، وكان منهم أحد الصناع الذين يحتاج إليهم، حاول الوصول إليه لكنه وكان يعلم أنه يصلي في مسجد الفتح، فاضطر لكي يلقاه أن يذهب إلى المسجد في يوم جمعة في رمضان، فقال: أذهب أنام الساعة إلا ربع التي يخطب فيها الخطيب إلى أن يحين وقت الصلاة، وبعدما نصلي أقابله وأطلب منه أن يأتي معي فأنا لا أريد أن أسمع كلام السنيين هؤلاء، فذهب إلى المسجد، فخطب أحد الإخوة، وكان الخطيب ليس من الإخوة الخطباء الرسميين في المسجد، وكان يتلو آيات من القرآن ويبكي، فإذا بالرجل يشاهد الناس يبكون، فاستيقظ مرة واحدة، وأخذ يسأل نفسه: ما هذا الذي يحصل؟! لماذا لا تبكي يا فلان؟ وكانت بداية الهداية، فقد هداه الله عز وجل من بعد ذلك، كان يريد أن ينام وقت الخطبة ثم يصلي من أجل أن يقابل الرجل، ثم جلس لحاجة فغفر الله له وهداه الله سبحانه وتعالى في هذا المجلس، فسبحان الله! (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فربما غفر للإنسان بمجرد وجوده مع أهل الصلاح والخير.(39/5)
فضل مصاحبة الأخيار
إن من أعظم أسباب الالتزام القرناء الصالحون، ولذلك نقول: الصالحون تجدهم في المساجد وفي حلق الذكر ومجالس العلم، أما الفاسدون فأين تجدهم؟ تجدهم على القهوة أو على ساحل البحر أو في مشاهدة فيلم، وتجدهم في أماكن تجمعات الشباب الضائع على الأرصفة على أفواه الأزقة يبحثون عن الذاهبة والراجعة، وينظرون إلى العورات المكشوفة، وأحياناً تجدهم حول وسائل الإفساد المحرمة؛ كالطاولة والكتشينة والشطرنج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) أي: كأنه يضع يده في لحم خنزير ودمه، والضمنة مثل الطاولة؛ لأنه بدل ما هي مكعبة أصبحت مفرودة، فالكتشينة بدل ما هي من واحد إلى ستة أصبحت من واحد إلى عشرة، مع الصور المرسومة الأخرى المحرمة مثل الولد والشيبة والبنت والجوكر، أما الشطرنج فإنه عند جمهور العلماء محرم بالقياس على النرد بالإضافة إلى ما فيه من تماثيل وكذب، فتجد اللاعب يقول: كش ملك أي مات الملك، وهل يحصل هذا بالفعل؟! أليس هذا كله كذباً؟! فضلاً عما فيه من الآثار المدمرة للنفس، من تعظيم النفس لها وللعقل، وأنه يفهم كل شيء، لأنه يعرف كيف يلعب الشطرنج، ومن الممكن أنه لا يعرف شيئاً، فهل صاحب الشطرنج استطاع أن يخترع شيئاً جديداً؟! لا، بل حتى لا يعرف أن يخترع ألعاباً جديدة، ومن العجيب أن تسمع من يقول لك: ملوك شطرنج العالم يلعبون المباراة لساعات طويلة تصل إلى شهور وأيام، يجلسون يلعبون، فهل هؤلاء أنتجوا شيئاً لمجتمعهم؟ بل إن أوقاتهم صرفت إلى هذا اللغو الفارغ، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
فقد مدح الله المار الكريم الذي لا يشارك في اللغو فينبغي أن يكون الإنسان على حذر من هذه الأماكن؛ لأن فيها قرناء السوء، كما أنها أماكن يكثر فيها السب واللعن والبذاءة، والشتم للآباء والأمهات، وسب الدين والسكوت على ذلك، بل والضحك منه، فلو أن جماعةً مجتمعين وقام أحدهم يسب الدين وضحك الباقون فإن هذا مخرج من الملة لهم جميعاً؛ لأن هذا الذي سب دين الله سبحانه وتعالى يعلم أن الدين هو الملة، وليس في لغتنا أن الدين هو الخلق، حتى يقال: إنه إذا كان يقصد الملة كفر، وإذا كان يقصد الخلق لم يكفر؛ لأن كلمة الدين ليست مستعملة عندنا إلا بمعنى الملة، فأنت عندما تسأل: فلان هذا ما دينه؟! فهل سيقال لك: هو صادق أو كاذب؟ لا، بل يقال لك: هو يهودي أو نصراني أو مسلم، فالدين بمعنى الملة، وكذا الديانة التي يدين بها الإنسان، ولا تستعمل بمعنى الأخلاق، أو صادق الحديث، أو كاذب، أو مؤدب؛ أو غير مؤدب، أما الذين ضحكوا على ذلك فقد رضوا بهذا الكفر والعياذ بالله، وفرحوا به فخرجوا من الملة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).
كما أن هذه المجالس موجود فيها أنواع من المنكرات غالباً، ففيها شهوات النظر، وفيها شهوات الاختلاط، وفيها شهوات المخدرات، وأهونها السجائر ونحوها، فإن هذا من أعظم أسباب تدرج الشيطان بالإنسان، فالسجائر والشيشة ونحوها من أعظم المضار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
ولا خلاف أن التدخين والشيشة ونحوها من الخبائث، وأسباب الوقوع في ذلك قرناء السوء، فابتعد عنهم، وأنا على يقين أن المسلم لن يلتزم التزماً حقيقاً إلا إذا فارق قرناء السوء، فإما أن يلتزموا وإما أن تبتعد عنهم، إما أن تساعدوا بعضكم بعضاً على الالتزام، وتجروا بعضكم بعضاً إلى المسجد، وإما أن تفارقهم وتعتزلهم، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16].
فإذا لم يكن هناك وسيلة للنجاة بالنفس إلا اعتزال أهل الشر وجب اعتزالهم ولو إلى كهف، فلا يجوز لك أن تختلط بالمنكر وأنت تراه، وتسكت عليه، فإما أن تسعى في إزالته وإما أن تزول أنت عنه.(39/6)
الموسيقى من أعظم موانع الالتزام
من أعظم أسباب موانع الالتزام سماع الموسيقى المحرمة والأغاني المحرمة، فذلك يمنع فعلاً من الالتزام، وما يسمعه الناس اليوم لا نزاع في حرمته حتى بين من يجيز سماع الآلات، فـ ابن حزم يقول بجواز سماع الموسيقى، وقوله باطل مخالف للحديث، ومع ذلك فهو لا ينازع في أنه إذا أدت ذلك الغناء امرأة متبرجة كاشفة عن عورتها وكان الكلام يدعو إلى الفساد والفحش وذكر الحب والغرام والهيام، وكان ذلك بالخضوع بالقول في حضرة الرجال أن ذلك محرم ممنوع، فما ترون في أغاني اليوم؟! حتى أغاني الرجال صارت كذلك! وهذا المذهب -في حقيقته وهو جواز سماع الموسيقى- باطل مخالف لنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فجعل المعازف مقرونة بالخمر والحرير على الرجال، والحر أي الزنا، فدل ذلك على أنها من المحرمات بلا شك، وهو نص في موطن النزاع، والحديث صححه العلماء، والبخاري قد ذكره معلقاً مجزوماً به، وذكره غيره موصولاً، فهو حديث صحيح بلا شك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند نعمة، ورنة عند مصيبة) وهي النياحة، فذكر النهي عن هذين معاً، والنياحة معلوم أنها من الكبائر، فالصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء المحرم، واللهو المحرم داخل في الأصوات المنهي عنها، وهو صوت الشيطان الذي قال الله عز وجل عنه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64].
لذلك تجد هذه المجالس كلها فساد -والعياذ بالله-، ولا يختلف العلماء في تحريمها، فابتعد عن هذه الأماكن، وأنت ترى تعظيم هذه الأماكن في وسائل الإفساد من الأفلام والتمثيليات حتى يكون أمل الشباب أن يكون له مال ليذهب إلى هذه الأماكن ليفسد فيها، فيرتكب المحرمات، وربما سرق، أو تاجر في المخدرات، أو اغتصب، أو فعل المنكرات كلها من أجل أن ينال حظاً مما يراه في هذه الأماكن، فترى كل الأفلام الأجنبية لابد من مشهد البار والخمر والملهى الليلي الذي لابد أن ينالوا منه شيئاً.
فليحذر الإنسان من فتح الباب لثغر العين وثغر الأذن بالإضافة إلى ثغر الكلام؛ فاللسان قد يتكلم بالباطل ويسب ويغتاب وينم ويكذب، ويفتخر بالمنكرات والعياذ بالله، ويتحدث بها بعد أن ستره الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، فاليد والرجل من مداخل الشيطان، وشهوة البطن كذلك، فلا بد أن تأكل الحلال وتجتنب الحرام، ولا تلمس بيدك ولا تبطش ولا تتناول ما حرم الله عز وجل عليك.(39/7)
حب المال من موانع الالتزام
إن حب المال من أعظم أسباب الفساد، والحاجة إلى المال لا بد أن تكون مقيدة بما أحل الله عز وجل، واعلم أن لك رزقاً إما أن تطلبه من حلال وإما أن تطلبه من حرام، ولن يزيد طلبك للحرام رزقاً لك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم).
والمعنى: اطلبوا الرزق طلباً جميلاً، فخذ ما أحل الله لك، وابتعد عما حرم الله عز وجل عليك، واعلم أنه إذا كانت الآخرة هي النية فسوف تأتي الدنيا راغمة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصبح والآخرة نيته جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، فلا بد إذاً أن يبتعد الإنسان عن أسباب الفتنة التي تجذبه بعيداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى.(39/8)
الخوف من غير الله تعالى من موانع الالتزام
من أعظم موانع الالتزام لدى الكثيرين: الخوف من غير الله سبحانه وتعالى؛ وذلك أن العالم كله يتهم الملتزمين بأنهم متطرفون وإرهابيون، ويشيعون ذلك، ويصورون حياتهم على أنها شقاء وتعاسة فضلاً عما يعدون لهم من كيد ومكر، فيصورون لك أنك إذا أقدمت على الالتزام فلا بد أن تكون يوماًَ من الأيام من المسجونين أو من المعذبين المضطهدين، أو تصاب بأنواع البلايا والمحن التي يتعرض لها أهل الالتزام، كما أنك لن تجد عملاً ولن تجد مالاً فضلاً عن الشقاء الذي تشقي به نفسك، فتأكد أن هذا كله من الحواجز الوهمية، وعليك أن تعمق الخوف من الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الدنيا كلها كطيف أو حلم يأتيك في المنام توشك أن تستيقظ منه، فالدنيا والآخرة هي اليوم الآخر، وأنت نصيبك من الدنيا سنوات معدودة، هي من أولها إلى آخرها يوم، فكم بقي للناس على وجه الأرض؟ قد يكون الآلاف من السنين، لكن نصيبك منها ستون، أو سبعون، أو ثمانون سنة، على أن الواحد منا لو بقي إلى هذا العمر لبقي ضعيف البدن، تعتريه الأمراض، أفمن أجل هذه الدنيا تخاف الناس ولا تخاف الله عز وجل؟! قال عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
ثم تأكد أن الالتزام فيه الراحة والسكون والطمأنينة، ولو كنت حبيساً بين جدران ضيقة ففيه السعة قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فالانشراح في الصدر يغنيك عن ضيق المكان، كما أن الرضا بالله سبحانه وتعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً يذيقك حلاوة الإيمان، فالله سبحانه وتعالى يجعل لك فرجاً ومخرجاً من كل ضيق وهم، قال ابن تيمية رحمه الله: ما يفعل بي أعدائي؟! أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله، سبحان الله! وما ذاك إلا لأن الله سبحانه وتعالى جعل السعادة في طاعته، وجعل الشقاء في معصيته، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وهو سبحانه يحفظك ويحوطك ويحميك ويدفع عنك الأذى، ووالله كم جرب المؤمنون من دفع الله سبحانه الله تعالى عنهم وحمايته لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) فإذا حفظت حدود الله حفظك الله عز وجل، ونفعك ورزقك من فضله، فالأرزاق بيد الله لا بيد الناس، وإذا اتقيت الله جعل لك مخرجاً، قال الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]، وقال سبحانه في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً).
إذاً: ما يخوفونك به من دون الله تذكر له قول الله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36].
واعلم أن من خاف غير الله فقد أضله الله، فلا تخف غير الله، فالخلق لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، فالسعادة كل السعادة في طاعة الله، والرزق في تقواه، والسعة والسكينة في ذكره عز وجل، قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فهذه أمور في كتاب الله مجربة بالفعل، فسعادة الإنسان حين يقترب من الله عز وجل لا تدانيها سعادة، فتأكد من ذلك، وأقدم فقد سبقك سابقون إلى الله عز وجل، ومضوا، فادع الله أن يجعلك معهم.
اللهم اهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت.(39/9)
من موانع الالتزام نهي الوالدين عنه
من موانع الالتزام عند الكثيرين: من يأمره بعدم الالتزام ممن له عليه حق الطاعة، كالأب والأم وأقاربه، وأساتذته، فكل من حوله يقول له: لا تلتزم، سوف تضيع، ابتعد عن هؤلاء، ومن العجيب عندهم أنه لو ذهب إلى أماكن الفساد والفجور، لو زنى، أو شرب الخمر؛ لكان أهون عليهم من أن يذهب إلى المسجد! وهذا من انتكاس القلوب والعياذ بالله، ومن فساد التصور، ومن العقيدة المضلة التي أضلهم بها إبليس.
فنقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال عز وجل عن الوالدين وهما من أعظم الناس حقاً على الإنسان بعد ربه عز وجل وبعد النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
وهذا هو السبيل الذي يجب أن تسلكه، فأحسن إليهما في غير معصية الله، واقض لهما حاجتهما في غير معصية الله، حتى تكون أحب إليهما من كل أحد غيرك، ووالله أن ذلك سوف يخفف من مقاومتهما لالتزامك، وليكن قصة غلام أصحاب الأخدود أسوة حسنة لك، فقد كان يضربه الساحر إذا تأخر عند الراهب، وإذا تأخر في طريق عودته ضربه أهله، فقال له الراهب حلاً للمشكلة: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، على أنه كان حريصاً على طلب العلم والذهاب إلى الرفقة الصالحة، مع أنه يضرب ويؤذى ويعذب، ومع ذلك كله كان حريصاً على الالتزام والسير في طريق الخير.
فأحسن إلى من حولك من الوالدين والجيران والأقارب، وسوف تكون أحب إليهم من كل أحد، واعلم أن المحبة بيد الله عز وجل، فإذا أحبك الله أحبك أهل السماء وأحبك أهل الأرض بتوفيقه عز وجل، وأنا أعلم والله رجالاً ونساء كانوا يشتكون من أبنائهم أو بناتهم الذين يلتزمون، فلا يريدون أن تنتقب الفتاة، ولا أن يلتحي الولد، ولا أن يسلكوا طريق الالتزام، فيقولون لهم: كفاكم أنكم تصلون، وأنا لا أقول لك: لا تصل، ولا تصم، بل صم وصل، ولكن ابتعد عن هؤلاء، وهم عندما يأتون يتصورون أن طاعة الأب والأم مقدمة على طاعة الله عز وجل، فيظنون أني سآمرهم: أن يحلقوا لحاهم مثلاً، أو أن تترك المرأة حجابها، فيستفتون في ذلك، فآخذ الأب أو الأم بعيداً عن هذا الولد، بعد أن أنصحه بمزيد البر فيما لا يخالف الالتزام، فأقول: للأب: أي أولادك أحب إليك؟ فيقول: فلان أو فلانة، الولد الملتزم أو البنت الملتزمة، فإذا هو أكثر محبة له على الرغم من أنه يشدد عليه وعليها أكثر من باقي الإخوة والأخوات؛ لأن المحبة بيد الله، وفي الحديث (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، فلا تجعل المنزل حجة، بل اجتهد في أن تكسب هذا المنزل، وأكثر من الدعاء لهم والتضرع لله سبحانه وتعالى.
فهذه بعض المعاني التي أحببنا أن نشير إليها من موانع الالتزام عند الكثيرين، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لنا تقصيرنا وذنوبنا.(39/10)
نحن أولى بموسى منهم
المؤمنون أمة واحدة، وتاريخهم واحد، ولذا يفرحون بانتصار المؤمنين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة، فالمؤمنون عندما يصومون عاشوراء، إنما يصومونه حباً لنبي الله موسى عليه السلام؛ إذ نجاه الله تعالى من فرعون وقومه.
وقصة موسى من القصص التي كثر ذكرها في القرآن عبرة للمؤمنين، ومؤشرات لهم بأن الله ناصر عباده المؤمنين في كل زمان ومكان، وأنه لا يأس ولا قنوط من نصر الله ورحمته، وإن كثر الباطل وانتشر، وعلا الباطل واستكبر؛ فإن نهايته حتمية ووخيمة.(40/1)
الإيمان بالأنبياء شرط في الإيمان بالله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد جعل الله عز وجل الإيمان بالأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين شرطاً في الإيمان بالله، فلا يقبل الله سبحانه وتعالى من عبد إيمانه بالله إلا إذا آمن بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وخاصة خاتمهم صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله عز وجل سراجاً منيراً، وكذلك جعل كلاً من هؤلاء الأنبياء سراجاً ينير للناس الطريق، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من قصصهم ما ثبت به فؤاده، وجعلها موعظة وذكرى للمؤمنين، فقد كانت سيرتهم سبباً لثبات المؤمنين على الحق، وسبباً لصبرهم، وسبباً لاستبصارهم سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه.
وحب الأنبياء فرض على كل مؤمن، فلا يحصل الإيمان للإنسان إلا بتصديقهم ومحبتهم، وهذا هو أعظم دافع للاقتداء بهم، والسير على طريقهم، فحبهم جميعاً فرض متلازم، ولا يصح حب واحد منهم حباً شرعياً مقبولاً إلا بحب جميعهم، والمؤمنون أولى بكل الأنبياء من كل الأمم، فهم أقرب إلى الأنبياء بصفاتهم وأعمالهم، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء، فلما علم أن اليهود تصومه لأنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه قال: (نحن أولى بموسى منهم)، فصامه وأمر الناس بصيامه، وكان فريضة في أول الإسلام شكراً لنعمة الله سبحانه وتعالى على نجاة موسى، وهلاك فرعون بفضله عز وجل.
فالمؤمنون أمة واحدة، تاريخهم تاريخ واحد، وربهم سبحانه وتعالى رب واحد، ولذا يفرحون بانتصار المؤمنين رغم تباعد الأزمنة والأمكنة، ورغم اختلاف الأجناس واللغات، ورغم اختلاف الأنساب والهيئات لكنهم على دين واحد، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى).
فقوله: (إخوة لعلات) هذا تشبيه لهم بالإخوة من أب واحد وأمهات مختلفة، وذلك أن الشرائع قد تختلف بعض الاختلاف، ولكن الملة واحدة، والدين واحد، والعقيدة واحدة، وهذه الأمة الواحدة لا بد أن تستحضر في كل وقت وحدتها زماناً ومكاناً؛ وذلك لأن الأعداء يتربصون بنا إرادة تمزيق وحدة الأمة، وتفريق أبنائها؛ لكي يتمكنوا منها، ولا يحصل الخير لأهل الإسلام إلا بتذكر معنى الاجتماع على دين الله سبحانه وتعالى.
فرغم اختلاف الألوان والألسن، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فنحن أولى بموسى، وحين نصوم عاشوراء فإننا نصومه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاءً للأجر عند الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوم يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية) وهو يوم العاشر من محرم، ونحن حين نصومه امتثالاً وابتغاءً للثواب نتذكر أولويتنا بموسى عليه السلام ولا شك أننا أولى بموسى من اليهود؛ فإن اليهود برآء من موسى وعيسى ومن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما هم عليهم من الكفر والعناد، ونحن أولى بموسى منهم وأقرب، ولكن نريد أن نقترب بالصفات والأخلاق والدعوة إلى الله، وفهم سنة هؤلاء الأنبياء، كما ذكرها الله عز وجل في القرآن.
ونتذكر كذلك معنى الانفصال عن الكفار ومفارقتهم في كيفية أداء العبادة حتى وإن كان أصلها مشروعاً.(40/2)
سن موسى عليه السلام لصوم يوم عاشوراء
موسى هو الذي سن صيام عاشوراء، كما قالوا: إنه يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله.
فموسى هو الذي سن ذلك الصيام، ونحن نصومه، ولكننا نخالفهم من أجل استقلال شخصية المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) وأمر صلى الله عليه وسلم استحباباً بصيام يوم قبله أو يوم بعده، وفي بعض الروايات: (أمر بصيام يوم قبله ويوم بعده) بالواو، حتى يكون هذا أكمل في المخالفة، وتحصيل الثواب، وتذكر نعمة الله عز وجل.(40/3)
أسباب شفاء القلوب وتفريج الهموم
من أعظم أسباب شفاء القلوب: القرآن، وذلك أن أهل الإيمان تقع لهم في مسيرهم إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من العقبات، وأنواع من المشكلات، وأنواع من الابتلاءات، والقرآن شفاء لما في الصدور، وهو قرة العين لمن تدبره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقولوا في الدعاء: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي)، وهذا لا يحصل للعبد إلا بتدبر القرآن والوقوف معه.
ومن أعظم أسباب زوال الهم عن المؤمن وحصول الفرح له تلاوته لآيات الله التي تحكي انتصار الأنبياء، وانتصار دعوة الحق، وهلاك دعوة الباطل، حيث إن الباطل في عهد موسى بقي مدة طويلة، فقد بقي فرعون سنين طويلة وهو يصد عن سبيل الله، ويبارز الله بالمحاربة، ولكن أين فرعون الآن؟ وكيف كانت نهايته بعد طول المدة؟ فقد صار حديثاً يذكر، وجعل الله عز وجل فرعون وهامان وجنودهما وسائر الأمم المكذبة أحاديث، وبقي الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأشرقت أنوار قلوبهم على البشرية بفضل الله عز وجل عبر العصور، فيصل من نور هذه القلوب بما أفاض الله عليها لكل إنسان آمن بهم على قدر إيمانه، وعلى قدر معرفته بكتاب الله، فيزول عنه الغم والهم، وحين يعيش الإنسان مع القرآن يعيش كأنه يحضر تلك اللحظات التي انتصر فيها الحق، والتي زهق فيها الباطل وحزبه وانقلبوا فيها صاغرين، وآلوا إلى المآل الذي قدره الله لهم خاسئين، وصاروا أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وذلك وحده سبب مفرح لقلب المؤمن، وهذا من فضل الله ورحمته، كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وحين تستحضر قصص أنبياء الله، وتستحضر ظهورهم وانتصارهم وهلاك الباطل، ترى أن مدة بقاء الظالمين وجيزة توشك أن تنتهي كما انتهى فرعون وجنده، وكما انتهى كل ظالم قبل ذلك، وبقي الحق بفضل الله، وخصوصاً إذا تأملت طريقة القرآن في بيان تلك اللحظات بمساحة واسعة في القرآن العظيم، فلحظات انتصار الحق تبجل وتفخم وتذكر بالتفصيل التام بفضل الله عز وجل؛ لتستحضر تلك اللحظات وكأنها تشهدها، وحين تسمع مواعظ القرآن تنتفع أعظم الانتفاع بها، والله المستعان.
وقصة موسى صلى الله عليه وسلم هي أكثر قصة ذكرت في القرآن على الإطلاق، فقد كررت في مواضع مختلفة، وفي أجزاء متعددة وسور مختلفة، وفي كل منها مواقف مختلفة يذكر الله عز وجل فيها خلجات النفوس، والخواطر والأحاسيس المختلفة، والتقلبات التي تتقلب فيها القلوب بأسلوب لا نظير له على الإطلاق، وبتكرار عجيب الشأن يجعل العبد ينتبه إلى أدق التفاصيل، ويجعله يتدبر حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا تدبر الإنسان القرآن وجده شفاءً لما في الصدور، وسبباً لفرحها وذهاب غمومها وأحزانها، وسبباً للصبر والثبات، وللاتعاظ والتذكر، فزيادة الإيمان تكون بحب الأنبياء واتباعهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين.
إن الله سبحانه وتعالى قد جمع في قلب محمد صلى الله عليه وسلم أنواع الأعمال والصفات الرائعة الجميلة، التي هي في الحقيقة خلاصة أخلاق الأنبياء جميعاً، وأفاض سبحانه وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم وهذا النور؛ لكي يستضيء به أهل الإسلام، ويعرفوا نعمة ربهم بهذا القرآن العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الكبرى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معجزة باقية خالدة لكل من تدبرها وتأملها، فلا يوجد كتاب في الوجود مثله بفضل الله سبحانه وتعالى.(40/4)
ذكر بعض الآيات التي ذكرت قصة موسى
ومن هذه الآيات البينات والسور التي ذكر الله فيها قصة موسى صلى الله عليه وسلم: سورة يونس، حيث قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:75 - 92].
فيخبر الله سبحانه وتعالى أنه بعث موسى عليه السلام من بعد الأمم الذين أرسل إليهم أنبياءه فكذبوهم فأهلكهم الله، فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح، وذكر سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله السابقين في سور مختلفة، بين عز وجل أنه أرسل موسى وأخاه هارون بآياته المقروءة المسموعة وآياته المرئية المبصرة المحسوسة، وأرسله الله بالآيات العقلية الواضحة والآيات النقلية الدامغة، ومن لم ينتفع بالآيات المقروءة التي تتضمن أحسن الآيات العقلية والحجج الواضحة لم ينتفع بالآيات المحسوسة والمعجزات الباهرة الظاهرة؛ وذلك لأن التكذيب داء في المستكبرين، لا ينفع معه إلا أن يتركوا إعجابهم بأنفسهم؛ وتكبرهم على الحق، فإن لم يأخذوا بالدواء فلن ينتفعوا بالآيات، قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].(40/5)
سبب كفر قوم موسى وتكذيبهم له
أرسل الله موسى وهارون بآياته إلى فرعون وملئه وكبراء قومه، الذين قادوا قومهم إلى دار البوار والعياذ بالله، وهؤلاء كما وصفهم الله كانوا مستكبرين، قال تعالى: ((فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ))، والكبر داء الأمم، وداء الكبراء المقدمين في الأمم والملوك والرؤساء والزعماء إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وهذا الداء الذي هو داء إبليس في الأصل هو الذي أوصلهم إلى رد الحق الذي جاءت به الرسل، كما رد شيخهم إبليس أمر الله عز وجل بالسجود لآدم؛ لما كان في قلبه من الكبر والعجب بالنفس نعوذ بالله من ذلك.
ومرض الكبر من أخطر الأمراض، فمثقال ذرة منه على الخلق يمنع من دخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فإذا كان مثقال ذرة منه يعد كبيرة من الكبائر، فكيف إذا تكبر على أمر الله عز وجل وشرعه وأبى أن يقبله ويمتثل له؟! فالإباء والاستكبار على شرع الله كفر والعياذ بالله وردة عن الإيمان لو كان موجوداً قبل ذلك، ولذلك كان هذا المرض مرضاً عضالاً والعياذ بالله، خصوصاً إذا تمكن من القلب واستشرى في الملأ.
وسبب الكبر: هو النظر إلى كمالات النفس الموهومة، حيث يتوهم أنه خير من غيره، قال الله عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] وسببه: الغفلة عن عيوب النفس وأمراضها التي تمتلئ بها.(40/6)
واجب المؤمن نحو داء الكبر
والمؤمن دائماً ينظر إلى عيوب نفسه، وينظر إلى تقصيره وجهله، وينظر إلى عجزه وفقره، ولا ينظر إلى كمالات يتوهمها، فلو أن الله عز وجل ذكره ومدحه وهو الذي مَدْحُه زين وذمه شين- لكان عليه أن يقابل ذلك بمعرفة تقصيره وظلمه وعجزه وفقره، كما قال الله لخير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فكان يقول عليه الصلاة والسلام في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، أو لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك).
وعلم خير أصحابه وخير أمته أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، وهو الذي يثني عليه ويقول: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وهو الذي يقول عنه: (إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر) ومع ذلك يعلمه هذا الدعاء.
وهكذا المؤمن فهو يبتعد دائماً عن أن يفكر في كمالات نفسه، حتى لو أن الله هو الذي ذكره بذلك، وهذا لا يعني أنه لا يشهد ما أنعم الله به عليه، بل يشهده محض فضل منه عز وجل، وتشهده نعمة منه سبحانه وتعالى ليس لنفسه شيء من ذلك، وما بها من خير وكمال فمن الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بك وإليك)، فبالله عز وجل وصل إلى ما وصل من المراتب العالية؛ فكيف بمن لم يذكره الله عز وجل؟ وكيف بمن لم يزكه نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف بمن وقع في الصفات المذمومة؟ فكل منا لابد أن يحذر على نفسه من أن يعجب بها أو ينظر إلى كمالاتها، أو يتوهم لها كمالات وخيرية على غيره، مما يؤدي إلى ذلك المرض الذي يبدأ أولاً على الناس ثم يصل بالإنسان إلى أن يتكبر على أمر الله، فالكبر المعصية ذريعة إلى الكبر الذي هو كفر وشرك بالله عز وجل، وأكثر الأمم أشركوا بسبب الكبر الذي بدأ صغيراً في القلوب، -وما هو بصغير- ثم تحول إلى الأكبر وهو الكفر والعياذ بالله، {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133] والإجرام هنا: يتحصل بالإفساد في الأرض والصد عن سبيل الله، وإن كان فرعون يزعم أنه مصلح كما قال عن موسى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].(40/7)
أسباب اختلاف الموازين وانطماس الفطر
والعجب أن الموازين تختلف اختلافاً هائلاً في أعين الناس حتى إنهم يرون الإجرام إصلاحاً، ويرون الظلم عدلاً، ويرون العدل ظلماً وطغياناً وإرهاباً وتطرفاً وغير ذلك مما تختلط به موازين البشر؛ وهذا لإعراضهم عن شرع الله، وعدم النظر في آياته، وعدم وزنهم الأمور بميزان الشرع الذي أنزله الله، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76].
فالقوم يتعاطون السحر، والسحرة عندهم مقربون مقدمون، ولذلك وجد فرعون السبيل -فيما يظن- إلى معارضة ما جاء به موسى بأن يأتي بسحر مثله، ووعد السحرة بالأجرة، بل كان يكرههم على تعلم السحر، كما في قوله عز وجل عن السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، ولا شك أن هذا الأمر منهم -وهو اتهام موسى عليه السلام بأن ما جاء به من الحق سحر مبين- يدل على انقلاب فطرتهم، فهم يعلمون أن السحر أمر مذموم، ومع ذلك يستعملونه ويكرهون الناس عليه.
وهم يتهمون موسى بأنه ساحر، وأن ما جاء به سحر؛ مع ما في قلوبهم من أن السحر أمر مذموم وقبيح، كما قالوا عنه: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:24] فيتهمونه بالكذب وهم أكذب الناس، ولم يعرف أكذب من فرعون فقد ادعى أنه الرب الإله، بل قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ومع أن الكذب في قلوب البشر قبيح إلا أن أكثرهم يستعمله، فتجد عجباً في نفوس البشر يعرفون الحق ويعرضون عنه إعراضاً تاماً، ويعرفون الباطل ويستعملونه بكل طاقة لهم، وهذا دليل على أنهم ما انتفعوا بما بقي في فطرتهم؛ لانطماس نور البصيرة عندهم، حتى استعملوا الأدواء القاتلة، والأمراض المهلكة، وخاضوا بالباطل وهم يعلمون أنه باطل، قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:76 - 77]، أي: أتقولون للحق لما جاءكم: سحر؟! {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:77].(40/8)
حقيقة السحر وأنواعه
والسحر أصله: ما خفي ولطف، فكل شيء باطل يدخل إلى القلوب أو الأعين بطريقة خفية غير ظاهرة هو من السحر، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) أي: أن بعض الناس بطريقته البليغة وكلامه المنمق يلبس على الناس الباطل، حتى يظنونه حقاً أو يجعلهم يرون الحق باطلاً فهذا نوع من أنواع السحر، ومن ذلك النميمة بين الناس، فالنميمة تفعل فعل السحر، ومن ذلك وسائل الإفساد التي تقلب أنظار الناس حتى تجعلهم يرون الظالم مظلوماً محقاً فيما يفعل، ويرون المظلوم مجرماً مرتكباً لما لا ينبغي أن يفعله، بل ينبغي أن يستسلم استسلاماً تاماً للذبح والظلم والعدوان الذي يقع عليه، فأنت تجد اليهود أعداء الرسل جميعاً لهم أعظم الباع وأكبره في ذلك، بل مسخوا أنظار أكثر العالم حتى جعلوا العالم يرونهم مظلومين مضطهدين في وسط وحوش كاسرة، والعجب أنهم الذين يتصفون بهذه الصفات القبيحة.
والحق أن كل منافق له نصيب من هذه الآية: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، إذا استعمل الخفية في إبطال الحق وإحقاق الباطل، أو استعمل سحره وبيانه في أن يلبس على الناس حتى يبعدهم عن الإسلام والالتزام بدين الله عز وجل تحت أي مسمى من المسميات.
وأكثر الناس يقبلون السحر، فكان في الماضي بالحبال والعصي، وأما في زماننا فهو أخطر، فقد ظهر بوسائل تغيير العقول عن طريق تعليمها الباطل وغرس حبه في القلوب، وأن تعيش في هذه الدنيا حياة البهائم السائمة لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أشرب من هواها، وأنت ترى آثار السحر المعاصر في المشارق والمغارب تملأ السهل والوادي، حتى صارت أكثر البشرية لا تعرف من الدنيا إلا الطعام والشراب والشهوة، وإلا الكبر والعلو في الأرض والفساد، نعوذ بالله من ذلك، وكل ذلك بسبب هذا السحر الخفي، ولكن لا بد لهم أن ينالوا نصيبهم من هذه القاعدة الكلية: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، فلا بد أن يخيبوا ويخسروا، وكلما ساروا في طريق حصلت لهم عكس النتائج المرجوة، فمدة من الزمن يظهرون، ثم بعد ذلك يخفت سلطانهم ويذهب باطلهم هباءً منثوراً؛ لأن الله قضى قضية عدل: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، فقضى بحكمه سبحانه وهو العليم الحكيم أن الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، أقول قولي هذا وأستغفر الله.(40/9)
شبهة فرعون وقومه في عدم الإيمان بموسى
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فقد قال الله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]، فلو كان فرعون يبتغي الحق -كما يزعم- فلماذا يستعمل الباطل الذي يتهم موسى به، وصار يأتي بالسحرة من كل أرجاء مملكته، فأتته رسله وأتوه بكل سحار عليم.
فالسحار: هو المبالغ في السحر، فأتوه بكل من يحسن السحر، بالسحرة المبالغين والأساتذة الكبار الذين يحسنون أنواعاً لا يحسنها غيرهم، وبالتلاميذ كذلك، وبالدرجة الثانية من السحرة طالما كان عندهم علم، فأتوا بالألوف لمواجهة رجلين اثنين أحدهما تبع للآخر، وموسى عليه السلام هو الذي يستعمل آيات الله عز وجل ويلقيها على الناس.
قال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80] أي: حين جمع الناس يوم الزينة ضحى، واجتمع الآلاف من القوم ينظرون، جاء فرعون في ملئه وأبهته ومعه آلاف السحرة من حوله، وواجههم موسى عليه السلام بعد أن نصحهم وذكرهم بالله عز وجل وقال: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:61 - 63].
فبين سبحانه وتعالى أن موسى عليه السلام قال لهم: ((أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ)) وذلك بعد أن ذكر سبحانه وتعالى من شبهات قوم فرعون.
كما في قوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] وكانت هذه من شبهاتهم الباطلة، فهم يزعمون أنهم على الحق.(40/10)
أعظم أسباب الهلاك تقليد الآباء والأجداد
من أعظم شبهات أهل الباطل أن الحق يأتي مخالفاً لما عليه الأجداد والآباء، ومخالفاً للتقاليد والعادات الاجتماعية التي نشئوا عليها، وهذا من أكبر أسباب قبول الناس للباطل، كما قال عز وجل: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:109].
وقال سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43].
وكان سبب هلاك أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره على الكفر هذه الشبهة، إذ قال له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله مع علمه بأنها الحق، لكن التقليد الأعمى من أعظم أسباب هلاك الأمم.
وهذه تهمة لا ينفيها أهل الإسلام حين يتهمون بها ولا يقولون: نحن لا نريد أن نبدل الأديان الباطلة التي أنتم عليها، بل يقولون: نحن نريد أن نبدل أديان الباطل، ونريد أن نصرف الناس عما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والشرك، ولذلك لم تجد أن موسى صلى الله عليه وسلم رد هذه التهمة التي ليست بتهمة أصلاً، وإنما هي إثبات نزاهته وطهارة دعوته ونقائها بحمد الله تبارك وتعالى، وأما التهم الأخرى فهي التي ردها موسى كما رد تهمة السحر والكذب، وكذا تهمة التكبر، ((وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)) فهم يظنون أن الناس كلهم مثلهم، والحقيقة أنهم هم الذين يريدون الكبرياء في الأرض، ومع ذلك يتهمون موسى بذلك، فلو كان هذا أمراً منكراً -وهو كذلك- فلماذا تقبلونه على أنفسكم؟ ولماذا تريدون أنتم الكبرياء في الأرض؟! فأنتم تتهمون موسى بأنه يريد الرئاسة، وبأنه يحب الكبر في الأرض، وهذه تهمة يتهم بها الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل والعلماء، فيقول عنهم أهل الكبر: أنتم تريدون الكبر، وأنتم تريدون الرئاسة على الناس، وتحبون الشهرة، وهذا في الحقيقة من دائهم وجهلهم، وهم يعلمون أن هذا أمر قبيح ومع ذلك يستعملونه، ويصرون على الملك والرئاسة، ولا يقبلون أن ينازعهم أحد ذرة في كبريائهم وملكهم ورئاستهم، مع أنهم يعلمون أنه منكر.
سبحان الله! كيف يقول هؤلاء: إن موسى عليه السلام يريد الرئاسة والملك، وموسى عليه السلام ما طلب منهم أن يتركوا ملكهم ورئاستهم وإنما دعاهم إلى الإيمان وأن يتركوا بني إسرائيل؟! فكيف يتهم بذلك؟! فهذه تهمة إذا اتهم بها أهل الإيمان لم يحزنهم ذلك، لكن لهم أن يردوها ويقولون: إننا لا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، ولا نريد أن نكون الكبراء والملوك والرؤساء وإنما نريد أن يعبد الناس ربهم، وأن نعبد الله عز وجل وندعو إليه، فمن خلى بيننا وبين ذلك فهذا سبيلنا الذي نسلكه ولا نريد غير ذلك، ولا نريد إلا أن يعلو الإسلام، فمن أعلى كلمة الإسلام فنحن تبع له، فلا نشترط أن تكون لنا الكبرياء أو الرئاسة، ولا نريدها أصلاً، وإنما يفر منها أهل الإيمان ويرونها ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة الإمارة، ومن سأل الإمارة وطلبها لم يجب إليها ولم يعن عليها وكانت وبالاً عليه، فهم لا يطلبون ذلك، ويبرءون أنفسهم من ذلك، بل ويحذرون على أنفسهم من ذلك.(40/11)
قوة توكل موسى بالله وثقته بنصره
قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:78 - 80]، وكان هذا الأمر لموسى كما ذكرنا في هذا الملأ العظيم وهذا الجمع الكبير استهانة بباطلهم وثقة بالله عز وجل: ((أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))؛ لأنه لا يعبأ بهم، ولا يخشى ما في أيديهم من الباطل المزخرف.
قال سبحانه: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] ولم ينسوا أن ينسبوا أمرهم إلى فرعون وتوجيهاته وأمره وعزته التي سوف يغلبون بها، وكما قال الله عز وجل حين ألقوا: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فوصفه الله بأنه سحر عظيم، وموسى عليه السلام من ضمن من وقع في عينيه ذلك السحر، قال سبحانه وتعالى في ذكر ما وقع لموسى عليه السلام: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، فخيل إلى موسى أنها تسعى بالفعل، فكان تأثير السحر هائلاً على أعين الناس بمن فيهم موسى عليه السلام، حتى وقع في نفس موسى ما يقع في نفس البشر، وأوجس في نفسه خيفة موسى لحظة لا تتجاوز ثواني معدودة أو أقل من ذلك، لكنها سرعان ما تزول بالتوكل على الله وتثبيته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68]، وهذه الخواطر كالبرق تقع وتذهب بسرعة في قلوب الأنبياء، وربما طالت في قلوب بعض الأولياء مدة هذه الهواجس، وربما طالت في قلوب المقصرين مدة أطول من الوساوس، وإن كان الكل يدفع ذلك باللجوء إلى الله، وباستحضار آيات الله، فمن معه آيات الله فهو الأعلى، ويذهب الله عز وجل ما في قلبه.
لقد خشي موسى أن يلتبس الأمر على الناس، وأن يقبلوا ذلك الباطل كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:67 - 69]، هنا تغير ما في نفس موسى، فقد بين الله في سورة (طه) هذه الخلجات النفسية، وبين في سورة يونس قبل أن يلقي ما قاله بعد أن ثبته الله، فقال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82].
وبين في سورة الأعراف ما تلا ذلك من إلقاء موسى، من ذهول السحرة وفرعون وملئه عندما وجدوا عصا موسى قد تحولت إلى الثعبان العظيم، قال عز وجل: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:117 - 122].(40/12)
المبشرات لأهل الإيمان من قصة موسى مع فرعون وقومه
فأنت تجد المواقف في سور مختلفة أجزاءً مختلفة من القصة في سياق عجيب، وتجتمع الآيات والسور كلها فإذا بالصورة كاملة أمامك لحظة بلحظة، وإن كان في موضع يذكر ما لم يذكر في الموضع الآخر.
((قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ)) أي: ما جئتم به هو السحر، ((إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)) أي: يبطل الله كل سحر وباطل، وهذا أمر الله يثبت به أهل الإيمان، فكلما رأوا الباطل منتفشاً منتشراً تيقنوا بأن الله هو الذي يتولى إبطاله، ((إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ))؛ لأنه فساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
وهناك قضايا كلية ليست مرتبطة بزمان ولا مكان ولا أشخاص، منها: أن كل مفسد لابد أن يحبط الله عمله، ولا يصلحه أبداً، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)).
فعلى أهل الإيمان أن يطمئنوا ويستبشروا لكل هذه المؤشرات من كلام موسى عليه السلام، فإن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكل مفسد في الأرض لابد أن ينتهي مكرهاً إلى بوار، قال تعالى: ((وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ))، وكلما كانت معنا كلمات الله المقروءة المسموعة فهي أعظم أثراً من المحسوسة، وهي أشمل وأنفع للعباد من الآيات والمعجزات الحسية، فكلما كانت معنا كلمات الله كان انتصار الحق أقرب بإذن الله، كما أن الله يحق الحق بكلماته الكونية، قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فيضمحل الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، فالمجرمون يكرهون الحق، ويكرهون ظهوره، ويعدون العدد لإبطاله ومحقه، لكن الله عز وجل مظهر دينه ولو كرهوا ظهور هذا الدين، فهذه كلها بشارات لأهل الإسلام، وقد وقع ذلك في الأنبياء السابقين، ووقع عبر التاريخ في مواطن مختلفة، ويقع بإذن الله في المستقبل، فيظهر الله دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بكلماته، وما أمره سبحانه إلا واحدة كلمح بالبصر، كما قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] أي: مرة واحدة، {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، لا تحتاج إلى تثنية، فلا يقول الله: كن مثلاً للأمر، كما يحتاج العبد أن يكرر الأمر لينفذ أو يكرر التجربة لتتم، بل أمر الله مرة واحدة، إذا أمر نفذ، فبأمره تعالى خرجت أرواح، واستقرت أرواح أخرى، علت أقوام، وانخفضت أقوام أخرى، بطلت كلمات، وبقيت كلمات أخرى وهكذا بكلمة (كن) فيكون سبحانه وبحمده.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(40/13)
نداء إلى الأخوة ماذا بعد رمضان
إنَّ رمضان موسم للطاعة والعبادة، وموسم للإكثار من قيام الليل وقراءة القرآن، فهذا الشهر نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى علينا؛ لذلك لا بد في هذا الموسم من استمرار ومداومة على الطاعة، وتوجد وسائل تساعد على هذا الاستمرار وعلى هذه المداومة تكفل للمسلم أن يرضي ربه دائماً في رمضان وغيره، وتجعله عالماً بأمور دينه ودنياه، لابد للمسلم البحث عنها والتحلي بها.(41/1)
حال الصائم بعد رمضان
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185].
نعم هي نعمة تحتاج إلى شكر، نحمد الله سبحانه وتعالى كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وله الحمد كما يقول، وخيراً مما نقول، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
الحمد لله الذي بلغنا رمضان، وأتم علينا نعمته بصيامه وبقيامه وبالاعتكاف في العشر الأواخر منه، وتلاوة كتابه عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى إتمام هذه النعم كلها بالقبول والمغفرة والعتق من النيران.
ومن أراد أن يعلم هل قبل صومه وصلاته وقيامه ودعاؤه فلينظر في حاله بعد رمضان، فإن الله شرع الصيام للتقوى، ولا شك أننا كنا في حاجة شديدة إلى هذه الروعة الإيمانية من العبادة والذكر، ونسأله عز وجل أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم.
ونحن بحاجة إلى تذكر أمر الآخرة والخوف من الله عز وجل ورجاء رحمته، والتلذذ بمحبته سبحانه وتعالى والشوق إلى لقائه عز وجل، كل هذا من بعض النور الذي يفيض على القلب من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن ذكره عز وجل.
الله سبحانه وتعالى إذا أنعم على عبد نعمة فشكرها زاده الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر ليس فقط تحريك اللسان بالحمد والثناء ولكنه شهود القلب للنعمة مع تعظيمها ومحبة المنعم بها، وتعظيمه عز وجل، وأنها محض فضله وجوده وكرمه، ثم التعبير عن ذلك باللسان بالحمد، ثم تصريف هذه النعمة في مرضاة الله، فمن أراد أن يعلم هل قبل صومه فلينظر في تقواه بعد رمضان هل صار أتقى لله عز وجل؟ وليستغل هذه الفرصة من العزيمة التي من الله عز وجل بها عليه، في الصلاة وفي القراءة وفي الصوم، ولا شك أنها عزيمة طيبة تحتاج إلى استمرار، فالإنسان سرعان ما تفتر عزائمه إذا تركها، وخلال الأيام القادمة سوف تبدأ المعركة الحقيقية، سوف تبدأ المعركة مع الشياطين التي تنتظر الانطلاق، فهل أخذنا العدة لذلك وعزمنا على المقاومة؟ وهنا تظهر نتيجة هذه الفترة للاستعداد ونحن نأخذ من رمضان بفضل الله عز وجل زاداً لما بعده، وحتى نتقوى به على عدونا، وعلى النفس الأمارة بالسوء، وعلى الشيطان وشياطين الإنس الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.(41/2)
خطوات المحافظة والاستمرار على الطاعة بعد رمضان
هذه خطوات أساسية نحددها كي نجتهد في المحافظة والاستمرار بعد رمضان في تحقيق الالتزام.(41/3)
الصلة بالله تعالى
النقطة الأولى: الصلة بالله تعالى: الصلة بالله سبحانه وتعالى، والاهتمام بحال القلب على الدوام، ودوام التذكير بالآخرة، واستحضار معاني أسماء الله وصفاته، والدعاء الدائم بأن يذوق العبد حلاوة الإيمان والشوق إلى لقاء الله، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
والصلة بالله عز وجل هي الالتزام الحقيقي، وكما ذكرنا من قبل أن العبادات هي الأوعية لهذه الأحوال القلبية، وإذا أتيت بوعاء يمكن أن تأخذ ما ينفعك، فإنك حين تأتي بوعاء وتقف بالباب، تطرق الباب وتستسقي حتى يفيض الرب عز وجل عليك من خلال عبادتك، من خلال هذا الوعاء دعاء أعمال القلوب الواجبة والمستحبة من الحب والخوف والرجاء، وإذا لم تأت بوعاء فلن تستطيع أن تأخذ هذه العطايا، أو أن تأخذ هذا الغذاء، ولو أن شخصاً لا يصلي ولا يصوم ولا يقوم الليل فهو لا يحب الله، وليس لديه شوق إلى الله عز وجل، ولا خوف منه سبحانه، فهذه نقطة لابد منها.
وكذلك ليس كل من أتى بوعاء يأتي بوعاء صالح، فهناك من يأتي بوعاء مصمت لا روح فيه، ولا يحتمل أن ينزل فيه خير، فاحذر أن تكون عبادتك من ضمن العادات تؤديها بلا روح، بلا خشوع، ولا استحضار لما شرعت له.
ثم لا تستعجل ولا تيئس ولا تطلب العطية لمجرد الوقوف بالباب، لا بد أن تقف بالباب وتدقه وتلح في السؤال، وتسأل الله أن يمن عليك بفضله، ولا تتوقف عن هذا، والعبد قلبه دائماً يتقلب فلا يستقر قلبه على حال، فهو يحتاج إلى تثبيت دائم ودعاء مستمر أن يثبت الله عز وجل قلبه على الهدى، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، نسأله الهدى والسداد واليقين والعافية، نسأله أن ينور قلوبنا جميعاً بطاعته، وأن يذيقنا لذيذ محبته، وأن يوفقنا سبحانه وتعالى لما يحبه ويرضاه.
هذا الأمر الأول وهو جزء معظمه شأن شخصي، وهو سر بينك وبين الله عز وجل، ولا يشرع أن يكون الإنسان على الدوام في الجماعة، فالعمل الجماعي يشغل الإنسان عن أشياء كثيرة جداً، يشغله في التفاته إلى الآخرين حوله، وعلاقته بهم، وهو يحتاج بلا شك إلى العمل الجماعي، لكن هذه المسألة معظمها شخصية، وأحياناً لا بأس من الاجتماع ولكن إذا كان بدون ترتيب وبدون تحديد يوم معين مثلاً فإن هذا ليس من السنة، ولكن العمل الشخصي للإنسان أنفع وأتم؛ لأنه خاص به، وخاصة أن الإخلاص عزيز، فالإخلاص أيسر في السر وأصعب في الأعمال، ومن الناس من هم أفذاذ من العالم الذين يقتدى بهم في الخير، لكن هؤلاء الأفذاذ آحاد في الوجود، فالجزء الشخصي هذا مسئوليتك الشخصية، وليس من اللائق أن تقول لشخص: أنت أهملتني؛ لأنه خاص بك، وهذا الموضوع أنت المسئول عنه.
وفي الحقيقة أنَّ هذا الأمر أمر عظيم الأهمية في صلاح الأمة جميعاً، فقد كنت أقول لأحد الإخوة: أنا أحسن أن الرحلة لا زالت طويلة جداً؛ لأن التغيير المطلوب إحداثه مع أنه والحمد لله بفضل الله عز وجل هناك إخوة كثيرون جداً يريدون أن يصلوا وأن يصوموا وأن يعتكفوا، لكن التغيير المطلوب لا زال بعيداً جداً، فلا يزال هناك أشياء كثيرة لابد أن تغير، علماً وعملاً وسلوكاً، والسلوكيات هذه لوحدها جزء من ضمن مسئولية عبادات القلب، فهي لا بد أن تكون من جهة الخلق والأدب، وطريقة الكلام، وطريقة المعاملة مع الآخرين، وتعظيم حرمات الله عز وجل، والكلام على الشرع بالتوقير والاحترام، واحترام إخوانك في الله عز وجل.
إذاً: هناك أشياء كثيرة جداً لا بد لها من تغيير، ولم تأخذ فرصتها الكاملة في التغيير، ونحن من خلال ما تناولناه خلال هذه الفترة نحاول أن نضع نقاطاً ونحدد معالم لأشياء مهمة لا بد أن نفكر فيها، وهناك أشياء كثيرة جداً لابد لها من عمل، وأعتقد أن جزءاً كبيراً جداً منها سيكون جزءاً شخصياً؛ لأن هذا هو المتاح، فلا بد أن تقرأ دائماً في كتب التهذيب والإصلاح كأن تقرأ مثلاً: كتاب تهذيب موعظة المؤمنين وكتاب رياض الصالحين، وتقرأ كتاب مدارج السالكين، أو تهذيب مدارج السالكين، فهذه الأشياء مهمة في طريق الإصلاح.(41/4)
البحث عن صحبة صالحة وقرناء صالحين
النقطة الثانية وهي من أعظم وسائل الإصلاح: البحث عن صحبة صالحة وقرناء صالحين، فالقوم لا يشقى بهم جليسهم، كالعبد الخطاء الذي جلس مع الصالحين الذين يسبحون ويحمدون ويكبرون ويهللون ويسألون الله الجنة ويستعيذون بالله من النار، فهو ليس منهم وإنما جلس لحاجة، فيقول الله عز وجل فيهم جميعاً: (غفرت لهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فلابد أن تبحث عن أصحاب صالحين يعينونك على طاعة الله ويساعدونك على النقطة الأولى والثالثة التي سوف نذكرها حالاً إن شاء الله.
فاختيار الصالحين أمر مهم، لكن الصلة بالله عز وجل وتقوية هذه الصلة هي أهم ما يحتاجه العبد، فالصحبة الصالحة والارتباط بالإخوة من خلال المسجد ومن خلال مكان العمل ومن خلال الجيران، أو من خلال أي وسيلة من الوسائل أو كل الوسائل في الحقيقة، فلا بد أن تبحث في كل مكان عن صحبة صالحة تعينك على الطاعة، وتذكرك إذا نسيت، وتقويك إذا ذكرت، ولا تضيع وقتك معها في غير طاعة الله، فإياك وفضول الكلام وتضييع الأوقات، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان، فلا بد أن نزداد طاعة ولا نضيع وقتاً، وأمر عجيب أنك تريد إنساناً فلا تستطيع أن تدركه، فلا يوجد وقت أصلاً يحتمل الإضاعة، فإياك أن تجالس أهل الخير وتضيع وقتك في المزاح والكلام الذي لا فائدة منه واللغو دون أن تسمع قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
نصيحة ووسيلة من وسائل الدعوة وشرط في الدعوة إلى الله عز وجل وهو الاجتماع على الطاعة التي شرع الاجتماع عليها، وإنَّ والتعاون على البر والتقوى من أعظم ما يقوي هذه الروابط، ومن أعظم ما يعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.(41/5)
الفهم الدقيق للمنهج
هذه الصحبة الصريحة تعينك على النقطة الثالثة وهي: الفهم الدقيق في المنهج، والعلم النافع والعمل بهذا العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
ولا يكفي الالتزام الإجمالي؛ لأن جزءاً كبيراً جداً من أسباب الخلل الموجود في الرحلة الطويلة هو بسبب قلة العلم، ووجود الجهل، وعدم فهم المسائل فهماً دقيقاً بحيث إنه في وسط الفتن المتكاثرة والدعاة على أبواب جهنم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً فيفتون بغير علم، فلا بد لك من علم نافع بالكتاب والسنة، ولا بد أن تأخذ من القرآن يومياً، ونحن ننصح ببرنامج على مدى سنة إلى سنتين حسب طاقة الأخ في إكمال حفظ القرآن، فلو أنك تحفظ ربع جزء كل أسبوع لختمت القرآن في سنتين أو أقل من سنتين.
وهناك من يحفظ ثلاث آيات في اليوم أو أربع آيات في اليوم ومع ذلك معظم الناس لا يفقهون شيئاً، وكثيرٌ من الإخوة لم يختموا.
وإني أنصح بتفسير السعدي فهو تفسير ميسر، ويليه تفسير ابن كثير، كل يوم آيتين، ثلاث آيات، اقرأ بعد الفجر ولو عشر دقائق، كل يوم خمس آيات وبإذن الله تبارك وتعالى ستحفظ كتاب الله في أقل من ثلاث سنين أو سنتين، وسيكون عندك معرفة بتفسير القرآن العظيم الذي هو جامع لأقوال السلف رضوان الله عليهم، واعلم أنَّ تفسير السعدي من الممكن أن يأخذ عدة أشهر فقط، وتفسير السعدي تفسير سهل ومختصر ومبارك، وفيه روح الربط بالواقع.
ولا بد أن تتعلم السنة فتقرأ كتاب رياض الصالحين والكتب الخاصة بالتهذيب، ونقرأ ونتعلم السنن بجانب الكتب الصحاح، فلا بد من كتاب رياض الصالحين، وهو كتاب لابد أن ينهيه كل أخ بتدبر وترو وفهم لما فيه، وبالتزام وتطبيق عملي سريع.
وننصح بعده بصحيح مسلم مع حضور الدرس في صحيح مسلم وبذلك ستفهم السنة إن شاء الله تبارك وتعالى، ومن فاته بعض حلقاته فليسمع الأشرطة السابقة، فإن هذا الكتاب من أعظم الكتب بركة.
يلي ذلك تحصيل علوم أساسية لا بد من تحصيلها، فتقرأ اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات، وقبل ذلك علوم الدين، ولا تقل: أتفرغ لمادة واحدة؛ لأنك لست صغيراً، بل إنَّ الصغير يدرس كل العلوم.
وكذلك لا بد أن تتعلم التوحيد والعقيدة والإيمان، ولا بد أن تحصل هذه الأصول الستة وما يتفرع منها، الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره وما يتفرع منها كالإيمان بقضاء الله والرضا به، فننصح بكتاب فتح المجيد وكتاب معارج القبول، وهذه بالكثير يستغرق تعلمها حوالى شهرين ولها أشرطة مسجلة، وبعض الإخوة فرغوها فصارت متيسرة، وفتح المجيد أيضاً في أشرطة مسجلة وعلى سيدي، ومعارج القبول أوشك أن يتم كله، ولكن يستحسن قراءته وحضور دروسه في هذا المسجد المبارك.
وكذلك في الفقه ننصح الإخوة أن يفرغوا أنفسهم من أجل أن يحضروا الدروس حتى يتعلموا أركان الإسلام، من مثل شرح منار السبيل، وكذلك إذا كنت في سفر أو كنت عاجزاً أو لم يتوفر لك وقت فننصحك بأن تستمع أشرطة هذه الدروس إن تيسر، أو قراءة كتاب فقه السنة فهو كتاب نافع ومفيد، وفيه من أسباب العلم المبارك.
وأما العلم الخامس فهو علم التهذيب وإصلاح النفس وعلم الأخلاق الواجبة، وكتاب رياض الصالحين سوف نأخذه وسوف نضيف عليه كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، مع المراجعة للمعاني المفيدة التي أخذناها بسهولة من طريق تهذيب مدارج السالكين، وقد أخذناها من الأجزاء التي قرأناها فقط، حتى يسهل لنا قراءتها كاملاً وشرحها شرحاً متكاملاً، لكن الأكثر أهمية كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، ومختصر منهاج القاسطين.
ولا شك أن الاتجاهات الإسلامية فيها تشعب كثير جداً، فالاتجاهات تأخذ شرقاً وغرباً والفتن ضخمة جداً، فلابد للأخ أن يكون محصناً بقواعد منهج أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير والجهاد في سبيل الله وفقه الخلاف، وهذه المقالات كلها سبق شرحها في شروط الدعوة من قبل عشر سنين، فينبغي للإخوة أن يدرسوا منهج أهل السنة والجماعة حتى يكونوا على بينة من المنهج وعند ذلك لا أحد يقدر أن يأخذهم ذات الشمال أو ينحرف بهم من علماء أهل البدع، فإن دعاة منهاج البدع اليوم يدعون إلى التكفير والجرأة على دماء المسلمين، والغلو الشديد، فلا بد من الحذر من ذلك، وكذلك المناهج العلمانية التي تحارب قضايا العقيدة، وهي مناهج خطيرة تؤدي إلى تمييع القضية الإسلامية، ولن نقدم لأمتنا في هذه الظروف أفضل من شخصية مسلمة، شخصية علم وعمل وسلوك وأخلاق ودعوة إلى الله عز وجل، فاحرص على هذه النقاط الأساسية، فهو زاد لك في المستقبل.
وكما ذكرت تستطيع أن تسير به مدة إلى أقرب محطة قريبة، فهو موسم من مواسم الطاعة، وليس هناك وقت لتضييع موسم طاعة، هذه الطاعة أيام تصومها وتقوم لياليها وتركز على حفظ القرآن وتلاوته مع التدبر، فلا حفظ إلا مع التدبر، وهذه نقطة ثانية في الإصلاح، فالحفظ هو الطرف الأول، والطرف الثاني: التدبر مع الحفظ، فليس فقط الحفظ هو المطلوب، بل القراءة مع التدبر هو المطلوب، فإن كنت تقرأ على الأقل أربعين آية في كل يوم قراءة تدبر وفهم وبإمرار الآية على القلوب، وتكون المعاني مفهومة فهو خير لك، فلا بد أن تتدبرها ولا تجعلها مجردة بالحفظ مع الاستطاعة.
ومن كان في نفسه ضغينة على أحد فليسامحه، فسلامة القلوب من أعظم النعم التي من الله عز وجل بها علينا، ولعل الإخوة ذاقوا من حلاوة الاجتماع والطاعة من ذلك ما يغنيهم عن المسامحة.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا، وأن يغفر لنا أجمعين، وأن يمن علينا بحبه سبحانه وتعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغنا إلى حبه، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من عتقائه من النار ومن المقبولين، وتقبل الله منا ومنكم وجزاكم الله خيراً.(41/6)
نعمة القرآن
إن النعمة الكبرى والمنة العظمى التي امتن الله بها على عباده المؤمنين؛ هي إخراجهم من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الكريم الذي أنزله على نبينا الكريم، فاهتدى بهداه كل رجل تقي، وضل عن الاهتداء به وطغى وخسر كل رجل شقي، فيا سعادة الأتقياء ويا تعاسة الأشقياء! ألا وإن هذا الكتاب العزيز قد أنزل على أفضل رسول في أفضل الشهور وهو شهر رمضان المبارك، ولقد كان رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يعتكف في العشر الأواخر منه رجاء ليلة القدر مكثراً من قراءة القرآن، والصدقة، والدعاء الذي لطالما غير وجه الأرض ومسار التاريخ معاً.(42/1)
القرآن أعظم نعم الله على المؤمنين
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
إن أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين هي نعمة إنزال الكتاب على الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشهر الكريم، كما أن من أعظم نعمه التي منَّ بها على عباده المؤمنين أن هداهم بهذا الكتاب، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأحيا قلوبهم بعد موتها، ونور بصائرهم بعد عماها، وجمع أمورهم بعد شتاتها، كما أنه سبحانه وتعالى يغني قلوب عباده بما أنزل في هذا الكتاب من معاني الإيمان ليستغنوا عما سواه، ومن فضل الله عليهم أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].(42/2)
القرآن لا ينتفع به الكفار والمنافقون
ما أشد تفاوت القلوب وتباين منازلها، فالأرض الطيبة يأتي عليها هذا الكتاب فيحييها بعد موتها، وتنبت أنواع الخيرات والبركات، وأما الأرض الخبيثة كقلوب الكفرة والمنافقين الذين لا ينتفعون بالقرآن، ولا يتعظون بمواعظه، ولا يأتمون به، ولا يحلون حلاله، ولا يحرمون حرامه فهؤلاء لا يزيدهم القرآن إلا خساراً وطغياناً وكفراً، قال سبحانه وتعالى مبيناً ذلك {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]، والمنافقون يزدادون رجساً إلى رجسهم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
وإذا أردت أن تعلم حقيقة الإنسان الذي تعامله فانظر إليه عند سماع القرآن؟ وفي مواسم القرآن؟ فإذا وجدته من الناس الذين يزدادون إيماناً وهدىً وتفريقاً بين الحق والباطل؛ فيستبصر طريق الحق من طريق الضلالة، ويستهدي بهدى القرآن، فيرشده الله عز وجل إلى التي هي أقوم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فاعلم أن أرض قلبه طيبة، وأما من وجدته في مواسم القرآن والطاعة وعند سماع كتاب الله يزداد مرضاً إلى مرضه، ويغرق في الشبهات، فيلبس بين الحق والباطل، ويغرق في الضلالة غرقاً فاحذره وابتعد منه.
فمرض الشبهات مرض عضال في قلوب الكفرة والمنافقين، حيث يزيدهم القرآن التباساً؛ لأنهم لم يتلقوه بالقبول والتسليم والتصديق والإذعان، فإذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إلا رجساً إلى رجسهم، وضلالاً إلى ضلالهم، حتى إن بعضهم يسوي بين الكفر والإيمان، وبين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان، فيرى ذلك كله حقاً وإيماناً وخيراً وإحساناً، وهذا دليل موت القلب قطعاً، فالقلب الذي ذاق طعم الإيمان لا يمكن بحال من الأحوال، ولا بعذر من الأعذار أن يسوي بين عبادة الله سبحانه وتعالى وبين عبادة العباد، ولا يمكن أن يستوي لديه تصديق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسائر النبيين والمرسلين، وبين تكذيبهم والرد عليهم، وكيف يكون ذلك؟! والله! ما يشتبه هذا الأمر إلا على من ختم الله على قلبه وسمعه، فيشك في الصراط المستقيم ولا يدري أهو دين الإسلام أم غيره من ملل الكفر من يهودية ونصرانية وعبادة أوثان، وغير ذلك من أنواع الكفر؟! ولا يشك في الصراط المستقيم، ولا في الكتاب الذي أنزله الله إلا من طمس الله بصيرته، وأعمى قلبه عن نور الوحي المبين؛ لأنه لم يذق في حياته طعم الإيمان، ولم يجد أثر علاج القرآن للشبهات التي في قلبه، وذلك لخبث قلبه {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فازداد كثير منهم بما أنزله الله على رسوله طغياناً وكفراً، كما قال عز وجل: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68].
فإذا وجدت الإنسان يزداد مرض الشهوات عنده في مواطن الخير وعند سماع الكتاب، فاعلم أنه إنسان غارق في النجاسات والشهوات الحقيرة والعياذ بالله، ولا يعرف من الدنيا إلا شهوة الطعام والشراب أو الجنس أو المال أو الرئاسة والملك، لا يعرف من الدنيا غير ذاك، وهو مشغول ليل نهار بهذه الخبائث والمنكرات، والخبيثات للخبيثين، فالخبيثات من الأقوال والأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس لهذه الخبيثات من الأقوال والأعمال، وهذا عند أهل الإيمان من أوضح دلائل توحيدهم وصدق معتقدهم؛ لأنهم ذاقوا الفرق، وعرفوا الحقيقة بين العمى والبصيرة، كما قال عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:19 - 23].(42/3)
الكافر والمنافق هو الأعمى الحقيقي
وما يستوي الأعمى الكافر المنافق الذي لا يرى حقائق هذا الوجود، ولا يدري من الدنيا إلا مظاهرها، ولا يعلم حقيقة وجوده، ولا لماذا أوجده الله؟ وماذا ستكون نهايته؟ ولا يعلم من الدنيا إلا تحصيل شهواتها، وكيف يمكر بأصحابها، وكيف يكيد لمن يسير معه في طريقها، وكيف يتنافس مع غيره من أهل الدنيا على تلك الجيفة المنتنة.
فهو أعمى لا يرى حقائق التوحيد، ولا يعرف قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وملكه وسلطانه، ولا يرى حقائق الإيمان باليوم الآخر، ولا سرعة انقضاء هذه الدنيا، ولا قرب الموت من أهلها في أي لحظة من اللحظات، ولا يرى ولا يعلم شيئاً عن حقائق البرزخ والقبر، وما يكون فيه الإنسان بعد رحيله عن هذه الحياة، ولا يبصر قرب القيامة والساعة التي أخبر الله عز وجل عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، فهذا الأعمى لا يرى ذلك، ولا يعرف إلا تحصيل رئاسته وشهوته، فهو لا يرى من الدنيا إلا ذلك نعوذ بالله.
وأما البصير فهو المؤمن الذي أبصر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته، فأحب الله عز وجل من كل قلبه، وأبصر نعم الله سبحانه وتعالى عليه، وأعظمها نعمة الإيمان والإسلام والإحسان والقرآن والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
فأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده هي هذه النعمة التي من أجلها وبسببها تتوقد منابع الحب لله عز وجل، ومنابع الرجاء في قلبه، فإن الحب ينبت على حواف أنهار المنن التي يراها الإنسان فيستحضرها فيستقي قلبه منها فيزداد تعظيماً وحباً لله عز وجل، ورجاءاً للقائه سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5]، إن الذي دفع المؤمنين بألا يزنوا بميزان أهل الدنيا، وأن يروا الدنيا صغيرة كما هي عند الله، وأن يروا حقائق الإيمان والدين واضحة كالشمس -هو يقينهم بلقاء الله وإيمانهم به.
وهكذا ينبت في قلوبهم الخوف بسبب رؤية نعمة الله عز وجل عليهم، ورؤية غضبه على المغضوب عليهم والضالين، وينبت الخوف من الله عز وجل أن يضل هذا العبد كما أضل غيره، فكم من الملايين من البشر أضلهم وأنت أنعم الله عز وجل عليك بالصلاة، والقيام، والصيام، وكم من ملايين البشر لا يعرفون شيئاً عن ذلك، ويعيشون حياتهم لا يدرون شيئاً عن نفحات هذا الشهر الكريم، وعما ينعم الله عز وجل به على عباده المؤمنين، لا أقول فقط الكفرة بل كثير من المسلمين الذين انصرفوا عن دينهم، وأعرضوا عن شرع ربهم، وانشغلوا بوسائل الإفساد التي تصب عليهم أنواع الأمراض والنجاسات والخبائث ليل نهار وهم منشغلون، وبعضهم قد يكون منتقداً، وبعضهم قد يكون موافقاً ومسروراً بما يرى من هذه القذارات ويسمع من هذه النجاسات، حتى إن أصحابها لا يستحيون من فعل الفواحش علانية أمام أعين الملايين، فإذا كان عقوبة قوم لوط الخسف والتدمير؛ لأنهم كانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويأتون الفاحشة وهم يبصرون، فكيف بمن يفعلون ذلك أمام عشرات أو مئات الملايين من البشر؟! فأي فضيحة هذه التي فضحهم الله عز وجل بها! وأي خبث ذلك الذي نبع من قلوبهم الخبيثة، فانظر إلى نعم الله عز وجل عليك أما تخشى أن يضلك الله سبحانه كما أضل هؤلاء، وهو عز وجل مقلب القلوب، ويثبت قلوب عباده المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فأنت تحتاج إلى التثبيت الآن كما تحتاجه في الآخرة، كما تحتاجه عندما تنزل إلى قبرك، بل هذا خير الخلق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاج إلى تثبيت الله، فقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74 - 75]، فالله سبحانه ثبته، فإذا كان هو يحتاج إلى التثبيت فكيف بنا ونحن في الذنوب وفي التقصير ليلاً ونهاراً.(42/4)
أعمال القلوب ترفع صاحبها عند الله تعالى
إن الذي يطلع من القرآن على حال الأنبياء يدرك كيف تتفاوت المنازل عند الله عز وجل بأعمال القلوب وأحوالها في لحظات، ويدرك أنه في أسفل السلم إن كان قد وضع رجله عليه، والذي يدرك أحوال الصالحين الذين قص الله عز وجل علينا قصصهم في القرآن، وقص علينا الرسول عليه الصلاة والسلام قصصهم يدرك ذلك، وقد كانت سيرة صحابته الكرام تطبيقاً عملياً لهذا الصلاح، والإنسان حينها يدرك كم هو صغير لا يساوي شيئاً، وأنه لا يزال في أول الطريق.
فانظر إلى ما عوتب عليه الأنبياء والصالحون في لحظات فقط مرت على قلوبهم، فعوتبوا على ذلك، كما تسمع قول الله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام حين قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، لحظة وقع في قلبه أمراً كان غيره أولى منه، وهو أن يستحضر في قلبه أنه يأوي إلى الله عز وجل كما استشعرها نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار حين قال له صاحبه: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40])، فإنما عوتب على ذلك بسبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فسبحان الله! كما يخطر بقلبك أنت من أضعاف هذا الجنس في اليوم؟ ربما عشرات المرات، والواحد منا لا يدري أنه قد أتى نقصاً، وأنه قد قصر.
ولما أحب المؤمنون في غزوة بدر العير قال الله لهم: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، فهذا مجرد خاطر خطر على قلوبهم أن تكون القافلة التجارية هي غنيمة المسلمين بدلاً من الجيش والقتال، فعوتبوا على ذلك {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، وكم يقع في قلوبنا بالليل والنهار من إيرادات غيرها أولى منها، بل قل من إيرادات فاسدة تصل إلى حد التحريم من الحسد والحقد والتباغض، وسوء الظن بالمسلمين، وتزكية النفس بما ليس فيها، ومدحها بما هي خالية عنه من الإعجاب والكبر والرياء، إلى خواطر وعزائم ربما على المنكر والمعاصي والعياذ بالله، والواحد يسير في طريقه لا يرى.
فإذا تأملت هداية القرآن وشفاءه لما في الصدور تبين لك أننا نحتاج إلى علاج طويل، وربما أكثرنا أو كلنا لم يضع قدمه على أسفل السلم الذي درجاته العالية عند الله سبحانه وتعالى، ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى، والدرجات عند الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
فأين نحن من علاج أمراض قلوبنا من الشبهات والشهوات؟ فرب شهوة محرمة تقع في القلب فتفسده، بل ربما مجرد خاطر بالشهوة المحرمة لا عزيمة يعد ذنباً يلام عليه الإنسان فكيف إذا كانت عزيمة؟ وكيف إذا كانت إرادة يستحضرها ويمرها على قلبه؟ أقل شيء يحرمه صاحب الخواطر الرديئة أن يحرم خواطر الإيمان، وأن يحرم ما يفيض الله عز جل على قلبه عند سماع القرآن، فكم من آية تمر عليك وأنت لم تتعظ بمواعظها؟ وكم من صلاة مررت عليها وأنت تقول: متى تنتهي السورة ليركع الإمام لننتهي من الصلاة؟ إن هذه الخواطر لربما وقعت في قلب كل واحد منا وهي تدل على النقص لا شك، وأن القلب يحتاج إلى علاج ومداواة؛ لأنه إذا تدبر القرآن فسوف ينسى هذه الخواطر، وربما يحرم لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى في دعائه، ويحرم لذة إنبات الخير في قلبه عند تلاوة كتابه سبحانه وتعالى؛ بسبب ما وقع في قلبه من موازنات فاسدة، وتقديم أمور كان ينبغي أن تؤخر، وتأخير أمور كان ينبغي أن تقدم، ولذلك نرى حياتنا مليئة بالمشاكل؛ لأنها لم تعالج كما ينبغي بالشفاء الذي أنزله الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، ولا شك أن طبيعة الحياة التي نحياها والتي هي مليئة بأنواع الصراعات على الدنيا والتنافس عليها تؤثر علينا، ولكن لا بد لنا أن نتوقف لحظات لنعالج أمراض قلوبنا، ولنحيي هذه القلوب، ولنحصل على البصيرة التي لا يستوي من فقدها ومن حصل عليها، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:19 - 20] فالظلمات هي: ظلمات الكفر والجهل والضلال وغضب الله سبحانه وتعالى، وتلك تحل على من هوى في غضب الله عز وجل تحل حتى لا يرى شيئاً، كما وصف الله عز وجل حال ذلك الكافر الجاهل الضال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
والنور هو نور الإيمان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، وهذا يكون في القلب كمصباح متقد من زيت شجرة مباركة، فهو نور الإيمان على نور الفطرة، {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ} [فاطر:19 - 21]، فحال أهل الإيمان في دنياهم في ظل وراحة وسكون: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وهم في ظل في قبورهم، وفي آخرتهم في ظل عرش الله عز وجل، وفي الجنة في ظلال وعيون، وفي سكون دائم وراحة وسعادة دائمة لا تدانيها ولا تشبهها سعادة، ومن وجدها يعلم يقيناً أنها تتضاءل أمامها كل لذات الدنيا، ولكنها للأسف الشديد عند أكثرنا -إن لم نكن كلنا- لا تتعدى لحظات معدودة، وبدرجات متفاوتة، ولكن بحسب ما نأخذ من هذا المعين الصافي بحسب ما نسعد، وكلما نلنا من طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، وحييت قلوبنا بكتابه سعدت هذه القلوب واطمأنت وذاقت طعم الإيمان، (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً) وأما الحرور فهو حر الكفر والعياذ بالله.
فالكفرة في دنياهم في ضنك وشقاء، وفي قبورهم في عذاب وبلاء، وفي الآخرة في حر شمس دانية من الرءوس قدر ميل، فيعرق أحدهم حتى يبلغ عرقه أنصاف أذنيه، وحتى يغرق في رشحه، ويضرب العرق في الأرض سبعين ذراعاً، وقدر قامة الرجل على قدر عمله.
وأما في النار والعياذ بالله فهو الحر الذي لا يطاق: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:22].(42/5)
تفاوت المجتمعات
إن مجتمع المؤمنين مجتمع يزن بموازين الشرع، ويقدم ما قدمه الشرع، ويعظم ما عظمه الشرع، وهو مجتمع يعيش لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، ومجتمع زكي طاهر نقي، فإرادات أهله في مرضات الله وفي البعد عن مساخطه وما يغضبه.
وأما مجتمع الكفرة فمجتمع أموات وأمراض ودرجاتهم متفاوتة، فمنهم من هو في غيبوبة، ومنهم من يوشك على الموت، ومنهم من قد مات وأنتن، فهي مجتمعات متفاوتة، والإنسان لا شك باقترابه من هذه المجتمعات يتأثر بها، ورؤية وجوه أصحابها تؤثر في قلبه، وإذا كانت رؤية وجوه المومسات عقوبة فكيف برؤية وجوه الكفرة والمنافقين على سبيل الاحترام والتعظيم؟! نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يعافينا جميعاً من ذلك.
نعم إنك أن ترى وجوههم مجاهداً لهم فذلك من نعم الله عليك، ولكن أن ترى وجوههم وأنت مضطر لكي تعاملهم بالاحترام والتوقير فإنه والله من أنواع العقاب، فكيف بمن يطلب ذلك ويأتي بأنواع المناظر التي ينظر بها إلى وجوه المومسات والكافرات والكافرين والظالمين؟ نعوذ بالله من ذلك، فالمجتمعات متفاوتة تفاوتاً عظيماً، فانظر كيف تقضي وقتك، ومع من تقضي وقتك، فنحتاج إلى تعمير قلوبنا خلال هذه الأيام المباركة التي تقدم علينا بإذن الله، ففي لياليها أعظم تعمير للقلوب بإحيائها بكتاب الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
نفعنا الله عز وجل وإياكم بالقرآن العظيم، وأحيا قلوبنا به، ورزقنا تلاوته آناء الليل وآناء النهار على الوجه الذي يرضيه عنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(42/6)
فضل ليالي العشر من رمضان
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلة، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان طلباً والتماساً لليلة القدر، وطلباً لفضل الله عز وجل في هذه الليالي كلها، فهذه خير ليالي السنة، وهي أفضل الليالي على الإطلاق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في السبع البواقي أكثر فقال: (فمن غلب على العشر الأواخر فلا يغلبن على السبع البواقي)، وذلك أن آخر العمل يكون الإنسان قد تهيأ فيه للمنازل العالية، فإذا أفاض الله عز وجل عليه نعمة في آخر هذا الشهر الكريم كان أهلاً لقبول هذه النعمة، وأهلاً لاستثمار هذا الخير وتأثيره في قلبه؛ ولذا كان دائماً التمهيد للأمور العظيمة بكثرة العبادة والذكر والتلاوة والصلاة والقيام والركوع والسجود، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف:142]، وهذه الأربعون كان موسى يصوم نهارها ويقوم ليلها؛ تهيئة لسماع كلام الله سبحانه وتعالى، ولتقريبه نجياً، وهو في هذه المرة يقدم مشتاقاً محباً بعد أن ذاق الحلاوة التي لا توصف في المرة الأولى، مع أنه كان يطلب ناراً وهدىً وخبراً غير الذي حصل عليه، فكان يريد ناراً فرأى نوراً أعظم من الذي يطلب، وكان يريد هدىً على الطريق فرأى هداية أتم مما كان يطلب.
وكان يريد مخبراً يخبره عن طريقه فوجد إخباراً من رب العالمين سبحانه وتعالى، فكانت المرة الثانية أكمل، وكان محباً متعجلاً إلى ربه راغباً في رضاه.
وهكذا مريم عليها السلام عندما هيئت لتحمل الأمر العظيم في أمر ولادة المسيح نادتها الملائكة: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].(42/7)
الدعاء يغير الأرض والتاريخ
فالأمور العظيمة تحتاج إلى تهيئة، بل ما يقدره الله عز وجل لعباده المؤمنين يعطيهم إياه وهم يسألونه عز وجل في دعائهم وصلاتهم.
ألم تسمع قول الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]؟ وقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89]، فهذه الأرض يتغير وجهها بدعوة من صادق قانت خاشع لله عز وجل، وانظر إلى مكة المكرمة، فقد كانت أرض قفر بين جبال لا نبت فيها ولا ماء، فما الذي يدفع قلوب ملايين البشر عبر السنين أن تأتي إلى هذه البقعة العجيبة؟ إنها دعوة إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، فلقد غير وجه هذه البقعة إلى يوم القيامة، فهي بقعة يأتي إليها ملايين البشر كل عام، وهم مشتاقون إلى المزيد، وكل ذلك بسبب دعوة من إبراهيم عليه السلام، فهي دعوة تغير بها وجه الأرض.
وهذا كما تغير وجه مصر بهلاك فرعون وجنده في لحظة من اللحظات بدعوة من موسى عليه الصلاة والسلام {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:89].
وكذلك دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم حين قام طويلاً في ليلة بدر، فتغير وجه التاريخ، ولولا فضل الله عز وجل بنصر المسلمين في غزوة بدر لما عُبد الله عز وجل في الأرض بعد ذلك اليوم، قام النبي يستغيث {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]، فاستجاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.
ودعوة من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الأحزاب غيرت أيضاً وجه التاريخ، وصار الكفر ينتقل إلى الدفاع بعد أن كان مهاجماً.
فأرسل الله الريح والجنود التي لم يرها الناس، فانصرف عشرة آلاف من الأحزاب بعد أن أوشكوا أن يصلوا إلى غايتهم من اقتحام المدينة، واستئصال الإسلام، لكن ينقلب الأمر في لحظة بدعوة صادقة، وانقلب الأمر على يهود بني قريظة في تلك الليلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن قلوبهم متعلقة بالله راجية لفضله، فبالدعاء يتغير وجه الأرض ومسار التاريخ، ومسار الأحداث كلها يتغير بالصلاة.
فاجتهدوا عباد الله! في هذه الأيام المباركات والليالي الفاضلات أن يتغير حالنا إلى ما يحب الله عز وجل ويرضى، وذلك بكثرة الاجتهاد في الدعاء والتضرع، ولا بد أن تحيا القلوب وتحضر؛ فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل، وربما تنقلب الموازين بعد أن تصل إلى نهايتها من حيث لا يشعر الناس، ويأتي الكفرة من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويأتي أعداء الإسلام من المنافقين ما لا يعلمون، وهو عز وجل يملي لهم، وكيده متين، ولكن أين هذه القلوب؟! فاجتهدوا أن تكونوا من أصحابها {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وليكن الاعتكاف عكوفاً بالقلب على الله، والنية على إرادته، وإخلاصاً لوجهه سبحانه قبل أن يكون ملاءة تفردها في المسجد، أو خباء تصنعه لكي يخلو بك من يريد مسامرتك، ومن تريد محادثته، وأنت في غفلة عن حقيقة الاعتكاف، فالاعتكاف أصلاً: عكوف القلب والهمة قبل أن يكون عكوف البدن.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين، وأصحاب الضلالة دعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم وانصر المسلمين في فلسطين والشيشان.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظ دماء المسلمين في كل مكان، واحفظ أموالهم وأعراضهم يا رب العالمين! اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين: باليهود المعتدين، والنصارى المحاربين الذي يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وبالمنافقين الظالمين الذين يصدون عن سبيلك.(42/8)
وإن فرعون لعال في الأرض
بين الله سبحانه وتعالى طغيان الجبابرة من الأمم السابقة، وأن ظلمهم للناس وطغيانهم سببٌ في عمايتهم عن الحق، وأهل الحق مهما كانوا مستضعفين فإنهم بتوكلهم على الله وثقتهم به سبحانه رغم انعدام الأسباب يفرج الله عنهم كربهم وينصرهم على عدوهم، ولنا في قصة الطاغية فرعون مع موسى وقومه عظة وعبرة.(43/1)
قصة موسى عليه السلام مع فرعون
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله من العبر والعظات، والنور الذي يهتدي به أهل الإيمان في كل زمن من الأزمنة ما يحتاج معه المؤمنون دائماً إلى تدبر قصص القرآن وسيرة الأنبياء، وإن من أعظم القصص فائدة لأهل الإيمان في سبيلهم وطريقهم إلى الله عز وجل قصة موسى صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:80 - 92].(43/2)
التحول من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان
بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته على يد رسوله موسى عليه الصلاة والسلام، وأبطل كيد السحرة المجرمين، وأبطل مكر فرعون وفضحه على رءوس الأشهاد في يوم الزينة وقد حشر الناس ضحى، واجتمع الجموع فرأوا آيات الله سبحانه وتعالى، وأبطل سبحانه وتعالى الباطل، وأحق الحق بكلماته، وسجد السحرة وآمنوا، واخترع فرعون المآمرة الوهمية التي اتفقوا عليها ضد موسى، ومع ذلك وجد من يطيعه في قتل السحرة، وإن كان لا يستطيع أن يمس موسى صلى الله عليه وسلم، مع أن البديهي في مؤامرة كهذه لإخراج أهل البلاد منها، أن يكون كبيرهم الذي دبر معهم هذا المكر على رأس المقتولين، ولكن من العجب يعرض عن موسى عليه السلام، ويصب غضبه على السحرة الذين كفر الله عز وجل عنهم سيئاتهم وخطاياهم وجعلهم في آخر النهار شهداء بررة، بعد أن كانوا في أوله سحرة فجرة كذبة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بعباده، يختم لمن شاء بخاتمة السعادة، ويختم لمن شاء بخاتمة الشقاوة، حيث قضى السحرة عمرهم كله في عمل أهل النار والكفر والشرك بالله، والصد عن سبيل الله والتزيين لعبادة فرعون، وطلب الأجر والقرب منه والعياذ بالله، ثم في لحظات تحول الأمر، وكتب الله عز وجل لهم النجاة، وذلك لما اختاروا الإيمان أول ما ظهر لهم، وقذف الله عز وجل في قلوبهم حب الخير، وقذف في قلوبهم البصيرة التي أبصروا بها الدار الآخرة وبقاءها ودوامها، وألقى الله عز وجل في ظل كلام فرعون الذي يتهددهم به ما ثبتهم سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن توعدهم بأنواع العذاب والنكال، وقال في خاتمة كلامه: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71].
وكان في هذا من التثبيت العظيم لهم، ومعرفتهم أن الله هو أشد عذاباً، وأنه سبحانه وتعالى خير وأبقى، فلذلك اختاروا أن يتحملوا عذاب الدنيا، وأن يصبروا على آلامها والتي لا تبقى كثيراً بلذتها وألمها، ويبقى بعد ذلك عمل الإنسان قريباً له في برزخه، ثم ملازماً له في بعثه ونشوره، فلذلك قالوا ما لم يكن يخطر لهم قبل على بال حينما قال لهم فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:71 - 72] أي: لن نؤثرك على الهدى الذي جاءنا والبينات، ولن نؤثرك على الذي فطرنا سبحانه، فانتبهت قلوبهم إلى معان لم تكن تنتبه إليها، واستيقظت إلى حقائق لم تكن تنظر إليها، إلى بداية الأمر وإلى نهاية الأمر كذلك: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76].
معانٍ لم تكن تطلع عليها القلوب، ولكن أيقظها الله وأحياها حين استجابت للإيمان، فبادر يا عبد الله! إلى الاستجابة إلى أمر الله، فإنه سبحانه وتعالى يحب من استجاب لأمره أول ما ظهر له نور التنبيه، وأول ما حصل له من يقظة القلب، فالله عز وجل يضاعف لعبده العطايا والمنن إذا استجاب لأمر الله، وإلا فإنه يحرم التوفيق كما حرمه فرعون، وكما حرمه آله وجنوده وأعوانه وأهله وعامة أهل بلده، قال الله سبحانه وتعالى بعد أن ظهرت الآيات وقامت الحجج: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] أي: إلا شباباً من قومه من أهل مصر، من قوم الدعوة الذين دعاهم موسى عليه السلام، والأظهر في أن (قومه) هنا المقصود بهم: أهل مصر، وإلا فأكثر بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] فأكثر بني إسرائيل كانوا قد آمنوا بموسى، وإنما القلة كانت من أهل مصر رغم ظهور الآيات، كمؤمن آل فرعون وغيره من شباب مصر في ذلك الوقت، والذرية: الشباب، وهذا يؤكد أن الشباب دائماً هم أمل الأمم، وهم الذين يستجيبون للحق أول من يستجيب، وعليهم مسئولية عظيمة رغم العقبات التي في طريقهم.(43/3)
ابتلاء الله للمؤمنين دليل على حبه لهم
قال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} [يونس:83]، لم يكن الإيمان مع الأمان، ولم يكن الإيمان مع سهولة الطريق، ولم يكن هذا الإيمان مع وجود مرغبات، بل مع وجود الخوف من الفتنة، {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإهِمْ} [يونس:83] وهذا دليل على أنهم من أهل مصر؛ لأن الملأ من بني إسرائيل كانوا مع موسى عليه السلام، أما الملأ الذين خافوا الفتنة فهم ملأ فرعون الذين استجابوا للحق رغم تعرضهم للمخاطر، وهذا الإيمان الذي يكون مع العقبات والتهديدات ثوابه عند الله سبحانه وتعالى من أعظم الثواب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد).
فهو يبين فضله صلى الله عليه وسلم لنعلمه، ويبين فضل من أخيف في الله سبحانه وتعالى فصبر، وفضل من أوذي في الله سبحانه وتعالى فصبر، هذا الإيمان رغم العقبات، وهذا العمل الصالح الذي من أجله قدر الله عز وجل وجود من يفتن أهل الإيمان؛ لأنه يحب سبحانه وتعالى أن يظهر من أهل الإيمان آثار حبهم لله عز وجل، وآثار إيثارهم له عز وجل على من سواه، وآثار خوفهم منه سبحانه وتعالى دون من سواه، رغم أنهم يخوَّفون بأنواع الأذى والاضطهاد، ويقع في قلوبهم ما يقع من الخوف الفطري من هذه الأمور المؤلمة، ومن الفتن والعذاب والقتل وانتهاك الحرمات، وقد تهدد فرعون مرة أخرى بعد ظهور الآيات: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، ولقد فعل ذلك بالمقربين منه، فمما ذكر: أنه ممن قتلهم بأشنع القِتْلة امرأته المؤمنة، وكذلك فعل بمن آمن، ومع ذلك فاستجاب المؤمنون وعلموا أن ذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى.(43/4)
تخويف المؤمنين وتهديدهم من أسباب زيادة إيمانهم
في قدرته عز وجل أن يؤمن أهل الإيمان على الدوام، وهو سبحانه وتعالى قدر الابتلاء بشيء من الخوف؛ لتظهر عبودية الصبر، وعبودية التصديق واليقين بوعد الله، واليقين باليوم الآخر، وأنواع الإيمان والإسلام والإحسان، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فإذا وجدتَ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى عليه مخاوف وعقبات فاعلم أن ذلك لك، وأن ذلك لمصلحتك، لتزداد إيماناً وإسلاماً، كما قال سبحانه وتعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172 - 173].
ما إن قالوا لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، حتى كان ذلك سبباً لزيادة الإيمان، فالله عز وجل جعلهم يزدادون إيماناً عندما قالوا لهم: فاخشوهم، وعقب بالفاء: ((فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)) وسرعان ما يزداد الإيمان مع هذه التهديدات التي يريدون بها الصد عن سبيل الله، لكنها تدفع المؤمن إلى اللجوء إلى الله عز وجل، والتوكل عليه والاحتساب، وتدفعه إلى أن يتذكر أمر الآخرة، ويزداد عبادة لله عز وجل من صلاة وركوع وسجود وصيام وغير ذلك، فيزداد إيماناً مع إيمانه، وكذلك يحضر في قلبه معاني الإيمان كأنه يراها بعينيه، فهو يعبد الله كأنه يراه فيزداد إحساناً، فعند ذلك ينتقل إلى مراحل أخرى وأطوار أخرى بفضل الله، قال تعالى: ((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)).
إذاً: لا تتوقع أن تجد الطريق إلى الالتزام مفروشاً بالورود، ولا تنتظر أن يكون من حولك معيناً لك على أسباب الخير، ولا تعلق التزامك على أن تجد الطريق آمناً، بل ستجد فيه من المتابعة، والمخاوف، والمضارة ما يزيدك بفضل الله عز وجل إيماناً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] فلتعلم أنك تسير في طريق وسوف يطلبك غيرك فيه ويتابعونك؛ ليردوك ويصدوك، فلن تجد الطريق إلى الجنة مفروشاً بالورود، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) فالجنة حفت بالمكاره حتى ظن جبريل أو خشي جبريل ألا يدخلها أحد، وحفت النار بالشهوات حتى خشي جبريل ألا ينجو منها أحد، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(43/5)
الكبر سبب في هلاك صاحبه
قال تعالى: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ)) متكبر والعياذ بالله، وهذه بداية نهايته، وهذه الأوصاف التي ذكرها الله عز وجل من الكبر والإسراف في الفساد موجودة فيه: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)).
وهذه مقدمة لبيان هلاكه، واستحقاقه العذاب في الدنيا والآخرة، وهكذا جزاء كل عال متكبر، وجزاء كل مسرف في معصية الله ومخالفة رسله، وإذا وُجد الكفار والظلمة والمنافقين قد أسرفوا وتوسعوا في الإسراف، وزادوا في الكفر والفسوق والعصيان، فذلك؛ لأن الله يريد أن ينتقم منهم، ويريد أن يصيبهم بعذاب من عنده سبحانه وتعالى.(43/6)
من شروط صحة الإيمان التوكل على الله
قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].
هذا الدور العظيم الذي يقوم به نبي الله موسى، والذي يجب أن يقوم به المؤمنون في تواصيهم بالحق، وإن من أعظم التواصي بالحق الذي أمر الله عز وجل به: التواصي بالتوكل على الله، وهو شرط في الإيمان وشرط في الإسلام، أو بالحقيقة هو ركن من أركانهما، بمعنى: أنه لا يصح إيمان عبد إلا بالتوكل على الله سبحانه وتعالى، وكذلك إسلامه الظاهر والباطن إسلامه الكامل، وهذا من المواطن التي اجتمع فيها الإيمان والإسلام، وكانا بمعنى واحد ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا)) أي: عليه وحده، واحتسبوا عند الله سبحانه وتعالى توكلكم ذلك، وهذا الذي يجب أن تهتموا به في مواجهة ما يكيد به فرعون، وما يفتن وما يخطط وما يدبر، فالتوكل على الله خصوصاً عند انعدام الأسباب، كما قال عز وجل مبيناً قول موسى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].
فموسى عليه السلام يوحي في قلوبهم، ويجدد في قلوبهم معاني الإيمان والإسلام، وهذا التوكل على الله سبحانه وتعالى هو: اعتقاد بأن الله وحده النافع الضار المعطي المانع الخافض الرافع القابض الباسط مالك الملك المحيي المميت وحده لا شريك له، فلا يملك الناس لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يملكون ذلك لغيرهم، ولا لأنفاسهم التي تتردد، وقلوبهم التي تنبض، والدم الذي يجري في عروقهم، كل ذلك لا يملكون منه ذرة، ولا يستطيعون استمراره ولا إيقافه، ولو حصل لهم من ذلك شيء، بأن يتوقف وينتهي ما استطاعوا دفعه، وهذا أمر بديهي لا ينكره عاقل، فلا يوجد من يقول: أنا الذي أجعل القلب يدق، ولا يوجد من يتصور أنه هو الذي يجري الدم في عروقه، ومع ذلك فأكثر الناس في غفلة عن هذه العقيدة التي هي أوضح من شمس النهار: أن الله وحده هو النافع الضار، ثم العمل بناء على هذا الاعتقاد في كمال الوثوق بالله عز وجل، وفي جلب مصالح الدين والدنيا والآخرة، ودفع المضار عن العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهذا التوكل على الله عز وجل من أعظم صوره التوكل عليه في أمر الآخرة، ثم التوكل عليه سبحانه وتعالى في هداية الخلق، ليس فقط في تحقيق عبودية نفسك، فتتوكل عليه في خاصة نفسك، بل تزيد إليه أن تتوكل عليه في تحقيق العبودية في الأرض لله سبحانه وتعالى، وتتوكل عليه في نصرة الدين، وهذا هو توكل الأنبياء والأولياء خاصة، وإن توكل أنبياء الله عز وجل في أن ينصر الله عز وجل دينه رغم انعدام الأسباب التي بأيديهم، ورغم ضعفهم وعجزهم، لهو من أعظم الأسباب التي يقويهم الله عز وجل بها، ويعينهم بإرادته على كسر الجبارين، وفي التمكين للمستضعفين، فهي إرادة ماضية لا يقف شيء أمامها، فتمضي حيث يشاء سبحانه، وحين يشاء سبحانه وتعالى.(43/7)
نصر الله لبني إسرائيل وجعلهم أئمة يُقتدى بهم في الخير
قد بين سبحانه وتعالى استجابة بني إسرائيل لدعوة موسى بالتوكل على الله، وفهموا مفتاح الخير الذي دلهم عليه موسى صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أمامهم عظيم التوكل على الله، فلا يخافون في الله لومة لائم، ويكثرون من الدعاء والتضرع: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86].
فصاروا أئمة في تعليم الناس هذا الخير العظيم، وصار منهم أئمة يعلمون أهل الإيمان على الدوام كيف يدفعون فتنة الظالمين والكافرين، وكيف يتحملون أنواع البلايا والمحن متوكلين على الله عز وجل: ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)).
وذلك لأن المحن تزيد الإيمان، وانعدام الأسباب الذي قد يتألم منه المؤمن هو في الحقيقة لمصلحته، فإن عامة قلوب البشر تتعلق بالأسباب، فمن رحمة الله عز وجل أن يقدر لهم مراحل من سيرهم، ومن دعوتهم، وفي صراعهم مع عدوهم أن تنعدم الأسباب، وذلك حتى تخلص القلوب لله: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)).
فقدم الجار والمجرور؛ للاختصاص وللاهتمام، ولأنه لا يوجد سبب يأخذون به، وفرعون متسلط أعظم التسلط، فقد حصرهم قبل ولادتهم، وقد أحاط بهم هو وجنوده، وجنوده والعياذ بالله مطيعون طاعة تامة مهما كانت الأوامر، ظاهرة في الظلم والطغيان والكذب والباطل، فقد وجد من يصدقه في أنه الرب الأعلى، ووجد من يصدقه في أنه لا يوجد لهم إله غيره، ووجد من يبني له الصرح؛ لعله يبلغ السموات ليطلع إلى إله موسى، ووجد من يقتل له السحرة، فهم كما قال الله عز وجل عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
فالفسق هو الذي أدى بهم إلى ذلك، وكثرة الخروج على شرع الله سبحانه وتعالى، والمداومة على ذلك أدى إلى هذه النوعية العجيبة من البشر الذين يطيعون حتى في الدخول إلى البحر المنفلق أمام أعينهم بعصا موسى، فعجباً لهؤلاء القوم! ماذا يصنع الفسق بأصحابه؟! ماذا تصنع المعاصي؟! ماذا تصنع بهم من طمس البصائر وانعدامها بالكلية والعياذ بالله؟! وانعدام الفهم، والفسق يؤدي بهم إلى الطاعة العمياء، والتقليد الذي لا نظير له في حياة البشر، نعوذ بالله من ذلك، فهذا كله من شدة الأمر على بني إسرائيل، وهذا لمصلحتهم لتحقيق كمال التوكل: ((عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)) ثم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)).
التفسير فيها على وجهين، الوجه الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنوننا، وهذا موافق للسياق من أوله؛ لأنهم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، فإذا كان أهل مصر على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وهم من قومهم ومن جلدتهم فكيف ببني إسرائيل؟! لا شك أنهم أشد خوفاً، وهم يخافون أن يفتنهم فرعون وجنوده.
الوجه الثاني: ربنا لا تجعلنا فتنة لهم، أي: لا تجعلنا إذا هزمنا وقتلنا وفشلنا سبباً لفتنتهم هم، وسبباً لظنهم أنهم على الحق، فإن أكثر الأمم يظنون أن الحق هو الانتصار، ولذلك يكونون تبع المنتصر القوي، حتى ولو كان باطله أظهر من شمس النهار، وحتى لو كان ظلمه وعدوانه لا يتنازع فيه اثنان، ولكن أكثر الناس عندهم الحق هو القوة، وأن من غلب فهو صاحب الحق، والمغلوب محقوق وظالم ومجرم يستحق أنواع العقاب، وهكذا عند الناس، فإذا هزم أهل الحق كان ذلك سبباً لفتنة أهل الباطل، فهذا وجه حسن في التفسير بمعنى: أنهم يخافون أن يصيروا فتنة للقوم الظالمين، أي: أن يكونوا سبباً لفتنتهم، سبباً لبقائهم على الكفر، يقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما انتصرنا عليهم، وطالما أننا انتصرنا عليهم فهم على باطل، فيظنون أنفسهم أنهم على الحق، فيفتنون أمماً وأجيالاً تلو أجيال ونعوذ بالله من ذلك، وكلا المعنيين في تفسير الآية صحيح، فالمؤمنون يحتاجون إلى أن يثبتهم الله حتى لا يفتنوا، لأن التثبيت ليس من عند أنفسهم، فالتثبيت من الله، فهو سبحانه مقلب القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون).
فيتوسل النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع التوسلات إلى الله عز وجل كالإلهية، وبأنه سبحانه وتعالى الحي الذي لا يموت، وبأن الخلق ضعفاء، ويتوسل بالإسلام، وبالإيمان، وبالتوكل، وبالإنابة، وبالمخاصمة لله عز وجل، وبه سبحانه وتعالى؛ حتى لا يضله الله، ويتوسل بعزة الله (أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) فإذا كان هذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم واستحضار حاجته إلى التثبيت، وقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فكيف بحاجتنا عباد الله، وليس لنا من العصمة ما للنبي عليه الصلاة والسلام؟! إن حاجتنا إلى أن يثبتنا الله، وأن ينجينا من الفتن، وأن يهدي قلوبنا حتى نلقاه مؤمنين، لهو أشد من حاجة الغريق الذي يغرق، ولا أحد يغيثه إلا ربه سبحانه وتعالى، فهو يتوسل إليه ويستغيث به موحداً له، ولو أشرك في غيره من المواطن، فالله سبحانه وتعالى يريد منا أن نوحده بالاستغاثة والاستعانة واللجوء إليه، والتثبيت إنما هو منه سبحانه وتعالى، فهو مقلب القلوب، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
وأما المعنى الثاني وهو: خوف الفتنة على الناس، فهو معنىً عظيمٌ في قلب الداعي، حيث أنه ليس فقط يبحث عن مستقبل نفسه ونجاته وتثبيته، بل يبحث عن مستقبل أهل الأرض، ولا يريد أن يفتن الناس، ولا يريد أن تكون هزيمة أهل الحق سبباً لبعد الناس عن الدين، فهو يريد أن يهتدي الخلق، وأن يظهر الإسلام، ويظهر الحق ليس فقط لكي يستمتع بالنصر والتمكين، أو يستريح بعد العناء، أو ليجد لذة ونعمة الأمان بعد الخوف، وإنما يريد أن يظهر الحق، وأن يعلو الإسلام ليؤمن الناس؛ وليدخلوا في دين الله أفواجاً، وليهتدي من شاء الله سبحانه وتعالى له أن يهتدي، فالله عز وجل جعل قلوب المؤمنين خير القلوب، وإن خير أمة أخرجت للناس هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يريدون الخير للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فهم خير الناس للناس، يودون أن يهتدي الخلق، وأن يعرفوا ربهم عز وجل قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:85 - 86].
فنحن لا ننجو بحسن تدبيرنا، ولا بتخطيطنا، ولا بذكائنا، ولا بأعمالنا، وإنما برحمة الله {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} [يونس:86].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.(43/8)
وإبراهيم الذي وفى
لنا في سلفنا الصالح من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أسوة حسنة في طريق الدعوة إلى الله.
ومن هؤلاء الذين نقتدي بهم ونقتبس من أنوارهم إبراهيم عليه السلام، فقد كان إماماً في الدعوة والجهاد والصبر والتضحية، وفي سيرته العطرة عبرة للمعتبرين، ونور في طريق الدعاة العاملين، وتسليةٌ لمن ابتلاهم الله عز وجل بظلم الظالمين وحقد الحاقدين.(44/1)
إبراهيم إمام للناس في مقام الدعوة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد جعل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام إماماً للناس في مقامات متعددة: في مقام الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد والبراءة من الشرك، والدعوة إلى الله، والتضحية والبذل في سبيل الله عز وجل، والصبر والاحتساب، فهذه مقامات وغيرها كثير من أجلها وصف الله عز وجل إبراهيم بأنه وفى، فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، وقال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فقد أتم ما أمره الله عز وجل به في كل ما تكلم به سبحانه.
ومن أهم هذه المقامات التي ينبغي أن نتوقف عندها كثيراً لنأخذ منها نوراً على طريقنا، ولنأخذ منها العبر والعظات: مقام الدعوة إلى الله عز وجل، وهو مقام يتضمن عبوديات مختلفة، منها: الغضب لله سبحانه وتعالى، والصبر على ما يصيب الإنسان في سبيل الله، والتوكل التام، والتضحية بالنفس والمال والوطن والأهل والعلاقات الاجتماعية في سبيل إعلاء كلمة الله، وحسن الظن بالله، واليقين بوعده، والثقة به سبحانه وتعالى.
قال عز وجل في بيان دعوة إبراهيم لأبيه وقومه {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:51 - 73].(44/2)
تمكين الله لإبراهيم من العلم والعمل
أتى الله عز وجل إبراهيم رشده من قبل، أي: من أول نشأته -على أحد الوجهين- أو من قبل موسى وهارون اللذين سبق ذكرهما قبل ذلك في سورة الأنبياء، فآتى الله عز وجل إبراهيم رشده وفهمه وعلمه من أول نشأته، وهذه فضيلة لمن نشأ في طاعة الله عز وجل وعلى دينه، وذلك كما قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما تناظروا في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء غيرها، فدل ذلك على أن من ولد في الإسلام فقد أتم الله عز وجل عليه نعمته، وجعله من أول نشأته على الهداية والفطرة المستقيمة، فهذه نعمة لا يقدرها كثير من المسلمين، ولا يرون فضل الله عز وجل العظيم عليهم في ذلك؛ لأنهم لم يقارنوا بينهم وبين غيرهم ممن لم يؤت رشده، ولم يهد إلى الصراط المستقيم في أول نشأته.
والله سبحانه وتعالى يحب الشاب الذي ينشأ في عبادة الله، وإنها لفرصةٌ عظيمة أن تنشأ في ظل هذا الدين بفضل الله، وأمامك هذا الالتزام الميسر بالدعوة والمنهج الحق، والسنة بفضل الله ميسرة لمن طلبها وسلك سبيل تعلمها والتزامها، فما أكثر من يعرض عن نعمة الله فلا يشكرها، فلا تكن من هؤلاء، واعلم أن من فضل الله عليك سرعة الالتزام في أول النشأة، فهو من أعظم ما يهيئ لك الاستمرار على الالتزام على الخير من العلم والعمل الصالح في مستقبل العمر، فإن من حفظ جوارحه لله في شبابه حفظها الله عليه في آخر عمره (هكذا وصى النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس وهو غلام حيث قال له: احفظ الله يحفظك).
وإيتاء الله إبراهيم رشده من أول نشأته فيه ردٌ على من يفسر نظر إبراهيم في النجوم على أنه كان يبحث عن الله عز وجل، فإبراهيم كان على الفطرة السوية المستقيمة من أول نشأته، وكيف يتسنى له أن يبحث عن الله وهو يجزم لأبيه وقومه أنهم في ضلال مبين؟! فهو إنما كان يناظر قومه؛ لأن الله آتاه رشده من أول نشأته، وهو عز وجل عليم يضع الأشياء في مواضعها، فيضع الهدى في من يستحق أن يكون من المهتدين، ويضع الشكر في من يستحق أن يكون من الشاكرين الذين يقبلون نعمة الله عز وجل، والله سبحانه قسم الأرزاق والأخلاق والأعمال والأقوال بعلمه وحكمته، فوضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، ووضع البذر الخبيث في الأرض الخبيثة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، وأعلم بمن هو أهل لرسالته، فلقد قسم سبحانه فضله على عباده المؤمنين بعلمه السابق، وبرحمته وحكمته، فلا يعترض عليه أحد، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛ لأنه لا يفعل شيئاً إلا بعلم وحكمة.(44/3)
محاجة إبراهيم عليه السلام لقومه
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، فهو يسأل سؤال استنكار واستقباح لما يفعلونه من الاعتكاف وملازمة عبادة التماثيل، وهي إفك باطل مصنوع، كما قال في الآية الأخرى: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:86 - 87]، فدل ذلك على أنه يعرف الله عز وجل بأنه الحق، وأن ما يدعى من دونه هو الباطل، قال: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ))، أي: ما هذه الأصنام التي تصنعونها، وكانت تتخذ عندهم رموزاً لأنواع النجوم، فصاروا يعبدون هذه الأوثان من دون الله عز وجل.
إن هذه الأصنام قد أضلت كثيراً من الناس، وعبادتها قديمة جداً من عهد نوح عليه السلام، وهو أول زمن وقع فيه الشرك على هذه الأرض من بني آدم؛ وذلك بسبب الغلو والإفراط في محبة بعض الصالحين -وهذا سبب في ضلال الناس في الواقع الذي نعيشه- وبسبب بعدهم عما أوحى الله عز وجل من تفسير لهذا الوجود، وأنه خلق من خلق الله، فكان قوم إبراهيم يعبدون هذه الأصنام والتماثيل والأوثان على أنها ترمز للنجوم التي جعلوها وسائط بينهم وبين ربهم فعبدوها من دون الله.
قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53]، وهكذا أهل الباطل حجتهم التقليد بلا حجة بينة، والشرك لا تقبله الفطر، ولا تسلم به العقول، ولا ترضاه النفوس، بل هو مرض وداء، لا يمر بسهولة إلى قلب الإنسان، ومع ذلك فهو أكثر انتشاراً بسبب التقليد الأعمى، فقد وجدوا آباءهم على أمة فهم على آثارهم مقتدون، ولو تأملت عقائد البشر في المشارق والمغارب لوجدت عجباً لا يمكن أن يقبله أي عقل سليم، ومع ذلك تجد ملايين البشر يعتقدون هذه الاعتقادات الفاسدة، ويربون عليها أبناءهم، وسينشأ على ذلك أجيال تلو الأجيال، وإنه لمن العجب أن البشر يعبدوا حجراً صنعوه بأنفسهم! وكيف قبل الإنسان أن يعبد حيواناً يراه بهيمة لا تنطق أمامه؟! وكيف يعبد إنساناً مثله وهو يعلم أنه كان عدماً محضاً؟! يراه يأكل الطعام، ويدخل الخلاء، ويقضي حاجته، ويحتاج إلى الهواء والماء وسائر حاجات البشر، ومع ذلك تجد الدليل دائماً: التقليد الأعمى، وهو الذي يدفع الناس إلى ذلك، كما قال عز وجل عن ملكة سبأ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109].
وهذا دائماً يدفع المؤمن إلى الحذر من التقليد المجرد عن الدليل، وأنه لا بد أن ينظر فيما نشأ عليه من قيم اجتماعية أو عادات أو تقاليد، ولا بد أن يزنها بميزان الشرع، وأن يكون مستعداً لمخالفة ما يعلم أنه خلاف الدليل، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، ولا يكون مقلداً تقليداً أعمى للآباء والأجداد، فقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فهي ليست من حجة أهل الإيمان، وإنما هي من كلام أهل الباطل والكفر، فلا يتشبه بهم أهل الإسلام ولو في فروع دينهم، وإنما يسألون دائماً أهل الذكر عن الذكر إذا جهلوه، كما قال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وأهل الذكر هم: أهل العلم، والذكر هو: المنزل من عند الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فلا يُسأل أهل العلم عن رأي فلان ولا عن مذهب فلان، وإنما يُسألون عن الذكر الذي هم أهله والذي هم يعلمونه، وهذا من أوضح البيان.
فالواجب على العالم أن يجتهد في معرفة حكم الشرع، لا البحث عن الآراء المتناقضة، فينتقي منها أطيبها كما يشتهي، ويزعم للناس أنه يختار لهم الرأي الأسهل، فليس هذا بالطريق المرضي، فمن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، وعلى طالب العلم أن يأخذ من أقوال أهل العلم بالدليل، وعلى من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر عما لا يعلم، فيسألهم عن حكم الشرع في أي مسألة تمر به.
والواجب على كل مسلم أن يتجنب التعصب الأعمى، فلا يتبع غيره على أمر قد بانت له فيه السنة، كما قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وإنما بين العلماء خطر التقليد حتى لا يقع الناس فيما وقع فيه الأسلاف والمتقدمون ممن عبدوا غير الله عز وجل بسبب التقليد.(44/4)
الصدع بالحق للمخالفين
قال الله: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53 - 54].
وهذا جهر وصدع بالحق، فليس مقام الدعوة مقام مجاملة ولا مداهنة، ولا يحتمل هذا المقام أن يتكلم الإنسان بالباطل في صيغة الحق، أو أن يسكت عن بيان الضلال البين وفضيحة أصحابه، ولا يراعي جانب أنه لا يريد أن ينفرهم، فلقد نفر كثير من أقوام الرسل بسبب كلمة الرسل بالحق، وأنهم على ضلال، وسموا ذلك شتماً لآلهتهم وتسفيهاً لعقولهم، وما دفع ذلك الرسل إلى أن يغيروا أسلوب المواجهة الحاسمة للباطل، أو يسموه بغير اسمه.
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]، ذلك أن الحق لا يقوم في قلب ابن آدم إلا بهدم الباطل، والبراءة منه وعدم المداهنة فيه، وإنما يمكن للداعي إلى الله عز وجل أن يغير وسيلة الدعوة، كأن يتكلم بأسلوب يختلف عن الآخر حسب مقتضى الحال، ويمكنه أن يغير أرض الدعوة، وكان يهاجر إلى أرض أخرى، كما يمكنه أن يغير المدعوين، ويدعو غير من أعرضوا عن دعوته، ولكن لا يمكنه أن يغير الحق، ولا أن يقول الباطل، ولا أن يداهن فيما يعلم من شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يبين الباطل ويصفه باسمه، ويقول: إنه ضلال مبين.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55]، وهكذا هي هذه حياة أكثر البشر؛ فيظنون أن الأمور كلها لعب ولهو، بل حتى الدين يأخذونه باللعب، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) [المائدة:57]، وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]، فأكثر الناس في لهو ولعب، وجعلوا قضية الإيمان تحتمل المزاح والسخرية، واللهو واللعب، بل جعلوا قضية الموت والحياة، وما أخبر الله به من البعث والنشور، وتصديق الأنبياء واتباع كتاب الله عز وجل لعباً، ولذا قالوا لإبراهيم: ((أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ))، فهم تعودوا على أن يجعلوا أمر الدين لهواً ولعباً، بل إن كثيراً منهم يأخذ من الدين ما يشتهيه.
فاحذر أيها المسلم! أن تكون على هذا الطريق ولو في جزئية من جزئيات حياتك، فإن تعظيم شرع الله عز وجل وتعظيم أوامره لازم من لوازم الإيمان، بل جزء من أجزائه لا يحصل الإيمان بدونه.(44/5)
بيان الإله الحق المستحق للعبادة
قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]، فبعد أن بين ضلال ما هم عليه صرح بالحق حتى يكون الحق مبنياً في القلوب على طهارة، فيبدأ بالنفي ويثني بالإثبات، فيقول: لا إله إلا الله، أي: يتبرأ من الشرك وأهله، ثم يثبت التوحيد لله، كما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا} [الزخرف:26 - 28] أي: جعلها الله عز وجل، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]، أي: أن كلمة لا إله إلا الله باقية في نفس إبراهيم، ولا يزال في عقبه ونسله من يقولها، فلم تمح دعوة التوحيد من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإن كان الشرك قد طرأ على كثير من ذريته، لكن بقي فيهم من يوحد الله عز وجل.
فهذا درس عظيم من دروس الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومقام قد ضيعه كثير ممن ينتسب إلى الدعوة والدين والعلم، فيداهن أهل الباطل ولا يصرح بباطلهم، وربما اكتفى بالتصريح ببعض الحق دون أن يبين الباطل.
قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء:56]، وهذا استدلال على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، فمعنى فطر السموات والأرض أي: خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، وهو أوضح دليل على استحقاق الرب عز وجل العبادة.
ومن معاني الرب: الإله أيضاً، ((بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: الذي يستحق أن يعبد هو ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)).
قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، أقسم إبراهيم بالله أن يكيد الأصنام، فهو يريد هدمها في نفوسهم ويريد هدمها في حقيقة الواقع، وإن كانت إرادة هدمها في النفوس مقدمة على هدمها في حقيقة الواقع، ولذا كاد إبراهيم هذه الأصنام بأن نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، لينشغلوا عنه ويتركوا أخذه معهم إلى عيدهم، قال: إني سقيم منكم، أو سأسقم، أي: سأمرض قبل الموت، ولابد من أحد هذه الأنواع للتعريض.
فكان ذلك حتى يتسنى له أن يخلو بالأصنام، ودخل البهو الكبير الذي قد وضعت فيه، وقد جعلوا أمامها طعاماً قربوه إليها لأجل أن تبركه تلك الآلهة المزعومة، وعجباً لهم يرونها أحجاراً صماء، ومع ذلك يتركونها وحدها لتبرك ذلك الطعام، فقال لها إبراهيم مستهزئاً ساخرًا: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91]، حتى تنفي عن نفسها نقيصة الأكل، فإن الأكل في الحقيقة علامة على الحاجة والضعف والفقر، ثم قال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، فعند ذلك راغ وأسرع عليهم ضرباً باليمين؛ لأنها أقوى، قال سبحانه وتعالى: ((فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا))، أي: فتاتاً وقطعاً صغيرة، ((إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون)) ولقد ترك إبراهيم الصنم الكبير، مع أن الغرض هو تكسير الأصنام كلها في الواقع، وكان الأولى بالتكسير هو الصنم الكبير، ولكن إبراهيم تركه لكي يتمكن من إزالة المنكر الأكبر الذي هو الشرك الذي تعلق في القلوب.
فلا يكفي أن تكسر صنماً أو وثناً، وتظل القلوب متعلقة به، فإنك في الحقيقة لم تغير شيئاً، وسوف يعبدون صنماً بدلاً منه، فلا يهدم الشرك إذا لم تهدم هذه الأصنام في القلوب، وهذا فيه دليل على مراعاة المصلحة والمفسدة في قضية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه يجوز ترك بعض المنكر للتمكن من إزالة ما هو أكبر منه، لا رضاً بالمنكر ولا إقراراً به، ولكن إثارة لعقول البشر في إزاحة الباطل عنهم كما فعل إبراهيم عليه السلام، وكذلك حتى يتسنى له أن يقيم عليهم الحجة التي يتمكن بها من هدم الباطل في قلوبهم، وهذا هو الغرض المقصود، وسواء تحقق أو لم يتحقق، ولذا كان الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة هو أن يدعو إلى الله ويهدم الباطل في النفوس، ولم يكسر صنماً من أصنام المشركين، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى كان قد فتح عليه من جوامع الكلم ما يقيم به الحجة دون كسر الأصنام، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية، والأصنام حول الكعبة منصوبة، فلم يكسرها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراعي العهد الذي دخل به مكة، فأراد أن يفِ بالعهد ولا ينقضه، ثم لما دخلها فاتحاً بفضل الله كسر تلك الأصنام، وجعل يشير إليها وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، والأصنام تتساقط على وجهها.
فهكذا تنمو دعوة الحق بفضل الله، وليس هذا باختلاف بين منهج إبراهيم ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو منهج واحد وطريقة واحدة، وإنما كسر إبراهيم الأصنام لا لمجرد إزالتها، بل ليقيم عليهم الحجة، والحجة تتنوع، وهذا اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فقد يحلو للبعض أن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أتم من حكمة إبراهيم، وليس الأمر كذلك، بل إبراهيم إمام الأنبياء، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه واتباع ملته، وإنما هو اختلاف في أنواع الحجج التي يراد إقامتها، وقد سبق أن إبراهيم ترك الصنم الكبير حتى يقيم الحجة عليهم ((لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ))، فيتنبهوا إلى عجز تلك الأصنام وفقرها وحاجتها، والطريق واحد بفضل الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يوازنوا في أنواع إقامة الحجة والبيان على من يدعونهم، ويختاروا المناسب من ذلك في كل وقت، ولا يبادروا دائماً إلى طريقة واحدة، لأنه ربما أفسدت عليهم دعوتهم.
فكثير من الناس قد يستعمل من وسائل تغيير المنكر -في ظنه- ما يترتب عليه زيادة ذلك المنكر، بل ويترتب عليه تمسك الناس به أكثر، فهذا أمرُ لا بد أن نفقهه، ونعلم أن ترك بعض المنكر لغرض إقامة الدعوة إلى الله عز وجل في وسط الناس أمرٌ قد سبق إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فضلاً عن أن يكون هناك عجز عن إزالة ذلك المنكر، فإنه عذر للدعاة إلى الله في عدم إزالته بين يدي الله طالما قد دعوا إلى الله، وصرحوا بأن هذا منكر، وعلى الإنسان أن يترك أرض المنكر إذا أقام الحجة، وظل الناس على باطلهم لا يقبلون الحق.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(44/6)
إبراهيم إمام للناس في مقام الصبر والتضحية والاحتساب
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فقد قال سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:58 - 59].
رجع القوم من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسرة إلا ذلك الكبير، وفي فطرتهم أن الأصنام لا تتحرك ولا تصنع شيئاً، وأنه لابد من فاعل فعل بالأصنام ذلك، فقالوا مقرين في حقيقة الأمر بعجز الأصنام، وأنها جمادات لا تصلح لشيء: ((قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا))، والإنسان قد فطر على أن كل فعل لا بد له من فاعل، وأن الجماد لا يصلح أن يكون فاعلاً، وأن هذه الأرض وما فيها وما عليها لا تصلح أن تكون فاعلاً، والعجب أن الناس يقبلون في زماننا هذا -بعد أن مكنهم الله عز وجل ما لم يمكن لمن قبلهم من أنواع العلوم والاكتشافات والقدرة- أن هذا الكون الذي أحكم وأتقن غاية الإتقان بغير فاعل، وينسبون إلى الطبيعة أنها هي التي تفعل، فإذا وجدوا الرياح تعصف بهم قالوا: غضب الطبيعة، وإذا وجدوا الأرض تتزلزل من تحتهم قالوا: اضطراب القشرة الأرضية، ألا يتعظ هؤلاء ويتذكرون أن الله عز وجل قد فطر الخلق جميعاً على أن كل فعل لا بد له من فاعل، حتى المشركون يقرون بذلك، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37].
فقد كانت الآيات في الماضي تأتي في كل قرن، وربما في كل سنة كالطوفان والغرق والريح المدمرة والزلازل، وجعل الله لهم أنبياء كثر، وفي آخر الزمان انقطعت النبوة، وكثرت الآيات، فلا يكاد يمر أسبوعاً إلا وترى آية من آيات الله تثبت عجز البشر جميعاً.
إن الزلازل والرياح والأعاصير والأوبئة المنتشرة في المشارق والمغارب، وما يصيب البشر بأنواع العجز والضعف، كل ذلك تذكير من الله سبحانه وتعالى لهم، أفلا يعي بشر هذا الزمان ما وعاه المشركون من قبل من أن كل فعل له فاعل، وأن الأصنام -فضلاً عن الأرض التي يتحركون عليها، ولم تشكل في صورة تمثال ولا غيره- لا تصنع شيئاً؟! قال الله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، والعجب أنهم يعرفون أن الأصنام لا تصنع شيئاً، ومع ذلك يسمونها آلهة، ويجعلون من فعل بها ذلك ظالماً، وكان البعض منهم قد سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول: ((تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ))، فسرعان ما أرشدهم إلى ما يبحثون عنه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، فهذه الأمور غالباً لا تخفى، وإبراهيم ما كان يقصد الاختفاء، وإنما صنع ذلك وهو يريد أن يعلموه، فلا يتصور في مثل هذه الأمور أن تختفي، وإنما الغرض منها إقامة الحجة ((قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى))، أي: شاباً، وهذا دليل على أن الشباب عليهم دور عظيم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن مقام إبراهيم عليه السلام -وهو فتى شاب يدعو إلى الله، ويكسر الأصنام، ويقيم الحجة، ويضحي بنفسه في سبيل الله- هو الأسوة الحسنة لهم في هذه الحياة، فكذلك كان الشباب هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا كانت الذرية من أتباع موسى صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، أي: الشباب، وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دعاة إلى الله عز وجل؛ طلاب علم عاملين بالحق، نافعين لأمتهم، يقومون بالحق ويجهرون به، ويدعون إلى الله، ويضحون في سبيل الله.
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61]، أي: على مشهد من الناس ((لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)) فعقدوا له محاكمة هي في الحقيقة محاكمة جائرة ظالمة، لكنهم يزعمون التثبت {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، وهذا تعريض منه عليه السلام؛ فإن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وإلا فهم لا ينطقون.
قال عز وجل: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وحماية ((ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ)) أطرقوا وراجعوا عقولهم، ففهموا ما أراد إبراهيم عليه السلام، وعلموا أنه أراد أن يرشدهم إلى عجز ذلك الصنم عن النطق فضلاً عن غيره، ومع ذلك انتكسوا ولم يقبلوا الحق الذي ظهر لهم من أنها لا تصلح أن تعبد، ولا تصلح أن تكون آلهة.
قال عز وجل: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، أنت تفهم ونحن نفهم أنها أصنام، ولا تستطيع صنع شيء {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66 - 67]، غضب لله عز وجل، وظهرت غضبته في هذه الكلمات، وذلك في التأفف منهم، وبيان باطلهم، والغضب مما يعبدون من دون الله، والبغض والكراهية لهذه العبادة الباطلة، ثم قال لهم: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)).
وبعدها صدر الحكم الجائر رغم عدم ثبوت التهمة، ولكن ثبت أن إبراهيم يكره عبادة الأصنام ولا يقرها: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]، فأوقدوا ناراً عظيمة نذروا لها النذور، وجمعوا لها الحطب حتى أنهم لم يستطيعوا الاقتراب منها، وجعلوه في المنجنيق ليرموه من بعيد {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97]، أي: في النار، وكان الأمر من الله عز وجل أسبق وأعلى من أمرهم، وأراد الله عز وجل أن يضرب بإبراهيم الأسوة الحسنة في التوكل لكل الدعاة إلى الله على ما يصيبهم في سبيل الله، فحين ألقي في النار قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ولم يتوكل على غير الله، ولم يفوض أمره إلى غير الله سبحانه وتعالى، ولم يأته الفرج من أول الابتلاء، بل حبس إبراهيم مدة، وألقي مقيداً في المنجنيق، وضرب المنجنيق لينطلق إبراهيم في الهواء، فيقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي آخر لحظة يأتي الفرج {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
فإذا حبست فتذكر حبس إبراهيم، وإذا قيدت فتذكر قيد إبراهيم، وإذا هددت فتذكر ما هدد به القوم إبراهيم، وتذكر توكل إبراهيم وحسن تفويضه الأمر إلى الله عز وجل وتوكله على الله، وقل من قلبك مع لسانك: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعند ذلك يتحول الأمر بإذن الله وفضله ونعمته ورحمته وعزته وحكمته إلى الخير لعبده المؤمن {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فأحرقت وثاقه وما ضره شيء من ذلك، حتى قال له أبوه فيما يذكرون: نعم الرب ربك يا إبراهيم، ذلك أنه فعل به ذلك ونجاه من النار، وكانت الأيام التي قضاها في وسط الجحيم من أحسن الأيام كما يزعمون، وهكذا المؤمن يظن الناس أنه معذب وهو في الحقيقة منعم بفضل الله ونعمته ورحمته، فقد اقترب من الله، واقترب منه الله عز وجل، فأنعم عليه بأنواع النعم، رغم ما يراه الناس حوله من ألوان العذاب.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا متابعة إبراهيم ومرافقة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخليله إبراهيم، وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأس الظالمين والكافرين والمنافقين عن المسلمين، فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.(44/7)
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر
إذا ضاقت السبل، وانقطعت المسالك، وفقد الناس الأمل، أتى الرسل والأنبياء ليثبتوا الناس، ويعدوهم بصدق موعود الله بنصر دينه، فموسى عليه الصلاة والسلام أيقن بالنصر حين أيقن غيره بالهزيمة أو القتل، ليري الله المؤمنين آية إغراق الطاغية فرعون ومن معه، وهكذا تنتهي كل طرق الكفر والغواية.(45/1)
عدم الاستعجال من أسباب إجابة الدعاء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:88 - 92].
لقد دعا موسى وأمن هارون عليهما السلام، والدعاء هو سلاح المؤمن الذي ينبغي أن يستعمله على الدوام، فهو لا يستغني عنه في وقت من الأوقات.
وقد استجاب الله عز وجل دعوة موسى وهارون عليهما السلام فقال عز وجل موحياً إليهما: ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)).
وذكر غير واحد من المفسرين: أنه كان بين دعاء موسى وإيحاء الله سبحانه وتعالى لهما بذلك وبين تحقق إجابة الدعوة سنوات.
والله أعلم كم كان بينهما من السنين، وقد ذكر بعضهم أنها أربعون سنة، والمهم أنها مضت بين ذلك مدة، بدليل ما أمر الله عز وجل به من الاستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون، ثم ذكر مجاوزته سبحانه ببني إسرائيل البحر بعد ذلك، وفي هذا دليل على عدم الاستعجال، وأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي، ويدع الدعاء).
فلا ينبغي للعبد أن يحدد وقتاً معيناً لإجابة دعوته؛ فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجل على المشركين فقال: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، وإذا استبطأ المؤمنون إجابة الدعاء فهذا علامة على أن الأمر قد اقترب بإذن الله تبارك وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة كما وعد أنبياءه ورسله، قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى:26]، فاستجابته سبحانه وتعالى لدعائهم تكون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، وهو عز وجل الذي يقدر متى تقع استجابته ومتى تكون، وليس لنا أن نقول: متى، وإنما يكون هذا بعلم الله عز وجل وحكمته، والذي علينا هو أن نوقن بوعده، وأن نثق بقوله سبحانه وتعالى؛ فهو عز وجل لا يخلف الميعاد، وكمال اليقين: أن يوقن الإنسان بتحقق وعد الله وإن كانت كل الأسباب تتجه في طريق آخر.(45/2)
معنى الاستقامة وأهميتها
قال عز وجل: ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا)) إذاً فقد تكون هناك فترة بين الدعاء وبين تحققه، وبين ما قدره الله عز وجل من تسلط الكفرة على المسلمين وبين إهلاك الظالمين والمجرمين، وهذه الفترة من الزمن لابد فيها من أداء الواجبات، وأول هذه الواجبات في هذا المقام: الاستقامة، فقد أمر الله عز وجل بها أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؟ فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم).
وذلك أن الفتن قد تجعل العبد بسبب ضغطها وشدتها وآلامها، يبحث عن طريق آخر غير الطريق الذي بدأ منه، ويبحث عن سبيل للتخلص من متاعب هذه الحياة، وذلك بموافقة أهلها ممن يريد إبعاده عن سبيل الله عز وجل ولو في بعض الأمر، فكان لابد هنا من الاستقامة.
والاستقامة: أن يبقى الإنسان على ما أعلنه من معاني الإيمان -وذلك أصل الاستقامة- أن يثبت على حقائق الإيمان، وأن يوحد الله سبحانه وتعالى.
ثم الاستقامة على الأمر والنهي تكون بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه سبحانه وتعالى، والاستقامة على طريق الآخرة تكون بتعظيم الرغبة فيما عند الله، والزهد في الدنيا، والرهبة مما عند الله سبحانه وتعالى.
والاستقامة هي التي يقدر الله عز وجل بسببها ثبات الطائفة المؤمنة التي يهيئها سبحانه وتعالى للمنازل العالية عنده في الدنيا والآخرة، ويهيئها الله سبحانه وتعالى لأن تكون خليفة الأرض، فيمكن الله عز وجل لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
والاستقامة أمر ضروري للمؤمن في جميع أوقات حياته، فلا بد له أن يظل مستقيماً على طريق الله الذي يوصله إليه سبحانه وتعالى، ولابد لتحقيق هذه الاستقامة من علم، فعلى الداعي إلى الله والمؤمنين عموماً أن يكونوا على علم بشرع الله سبحانه وتعالى؛ حتى لا يحرفوا ولا يبدلوا، وإن كان الداعي قد لا يستطيع مع نفسه أن ينحرف عن الدين صراحة، لكنه قد يؤول ويحرف ما أنزل الله عز وجل موافقة للناس.
إذاً: لابد من العلم؛ حتى لا يقع ذلك التبديل والتحريف والتأويل.(45/3)
فضل العلم والعلماء وخطر الجهل والجهلاء
تأمل في قول الله عز وجل: ((وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، فمن أعظم الخطر الذي نهى الله عز وجل عنه: اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فكيف إذا كان من يسير في طريق العمل من أجل الإسلام هو من الذين لا يعلمون، فذلك أخطر وأشد، فالجهل من أعظم المخاطر التي تهدد العمل في سبيل نصرة الإسلام.
إن العلم بأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه شرط في تحقق الاستقامة، فلابد أن نتعلم ما يلزمنا، نتعلم الإيمان والإسلام والإحسان، ونتعلم ما أنزله الله عز وجل من الكتاب والحكمة، وهذا لابد منه للدعاة إلى الله عز وجل، وللمجاهدين، والعاملين، والعُباد؛ فإن العلم إمام العمل والعمل تابعه، وإذا عمل الإنسان بغير علم أفسد أكثر مما يصلح.
ومن أخطر ما يتعرض له العاملون في الساحات الإسلامية أن يعملوا على جهل، أو أن يكون الناس مقلدين دون بصيرة، فدين الله عز وجل لابد أن يكون الإنسان فيه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فإذا كان أمر العلم بهذه المنزلة فلابد أن يكون من يقود أهل الإسلام ومن يعمل من أجل دين الله عز وجل على علم، والخطر عظيم إن اتبع من لا يعلم، فلابد من تجنب توسيد الأمر إلى غير أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وقد حذر الله أنبياءه ورسله الكرام من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، وهم لديهم من العلم بالله عز وجل ما يبين لهم الطريق، ومع ذلك حذرهم من اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فكيف بمن دونهم ممن قد يكون عنده من الجهل وعدم المعرفة ونقص العلم ما لا يستبصر به السبل المختلفة المفترقة؟! إن اتباع سبيل الذين لا يعلمون ضياع للدين والدنيا، وهو ضلال وهلاك للناس والعياذ بالله؛ لذا لا يكون الجاهل إماماً للناس، ولا يقود غيره؛ لأنه لا يدري، والتقليد لا ينفع أحداً، والذي ينفع هو العلم بآيات الله والحكمة التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، هكذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فلابد من علم الكتاب والحكمة وهي: السنة، أو أن السنة سميت بالحكمة لاشتمالها عليها، وتكون الحكمة في الكتاب والسنة معاً.
فقد افترض الله سبحانه وتعالى على الناس أن يرجعوا إلى أهل العلم منهم وأن يتبعوهم؛ لأنهم هم الذين يقودون الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مصالح دينهم ودنياهم.
إن اتباع أهل العلم سبيل للنجاة، ويكون المتعلم على سبيل النجاة باتباعه لسبيل أهل العلم، وأما اتباع سبيل الذين لا يعلمون، واتباع كل ناعق فهذا يؤدي إلى الضياع والهلاك.
ولقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام بالاستقامة وعدم قبول التنازلات عن الحق تحت ضغط الفتنة وشدتها، وأمرهم باجتناب سبيل الذين لا يعلمون، وهذا متضمن قطعاً بالأولى أن يكونوا هم من العلماء بأمر الله عز وجل، وأن يتبعوا سبيل من سبقهم من الأنبياء.(45/4)
فضل الله تعالى على بني إسرائيل
ذكر الله سبحانه وتعالى فضله على بني إسرائيل، وهو فضل منه سبحانه على كل مؤمن؛ إذ صارت آية من آيات الله، وسنة من سننه ماضية فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ونسب سبحانه وتعالى الفعل إلى نفسه وهو المجاوزة، ولم يقل: وتجاوز بنو إسرائيل البحر مع أنهم يتحركون بإرادتهم، ويفعلون ذلك باختيارهم، ولكن منة الله عز وجل بهداية المؤمنين وتوفيقهم وإعانتهم وتقويتهم لابد أن يشهدها المؤمنون في هذا المقام دائماً.
فقوله: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، فيه: كأنهم محمولون، والله عز وجل يذكر فضله على عباده المؤمنين بذكر أفعاله بهم، فليس للمؤمن أن يرى لنفسه الفضل، أو أنه هو الذي أنجى نفسه بتدبيره أو عمله أو سعيه، فلابد أن يشهد بالفضل لله عز وجل.
ومعنى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)) أي: فلق الله عز وجل البحر لموسى، وهذا سبب آخر لذكر المجاوزة كفعل من أفعال الله سبحانه وتعالى ببني إسرائيل، فالله الذي جاوز بهم؛ لأنهم ما كانت لهم قدرة ولا طاقة بأن يتجاوزوا ذلك البحر إلا بما فعله الله لهم من فلق البحر بعصا موسى، وقد ذكر الله عز وجل تفاصيل هذا الانفلاق العظيم في موضع آخر من كتابه في قوله سبحانه في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:52 - 68].
سنة من الله عز وجل ماضية أن البلاء يصل إلى غايته، وعند ذلك يأتي الفرج.
أمر الله موسى صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي أن يسري ببني إسرائيل، وأن يسير بهم ليلاً، واجتمع بنو إسرائيل جميعاً على طاعة موسى، وخرجوا في تلك الليلة حتى وصلوا إلى ساحل البحر، وفي الليل أدركهم فرعون وملأه، ولا شك أنهم مدركون ما وقع من بني إسرائيل، وأنهم قد رحلوا من مصر كلها، وفرعون متربص بهم، ويوجد من يخبره بخبرهم، فأعلن التعبئة بأسرع ما يمكن، وأرسل للجنود حاشرين في مدائن مصر كلها، وخرج الجنود بالفعل وهم جميع على حذر، مجتمعون على طاعة فرعون رغم ما رأوا من آيات كذبه وبطلانه، ورغم ما رأوا من آيات صدق موسى، وأنه جاء بالحق، ومع ذلك قال تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، وذلك لأنهم كانوا قوماً فاسقين، فالفسق يؤدي إلى العمى، وانعدام البصيرة، حتى يتبع الإنسان الباطل علناً جهاراً، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
ولقد كان موسى يعلم أن السرى بالليل لن يغني عنه من متابعة فرعون، بل لابد أن يتبعه فرعون وجنوده، وأن المشي ليلاً والإسراع إلى ساحل البحر لن يغير من الأمر شيئاً، وإن كان بنو إسرائيل قد تعلقوا بهذه الأسباب، وظنوا أنهم سوف يفوتون فرعون بالخروج ليلاً، والإسراع سراً، وما ذاك بحاصل، وإنما ينجون برحمة الله، وخرجت جموع جنود فرعون واجتمعت وحفزهم فرعون بأنواع التحفيز، فقال لهم: إن بني إسرائيل قلة قليلة، وإنهم يغيظون فرعون وملأه، وهذا عندهم من أعظم الجرائم، فإغاظة فرعون تقتضي الإعدام والتقتيل والتذبيح وغير ذلك، فإنهم إذا أغاظوا فرعون فلابد من الانتقام، هكذا ربي هؤلاء الجنود، واتبعوا إمامهم إلى النار والعياذ بالله فقالوا كما أخبر الله: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56] فهم قد أخذوا العدة بكل أنواعها، اجتمعوا وهم ألوفٌ مؤلفة.
قال عز وجل مبيناً حقيقة الأمر: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ)) فكان الأمر، أن الله هو الذي قدر ذلك ليخرجهم، وفعل الله عز وجل ذلك بهم عدلاً منه وحكمة، وأراد سبحانه وتعالى أن يخرجهم مما كان متعهم به من الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، والنعمة التي كانوا فيها فاكهين، أخرجهم سبحانه وتعالى بقدرته، وقد كانوا في سعة، ولو تركوا بني إسرائيل لكانوا في سعة، ومع ذلك خرجوا إلى مصيرهم وهم يظنون أنهم ينتقمون من عدوهم، وما كانوا يظنونها إلا فسحة أو نزهة، فإن بني إسرائيل ما قاموا لهم قط، ولا كان في قدرتهم أن يقوموا في وجوههم، ولكن يقدر الله بسنته الماضية المتكررة أن الفرج لا يأتي في أول الأمر، فوصل فرعون بالفعل إلى بني إسرائيل، كما قال الله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] فعند شروق الشمس وصل فرعون بالفعل إلى ساحل البحر.(45/5)
ثقة موسى بنصر الله تعالى
كان بنو إسرائيل قد سبقوا، وهنا تراءى الجمعان، فجزم أصحاب موسى بأنهم قد أدركوا، ماذا يصنعون؟ البحر أمامهم، والعدو من خلفهم، تأمل في هذه اللحظات، وقارن بين يقين فرعون في نفسه وجنده أنه قد أدرك بني إسرائيل، ويقين بني إسرائيل أنهم قد أدركوا، وموسى صلى الله عليه وسلم في شأن آخر، وذلك لقربه من الله عز وجل.
قال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62] هذا هو اليقين بوعد الله عز وجل ومعيته، ثم قال: ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)) هذه المعية التي سببها: كثرة الذكر، واستحضار أسماء الله وصفاته، واستشعار معانيها وآثارها، والقرب من الله عز وجل بأنواع العبادة التي يهدي الله عز وجل بها من شاء من عباده، فقوله: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) أي: معي في النصرة والتأييد.
وأمر الله موسى عند ذلك بما يفعله، وذكره عز وجل باسمه دون الضمير فقال: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ))، فذكره الله باسمه تشريفاً له، وهو جدير بالتشريف عليه الصلاة والسلام، وهو في هذا المقام لا يعبأ بالجنود، ويأمره عز وجل أن يأخذ بسبب عجيب ليس من الأسباب المعهودة، وإنما نتعلم منه أن نتمثل أمره سبحانه وتعالى، وأن نأخذ بما أمرنا به من الأسباب وإن كانت عجيبة في تسبيبها.
لما أمر الله سبحانه وتعالى موسى أن يضرب البحر بالعصا: فقال: ((أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)) ففعل، وليس هذا بسبب ظاهر، وإنما هو امتثال للأمر، فضرب موسى البحر بأمر الله عز وجل بعصاه، ((فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)) وأمر الله الأرض فيبست حتى لا يشق الأمر على بني إسرائيل، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77].
رأى فرعون وجنوده الآية، وانفلق البحر على قدر أسباط بني إسرائيل، اثني عشر طريقاً، وذكر المفسرون وأهل السير: أنه قد جعلت بين الطرق المختلفة شبابيك أو طاقات في الماء، حتى يرى بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، وأن إخوانهم ينجون كنجاتهم، آية من آيات الله، ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى على المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن أعظم نعم الله عز وجل ما من به على بني إسرائيل من النجاة؛ وذلك علامة على ما يفعله الله بأوليائه دائماً، فهو ينجيهم سبحانه وتعالى بقدرته وآياته، وعليهم أن يمتثلوا أمره؛ لأن امتثال أمر الله: سبب النجاة، وإن كنا لا ندري كيف يقع ذلك، فهذا البحر الهائل كان ينتظر الأمر من الله، بضربة موسى، وانكف الماء بنفسه بقدرة الله سبحانه وتعالى، دون أن يكون هناك حاجز يحجزه إلا ما أمره الله عز وجل به أن ينحجز، وسار بنو إسرائيل، ورأى فرعون الآية، ورأها جنوده، ومع ذلك انطمست البصائر، وحصل العمى، وكان البغي والعدوان هو الصفة المحركة لفرعون وجنوده جميعا، ً قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) فذكر الله فعل فرعون وقومه، ولم يقل مثلاً: وجعلناهم يتبعونهم، كما ذكره في سورة الشعراء، ولكنه ذكر فعلهم، ففرعون هو الفاعل، وجنوده مشاركون، وذكر في سورة طه قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78] ليدل على تبعيتهم المهينة، وحقارة أمرهم في كونهم كالآلة مجرورين أو كالدواب مجرورين بأمر فرعون دون وعي أو إدراك.
وذكر في سورة الشعراء قوله: ((وَأَزْلَفْنَا)) أي: قربنا، ((ثَمَّ)) أي: هناك في البحر، ((الآخَرِينَ)) أي: جعل فرعون وجنده بإرادتهم المخلوقة يتبعون موسى، ولا عذر لهم أن الله هو الذي فعل بهم ذلك؛ لأن الله سبحانه جعلهم يفعلون ذلك باختيارهم بغياً وعدواناً، وهذه عاقبة البغي.
ومعنى: ((بَغْيًا وَعَدْوًا)) أي: تعدياً وتجاوزاً، ففرعون إلى آخر لحظاته معتد باغ، وإلى آخر يوم في عمره ساع إلى الإفساد في الأرض، وقومه وجنوده متبعون له على الباطل إلى آخر لحظة.
فيرون الآيات تلو الآيات، وآخرها هذه الآية، ومع ذلك يتبعونه، ما هذه الطاعة العمياء؟ طاعة تكاد أن لا يوجد لها نظير إلا في أمثالهم ممن ساروا على طريقهم، ممن يتبع الباطل مهما كان بطلانه واضحاً، ومهما كان الحق جلياً، فهو قد تربى على أن يسمع ويطيع أمر فرعون مهما كان هذا الأمر معرضاً له للمخاطر في دينه ودنياه.
وإذا بفرعون يزعم أن البحر قد انفلق له من أجل أن يدرك عبيده الآبقين، ويسير ويسير جنوده، وينتصف سير فرعون في وسط البحر، وآخر واحد من بني إسرائيل قد خرج، وكل جيش فرعون في وسط البحر، فيأمر الله عز وجل البحر أن ينغلق عليهم مرة ثانية، فسبحان الله! تغيرت الموازين في لحظةٍ! تفكر وتأمل كيف كان حال فرعون وهو يسير ويظن هو وجنوده أن البحر سيظل على تلك الحال منفلقاً حتى يدرك بني إسرائيل في الناحية الأخرى؟ عجب والله شأن فرعون! وعجب شأن جنوده! تتغير الموازين في لحظة، وينقلب الحال؛ فينجو آخر رجل من بني إسرائيل، وفرعون وجنوده في وسط البحر، فينغلق البحر عليهم، فيدركه الغرق.
قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) ذكر عز وجل فعلهم؛ ليبين أنه عدل معهم سبحانه وما ظلمهم، فالبغي والعدوان لابد أن تكون عاقبته الهلاك.(45/6)
كلمة التوحيد لم تنفع فرعون عند غرقه
قال الله تعالى: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ما قال هذه الكلمة إلا عندما أدركه الغرق وعاينه، وكان قبل ذلك لا يوقن بالهلاك فما نطق بها، لكن عندما عاين الغرق منفرداً، وأيقن أنه لا يستطيع أحد من الحاشية والجنود، ونصره فلا هامان ولا الوزراء ولا الأعوان يستطيعون إنقاذ أنفسهم أو غيرهم.
هذه اللحظات تحصل لكل كافر وظالم وباغ، وهي: لحظة الموت، لحظة مفارقة الحياة، فماذا يغني الأعوان والجنود؟ أو المال والسلطان؟ أو الملك والعز الذي كان ظاهراً؟ ماذا يستطيع الناس في تلك أن يفعلوا اللحظات لمن يحتضر أو لمن يصيبه أمر الله عز وجل؟ ما أحوجنا إلى أن نتذكر هذه اللحظات التي سيمر كل واحد منا بها، لحظة مفارقة الدنيا فرداً، كما قال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95].
كما أنك ترحل عن الدنيا فرداً فستأتي الله يوم القيامة فرداً، قال عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
تقطعت الأسباب، والروابط، والصلات، وهلك فرعون، وأدركه الغرق، وحينها قال: ((آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) ذل وهوان، حتى أنه يريد أن يتابع بني إسرائيل فلم يقل: لا إله إلا الله، وإنما كان يقول: ((لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)) فكأنه يريد أن يقول: أنا تابع لبني إسرائيل، أنا أريد أن أكون في ذيلهم، ذل وهوان عجيب، هذه اللحظة لحظة يسيرة لكنها على فرعون طويلة، أضاعت كل مجده وسلطانه وكل عزه وهيلمانه، أضاعت كل ما كان له، وبقيت عليه لحظات أطول، وعذاب أشد.
يقول جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة) أي: بسبب هذه الكلمة: كلمة لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين، وجبريل عليه السلام يبغض فرعون بغضاً عظيماً، ولكنه يعلم فضل الكلمة التي قالها فرعون، ويخشى من كثرة قول فرعون لها أن تدركه رحمة الله، وهو يريد أن يهلك فرعون على الكفر؛ لينال عقابه، فجعل يأخذ من طين البحر ويجعله في فم فرعون ليسكت.
كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لابد أن نقدر لها قدرها، كما كان جبريل يقدر لها قدرها من فرعون، ويخشى أن تكون سبباً لرحمة الله، والله عز وجل عليم حكيم، وهو سبحانه وتعالى لا يقبل التوبة من الناس عند رؤيتهم العذاب، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85].
ثم قال له الله عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أي: آلآن تؤمن، ولا يقبل الإيمان، ولا ينفع نزول العذاب، نسأل الله العافية، ونعوذ به من سخطه وعقابه، ونسأله نصره وتأييده، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(45/7)
الإسلام دين كل الأنبياء
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم،، أما بعد: قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ * وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:90 - 93] أي: أنزلهم الله منزل صدق.
تدل الآيات أولاً: على أن دعوة موسى عليه السلام هي الإسلام، وأن المؤمنين من بني إسرائيل الذين أنجاهم الله عز وجل كانوا مسلمين، ففرعون يريد أن يقول: أنا تابع لموسى، وتابع لبني إسرائيل، فقال: ((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فدل ذلك على أن موسى جاء بالإسلام، وعلى أن إنجاء الله لبني إسرائيل كان عندما كانوا مسلمين، وأن ولايته لهم وكذلك ولاية المؤمنين لهم عبر التاريخ إنما كان عندما كانوا مسلمين، فأما إذا كفروا وتركوا الإسلام فهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وهذه قضية عظيمة الأهمية، فإن الولاية والعداوة مبناها على التزام هذا الدين، ووعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض لبني إسرائيل ليس مرتبطاً بنسبهم، وإنما هو مرتبط بإسلامهم، فعندما كانوا مسلمين أهلك الله فرعون وجنده من أجلهم، وعندما كفروا بالله صاروا أعداء له سبحانه، أعداء لرسله، ومكن الله عز وجل منهم المسلمين بفضله سبحانه وتعالى.
فلا بد أن نفهم القضية جيداً، فليس وعد الله لبني إسرائيل في الأرض المقدسة، وفي المنزل الصدق، والمبوأ الطيب الذي أنزلهم الله إياه مرتبطاً بمجرد أنهم أبناء يعقوب عليه السلام، بل ذلك مرتبط بإسلامهم، ولذا لما كفروا سلط الله عليهم أعداءهم فأخذوا ما بأيديهم، كما قال سبحانه: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] ولما أفسدوا في الأرض بالشرك والبدع سلط الله عليهم من هو شر منهم من المشركين، فالله عز وجل يفعل ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى بحكمته وعدله يضع الأمور في مواضعها.
والمؤمنون الآن وفي كل زمان يحبون موسى ومن معه، ويتولونهم ولو كانوا من غير نسبهم، من غير قومهم، ويتبرءون من فرعون وجنده ولو كانوا من أهل بلدهم، فنحن نبرأ إلى الله عز وجل من فرعون ولو كان مصرياً، ونتولى موسى عليه السلام ومن معه من المسلمين ولو كانوا من بني إسرائيل، وحين يؤمن أهل مصر فإننا نتولاهم ونحبهم، وحين يكفر بنو إسرائيل فإننا نبغضهم ونعاديهم، وذلك لأنه ليس بين الله وبين الناس نسب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
فالحب في الله والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فليس عداؤنا لليهود لأجل الأرض أو الوطن أو القومية أو غير ذلك، وإنما لأنهم كفروا بالله وتركوا الإسلام.
وكذلك عداؤنا لفرعون وإن كان ينتسب إلى بلدنا؛ فنحن نعاديه ونبغضه ونكرهه ونحمد الله على هلاكه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
قال عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أي: آلآن تؤمن، وقد أفسدت في الأرض أعظم الإفساد بالصد عن سبيل الله، وادعاء الربوبية والألوهية، ودعوة الناس إلى عبادتك، إبعادك إياهم عن توحيد الله عز وجل، فلا يقبل الإيمان في تلك اللحظة، فقد غرغر فرعون، وأدركه الغرق، ونزل به العذاب هو وقومه، ومع ذلك فقد جعل الله بدنه آية، فقال عز وجل: ((فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)) أي: لم ينج هو، وإنما نجا بدنه، وذلك أن بني إسرائيل ما كانوا يتصورون فرعون جثة هامدة، فما تخيلوه إلا آمراً ناهياً متسلطاً باغياً قتالاً سفاكاً للدماء، فشكوا في موته، فأمر الله البحر أن يخرج جثته، وتلقى ظاهرة أمام أعينهم حتى رأوا فرعون -الذي كان يأمر وينهى، ويغضب ويسخط ويرضى، ويعطي ويمنع في ظن الناس- جثة هامدة؛ ليكون لمن خلفه آية، لمن شهدوه ولمن يأتي بعده، وذلك دليل على بقاء جثته ليراها ويتعظ بها من بعده من الأقوام، فسبحان الله! ولا يهمنا أي فرعون كان هو، أعني: ما اسمه؟ وأي واحد هو من هذه الجيف الموجودة المحفوظة؟ فكلهم كانوا على الشرك والكفر، إلا من لا نعلم ممن رحمهم الله، لكنهم كانوا على الكفر والشرك، وعبادة غير الله كما سجلوا ذلك في معابدهم ومقابرهم، وكلهم آيات من آيات الله عز وجل، كلهم كانوا يأمرون وينهون، وكان لهم من الملك والسلطان ما لهم، فماذا يفعل بهم الآن؟ يطاف بهم في البلاد، آية من آيات الله، دالة على عجز الإنسان وضعفه، وعلى أن الله هو الذي يقلب الأمور، وهو سبحانه وتعالى مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، فقد أتى بعد فرعون فراعنة كثيرون، فأهلكهم الله كلهم كهلاكه.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] وكل واحد منهم آية من آيات الله، والملك لا يبقى لأحد، والسلطان لا يستمر لإنسان، وإنما هي أدوار وحلقات يأخذ كل جيل دوره على ظهر الأرض، إما في طاعة وإما في معصية، إما في دعوة إلى الخير، وإما في صد عن سبيل الله، فمن من الله عز وجل عليه بأن ثبته على الهدى، واستقام على الصراط المستقيم، وهدى قلبه إليه، وأخذ بناصيته إليه، فليحمد الله سبحانه وتعالى، فما هي إلا لحظات وينتهي هذا الذي نصب على وجه الأرض لهذا الجيل من أنواع الحياة والممالك والصراعات، ونرحل كما رحل السابقون، بخيرهم وشرهم، بمؤمنهم وكافرهم، ويأتي دور جديدٌ كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20].
فهكذا يأخذ كل إنسان دوره على ظهر الأرض، ثم يرحل إلى بطنها، فهي التي تجمعنا أحياء وأمواتاً قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] فهي جامعة للبشر في حياتهم وموتهم، فهل من متعظ؟ فهذه قصة عظيمة، وآية من آيات الله كبيرة عظيمة توقظ النفوس، وتحيي القلوب، وتذكر بأمر الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهدِ قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(45/8)
وصية لقمان لابنه
إن تربية الأجيال واجبة كوجوب إقامة الدين وحراسته؛ ولا يقوم الدين ويحرس إلا بجيل تربى على الإيمان بالله تعالى، والتربية مسئولية كل إنسان له عليهم أمر، وذلك ما نجده في وصية لقمان لابنه، فنجد أنه خاطب ولده خطاب الأب الرحيم بحوار تربوي راق، وأول ما أوصاه بترك الشرك، وهذه هي التربية الإيمانية، وهذا هو سلوك الأنبياء مع أتباعهم، ويأتي بعد ذلك الأمر بطاعة الوالدين كجزء من التربية، وعند ترك الأجيال دون تربية يتلقفهم الأعداء؛ ليصبغونهم بأفكارهم المنحرفة.(46/1)
أهمية إعداد الأجيال
إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن من أهم ما يواجه العمل الإسلامي والمسلمين كأفراد وكأمة مسألة تنشئة أفرادها وأبنائها وبناتها ورجالها ونسائها على دين الله سبحانه وتعالى، وتهيئتهم علماً وعملاً، ودعوتهم للالتزام بهذا الدين، وهو ما اصطلح عليه المعاصرون بمصطلح: (التربية) فقضية التربية قضية عظيمة الأهمية في حياة الفرد والأمة، وهي واجب شرعي، ولأهميتها ذكر الله سبحانه وتعالى وصية رجل حكيم، وذكره سبحانه وتعالى باسمه مخلِّداً هذا الاسم، وهذا الرجل هو لقمان، وهو عند جمهور أهل العلم ليس بنبي؛ إذ لم يذكر مع الأنبياء في أي حال ذكروا فيها، ولكن ذكر الله عز وجل اسمه ووصيته لابنه وهو يعظه؛ لتكون قدوة وأسوة حسنة للآباء والأمهات، والأساتذة والمعلمين، ولكل من ولاه الله عز وجل أمر غيره من المسلمين في التهيئة والإعداد، والتنشئة على مرضاة الله سبحانه وتعالى.(46/2)
خطر المناهج المنحرفة في التربية على الأمة
إن أعظم الأخطاء التي تواجه الأمة تكمن في المناهج المنحرفة في التربية، وهي التي يتقنها جيداً أعداء الإسلام، فهم يضعون المناهج المتعددة التي ترمي إلى تدمير هذه الأمة، وذلك من خلال تدمير أبنائها، وإعداد طائفة هي في ظاهرها تتكلم بألسنتنا ومن جلدتنا، وفي باطنها قلوب كقلوب الشياطين والعياذ بالله؛ لأن أعداء الإسلام والمسلمين يربونهم ويعلمونهم من أجل أن يتولوا أهم المراتب في قيادة الأمة، ثم بعد ذلك يقودونها إلى مذبحها، وإلى مهلكها بيد أعدائها.
فإعداد المنافقين الذي يتقنه جيداً أعداء الإسلام، ومن أجله وضعوا مناهجَ تعليم، ومناهج إعلام، ومناهج اقتصادية واجتماعية متعددة، تفرض على الناس نمطاً معيناً من أنماط الحياة، والتي يترتب عليها نشوء أجيال لا تعرف شيئاً عن دينها، بل تعرف ما يضاده وما يخالفه، وعند ذلك تتقبله وترتضيه.
وآخر الأمثلة شيوعاً -وإلا فالذي لا يشيع في الناس أضعاف مضاعفة- قصة ذلك الكتاب الذي يدرس في الجامعة الأمريكية عبر سنوات، وهذه الجامعة تخرج منها أجيال تلو أجيال ممن يعدون لأرفع المناصب وأكثرها حساسية، وفي ذلك الكتاب سب صريح لرسول صلى الله عليه وسلم، وطعن عظيم في القرآن، وهذا الكتاب لأقبح المستشرقين كذباً وتزويراً وحقداً وحسداً للإسلام والمسلمين، ومع ذلك يفرض على هؤلاء الأبناء -الذين هم دائماً كما يسمونهم أبناء الصفوة- أن يحفظوه ويلخصوه ويمتحنوا فيه ويجيبوا بما يطعن في الإسلام صراحة كما يريد مدرس الكتاب، وكأن هذه الأجيال المتعاقبة التي دخلت ثم خرجت تعتبر ذلك أمراً طبيعياً وعادياً عندها، فلا غرابة إذاً أن نجد منهم من يحارب القرآن ويحارب سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعتبر الإسلام أمراضاً نفسية أو عقداً داخلية، أو غير ذلك مما يتقيأه ذلك المستشرق عليهم والعياذ بالله، فإذا بهم يصيرون هم العدو كما وصف الله عز وجل المنافقين.
ومن شواهد أصحاب المناهج المنحرفة على نشرها: ما جاء في قصة أصحاب الأخدود، وذلك في قول الساحر الكافر الذي لا يعرف آخرة ولا بعثاً، بل إنه يعلم الناس أن ملكهم هو ربهم والعياذ بالله، وأنه لا إله لهم غيره ولا رب لهم سواه، أضف إلى ذلك أنه حريص على استمرار الشر والفساد من بعده، فيقول للملك: ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فينتقي له غلاماً فطناً ليعلمه السحر، وكان في المقابل لهذا الغلام تربية أخرى وتوجيه آخر، وتلقى هذا الغلام تعليماً مزدوجاً كما يقال، تربية الساحر وتربية الراهب المنعزل الموحد لله عز وجل، والراهب لم يكن له اختلاط بالناس، ولكنه نجح بفضل الله سبحانه وتعالى في أن يلقن هذا الغلام منهج العقيدة الصحيح، وأن يلقنه دين الله سبحانه وتعالى، فتغيرت أمة من الأمم بواحدٍ فقط، ونجت به من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتغير منهاج حياتها حتى ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وآمنوا بالله عز وجل؛ بسبب فرد واحد، لذا كان إحسان التربية يؤدي إلى نجاة أمة، وإساءة التربية وسوء المناهج المنحرفة فيها يؤدي إلى هلاكها ودمارها والعياذ بالله.
لذا كان لابد أن نهتم جداً بهذه المسألة، فهي فرض عين في أكثر المواطن والمواضع على معظم الأشخاص ممن لهم أبناء وبنات، وكل من ولاهم الله عز وجل أمرهم، فيجب عليهم أن يعلموهم ويؤدبوهم؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
ولن يتحقق ذلك إلا بفهمنا وعملنا ودعوتنا لما تضمنته آيات الكتاب؛ وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الباب باب عظيم الأهمية، ولن نجد وصية أجمع لأصول التربية الإيمانية، والعبادية العملية، والخلقية، وفي المعاملات، والدعوة إلى الله عز وجل، من وصية لقمان لابنه وهو يعظه، وحول معانيها نسير ونرجو الله أن يوفقنا للانتفاع بها علماً وعملاً.(46/3)
بيان وصية لقمان الواردة في القرآن الكريم والفوائد المنتقاة منها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:13 - 19].
وقبل أن نبدأ في بيان أجزاء هذه الوصية وفوائدها، نحب أن نبين أنها ليست خاصة بالصغار؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ تربية أصحابه وكثير منهم قد جاوز سن الصغر، ومع ذلك صاروا خير أمة أخرجت للناس، ونحن نحتاجها لتربية أنفسنا وإن بلغنا ما بلغنا من السن، فاحتياج الإنسان إلى التعود على الخير ليس مقصوراً على سن معين، وإن كان في صغره أقرب إلى الإجابة، وأقرب إلى قبول التعود والإعداد، لكن الجميع ملزم بهذه الوصايا، فليست هذه الوصية خاصة بمن له ابن يربيه، أو متعلم يتعلم منه، بل هي لكل إنسان يربي بها نفسه كما يؤدب بها غيره.(46/4)
أهمية الحوار كوسيلة تربوية
الحوار وسيلة هامة في التربية كما دلت عليها هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالوسيلة المذكورة في هذه الآية هي الحوار المباشر، والخاص بين الأب وابنه، أو بين المربي ومن يربيه، هذا الحوار في هذه الجلسة الخاصة التي قعد فيها الأب مع ابنه يعظه، ويبثه مشاعره التي ينبئه فيها بشدة حبه، فهو دائماً يتذكر العلاقة التي بينه وبينه، فتراه يكرر: ((يا بني)) مرات متعددة، فهذه الجلسة مفقودة في أكثر أمور حياتنا، فلا نجد من يجلس مع أولاده؛ ليعظهم ويعلمهم ويربيهم ويؤدبهم بهذه الوصايا إلا قلة نادرة، بل تكاد تكون غائبة إلا من رحم الله عز وجل.
وهذه الوسيلة الحوارية لا تغني عنها الوسائل الأخرى، كوسائل المدارس العامة، أو الدروس المطلقة العامة، ولا تجدي عنها الوسائل المعاصرة كالكتاب أو الشريط أو الخطبة، وإن كانت هذه الوسائل مؤثرة وضرورية ونافعة أيضاً، لكنها لا تغني عن هذه الوسيلة؛ لأن هذه الجلسة الخاصة يبث فيها المربي موعظته ونصيحته، ويسمع كذلك ممن يربيه ما في نفسه، وهذا يعد من أهم الوسائل في التربية.(46/5)
جلسة تربوية بين يوسف وأبيه
إن هذه الجلسة نلحظها في اللقاء الخاص بين يوسف وأبيه، كما حكى الله عنهما ذلك في قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5] فنلحظ أن هذه الجلسة لم يكن فيها غيرهما من إخوة يوسف، مع أن الكل يربيهم أبوهم، لكنه خص يوسف بهذه الجلسة؛ لأن هذه الخصوصية ضرورية بلا شك لتهيئة معينة، ولكي يخرج يوسف ما في نفسه كذلك، ولو تأملت أثر هذه الوصية، وهذه الجلسة في مستقبل حياة من نشأ على هذه التربية، لوجدتها في قصة يوسف عليه السلام من أوضح ما يكون، فكل ما لقنه أبوه وذكره به في تلك المجالسة وقع كما أخبره به، مع أن الجلسة فيما يبدو لمن يقرؤها لا تأخذ دقائق معدودة، ومع ذلك أثرت فيه أعظم التأثير، فعندما قال له: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) ولم يقل له: إن إخوتك هم الأعداء، وإنما أخبره أن الشيطان هو الذي سوف يجعلهم يكيدون له، وليسوا هم بأعداء لك أصلاً.
وبقيت هذه المسألة في قلب يوسف عليه السلام، فعندما حقق الله عز وجل رؤياه، وجعلها ربه حقاً، قال عما فعله إخوته به بأسلوب رفيع: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا، فهو يعلم أن الشيطان هو العدو، وقد علمه أبوه ذلك، فأخبرونا من مِن أبنائنا يعرف الشيطان، ويعرف عداوته البينة للإنسان، وليس مجرد أنه يخاف من العفريت إذا هددته أمه أو أبوه بأنه سوف يخرج له ليظل مرعوباً من العفاريت ومن الجن؟ نسأل الله العفو والعافية.
ولولا وجود هذا الأثر السيئ في النفوس من الجن، والخوف منها؛ لما وجدنا هذا الكم الهائل من الحالات التي يظن الناس أنها ممسوسة؛ أو مصروعة أو غير ذلك؛ فإن هذا تعظيم لشأن الجن أضعافاً مضاعفة عما يستحقه ويناسبه، وعما هو الواقع في الحقيقة.
وفي هذه الجلسة علم يعقوب يوسف أن الله هو الذي يمن، وأنه هو الذي يجتبي، وأنه هو الذي يعلم، وأنه هو الذي يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فأثرت هذه الكلمات المضيئة من يعقوب عليه السلام حين قال: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، فلم يقل له: سوف تكون أنت فوق إخوتك، أو سوف تكون أنت الأعلى، وسوف تكون عالماً بتأويل الرؤى، ولكن حرص تمام الحرص أن يقول له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:6].
وقد أحسن يوسف التلقي، فقال عندما ذكر أباه بأمر الرؤيا بعد أن سجدوا له أبواه وإخوته، {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، ولم يقل: قد تحققت، وإنما قال: ((قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)) ونسب النعمة إلى الله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]، والمعتاد منا أننا نحن الذين ندعي القدرة، فيقول أحدنا: خرجت من السجن، ولا يحاول أحدنا أن يستحضر أن الله أخرجه من السجن، أو من الأزمة الفلانية، أو من المرض الفلاني، فربما يقول البعض شُفيت، فينسبها هكذا للمجهول أو نحو ذلك، ولكن يوسف حرص أن ينسب الفضل لله والنعمة لله، فقال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}، ولم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال: ((وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ))، ثم علمه أبوه الأسماء والصفات في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] وهذان الاسمان ختم بهما يوسف عليه السلام خطابه لأبيه بعد هذه السنين الطويلة حين قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]، فمعرفة أسماء الله وصفاته يتلقاها الابن عن أبيه اليوم على طريقة المتكلمين السخيفة المدمرة، والتي لا يعي الناس منها شيئاً، وإنما قد أثمرت آثاراً عجيبة لا يعيها الناس ولا يدركونها، وبالتالي يتركون هذا العلم من أصله.
ولقد سمعت اليوم عجباً: بينما أنا في صباح هذا اليوم أمشي، إذ رأيت أباً مع ابنه، والابن في حدود الثالثة أو الثالثة والنصف، ويتكلم بصعوبة لصغره، وأبوه رجل كبير قد شاب بعض شعره، فبمجرد نزولي من السيارة سمعت الولد يقول لأبيه: يا بابا! ربنا فوق، قال له: ربنا في كل مكان يا ابني! فقلت له: والله إن ابنك أعلم منك، سبحان الله! الابن على الفطرة السليمة، فلما قلت له ذلك، وبينت له أنه ليس في كل مكان، وأنه ليس بداخلنا ولا داخل هذه الأماكن كلها، وإنما ربنا فوق العرش، ضحك الرجل وقال لي: شكراً جزاك الله خيراً، قلت: ربنا يبارك لك فيه.
فانظروا الولد على الفطرة السليمة، والأب يعلم ولده أن الله في كل مكان، وكان المفروض أن الأب يعلم ابنه أسماء الله عز وجل وصفاته؛ لأن هذا أصل التوحيد.
فسيدنا يوسف عليه السلام ذكر كل ما تعلمه من أبيه، فتلك الكلمات كلها مما ذكره له أبوه، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) ثم قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ لأن أباه علمه أن أباه وجده وجده الأعلى كلهم غارقون في نعم الله سبحانه وتعالى، فهو يطلب النعمة من الله والثبات عليها.(46/6)
سبب فقدان الجلسات التربوية الخاصة في الأُسَر
إن سبب فقدان هذه الجلسات التربوية أن أكثر الناس مشغولون انشغالاً عجيباً، وأحسنهم حالاً من يكون منشغلاً بعمل حلال، لكنه يخرج قبل أن يستيقظ الأولاد ويعود بعد أن يناموا، وربما بقي الشهور والسنين أحياناً في الخارج يبحث عن وسيلة للرزق وهو بعيد عنهم، والأم مشغولة بالطبخ والغسل وغير ذلك، وهي لا تقرأ شيئاً ولا تتعلم شيئاً، وبالتالي يترتب على ذلك فقدان تام نلحظه في أبنائنا، بل ربما نكون نحن ملتزمين ولا نعرف لماذا لم ينشأ الأبناء ملتزمين؟
و
الجواب
لأننا لم نجلس معهم هذه الجلسة التي نتكلم معهم، ويتكلمون معنا فيها.(46/7)
جلسة تربوية أخرى لإبراهيم مع ابنه
نجد هذا الأمر في قول إبراهيم عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فتجد هذه الجلسة واضحة بينة في أنهما كانا مع بعضهما، ويبدو أنه لم يكن هناك معهما أحد أيضاً، أو إن كان أحدٌ فمن أهل البيت، فلا نكتفي بمجرد جلسات مثل جلستنا هذه، وهذه تؤدي ثمرة، لكن هناك ما هو أهم أو ما هو أصل في التربية لا يتحقق بدونها، كذلك نظام المدارس، فتجد المدرس يدخل الفصل ويلقي في التلاميذ درساً لا يُحدِث فيهم التربية المرجوة، فلا بد أن تكون هناك علاقة خاصة لها أثر.(46/8)
الجلسات التربوية الخاصة في حياة الرسول
نسمع أثر هذه العلاقة الخاصة من حديث في الصحيحين، في موت عمر رضي الله تعالى عنه عندما يغبطه علي رضي الله عنه وهو في جنازته، حيث يقول: (إني كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً أو أكثر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) وذلك لأنهما صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدوام، وفي كل المواطن كانا معه خروجاً ودخولاً وذهاباً وإياباً، وهذه بلا شك لها الأثر الكبير.
كذلك علي رضي الله تعالى عنه أسلم عندما رأى ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة يصليان، وتلقى منه الدين في هذا البيت بينه وبينه، وهذه هي التربية.
كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل على ميمونة فسألها عن ابن عباس فقال: (أصلى الغلام؟) ثم بعد أن استيقظ ابن عباس رضي الله عنهما صلى معه.
كذلك في تربية عظيمة قال لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا الحديث وصية عظيمة تتضمن أصول التربية، وكذلك الاعتقادية والعملية والعبادية وغيرها.
وكذلك تأمل في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ عندما يقول معاذ: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! فقلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) وهذا يدل على أنه لم يكن هناك أحد آخر غيرهما، وأنه لم يخبر بهذا أحداً من الصحابة غير معاذ، ومعاذ أخبر به عند موته تأثماً؛ لأنه لم يكن هناك أحد سمعه غيره، فمثل هذه الجلسة يحرص الأعداء ألا توجد في البيت، وأن تكون طرق حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية مبناها على ألا يوجد وقت إطلاقاً لمثل ذلك.(46/9)
أنواع الناس في مسألة الكسب وانشغالهم عن الجلوس مع من يربونهم
هناك نوعان من الناس أعني في مسألة الكسب: الغنى المطغي، والفقر المنسي، فالغنى المطغي الذي يجعل الغني يزداد به طغياناً وكبراً، ويزداد انشغالاً، ويصبح رجل أعمال، فهو شخص مهم للغاية فلا بد أن يكون مشغولاً على الدوام، ولا يعرف وقتاً للبيت، ولا يعرف وقتاً لأن يجلس مع أبنائه أو ذريته، فينام بضع ساعات فقط في اليوم، أو ست ساعات، أو خمس ساعات والباقي في العمل، ولا يعرف شيئاً إلا عن لذته وشهوته ورغباته بعد ذلك.
والآخر: الفقر المنسي، والنظام الربوي اليهودي، والنظام الرأسمالي من أهدافه أن يزداد الغني غنى؛ لأن أصل هذا النظام مبني على الظلم والاحتكار والتسلط بالأموال الربوية على الآخرين؛ فهم أرادوا أن يكون الناس في الفقر المنسي، وهذا يثمر في الحقيقة الثمار المرة فينا، وليس معنى ذلك أن أطلب من الناس أن يتوقفوا عن الكسب ويتركوا الأعمال، لا والله، ولكن البركة في الوقت من الله عز وجل، كما أن البركة في المال والبركة في الصحة من الله عز وجل.
وهذا الأمر أعني: مخططات الأعداء في ذلك تثمر في ألا يجد الإنسان وقتاً نهائياً، وتظهر آثاره السلبية فيمن هو بعيد عن الله، وفيمن لم يتق الله، وأما العلاج لذلك فهو تقوى الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فغياب الإنسان وعدم جلوسه مع من يربيه إنما هي بسبب قلة التقوى، وبسبب البعد عن الله، فتجد الإنسان كسبه إما بين هذا وذاك، فلا يجد الكفاية التي تكفيه إلا أن يكون منشغلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تتباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
أي: أن التباعد عن الله يكون سبباً في ملء القلب فقراً، ولو أنهم فرغوا بالهم وإرادتهم ونيتهم كانت عبادة لله عز وجل -وإن سعى الإنسان في أمور الدنيا بما أحل الله عز وجل- فلن تكون هذه الفتنة التي تجعل الإنسان لا يعي ولا يدري ما يدور حوله، وإنما يسير في ساقية مثل ثور وضعوه في ساقية لا يدري أين يذهب، وربما تعب من كثرة المشاوير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه بالضبط حياة الناس اليوم، وربما أمريكا واليابان والشرق والغرب كلها لا تجد فيها غير ذلك، إنسان موضوع في ساقية يعمل ويكد ويتعب ليصل إلى أقصى درجة التعب، ليرجع منهكاً يقضي أوقاته الباقية كما يقضيها الناس، وذلك في مشاهدة أجهزة الإفساد، ولا أجد مقهى إلا وهي ممتلئة في جميع الأوقات، فأنت كلما مررت وجدت شخصاً يلعب الطاولة، وآخر يتفرج على التلفاز وأفلام الفيديو، والسينمات كذلك مليئة، ومن أنشط المحلات تجارياً محلات الفيديو؛ فإنها تؤجر الشرائط بما لا حصر له، فماذا يبقى إذاً للتربية؟ ماذا يبقى للجلسة الخاصة؟ هذا هو الذي يريده الأعداء، تدمير رهيب جداً، فتجد الأب فيما تبقى من الوقت يشاهد فيه التلفاز هو وأولاده كالبله تماماً، يتشربون كل ما يلقى عليهم من أنواع الفساد، نعوذ بالله من ذلك.
ونجد نحن ضغطاً رهيباً على أبنائنا عند نصحهم؛ لأنهم يريدون أن يلعبوا كما يلعب الناس، وأن يتفرجوا كما يتفرج الناس، فالمسألة خطيرة بلا شك، ولكن والله إن بتقوى الله سبحانه وتعالى تحل هذه المشكلة، فمزيد من القرب من الله والتوجه إليه والتفرغ لعبادته سوف يحل هذا الإشكال بإذن الله، ويجد الإنسان وقتاً يجلس فيه مع من يربيه، وهذه الوسيلة أطلت فيها الكلام؛ لأنها وسيلة ضرورية، ولا بد أن توجد فينا سواء على المستوى الشخصي في الأسرة أو على المستوى الدعوي في المسجد، وعلى مستوى التعليم في من هو مسئول عن غيره، لا بد أن يوجد مثل هذا الحوار، ولا بد أن توجد مثل هذه الجلسة التي يتكلم الناس فيها مع بعضهم، مع من يربونه، يتكلمون فيها بقلب مفتوح، ويتلقون فيها الوعظ والتذكير بالله عز وجل.(46/10)
أثر الخطاب بالبنوة في التربية
قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ} [لقمان:13] فقوله: ((يَا بُنَيَّ)) هذه الكلمة الطيبة التي تذكره بشدة الحب، وقد بوب أبو داود رحمه الله في صحيحه بقوله: باب في الرجل يقول لابن غيره: يا بني.
وذكر تحته جملة من الأحاديث، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنس: (يا بني)، وهي كلمة إذا تأملتها في السياق تعطي مشاعر عجيبة في نفس المربي وفي نفس المربى، فبدلاً من الشتم، أو البذاءة في الكلام، وأنواع السباب التي يتعلمها الأبناء من آبائهم، لماذا لا يتعودون على الألفاظ الطيبة، التي لو سمعوها منهم لما قالوا غيرها.
الابن في هذه المرحلة يتلقى من الأسرة أكثر مما يتلقى من الشارع، لو أنه سمع أنواع السباب في الشارع ولكنّ أباه وأمه لم يتلفظا قط إلا بالألفاظ الطيبة، فتأثره بالشارع -رغم سوئه- أقل بكثير من تأثره بالألفاظ التي يستعملها أبواه، خصوصاً إذا نهياه عن ذلك وأشعراه بالحب والشفقة والمحبة والمودة، وهذه الكلمة: (يا بني) تصغير ابني، فتشعره بالعلاقة الطيبة التي بينه وبين ولده، وتشعره أنه يحبه، وأنه ينصحه، وليس لأنه يصدر أوامر عسكرية لا بد أن ينفذها، وهذا يطالب به الأمهات كما يطالب به الآباء؛ فإن كثيراً مما نراه ونسمعه من الأوامر التي تصدر كأنها أوامر عسكرية، تكون دائماً بالنهر وبالغلظة وبالشدة، وغالباً ما تكون في أمور يسيرة تافهة، لبس، خلع، أكل، شرب ونحو ذلك، فهذه الحدة دائماً لا تثمر الثمرة المرجوة لها؛ لذلك لا بد من هذه الكلمة الطيبة.(46/11)
معالم التربية الإيمانية(46/12)
البراءة من الشرك من معالم التربية الإيمانية
كرر مرة ثانية (يا بني) في آية ثانية، قال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] هذه أول معالم التربية الإيمانية، وبدايتها البراءة من الشرك والتحذير منه؛ لأنه أعظم الظلم، قال عز وجل: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).
فقوله: ((لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ))، أي: أن كلمة الشرك ينبغي أن يعرفها الأبناء، ولو سألنا أبناء المسلمين ما الشرك؟ لو سألنا آباءهم وأمهاتهم، ولو سألنا الكبار، ولو سألنا الإخوة والأخوات عن الشرك، وأنواعه المنتشرة في وسط الناس؛ ليحذروا منها، لوجدنا في ذلك خللاً كبيراً، ولوجدنا معظم الأبناء لم يسمعوا هذه الكلمة ولم يستعملوها، ولو ذكرت لهم فإنما تذكر على سبيل الاستحياء، والشرك عند القوم الذين تركنا لهم أبناءنا يعلمونهم ويربونهم ليس له وجود أصلاً، لا يعرفون شيئاً هو شرك، حتى من يعبد الأوثان عندهم يرون أنه صاحب دين وأنه ليس بمشرك ولا بكافر والعياذ بالله.
أما اليهود والنصارى فيجب أن تتأكد من الكتب التي يلزم الآباء والأمهات والمعلمين أن ينظروا فيها؛ لأنها تغرس العقيدة الباطلة في نفوس الأبناء، فبعضها بالطرق المباشرة بالتصريح بصحة الملل الثلاث، وبعضها بتصحيح كل ملة، كما أخبرنا الإخوة بأنهم كانوا يقولون: إن الكافر هو الذي لا يدين بدين الإسلام، فإذا بهم اليوم يقولون: لا، هذا غلط بل الكافر هو: الذي ليس له دين، معناه: أي واحد له دين فليس بكافر، وهذه الألفاظ أصلاً لا تستعمل ولا وجود لها في الواقع؛ لأن اليهود والنصارى والمسلمين سواء والعياذ بالله، وهذه الكلمات لا يمكن أن تطبق في واقع الناس اليوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحترم ويجل حتى لو كان بلا دين، ألم يظل الناس سنين طويلة يعرفون أن الشيوعيين رفقاء وإخوان، وأنهم يستقبلون أعظم الاستقبال وإلى يومنا هذا، فهل يقال عن عباد البقر وعن عباد الصلبان وعن عباد الفئران: أنهم أصحاب أديان، وأن كل دين محترم والعياذ بالله؟!(46/13)
الولاء والبراء من معالم التربية الإيمانية
أما قضية الولاء والبراء فهي أخطر قضية تتعرض لاهتزاز شديد في نفوس الأبناء، وأصبح الإنسان يجد نفسه مضطراً أن يعذر عوام المسلمين في عدم تكفير اليهود والنصارى، مع أن هذه المسألة هي أصلاً معلومة من الدين بالضرورة، بل معلوم من الدين بالضرورة ابتداء أن من لم يكفر كل من دان بملة غير الإسلام فهو كافر والعياذ بالله، لكن الجهل هو الذي جعل هذه المسألة في واقعنا ليست معلومة من الدين بالضرورة، وإن كان إقامة الحجة فيها بتلاوة الآيات الواضحات قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150 - 151].
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).
وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
والآيات أكثر من ذلك في تأصيل عقيدة راسخة وهي: أن الشرك ظلم عظيم، وأن الإسلام هو الحق، وأن ما دونه باطل وكفر، والولاء والبراء أصل لا بد أن يؤصل في نفس كل مسلم ومسلمة، وإلا لا يصح له دينه ابتداء، فمن لم يتبرأ من الشرك والكفر، وصحح مذهباً وديناً غير دين الإسلام، وجوز ملةً غير الملة الحنيفية وملة التوحيد، فإنه لا يكون موحداً ولا يكون مسلماً والعياذ بالله؛ لذلك نقول: إن هذا من أعظم الخطر أن يعلموا الطفل من أول نشأته أنه ليس بيننا وبين الكفار من اليهود والنصارى عداوة.
كذلك الآن يقولون: محمد وسمعان، واسم سمعان يدرسونه في سنة ثانية ابتدائي، و (سمعان) هو: اسم منتشر عند النصارى وعند اليهود، كذلك هناك أعياد دينية، والأعياد الدينية التي تشتمل أعياداً إسلامية أو أعياداً مسيحية، والأعياد الإسلامية اثنان، والأعياد المسيحية اثنان أيضاً، الأعياد الإسلامية: عيد الفطر، والأضحى، والأعياد المسيحية: عيد الميلاد، وعيد القيام المجيد، وغير هذا كثير والعياذ بالله.
كذلك حذف جميع الغزوات التي فيها حرب بين المسلمين وبين اليهود وبين النصارى، فلا يوجد أحد يعرف غزوة مؤتة من الأبناء أبداً، ولا غزوة تبوك، ولا غزوة خيبر، فكل هذه الغزوات حذفت باسم التطبيع مع اليهود والنصارى، وغير ذلك كثير.(46/14)
الجهل بالشرك في الربوبية وخطر انتشاره
هناك أنواع للشرك منتشرة في المحيط الذي يحيط بنا، ولا بد أن يحذر منه الكبار والصغار؛ لأنه إذا لم يدر ما الشرك فإنه يوشك أن يقع فيه والعياذ بالله، فلو قلت لهم: ما هو الشرك؟ لما وجدوا غير من يعبد الأصنام فقط، أما من يعتقد مثلاً شركاً في الربوبية بأن يعتقد أن غير الله يملك النفع والضر، والإحياء والإماتة، والشقاوة والسعادة، ويملك الرزق ونحو ذلك، من الأموات والمقبورين، أو من الجن، أو من الرؤساء والكبراء الذين يملكون الأمر كله، وربما وصل الكفر ببعضهم أن يقول مثلاً لمن يظن أنه قد ملك عليه أمره: ادع الله وانظر هل ينفعك أم لا؟ أو اجعل الدعاء ينفعك، أو نحو ذلك مما يكفر به الكثيرون؛ لأنهم يتصورون أن الكبير والقوي وذا السلطان والمال يقول لك: هذه الفلوس تشتري كل حاجة، وهذه الكلمة قد توصل في النهاية إلى الكفر والعياذ بالله، وإني لأعلم رجلاً كان فيما مضى يتاجر بالكتب الإسلامية، وهو يقع في نوع من أنواع الكفر، ففي مسألة الغنى بالمال فالله عز وجل أعطاه مالاً وهو يقول: أنا بمالي استطعت أن أرزق نفسي، والمال هذا أنا أشتري به كل شيء، وربنا لا يعطيني منه شيئاً، فهذا كلام كفري فظيع والعياذ بالله، وأنواع ذلك كثيرة في مسألة الشرك بالربوبية.
كذلك شرك من يعتقد أنه حر مع أوامر الله، مع أن من معاني الربوبية: أن الرب هو المالك والعبد مملوك، فمن إذا قيل له مثلاً: أقم الصلاة، آت الزكاة، اترك الزنا، فيقول: أنا حر، فكلمة أنا حر تقولها مع العبد مثلك، أما أن تقول: أنا حر مع أوامر الله عز وجل فهذا من الكفر بالربوبية والعياذ بالله؛ لأنك لست حراً مع أوامر الله عز وجل.
وهذه هي القضية الأساسية التي يُنادى بها في العالم، وهي قضية الحرية بما فيها حرية الكفر والسب والطعن في دين الله عز وجل، وكثير من الناس عندما يتكلم عن أي شيء تجدهم يقولون: أول شيء أننا لا نتعرض لقضية الحرية؛ لأن قضية الحرية مقدسة عندهم، فأي رجل هو حر عندهم يفعل ما يشاء، ويعتقد ما يريد، ويكفر بما يشتهي، ولذلك كثير جداً من الناس يقع في هذا الضلال والكفر والعياذ بالله، مع أن هذا الشرك هو شرك إبليس، فهو لم يقل: رب ما أمرتني، بل قال: لا أسجد، وهذا يقول لك: أنا لا يلزمني كلام ربنا، أو كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فربنا يعاقب بما يشاء، ونحن نأخذ منه الذي نريده، ونترك الذي نريده والعياذ بالله.(46/15)
الشرك في الحاكمية
إن من يعتقد في الأحبار والرهبان، أو الكبراء والرؤساء حق التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال، وتعديل الشرع أو يحاد شرع جديد يلزم به الناس، فهذا والعياذ بالله من أنواع الشرك الأكبر أيضاً، وإن كان انتشاره في العامة والخاصة جعله أمراً عادياً، حتى إن البعض يشك أنه شرك، والبعض يلحقه بالشرك الأصغر مع أنه لا شك من الشرك الأكبر، فمن يشرع للناس من دون الله ويجعل شرع الله تابعاً لكلام الناس فإن أقروه صار حقاً، وإن أبطلوه صار باطلاً، وإنما يطبق منه وينفذ ما وافق القوانين والدساتير، فقد وقع في الشرك والعياذ بالله.
وتجد أناساً يصومون ويصلون ويزعمون أنهم مسلمون، ويقررون ذلك أوضح تقرير، كما ذكرنا مثالاً من قبل فيمن ألزم الناس بالربا، وقال: إنه دستوري؛ لأن النص لم يتعرض للإلغاء لما قبل صدور هذا النص، أي: أن النص الدستوري بأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع لم يتعرض للإلغاء لما قبل ذلك، فالذي قبله مشروع لا بد أن يطبق ويلزم الناس به ومنه الربا، ولاشك أنه يسميه بغير اسمه، ولم يقل: هذا ربا، قال: هذه عمولة أو فائدة أو استثمار، مع أنه ربا صريح، ولا نزاع عنده أنه فائدة ربوية محرمة، ولكن النص لم يلغيه، ولذلك لا بد من اعتباره، وهذه قاعدة خطيرة جداً والعياذ بالله، وهي من أخطر ما يهدد العقيدة في أن الله وحده هو الرب الحاكم.(46/16)
الجهل بالشرك في الألوهية
أما الشرك في الإلهية فهو أيضاً منتشر انتشاراً كبيراً والعياذ بالله في صرف العبادات لغير الله، كمن يدعو الأموات ويستغيث بهم، ويذبح لهم، وينذر لهم، ويخاف منهم، ويرجوهم، كذلك من يتحاكم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، فمن اعتقد ولو لم يتحاكم وقع في الشرك، ومن تحاكم راضياً مختاراً من غير إكراه إلى من يحكم بغير ما أنزل الله فقد صرف العبادة لغير الله، ونحن نبين هذا على سبيل الإجمال لا على سبيل التعيين؛ لأن هذه الأنواع من الشرك يقع فيها كثير من الناس وهو لا يدري، فهذا لجهله وتأويله وانتشار الفتن والعياذ بالله؛ لأنه أصبح أمراً منتشراً، ولا نعني بذلك تكفير المعين دون إقامة الحجة، ولكن نحذر من خطر وجود الشرك الذي لا بد أن نربي أبناءنا على الحذر منه، ولا بد أن نعرفهم جميعاً به بمجرد قدرتهم على التمييز وإدراكهم لمعاني الكلمات.(46/17)
دخول الشرك في الأسماء والصفات
قال تعالى: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ))، الشرك يدخل في قضية الأسماء والصفات، فمن عطل أسماء الله وصفاته وجحدها ونفاها وحرفها، وكذلك من شبه الله بخلقه أو شبه المخلوقين بالخالق فكل ذلك من الشرك، وكل ذلك من الظلم العظيم، وهو وضع الشيء في غير موضعه.
فالإنسان لا يضع ربه في غير موضعه؛ فإن الله عز وجل فوق عرشه، وهو إله العالمين ورب العالمين، ومهما عبد المشركون غيره فذلك لا يغير من الأمر في حقيقته من شيء؛ فإن الله ليس معه من إله كما قال عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الأنبياء:22].
وقال تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) أي: كون الإنسان يشرك بالله فقد وقع في الظلم الأكبر لنفسه، وليس معنى ذلك أنه يظلم الله كما قد يظن البعض ذلك، فهذا خطأٌ، فالعبد لا يظلم ربه، قال عز وجل: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
فإن الله سبحانه وتعالى لا يقدر العباد على ظلمه، ولا يتصور ذلك منهم، ومهما صنعوا فهم في قبضته، بل ما وقع منهم ذلك الشرك إلا بمشيئته وقدره، وإن كان هو عز وجل حرمه عليهم، وإنما قدره لحكمة بالغة، فالله سبحانه وتعالى جعل الشرك أعظم الظلم، فهذه هي التربية الإيمانية.
ونلاحظ في ثنايا الوصية تعليم الأسماء والصفات كما ذكرناه في قصة يوسف، وهذه تجدها كذلك في قوله هنا: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] فقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) هذه تربية إيمانية على تعريف الابن المربى أسماء الله وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى سوف يأتي بعملك.
قوله: ((إِنَّهَا إِنْ تَكُ)) أي: إن تكن الفعلة التي فعلتها أو المعصية التي فعلتها، ((مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)) مهما كانت قليلة، ((فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ))، ولو كانت مغلقة عليك، فيربيه على المراقبة لله عز وجل أن الله يبصره، وأنه يعلم ذلك، وأنه خبير بما يفعل، وأنه لطيف سوف يأتي بما دق وقل، وسوف يحاسبه عليه، فيربي فيهم المراقبة والمحاسبة، وهي عبادات قلبية وهي أساس الإيمان، وربط ذلك بالأسماء والصفات كما نجدها واضحة في وصية يعقوب ليوسف عليه السلام كما ذكرنا.
وهذه الأمور من أهم ما يلزم كما ذكرنا في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك).
وهذا تعليم للقضاء والقدر بأوضح عبارة، مع تجنب الفلسفة الكلامية، والعبارات الغامضة، والمباحث السخيفة التي أهلكت الناس والعياذ بالله، وإنما بين له النبي عليه الصلاة والسلام مراتب القدر واضحة جلية، وعلمه أن يستعين بالله وحده، وأن يسأل الله عز وجل وحده ولا يدعو سواه، وأن يحفظ الله عز وجل ويراقبه، وذلك بأن يحفظ سمعه وبصره ويده ورجله، وبين له أن الله يحفظه بذلك، وأنه سوف يجازيه على ذلك، بأن يجده عند الشدة معيناً له، كما قال: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).(46/18)
الأسلوب التربوي الأمثل في تعليم العقيدة
إن التربية الإيمانية الاعتقادية بأنواعها الثلاث من أهم ما يلزم المربي، ومن أهم ما يلزم الأب والأم أن يعلموه لأبنائهم، وإنما يتم ذلك بالأسلوب القرآني والنبوي، وليس بالأسلوب الكلامي ولا بمجرد التلقين، فلا تظن أن الولد لو حفظ العقيدة الطحاوية كفاه ذلك، لا، فهذا ليس هو الأسلوب الذي كان عليه طريقة القرآن وطريقة السنة، وإنما الحفظ شيء تابع، وإلا فإنه رسول الله كان سوف يلقن الصحابة متناً معيناً يحفظونه، وبذلك يكون قد درسهم الاعتقاد.
أنا لا أقول ذلك تزهيداً في حفظ المتون، وإنما لا أُسَرُّ عندما أسمع ابني يكرر العقيدة الطحاوية مع علمي أنه لا يفقه منها شيئاً، فلذلك نقول: ليس هذا هو الكافي، لا تظن أنه بذلك قد صار يفهم التوحيد أو يعلم العقيدة، وكذا من حفظ متن معارج القبول أو درسه جيداً وأتقن كل مسائله، فمسائل الاعتقاد أعمق من ذلك، مسائل الإيمان يتأصل القلب بها، ويصلح بها، وليس مجرد أن يعرف علماً مجرداً، أو كيف يرد على الشبهات.
إن مسائل الاعتقاد لا بد فيها من أمرين اثنين: أن يعرف الإنسان كيف يقول، وكيف يحب وكيف يخاف، وكيف يرجو، وكيف يراقب الرب سبحانه وتعالى، وكيف يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله عز وجل، وكيف يعرف أسماء الله وصفاته ويتأثر بها ويتعبد لله عز وجل بها، فكما يعرف الشرك ويتركه يعرف التوحيد ويأتيه، ويتعبد لله عز وجل بأنه الرب الإله المعبود الذي له كل معاني الكمال، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى سبحانه وتعالى.(46/19)
طاعة الوالدين من معالم التربية الإيمانية
قال سبحانه وتعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ)) ونلحظ هنا تغير طريقة الخطاب فهو لم يقل: قال لقمان لابنه: أطع والديك أو بر والديك أو استوص بهما خيراً، وإنما ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في طريقة الخطاب؛ لأنها خطاب منه عز وجل، وهي ضمن وصية لقمان؛ ولكن لقمان أخرجها في صورة أنها أمر الله عز وجل؛ ليعلم الولد أن بر الوالدين أمر من الله، وأن لقمان لا يأمره ابنه أن يبره لأجل مصلحته أو لأجل حاجته هو، وإنما يأمره بسماع كلامه على أن الله هو الذي أمرك به، وأن الله هو الذي وصاك بوالديك؛ وذلك لكيلا تكون طاعة الولد لوالديه واستيصاؤه خيراً بهما من أجل منفعة ينالها منهما، فلا شك أن الأب والأم هما مصدر النفع الظاهر والضرر الظاهر للولد، ولكن لا بد أن يبرهما رغبة فيما عند الله وطاعة لله عز وجل.
قال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ)) وهذا لا بد أن يتفكر فيه الكبير قبل الصغير، وأن يدرك الجميع كم تعبت الأم في حملها ورضاعها لطفلها، وذلك سبب لوجوب شكر هذه النعمة التي أولتها له الأم بفضل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)) أي: ضعفاً على ضعف.
((وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)) أي: فطامه في عامين.
قال عز وجل: ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)) والشكر هو: الاعتراف بالنعمة، وقدم الشكر لله؛ لأنه هو الذي خلق هذه النعمة، وهو الذي أوجدها، وهو الذي هيأ الأب والأم وقذف في قلبيهما الرحمة والشفقة والحب لولدهما، وهو عز وجل الذي جعلهما يتحملان كل ذلك بفضله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(46/20)
وقفات مع سورة غافر
إن لنا عبرة في ذلك المؤمن الصادق الذي آمن بالله وأسمائه وصفاته، ولم يغتر بزخرف الحياة الدنيا الزائل، فيسخر الله له ولأمثاله الملائكة الكرام حملة العرش العظيم يستغفروا له، بدعائهم الله أن يقيه السيئات، وأن يجمعه بأحبابه في دار كرامته.
وفي المقابل نجد ذاك الرجل الفاجر الذي غره الشيطان، وغرته نفسه، وغره ما يرى من تقلب الذين كفروا في البلاد؛ كيف مقته عباد الله، بل مقتته نفسه التي بين جنبيه، ثم يتوج ذلك الخزي بالمقت الأعظم الذي هو مقت الله له إلى أبد الآبدين.(47/1)
الإيمان بأسماء الله وصفاته من مقتضيات الإيمان بالله
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونسغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:1 - 20].
إن الله سبحانه وتعالى فرض على العباد توحيده ومعرفته ومحبته والتعبد له بمقتضى أسمائه وصفاته، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقدر سبحانه وتعالى من أنواع المقادير خيرها وشرها ما يتعرف العباد به على أسماء ربهم الحسنى بقلوبهم وعقولهم، وصفاته التي علموها من الوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى، وإن كانت القلوب إنما تعي ذلك وتدركه حين تطبق هذه الآثار العملية في الحياة، ولذلك نجد أن قضية الإيمان بأسماء الله وصفاته دائماً مرتبطة في قلوب عباد الله المؤمنين بالأحداث التي تقع في حياتهم، ولذلك كانت فضيلة الإيمان بأسماء الله وصفاته في مقدمات السور وخواتيمها، بل إن معظم آيات القرآن الكريم تختم بذكر أسماء الله وصفاته.
وهذه السورة -أعني سورة غافر أو سورة المؤمن- قص الله عز وجل علينا فيها قصصاً، وضرب لنا فيها من الأمثلة ما تتثبت به أفئدة المؤمنين، ويعرفون به طريقهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويزداد به إيمانهم، ويسيرون على نور من ربهم، قال سبحانه وتعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3]، فهذه جملة من أسماء الله وصفاته تعرف العباد بربهم سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الإله المعبود العزيز الذي قهر كل شيء، وغلب كل شيء {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو سبحانه العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب، فما أراده كان وما لم يشأه لم يكن، وهو سبحانه وتعالى ناصر دينه وأولياءه وعباده المؤمنين، كما قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وهو سبحانه وتعالى العليم بمواقع الأشياء ومواضعها، والعليم بدقائق الأمور وظواهرها وبواطنها، وقد شرع الشرائع بعلمه سبحانه وتعالى، وقدر المقادير بعلمه وحكمته.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:2 - 3]، وهذا من أعظم ما يتعلق به المؤمنون، فهم يعرفون دائماً أن ما أصابهم من مصائب ومحن فهو بسبب الذنوب، ولذلك هم دائماً يفرون إلى الله عز وجل منه سبحانه وتعالى، فيفرون إلى الله عز وجل بالاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع الدائم {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، والرسل جميعاً دعوا قومهم إلى أن يستغفروا ربهم، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، وكذلك قال الأنبياء من بعده: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:90]، هكذا كانت دعوة الأنبياء، ويجب أن تكون دعوة المؤمنين وحياتهم دائماً كذالك: فيها توبة واستغفار، وهو عز وجل غافر الذنب، وإذا غفر الذنوب وسترها وقى العباد شرها وعافاهم من عقوباتها.
((وَقَابِلِ التَّوْبِ))، وهو كما قال عز وجل: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وهو سبحانه وتعالى قد فتح باباً للتوبة قَبِل المغرب يسير الراكب في عرضه مسيرة أربعين أو سبعين خريفاً، ولا يزال مفتوحاً للتوبة حتى تطلع الشمس منه، والله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
((شَدِيدِ الْعِقَابِ)) لمن خالف رسله، وخالف شرعه، وحارب أولياءه.
((ذِي الطَّوْلِ)) أي: ذي الغناء والعطاء العظيم والمن والفضل سبحانه وتعالى.
((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: لا معبود بحق سواه.
((إِلَيْهِ الْمَصِيرُ))، فهو الذي قدر مقادير الخلائق وجعلها ترجع إليه؛ للحساب والسؤال والثواب والعقاب، فليست الدنيا آخر المطاف.
فهذا ملخص عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر: معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي تظهر آثارها في حياة الناس، والذين يدركون هذه الآثار هم أهل الإيمان، وذلك عندما يوقفهم ربهم سبحانه وتعالى على مقتضى أسمائه وصفاته، وارتباطها بواقعهم.(47/2)
وسائل الكفار للصد عن سبيل الله
لقد بين سبحانه وتعالى الوسائل التي يستخدمها الكفار للصد عن سبيله، فقد يجادلون ويناقشون، فإن غُلبوا لجأوا إلى الحرب والبطش، فقال الله تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وذلك لأنها آيات بينات واضحات، ولكن الكفار لا ينفع معهم حجة، ولا تزجرهم آية، ولا يتعظون بموعظة، فيظلون على الجدال بالباطل، ومهما ظهرت الحجج العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، فهم يأبون الانقياد، ولو كان الحق أوضح من الشمس في رابعة النهار ما استجابوا له، ولو أن الله حشر عليهم كل شيء، وكلمهم الموتى ما كانوا ليؤمنوا؛ لأن الله طبع على قلوبهم، ولولا الخذلان لما وقع ذلك، وما طبع على قلوبهم إلا بسبب من أنفسهم.
((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا))، وهذه المجادلة المقصود منها أن يمنعوا فائدتها، وأن يفسدوا على الناس الانتفاع بها، وهذه المجادلة تكون بالطعن فيها، أو بالطعن في من يقرأها ويتلوها ويأت بها من الرسل ثم من أتباعهم بعد ذلك، أو بمحاولة تحريفها وتأويلها إذا زعموا الإيمان بها، أو بمحاولة صرف الناس عن حقيقتها أو حقيقة معانيها؛ لكي لا تطبق في الحياة، أو لتكون مجرد أقوال تقال دون أن تكون عملاً وسلوكاً يتغير به حال الناس إلى ما يوافق أمر الله عز وجل وشرعه.
{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4] أي: أنهم يتمكنون مدة من الزمن قدر الله سبحانه وتعالى مدتها، وهو عز وجل الذي جعلهم يتقلبون في البلاد ذهاباً وإياباً، وأمراً ونهياً، وتملكاً وتسلطاً فيما يبدوا للناس، وأكثر الناس يغرهم ذلك، ويقولون: هذا هو الحق؛ لأنها هي القوة، فالحق عندهم مع من كانت القوة في صفه وفي صالحه، ومن كان السلطان عونه، ومن كان الأمر في الناس أمره، فيغترون بذلك ثم يتابعون الباطل، ويشاركون في المنكر؛ لأن صاحبه يتقلب في البلاد، والأنهار تجري من تحته، وله الملك في أنحائها -نسأل الله العافية- وقد حذر الله عباده المؤمنين أن يغتروا بذلك وإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن هذا التغلب في البلاد هو إلى حين، فله نهاية حتماً، ولابد من أن تشرق الشمس من جديد، وأن يزول تمكن الباطل؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
والله سبحانه وتعالى حين قدر أن تكون الأيام بين الناس دولاً إنما قدر ذلك ليستخرج من قلوب عباده المؤمنين أنواع العبودية، والمعرفة بأسمائه وصفاته، والتعلق بالله سبحانه، وصدق التوكل عليه، وحسن الظن به، وكمال التفويض إليه، وإلجاء الظهور إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يأوي إلى فراشه كل ليلة: (اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).
إن الذي يستشعر أنه يرغب إلى الله ويرهب منه، وأنه قد فوض الأمر إليه، وأنه ليس له ملجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فألجأ ظهره إلى الله، وأسلم نفسه لله، وفوض أمره إلى الله، وتوكل على الله؛ فهذا الذي قد أيقن بأسماء الله وصفاته، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وذلك إنما يقع ويكون بالصبر على أنواع من المقدورات التي قد لا يحب الله عز وجل كثيراً منها ولا يرضاها، ولكنه قدرها لما يترتب عليها من أنواع المحبوبات له عز وجل ومن أنواع العبودية، والتعرف للعباد بآثار أسمائه وصفاته، ومن كونهم يتضرعون إليه، فيجيب دعوتهم، ولذلك فلا تظنن أن الظلام هو من صنع أهل الظلام، إنما يستغلون الفرصة، وإنما جعل الليل والنهار، والظلمات والنور خالقُ الكون كله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، فالظلمات قدر الله أن توجد كما قدر وجود الليل، وقدر سبحانه وتعالى أن يطلع النهار بعد ذلك، فكذلك سيظهر نور الحق فلا يغررك إذاً ما تراه من تقلب الذين كفروا، فالذي جعلهم يتقلبون والذي مكن لهم وسلطهم هو الله سبحانه وتعالى.
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123].
فمن أين يأتي الغرور لمن أيقن بذلك كله؟ فالله هو الذي قدر وأعطى ومنع وابتلى عباده المؤمنين، قال الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].(47/3)
الأرض مكان الصراع بين الحق والباطل
((فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) فمن أين يأتي الغرور لمن عرف أسماء الله وصفاته، وعرف أنه هو الذي قدر المقادير، وآمن بالقدر خيره وشره، وفوض الأمر إلى الله؟ إنما يغر الإنسان إذا ضعف إيمانه أو زال، وإنما يغر الإنسان إذا وزن الأمور بموازين أهل الدنيا، وبقوة أهل الأرض، ولكن المؤمن ترتفع نفسه إلى آفاق أعلى زماناً ومكاناً.
وانظر إلى هذه الآيات التي توسع أفق المؤمن، وتجعله يرى الدنيا من أولها إلى آخرها كحلقة واحدة تتضمن أنواعاً أو حلقات من الصراع بين الحق والباطل {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
وتأمل ما يجعلك ترى الدنيا من أولها إلى آخرها زماناً صغيراً جداً تتكرر فيه هذه الصراعات التي حقيقتها صراع بين الإيمان والكفر، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش، وقبل كل أمة سارت على طريقها وعلى نهجها، وقبل كل قوم كفار، فكان قوم نوح على تكذيبهم لرسلهم، والأحزاب من بعدهم، وهذه سنة قدرها الله عز وجل أن تكون، وأن تتحزب الأمم وقوى الباطل، وتجتمع على رسلهم أصحاب دعوة الحق، ((وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ))، ومن الأحزاب فرعون وثمود والجنود التي جندوها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:17 - 22].
فتحزبت الأحزاب، واجتمعت القوى؛ لكي تزهق الحق، فثبت الحق وزهق الباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، فيزداد الكيد والمكر عبر مرور الأيام والشهور والسنين للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويصل الأمر إلى أن قرر الكفار بأن يجتثوا الدعوة من أصلها، ويأخذوا رسولهم ويمنعوه بالكلية: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وحين ترى أن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك مثالاً للمؤمنين لكي يتعظوا، فاعلم أن هذا الأمر يتكرر، وأن الكفار يريدون أن يجتثوا دعوة الرسل، فالذين قتلوا الأنبياء بالأمس هم الذين يريدون قتل دعوتهم في كل زمان ومكان، وهم لهم نصيب من ذلك، ولذلك ذم الله بني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فجعلهم من قتلة الأنبياء مع أنهم لم يتمكنوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أرادوا قتل دعوته، وهموا بقتله، وأرادوا قتل أولياء الله سبحانه وتعالى، وحزبوا الأحزاب من أجل إبادة الدعوة وإيقافها، جعلهم الله كالذين من قبلهم، وهي مسألة تتكرر في الأزمنة والأمكنة المختلفة، فطالما عادوا أولياء الله لأجل ولياتهم لله، وعادوا الدعاة إلى الله لأنهم يدعون إلى الله سبحانه، وعادوا أهل الإسلام لأنهم أسلموا، وتجد أن هذا الأمر يتكرر في المشارق والمغارب، فتجد من يحارب من التزم بالدين؛ لأجل التزامه بالدين، فهذا يحارب الله ويحارب رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا منهم، وكلهم يريدون أن يأخذوا دعوة الرسل ليوقفوها، فإن فعلوا ذلك فإن الله عز وجل سيأخذهم، قال سبحانه: ((وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ))، ولهم وسائل متعددة، فقد هموا بأن يأخذوا الرسل، وكذالك جادلوا بالباطل، فاستعملوا جميع الوسائل المتاحة لهم من القوة المادية والمعنوية ليصدوا الناس عن سبيل الله، ومحاولة إقناع الناس بأن ما جاءت به الرسل ليس هو الحجة، فإن استجابوا لهم وإلا أخذوا الرسل وبطشوا بمن تبعهم.
((لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) فما كان الجزاء؟ (فأخذتهم) أي: أخذهم الله وأبطل كلا النوعين من المكر، وأبطل ما أرادوا من أخذ الرسل، بل أخذهم هو عز وجل؛ لأن الله من ورائهم محيط، والقوة له جميعاً سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا به عز وجل، ولا يملك العباد شيئاً: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فأما ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كي تستيقظ القلوب من وزن الأمور بميزان أهل الدنيا، ولكي تدرك حقائق هذا الوجود، وتدرك أين القوة ولمن تكون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم! أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اللهم! اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر).
فما أعظم أدعية النبي صلى الله عليه وسلم! فهي أدعية تجعل الإنسان يتجاوز زمانه ومكانه، ويستحضر أن أوامر الله نازلة، وأن أعمال العباد إليه صاعدة، وأن الدنيا كلها في قبضته عز وجل، وأن صغير الأمور وكبيرها هو سبحانه وتعالى مالكها ومدبر أمرها: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، فعندما يدرك المؤمن ذلك، ويتحرر من قيود الزمان والمكان يعظم إيمانه، فترجح كفته، وينتصر بإذن الله وتنتصر طائفته.
وإنما ترجح كفة ميزان أهل الإيمان بمقدار الإيمان في قلوبهم، فتتغير الموازين من أجلهم، وينمحي الباطل بدعائهم، وإنما يكون ذلك باستحضارهم عظمة ربهم، فهؤلاء الكفار أخذهم الله قبل أن يأخذوا رسولهم، وقبل أن يوقفوا الدعوة، وفي كل مرة يظن الظان أن أمر الدعوة وصل إلى طريق مسدود، وأوشك على الانتهاء.
وانظر إلى إبراهيم عليه السلام وقد ألقي في النار والظن بلا شك لكل من يزن بموازين الأرض أن دعوته قد توقفت وانتهت وماتت، وإذا بالأمور تنقلب، وإذا بذكر إبراهيم يظل إلى الآخرين: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ويظل إبراهيم إماماً للمتقين، رغم أنه ما آمن به من قومه إلا لوط، وهكذا جعل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام عندما أقسم أتباعه أنهم لمدركون: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فهكذا أخذ الله الكفرة.
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:5 - 6] فكما فعل الله بمن مضى من المكذبين سيفعل بمن يأتي منهم، ففي كل زمن، وفي كل أرض، وفي كل صراع يوجد من هذه النوعية، وإنما يريد الله أن يقع عقابه على الكافرين بالحق، ولم يعذبهم باطلاً، ولم يدخلهم النار ظلماً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أترون البغي والعدوان والظلم والطغيان الذي يرتكبه أعداء الله وعلى رأسهم اليهود الغادرون المكذبون الطغاة المجرمون، الذين ينشرون الفساد في مشارق الأرض ومغاربها، أتظنون أن ذلك يغيب عن الله، أو أنه خارج عن سلطانه؟ لا والله! ولكنه سبحانه يملي لهم؛ لأن كيده متين، ولأنه سبحانه يريد أن يدخلهم النار.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، فلقد كان دخولهم النار حقاً وعدلاً بما اقتضته أعمالهم وبما كسبته أيديهم، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117]، وهم بطغيانهم هذا يقتربون من النهاية، وذلك حكم الله عز وجل وإرادته في جبر المنكسرين، وكسر المتجبرين وإذلالهم وإصغارهم، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فإرادته ماضية في ذلك، كما حكى الله عن قوم موسى قولهم لموسى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6].(47/4)
المؤمنون هم الأكثرون في الحقيقة
ثم بعد تجاوز حدود الزمان تجاوز أيها المؤمن حدود المكان؛ لتعلم أن الكون كله مطيع لله، فهناك عرش تحمله ملائكة كرام يسبحون الله ليلاً ونهاراً، ومن حول العرش يعظمون الله أكبر تعظيم، ويقدسونه ويسبحونه، وترى الكون كله كذلك يسبح، وأنت مرتبط بهذا الكون، بل إن الله عز وجل جعل لك شأناً عظيماً؛ حيث سخر ملائكة كراماً من حملة العرش -وما أعظمهم-، فقد أذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث عن ملك منهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبع مائة سنة، وقد جعلهم الله عز وجل يستغفرون لك، ويدعون لك بالتثبيت، وهم مع كونهم منشغلون تمام الانشغال بعبادة الله، فقد جعل من عبادتهم الدعاء للمؤمنين، فأنت لست وحدك وإن كنت ترى نفسك فرداً ذليلاً ضعيفاً، لكن جنود الله عز وجل أكثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فجعل الله سبحانه وتعالى ملائكته يدعون لعباده المؤمنين، ويستغفرون لهم، ليقيل عثراتهم، ويكفر سيئاتهم، ويثبتهم، وينصرهم، ويؤيدهم، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7].
وكم عدد الكفرة في الأرض؟ والله مهما بلغوا الملايين، ومهما اعترضوا وأبوا واستكبروا أن يسبحوا ربهم عز وجل فإن المؤمنين والملائكة سيسبحونه وهم أكثر وأعظم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد، لا يفترون عن التسبيح والذكر وعبادة الله)، فلذلك إذا كثر الكفار فجنود الله أكثر، وإذا كثر الظلمة فمن يعبد الله ويسبحه أكثر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فيظنون أنفسهم كثرة ويقولون: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] وقالوا: ((نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ))، ومع ذلك فهم قليل، وسيعلمون ذلك إذا رأوا حقائق هذا الكون على ما هي عليه عندما ينجلي الغبار، وعندما يفيق الناس من رقدة الحياة الدنيا.
أنت أيها المؤمن! تستشعر ذلك في هذه الحياة، فتسعد بها أعظم سعادة مهما كان الضيق في الأرض، فأنت ذا أفق أوسع، فالدنيا كلها بمثابة يوم، وهناك اليوم الآخر.
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، وليس فقط حملة العرش فهناك غيرهم، ولكن الله ذكر أشرف مخلوقاته ليذكر إيمانهم واستغفارهم لعباد الله المؤمنين، وإلا فالكائنات كلها تسبح له كما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1]، وقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:1]، وقال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فإذا استشعرت القلة والذلة والضعف فانظر إلى الكائنات من حولك، وانظر إلى الأرض التي تمشي عليها، والسماء التي يصعد إليها عملك، والطير وهي صافة بأجنحتها، وتأكد أن الكل يعبد الله، وهو يحبك، وهو يريدك أن تثبت، فيحبك إذا كنت مؤمناً، كما قال عز وجل عن آل فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، إذاً: فالسماء والأرض تبكيان على المؤمن؛ لأنهما تحبانه وتريدان أن يبقى عمله الصالح فيهما، وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الحيتان في البحر وهوامه، والطير في السماء تستغفر لمعلم الناس الخير).
وكل مؤمن فإن الكون من حوله يؤيده، كما أن المؤذن يشهد له كل ما سمع صوته من الكائنات من مدر وحجر، وكذلك الملبي يشهد له يوم القيامة بذلك، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا، فالكائنات تسبح الله، حتى الملائكة فإنها تسبح بحمد الله.
إذا رأيت ذلك ارتفعت نفسك عن هذه الدنيا الصغيرة الحقيرة، الضعيف أهلها، الفقراء أصحابها، فالعاجزون الذين من تمسكوا بها، وحرصوا عليها.
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7]، لا بد من وجود الذنوب ولكن كن تائباً، فإن (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فسر على طريق الله عز وجل، والتزم بطاعته، واتق الله ليسخر الله لك من خلقه من يستغفر لك، ويطلب لك المغفرة، فقد تذنب وقد تخطئ وقد تعصي الله، ولكن كن سائراً في طريق الله، ولا تكن على خلاف ذلك، ولا تكن سائراً في غيره؛ فإنك إن كنت متجهاً إلى عبادة غير الله فأخطاؤك لن تغفر، وليس هناك من يستغفر لك، لذلك إذا كنت في الجملة مطيعاً لله عز وجل، باحثاً عن رضوانه، راغباً في ثوابه، راهباً من عقابه، محباً له، خائفاً منه، راجياً فضله؛ فعند ذلك يستغفر لك كل شيء، ويستغفر لك ملائكة الله سبحانه ويقولون: ((فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)).
((وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ))، فالتزم بسبيل الله.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:7 - 8]، فهؤلاء الذين تخشى عليهم إذا فارقتهم، وتخاف عليهم حين يصيبك مكروه أكثر من خوفك على نفسك، (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، ومع ذلك فإنما الاجتماع هناك، فهناك السعادة الحقيقة، فكم يكون فراق أهلك ومالك ستون سنة، سبعون سنة؟ لكن هذه هي سنته سبحانه في أكثر الخلق، وأعمارهم لا تصل إلى أكثر من ذلك في الغالب، ومع ذلك فلابد من الفراق، واعلموا أنكم لن تدخلوا الجنة إلا إذا كنتم مطيعين لله.
{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] فالملائكة يتوسلون إلى الله بأسمائه وصفاته من أجل أن يجمعك بأحبابك في جنته التي هي كل رضوانه سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:9]، وهي دعوة شاملة في الدنيا والآخرة، فالملائكة تدعوا ربها عز وجل أن يقي المؤمنين السيئات، ومن ضمن السيئات ما يمكره أعداء الله بالمؤمنين، كما قال عز وجل في نفس السورة عن المؤمن: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45]، فالله عز وجل يقي المؤمن السيئات في الدنيا، والقبر، والآخرة، وهو محض فضل الله تعالى، وإذا وقي الله المؤمنين السيئات يوم القيامة فهذه هي الرحمة: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:9].
اللهم اغفر لنا، واجعلنا من الذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقنا عذاب الجحيم، ربنا وأدخلنا جنات عدن واجعلنا من الصالحين وآباءنا وأمهاتنا وذرياتنا وأزواجنا إنك أنت العزيز الحكيم، وقنا السيئات {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:9]، اللهم اجعلنا من الفائزين الفوز العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(47/5)
مصير المؤمنين والكافرين في الآخرة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: ذكر الله سبحانه وتعالى عقب ذلك مصير الكفار، فبدأ بذكر مصير المؤمنين، وما هم فيه من الحب الذي يحيط بهم من كل جانب، والذي يحصل لهم من الكائنات كلها، ومنهم ملائكة الله تعالى، ويكفيهم شرفاً أن الملأ الأعلى يذكرهم، وأشرف من ذلك أن الله يذكرهم في الملأ الأعلى، كما قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
ثم ذكر سبحانه وتعالى في المقابل المقت والكراهية التي يحيط بالكفار من كل جانب، وهذا مقتضى عدله سبحانه وتعالى! فإياك أن تغتر فتختار طريق البغضاء والكراهية والمقت من أجل زخرف الدنيا، ومن أجل تقلب سريع في البلاد سرعان ما يزول، وإياك أن تغتر بأن تترك سبيل الحق لأجل أن أهله مبعدون مطاردون، أو أن أهله عندهم من أنواع البلايا والمحن ما عندهم، وإياك أن تختار سبل الباطل أو تختار واحداً منها؛ فإن ذلك عذاب قبل العذاب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فحين دعي الكافر إلى الإيمان فكفر مقته كل شيء، ومقتته نفسه، فصار يحيا في المقت والكراهية، والله إنه لمن أعظم العذاب، وذلك حين يعيش الإنسان في كون يكرهه فيه كل شيء، ومقت الله أكبر من ذلك كله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الفريقين: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض)، فيعيش في المقت حتى من الأرض التي يمشي عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه، أما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر أو الفاجر فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) فالشجر والبلاد والأرض تمقت الكافر والفاجر وتكرهه والعياذ بالله، ومقت الله أكبر، فنعوذ بالله من غضبه ومقته وعقابه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10]، أي: عذاب أشد من أن يعيش في مقت الله أبد الآبدين هذه بشارتهم يوم القيامة، وينادون بذلك: مقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم، لأنهم دعوا إلى الإيمان فكفروا: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فيريدون الرجوع إلى الدنيا، ويريدون فرصة أخرى لكنهم لا يجدون، فالآن في الدنيا ما زالت الفرصة بين أيديهم ولن تتكرر في غير الدنيا، قال عز وجل عنهم {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] أي: كنا أمواتاً قبل خلقنا، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، ((أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ))؛ فالموتة الأولى قبل الولادة حين كنا ماءاً وطيناً، والثانية بعد الولادة، ثم نحيا يوم القيامة: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] وليس هناك من سبيل، لماذا؟ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، فليس كما كنتم تدعون أن الحكم لغيره، وأن الأمر لسواه، بل الحكم لله العلي الكبير سبحانه، الذي له كل معاني العلو: علو القدر وعلو الشأن، وأنه فوق العرش سبحانه وتعالى، فهو الكبير الذي أحاط بكل شيء، وهو أكبر من كل شيء.
فالحكم لله العلي الكبير حين دعوا إلى الإيمان فكفروا، ودعوا إلى التوحيد فأشركوا وردوا دعوة الرسل، وحينها كتب عليهم ذلك المقت وذلك الغضب وذلك العذاب، فيريدون الخروج من النار ومن الغم والكرب، وإنما صارت النار عذاباً لمقت الله عز وجل؛ وذلك مقتض لأنواع الآلام الأخرى المستلزم لها والعياذ بالله، فالألم الحسي إنما هو فرع عن الألم المعنوي؛ لأن الله إذا مقت عبداً مقته كل شيء، فالنار تتغيظ على الكفار من أجل أن الله مقتهم؛ لأنهم كفروا، فانظر إلى نعمة الله عز وجل عليك؛ لكيلا تغتر بزخرف الدنيا، وتنسى حقيقة هذا الدين.
هناك نعمة عظيمة أنعم الله بها عليك، وهي أنك تقول: لا إله إلا الله بسهولة ورفق، ومن فضله سبحانه وتعالى عليك أن جعلك موحداً لا تشرك به شيئاً {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:12 - 13] فدليل التوحيد ودليل أن الحكم لله أنه هو الذي يريكم آياته، وينزل لكم من السماء رزقاً، ومع ذلك فلا يتذكر إلا من أناب، فإذا وجدت قلبك بعيداً عن الاتعاظ فتب إلى الله وارجع إليه، فسوف يفتح لقلبك نوافذ من الخير تطلع منها على حقيقة الخير كله: من معرفة الله ومحبته، والتعبد له سبحانه وتعالى.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] أي: لا تظنوا أنهم سيرضون عن عبادتكم لله، وعن دعوتكم إليه، ولذا لا تجعلوا رضاء الناس عن دينكم هو الميزان، ولكن التزموا ولو كره الكافرون، وأخلصوا لله عز وحل ولو كره المجرمون، وتمسكوا بطاعة الله سبحانه وتعالى ولو كره أهل الدنيا؛ فإنه: (لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، ولكن وطن نفسك على أنك لن تترك الحق ولو كرهه الناس جميعاً.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:14 - 15]، والروح هو: الوحي؛ لأنه حياة القلوب: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16] وكان الملك قبل ذلك له عز وجل، ولكن الناس ينازعون فيه، فأتى اليوم الذي لا منازع لله فيه، وظهرت حقيقة الأمر، فكن أنت ممن يوقن بأن الملك لله في الدنيا والآخرة قبل أن يوقن الناس جميعاً يوم القيامة بأنه لله الواحد القهار.
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] سوف يعتدل الميزان، وترجع الحقوق إلى أهلها، ويرد الأمر إلى نصابه، {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين وأصحاب الضلالة أجمعين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك رهابين، لك مطواعين، إليك مخلصين أواهين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت أقدامنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، والشيشان، وكشمير.
اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، ربنا انصرنا على القوم المفسدين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(47/6)
ولا تهنوا ولا تحزنوا
كتب الله الخير والشر وقدره على بني آدم مؤمنهم وكافرهم، وهذا القدر الكوني قدره الله لحكمة عظيمة، فهو عذاب على الكافرين وابتلاء وتمحيص للمؤمنين؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، ويتبين الصادق من الكاذب، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء؛ ولذا لا يحزن المؤمن ولا يهن لما أصابه.(48/1)
الأمراض التي حذر الله منها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:137 - 148].(48/2)
مرض الوهن
حذر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان من عدة أمراض تقع للأمم المهزومة، منها: مرض الوهن الذي أصله حب الدنيا وكراهية الموت، وتعلق القلوب بشهوات الدنيا ورغباتها، وعدم التفكر في لقاء الله سبحانه وتعالى وفي الآخرة، وهذا مرض مهلك للأمم والشعوب والطوائف والأفراد، فيهلك الإنسان ويبعده عن الله عز وجل، ويجعله يرى الدنيا كبيرة جداً، ويهون عليه أمر الآخرة، فيهون على الله سبحانه وتعالى، فينسى ذكر الله فينسى نفسه.
وكما ذكرنا أن هذه الأمراض تقع للأمم المهزومة المغلوبة في معاركها مع أعدائها، والحقيقة أن الأعداء لا يحققون الانتصار بمجرد الكثرة في ميدان القتال، وإنما إذا وقع الانكسار في القلوب، وتعلقت القلوب بالدنيا، وكرهت لقاء الله عز وجل، وكرهت التفكر في الموت، ونسيت لقاء الله سبحانه وتعالى، وعلى العكس من ذلك: فإذا حصل لأهل الإيمان حب للقاء الله سبحانه وتعالى، وتعظيم أمر الآخرة وتهوين أمر الدنيا، صغرت الدنيا في أعينهم ولم يؤثر الانكسار في ميدان القتال على قلوبهم.(48/3)
مرض الحزن
كذلك مرض الحزن الذي حذر الله سبحانه وتعالى منه، ذلك المرض الذي يجعل الإنسان يأسى على ما فات، فيصيبه ذلك الأسى بالإحباط واليأس والشعور بالفوات، وأن كل شيء قد ضاع منه، فيلقي ما بيديه ويترك السير في الطريق، بخلاف ما إذا استبشر بفضل الله عز وجل، وعلم أن الطريق لا بد فيه من آلام، وأنه لا بد أن يصاب فيه ما قدره الله عز وجل عليه؛ فإنه حينئذ لا ينكسر ولا يبأس ولا يأسى ولا يحزن، فيعظم أمر الآخرة عنده، وتصغر كل قوى الباطل في عينيه كما صغرت في أعين الذين يظنون أنهم ملاقو الله من أصحاب طالوت -وكان فيهم داود عليه السلام- وذلك حين رأوا الجموع الكثيرة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، هذا هو والله الاستعلاء بالحق، وهذا هو العلو بالإيمان الذي ذكره الله عز وجل، فلم تضعف نفوسهم ولم تهن، ولم تحزن ولم تبتئس؛ لأنها أيقنت بأنها ستلقى الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يحصل العلو بالإيمان على أهل الباطل، ولا ينكسر انكسار القلوب الذي يريده الأعداء، وأنت ترى والله أن معارك تقع في الأرض كثيرة جداً تتفاوت فيها موازين القوى، ولا تنتهي المعركة إلا لمن ثبت قلبه ولم ينكسر ولم يضعف.
وإذا ضعفت القلوب انهار كل شيء، وإذا انكسرت القلوب ضاع كل شيء، فهل هذه الانكسارات المتعددة لأهل الإسلام تؤثر فيهم؟ وما الذي يغير نظرتهم؟ وما الذي ماذا يغير الأمراض في حسهم؟ يغيره في حسهم ما أرشد إليه القرآن، فيجعل هذه الانكسارات لا تؤدي إلى انكسار القلوب، ولا إلى التنازل عن الطريق، ولا إلى التوقف عن السير، ولا إلى المساومة على المبادئ، ولا إلى التعلق بالدنيا، ولا إلى الحزن على ما ضحى الإنسان به في سبيل الله، فإن ما يضحي به الإنسان في سبيل الله هو أغلى وأعظم ما يقدمه لنفسه يدخره لآخرته، وهو الذي يعده ليوم فاقته، فهو قد بذل ما يحبه الله عز وجل في سبيله سبحانه وتعالى، بذل من نفسه وماله وجهده وأنواع لذاته كلها، بل قد بذلها، وهو مستعد أن يبذلها مرات لله سبحانه وتعالى، يغيره طريقة التفكر كما ذكرنا، والتدبر فيما أرشد إليه القرآن، والنهي عن الوهن الذي أصله حب الدنيا وكراهية الموت، والنهي عن الحزن وتعظيم ما فات الإنسان من الخسائر، يعظمه ويأسى عليه، لا، والله ما كان حزناً على أهل الإيمان أبداً أن ضحوا في سبيل الله بشيء، بل ذلك يفرح قلوبهم دائماً.
إنما تحزن القلوب الجاهلة التي لا تدري أن ما تبذله في سبيل الله هو لها، وأن ما يبقى في أيديها هو لغيرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! كلنا مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، قال: فمالك الذي قدمت، ومال وارثك الذي أخرت)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أعني بذلك: أن المؤمن لا يحزن على شيء قد أصابه في سبيل الله، وذلك لأنه يراه مكسباً ومغنماً لا مغرماً كما قال عز وجل عن مؤمني الأعراب: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99]، فهو يراها غنيمة يكتسبها، فقد أخذ حين أعطى، وقد أخذ كثيراً حين بذل، وقد منح ووهب حين بذل وأعطى ما أمره الله عز وجل أن يعطيه، وذلك يجعله لا يحزن أبداً؛ ولذا قال بعض السلف في قول الله عز وجل عن أهل الإيمان في الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، والله ما حزنوا على شيء أعطوه لله عز وجل، ولكن يعنون حزن من دخل النار، فأذهب الله عنهم حزن دخول النار، وأما حزن فوات الجنة، فهو الحزن الحقيقي، فلا تحزن أخي المسلم على شيء أصابك في سبيل الله، فهذا أشرف ما يمكن أن تتعرض له، ولا تتصور أنه يمكن أن تخلو حياتك من ألم، ولا يمكن أن تخلو حياة بشر من ألم، لذلك الآيات بعدها ترشد الإنسان إلى هذه القضية، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
أترون أعداءكم مستريحين؟ أترونهم لا يصيبهم ألم ولا قرح ولا خوف؟ والله بالعكس! بل الآلام عندهم مضاعفة كما قال عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، فأنت مع مرارة الألم معك حلاوة الصبر التي تذهب هذه المرارة، وربما غبت بهذه الحلاوة عن أصل وجود المرارة، وذلك إذا قويت حلاوة الإيمان حتى تصل إلى درجة الرضا الذي لا تجد معه ألماً أصلاً، وهو موجود، لكن قد غطي وغلب عليه حلاوة الإيمان، قال تعالى: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))، نور الرجاء الذي يبدل ظلمات اليأس، ويذهب مرارة الألم.
فهل تظن أن أعداء الله ليس عندهم خوف؟ والله عندهم خوف مضاعف، خوف سببه أصلاً الشرك الأكبر والظلم، فكلما ظلم الإنسان ازداد رعباً وخوفاً قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
أما المؤمن فحين يخاف فعنده ما يذهب ألم الخوف من الأمن والإيمان والاهتداء بالله عز وجل، واستشعار قرب زوال الدنيا، وأنها بأسرها سوف تنتهي قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وقال عز وجل على لسان إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82].(48/4)
شقاء أهل الدنيا والشهوات
أتظن أن أهل الدنيا في غناهم وفي شهواتهم سعداء؟! والله إنه يمسهم أنواع من القرح، فكلما ازداد مالاً ازداد خوفاً عليه وتعباً من أجله، وكلما ازداد شهوة كلما ملها وقل استمتاعه بها.
فأنت ترى كم أغرق الغرب بشعوبه المختلفة في حمى الجنس، وفي الشهوات الجنسية المدمرة، وترى عندهم -رغم كل مظاهر الشهوة الجنسية المبثوثة في العالم من زبالتهم وسخافة عقولهم وسلوكهم- عدم الاستمتاع بهذا الأمر، والشقاء به ما يخبرنا به الذين دخلوا في هذه المجتمعات، أي: قد أصابهم الملل من هذه الأمور حتى وهم غارقون فيها، فمثلهم مثل الغريق يشرب ماءً كثيراً حتى يغرقه في الماء، وعمره لا يلقى للماء طعماً أبداً والعياذ بالله، بل يجد عذاباً فيها، فكل غارق في الشهوات من هذا الباب ينال منها إلى غاية ما يزهق منها، فالله عز وجل جعل عذاب الإنسان في بعده عن الله سبحانه وتعالى، وفي عدم إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ولذا لا تتصور أنك ستسلم من الألم، وأنك ستسلم من القرح قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ))، أي: إن أصابكم قتل وجراح في أحد فقد أصاب المشركين قبلها في بدر، فالله سبحانه وتعالى قد قدر الشقاء والألم على كل من ينزل إلى هذه الأرض.
قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فعلاً الشقاء ملازم، ولكن مع المؤمن ما يزيل به أثر هذا الشقاء، والألم موجود ولكن معه حلاوة، والدواء المر يوضع معه شيء من الحلوى أو العسل فيذهب مرارته، فهذا إذا كان قوياً كان الصبر، وإذا كان أقوى منه كان الرضا، وعند ذلك يزول الألم بإذن الله تبارك وتعالى.
فالصبر هو الذي يحصن النفس على ما تكره ابتغاء موعود الله سبحانه وتعالى، وأعظمه الصبر على طاعة الله وعلى ما يصيب الإنسان في سبيل طاعة الله، وذلك أن ما يصيب الإنسان في سبيل الله يجمع أنواع الصبر كلها، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، وهنا الصبر على الوهن والحزن وموافقة المشركين وأهل الباطل على ما يريدون، وغير ذلك من أنواع المعاصي التي ترتبط بفترات المحن والهزيمة والانكسار.
فهذا الذي يصيب الإنسان في سبيل الله تجتمع فيه كل أنواع الصبر؛ ولذا يعظم أجره جداً، وهو مغنم لا مغرماً بفضل الله سبحانه وتعالى.(48/5)
مداولة الأيام بين الناس
لن يفر الإنسان من ألم في هذه الحياة كما ذكرنا، بل لا بد أن يصيبه من قرح، ولا بد أن يصيبه من تعب، ولا بد أن يصيبه من شقاء بدرجة ما، فليحتمل في سبيل الله أفضل من أن يحتمل في غير ذلك، وهو في معصية الله عز وجل ويجري عليه قدر الله سبحانه وتعالى، ولذا طريقة التفكير فيما يصيب الإنسان في سيره إلى الله عز وجل تجعله إما أن يستفيد من أيام المداولة بين الناس من كل فترة حياته، ومن كل أحوال سيره، فإنه يكون بين الشدة والرخاء، وبين العسر واليسر، وبين المنشط والمكره، فهو سوف تتقلب به الحياة، والله هو الذي يقلبها قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وتأمل هنا جيداً! فالله هو الذي يداول الأيام بين الناس، وليس الناس هم الذين يصنعون عسرهم ويسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون نصرهم وكسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون سعادتهم وشقاءهم، فقد كتب على ابن آدم قبل أن يولد أشقي هو أم سعيد، وذلك يشمل كل لحظات السعادة واللذات التي وجدها، وكل لحظات الشقاء والألم التي وجدها طول حياته فضلاً عن نهاية المطاف يوم القيامة، شقي هو في النار أم سعيد في الجنة.
فتلك الأيام يداولها الله بين الناس، قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، فلا بد أن تستحضر هذا جيداً، فهو ليس من صنعك ولا من صنع أعدائك، وهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، إذ لم يملكوه لأنفسهم فكيف يملكونه لك؟! كيف يكون بأيديهم صنع المقادير نعوذ بالله كما يقول البعض: إن أوراق اللعبة كلها في أيديهم.
لا والله ما بأيديهم من شيء، هم يخوضون ويلعبون، ويظنون أنهم يملكون، وهم مربوبون مملوكون تحت قهر الله الواحد القهار، يداول عليهم عسرهم ويسرهم كما يداول علينا ذلك، ونحن معنا فضل الله عز وجل إذ أيام العسر عندنا فيها من أنواع اليسر ما هو أضعاف العسر، كما قال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين)، وذلك أن العسر معرف بالألف واللام، فهو عسر مكرر، والمذكور في الآية الثانية هو الذي في الأولى، وأما اليسر فمنكر، ولذلك يقتضي أنه يسر جديد {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
وقال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، فأثناء وجود العسر يوجد يسران، وأثناء نزول البلاء وحصول المشقة يوجد أنواع من النعيم واللذات، والألم عند المؤمن مصحوب باللذة، فالمؤمن ما بيده من الدنيا فهو زائد عن الحاجة كما ذكرنا عن سلمان الفارسي أنه بكى عند موته، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله فقال: (ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب)، وحولي هذه الأساود، وإنما كان حوله المطهرة والقربة والنعلان، وقد قومت تركته بخمسة عشرة درهماً، ويرى نفسه أنه قد تجاوز الحاجة.
فمثل هذه الأمور العجيبة تجعل المؤمن دائماً يستحضر أن الله عز وجل يداول بين الناس، وأن الدنيا سوف تنتهي بألمها ولذتها، وبنعيمها وشقائها، وبحزنها وفرحها، وأنه يبقى بعد ذلك ما أعده الله عز وجل لأهل الإيمان، وما أعده الله لأهل الكفر من أنواع العذاب الدائم المستمر الذي لا يزول ولا يتحول، نعوذ بالله من ذلك! قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ))، والله نحتاج جداً أن نتوقف كثيراً وطويلاً عند هذه الآيات لنعالج بها أمراض قلوبنا، ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) يقلب الأحوال كما ذكرنا بين الناس، وهذه تشمل المؤمن والكافر وتشمل الناس عامة، وكما قال الشاعر: يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر وما من إنسان إلا وفي عمره لحظات من الألم واللذة! فلماذا قدر الله ذلك على أهل الإيمان الذين يحبهم ويكره مساءتهم؟ فخيرة الخلق أنبياء الله وأولياؤه يقدر الله عز وجل عليهم أنواع المحن والبلايا، وهو عز وجل يكره مساءتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فانظر إلى هذا الأمر العجيب لتعلم منزلة المؤمن عند الله عز وجل، فالمؤمن يكره الموت بالفطرة الإنسانية؛ لأن كلاً منا فيه فطرة بأن يهرب من الموت، أو من أي شيء مهلك، ولذا لو لسعتك كهرباء فإنك ستجد نفسك أنك بعدت عنها ورميت نفسك وابتعدت بأي طريق وأي وسيلة، فالله قدر الموت على المؤمن لأنه لا بد له أن ينتقل من هذه الدنيا، فالحياة لا تستمر، ولا بد أن ينال الخير العظيم الذي عند الله عز وجل بالموت، ومع ذلك الله يكره مساءة المؤمن؛ لأنه يسوءه الموت والله يكره مساءة المؤمن كما ترون فيما قبل ذلك، وفي الدنيا أنواع الآلام التي بعضها قد يفضل الناس الموت عليها، ولذا الناس يقولون لك: الموت أرحم، ومع ذلك يقدره الله على أهل الإيمان، وعلى أوليائه وأصفيائه من خلقه لما فيها من أنواع الحكم العظيمة، حكم بالغة لمصلحة أهل الإيمان قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، وتأمل في الواو هذه ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) ليس (ليعلم) مباشرة بدون واو، إذاًَ: استقرت قاعدة: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، على أنها جملة مستقلة.
((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) أي: وبالإضافة إلى أن تشهد أن الله الذي يقدر، وأن الله الذي يداول الأيام بين الناس، وأن الله الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
بالإضافة إلى شهود المشيئة والإرادة الإلهية والملك له سبحانه وتعالى تأمل مع ذلك الحكم البالغة، فالله له الملك وتشاهده من قوله: ((نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وله الحمد وتشهدها من قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].(48/6)
تمحيص الله للمؤمنين بالشدائد
تجد والله أمراً عظيم الأهمية لا يمكن إلا أن تحمد الله عز وجل عليه، تحمد الله على ما أصاب المسلمين في أحد من هذه السنين الطويلة ألف وأكثر من أربعمائة سنة، تحمد الله عز وجل؛ لأنه حصل فيها من الخير الذي نلمسه بأنفسنا الآن، ولولا ذلك الذي وقع لما وجدنا أنواع الخيرات، ولما كانت هذه الآيات تخاطب قلوباً وعتها جيداً، هذه القلوب التي وعت الدروس وتتكرر عبر التاريخ قصة غزوة أحد، فليست خاصة بالزمن الذي وقعت فيه، فهي في الحقيقة قصة متكررة، وأهل الإيمان في كل زمن يصيبهم هذا الانكسار، فيقدر الله عليهم الآلام رغم أنه يكره مساءتهم عز وجل، ويكره سبحانه وتعالى ما يقع في قلب المؤمن من كراهية الموت، ويتردد سبحانه وتعالى، ومعنى التردد: أنه يجتمع إرادتان؛ إرادة أمر محبوب وإرادة أمر مكروه عند الله عز وجل، ولكن لا بد من الموت، لا بد من أمر معين، لا بد من أن يقدر الله عز وجل ذلك المكروه ليحصل ذلك المحبوب، أما ترون أن الله يكره مساءة المؤمن للموت، فما أشد على المؤمن أن يرى مثلاً موتاً بأيدي الكفرة الظلمة المجرمين! وأن يرى تمثيلاً بالجثث! وأن يرى انتهاكاً للحرمات في خيرة خلق الله! هذا المؤمن العادي يكره الله مساءته، فما بالكم بـ حمزة رضي الله تعالى عنه وهو يراه النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه وأخرجت كبده ولاكتها هند ولفظتها مقطعة، وجدعت أنفه، ما ترون في كراهية الله عز وجل لذلك؟! يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويكرهه أهل الإيمان، وتتألم نفوس المؤمنين عبر التاريخ من هذه الصورة.
ما ترون في مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو الذي جعله الله عز وجل سفير أهل الإسلام إلى المدينة، وقد دخل أهل المدينة في الإسلام على يديه، ويموت وهو حامل اللواء رضي الله تعالى عنه؟! مصعب بن عمير الذي أسلم أكثر أهل المدينة من الأنصار على يديه رضي الله تعالى عنه.
ما ترون في هذه الأمور؟! لا شك أنها أمور يكرهها الله ويقدرها؛ لأن هناك من ورائها أنواعاً من الحكم والغايات المحمودة، والخيرات والعبودية لأهل الإيمان لا تحصل إلا من خلال هذا الأمر المكروه؛ ولذا نحمد الله عليه.
كما أنك سوف تطبق هذه المسألة على كل ما يصيبك كشخص، وعلى كل ما يصيبك كطائفة مؤمنة في كل زمن من الأزمنة، وطبق هذا على واقعك، فالله يداول الأيام علينا وعلى أعدائنا.
من ضمن الحكم: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ليعلم علماً يحاسبهم عليه، ليعلم علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، فهو عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما الخلق عاملون، علم من سيؤمن ومن سيكفر، علم من سيطيع ومن سيعصي، ولكن هو يحب أن يرى ذلك أمراً واقعاً؛ ولذا فسر ابن عباس هذه الآية الكريمة: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، قال: وليرى، كما ذكره ابن كثير رحمه الله؛ لأن (يرى) فيها دلالة على علم الشهادة أن الله يعلمه أمراً قد وقع وأحبه عز وجل واقعاً، كما أراده عز وجل قبل أن يقع، أراد سبحانه وتعالى وجود هذا الإيمان وأحبه قبل أن يوجد، وأحبه سبحانه وتعالى حين وجد، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، آمنوا بالفعل، ووقع الفعل منهم، ولفظ (الذين آمنوا) هم كانوا مؤمنين قبل ذلك، فذكرهم هنا بلفظ الإيمان، لأن الإيمان هنا يرتفع ارتفاعاً هائلاً في مثل هذه اللحظات، أي: لحظات المعارك الفاصلة، ولحظات التضحية والبذل، ولحظات الألم الذي يصيب أهل الإيمان والمحن التي تصيبهم، فهناك أنواع من الإيمان تحصل في مثل هذه المواقف لا تحصل في غيرها، ولذا قال: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، ولم يقل (وعملوا الصالحات)، لأنها شملت العمل الصالح، وكما ذكرنا أن أنواعاً من الإيمان تقع في هذه اللحظات لا تقع في غيرها ولا تحصل بدونها، من حب الله عز وجل، والتوكل، والرجاء، والاستعداد للبذل والتضحية، وهوان الدنيا في أعينهم، كقولهم: (ما تصنعون بالحياة بعده؟).
فهذه مواقف تغير مسار التاريخ، ويستشعرها أهل الإيمان عبر العصور المختلفة فيجدون أمراً لا يمكن أن يوصف إلا أن يوجد ويذاق، كما يقول عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم: (اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً رجلاً من المشركين شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني) شيء عجيب والله! لا يريد أن يقتله هو! أما نحن فنقعد نفرح، أننا انتصرنا على الكفرة وأبدناهم، هذا خير، لكن فكر في هذا المعنى الإيماني عند هذا الصحابي الجليل عبد الله بن جحش (شديداً حرده، شديداً كفره، فيقاتلني فيقتلني، ثم يجدع أنفي، ويبقر بطني؛ فتسألني يوم القيامة: فيم ذلك يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب).
فهذا معناه أنه مستعد للبذل والتضحية، فهو يريد أن يُفعل به هذا الفعل في سبيل الله عز وجل، وتجده عند عمر عندما يرى ضعفاء المسلمين يضربون في مكة فلا يهدأ له بال، وهو يرى نفسه ممتنعاً من الكفار بقوته فيذهب يضرب المشركين ويغيظهم، ويقرأ القرآن جهراً عند الكعبة ليضربوه ويضربهم! فهذه معاني نادرة جداً أن توجد في القلوب؛ لأن النفوس أصلاً تفر من هذه الأمور، وتفر من هذا الألم ولا تريده، ولكن تحصل لحظات تجعل الإنسان يرى هذا الأمر نعيماً في الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أصابه في الله عز وجل.
وهذه المعاني الإيمانية التي حصلت لـ أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، حيث وقع منه إيمان عظيم القدر لم يوجد مثله، ولا يمكن أن يوجد مثله، وذلك عندما يجد في الطريق سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن فرحاً بأن سعد قد صار من أهل السماء، سعد بن معاذ الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).
أنس بن النضر هو الذي يثبته على الهدى! أنس بن النضر هو الذي يقول لـ سعد حين لقيه وقد ترك المعركة أو القتال فقال له: مالك؟ فقال: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟! فقوموا فموتوا على ما مات عليه، قال: واهاً يا سعد لريح الجنة! والله إني لأجده دون أحد! معاني إيمانية عظيمة حصلت في هذه اللحظات، وتفيض روح أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، يقول أنس رضي الله عنه: فما عرفته أخته إلا ببنانه، فوجدناه قد قتل وبه بضعة وثمانون ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح، وما عرفته أخته إلا ببنانه أي أنه قد أصيب من جميع الجهات رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف الإيمانية العظيمة التي حصلت الله يحبها سبحانه وتعالى، كما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فقد آمن من استشهد، وآمن من صبر، آمنوا إيماناً زائداً على ما كانوا عليه قبل ذلك، آمنوا إيماناً أكمل وأعظم مما كان قبل ذلك، فازدادوا إيماناً عند الله عز وجل في هذه اللحظات، والتي كانت قوة دافعة لهم في أثناء المعركة وبعد المعركة، بل أخذوا زاداً منها إلى أن فتحوا العالم بفضل الله عز وجل.
الإعداد الذي أعده المسلمون في بدر وأحد والأحزاب هو الذي فتح المسلمون به العالم، هذا الإعداد الذي تحولوا بعده إلى غزو الكفار واستمروا على ذلك كان بداية الانطلاق، فهذه هي الأحوال الإيمانية التي حصلت في قلوبهم وليس فقط للأبدان، فهم حصلت لهم معاني إيمانية بالأبدان كالعمل الصالح والثبات، والتضحية في سبيل الله عز وجل، والقتال في سبيله رغم الهزيمة التي وقعت، والعودة حين سمعوا النداء لمن عاد والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معاني إيمان عملية وقلبية تمت بفضل الله عز وجل في قلوبهم، وارتفعت أسهم الإيمان في قلوبهم.
قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، وهذا يحصل في كل ما يشابه هذه الواقعة، فيحصل من أنواع الخير في قلوب المؤمنين ما لا يمكن أن يوجد بدون تقدير الأمر المؤلم الذي هو القرح، الذي يؤلم أهل الإيمان ويسوءهم والله يكره مساءتهم، ولكن يقدر ذلك المكروه المسيء للمؤمنين لما يتضمنه من الخير الذي يحبه الله، ولما يتضمنه من الإيمان الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، الخوف من الله دون من سواه شجاعة باهرة لـ أنس بن النضر رضي الله عنه وأمثاله، وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جبير قائد الرماة، والعشرة الذين ثبتوا معه حتى قتلوا جميعاً دون من فر من الرماة الذين بقوا، وكل من استشهد رضي الله تعالى عنهم.
السبعة من الأنصار الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون يطلبونه: (من يردهم عني وله الجنة؟!)، فيقوم رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عني وله الجنة؟)، فيقوم رجل آخر من الأنصار، ثم ثالث، ثم رابع، ثم خامس، ثم سادس، ثم سابع من الأنصار، سبعة من الأنصار! حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: الذين فروا، أو (ما أنصفنا أصحابنا)، أي: المهاجرون الذين لم ينصفوا الأنصار حين تركوهم كذلك، فقام طلحة رضي الله عنه فقاتل قتال السبعة جميعاً، بل هو الذي ردهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها معاني إيمانية، وهذا إيمان تجدد، فـ طلحة رضي الله عنه هو الذي أرهقهم، وهو الذي أجلاهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، سبعة قتلوا في محاولة رد المشركين وما يزال المشركون يطلبونه، وطلحة رضي الله عنه هو الذي يقاتل حتى يجلي المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا القتال يقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده رضي الله تعالى عنه -نحن نقول: الواحد يأتي له خطر يبعد يده كذا- ولذلك يقول بعض من رآه من التابعين: رأيت يد طلحة شلاء التي وقى بها رسول الله صلى ا(48/7)
اصطفاء الله شهداء من الناس
قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، حكمة أخرى بالغة عظيمة: يتخذ الله عز وجل شهداء، ويدخل في هذا موت من مات، وقتل من قتل؛ لأنه لم تذكر صيغة (قتل المشركون المسلمين) إنما قال: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، فالله عز وجل هو الذي يتخذ، وتأمل هذه الآيات من أولها: قال تعالى: ((نُدَاوِلُهَا))، ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] كلها أفعال الرب عز وجل.
((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) فالله هو الذي اتخذهم! الله الذي اجتباهم! الله الذي اختصهم! الله الذي اختارهم لهذه المنزلة! منازل عند الله عز وجل في الجنان لا تبلغها أعمال العباد، يقدر الله عز وجل عليهم من أنواع البلايا والمحن، ويقدر لهم -أقول لا عليهم- أن يثبتوا عندها، وأن يضحوا في سبيل الله إلى أن تبلغ التضحية بالأنفس التي هي أغلى ما عند الإنسان، وما يملكه الإنسان، فكل شيء بدون النفس لا يساوي شيئاً، ماذا يصنع الميت بالمال؟! ماذا يصنع بالشهوة؟! ماذا يصنع بالأهل والأولاد؟! كل ذلك قد ضاع من الميت، الشهيد قد ضحى بذلك كله حين ضحى بنفسه في سبيل الله، فالله قد كتب له وثبته حتى قتل شهيداً في سبيل الله؛ ليشهد على الناس يوم القيامة؛ وليشهد منزلته في الجنة، فسمي الشهيد شهيداً لأنه يشهد دار الكرامة وما أعد الله له فيها، بل يستمتع فيها في برزخه؛ ولأنه شهيد على الناس، وهذه الشهادة أمر عظيم، فهي اجتباء من الله عز وجل واختيار، فكم طلبها طالبون! وكم كان منهم صادقون! وكم كان منهم غير صادقين! لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء).
هذه الشهادة ليست فقط فائدة عظيمة الأهمية للشهيد نفسه، بل هي فائدة عظيمة الأهمية لا يمكن أن تتقدم الطائفة المؤمنة إلا بها، فهي فائدة للمؤمنين جميعاً، وللطائفة المؤمنة في وقتها، فبالبذل والتضحية تسير القافلة، وبدون بذل ولا تضحية لن يتحرك أهل الإسلام خطوة واحدة، وهذا أمر مشهود والله، دماء الشهداء التي تسيل في معارك أهل الإسلام مع أعدائهم هي الوقود الذي تسير به الطائفة المؤمنة، وهي الوقود الذي يزداد به الإيمان في قلوب الباقين، وتزداد الرغبة في التضحية بدون الشهادة في سبيل الله عز وجل، وبدون البذل والتضحية، وبدون الجرح والألم لن يحصل تقدم، ولن توجد الأسوة الحسنة، ولن تنجذب القلوب بمثل ما يحصل عند وجود هذه التضحية العظيمة، فعندما نسمع نحن قصص الشهداء عبر التاريخ تتحرك القلوب حركة عظيمة للبذل والتضحية في سبيل الله، والعمل بطاعة الله عز وجل، والاستهانة بالدنيا، وعدم الاستكانة للعدو، ومزيد من الثبات والالتزام بفضل الله عز وجل.
((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ))، هذه منازل عالية، أعلى المنازل بعد النبيين والصديقين، فالله عز وجل قد جعلهم بأفضل المراتب عنده سبحانه وتعالى لما بذلوا أنفسهم في سبيل الله عز وجل.
((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) حتى لا يتوهم متوهم أن ما قدره الله من تمكين الكفرة، ومن قتل خيرة خلقه بعد أنبيائه والصديقين من أتباعهم أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، كما قد يظن كثير من الناس أن كل نعيم دنيوي هو علامة على حب الله لهم.
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] ليس هذا هو مقياس الإكرام ولا الإهانة، أكثر أهل الدنيا يرون الله قد أكرمهم وأنه يحبهم حين أعطاهم شيئاً من الدنيا، فهؤلاء الظلمة يرون أنفسهم مقربين عند الله؛ لأن الله أعطاهم السلطان والتمكن من المؤمنين حتى تمكنوا من قتلهم، ولذلك عقب عز وجل فقال: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فلا تظنوا أن تسليط الله عز وجل الكفرة على المؤمنين حتى يقتلونهم شهداء أن ذلك حباً من الله عز وجل للظالمين، لا والله! الله لا يحب الظالمين، وهذا أعظم تحذير من الظلم، أن الله لا يحب الظالمين، فلا بد أن من أبغضه الله عز وجل أبغضته الخلائق كلها حتى نفسه تمقته؛ لأن الله لا يحبه ومقته عز وجل، فمن هان على الله حتى جعله ظالماً فهذا أحقر الخلائق وأضلها وأبخسها حظاً نعوذ بالله! قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] فالكافر يمقت نفسه حين كفر بالله عز وجل.
((إِذْ)) حين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] ويمقته من حوله من البشر: (إن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه؛ جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه؛ فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض).
لا تظنوا أن من حول الظلمة من أهليهم أو أولادهم أو جنودهم أو أعوانهم يحبونهم، لا والله ثمرة من ثمرات: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أن البغضاء تملأ قلوب بعضهم لبعض، بعضهم يكره بعض، حتى أنفسهم كما ذكرنا تكرههم، حتى الجدران والحيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها، وأما الكافر فيستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، كل العباد والبلاد حتى الأرض نفسها، وكل ما كان من جنسها تكرههم، الأرض التي يمشون عليها تكرههم، وتستريح منهم عندما يموتوا قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] كائنات لها إدراك! لها شعور! تكره الكافر والظالم فضلاً عمن جعل الله في قلوبهم أصلاً كمال الإحساس الذين هم البشر، فلا بد أن يكره بعضهم بعضاً، وإن ظهر في ظاهر الأحوال حب عظيم، وتفخيم وتكبير لهم، واستعداد أنهم يموتون في سبيلهم، ومدح وثناء وغير ذلك من أنواع التعظيم الدنيوي، لكن يفعل ذلك وقلبه مليء بالمقت والكراهية.
((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فإياك أن تظن أن هذا الذي قدره الله من أن يسلط الكفرة على المؤمنين ليقتلوهم وينتصروا عليهم أن ذلك لأن الله يحبهم! لا والله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) بل الله هو الذي اتخذ شهداء؛ لأنه لا سبيل إلى وجود هذه التضحية العظيمة بالنفس وبالدنيا بأسرها إلا بأن يتسلط الكفرة على أهل الإسلام، فهذه العبوديات التي وقعت لا سبيل إلى وجودها إلا بأن يقدر الله الأمر المكروه، فمن أجل المحبوب قدر الله المكروه، ومن أجل أن يتعبد له أهل الإيمان بأنواع العبودية -في عسرهم وفي مكرههم وفيما يسوءهم، ويبذلون في سبيل الله عز وجل ما أعطاهم سبحانه وتعالى حتى الحياة نفسها يبذلونها- قدر الله ذلك، لا حباً للظالمين ولا رضاً بالظلم: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)).
فائدة أخرى ذكرها ابن القيم رحمه الله في قوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)): تحذير من ترك ما أوجب الله عز وجل على عباده -كأنه يراها تحذيراً لأهل الإيمان- عن أن يظلموا أنفسهم بترك الطاعة في فترات الشدة، كمن فر، فالله لا يحب من عصى، ولا يحب من ظلم، لكن الفائدة الأولى أقرب إن شاء الله وأولى، والثالثة ليست ممتنعة.(48/8)
الأسئلة(48/9)
حكم التحدث مع النساء ودعوتهن بالمايك
السؤال
ما حكم التحدث مع النساء ودعوتهن بواسطة (المايك)؟
الجواب
الحديث مع النساء في (المايك) من البلايا والمحن التي تصيب القلوب لا الأبدان، فهي فتنة عظيمة أن ينشغل الإنسان بمثل ذلك، ويضيع عمره، وما معنى أن يتكلم مع النساء؟ يريد أن يدعو إلى الله؟! يدعو الرجال إلى الله، ويترك النساء تدعو النساء، فهذا باب فتنة خطير يقع فيه الكثيرون ويستدرجهم فيه الشيطان، وإذا ضبط بالضوابط فنعم، لكن الواقع يؤكد أن هذا باب فتنة، فنسأل الله العافية.
فالحذر من استدراج الشيطان في مثل هذه الوسائل، وكل واحد أدرى بنفسه، فإذا تلذذ بمحادثة النساء بهذه الطريقة فهذا يدل على ما في قلبه من الإثم والمرض الذي طمع الشيطان من أجله.(48/10)
حكم الاستمرار في معاتبة من قارف ذنباً ثم تاب منه
السؤال
إذا أخطأ الإنسان ثم تاب إلى الله عز وجل، وظل سنوات في طاعة الله عز وجل فهل يعامل بذنبه الأول ويظل يعاتب عليه؟
الجواب
قال الله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71] فإذا حصلت التوبة وحسنت فإن الله سبحانه وتعالى يقبلها، وهو الذي أنعم على العبد بكل النعم بما فيها نعمة الحياة والوجود، فإذا تاب العبد تاب الله عز وجل عليه، فينبغي ألا يثرب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليقم عليها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليقم عليها الحد ثم لا يثرب عليها، فإن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر).
فإذا كان الحال الآن أننا نعجز عن إقامة الحدود لكن ذلك لا يمنع من تحصيل التوبة الصادقة، والكلام في تفسير الآيات كان على التدافع بين المؤمنين والكافرين، وأن المؤمنين مأمورون بدفع ظلم الكافرين فكيف بظلم المسلم لأخيه المسلم؛ بسبب أمور دنيوية وشهوات وحب الترأس وغير ذلك؟! دعها له إذا كانت تؤدى إلى ترك طاعة الله عز وجل، ولا تنافسه في هذه الدنيا، وإنما نافسه في الآخرة، نافسه في طاعة الله عز وجل، وانشغل أنت بما تركه هو من الطاعة، من سلامة الصدر، وسامحه فيما فعل، وعلى أي الأحوال: اجعل قضية الطاعة هي التي تحركك بمعنى: هل تتم الطاعة إذا تركتها له؟ طبعاً لاشك أن التعلق بالدنيا يمنع بركة الطاعة، لكن من أين تجزم بذلك؟ إذا كانت شهوات دنيوية فدعها ولا تنافسه عليها.(48/11)
المعاصي والذنوب سبب ضعف الإيمان في القلوب
السؤال
نرى أنفسنا نبتلى بالمعاصي والفتن، هل معنى ذلك أننا ضعاف الإيمان، وأنه لم يقو بعد في قلوبنا؟
الجواب
لاشك أن هذه المعاصي والفتن من أشد أنواع البلايا، وهي فعلاً دالة على نقص الإيمان، فلا بد أن نزيد من الأعمال الصالحة، ونزيد من أعمال القلوب، ومن التفتيش في عيوب النفس حتى نعافى من هذا النوع من البلاء، نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يفتح لنا أبواب الفضل والخير والرحمة منه سبحانه وتعالى، ولكن لا تطلب البلاء بأي نوع كان، سل الله العافية مطلقاً.(48/12)
حكم كشف المرأة لعينيها
السؤال
نحن نواجه مشكلة من الأخوات بسبب النقاب السعودي الذي يبين أعينهن؟
الجواب
بعض أجزاء الوجه قد تظهر، فقد تكون الأخت وضعت كحلاً على عينيها، وهذا يفتن أكثر الناس، وأنت أيها الشخص! ما الذي جعلك تنظر إليها؟ اشغل نفسك بشيء آخر، ومالك ومال الأخوات؟! إذا وجدت حاجة سوداء أمامك انظر إلى مكان آخر، وأنا والله ما أعرف شكل النقاب السعودي، والفتاوى الصادرة من بعض العلماء المعاصرين التي فيها التحريم فيها نظر، ومسألة كشف العينين أو جزء من الوجه هذا فيه خلاف بين العلماء؛ لأن كشف الوجه كله فيه خلاف، وهو خلاف سائغ، فأنت اجتهد في غض بصرك واستعن بالله، واشغل قلبك بشيء آخر، وقضية الشهوة هذه علاجها الأساسي بعد غض البصر أن القلب يكون مشغولاً بحاجات أخرى، لكن عندما تفكر فيها قبل النوم، وعندما تسرح تفكر فيها، وعندما تقعد تفكر فيها، فهذا الأمر سيسيطر على قلبك، ولن يجعلك تغض بصرك، لكن لو كنت مشغولاً بأشياء أخرى فستنصرف عن ذلك، وهذه هي قضية إصلاح القلب، وعبادة لله عز وجل، بأن يقرأ القرآن بالتدبر، أو يتعلم العلم، أو يدعو إلى الله عز وجل، وقضايا الإسلام كلها هي التي تشغله، وآلام المسلمين تشغله فيدعو لهم ويتألم لآلامهم، فهذه الأشياء ستغير كثيراً جداً من قضية الشهوة عنده.(48/13)
كيفية الانتفاع بالطاعة وتأثيرها على العبد
السؤال
عندما نفعل الطاعة لا يكون تأثيرها إلا مؤقتاً في قلوبنا، ولا يتعدى تأثيرها تأثير المسكنات فما هو العلاج؟
الجواب
لا تشبه الطاعات هكذا أبداً، فهذا تشبيه خطأ وخطر، فالطاعة هي مسكنات تأتي بالسكينة دائماً، وليس معنى المسكنات عندنا أنها حاجة ليس لها لزوم كبير، فالطاعات هي سبيل النجاة بإذن الله تبارك وتعالى، والطاعات الجليلة مثل: الصلاة والصيام والقيام والدعاء والبكاء، المواظبة عليها والاستكثار منها أمر مطلوب، وأداؤها بروح طيبة مطلوب، فالعبادة إذا أديت ولو كانت كثيرة لكن بدون روح لا تؤدي الثمرة المطلوبة، لكن إذا أديت بما يلزمها من خشوع كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] فكلما خشعت في الصلاة تأثرت تأثراً لا يمكن أن ينكر، ثم إن الإنسان بطبيعته يتغير ويتقلب، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه كما يقال، فالقلب يتقلب على الإنسان في اليوم الواحد مرات، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم، هو عليه الصلاة والسلام المعصوم يصيبه الغين ويستشعر من قلبه فتوراً فيستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يراقب الإنسان نفسه، ولا يصلح للإنسان أن يقعد طوال الأسبوع ينشغل بالحياة ولا يفكر في نفسه، أزاد أو نقص الإيمان؟ وإلى حال قلبه ماذا جرى له؟! يترك نفسه هكذا والأمراض تعشش في قلبه ثم يقول: نحن لابد أن نفتش فيها، فإذا وجدت العبادة بالخشوع المطلوب فيها فسوف تغير فينا تغييراً جذرياً، ثم نقول بعد ذلك: هذا وضع طبيعي أن القلب يتغير بسرعة، فكلما تقلب عليك أكثر من الطاعة قال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).(48/14)
حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة
السؤال
ما حكم القراءة في المصحف في صلاة الفريضة؟
الجواب
خلاف الأولى؛ لأن الفريضة ليست مبنية على التطويل، وإنما تجوز القراءة من المصحف في صلاة القيام لحاجته إلى التطويل.(48/15)
حكم قطرة الأذن والأنف للصائم
السؤال
ما الحكم لو وضع الصائم قطرة في أذنه أو أنفه فوجد طعمها في فمه فابتلعها؟
الجواب
الصحيح عندي أنه إن فعل ذلك فقد أفطر، وأما إذا لم يجد الطعم لم يفطر، وخصوصاً في الأذن، فالأذن لن يجد طعم القطار في الحلق إلا إذا كانت مخرومة، وإذا لم يكن فيها ثقب فلن تصل إلى الجوف ولا ينزل طعمها بالأولى، لكن الأنف موصولة بالحلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فإذا وضع قطرات في أنفه ووصل حلقه فقد بالغ في الاستنشاق، وأنا أنصح أن تأخذ قطرتين على قطنة وتحطها في أنفك وأنت واقف، فأنت لو حطيتها وأنت واقف لن يحصل شيء.(48/16)
مدى صحة خبر: أن سيف رسول الله في مسجد الحسين بالقاهرة
السؤال
يقال: إن في مسجد الحسين في القاهرة يوجد سيف النبي صلى الله عليه وسلم هل هذا صحيح؟
الجواب
يقولون هذا، ولا أعرف صحته، ولو كان هو فعلاً نجزم به، لكن ليس عندنا إسناد في ذلك، ويبقى هناك فائدة وهي: التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام.(48/17)
الجمع بين رفع الأعمال في شعبان وما جاء في رفعها يوم الاثنين والخميس
السؤال
أعرف أنه في شهر شعبان ترفع الأعمال، فما الفرق بين هذا الرفع للأعمال وبين حديث: (تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس)؟
الجواب
الظاهر أن عرض الأعمال يوم الإثنين والخميس يكون عرضاً في كل أسبوع مرتين، وأن عرض شعبان هو عرض السنة قبل رمضان، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا، وأن يغفر لنا، وأن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، فهذا وقت الإعداد لرمضان، فقد ترفع أعمال السنة فليراجع الإنسان فيها نفسه، وهذا مثل التاجر الذي يعمل جرداً كل سنة، فيحاول يعمل جرداً خلال السنة الماضية حتى يستعد لرمضان بقلب تائب منيب، نسأل الله العافية.(48/18)
كيفية إقناع الزوجة بوجوب النقاب
السؤال
زوجتي ترتدي الخمار، وأنا أريد أن ترتدي النقاب فتأبى وتقول: إنه ليس بفرض؟
الجواب
الخمار فرض وإن قلنا: إنه سنة فلماذا لا تطبقي السنة؟ وعندما تقتنع فسوف ترتديه، وأعطها كتاب الشيخ محمد المقدم، الذي فيه الأدلة على وجوب الحجاب، وعلى كل الأحوال اصبر عليها.(48/19)
المطلوب من العبد بعد أركان الإسلام
السؤال
أنا أصلي وأصوم وأزكي وأقوم بالعمرة إن استطعت، وأعبد الله كما أمرني، وأسعى على كسب رزقي فما المطلوب مني أكثر من ذلك؟
الجواب
هذه أركان الإسلام التي أنت قلتها: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومطلوب منك أن تتعلم ما يلزمك من الحلال والحرام، كفقه المعاملات بين الناس، فهذا فرض عين عليك، حتى تتعامل بالحلال وتترك الحرام فيما يتعلق بالأكل والشرب والمال والعين والأذن، فما هو الذي تسمعه؟ وما هو الذي تنظر إليه؟! وما هو الذي تمسكه بيدك؟! وهكذا تتعلم فقه حقوق الآخرين، كمعاملة الناس، فهذا فقه واجب تتعلمه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومعاملة الأهل والأولاد، وتتعلم إصلاح عيوب النفس وأمراضها، وتتعلم التخلص من الحسد والحقد والرياء والسمعة والضغينة للمؤمنين والتشبه بالكافرين.
وتتعلم ما يلزمك من العبادات القلبية من حب الله، والخوف منه، ورجائه، والتوكل عليه، وكل واحدة من هؤلاء لها بابها الذي يتعلمه.
ثم نتعلم فرضية أن ندعو إلى الله عز وجل، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر على ما توجبه الشريعة، وأن نسعى لنصرة الإسلام، وأن تقترب من إخوانك فتحبهم في الله وتصحبهم في الله عز وجل، وتستعين بالله عز وجل على حقوق هذه الصحبة في الله سبحانه وتعالى، وتسعى لنصرة الإسلام بكل ما يمكنك، وتصلح نفسك ومن حولك وجيرانك وزملاءك، وقدر كبير جداً من الواجبات مطلوب منك أن تعملها حتى إذا تغيرنا جميعاً تغير الواقع الذي نحن فيه، فهذا الواقع الذي نعيشه نجد فيه تقصيراً منا، فنحن ليس لنا دعوة بأقوالنا وأفعالنا، ومع أدائك لكل ذلك ترى نفسك مقصراً كما ذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة).
ومن رأى في نفسه كمالاً وأنه أدى ما عليه فهو لم يؤد بعض ما عليه، فهو لم يؤد شيئاً مما عليه، بل أنت تعمل بالطاعة وترى نفسك دائماً مقصراً والله المستعان! وليس هذا تواضعاً، وإنما هذا لأنك أنت تنظر دائماً لعيوبها، كأن تصلي ركعتين فتسأل نفسك كم كنت مركزاً فيهما؟ وكم كنت مستحضراً لقراءة الآيات والأذكار فيهما؟ وهكذا أول ما تسلم تقول: أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله!(48/20)
حكم الإفتاء بغير علم
السؤال
شخص استوقفه شخص آخر في الطريق وسأله أنه أقسم يمين طلاق وخالف ما أقسم عليه، فأجبته بما كنت أعلم: أنه إذا نوى الطلاق فقد وقع وإلا فليس عليه شيء، ثم علمت آنفاً أن عليه كفارة يمين في حالة عدم نية الطلاق، ولا أعرف هذا الشخص؟
الجواب
أنت أخطأت أولاً في التجرؤ على الإفتاء بدون علم، وكان الواجب عليك أن تنصحه أن يسأل أهل العلم حتى يجيبوه الإجابة الكاملة الصحيحة، فتستغفر الله وتأتي لطلب العلم ولا تعد مرة ثانية، ولعل ربنا ييسر له من يفتيه بما يلزمه.(48/21)
حكم من نذر مبلغاً لله ثم صرفه في صالح المسجد
السؤال
نذر مبلغاً لله، وبعد فترة وجد أن المسجد في حاجة للمبلغ، حيث إنه سيشتري به أشرطة وتجعل في المسجد، فهل يخرج هذا المبلغ لله أم يشتري به الأشرطة؟
الجواب
ممكن الأشرطة تكون لله، ويبدو أن نيتك مقيدة بكلمة: (نذرتها لله)، والنذر لله يصح في كل ما كان طاعة، لكن هل أنت نذرتها للفقراء؟ أي: خصصت نيتك بأن (لله) أي: الفقراء، فإذا كان للفقراء يبقى هذا المبلغ تنفقه في صالح الفقراء.
وأما إذا لم يكن في نيتك في ساعة النذر هذا التخصيص فكل ما كان في سبيل الله يجزي.(48/22)
علاقة الأعمال الظاهرة بالإيمان
السؤال
الأعمال الظاهرة هل هي شرط كمال أم شرط صحة؟
الجواب
من يقول: إن الأعمال الظاهرة شرط كمال واجب في الإيمان وليس بشرط صحة ليس مرجئاً، ومن يتهمه بالإرجاء يكون مبتدعاً، ويتهم عامة علماء الأمة بالإرجاء، ولا أعين أحداً، وممكن يكون متأولاً أو جاهلاً، لكن أنا أقول: إن اتهام من يقول بأن الأعمال الظاهرة شرط كمال واجب في الإيمان، وليس شرط صحة طالما وجد أصل الإيمان في القلب وعلى اللسان، فإن الذي بدَّعه ويقول عليه: مرجئ يكون هو المبتدع.
والإيمان المطلق معناه: الكامل، ومطلق الإيمان معناه: أصل الإيمان، والإيمان المطلق صاحبه يدخل الجنة لأول وهلة؛ لأنه كمل ما عليه، فأدى الواجبات وترك المحرمات، ومطلق الإيمان هو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وعنده أصل الإيمان لكن لا يخلد في النار.(48/23)
حكم تقبيل أيدي العلماء
السؤال
هل يجوز أن نقبل أيدي العلماء؟
الجواب
هذا الأمر ورد مرة عن الصحابة لما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم من غزوة انسحبوا منها، فقال لهم المسلمون: (أنتم الفرارون، فقال: بل أنتم الكرارون) فقبلوا يده، لكن لم يكن هذا الفعل عادة وسنة أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عندما يرون النبي صلى الله عليه وسلم ينكبوا على يده، مع حبهم وتعظيمهم له أشد التعظيم، فمسألة أن تقبيل اليد يصبح سنة فهذا فيه غلو، لكن إذا وقعت نادراً فقد ثبتت أدلة تثبت ذلك كما قال: قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهذا لم يزل موجوداً لكن على سبيل الندرة لا على سبيل العادة، والله أعلى وأعلم.(48/24)
حكم قول سيدنا ومولانا للعلماء
السؤال
هل يجوز أن نقول للعلماء: سيدنا أو مولانا؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك وليس ذلك بالمحدث من القول، لكنت ليست سنة راتبة أيضاً، فأنت لا تجد الصحابة يقولون دائماً: سيدنا أبو بكر سيدنا عمر، وإنما يذكرون الكنية، لكن هل هذا الأمر يعد بدعة ضلالة؟ لا، ليس كذلك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم).
وقال: (لا تقولوا للمنافق سيداً؛ فإنه إن يك سيداً فقد أغضبتم ربكم)، فدل ذلك على أن من ليس بمنافق ولا بكافر وهو المسلم الذي لا يعرف عنه فسق يجوز أن يقال له سيد.
وأما مولانا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا)، فالمولى لفظ يطلق على نحو عشرين معنى، منها عدة معاني صالحة للأخوة في الله، وهي: المحبة والقرب والتناصر على الدين، فهذه كلها معاني الموالاة الصحيحة، فليس هناك منع من ذلك، لكن كما ذكرنا أنها لا تصبح شعاراً بمعنى أنها تكرر مثل تقبيل اليد كما قلنا: لا ينكر مطلقاً ولا يغالي فيه، ولكن يحجم.(48/25)
حكم التنفل مع المفترض
السؤال
صليت العشاء ثم جئت المسجد، وكانت الصلاة لم تنقض بعد، فدخلت بنية النافلة هل هذا صواب؟
الجواب
نعم، ما فعلته هو الصواب، تصلي نافلة مع الجماعة، فإن أدركت ركعة صليت أربعاً، وإن أدركت أقل من ركعة صليت ركعتين.(48/26)
حكم بيع ماكينات الحلاقة والمعجون في الصيدلية
السؤال
عامل في صيدلية يبيع ماكينات الحلاقة والمعجون فما حكم ذلك؟
الجواب
معجون الحلاقة وماكينات الحلاقة للحالقين لا يجوز بيعها؛ لأنهما تستعملان في المعصية.(48/27)
معنى حديث (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)
السؤال
ما معنى حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)؟
الجواب
أي: يكفر عن يمينه ويأتي ما هو أتقى لله، كأن حلف على حاجة لا يعلمها، فقال: والله لن أذهب إلى أقربائي مرة أخرى، هل هو أتقى لله أنه لا يذهب إليهم أو أنه يذهب إليهم ليزورهم؟ يذهب إليهم ليزورهم، فيصل الرحم، ويفعل التقوى ويكفر عن يمينه.
والحديث هو مرسل؛ لأن التابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(48/28)
حكم الصلاة بالملابس النجسة
السؤال
شخص يعمل في شركة للأدوات الصحية في الصب يقول: فعندما نأخذ التراب الذي نصب به يكون مخلوطاً بماء الصرف الصحي، ودائماً ما يصيب الملابس، وعندما يؤذن المؤذن للصلاة أضطر للصلاة في هذه الملابس، وحتى المسجد مليء بهذا التراب بسبب الطاحنات؟
الجواب
لا، هذه الملابس لا تصلح للصلاة إلا أن يكون الذي أصابها رذاذ يسير لا يدرك، لكن إذا كان يدرك، فلابد أن تعد ثوباً للصلاة، وبالنسبة للمسجد لا بد أن تفرشه بشيء نظيف يمنع من هذه الأتربة المختلطة بالنجاسة، وهذه نجاسة لا بد من الحذر منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه)، فالبول والغائط من هذا الباب، فهذا خطر، وهو من أسباب عذاب القبر والعياذ بالله! فتلبس ملابس نظيفة وتصلي فيها، تأخذها معك ووقت ما يأتي موعد الصلاة تخلع ملابس العمل وتصلي في الملابس النظيفة، والمسجد نفسه إذا كان فيه نجاسة فهذا أمر محرم لا بد أن تزال النجاسة من المسجد، وأقل شيء أنهم يفرشون شيئاً نظيفاً.(48/29)
وقوع الطلاق في الحيض
السؤال
هل الطلاق في الحيض مسألة خلافية؟
الجواب
هي مسألة خلافية، لكن الخلاف عندي غير سائغ، فهو خلاف ضعيف جداً؛ لأنه ثبت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال: (هي واحدة) والحديث صحيح، وأئمة العلماء على ذلك، والأئمة الأربعة على وقوع الطلاق في الحيض، فعندنا لا يعرف عن أحد من السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة أهل الإسلام خلاف في المسألة، وإنما الخلاف من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم توهماً بفهم حديث مسلم أنه لم يعدها شيئاً، وهذا خطأ في فهم الحديث، فالمسألة عندي أنها لا يسوغ فيها الخلاف لصحة النص، والشيخ الألباني ذكر للحديث عشر طرق، الذي هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدها واحدة، أي: في طلاق ابن عمر في الحيض، فأنا لا أشك في وقوع الطلاق في الحيض وأرى الفتوى بخلافها فتوى باطلة مردودة.(48/30)
حكم الاشتراك في موقع البزناس
السؤال
ما حكم موقع البزناس؟
الجواب
هذا من الميسر الذي يخدع به الناس؛ حيث يبيعون شيئاً وهمياً أو شيئاً لا قيمة له في الحقيقة بقيمة بالغة بناءً على احتمال ورود الأموال من المخدوعين الجدد، فيأتي بعض الناس يقول لك: نعمل عليها شركة، فأنت سوق لي (الكباية)، وكل شخص يأخذ شخصاً ويقول: ما رأيكم؟ نقعد نشتري بمائة دولار، وأنت لو بعت واحد في المائة من الكباية سنعطيك، وهكذا من هذا الكلام الفارغ الذي لا قيمة لها، والناس الذين يدخلون كلهم ليسوا داخلين من أجل أن يستفيدوا من الموقع، ولن يدخل أحد إلا من أجل أن يوضع اسمه على قائمة، ويأتيه الذين يسوق عندهم، وهو لا يسوق ولا شيء، وإنما هذا يخدعهم، فالبزناس هذا ميسر بلا شك وهو بيع وهمي، ولذلك أنا أقول: أن البزناس هذه أمر محرم غير جائز.
فإنه من بيع الاحتمال، وهذا ميسر، وهذا بيع غرر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ لأنك لن تستفيد منه غالباً، وأنا أقول: إن اليهود وراء هذا الموضوع، فهذا بيع غرر بلا شك، والغرر الذي فيه هو: أنه يدفع في الحقيقة ويدخل في هذا الشيء من أجل احتمال أنه غيره سيعطيه وسيأخذ عمولة منه، فهذا بناء على هذا الاحتمال، وليس أن هناك سلعة مقصودة.(48/31)
حكم حضور دروس العلم مع كراهة الوالدين لذلك
السؤال
أبي وأمي يكرهان ذهابي إلى دروس العلم من أجل المذاكرة مع أنني أذاكر هل هذا عقوق؟
الجواب
إذا كنت تذاكر فليس هذا بعقوق، بل واجب عليك أن تحضر دروس العلم ولو من ورائهم، لكن واجب عليك أن تذاكر دروسك من أجل ترضيهم.(48/32)
كيفية المضمضة والاستنشاق
السؤال
هل هناك دليل على أن الاستنشاق يكون بالشمال؟
الجواب
لا، هو يأخذ غرفة بيمينه فيتمضمض ويستنشق منها، ثم يستنثر بالشمال، فهذا دلت عليه الأحاديث.
والحديث في صحيح مسلم، والتكريم يكون لليمين، والشمال لما سوى ذلك، فالاستنثار مما سوى ذلك.(48/33)
حكم من طلق امرأته قبل الدخول بها
السؤال
كم طلقة تكون للعاقد؟
الجواب
العاقد إذا طلق امرأته ولم يدخل بها فقد بانت منه، فإذا أراد أن يرجع رجع بعقد جديد؛ لأنها بانت منه، وإذا طلق امرأته قبل الدخول وعقد عليها من جديد، ثم طلقها ثانياً قبل الدخول فعقد عليها من جديد، ثم طلقها ثالثاً بانت منه حتى تنكح زوجاً غيره، لكن إذا أرجعها بدون عقد جديد يصير العقد باطلاً، وبعض الناس يطلقها في شجار حصل بينهم، فينحرج أن يقول لأهلها فيقول لها: قولي لي: زوجتك نفسي فيقول لها: رجعتك انتهى، فيراجعها وممكن بعد مدة يطلقها، والطلقات التي وقعت بعد هذا وقعت في غير زواج، فهي ليست امرأته فهو قد طلق أجنبية فلا تحسب.(48/34)
حكم وضع اليدين بعد الرفع من الركوع
السؤال
ما حكم وضع اليد بعد الرفع من الركوع؟
الجواب
يستدل على هذا بعموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى عند القيام في الصلاة، وهذا قيام، فالسنة إن شاء الله وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع، وهذا فيه خلاف سائغ.(48/35)
حكم الاغتسال لمن تاب بعد ردته
السؤال
هل لابد على من يسب الدين، أو يقول لفظاً شركياً أو كفرياً أن يغتسل ويتشهد، وكذلك من لا يصلي إذا أراد أن يصلي؟
الجواب
من سب الدين عليه أن يتشهد، وأما الغسل فإذا كان قد أجنب حال ردته فلا بد أن يغتسل، وحتى لو اغتسل دون أن يتشهد لم يجزه الغسل حتى يتشهد ثم يغتسل، والله أعلم.
وأما إذا لم يكن أجنب وتاب من ساعته لم يلزمه إلا الشهادة على الصحيح، والأحوط أن يغتسل على أي حال خروجاً من الخلاف في المسألة؛ لأن بعض العلماء يقول: الاغتسال واجب للإسلام مطلقاً سواء أجنب حال كفره أو لم يجنب.
أما من يقول لفظاً شركياً أو كفرياً، فهذا الكلام لا بد من النظر فيه هل هذا شرك مخرج من الملة أم لا؟ وهل توفرت الشروط وانتفت الموانع أم لا؟ فإذا ثبتت ردته فإنه يتشهد ويغتسل كما ذكرنا.
وأما من لا يصلي فإذا كان تاركاً للصلاة جاحداً لوجوبها فهذا خروج من الملة فعلاً، وكان ناشئاً وسط أهل الإسلام كبلادنا مثلاً وغيرها من بلاد المسلمين التي انتشر فيها علم وجوب الصلاة، فإذا كان كذلك كان جاحداً بأن يقول: الصلاة ليست فرضاً، فهذا خرج من الملة، فعليه أن يتشهد ويقول الصلاة فرض.
وأما إذا كان تركها تكاسلاً فهذا فيه قولان للعلماء أرجحهما وهو قول جمهور العلماء: أنه لا يكفر كفراً ناقلاً عن الملة، فهو كافر كفر دون كفر، كفر لا يخرجه عن ملة الإسلام؛ لذا لا يحتاج إلى الشهادة مرة أخرى.(48/36)
حكم من يرى أن قاطع الصلاة قد يكون أفضل من المصلي
السؤال
قال لي رجل لا يصلي: الذي لا يصلي قد يكون أفضل عند الله من الذي يصلي، قلت له: لا، الذي يصلي أفضل، فهل أكون تأليت على الله بهذا القول؟
الجواب
إن شاء الله ما تأليت على الله، وهذه ليست متصورة فقط إلا في المنافق، فقد يكون شخص منافق نفاقاً أكبر يصلي، يبقى: ممكن واحد لا يصلي تكاسلاً، وفي قلبه أصل الإيمان، فيكون أفضل من المنافق، لكن غير ذلك قطعاً لا يتصور يعني: الزاني والسارق والقاتل وشارب الخمر الذي يصلي أهون شراً من الذي لا يفعل ذلك ولا يصلي، وترك الصلاة أغلظ باتفاق أهل العلم من كل الكبائر.(48/37)
ولقاؤك حق
إن الموت نهاية كل إنسان، فلابد من لقاء الله عز وجل، ليحاسب كل إنسان على ما قدم في حياته، ولا بد لكل فرد من أن يقف بين يدي ربه، ليلاقي جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولذلك فإنه حري بكل إنسان أن يحاسب نفسه، ويتدارك ما فاته في عمره؛ لأن لقاء الله حق، والمصير إما إلى جنة أو إلى نار أمر لابد منه.(49/1)
إعداد العدة للقاء الله عز وجل
إن الحمد الله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:6 - 15].
هذه الآيات تحث على إعداد العدة للقاء الله عز وجل، فلنعلم أننا ملاقو الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: أيسر منه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه الجامع العظيم: (ولقاؤك حق)!.
فلقاء الله سبحانه وتعالى حق لابد أن يتحقق ولابد أن يقع، وكل عبد يلقى الله عز وجل فرداً كما قال سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94].(49/2)
هول يوم الحساب
استحضر يا عبد الله هذا الموقف الهائل العظيم، وأنت في وسط الجموع الهائلة الكثيرة من أول من خلق الله عز وجل إلى آخر واحد منهم إنسهم وجنهم، وقد اجتمعوا في صعيد واحد، ونزلت الملائكة من السموات تنزيلاً، وأحاطت بهم، واجتمعت عليهم الأهوال، ودنت الشمس من الرءوس، وصمت الخلق جميعاً، فلا تسمع صوت أحد يتكلم، إنما تسمع نقل الأقدام إلى أرض المحشر، ومن ينادى عليه للقاء ربه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]، وينادى على العباد فبعضهم ينادى عليه {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:18 - 19].(49/3)
حساب الله للكافر والمنافق
سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك، فيلقى أحدكم ربه فيقول: يا فلان! ألم أزوجك؟ ألم أسودك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟).
(وأذرك) أي: أتركك تصبح رئيساً في قومك، وتأخذ المرباع، كما كانوا في الجاهلية يأخذ زعيم القبيلة ربع الغنيمة ويسمى المرباع، فهو قد ربعهم أي: أخذ ربع غنيمتهم في الحروب، وكما يفعل كل من ترأس في الناس فإنه يأخذ من أموال الناس عامة ما يخص به نفسه، إلا ما رحمهم الله عز وجل من أهل الإسلام القائمين بالقسط والعدل.
يقول: (يا فلان! ألم أزوجك؟ ألم أسودك؟ -أي: جعلتك سيداً- ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ قال: بلى قال: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: اليوم أنساك كما نسيتني) نعوذ بالله!.
(ويلقى أحدكم ربه فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب! صمت، وصليت، وتصدقت! ويثني بخير ما استطاع فيقول: اليوم نبعث عليك شاهدنا فيتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم الله على فيه -أي: على فمه- ويقال لأركانه: انطقي، فتتكلم أركانه بما كان يعمل ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً! فعنكن كنت أناضل).
أجزاؤه هي التي تتكلم فيشهد فخذه، وتتكلم جوارحه، كما قال تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
فالله سبحانه وتعالى سوف ينادي كل واحد من الناس فيما بينه وبينه، ويقرره على ما فعل، والكفار والعياذ بالله يقرون، ويعترفون بذنوبهم، ويؤخذون إلى العذاب عياذاً بالله! وكذا المنافق كما جاء في هذا الحديث أنه يثني بخير على نفسه ما استطاع، ويقول: صليتُ! صمتُ! تصدقتُ! فإذا نطقت أركانه وجوارحه بما كان يعمل، ثم خُلي بينه وبين الكلام يقول: بعداً لكن أي: جوارحه؛ يدعو على نفسه وأجزائه التي شهدت عليه، فهي شاهده الذي يبعثه الله عز وجل عليه من نفسه، فهذا عدله سبحانه وتعالى، فهذا هو المنافق الذي يغضب الله عز وجل عليه، وذلك الذي يعذر من نفسه.(49/4)
حساب الله للمؤمن
ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شيئاً في النجوى.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدني الرب سبحانه وتعالى عبده المؤمن فيلقي عليه كنفه -أي: ستره-، فيذكره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا؟! أتذكر ذنب كذا؟! فيقول: نعم)، لا يستطيع أن ينكر (حتى إذا ظن أنه قد هلك فيقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيؤتى كتابه بيمينه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]).
فتخيل وتصور هذا الموقف الهائل العظيم، فوالله لو لم يكن في أمر الآخرة من شدة إلا تلك اللحظة التي يتصور المؤمن فيها أنه قد هلك؛ لأن الله عز وجل يذكره بذنوبه، ويقرره بها، ويعترف العبد بها حتى يتصور أنه قد هلك.(49/5)
شدة عذاب النار وهوله
الهلاك الذي لا نجاة بعده هو عذاب النار، يتعذب فيها الإنسان فيها بكل شيء، وفي كل لحظة من لحظاته، وفي كل جزء من أجزائه، فهو يتعذب بالنَفَس كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، ويتعذب بالطعام كما قال تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13].
(ذا غصة) أي: طعام ذا شوك يأخذ في حلق الكافر فيظل في حلقه لا يستطيع ابتلاعه، ولا يستطيع لفظه، فيمسك بحلقه ذلك الشوك فلا يستطيع خلاصاً منه، ويتعذب بالشراب فإن شرابهم من حميم والعياذ بالله كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، وقال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:24 - 26].
فالغساق: هو ما يسيل من عيونهم وصديدهم وجروحهم في غاية البرودة والنتن والعياذ بالله! ويتعذبون بالملابس التي يلبسونها قال عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22] نعوذ بالله من ذلك! والمقمعة: هي التي يضرب بها الفيل، وهي: حديدة عظيمة يضرب بها الفيل على رأسه، فينقمع هذا في الدنيا فكيف بمقامع الآخرة؟! ويعذبون في فرشهم كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] نعوذ بالله من النار!(49/6)
لقاء الله حق
المؤمن الذي يؤتى كتابه بيمينه -أي: قد رجحت حسناته على سيئاته- ينادى عليه من وسط صفوف البشر، فإن البشر يأتون يوم القيامة صفاً، وكلهم عارٍ كما ولدته أمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم).
وتأمل هذا الحديث جيداً؛ لتعلم أن كل أحد يحشر عارياً، حتى الأنبياء يحشرون عراة حفاة كما ولدتهم أمهاتهم، ثم يكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما في الحديث: (ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)، فلن يستثنى أحد، ولن يحشر أحد في لباس، وإنما هم قائمون في أرض المحشر شاخصة أبصارهم، ينتظرون فصل القضاء، وكلهم صامت ساكت، والملائكة قد أحاطت بهم، ثم ينادى عليهم واحداً واحداً، ويلقي الله سبحانه على المؤمن كنفه، أي: ستره، ثم يقرره بذنوبه حتى يظن أنه قد هلك.
فهذه اللحظة التي يظن فيها المؤمن أنه قد هلك هو كما هو في إطلاق الحديث: كامل الإيمان، الذي رجحت حسناته على سيئاته، بدليل أنه قد أوتي كتابه بيمينه، وأنه ينادي: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: أنه أيقن أنه ملاق حسابه عند الله عز وجل، فهذا حال المؤمن في تلك اللحظة، فكيف بمن كان مفرطاً؟! وكيف بمن يعذب بذنوبه؟! وكيف بمن يلقى في النارنعوذ بالله من ذلك؟!.
إن لقاء الله عز وجل حق للمؤمن والكافر، فأما الكافر فيلقاه لقاء العبد الآبق من سيده الغاضب عليه والعياذ بالله من ذلك! فيراه رؤية يعلم بها أن الله حق وأن لقاءه حق، فليست رؤية تكريم ولا تنعم، بخلاف أهل الإيمان فإنهم يلقون ربهم فيرونه وينظرون إليه، وينظر إليهم برحمته سبحانه وتعالى، فينظر إليهم نظرة يترتب عليها أنواع من الرحمات والكرامات والإنعام -حتى يدخلوا الجنات- ما لا يخطر ببال أحد، ولم تسمع به أذن، ولم تره عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).(49/7)
قصر الدنيا بالنسبة للآخرة
اعلموا عباد الله أنكم ملاقو الله سبحانه وتعالى، وأعدوا للقاء الله عز وجل عدته، فهي لحظات طويلة، فكم يبلغ يوم القيامة من السنين؟! وكم تساوي حياتنا بالنسبة لها؟ فقد قال تعالى عن طوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلنتدبر هذه الكلمة جيداً {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5].
إن عدد الأيام من أيام الفراعنة إلى اليوم يقولون: سبعة آلاف سنة.
فكم من الأديان مرت خلال هذه الفترة؟ وكم من الأحداث على الأرض وقعت؟ إن تاريخ البشر المعروف لا يتجاوز عشرة آلاف سنة على أي حال من الأحوال، والله سبحانه وتعالى يخبر فقط عن يوم القيامة أنه خمسون ألف سنة، فكم تساوي متع الحياة التي يتنافس الناس فيها، والتي من أجلها يقتل بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض، ويغتاب بعضهم بعضاً، وينم بعضهم على بعض، والتي تقطع فيها الأرحام، ويفسد من أجلها في الأرض؟ فكم تساوي هذه اللذات المشوبة بالنغص والنكد؟ فإنه لا تسلم لأحد لذة منها إلا ومعها ما ينكدها، ولو لم يكن إلا الملل منها بعد حصولها لكفى به منغصاً، فما من لذة من اللذات إذا ذاقها الإنسان إلا وشعر بالزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، وحب التحول عنها، وأما اللذة التي لا يتحول المرء عنها فهي في الجنة فقط، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108].
وأما لذات الدنيا مثل الطعام الذي تشتهيه وتحبه وأنت جائع فإذا أكلت منه لقيمات شبعت منه وقلت: لا أستطيع الزيادة، ولا أريد المزيد منه، وكذا الشراب تشرب مرة أو مرتين ثم تزهد فيه، وكذلك الشهوة الجنسية لحظات وثوان معدودة ثم يزهد بعدها الإنسان ويرغب في غيرها، ولا يريد البقاء فيها! وكذلك لذة الملك، لا تأتي إلا بالكرب والغم والخوف والقلق والصراعات والنزاعات بما لا يتمتع معه بشيء من أمور الحياة.
إن هذه الحياة لا تخلو من ألم، ولابد فيها من شقاء وألم بحكم وجودنا في الأرض، فإن خروجنا من الجنة ترتب عليه شقاؤنا، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
ومع ما في الدنيا من لذات إلا أنها تكون مشوبة بالآلام والمتاعب والنكد والاختلاف الذي يؤدي دائماً إلى ضيق الصدر وعدم انشراحه، اختلاف بين البشر حتى في الأسرة الواحدة يقع ذلك كله، فكم تساوي لذة الدنيا هذه؟! ومع ذلك فالإنسان يبقى ثلث حياته نائماً لا يشعر بشيء، وثلثها الأخير أو ربعها الأخير بعد الأربعين أو الخمسة والأربعين أو الخمسين تدب إليه الأمراض، فيعاني منها أنواع المعاناة، وأمراض الشيخوخة لا يكاد يسلم منها إلا أفراد من الملايين، وإلا فالأكثر تصيبه الأمراض والآلام، وما بين ذلك أيضاً طفولة مليئة بالبكاء، فأول ما يبدأ به الإنسان في الحياة البكاء، ويظل يبكي طوال حياته، وإن ضحك قليلاً فإنه يبكي كثيراً.
وكم تساوي الدنيا في يوم القيامة في أهواله العظيمة؟ وإننا لو قارنا هذه الحياة بفترة البرزخ فقط لكان الميزان لصالح ما بعد الحياة، ولذا لا تكون الحياة الدنيا حياة فيقول الإنسان يوم القيامة كما قال تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]، وقال عز وجل: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، فلا يعذب مثل عذاب الله أحد، ولا يوثق مثل وثاق الله أحد، هذا الوثاق الذي يقيد به الأسرى، وتعصب به أعينهم، ويقيدون به خلف ظهورهم كم هو مؤلم، فتخيل قول الله عز وجل: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72]، فهذه الأغلال ليست في الأيدي فقط، وإنما هي في الأعناق مع الأيدي والأرجل، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، فتجمع قدمه إلى ناصيه في سلسلة واحدة، قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27]، أي: ليت الموتة التي متها كانت القاضية ولم أبعث: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أي: هلكت عني حجتي أو أصحاب السلطان الذين كان لهم سلطان في الدنيا يقولون يوم القيامة: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29]، فيقول الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]، فإذا قال الله عز وجل: (خذوه) ابتدرته الملائكة أسرع من البرق يأخذون هذا الذي أمر الله أن يؤخذ، وقوله: (فغلوه) أي: اجعلوا الأغلال في عنقه.
قال تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31]، الناس يخافون من أن يحبسوا في سجون يأكلون فيها ويشربون، وينامون على أرض ليست بنار، ويتغطون بغطاء ليس بنار، ويلبسون ثياباً ليست من نار، قال بعض السلف: لو توعدني الله أن يحبسني في الحمام لكان والله أجدر بنا أن نخاف وأن نرعب من هذا، فكيف وقد توعدنا أن يحبسنا في نار جنهم نعوذ بالله من النار؟! {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] فلا يقيد بها فقط، بل يسلك فيها أي: تجعل السلسلة في فمه، وتدخل في أمعائه حتى تخرج من دبره مثل الطيور التي تشوي، ويجعل فيها ذلك السيخ الحديدي، فهذا الكافر يسلك في السلسلة كما تسلك حبات العقد في سلكه نعوذ بالله من ذلك! {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:31 - 36]، وهو غسالة جروحهم والعياذ بالله {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37].
نعوذ بالله من ذلك.(49/8)
خوف الأنبياء عليهم السلام من أهوال يوم القيامة
يوم القيامة يخاف الأنبياء من غضب الرب ويقولون واحداً بعد واحد: نفسي! نفسي! نفسي! فيقولها آدم عليه السلام الذي أسجد الله له ملائكة، وكلمه قبلاً، وخلقه بيده، وعلمه أسماء كل شيء، وتاب عليه وهدى، واجتباه ربه سبحانه، وجعله نبياً، ويقولها نوح عليه السلام، ويقولها إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن الذي وقف المواقف العظيمة الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، وبقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، فإبراهيم عليه السلام يقول: نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، وكذلك موسى عليه السلام الذي وقف في مواجهة فرعون وكلمه الله عز وجل، وقربه نجياً يقول نفسي! نفسي! كذلك عيسى عليه السلام لا يذكر ذنباً، ولكن يقول: لا أسألك إلا نفسي؛ فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها أي: الشفاعة.
فانظروا عباد الله إلى هذه المواقف العظيمة، واعلموا أنكم ملاقو الله، فلقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، فهل ندرك حقائق هذه الأشياء؟ وهل نحن مؤمنون بها كما أخبرنا بها القرآن؟ إن أكثر ما ذكرنا إنما هي آيات في كتاب الله الذي يقول المسلمون كلهم عنه: نحن نؤمن به قطعاً ويقيناً وصدقاً، ولكننا نحتاج إلى أن نتدبر، وأن نستحضر هذه المواقف الهائلة التي تنتظرنا، حتى تصغر الدنيا في أعيننا، وحتى تكبر الآخرة في قلوبنا، وحتى كأننا نرى الجنة وقد دخلها أهلها وهم يتنعمون فيها، والنار وقد دخلها أهلها وهم يتعذبون فيها، وحتى كأننا ننظر إلى عرش ربنا بارزاً، وقد جاء سبحانه لفصل القضاء بين العباد الذين هم في عرصات يوم القيامة، في أرض عفراء بيضاء كقرص نقي ليس فيها معلم لأحد، أي: كرغيف الخبز المصنوع من الدقيق الذي يكون بياضه مشوباً بشيء من الصفرة، ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، قال عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] أي: ولا ترى فيها ارتفاعاً ولا انخفاضاً، ولا ترى فيها وادياً، فالعوج وهو الأرض المنخفضة، ولا أمتاً، وهو الأراضي المرتفعة عن الأرض، فيذر الأرض قاعاً أي: أرضاً مستوية، ملساء، صفصفاً أي: ملساء، لا ترى فيها ارتفاعاً ولا انخفاضاً، ولا ترى فيها وادياً ولا رابيةً، بل هي أرض مستوية، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وهذا كله يتضمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق).
نسأل الله عز وجل العافية، ونسأله عز وجل أن يدخلنا الجنة، وأن يعيذنا من النار، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(49/9)
صفة الجنة
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: يطلب الإنسان السعادة، ويطلب اللذة، ويريد ما تشتهيه نفسه، ولكن لا لذة في هذه الدنيا تبقى، بل كل شيء فيها يفنى، فنعيمها إلى زوال، وألمها إلى زوال، وإنما العاقل من يطلب نعيم الجنة، فالجنة حق والنار حق.
وقد أخبرنا الله عز وجل أن نعيم أهل الجنة أعظم نعيم من كل شيء، وقد ادخر الله عز وجل: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وقد جعل الله سبحانه وتعالى أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، وهو الزيادة على الجنة المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (النظر إلى وجه الله عز وجل)، وقال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، وقد فسره غير واحد من الصحابة والتابعين والسلف: بأنه النظر إلى وجه الله عز وجل، وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25]، فهي باسرة أي: عابسة خائفة مرتعبة، وهي وجوه الكفار، (تظن) أي: أيقنت وعلمت أنها سيفعل بها ما يكسر فقار ظهرها، فهي سوف تقيد، وسوف تحبس، وسوف تدخل النار فتصيبها الفواقر التي تكسر فواقر ظهرها، هذه هي الفاقرة عياذاً بالله.
أما أهل الإيمان فإن وجوههم قد أتتها نضره عظيمة من نظرها إلى وجه الله، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:8 - 10] أي: شديداً {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، وإنما أتت النضره للوجوه من نظرها إلى وجه الله عز وجل، وإنما سرت النفوس لما علمت برضا ربها سبحانه وتعالى عنها، فهو فوق نعيم الجنة كلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟! ألم تبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟! فأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
وفي الحديث الآخر: (فيسألون النظر إلى ربهم فيرفع الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله سبحانه)، فلا يكون النعيم نعيماً إلا بالقرب منه سبحانه وتعالى، وبالنظر إليه سبحانه، وذلك لمعرفة العبد بأن الله قد رضي عنه، وقال سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:54 - 58]، فربهم الرحيم سبحانه هو الذي رحمهم تلك الرحمة الخاصة، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق للإسلام، ورحمهم في قبورهم بأن فتح لهم أبواباً إلى الجنان، ورحمهم في الآخرة بأن أظلهم في ظل عرشه سبحانه الرحيم الرحمن، ثم رحمهم رحمة خاصة بأن سلم عليهم وكلمهم من فوقهم بقوله: سلام عليكم يا أهل الجنة، فهذا الذي يسعد به الحزين، ويأمن به الخائف، وهو الذي يكون به نعيم الجنة نعيماً، ولا يحصل نعيم الجنة لأحد دون رضا الله عز وجل، وإنما صارت الجنة جنة بالقرب من الله عز وجل، وبرضاه سبحانه في أنها دار كرامته، ودار من رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهي لا تحصل إلا لمن أطاع الله عز وجل بتوحيده واتباع رسله، وترك الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والكفر بالطاغوت: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].(49/10)
آيات في ذكر صفة نعيم الجنة
الله عز وجل وصف نعيم أهل الجنة بأوصاف تجعل العبد يكاد يطير قلبه شوقاً إليها، وإلى رضوان الله عز وجل فيها، قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، وتأمل أنه بدأ أولاً بذكر القرب من الله كما ذكرنا؛ لأنه لا نعيم إلا بالقرب منه، ولا يتنعم إلا بقربه عز وجل، والنعيم المعنوي مقدم على النعيم الحسي.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:10 - 13] أي: جماعة كثيرة من أول هذه الأمة على أصح القولين إن شاء الله {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]، أي: من آخر هذه الأمة، وفي كل قرن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سابق {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: منسوجة من الذهب، {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أي: يقابل بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحدهم في ظهر أخيه أو في قفاه، بل من شدة حبهم وتلاقيهم تقابل وجوههم وجوه بعض {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:16 - 17] أي: مخلدون على هيئة الولدان، فلا يسبون ولا يلغطون ولا يكبرون، وهم في غاية الجمال {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24]، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17 - 18] أي: من الكأس التي فيها الخمر، من عين جارية على أرض الجنة، وليست في أخدود كأنهار الدنيا، وهذه الأنهار يجري فيها الخمر والعسل والماء غير الآسن واللبن كما قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] فلا يحتاجون لآلات لرفعها، وهي معين، أي: ظاهرة على أرض الجنة، سارحة منكفة بنفسها، فلا تسيل على جوانب هذه الأنهار، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها المسك الأذفر.
قال تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: لا يصيبهم صداع كما تصيب خمر الدنيا أهلها الذين يشربونها، ولا تزول عقولهم كما تزيلها خمر الدنيا نعوذ بالله منها! {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:19 - 21].
إن المؤمن في الجنة ليتمنى الطير الذي يطير ويسرح في الجنة فيخر بين يديه مشوياً، فيأكل منه ما شاء، ثم يطير حيث شاء الله عز وجل، ولهم فيها {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52].
قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] وعندهم حور عين، أو: ويطوف عليهم حور عين، والأول أقرب؛ لأن المؤمن هو الذي يطوف على أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن يرى بعضهم بعضاً)، وتصور هذه اللؤلؤة في طولها في السماء، وربما عرضها على أرض الجنة مثل ذلك أو أكثر أو أقل والله أعلم، هذا طولها فقط في السماء، فكيف بما فيها من خيام وقصور وأنواع اللذات! {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] الحوراء: هي واسعة العين، والمرأة الحوراء: هي التي بياض عينها أنقى بياض، وسواد عينها أفضل سواد، وعين: هي المرأة العيناء، وهي واسعة العين، وهذا من جمال المرأة.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:23] أي: المستور الذي لم تمسه الأيدي كقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24].
ثم ختم الآيات بنعيم معنوي آخر فقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة:25] أي: لا يسمعون كلاماً باطلاً لا فائدة فيه، وإنما يسمعون التسليم، كما قال تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:26]، أعلاه سلام الرب عز وجل كلاماً منه لهم، وبعد ذلك سلام الملائكة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
ثم يسلم الأنبياء والمرسلون، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، فهم في حب وود عظيم لا يرى مثله.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:62] أي: لا يسمعون فيها كلاماً باطلاً، واللغو عذاب يعذب به الإنسان، ويشقى به من الغيبة والنميمة والكذب، فهو نوع من أنواع العذاب الذي يعذب به الإنسان، والإثم: هو كل كلام فيه إثم يعذب به الإنسان، فأهل الجنة لا يسمعون سباً ولا شتماً ولا فحشاً، ولا يسمعون إلا الكلام الطيب {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].(49/11)
نعيم أصحاب اليمين
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] هو شجر النبق المنزوع الشوك {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] هو: شجر الموز المنتظم في هيئة بديعة عند جمهور أهل التفسير، {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] أي: ظل شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] أي: على أرض الجنة منكف بنفسه {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 34] فيها نساء {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:35 - 36] فكلما أتاها زوجها وجدها بكراً، لا يشتكي قبلها، ولا يفتر ذكره {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:36 - 37]، المرأة العروب هي: المتحببة إلى زوجها، التي تتذلل حباً لزوجها، وتظهر رغبتها فيه، وهن أتراب متساوية أعمارهن في سن الشباب {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40].(49/12)
عذاب أصحاب الشمال
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42] السموم هي: الريح الحارة التي تدخل مسام الجلد، واليحموم هو: الدخان الأسود ليس ظلاً وإنما هو عذاب والعياذ بالله {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:43 - 46] أي: على الشرك بالله، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:47 - 52]، فآكلون منها {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:53 - 55] أي: الإبل العطاش المريضة التي لا ترتوي {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56].(49/13)
فتح أبواب الجنة في رمضان
عباد الله! بعد أيام تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين)، إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت أي: سلسلت الشياطين فإذا فتحت أبواب الجنة رجا الناس، ورغبوا في أعمال أهل الجنة، وإذا غلقت أبواب النار يترتب على ذلك صعوبة أو عدم ميل النفوس إلى أعمال أهل النار، فاغتنوا الفرصة عباد الله، ونسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى، وأن يبلغنا ليلة القدر، وإن يوفقنا لصيام هذا الشهر وقيامه، وقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً.
عباد الله! فلنجتهد في استحضار هذه المعاني في القلوب، فإن الإيمان بها ليس مجرد معرفة، ولا مجرد تصديق، بل لا بد مع ذلك من انقياد وخوف ورجاء، وحب لله عز وجل، وإيقان بلقائه وانتظاره، ورجاء لذلك اللقاء، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5].
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم انصرنا على القوم المفسدين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدي لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك بكائين، ولك شكارين، ولك مطواعين، ولك رهابين، ولك مخبتين، وإليك أوابين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم إنا نسألك الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبينك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/14)
خطبة عيد الفطر
يوم العيد يوم فرحة وشكر؛ فرحة بإتمام الصيام على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، وشكر لله على أن وفق عباده لصيامه، وما أولاه عليهم من النعم، ومن لوازم شكر الله عز وجل المداومة على العبادة والصيام، والحذر من المعاصي والآثام، وصلة الأقارب والأرحام، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين.(50/1)
الفرحة الحقيقية للمؤمن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
إنه لا يفرح قلب الإنسان، بل قلب كل عبد من عباد الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بفضله وبتوفيقه بعبادته وإعانته على ذكره وشكره.
فهذه هي الرحمة المستمرة الباقية المتصلة بالرحمة في القبر وبالرحمة يوم القيامة، ويكون العبد برحمة الله سبحانه وتعالى في الجنة.
إن الله سبحانه وتعالى جعل السعادة في القرب منه سبحانه، وجعل الشقاوة والتعاسة والألم والعذاب في الدنيا والآخرة في البعد عنه عز وجل، والبعد عن شرعه وعما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان شهر رمضان فيه من ألوان العبادات ما لا يحصل في غيره من الشهور من الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، والنفقة والجود، والزكاة الواجبة، وغير ذلك من أنواع الخيرات التي لم يزل المسلمون يتقربون بها إلى الله عز وجل، كان كماله فرحة.
وكان من تمام فضل الله عز وجل ورحمته على المؤمنين أن جعل لهم لياليه ليجدوا فيها بداية الفرح، وليدركوا كم يكون الفرح يوم لقاء الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه).
فاجعلوا عباد الله عيدكم العيد الباقي، فقد أتى العيد وسوف يمضي ولن يبقى إلا ما كان متصلاً بالله عز وجل، فاجعلوا عيدكم عباد الله يوم لقاءه سبحانه وتعالى.
عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده الصيام ليحققوا التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فمن أراد أن يعلم: هل قبل صومه؟ هل قبل قيامه؟ فلينظر إلى بعد رمضان: هل هو أتقى لله عز وجل وأقرب في عبادته سبحانه وتوحيده ومعاني الإيمان به مما كان قبل ذلك؟!(50/2)
أنواع الذنوب والمعاصي التي تقع فيها الأمة اليوم
عباد الله! إن أمة الإسلام تمر بظروف في غاية الصعوبة، قد اجتمع عليها من بأقطار الأرض، وتكالبوا على محاولة نزع التوحيد منها، وبعدها عن هذا الدين، فلا يريدون إلا بقاء اسمه، بل لو استطاعوا أن يزيلوا اسمه لفعلوا، ولكن كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3].
فهذا الدين قد يئس الكفار من إزالته، ولكن لم ييئسوا من تحريفه وتبديله وتغييره في نفوس أتباعه؛ لذلك نجد هذه الحرب في كل مكان.
وهذه الأمور التي تقع في أهل الإسلام من تسلط الأعداء عليهم، ومن سفك دمائهم، وانتهاك حرماتهم، واحتلال بلادهم، هو ثمرة تقصير طويل المدى لا يعالج إلا بإزالته، فلن يتغير حال أمة الإسلام إلا إذا تغير أبناؤها، فإن الله حكم عدل، ومما حكم به قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فلا بد من تغيير حقيقي جذري في كل واحد منا، لا بد أن يراجع كل منا نفسه مراجعة صادقة، ولا نلقي على عاتق غيرنا مسئولية تدهور حال أمة الإسلام.
قل لنفسك: أنت بتقصيرك بذنبك بمخالفتك لشرع الله، سبب من أسباب تخلف هذه الأمة، ونزول البلاء بها، فإن مجموع التقصير قد وصل إلى الحال التي رأينا.
إن أهم الواجبات التي افترضها الله عز وجل على عباده الإسلام: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، فهذه أصول الإسلام وأركانه، وتتمة ذلك التزام الحلال واجتناب الحرام في كل المعاملات، فلا بد أن يبحث الإنسان عما شرع الله عز وجل، فلننظر إلى التقصير في باب الإسلام فنتداركه، ولننظر إلى شهادة التوحيد كم تتعرض لما يناقضها من أصلها، أو يناقض كمالها الواجب فضلاً عن كمالها المستحب فنحذر منه.
إن الله سبحانه وتعالى جعل الشرك أعظم المحرمات، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فقضية التوحيد هي أعظم قضية على الإطلاق، فهي وصية الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فانظر -عبد الله- إلى الشرك المنتشر في أرجاء الأمة فيما يتعلق بصرف العبادة لغير الله وارث الحال أمتك، إن الشرك يقع فيه كثير من الناس باعتقاد الضر والنفع في غير الله، وبناءً على ذلك أنداداً لله ويطلبون منهم المدد، ويذبحون وينذرون لهم، ويطوفون حول قبورهم والعياذ بالله، وتصرف لهم أنواع العبادات الأخرى من الخوف والرجاء والتقرب إليهم، والحلف بهم وتعظيم قبورهم، بالسفر إليها ونحوه، وهذا من أعظم مظاهر الخطر على الأمة.
وللأسف نجد من يحاول إحياء هذه الأمور التي قد ماتت عند الكثيرين، فيحاول أن يحيي تعظيم الأموات والصالحين المبالغ فيه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
وهو عليه الصلاة والسلام الذي أنزل الله عز وجل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فالأمر كله لله، إليه يرجع الأمر كله، فلا يملك نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي صالح مع الله عز وجل شيئاً.
وانظروا كذلك إلى الشرك الذي يقع فيه كثير من الناس بإبائهم شرع الله عز وجل، وردهم أوامره سبحانه وتعالى، ولقد قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى عن اليهود والنصارى محذراً المسلمين من سبيلهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عدي بن حاتم بقوله: (إنا لسنا نعبدهم -قال ذلك قبل أن يسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم).
فالله عز وجل وحده هو الذي يشرع لخلقه ما شاء: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
وهذه المسألة ليست فقط عند التخاصم والاختلاف بين البشر، وعند وجود الجرائم والمخالفات، وإنما في كل حالة من حالات الإنسان، ففي كل أحواله وأوقاته لا بد أن يعود إلى شرع الله، وأن يطبق شرعه سبحانه وتعالى، قابلاً له، راضياً به، وإلا فإن الإباء والرد لشرع الله والاستكبار عنه من خصال إبليس التي صار بها من الكافرين قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فلم يكن تركاً مجرداً، وإنما كان إباءً ورداً نعوذ بالله من ذلك! وما أكثر من يوجد عندهم الرد لشرع الله بعد إقامة الحجة عليهم مما يقعون فيه من مخالفة لا إله إلا الله، فكثير من الناس يعتقد صلاحية أي ملة غير ملة الإسلام، ويصدق أن عبادة غير الله كعبادة الله، وكلها في نظره سواء مقبولة، وقد قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وما أكثر التفريط في أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].(50/3)
وجوب تعلم أركان الإسلام والعمل بها
عباد الله! إننا نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا في صلاتنا، وأن نؤديها في أوقاتها، ونتعلم أحكامها، فنتعلم فقه الصلاة والطهارة ونطبق ذلك، ونهتم كذلك بالخشوع فيها، ونؤديها بقلب حاضر قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
ولا بد أن نتعلم الزكاة، وكيف نؤديها على الوجه المرضي الذي شرعه الله عز وجل، فكم من أصحاب الأموال لا يؤدون الزكاة لأنهم لا يعلمون كيف تؤدى، أو لا يؤدونها بالطريقة المشروعة الواجبة عليهم من حسابها في موعدها، فلا بد أن تتعلم فقه ذلك، وسل نفسك: هل حضرت درساً في فقه الزكاة؟ هل قرأت كتاباً في فقه الزكاة؟ وكذا في فقه الصيام، وكذا في فقه الحج والعمرة، فقه هذه المسائل لابد منه حتى تؤدي هذه العبادات كما ينبغي.
وسل نفسك: هل تعلمت ما يلزمك من الحلال في كسبك، وفي عملك، وفي معاملتك لوالديك ولجيرانك وأرحامك؟ وفيم تتعامل به في المال والمعاشرة مع الناس، وسيما أهلك؟ فيم تتعامل به من النساء الأجنبيات عنك؟ فهل تعلمت فقه ذلك وطبقته في واقع حياتك؟(50/4)
تعلم الصلاة والزكاة وتطبيقهما(50/5)
معرفة أركان الإيمان والإحسان وأسماء الله وصفاته
يجب علينا أن نعرف أركان الإيمان التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
فلا بد أن تعرف ربك سبحانه وتعالى بكمال أسمائه وصفاته، وكمال ربوبيته، وألوهيته، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
ولا بد أن تتعلم كيفية الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، تفاصيله، ابتداءً من القبر وأهوال القيامة وما يكون في الجنة والنار، ولابد أيضاً من الإيمان بالقدر، فكل ذلك لا بد أن نتعلمه ونطبقه، وإذا نظرت إلى قدر التقصير في هذا الباب لوجدت شيئاً هائلاً، وهو الذي أدى بالأمة إلى هذه الحالة التي هي عليها اليوم.
وكذلك الإحسان منه قدر واجب، وهو أداء العبادات القلبية الواجبة: كحب الله عز وجل ومراقبته، والإخلاص له، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فإيمانك بأن الله يراك فرض عليك وعلى كل مسلم ومسلمة، لا يحصل الإيمان والإسلام والإحسان إلا بأن توقن أن الله يراك، وإذا أيقنت أن الله يراك فستراقبه؛ فتخلص له وتتوكل عليه، فتعمل بشرعه، وتلتزم بما جاء به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
والإحسان بينك وبين الله يثمر لك كذلك إحساناً في معاملة الخلق، فبر الوالدين ثمرة من ثمرات إحسان القلب فيما بينه وبين الله، وكذا صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، وهذه كلها من الواجبات، فعقوق الوالدين وإيذاء الجار من الكبائر، وكذلك قطيعة الرحم من أسباب الفساد في الأرض، ومن أسباب نزول البلاء على الأمة، ومع ذلك فهي من ثمار الإحسان.
فاحرصوا عباد الله على الإحسان فيما بينكم وبين أهليكم وبين جيرانكم وزملائكم، ولا تكن العداوة والبغضاء هي الأصل في العلاقة بين المسلمين، وهي وأسبابها منهي عنها كما في الحديث: (لا تباغضوا، لا تحاسدوا، ولا تدابروا).
قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] فحذر الله عز وجل من الغيبة.
ولابد عليك أيها السملم أن تصدق في الحديث، وتؤدي الأمانة وتجنب الخيانة، ولا بد أن تفي بالوعد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من خصال النفاق فقال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).(50/6)
التغيير الجذري باطناً وظاهراً
لا بد عباد الله أن نغير من أنفسنا، ومن داخلنا حتى يغير الله عز وجل ما بنا، لابد أن نكون ملتزمين بالإسلام التزاماً صادقاً لا التزاماً مظهرياً فقط.
وإن كثيراً منا قد يكتفي بأنه أدى بعض العبادات، أو أتى ببعض المظاهر الإسلامية المحمودة، ولكن لا يكفي ذلك، بل لابد أن نزن أنفسنا حتى تتغير موازين الصراع بين الحق والباطل بين الأمة الإسلامية وأعدائها وستكون الغلبة لصالح أمة الإسلام بعون الله، فنحن لا ننتصر إلا بطاعة الله كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107].
فهذه هي العبودية لله، وهذا هو الصلاح الذي أمر الله عز وجل به مع الإيمان دائماً، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدهم بالنصر، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فمن حقق عبودية الله بغير شرك وعمل الصالحات كان مؤمناً وهو الموعود بالتمكين.(50/7)
القيام بحق الأخوة في الدين
عباد الله! نحتاج إلى أن نترابط فيما بيننا، يحب بعضنا بعضاً في الله، ونتآخى فيه سبحانه وتعالى، وننصح بعضنا بعضاً حتى نؤدي الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قيل: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
فلا بد لكل منا أن يكون ناصحاً لأمته، ناصحاً لإخوانه في الله عز وجل، محباً الخير للعالم، يريد أن يظهر هذا الدين حتى تعم الرحمة وينتشر الخير، فإن الخير هو في اتباع شرع الله سبحانه وتعالى لا غير ذلك أبداً.
عباد الله! لابد أن نكون متعاونين على البر والتقوى، قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكل ما يعين على معصية الله فهو من التعاون على الإثم والعدوان، وكل ما يعين على طاعة الله وهو محمود شرعاً فيرجى أن يقبل من صاحبه، ولابد أن يعان عليه.
فكل من طلب منك عوناً على طاعة الله عز وجل فلا بد أن تعنه، ولنكن يداً واحدة، فإن المسلمين كالجسد الواحد كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
ونحن وفي يوم العيد وقد فرحنا بإتمام نعمة الله عز وجل علينا بالصيام والقيام، وفرحنا باجتماعنا في اعتداء صلاة العيد، ونتذكر آلافاً أو ملايين من المسلمين في المشارق والمغارب منهم من فقد أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً بسبب الظالمين والمجرمين والكفرة على بلاد الإسلام، فنذكر آلام المسلمين ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعو لهم.
نحتاج إلى أن نستشعر هذه الوحدة في الجسد الواحد للأمة في كل أجزائها، فإن ذلك من نعم الإيمان، ومن معاني الإسلام التي أمر بها القرآن والسنة، فلا بد لنا أن تكون قضايا الإسلام هي قضايانا، ولا بد أن نعين المسلمين بكل ما نقدر عليه، وإن عجزنا فلا أقل من أن ندعو لهم في كل مكان أن يفرج الله كربهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.(50/8)
وصايا لابد منها
عباد الله! اجتهدوا في يوم العيد في صلة الأرحام، وفي الإحسان إلى الناس عموماً، فإنه يوم بهجة وسرور.
اجتهدوا في يوم العيد في البعد عن الحرام، فليس انتهاء رمضان معناه أن نعود مرة ثانية إلى ما حرم الله عز وجل علينا، من سماع المنكرات كالمعازف والأغاني التي لا يشك عاقل فضلاً عن عالم بتحريمها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
احذروا شباب الإسلام من كل مسكر ومفتر من هذه المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة، فإنها من أعظم الضرر ومن أعظم الخطر على أهل الإسلام، وإن من يعين على نشرها ولو كان لتحقيق كسب سريع فهو والعياذ بالله من المفسدين في الأرض، ويأكل الحرام ويعيش فيه.
إن المعاونة على نشر هذه المخدرات في أوساط الشباب بأي درجة من درجات الإعانة أو البيع أو التجارة في قليل أو كثير من كبائر الذنوب نعوذ بالله من ذلك! احرصوا عباد الله على تجنب الربا فإنه محق للبركة قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وهو مؤذن بحرب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:178 - 279].
فكيف ننتصر على عدونا والله عز وجل هو الذي يحاربنا؟! فإنا إذا أكلنا الربا فقد حاربنا الله، نعوذ بالله من ذلك! عباد الله! احذروا من الرشوة، فكل موظف وكل من قام على أمر من أمور المسلمين فلابد أن يعلم أنه لخدمتهم، ولمصلحتهم، وإنما يأخذ أجراً من أموالهم العامة، على أداء الخدمة لهم، على أن يكون رفيقاً ناصحاً لهم، مؤدياً لخدماتهم التي ألزم بها، بل ويزيد على ذلك.
ولقد انتشرت الرشوة في كل مكان، فاحذروا عباد الله منها، لا تطعم نفسك وأولادك حراماً، فما يغني عنك الصيام في رمضان إذا كنت تأكل الحرام، وتغصب أموال الناس، وإذا ترتشي وفي الحديث: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أي: الذي يسير بينهما بالواسطة في هذه الرشوة.
فاحذروا عباد الله من هذه المحرمات، واحذروا من أذية المسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
إن انتشار المنازعات بين المسلمين في شوارعهم، حتى يقع الواحد منهم في عدة حدود في الدقيقة الواحدة، فيقذف الرجل ويقذف أباه، ويقذف أمه -وكلها من الكبائر- فيرد الآخر عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من الكبائر شتم الرجل والديه.
قيل: أيسب الرجل والديه يا رسول الله؟! قال: يسب أبا الرجل؛ فيسب أباه، ويسب أمه؛ فيسب أمه) نعوذ بالله! إن انتشار استعمال الأدوات التي تؤذي المسلمين من أسلحة أو غير ذلك من أعظم الأمور خطراً، والسكوت على ذلك من أسباب الهلاك، حتى سهل على كثير من الشباب أن يطعن أخاه، أو يضربه، أو يسفك دمه متهاوناً بذلك، فلابد أن نتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين.
إن انتشار الفواحش من أعظم أسباب هلاك هذه الأمة وضياعها، ولقد هلكت بنو إسرائيل عندما اتخذت النساء الشعور المستعارة، أي: الواصلة والمستوصلة كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ولعن فاعله، حيث قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات بالحسن، المغيرات لخلق الله).
عباد الله! إن التبرج من أعظم الأمور خطراً على الأمة، وهو من أسباب رجوعها إلى الجاهلية، قال الله عز وجل: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
يا نساء المسلمين! اتقين الله عز وجل، فإذا خرجتن من بيوتكن فاخرجن في الهيئة الشرعية، إياكن وحجاب التبرج! كثير من النساء قد علمت وجوب الحجاب قطعاً ويقيناً، بل صار هذا بفضل الله وبانتشار الدعوة إلى الله عز وجل أمراً يكاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة جملة، ولكن كثيراً من الأخوات من النساء إذا التزمن بالحجاب التزمن بحجاب ليس شرعياً، وإنما هو أقرب إلى تبرج الجاهلية الأولى، وذلك أن المرأة كانت في الجاهلية لا تشد خمارها على رأسها، كان لها خمار ولكنها لا تشده، فتظهر خصائل من شعرها، ويظهر بعض صدرها، وقد أمر الله بالضرب بالخمار على الجيب أي: على الصدر والعنق، كما قال عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
فلا بد أن تغطي المرأة صدرها بالكامل بحجابها، حتى لا يظهر ارتفاع صدرها، وهذا أمر من أعظم الأمور خطراً، أي: أن نظن أننا قد ألزمنا بناتنا ونساءنا بالحجاب وهن لسن ملتزمات به.
احذروا من الاختلاط المحرم الذي يقع بين الشباب والفتيات، والرجال والنساء في كثير من بلاد المسلمين، وفي كثير من شوارعهم وطرق مواصلاتهم، فاتق الله أيها المسلم ولا تلمس بيدك امرأة أجنبية؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
وإياك أن تزاحم بمنكبك امرأة قد خرجت لأي سبب من الأسباب، ووقعت في نفس وسيلة المواصلات! ولا يجوز هذا في أمر العورة ولو من فوق الثياب، فلا بد أن تفصل بينك وبين من بجوارك من النسوة؛ حتى لا تلمس بدنها الذي هو عورة ولو من فوق الثياب، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، فكما لا يجوز باتفاق المسلمين أن يضع رجل يده على فخذ امرأة ولا صدرها، فكذلك لا يجوز بالأولى ولو من فوق الثياب أن يضع فخذه ملامساً لفخذها.
فاتقوا الله عباد الله، إن كثيراً من المنكرات تقع في شوارع المسلمين، وفي طرق مواصلاتهم، وهي بمجموعها تؤدي إلى الخلل الذي يحصل لنا في حياتنا، والذي يؤدي إلى تسلط أعدائنا علينا، فإن الله ما ولى الظالمين أمور المسلمين إلا لأجل وجود الظلم فيهم، وما جعل عدوهم يأخذ بعض ما بأيديهم إلا بسبب مخالفتهم للشرع.
إن احتلال الكفار لبلاد المسلمين إنما هو ثمرة هذا التقصير وهذه المنكرات، وثمرة المخالفة لشرع الله عز وجل، فإذا تبنا إلى الله عز وجل، وكل منا له دوره في إصلاح نفسه، ثم في إصلاح أسرته، ثم في إصلاح المخالفين له، فيكون ناصحاً لأمته، داعياً إلى الله عز وجل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر كما شرع الله، فلنبشر بالخير والنصر.
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
فلا تقل للناس: غيروا المنكر بأي طريقة أو اسفكوا الدماء، أو انتهكوا حرمات المسلمين، فإن ذلك من أعظم الأمور خطراً، وإن سفك دماء المسلمين بدعوى إقامة الدين لهو من أعظم أسباب ضياع ثمرة العمل الإسلامي، حين ينتسب إلى العمل الإسلامي من لا يراعون حرمات المسلمين، ويسعون إلى قتل من أرادوا القتل ولو على دماء المسلمين الأبرياء، ولقد قال عز وجل في صلح الحديبية: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25].
لكننا نقول: ندعو إلى الله بما شرع الله، وندعو بعلم وبصيرة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
يا أخي في الإسلام! إن كنت قد سمعت في شهر رمضان أو في هذا اليوم الكريم بفضل الله شيئاً كنت مقصراً فيه، من ترك لطاعة، أو فعل لمحرم، فاليوم اعزم عزماً أكيداً على أن تبدأ في التغيير، وعلى أن تبدأ في الطاعة، وأن تبدأ في ترك المعصية، ولنتب إلى الله جميعاً عسانا أن نفلح قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وكلنا ينوي التغيير إلى الأفضل والأحسن، ولا سبيل لذلك بأن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فاستعينوا بالله عز وجل على عبادته، فهذا هو السبيل الوحيد الذي به يصل الإنسان إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، فمن استطاع منكم أن يأتيه الأجل وهو في عمل الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً فغفرت له.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والهند وكشمير، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.
الله(50/9)
سرعة الرحيل
إن انقضاء رمضان وسرعة رحيله ليذكرنا بالقدوم على الله عز وجل، وسرعة رحيل هذه الدنيا التي من عمرها بذكره سبحانه فقد فاز بالآخرة، ومن خربها فقد خرب آخرته، فعلى الإنسان أن يستعد للرحيل، ويتصف بصفات المتقين من التزود والاستعداد ليوم شديد الأهوال، فلا نجاة للعبد إلا بالعمل الصالح، ولا فوز له إلا بطلب رضاه سبحانه وتعالى.(51/1)
وقفات رمضانية(51/2)
الاستعداد للقاء الله والرحيل الأكبر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما أسرع مرور الأيام! ها هو شهر رمضان قد أصبح مرتحلاً، ولم يبق منه إلا هذه الأيام المعدودات، فلنتذكر من ذلك سرعة رحيلنا عن هذه الحياة، وغروب شمس بقائنا على ظهر هذه الأرض، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه: (إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم).
ومعنى: (إن الدنيا قد آذنت بصرم) أي: قد أعلمت بالانقضاء، وذلك كما قال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وكما قال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في خطبته محذراً الناس: (بعثت بين يدي الساعة)، وقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعه السبابة والوسطى يقول: وإن كادت لتسبقني).
فما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى منها إلا كما يشرب الإنسان من كوب أو نحوه، فتبقى قطرة بعد أن يشرب، فيريد أن ينهي ما بقي فيصب هذه القطرة في فمه.
وهذا معنى قول عتبة: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها) أي: يحتاج إلى أن يميل الإناء ليفرغ هذه القطرة في فمه.
عباد الله! هذه هي حقيقة الدنيا، فمنذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتربت الساعة، وقد آذنت الدنيا بالانقضاء.
وهذا معنى قول عتبة: (وولت حذاء) أي: مسرعة، وهذا حق فما أسرع مرور الأيام خصوصاً مع تقارب الزمان! فإن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان حتى تصير السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، فما أسرع ما يمر بنا الزمان! عباد الله! كما أوشك رمضان أن يرتحل، فقد ارتحل أناس قبلنا، كانوا معنا في العام الماضي وصاروا الآن أحاديث: كان فلان وفعل فلان رحمه الله، ويوشك أحدنا أن يكون كذلك بعد حين، فاستحضر نفسك وقد نزل بك ملك الموت من السماء مع أعوان ملك الموت، ووقف منك مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول للنفس المؤمنة: اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، ويقول للكافر والمنافق: اخرجي أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث كنت تعمرينه، يقول للمؤمن: اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان! ويقول للكافر والمنافق: اخرجي إلى سخط من الله وغضب إلى سموم وحميم وظل من يحموم.
فاستحضر هذه اللحظات فإنها ليست ببعيدة، فقد مرت بملايين من البشر قبلنا، وإلا لما وجدنا وما بقينا على ظهر هذه الأرض قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - س17].
وقال عز وجل: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133].
فكل من كان بيننا وبين أبينا آدم عليه السلام قد انتهوا إلا من له أب أو جد وعلى أقصى التقدير أن يكون أبو جده حياً، وإلا فأكثرنا ليس بينه وبين أبيه آدم أب حي، كلهم قد رحلوا.
فلنتذكر هذه اللحظات حتى لا تغرنا الدنيا، ولا تشغلنا زخارفها، فالله سبحانه وتعالى قد حذرنا من غرورها فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6].
هل استعددنا لهذا اليوم حتى يكون يوم عيد كما نستعد الآن للعيد؟! الناس اليوم يستعدون للعيد بلبس الجديد، ويستعدون له بإعداد النفقات، والأطعمة المناسبة لهذا اليوم الذي هو يوم فرحة، فهل تعد حتى يكون يوم رحيلك عن هذه الحياة هو يوم عيد لك ويوم فرحة، وإن حزن الناس على هذا الفراق لكنك تكون فرحاً بلقاء الأحبة، فهل تعد لهذا اليوم عدته؟ وهل تريد أن يكون عيد لقائك بالرسل الكرام وبأصحابهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فتلقى الله سبحانه وتعالى وهو عنك راض؟ إن رمضان فرصة عظيمة لهذا الاستعداد، فرصة عظيمة إذا أحسنا استغلالها، وقد بقي منه أيام، ولله عز وجل في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النيران، فهناك من يعتق في الليلة القادمة، وهناك من يعتق في التي تليها وهكذا، فهناك آلاف من المعتقين، فهل نكون نحن من هؤلاء؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.(51/3)
الغاية التي شرع لها الصيام
عباد الله! من أراد أن يعلم هل قبل صومه وقيامه، وتلاوته للقرآن أم لا، فلينظر هل حقق الغاية التي شرع الله من أجلها الصيام؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهل صرت أتقى لله سبحانه وتعالى من ذي قبل؟! وهل صرت أكثر خوفاً من الله عز وجل؟! فلابد أن تستحضر موقفك بين يديه سبحانه وتعالى، وتستحضر هول السؤال وخطر الحساب، فلو أن الناس لم يكن بين أيديهم من خطر إلا فزع الموقف في القيامة لكفى به فزعاً وهولاً، فهل استشعرت الخوف من الله عز وجل؟! لو لم يكن من خطر إلا أن تظن أنك هالك حين تعرض سيئاتك على الله عز وجل، ويعرفك بها، كما في حديث ابن عمر لما سئل: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في النجوى شيئاً؟ فقال سمعته يقول: (يدني الرب سبحانه وتعالى عبده المؤمن يوم القيامة، ويلقي عليه كنفه -أي: ستره- فيقول: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ فيعرض عليه ذنوبه، حتى إذا رأى أنه قد هلك يقول: سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، قال عتبة رضي الله عنه في هذه الخطبة التي خطبها: إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولقد أخبرنا أن الحجر يهوي من شفير جهنم، فيظل يهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعرها، والله لتملأن.
(حتى إذا رأى أنه قد هلك، أي هلاك هذا عباد الله؟! أي حبس هذا الذي يظنه المؤمن؟ أي خوف يقع فيه في تلك اللحظة الرهيبة؟ (يقول الله عز وجل: إني سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم، فيؤتى صحيفة أعماله بيمينه) فيعود إلى أصحابه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، فهذا في الناجي يا عباد الله! هذا في الذي حسابه العرض، تمر عليه هذه اللحظة الهائلة التي يظن أنه قد هلك فيها، ويظن أنه داخل فيها النار نسأل الله العافية!(51/4)
شروط التمكين في الأرض
عباد الله! وعد الله سبحانه وتعالى بالإسكان في الأرض والتمكين فيها لمن خاف وعيده عز وجل، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، فإن أكثر الظالمون من الإفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، فوعد الله عز وجل لا يخلف، فهل نحن الذين حققنا هذه الصفات؟! {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، فإن الله سبحانه وتعالى يهلك الظالمين لأجل عباده المؤمنين الذين يخافون مقامه ووعيده، فإذا استفتح الظالمون خابوا عند استفتاحهم وعند دعائهم، وعند طلبهم من ربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين كما قال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، فهل حققنا عباد الله هاتين الصفتين -أي: الخوف من مقام الله ومن وعيده- وهل أخذنا من رمضان عدة حتى نتهيأ لهذه الصفات؟ ومعنى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، أي: لمن خاف مقامه بين يدي الله، ولو لم يكن إلا العرض لكفى به خوفاً، فكيف وأنت لا تدري ما شأنك غداً يا عبد الله؟! كيف وأحدنا لا يدري أيناقش الحساب فيعذب، ويكون ممن يقول: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]؟! فهذا الذي ينبغي أن تخاف منه خوفاً يذعن له القلب عن ورطة وسنة الغفلة، ويوقظه للرحيل عن هذه الدنيا، ويخاف وعيد الله عز وجل، يخاف النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
فهذه عباد الله هي أهم صفات المتقي: الخوف من الجليل، فهو يخاف من الله عز وجل، وهي من أهم صفات الممكنين في الأرض، إن الله سبحانه وتعالى إنما يمكن لعباده المؤمنين ليعبدوه عز وجل وليعبدوا غيرهم له، لا ليستعلوا على الناس، ولا ليطلبوا الملك والرئاسة، فهذا قد فعله غيرهم من أهل الدنيا، وعندما يكونون كذلك يمكن الله لهم، ويهلك عدوهم من أجلهم، ويسكنهم الأرض من بعدهم؛ لكي يعبدوه سبحانه وتعالى، ولا يحصل ذلك إلا بالخوف منه عز وجل، وخوف مقامه ووعيده قال تعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)).
أأدركتم عباد الله مفتاح النصر على الأعداء؟! إن المسلمين في مواجهة أعدائهم، وقد مكروا مكراً تزول منه الجبال، وأحاطوا بهم من كل جانب، فلهم مفاتيح دنيوية للنصر، وسيخيب عند وجود أسباب التمكين كل الجبارين المتكبرين الذين أرواحهم وأنفسهم ونواصيهم بيده سبحانه وتعالى.
فيري الله العباد آياته، وأن البشر لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ففي لحظة يزول الإنسان عن هذه الحياة، فلا نطلب الفتح إلا إذا كنا قد حققنا الخوف من الله عز وجل، فعند ذلك يخيب الجبارون والمتكبرون والمعاندون، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]، فيأتيهم الموت الذي يفر الناس ويفزعون منه الآن، وهو بالنسبة إليهم أعظم المصائب، وهو الرعب الذي لا يوجد مثله، ترونه أمنية الكافر في النار، فأمنيتهم أن يموتوا، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، نعوذ بالله من النار! الخوف من الله عز وجل أحد أهم صفات المتقين، ولا تظفر برحمته سبحانه وتعالى، حتى تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتجتنب معاصي الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، فهذه التقوى.
فالتقوى كما عرفها بعضهم هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، وكل هذه تعريفات متلازمة، فانظر إلى حال قلبك أثناء رمضان أولاً، وبعد رمضان ثانياً، لتعرف هل قبل صومك أم لا؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، أقول قولي هذا أستغفر الله لي ولكم.(51/5)
أحكام صدقة الفطر
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، ومن ضمن ما يكون في عموم التزكية التي ذكرها الله عز وجل الزكاة الواجبة، ومن ضمنها صدقة الفطر، فلقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، أي: قبل صلاة العيد، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
وصدقة الفطر فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً أقط، وهذا يدل على أن القيمة ليست معتبرة؛ لأنه لو كانت معتبرة لقيمت هذه الأشياء ليس بالصاع وإنما بما يساويه قدر معين من كل منها، فإن صاع الزبيب يختلف عن صاع الشعير، وقد قدر النبي صلى الله عليه وسلم قدراً واحداً منهما وهو الصاع رغم اختلاف قيمة هذا عن هذا، فدل ذلك على أن المعتبر هو القدر المثيل لا القيمة المادية، وذلك أنها فرضت طعمة للمساكين.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن زكاة الفطر لا بد أن يخرجها صاحبها طعاماً، أي: لا بد أن يخرج صاعاً من طعام كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، وقد كانت بأيديهم الدراهم والدنانير سيما بعد أن وسع الله عز وجل عليهم، ومع ذلك فما زالوا يخرجونها طعاماً، وظلوا يخرجونها كما كانوا يخرجونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، كما قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
ولقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، فيجب على كل واحد أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإخراج عن الحر والعبد دليل على ذلك دلالة واضحة؛ فإن العبد لا يملك مالاً في حال من الأحوال ومع ذلك وجبت زكاة فطره على سيده، فدل ذلك على أن الصغير كذلك حتى ولو لم يكن له مال، وكذلك الأنثى سواء كانت زوجة أو بنتاً، فكل إنسان عليه أن يخرج صدقة الفطر، وهي صدقة وزكاة واجبة، وليست بمعنى صدقة التطوع، فيخرج المسلم صدقة الفطر عمن تلزمه نفقته من أهله وأولاده وأقاربه.
وهذه الزكاة شرعت طعمة للمساكين في العيد، ولذا جاء في الصحيح: أنها لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، كما قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وكانوا يجمعونها قبل العيد كما في حديث أبي هريرة في قصة الشيطان الذي جاء يسرق من صدقة الفطر التي جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها، حتى أمسكه أبو هريرة ولم يتركه إلا بعد أن علمه آية إذا قرأها عند نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] آية الكرسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب).
والحديث في أوله أن أبا هريرة جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر، فدل ذلك على أنها تجمع قبل ذلك، فتصل إلى المساكين قبل العيد بيوم أو يومين، وعلى حديث ابن عمر إلى صلاة العيد، ومن أخرها عن صلاة العيد فقد أساء، ويجب عليه أن يخرجها إلى غروب الشمس من يوم العيد، وإلا فقد بخل بالزكاة الواجبة، وهو آثم إثماً عظيماً، فمن الكبائر تأخير زكاة الفطر عن غروب الشمس من يوم العيد، ويلزمه قضاؤها بعد ذلك أيضاً؛ لأنها حق معلوم للسائل والمحروم، ولو فرط عدة سنين في زكاة الفطر فإنه يلزمه قضاؤها الآن فوراً، فإن هذا الحق للمساكين لا يجوز أن يؤخر عنهم.
فإن زكاة الفطر لرمضان الذي هو فيه تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، فمن بقي حياً أو وجد في هذا الوقت فقد وجبت عليه زكاة الفطر، وأما من مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان أو ولد بعد غروبها فلا تجب زكاة الفطر عليه، وإن استحب بعض السلف إخراجها عن الجنين لكنها ليست واجبة، وإنما هي صدقة تطوع لمن أحب.
وهذه الزكاة مصرفها مصرف الزكاة، وإن كان الأولى أن تكون للفقراء والمساكين، حتى يغنوا عن السؤال في هذا اليوم.
والتوكيل في إخراجها جائز، فيجوز أن توكل غيرك ممن هو أعلم بالمساكين، ولكن يجب التنبه إلى أنه يجب إخراجها بتحديد عدد الصاعات؛ لأنها واجبة على كل واحد من المسلمين، فلا يجوز أن تدفع مثلاً قدراً من المال إلى وكيل دون أن تحدد له العدد الذي يخرج عنه، فإنه ربما أخرج من صنف لا يكفي المال الذي دفعته لصاع عن كل واحد ممن تخرج الزكاة عنه، والأفضل -بل عند كثير من العلماء هو الواجب- أن يكون من غالب قوت البلد، وغالب قوت أهل بلدنا هو الأرز، فالأولى أن يكون من غالب قوت البلد؛ لأنه أنفع للناس، وإن كان الصحيح أنه يجزئ غير ذلك كالتمر مثلاً، وإن كان عندنا بمنزلة الفاكهة لا بمنزلة القوت الذي لا يستغني الناس عنه، فهذه بعض الأحكام في زكاة الفطر التي يجب أن نؤديها كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زكاة للإنسان وطهرة له.
فالصدقة المقصود منها: أن يتطهر القلب من الشح والبخل، قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وهي تشعر المسلم بحاجة إخوانه من المسلمين، فهذه القضية العظيمة التي يجب أن تظل حية في نفوسنا أي: قضية الجسد الواحد حتى نستشعر انتماءنا لهذا الجسد الواحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتماسكهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
عباد الله! ما أكثر شكوى المسلمين! ما أكثر آلامهم! فهل نرحمهم، وندعو لهم، ونتألم لألمهم، ونفرح لفرحهم، وندعوا على أعدائهم أن يكف الله سبحانه أيديهم عنهم؟! هل نستشعر آلام المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان؟! في مشارق الأرض ومغاربها آلام كثيرة! عباد الله! سيمر علينا العيد فتذكروا أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يكون العيد عليهم ألماً وحزناً لما فقدوه ولما حرموا منه ظلماً وعدواناً، من قريب قد مات وعائل قد فقد وأب قد حبس وأسير قد أسر يمر عليهم العيد في آلام تقتضي منك شفقة ورحمة، ورأفة ورقة، ودعاءً وتضرعاً لله عز وجل أن يفرج كرب المكروبين، وأن يفك أسر المأسورين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يرحم ضعفاء المسلمين، وأن ينجيهم من عدوهم، وأن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين! اللهم من ولي أمراً من أمور المسلمين فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمراً من أمور المسلمين فرفق بهم فارفق به! اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار! اللهم ول أمور المسلمين خيارهم، ولا تول أمورهم شرارهم، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر سبلنا، وانصرنا على من بغى علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وقربنا ولا تبعدنا! اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا! اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.(51/6)
عذاب القبر ونعيمه
كما أتى الإنسان إلى دنياه بلا إرادة فسوف يرتحل عنها كذلك بلا إرادة، ثم يحيا حياة أخرى في قبره وهي إما حياة نعيم أو جحيم، وهذا بعد أن يمر بساعة تلخص له حياته الدنيا، وهي ساعة الاحتضار، فمن كانت روحه طيبة فلها الهناء والسعادة، ومن كانت العكس فلها الشقاء والتعاسة.(52/1)
علاقة حياة الأرواح بحياة الأجساد
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإنه من كمال عقل الإنسان أن يعمل لمستقبله، وأن يفكر فيما هو مقدم عليه؛ لأنه يرى كل ما في هذا الكون يتغير وينتقل من حال إلى حال، يرى نفسه ولد من أبيه وأمه ضعيفاً عاجزاً لا يفقه أو يعلم شيئاً، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، ثم نما بعد ذلك وكبر، وأعطاه الله عز وجل العقل والأيدي والأرجل والأبصار والشهوات والرغبات، ثم هو ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشباب، ثم إلى الرجولة، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم يرى نفسه بعد ذلك فجأة قد انتقل عن هذه الحياة ودفن تحت الثرى كما يرى كل يوم عشرات من الناس ينتقلون عن هذه الحياة، وقد كانوا بالأمس أحد الذين يأكلون ويشربون ويتنفسون ويعيشون وسط أهليهم، ثم صاروا وحدهم في قبورهم خلوا بالشقاوة أو السعادة ولا يوجد معهم أحد، أهلوهم يتلقون العزاء في السرادقات أو في البيوت على حسب التزامهم بالكتاب والسنة.
والمقصود: أن كل من دفن فهو متروك في قبره وحيداً، وأهله رغم حبهم الشديد له، ورغم معزته عندهم إلا أنهم تركوه وحده، ولا يملكون غير ذلك، وليس لهم إلا أن يستمروا في الحياة بدونه؛ فنحن نولد قهراً ونموت قهراً، نولد بلا استشارة منا، ونموت أيضاً بلا استشارة منا، والذي يتأمل مدة الحياة على ظهر الأرض بالنسبة إلى ما مضى وإلى ما سيأتي، وبالنسبة إلى مدة حياته في القبر، وما بعد ذلك من البعث والنشور؛ يعلم أن أقل مدة يعيشها الإنسان هي حياته على وجه الأرض.
الإنسان خلقت روحه قبل جسده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
مسح الله ظهر آدم بيده فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها، ونثرهم وكلمهم فقال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، أي: استنطق هذه الأرواح قبل أن توجد الأجساد، بعد أن خلق أبيهم آدم، وكم مرت من السنين بين تلك اللحظة وبين لحظة ميلادنا! مئات الآلاف من السنين ونحن لا ندرك ذلك، ليس لأن هذا لم يقع ولم يحدث، بل لأنه لم يكن عندنا الآلة التي نستذكر بها ذلك، كما أن كل واحد منا كان جنيناً في بطن أمه، فهل تتذكر وأنت تتحرك في بطن أمك؟ وهل تتذكر صراخك وأنت طفل ولماذا كنت تصرخ؟ ما الذي كان يؤلمك وعمرك بضعة أيام أو أسابيع أو شهور؟ وما الذي كنت تبتسم له؟! أنت لا تتذكر ذلك، مع أنك متأكد من أن هذا قد حدث، وأنك كنت تبكي، وتبتسم وتضحك عندما كانوا يلاعبونك، كما أنك تشاهد كل الأطفال يفعلون ذلك.
أليس في جسمك أثر جرح أصابك وأنت صغير ثم أنت لا تذكره على الإطلاق؟ كل ذلك قد حدث ولكن العقل الإنساني في تلك المرحلة ليس عنده قدرة لاستيعاب تلك الأحداث.
كما أن كل واحد منا لا يتذكر مرحلة النطفة والحيوان المنوي الذي كان يجري بحثاً عن البويضة، فكل واحد منا كان في يوم من الأيام حيواناً منوياً وبويضة، والحيوان المنوي هذا كان وسط مائة مليون حيوان منوي، وكان بويضة لا ترى إلا بالميكروسكوب، وهذا الحيوان المنوي يتسابق مع هذه الملايين الأخرى، ولو سبق حيوان منوي آخر لوجدت احتمالات أخرى تماماً، وكان المولود له شكل وجنس وصفات ثانية، فهل تتذكر ذلك؟ بالقطع لا، فالإنسان عقله لا يستوعب تلك اللحظات، وليس في عقله ما يستوعب تلك اللحظات، فبالأولى ما كان قبل ذلك، فلماذا لا نشعر بهذه المدة الطويلة بين خلق الأرواح إلى ميلاد كل واحد منا؟ لم يكن هناك أجسام أصلاً، كنا ماء وتراباً، كل واحد منا كان طيناً وماء، ثم تحول بالتدريج إلى أن صار هذا الإنسان، ولا يتذكر شيئاً على الإطلاق مما قد حدث له خلال هذه المدة، ولا أين كانت روحه في مستقر الأرواح عند الله سبحانه وتعالى، حتى أذن الله أن تنفخ هذه الروح في هذا الجسد، فبدأت تحيا في بطن أمك ثم ولدت ثم كبرت، ثم تأتي مرحلة أخرى عندما تفارق الروح الجسد مرة أخرى، ويرحل الإنسان عن هذه الحياة، وتبدأ مرحلة جديدة من ملايين أو مئات الآلاف من السنين على الأقل.
والآن يقول العجوز لك: عمري سبعون سنة، وهذا يعني أنه في أواخر العمر، ومن كان في الأربعين يكون قد مضى من عمره أكثر مما بقي، والموت لا يعرف تاريخاً محدداً، فيموت الصغير ويموت الكبير، يموت الطفل ويموت الشيخ، والكل جازم بهذه النهاية، وما من يقين مثل الموت، وكل إنسان مؤمن وكافر مقر بذلك، ولا يوجد إنسان خلد في هذه الحياة.(52/2)
أدلة عذاب القبر الحسية
القبر لا علم للإنسان به بالكلية إلا ما علمه الله عز وجل، وبعض الكفرة والمنافقين والزنادقة والذين يزعمون أنهم يأخذون الأمور بالعقل ينكرون عذاب القبر، ويقولون: من قال لكم: إن بعد الموت حياة في القبر؟ هذا كله خزعبلات، ووالله هذا ليس بالعقل؛ لأن العقل السليم يقول: أنا لا أعرف؛ لأني لم أجرب، وما نظرت.
العقل السليم يقول لمن لا يعرف: اسأل من يعرف، اسأل من قدر هذا الأمر على الإنسان من غير إرادة منه، ويسوقه رغماً عنه يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة، وتحمله الأيام والليالي إلى هذا المصير، اسأل الذي خلقه فأوجده فهو وحده الذي يعلم، وهو برحمته أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأعلمنا بما يقع للإنسان عند احتضاره وبعده وبعد أن يدفن في قبره، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون من حياة الإنسان في القبر.
والقبر لا يلزم أن يكون هذه الحفرة بل المقصود به البرزخ الذي هو ما بين الموت والبعث؛ لأن القبر قد يكون هو الحفرة في التراب، وقد يكون في جوف السباع والأسماك، وقد يكون في أعماق البحار، وقد يكون ذرات الإنسان التي ذريت في الرياح جزء منها في البر وجزء منها في البحر، وكل ذرة من الذرات لها مكان تكون فيه يكون هو القبر لهذا الإنسان، فالمقصود بالقبر ليس الحفرة التي نعلمها، ولكن الحقيقة: أن حياة القبر المقصود بها فترة البرزخ، ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، من ساعة الموت إلى لحظة القيام من القبور.
أخبرنا الله عز وجل بما يقع لروح الإنسان وبدنه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، قد يقول البعض: نحن لا نرى شيئاً مما تقولون، نحن نشاهد بعض الأموات يبقون مدة طويلة قبل أن يدفنوا، وربما أحرقوا كما في بعض الديانات الكافرة، ونرى بعض الناس قد يصلب ويبقى أياماً إلى أن يتعفن، وبعض الناس يظل في بيته محبوساً لا يدرى عن موته مدة طويلة، ونحن أحياناً نفتح بعض القبور فلا نجد ما تقولون، من أن أحداً يقعد ويسأل ويقال له كذا وكذا.
إذاً: فهذا شيء ليس موجوداً، وهذه أشياء لا يقبلها العقل.
نقول: فهل يقبل العقل الإنساني: أنه يسمع كل ما في الوجود؟ أم أن العقل الإنساني السليم يقول: إنه يوجد أصوات كثيرة جداً موجودة ولكن نحن لا نسمعها؟ العلم الحديث يقول: إن الأذن الإنسانية لها ذبذبة معينة، فما تحتها لا تسمعه وما فوقها لا تسمعه.
مثلاً جهاز الموجات فوق الصوتية: هذه الموجات وهي ذاهبة تصطدم بجسم وأنت لا تسمعها أليس كذلك؟ لأن ذبذبتها فوق مستوى الأذن الإنسانية، حتى أذن الكلاب عندها حاسة في السمع أقوى من الإنسان، لماذا؟ لأن المسافة التي ما بين هذه الذبذبة وهذه الذبذبة أوسع بكثير، فيسمع أصواتاً أقل من الذبذبة التي يسمعها الإنسان، ويسمع أصواتاً أعلى من الذبذبة التي يسمعها الإنسان.
في الوقت نفسه توجد موجات كهرومغناطيسية في هذا المكان، والدليل على ذلك: أننا لو أتينا بجهاز راديو فسوف نسمع صوت قناة القرآن الكريم ومحطة ثانية تغني، أليس كذلك؟ لكننا لا نسمع هذا لأننا لا نتملك جهازاً للاستقبال، والذي يستقبل الموجات بهذا التردد ذبذبات بالآلاف والملايين في الثانية الواحدة.
إذاً: فإذا كانت الأذن غير مهيئة لاستقبال هذه الأصوات فلا ننكرها، لكن بالتأكيد هي موجودة، بدليل أننا لو شغلنا جهاز الراديو، أو أتينا بجهاز تلفزيون فسوف يلتقط بالإريل الموجات الكهرومغناطيسية من قنوات متعددة ويحولها؛ لأن هذا الجهاز عنده قدرة على استقبال هذه الموجات، ومن ثم يحولها إلى صورة مرئية، وتنظر القناة الفلانية فيها كذا والقناة الفلانية فيها كذا والقناة الفضائية فيها كذا، وينقل لك شيئاً من أمريكا وآخر من اليابان وثالث من كوريا، ويأتي لك بالدنيا في هذا الوقت وأنت جالس، وهذا أمر موجود وإن كنا لا نراه، لماذا؟ لأننا لا نملك أجهزة الاستقبال التي تسمح بذلك.
العين الإنسانية لا تستقبل إلا الذبذبة التي هي واحد على عشرة من الثانية، الضوء يحدث خمسين ذبذبة في الثانية وأنت لا ترى ذلك، العين الإنسانية لا تدرك هذه الذبذبة؛ لأن الإنسان له طاقة محددة في الإدراك.
إذاً: فهناك أشياء كثيرة جداً موجودة ولكن لا يدركها العقل الإنساني، لكن لو وجد جهاز استقبال أو أتت أدلة على وجود الشيء حينها يقول الإنسان: لابد أقبلها.
نحن في هذا الوقت نصدق أن واحداً بالريموت يجعل باب السيارة يفتح، أليس كذلك؟ لوجود مؤثرات، ولكن أنت لا ترى هذه المؤثرات ولا تسمعها، فلماذا قبلت ذلك؟ وفي نفس الوقت رفضت أن يكون الميت يسمع ويتكلم وله أحوال معينة؟ فأنكرت أن يأتيه الملكان ويقعدانه ويسألانه، وقلت: هذا لا يقبله العقل، مع أن العقل غير السليم في الحقيقة هو الذي لا يقبل الدليل الصحيح، فلا بد أن يقبل الإنسان مثل هذا الخبر.
أمر آخر: وهو حال الإنسان أثناء النوم: لو وجد رجلان نائمان بجوار بعض.
هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً آخر، ثم لما يقوما يقول أحدهما: أنا رأيت الشيء الفلاني، وقال لي في المنام كذا، فيقول له صاحبه: أنت كذاب.
فهذا ما لا يقبله العقل، فقد كنت نائماً بجوارك وما رأيت شيئاً من هذا الذي تقوله.
فهل كلام الأول ممتنع في العقل السليم؟ لا.
كذلك الميت ما الذي أعلمك بأنه لا يرى شيئاً، ولا يسمع ولا ينظر، والنوم أخو الموت، بل النوم موت في الحقيقة ولكنه أصغر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يستيقظ: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول إذا أصبح وإذا أمسى: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) فالإنسان بلا شك لا بد أن يقبل عقله هذه الأمور، ويصدق بالفعل بأن فلاناً الصادق هذا الذي أخبرنا بأنه رأى في المنام كذا وكذا، وأن ذلك حصل له ذلك حقيقة في المنام، فما المانع من أن يكون الميت يرى ويسمع ويشاهد ويتكلم ولكننا لا نسمعه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الأموات يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، وهذا من الأمور المعجزة العلمية فعلاً؛ لأن البهائم آذانها تستقبل ما لا تستقبله أذن الإنسان، لكن البهائم لا تعبر ولا تستطيع أن تخبر بلغة معينة عما تجده من أصوات، وهذا من رحمة الله بالإنسان؛ لأنه لو كان يسمع كل ما في الوجود لكانت جميع محطات الإذاعة وأصوات البشر كلها الآن في أذنه في نفس اللحظة، فلا يمكنه حينها العيش فضلاً عن أن يسمع أيضاً ما في القبور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)، ولو كانت الناس تخاف على موتاهم وما ترضى أن تدفنهم فلن تستقيم الحياة؛ لأن الأجساد ربما تتعفن ولا بد من الدفن، ولذلك من رحمة الله بالإنسان أن أعلمه بما يقع في القبور من غير أن يسمعه؛ لأنه لا يتحمل أن يسمع ذلك، ولا يقدر أن يراه، ولذلك كان من مصلحته أن يعلم ويصدق من غير أن يرى أو يسمع، وليكون أيضاً امتحاناً للإنسان في إيمانه، هل يؤمن بالله عز وجل وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام على الخصوص تفصيلاً، أم يكذب ويقول: عقلي لا يقبل ذلك؟ مع أن القرآن قد دل، وإذا كان الإنسان يؤمن بالقرآن فلا بد أن يؤمن بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.(52/3)
وصف ساعة الاحتضار في القرآن
أخبر القرآن بوجود حياة في القبر بداية من ساعة الاحتضار، كما قال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
قوله: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، غمرات جمع غمرة، وسميت بذلك لأنها تغمر الإنسان، أي: تغطيه، بحيث لا يرى ما أمامه، والمحتضر عينه زائغة وعندما تكلمه لا يسمع، وقبل هذا كان معباً جداً، وكان يقول: لا أقدر أن أتنفس، ثم يزداد ألماً وضعفاً إلى أن يصل إلى درجة عدم القدرة على تحريك لسانه، فبالتأكيد أن الألم تضاعف جداً وزاد، والقوة ضعفت جداً لدرجة أنه لا يقدر أن يتكلم، وبدأ ينحبس نفسه، وتوجد أشياء تغطيه عن الواقع، تقول له: ماذا تعمل؟ لا يرد ولا يعرف، ربما بعد هذا لا يستطيع أن يتكلم، وبعد حين لا يسمع أصلاً، والبعض منهم يتكلم بكلام وينادي آخرين، هذه تحصل كثير جداً، فهو ينظر إلى حياة نحن لا ننظرها، ولا يعرف ماذا يريد، لكنه متعب جداً.
ساعة الاحتضار -فعلاً- تغمر الإنسان وتجعله لا يحس بمن حوله، ولا يحسون بما يلاقيه، هم يرونه يتألم ويغيب عن الوعي مدة، وبعد ذلك يتوقف القلب والنفس {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94].
فغمرات الموت يخبر الله عز وجل عنها نبيه فيقول: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، أي: إذا رأيت أمراً عظيماً وهولاً مفزعاً، ((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ))، فدليل أن الملائكة تحضر هذا الميت، وتأمر أرواح الظالمين بالخروج ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ))، أي: بالضرب وبالسوء؛ لأن هذه الروح إذا رأت الملائكة فزعت وخافت وأبت الخروج، فتخرج بالقوة، وتنزع نزعاً (كما ينزع السفود من الصوف المبلول)، الخطاطيف الحديد حين تتعلق بالصوف المبلول أو الشوك لما يكون لاصقاً في الصوف المبلول يصعب انتزاعه، ولا أن يكون نزعه إلا بالشدة، كما قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1]، أي: الملائكة النازعة بشدة، (غرقاً) يعني: بالغت في الشدة في النزع، استغرق الشيء يعني: المبالغة فيه، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1]، يعني: التي تنزع أرواح الكفار بشدة والعياذ بالله، فهناك نزع للروح من الإنسان حتى تفارقه، وهي لحظات شديدة جداً، لدرجة أن نفس الإنسان تبقى بصعوبة بالغة، والأطباء عندما ينصبوا مراكز التنفس في المخ فإن النفس الاعتيادي يكون في كل حوالي أربع أو خمس ثواني مرة، وبعد ذلك يحدث في كل خمسة عشر ثانية.
قال عز وجل: ((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ))، أي: اليوم يبدأ عذاب الهوان ومعنى: عذاب الهوان، أي: العذاب المهين، والمراد باليوم: يوم الاحتضار، من ساعة خروج الروح وقوله: ((الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)).
كل كافر ومبتدع، ومفت بالباطل، وكل من يقول على الله غير الحق له نصيب من هذه الآية، وكل من قال عن الله عز وجل ما لا يجوز كاليهود لما قالوا عن الله: إنه فقير، وكذا من قالوا: اتخذ الله ولداً كالنصارى، ومن قالوا عن الله سبحانه وتعالى: إنه ثالث ثلاثة، ومن أشركوا بالله وقالوا: اتخذ الله شركاء وأنداداً، ومن قالوا: إن لله عز وجل أعواناً في هذا الكون كل هؤلاء يقولون على الله غير الحق والعياذ بالله، وكلهم لهم نصيب من هذه الآية: ((فاليوم تجزون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))، ومن قال عن الحرام: إنه حلال، وعن الحلال: إنه حرام، وأنكر ما جاء به الكتاب والسنة فله نصيب فيها؛ لأنه قال على الله غير الحق.
قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)).
سيأتي الإنسان فرداً، وساعة الاحتضار هذه من أشد اللحظات التي تؤكد أن الإنسان يكون فرداً لا أحد معه أبداً، ولا طبيب يساعده، ولا حبيب يقف بجواره، يضعون له الأجهزة وهو فاقد الوعي يعيش في غيبوبة.(52/4)
عذاب الأرواح في البرزخ
أثبت القرآن أن العذاب يبدأ من لحظة الاحتضار، قال الله سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46].
هذه الآية صريحة جداً في أن هذا العرض قبل يوم القيامة؛ لأنه قال: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا))، معنى (غدواً): أول النهار (وعشياً): آخره، كل يوم من أيام الدنيا وفرعون وجنوده وأتباعه وهامان معهم وكل الكفرة والظلمة الذين كانوا يعظمونه، والحاشية التي كانت معه ضد الإسلام وأهله، كل هؤلاء يومياً في الصبح وفي آخر النهار يعرضون على النار، ويقال لهم هذه النار التي سوف تصلونها، وهذا مصيركم الذي ينتظركم، وبعض هذه الأرواح تكون في النار فعلياً ويعرض عليها وهو فيها والعياذ بالله.
هذا قبل أن تقوم الساعة، ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))، والعياذ بالله، وكما قال عز وجل عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، مع أن القيامة لم تقم بعد، لكن أدخلت الأرواح النار، (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً)، إذاً: أرواح قوم نوح في النار في هذا الوقت -والعياذ بالله- ويوم القيامة تسلك الأرواح في الأجساد بعد أن تعاد نشأة أخرى، ثم تخلد في نار جهنم، لكن بعض أرواح العصاة والمجرمين والكفار تدخل النار الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث يوم كسفت الشمس: (رأيت في النار عمرو بن لحي يجر قصبه في النار).
وعمرو بن لحي هو أول من ابتدع بدعة عبادة الأصنام في العرب، فعشرة قرون بعد إسماعيل عليه السلام كانت على التوحيد إلى أن جاء هذا الرجل الجاهل المطاع في قومه -أي: عمرو بن لحي الخزاعي - فكان أول من سيب السوائب، وبحر البحائر، وأتاه الشيطان في منامه وأمره أن يأتي صاحب جدة فيجد عنده أصناماً معدة محفورة، وهذه هي أصنام قوم نوح التي دفنها الطوفان، وأمره أن يخرجها في العرب، وأن يعطي كل قبيلة صنماً تعبده: وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وصارت هذه الأصنام التي كانت لقوم نوح لقبائل العرب تعبدها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار، فبدنه في الأرض وروحه جعلت في النار، وصورت بصورة رجل أمعاؤه خارج بطنه يجرجرها والعياذ بالله.
والواحد منا لو أصيب بقرحة طولها واحد سنتيمتر في المعدة لا يستطيع أن يأكل أو يشرب فكيف بمن هو في النار يجر فيها الأمعاء والعياذ بالله؟ ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام في النار: (المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فهي تنهشها إلى يوم القيامة) معنى هذا: أن روح الهرة في النار، والهرة هذه تعذب المرأة وتنهش منها وتنتقم، فما بالك بمن يعذبون بني آدم ظلماً وعدواناً؟! إذا كانت هذه المرأة التي عذبت قطة بأن حبستها وتركتها جائعة إلى أن ماتت فرآها النبي صلى الله عليه وسلم تعذب بها في النار فكيف بغيرها؟! ورأى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن الذي كان يسرق الحجاج به، والمحجن: عصاة ملوية، يأخذ بها متاع الحاج، فإذا انتبه له قال: تعلق به محجني، وأنا لا أقصد شيئاً، ولكن عصاتي هي التي تعلقت في متاعك، وإن لم ينتبه إليه ذهب بما تعلق بمحجنه، فجعل في النار؛ لفعله هذا.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أرواحاً أخرى في النار، ولذلك نقول: إن الآية تدل دلالة واضحة على عذاب البرزخ، والآية هي: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ))، أي: بسبب خطيئات قوم نوح ((أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا))، أي: عذبوا من الماء إلى النار مباشرة {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25].
وكما قال الله عز وجل في المنافقين: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]، فقوله: (سنعذبهم مرتين) أي: مرة في الدنيا ومرة في القبر، ثم بعد ذلك يكون لهم العذاب العظيم يوم القيامة، ففي الدنيا عذاب الأموال والأولاد كما قال سبحانه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
إذاً: فيمكن أن يكون بلاء الإنسان وعذابه بالمال والولد، فهو يجمع المال بالتعب، ويبقى في قلق عليها، ثم تحصل له مصيبة.
وكذا أولاده يتعب في تربيتهم، ثم يصيرون عاقين له، ومن ثم يفقدهم ويتألم بسببهم، ويبقى هذا الأمر سبباً للنكد والشقاء والعياذ بالله من حيث يطلب السعادة.
هذا عذاب الدنيا للمنافقين، والكفر دائماً يحول أي سبب للخير للشر.
والعذاب الثاني في القبر، والمرة الثالثة في قوله: ((ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)).(52/5)
وصف ساعة الاحتضار من السنة
وردت في السنة الصحيحة أحاديث كثيرة في إثبات هذا الأمر العظيم: روى الإمام أحمد رحمه الله وأبو داود وابن ماجة والنسائي والحاكم في المستدرك وعبد الرزاق في مصنفه وأبو نعيم والبيهقي وأحمد وهو حديث على شرط البخاري ورواه أيضاً مسلم وأصله في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد)، اللحد: هو الشق في جانب القبر، والشق هو الموازي للقبر، وهو حفرة في اتجاه القبلة يوضع فيها الميت، بحيث يصير شكل القبر كالحرف لام، بخلاف القبور عندنا فكلها شق فقط، حيث يوضع الميت ويدفن من فوق، وكلاهما جائز، ولكن السنة اللحد.
قال: (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)، أي: صامتين، فليس من السنة المظاهرات عند القبور أو الهتافات والدعوات الجماعية، وإنما إن وعظ واعظ فليستمع له الناس، وإن لم يكن فليدع كل إنسان في سره للميت.
قال: (وفي يده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس).
هذا فيه دليل على أنه يسبق الموت مباشرة نزول ملائكة الموت، الذين هم رسل الله عز وجل، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وهم أعوان ملك الموت، وهناك آيات وردت بأن ملك الموت واحد، وهنا وردت آيات بأنهم مجموعة كقوله: (توفته رسلنا) وكقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، في هاتين الآيتين أنه ملك واحد.
والظاهر: أن ملك الموت واحد وله أعوان، وهذا الحديث يوضحه، وأن الأعوان الذين يقبضون أرواح المؤمنين بيض الوجوه: (كأن وجوههم الشمس)، أي: وجوههم منيرة مضيئة.
(معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة) الحنوط: طيب يجعل للميت، فالبشر يضعون في الجنازة حنوطاً في الأرض، ويعدون الكفن، والملائكة معها كفن للروح، والناس تجعل طيباً مع الكفن في البدن، والملائكة معها أيضاً حنوط، ولكن من حنوط الجنة للروح المؤمنة.
قال: (حتى يجلسوا منه مد البصر)، كمن ينظر إلى البحر فلا يدرك آخره، هكذا يجلسون منه إلى غاية ما ينتهي بصره (ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)، فإعلان النتيجة، والنجاح الحقيقي الذي يجب على الإنسان أن يعمل له؛ إذ ليس يعقل أن الإنسان يعمل لمستقبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ومن ثم لا يعمل لمستقبل مئات أو آلاف السنين، والله أعلم كم سيبقى الإنسان في قبره وما بعد ذلك من المستقبل؛ لأن يوم القيامة خمسين ألف سنة، إذاً: فأين المستقبل؟ وبعد هذا الجنة أبداً أو النار أبداً.
(أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء).
انظر إلى هذه النقطة وهي تقع من الكأس تقع بسهولة جداً فكذا روح المؤمن (كما تسيل القطرة من فيِ السقاء)، يعني: تخرج كانسياب قطرة ماء من فم قربة أو إناء.
قال: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)، يعني: الملائكة الأعوان مستعدين للعمل بسرعة.
إذاً: كل روح تقع في يد ملك الموت فيأخذها أعوانه.
ولم يثبت في حديث صحيح أن اسم ملك الموت عزرائيل، إنما هي آثار غير صحيحة، ونحن نعلم أن من صفة ملك الموت ما قاله الله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، ووردت روايات إسرائيلية أن اسمه عزرائيل، لكن لا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالله أعلم باسمه.
قال: (فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض) تخرج رائحة طيبة ساعة خروج الروح؛ لأنها كانت روحاً طيبة، وكانت في جسد طيب يعبد الله.
قوله: (إن العبد المؤمن) إذاً: في هذا تحقيق للعبودية، وتحقيق للإيمان، ومن هنا تخرج روحه بهذه الطريقة السهلة.
قال: (فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان.
بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا)، وذلك أنه كان له ألقاب في الدنيا بعضها حسن مثل: عابد صائم مجاهد عالم كريم وليس: بيه وباشا وأفندم، ولكن الأسماء الطيبة التي كان يسمى بها في الدنيا هي أسماء الأعمال الصالحة التي كان يفعلها، قال: (حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له).
إذاً: هناك أبواب للسماء الدنيا، كما قال عز وجل في حق الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، ونحن قد لا نرى هذه الأبواب؛ لأن أمامنا كل هذه الملايين من السنين الضوئية أو مليارات السنين الضوئية، وإذا كنا نحن لا ندرك ذلك كله من محيط السماء الدنيا، فكيف نعلم بعد ذلك بوجود أبواب؟ فيقول البعض: أين الذي تقولون عنه هذا؟ نقول: الله أخبر به، وإذا وصلتم هناك انظروا، لكنكم تعجزون أن تصلوا، فلا يمكن أن تصلوا إلى هذا النجم القريب؛ لأن الوصول إليه عبر مسافة تستغرق مثلاً مليون سنة وكل هذه المسافة فوق طاقة البشر.
قال: (فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة).
إذاً: هناك جنازة للروح يتولاها المقربون من كل سماء، الملائكة وأرواح الأنبياء وأرواح الصالحين يشيعون هذه الروح التي أضيفت إلى أرواح المؤمنين.
قال: (حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين) عليين مأخوذة من العلو، وكلما علا ارتفع واتسع، فكتابه مكتوب في مكان واسع.
قال: (وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه)، هذا دليل على أن الروح سوف يحصل لها اتصال بالبدن الذي يوضع في القبر، وأن هذه المرحلة هي التي ما بين خروج الروح وبين وضعه في قبره، حيث يشيع الناس البدن إلى القبر، والروح شيعت وصعدت إلى السماء، ثم أمر الله أن تعاد الروح مرة أخرى إلى الأرض.
قال: (فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟)، أي: من أين عرفت؟ وهذا من الفتنة، أي: لما أن يسألوه بصيغة المجهول ينتظرون ما يقول؟ لكن كل عبد سوف يسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر بالله، وكافر برسل الله جميعاً، وليس بمؤمن بنبيه، (فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها).
الروح: هو برد نسيم الريح.
(فيأتيه من روحها وطيبها)، الرائحة الطيبة، وكذلك الروح الفرح والسرور، والراحة، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:83 - 84]، الحلقوم: هو الحلق، فإن الروح تبلغ الحلق بعدما تنزع من داخل البدن: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:83 - 86]، هلا إن كنتم غير محاسبين؟ {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:87]، أي: ترجعون الروح إلى البدن إن كنتم صادقين، هذا لو كان الأمر بأيديكم، ولكن ليس بأيديكم، بل لابد أن تنزع روحه رغماً عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:88 - 89].
مصداق هذا في الحديث: (يأتيه من روحها وطيبها)، الروح هو الراحة والسرور وبرد النسيم، والريحان هو الطيب الذي يأتيه من الجنة ((وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)).
قال: (فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يوم الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح)، المسوح: هو كساء من الشعر الغليظ، وغالباً ما يكون أسوداً.
قال: (فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق روحه في جسده -تفزع وتخاف- فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول)، السفود: هو حديدة معطوفة ملتوية ذات شعب يشوى بها اللحم، والسفود عندما يتعلق في الصوف لا يمكن نزعه منه بسهولة.
(فيأخذها فإذا أخذها(52/6)
قال إني جاعلك للناس إماماً
لقد جعل الله تعالى إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، متصفاً بصفات الإمامة، من الرحمة بالمدعوين والمضي في الدعوة إلى الله تعالى دون توقف، وكثرة الضراعة إليه تعالى والعبادة له، والصبر على الأذى في سبيله، وللمتبع له المتصف بصفاته نصيب من تلك الإمامة في الدين بقدر اتباعه، وأما المخالف لهديه فهو الظالم، الذي لن ينال ذلك العهد من الله تعالى بالحصول على الإمامة، وعاقبته الخسران في الدنيا والآخرة.(53/1)
إمامة إبراهيم عليه السلام للناس
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وعليه وعلى آله وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد جعل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، وهذه الإمامة نالها إبراهيم بتوفيته للمقامات التي ابتلي بها كلها، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، وإنما تنال الإمامة في الدين بتوفية مقامات العبودية حقها، قال عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، ومن مقامات هذه العبودية الدعوة إلى الله عز وجل والصبر على الأذى، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والتضحية بالنفس والوطن والأهل والولد في سبيل الله عز وجل.(53/2)
الصبر في الدعوة إلى الله وثمرته
من هذه المقامات -أي: مقامات العبودية- مقام الصبر في الدعوة إلى الله مع قلة المستجيبين، قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهذا المقام مقام عظيم الأهمية في حياة المسلم، وفي حياة الداعي إلى الله عز وجل، فإبراهيم عليه السلام مع إمامته، ومع توفيته للدعوة إلى الله عز وجل حقها؛ لم يؤمن له من قومه إلا لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وامرأته سارة التي تبعته على الحق، والله عز وجل قدر هذا الأمر للأنبياء جميعاً، قال سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
فأكثر الخلق في غفلة، والناجون قلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الله عز وجل يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: يا آدم! أخرج بعث النار.
فيقول: من كلٍّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون).
وهذا الأمر يثمر ثمرة عظيمة الأهمية في حياة المؤمن، ومن ذلك أنه لا يزال خائفاً من الله عز وجل، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ويعلم الخطر الذي يقدم عليه هو والناس أجمعون، هو خطر الوقوف في المحشر، ورؤية أهوال القيامة، والمرور على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، من تحته النار يحطم بعضها بعضاً، قعرها سبعون خريفاً، يهوي فيها من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو من الألف واحد فقط من هؤلاء البشر، نسأل الله العافية! فإذا كان الأمر كذلك، وعلمنا قلة من ينجو، خفنا على أنفسنا من هذه المواقف، والخوف من أعظم أسباب الأمن عند الله عز وجل، فهو من أسباب دخول الجنة، كما أنه من أسباب التمكين في الأرض، قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
والخوف عبادة ضرورية لحياة القلب، فهو الذي يوقظه من غفلة الشهوات والضلالات، ويبعده عن أن يغره الغرور، وأن تغره الحياة الدنيا، وهذا من أعظم أسباب التوفيق في سيره إلى الله عز وجل، وهو الذي يدفعه حتى يستمر في سيره إلى الله.(53/3)
البعد عن الاغترار بكثرة أهل الباطل
ومن ثمرة الصبر في الدعوة مع قلة المستجيبين، أن لا يغتر الإنسان بالكثرة، وأن لا يزهد في القلة، فالله عز وجل من أجل القلة المؤمنة يغير موازين الحياة، وينصر رسله والذين آمنوا رغم قلتهم، ينصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ويملي للظالمين الكثرة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، يملي لهم سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون؛ لمتانة كيده عز وجل، قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45].
والاغترار بكثرة من ضل حتى يصير الإنسان في ركب من يضل عن سبيل الله هو العلة التي من أجلها كفر أكثر البشر، واتبعوا الباطل بالتقليد الأعمى، والمتابعة لآبائهم وأجدادهم، ولمن حولهم من مجتمعاتهم.
والمؤمن لا يرضى بهذا التقليد، ولا يتبع الكثرة إذا كانوا على الباطل، وإنما يوطن نفسه على أن يكون على الحق ولو كان وحده، والله عز وجل قد قال: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].(53/4)
الهجرة في سبيل الله
بين سبحانه وتعالى هجرة إبراهيم ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71].
وهذا يدل على أن أهل الإيمان عليهم أن يفارقوا أهل الباطل إذا بلغت الدعوة إلى الله عز وجل غايتها بإقامة الحجة على الخلق، وبلوغ الحق لكل مكلف، فبعد ذلك عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، وأن ينشئوا مجتمعاً صالحاً يعيشون فيه، فالله سبحانه وتعالى جعل هذه العلاقة بين أهل الإيمان سبباً للرحمة العاجلة في الدنيا، فالله عز وجل يبدلهم بعلاقتهم التي ضحوا بها في سبيله خيراً منها، ويعوضهم العلاقة الوطيدة في الله عز وجل، التي بها يجد أهل الإيمان برد الود، بدلاً من جو مليء بالحقد والكراهية والحسد والبغضاء، وهذه العلاقة لا بد أن نحرص عليها، ولا بد أن تكون قوية متينة بين أهل الإيمان، فإذا استجابوا جميعاً لدعوة الحق فلا بد أن نستثمر هذه العلاقة، وأن نقوي روابط المحبة بين أهل الإيمان، والاجتماع على طاعته سبحانه وتعالى.(53/5)
أهمية صحبة أهل الإيمان
جعل الله عز وجل الثواب لإبراهيم عليه السلام على تضحيته بابنه إسماعيل أن وهبه إسحاق ويعقوب نافلة، والله سبحانه وتعالى جعل صحبة أهل الإيمان والصلاح علامة على سعادة الإنسان، وسبباً لرحمته في الدنيا والآخرة، وحصول المغفرة له، والله عز وجل يأمر الأعلى بصحبة الأدنى رغم أنه السبب في هدايته، فكيف بالأدنى الذي يحتاج إلى أن يصحب الأعلى؟! كأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً أن يصحب الذين هداهم الله به إذا كانوا يريدون وجهه، وهو عليه الصلاة والسلام سبباً في إسلامهم، فما بالك بمن دونه عليه الصلاة والسلام، فالصبر معهم واجب، فيصبر على صحبتهم وعلى معاشرتهم، وهذا أمر من أعظم الأمور أهمية في حياة المؤمن، وإذا كان الأمر كما ذكرنا في حق الأعلى بالنسبة إلى الأدنى، فكيف بصحبة الأدنى لمن هو أعلى منه قدراً؟! فالإنسان دائماً يبحث عمَّن يعاونه على طاعة الله عز وجل، ولا أفضل من صحبة الأخيار، فانظر من تخالل، وانظر من تصاحب؛ فإن الله عز وجل جعل صحبة أنبيائه ورسله غاية مقصودة يطلبها النبيون والصديقون، قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم في الرفيق الأعلى) وكان هذا آخر ما مات صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في مجالسة أهل الصلاح، ويحذر من مجالسة أهل الفساد، فيقول: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي).(53/6)
الدعوة إلى الله تعالى سائرة لا تتوقف
وإبراهيم عليه السلام حين آمن له لوط وهاجر معه إلى الأرض المقدسة لم يتوقف، ولم تتوقف الدعوة إلى الله عز وجل، بل أرسل الله عز وجل لوطاً إلى قرية سدوم ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا دليل على أن الدعوة إلى الله لا تتوقف في أي مكان، بل حيث ما وجد الناس ووجد من يخالف شرع الله ووجد الإنسان فتبقي الدعوة إلى الله عز وجل قائمة.
وإبراهيم عليه السلام قد أتاه الأضياف في طريقهم إلى إبلاغ قوم لوط، والله سبحانه وتعالى جعل من إبراهيم عليه السلام إماماً للناس، وهو كذلك في الحلم والصبر وعدم اليأس من استجابة الناس للدعوة إلى الله.
فلوط عليه السلام حين أرسل إلى قومه لم يؤمن به رجل واحد، ولم يؤمن به إلا أهله فقط.
وهذا يؤكد المعنى الذي ذكرناه من أن قلة من استجاب للأنبياء لا تمنع الداعي إلى الله عز وجل من ممارسة الدعوة.(53/7)
حلم الداعية ورحمته بالمدعوين
إبراهيم عليه السلام حين مرت به الملائكة بشروه بهلاك قوم لوط، وبشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كما قال سبحانه وتعالى عن امرأته: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]، فالله سبحانه وتعالى بشر امرأته سارة بذلك على لسان الملائكة جزاء على صبرها واحتسابها، وبعد ذلك جعل إبراهيم يجادل في قوم لوط، فقال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75].
فهو يجادل في قوم لوط في تأخير العذاب عنهم، حيث قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت:32].
فهو يريد منع العذاب العام على قرى قوم لوط؛ لأجل وجود لوط عليه السلام، وهذا من حلمه عليه السلام، وقد وصف كذلك بكثرة دعائه وقنوته لله عز وجل، كما قال تعالى: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ)) أي: مسبح ذاكر لله عز وجل، قانت لله كثير الإنابة، فهو حليم لا يعجل ولا يريد إنزال العقوبة بسرعة، بل يريد تأخير العذاب لعل الله عز وجل أن يهديهم، وقد كان ابنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صبوراً حليماً، سيما عندما رد عليه قومه ما جاء به، وأتاه جبريل بملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين إن شاء، فقال: (بل أستأني بهم، فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)، وقد كان.
وبهذا تحصل للإنسان المراتب العالية من الحلم والصبر والاحتساب عند الله عز وجل، وكثرة الدعاء والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الأواهين المنيبين.(53/8)
فزع المؤمن إلى ربه في الشدائد
كان إبراهيم عليه السلام عندما يصيبه أمر يفزع إلى الله عز وجل، ويلتجئ إلى الصلاة والدعاء، كما في قصته مع جبار مصر حين أتى بامرأته سارة إلى مصر، وعلم إبراهيم أنه لو أخبرهم أنها امرأته لقتلوه وأخذوها، فقال لها: ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، وأنت أختي في دين الله، فأخذها الجبار وأراد أن يتناولها، ووقف إبراهيم يصلي ويدعو الله عز وجل.
وهكذا المؤمن كثير الدعاء، يدعو ربه سبحانه وتعالى في الشدائد والمحن، ويلجأ إلى الله عز وجل أن يعصمه وأهله، وأن ينجيه من كل سوء كرب.
فأخذ الله سبحانه وتعالى ذلك الجبار الظالم الذي أراد أن يتناول سارة، وأكرمها سبحانه وتعالى وعصمها منه مرات متتابعة، فكان كلما أراد أن يهوي بيده إليها أخذ وشلت يده، حتى قال: اذهبوا بها، إنما أتيتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان، اذهبوا بها وأعطوها هاجر.
فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام وهو واقف يصلي، فلما انتهى من الصلاة قال: مهيم -أي: ما شأنك-؟ فقالت: رد الله كيد الفاجر، وأخدم هاجر.
وكان ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى.
فالعبد المؤمن كثير الدعاء، والدعاء يسمعه الله عز وجل من عباده المؤمنين، وبه تتغير موازين الناس، والله سبحانه وتعالى يرفع ويخفض، وهو سبحانه كل يوم هو في شأن، يفرج كرباً، ويغفر ذنباً، ويفك أسيراً، ويطعم من يشاء، ويغني ويفقر، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، وجعل سبحانه وتعالى من أسباب الخير لابن آدم كثرة الدعاء، وإبراهيم إمام في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
فعلينا بهذا السلاح العظيم الذي لو صدقنا الله عز وجل فيه، ودعونا الله عز وجل بانكسار وضعف وشعور بالفقر والحاجة إليه سبحانه وتعالى لغير الله عز وجل ما بنا، وذلك بشرط عدم الاستعجال، فكثير من الناس يقولون: نحن ندعو منذ سنين ولم يتغير الحال، ونقول: بل قد تغير بفضل الله سبحانه وتعالى، فقد كانت الأمة قبل عقود قليلة من الزمن بعيدة تمام البعد عن الله عز وجل، وأكثر شبابها ورجالها ونسائها لا يعرفون حتى الصلاة، ولا يؤدونها، بل كان أمراً معتاداً منذ سنوات ليست بالكثيرة أن يكون كل الشباب لا يحافظون على أداء الصلاة، وأن تكون المساجد خاوية من أهلها، وأن لا يكون هناك علم بالكتاب ولا بالسنة، وإنما يسير الناس في شهواتهم ورغباتهم.
وإن تسلط الأعداء على الأمة فإن ذلك من أسباب ردها إلى الله سبحانه وتعالى، وعودة المسلمين إلى الله عز وجل ارتبط بأحداث جسام تقع لهم، وهذا من أسباب رحمة الله بهم، كما قال عز وجل في بني إسرائيل حين ذكر تسليط الأعداء عليهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]، فمن كان عنده بقية من إيمان، وسلط الله عز وجل عليه أنواع البلايا والمحن فلأجل أن يزداد إيماناً وتسليماً، ولأجل أن يرحمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإن ذلك من موانع إجابة الدعاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي).
والاستعجال آفة خطيرة في الإنسان، وإنما تقاس أعمار الأمم بعشرات السنين بل بمئاتها، وليس بأعمار أفرادها، فكم من التغيرات تقع في حياة بشر لها مقدمات في الأجيال التي سبقتهم.(53/9)
حكمة ابتلاء المسلمين بالمصائب
وعلى قدر ما يقع في قلوب أهل الإيمان من إيمان وإسلام وإحسان يرفع الله عز وجل عنهم تسلط عدوهم عليهم، وبقدر صدقهم وامتثالهم وتذللهم لله عز وجل بقدر ما يرفع الله عز وجل ما نزل بهم، والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده ليسمع تضرعهم، قال عز وجل: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام:43]، فالله عز وجل يبتلينا لنتضرع.
وقال عز وجل: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]، فلنفقه لماذا نبتلى بأنواع البلايا من الغلاء، والأوبئة، والمحن، وتسلط العدو، واحتلال البلاد، وأخذ الكبار والصغار والأولاد أسرى، وغير ذلك من أنواع البلايا، فإن ذلك لكي نزاد انكساراً لله ودعاء وتضرعاً له سبحانه وتعالى، فالكسير يجبره الله الجبار سبحانه وتعالى، ومن تجبر وطغى يكسره الجبار سبحانه وتعالى العزيز الانتقام.
والله عز وجل ينزل بأسه بالناس ليعودوا إليه عز وجل، فإن لم يعودوا وازدادوا طغياناً فتح عليهم أسباب الرخاء في الدنيا ثم يأخذهم بغتة، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
فنحن بحاجة إلى الدعاء، وأن نقتدي بإبراهيم عليه السلام في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وكمال التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه حتى يرفع ما بأمتنا من أنواع البلايا والمحن.
وإبراهيم عليه السلام إمام في تصديق وعد الله سبحانه وتعالى، وفي إيمانه بأنه سميع الدعاء ولو طالت المدة، فإبراهيم سأل الله أن يهب له من الصالحين وهو مهاجر فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100].
ودعا إلى الله وهو شاب ومع ذلك قدر الله عز وجل أن تستجاب هذه الدعوة بعد كبر السن، فإنما وهب له إسماعيل وهو ابن بضع وثمانين سنة، ووهب له إسحاق بعد ذلك بثلاث عشرة سنة، وعند أهل الكتاب أنه بعد أن تجاوز المائة، فقال إبراهيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39].
فاليقين بالله عز وجل والثقة به من أعظم أوصاف الأئمة في الدين، قال عز وجل: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56].
فإياكم والقنوط -عباد الله- من رحمة الله، فقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، وذلك بعلمه وحكمته، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
فهو عز وجل كما جعل في المطر حياة للبشر من بعد يأسهم، فكذلك في كل الكروب ينزل ما يغيث به الناس، وينشر رحمته من بعد أن يقنطوا وييأسوا، غير أن أهل الإيمان لا يقنطون من رحمة الله أبداً، وإنما يشفقون على أنفسهم من أن يصيبهم بسبب ذنوبهم عقاب الله عز وجل، ولكنهم لا يقنطون من رحمة الرحمن الرحيم، وكيف يقنطون وهم يرون آثار الرحمة تملأ هذا الكون؟! ورحمته سبحانه وسعت كل شيء، فلا تقنطوا من رحمة الله، وقولوا كما قال إبراهيم: ((وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ))، وهو سبحانه وتعالى يضيق الأرزاق؛ ليعلم الناس أن الأمور ليست بأيديهم، وأنه هو وحده سبحانه وتعالى الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر سبحانه وتعالى، وأنه بعباده الخبير البصير، وهو الذي يدبر الأمر بالعلم والحكمة، وبخبرته عز وجل وبصره بعباده، يعلم أحوالهم، ويسمع دعاءهم، ويعلم عواقب أمورهم، وهو الذي يرى عباده أزلين قنطين مشفقين يائسين فيضحك؛ لعلمه أن فرجهم قريب.
وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك ليسمع تضرعنا، وليرى ثقتنا بوعده وحسن ظننا به عز وجل، والله عند ظن عبده به كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسنوا ظنكم بالله، وثقوا في وعده، وهو سميع الدعاء، وإذا دعونا الله ونحن موقنون بذلك مع الضعف والانكسار كان ذلك من أعظم أسباب النصرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم) أي: بدعائهم وتضرعهم لله عز وجل، وكم من مستضعف يقسم على الله فيبره سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
فلماذا كانت هذه الصفة المذكور أولاً؟ إنها لبيان ضعفه وانكساره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) أي: من أهل الإيمان الكمل الذين يوقنون بوعد الله، ولو أقسموا على الله في الدعاء لأجاب قسمهم.
فهذا المرء عند أهل الدنيا مستضعف فيهم ليس عنده من أسباب القوة الظاهرة ما يجعلهم يعتبرون بمنزلته، ولا يعتدون بمقامه.(53/10)
عاقبة المتبع لإبراهيم عليه السلام والمخالف له
تلك بعض صفات إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الذي جعله الله عز وجل بها إماماً يقتدى به ويتبع، ومن كان من ذريته على شيء من هذه الصفات فهو إمام كذلك بقدر ما فيه.
وأما من ظلم ولو كان من ذرية إبراهيم فليس له عهد الله عز وجل بالإمامة في الدين، {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
فهناك عهد من الله تعالى له بأن يكون هناك أئمة من ذريته، ولكن لا ينال هذا العهد الظالمون، فإن الله لا يقبل لهم ولاية، ولا شهادة، ولا يجعل لهم أمانة؛ لأن الظالم عند الله عز وجل مبعد عن الله عز وجل، وعند الله سبحانه وتعالى مغضوب عليه وملعون، كما قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
فاحذروا -عباد الله- من الظلم الأكبر، ومن ظلم بعضكم لبعض، وظلم أنفسكم، وإمامة إبراهيم عليه السلام ينالها كل من تبعه واتصف بصفاته حتى ولو كان من غير نسله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال عن الإسلام: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
وهو عز وجل يعلم دخول العرب والعجم في ذلك، فإبراهيم إمام لكل من تبعه على دينه وملته من ذريته ومن غيرهم، فإنما الصلة بين أهل الإيمان بالأعمال، (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
اللهم ارزقنا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء ومرافقة الأنبياء، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.(53/11)
مكة المكرمة دعوة إبراهيم عليه السلام
إن دعوة الأنبياء عليهم السلام لها ميزات كثيرة، وخصائص غزيرة، فهي مجابة في الحال والمآل، والعاقبة لهم في سائر الأحوال، ومن بركات دعوة إبراهيم عليه السلام نشأة مكة التي كانت بقعة قفراء، فعادت عامرةً بالناس والسكنى، وهوت إليها أفئدة البشر، وأخرج الله بها زمزم وفجر، حتى إذا شب إسماعيل قام هو وأبوه ببناء البيت العتيق، وصارت الأجيال من ذرية إبراهيم وإسماعيل لها حق الصدارة، والنبوة والريادة، والديانة والصيانة، وكل هذا بفضل دعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وما محمد سيد الأنبياء وحبيب الرحمن إلا ثمرة دعوته.(54/1)
دعاء نبي الله إبراهيم واستجابة الله له
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:35 - 41].
الدعاء من أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض.
والله سبحانه وتعالى قدر أموراً وقدر لها أسبابها، ومما قدره سبحانه وتعالى: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام بالطواف والقيام والركوع والسجود والاعتكاف وسائر أنواع العبادات.(54/2)
مكانة مكة والخروج بهاجر وإسماعيل إليها
لقد جعل الله عز وجل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، أي: به يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أذن الله عز وجل قدراً في هدمه، فمن أشراط الساعة بعد زوال الإيمان في الأرض كلها أن يهدم الكعبة ذو السويقتين وهو من الحبشة، وأما قبل ذلك فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المتوجهين إلى هذه القبلة المشرفة، فكيف عمرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين؟ فالملايين من الناس في كل عام يذهبون إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة، لأداء فرض الحج الذي افترضه الله سبحانه وتعالى على الناس وأمر بأدائه، وجعله ركناً من أركان الإسلام, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).
وقد عمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم عليه السلام، إذ أمره الله عز وجل أن ينقل هاجر وولدها إسماعيل بعد أن وقع شيء بينها وبين سارة التي صحبت إبراهيم عليه السلام في هجرته، والتي كرمها الله عز وجل بأن كانت من أول المؤمنين به، ورد الله عز وجل عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب بها إبراهيم إلى مصر، فأراد الجبار أن يأخذها ويعتدي عليها، فقامت تدعو الله عز وجل، وظل إبراهيم عليه السلام بعيداً يدعو ربه سبحانه وتعالى، فكلما أراد أن يتناولها شُلَّت يده، وأخذت أخذاً شديداً، فيطلب منها أن تدعو الله له ويتركها، وفي الثالثة تركها وقال: إنما أتيتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان اذهبوا بها وأعطوها هاجر.
فلما رجعت إلى إبراهيم قال: مهيم؟ فقالت: رد الله كيد الفاجر، وأخدم هاجر.
وضربت سارة مثلاً في التضحية؛ إذ وهبت هاجر خادمتها التي وهبت لها لإبراهيم عليه السلام، وكانت سارة عقيماً لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي، وفي الطاعة لله عز وجل، فاتخذ إبراهيم هاجر سُرِّية، فولدت له إسماعيل، فوقع في قلب سارة ما وقع، وكان الله عز وجل قد قدر تعمير بيته الحرام بإسماعيل عليه السلام وذريته، فأمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجر ويهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة.
وفي هذا المكان القفر الذي لا أحد فيه لا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها الرضيع إسماعيل عليه السلام، وترك لهما جريب تمر، وشنة ماء -أي: قربة ماء-، وتركهما عند دوحة قريباً من موضع زمزم، ولم يكن قد بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: التل المرتفع- وتركهم وحدهم في هذا المكان الذي ليس به أحد، وليس فيه نبت ولا زرع ولا ماء ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة، لكن الله عز وجل اختارها يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان.
إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتبى الله تعالى هذه البقعة، وجردها سبحانه من مقومات الحياة الطبيعية، وقدر أن تكون أزحم بقعة على وجه الأرض بمن يعبد الله عز وجل، وهذه آية عظيمة من آياته.(54/3)
أثر دعوة إبراهيم وبركتها على مكة المشرفة
إذ كانت هذه دعوة من إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
وفي الآية الأخرى قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة:126] فكانت الدعوة قبل تكون البلدة وبعد تكونها، وكان هذا الدعاء هو الذي غير وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، والذي نشر الله عز وجل به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، إذ من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعاً في أرجاء الأرض كلها، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء، فتنشر توحيد الله عز وجل، وتعلن الكلمة الخالدة: لا إله إلا الله شعاراً للحياة وشعاراً للأمة الإسلامية، فلا توجد أمة من الأمم سواء ممن تنتسب إلى الأنبياء أو ممن لا تنتسب إليهم ترفع هذا الشعار، أو تطبقه في الحياة، أو تسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض، وإنما تجد الأمم حتى ممن تنتسب إلى الأنبياء ترفع شعارات خاصة بها على خلاف ما أوصى به الأنبياء، وهذه الوصايا مسجلة عندهم، وأول هذه الوصايا جميعاً: أن يعبد الله وحده لا شريك له.
فهذا موجود في وصايا موسى العشر كما هو في التوراة، وهي وصية المسيح كما في الإنجيل، وإنما يرفع هذه الكلمة بفضل الله عز وجل ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون من كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منىً ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضات ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
ولقد قدر الله عز وجل أن يأتي إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام مع أمه ويتركهما في ذلك المكان، فتقول له هاجر: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟ وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم، الشفيق بالخلق- أن يكون قاسياً على ولده فلذة كبده! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله عز وجل على يديه؟! وكيف يمكن أن يظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟!(54/4)
أثر دعوة إبراهيم لذريته وأتباعهم
من دعاء إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36] أي: الذين دعوا إلى عبادتها أضلوا كثيراً من الناس، وليست الأصنام نفسها تضل كثيراً من الناس، فهو يعتبر بحال الأكثر، وكان يخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، ولذا قال من قال من السلف: من يأمن البلاء بعد إبراهيم، أي: من يأمن أن يقع فيما حذر الله عز وجل منه من الشرك بعد أن دعا إبراهيم بالنجاة له ولبنيه منه، وقد استجاب الله عز وجل دعوته، فلم يكن أحد من بنيه وعصبته مشركاً، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد عشرة قرون متتابعة، فانظر كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالاً متتابعة.
وكذلك أثرت هذه الدعوة في حياة البشر وفي هذه البقعة إلى يومنا هذا؛ فدعوة التوحيد هذه جددها النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها في الأرض كلها بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، فبعث عليه الصلاة والسلام إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وقام بذلك من بعدهم، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان، فانظر كيف يكون أثر تلك الدعوة، فيقول إبراهيم: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))، فمن أمن الشرك على نفسه فهو جاهل، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! قال إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا هو النسب الحقيقي: اتباع إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال عز وجل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه، فهو أبوهم بالروح والقلب؛ لأن ولادة قلوبهم كانت بدعوته، والنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين، قال عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وذلك لأن ولادة القلوب كانت على يديه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة دعوة أبيه إبراهيم؛ إذ دعا ربه أن يبعث في ذريته رسولاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وتوسل إلى الله بعزته وحكمته، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نوراً خرج منها فأضاء قصور الشام، فكيف يكون الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة؟
الجواب
يكون عظيماً بحسب قرب الداعي من ربه عز وجل، وبحسب استعاذته بحول الله وقوته، فحينئذ يؤثر الدعاء تأثيراً عجيباً يمتد لآلاف السنين بقدرة الله سبحانه وتعالى.
يقول إبراهيم عليه السلام: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، فإذا كان إبراهيم يدعو لمن عصاه بأن يغفر الله له، ولا يغفر الله الشرك إلا بأن يتوب العبد منه، فإن من مات على الشرك وقد بلغته الحجة فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقوله: ((وَمَنْ عَصَانِي)) تشمل من عصى الله عز وجل بالمعاصي التي هي دون الشرك، التي يكون الاستغفار مؤثراً فيها بإذن الله، وأما من أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه، وهذا لمن لم يمت على الشرك، أما من مات عليه فإن إبراهيم يتبرأ منه، كما تبرأ من أبيه آزر، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
فإبراهيم الأواه الحليم المنيب الذي جعل يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط المجرمين والسفلة المنحطين، الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، واستهزءوا بنبيهم وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم يدعو لهم لشفقته ورحمته بالخلق والله يحب منه ذلك، حتى إنه دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخر عنه العذاب، وأمر الله نافذ فيه، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه -أي: كثير الدعاء- وإبراهيم كان كذلك.
والله يحب هذه الصفات التي ترتب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه، فكيف يمكن أن يظن به ألا يكون شفيقاً رحمياً بولده وأم ولده؟! وذلك مما لا يتصور، فكيف تسأل هاجر وتقول: إلى من تتركنا؟ وكيف يمكنها أن تتصور أنه يتركهم إلى غير أحد؟ فتكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بأن السكوت أبلغ من الكلام فلا يلتفت إليها ولا يجيب عليها، وفي الثالثة تكرر السؤال وهو لا يجيب ولا يلتفت، فتنتبه بعد ذلك فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فهنا يجيب إبراهيم فيقول: نعم، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية، وهذا هو الذي ينبغي أن يؤكد في النفوس، أي: أن نمتثل أمر الله، اقتداءً بإبراهيم عليه السلام حين لبى أمر ربه.
والمؤمنون حين يلبون ويسمعون تلبية الحجاج: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، إنما يتبعون أنبياء الله عز وجل، ويجيبون الدعوة التي بلغها إبراهيم بأمر الله، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] فنادى إبراهيم قائلاً: إن لله بيتاً فحجوه، وناداهم بغير مكبر صوت أو إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كان لهذه الكلمة أثراً عجيباً في البشر عبر العصور، والأزمنة ما لا تؤثره كل الوسائل الأخرى، والناس اليوم عندهم من وسائل توصيل الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة ما تعلمون، أو ما يسمى: بوسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك! فكم من ملايين الكلمات تذهب هدراً، ولم تذهب كلمة إبراهيم هدراً؛ وللوعد الذي جعله الله سبحانه وتعالى وعد صدق، حيث تكفل الله بإيصال هذه الدعوة؛ فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فكل من لبى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقاع ملبياً مجيباً دعوة إبراهيم عليه السلام، فنحن نمتثل أمر الله عز وجل مهما كان في الظاهر شاقاً وصعباً، فهو اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة.
تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، ومع ذلك يترك إبراهيم ولده وأم ولده، ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، وهي جراب تمر وقربة ماء، ثم يتركهم ويذهب إلى بيت المقدس في الشام، وهي مسافة في ذلك التاريخ تقضى في أكثر من شهر، ومع هذا يرحل إبراهيم ويتركهم لله عز وجل، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا هو أمر الله: إذاً: لا يضيعنا، وهذه ثقة عظيمة بالله وتوكل عليه.
ولك أن تقارن بين تلك اللحظات وبين اللحظات اليوم التي لا يوجد موضع قدم في تلك البقعة المباركة إلا وسكنت، إلا ما شاء الله عز وجل، فيرحل إبراهيم حتى إذا كان خلف الأكمة حيث لا يريانه يتوجه بهذا الدعاء: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)).
فإنما كانت هذه الرحلة والهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، فهو يتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة، وذلك في قوله: ((بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)).(54/5)
فضل ماء زمزم وكيفية ظهوره
من الآيات البينات ماء زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عندما رضيت هاجر عليها السلام بالله عز وجل مدبراً معيناً، وحافظا وكيلاً، وقالت: إذاً لا يضيعنا، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء والتمر وجاع ابنها، والله يقدر البلاء ثم يأتي الفرج، والفرج لا يأتي من البداية، وإنما يأتي بعد محنة فيها منحة عظيمة، وهكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها.
يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبياً رسولاً صادق الوعد بانياً مع أبيه لبيت الله الحرام، ناشراً للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده أجيالاً متتابعة، ويقدر الله عليه أن يجوع طفلاً صغيراً، حتى كاد يهلك، فأخذ يبكي والأم تتألم؛ لأنها ترى ابنها يكاد يموت من الجوع والعطش وهي لا تدري ما الحل، فنظرت إلى أقرب جبل وهو جبل الصفا، فجعلت تأخذ بالأسباب وتصعد عليه تبحث لعلها تجد مغيثاً لهما، فتخرج فتصعد على الصفا وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى أحداً، فتنظر إلى أقرب جبل من الصفا فتجد جبل المروة فتتجه نحوه باحثة عن مغيث لهما -وفي بطن الوادي مسافة ممهدة الآن ميسرة بين العلمين الأخضرين- فأخذت تسعى سعي الإنسان المجهود، حتى إذا صعدت مشت، حتى أتت المروة فصعدت عليها -مع أن هذا الوقت تكون فيه الشمس حارقة، ولا يستطيع الإنسان السعي في هذا الوقت في عصرنا مع وجود الشراب والمكيفات، ومع ذلك تحملت هاجر عليها السلام هذه المحنة لتكون منحة لنا جميعاً في الوقوف في هذه الأماكن، متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما فعلت بين الصفا والمروة، سعت بينهما هاجر عليها السلام، تبحث عن مخرج، فهي لا تستطيع أن ترى ابنها وهو يموت، حتى كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام والجهد الكامل، وبعد أن بذلت آخر الأسباب في النجاة، جاءت المنحة من عند الله تعالى.
سمعت هاجر صوتاً فقالت لنفسها: صه، أي: تسكت نفسها، ثم قالت تخاطب من لا تدري أين هو لكنها تسمع صوته: أغث إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك جبريل عليه السلام عند ابنها الذي يتلوى جوعاً وعطشاً ويوشك على الهلاك، فيضرب جبريل الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحاً عظيماً، ويدركها حرص الإنسان، فتقول لها: زم زم، وكانت لا تجد قطرة ماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل لو لم تقل لها: زم لكانت زمزم عيناً معيناً)، يعني: لو لم تجمع الماء ولو لم تجعل له حوضاً، لكانت زمزم عيناً ظاهرة ونهراً جارياً، فلا يحتاج إلى آلة رفع، لكن حرص الإنسان دائماً ينقص عطاؤه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء، ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له)، وبقي أبو ذر رضي الله عنه أربعين يوماً وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، قال: حتى سمنت وتكورت بطني.
أي: صار سميناً وصار هناك ثنايا في بطنه من السمنة بزمزم فقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها مباركة).
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.(54/6)
بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
عندما نبع ماء زمزم شربت أم إسماعيل من الماء ورضعت ابنها، وأتت قبيلة جرهم لتسكن بجوارهم؛ لأجل الماء الذي لم يكن موجوداً في هذا المكان، وكانت أم إسماعيل تحب الأنس فأنست بهم، واستجاب الله دعوة إبراهيم، ثم شب إسماعيل وتزوج منهم امرأة لم تكن تشكر نعمة الله عز وجل وتعرف قدرها، فأمره أبوه أن يطلقها وأن يستبدل غيرها خيراً منها.
ورزقه الله سبحانه وتعالى امرأةً أخرى راضية، فدعا إبراهيم لهم بالبركة في اللحم والماء.
ثم يأتي إبراهيم إلى إسماعيل ويقول: إن الله أمرني بأمر، قال: فافعل ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم، قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فبنيا بيت الله الحرام، وجعل إسماعيل ينقل الحجارة وإبراهيم يرفع البناء، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
أي: يبنيان لله بيتاً لعبادته وتوحيده ويخافان ألا يتقبل الله منهما، ولذلك دعوا بالقبول وردا علم نيتهما إلى الله، ودعاؤهما هو: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)).
فمن الذي يجزم لنفسه بالإخلاص بعد ذلك، فيجب على العبد أن يعمل الصالحات ويرجو القبول من الغفور الشكور سبحانه وتعالى بفضله وعطائه ومنته، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين.
وبني بيت الله الحرام، ونادى إبراهيم بالحج، وكانت هذه السنة الماضية في كل عام إلى يومنا هذا.(54/7)
مسائل في يوم عرفة وأيام التشريق
يشرع التكبير من فجر يوم عرفة بعد الصلوات المكتوبات إلى آخر أيام التشريق، يعني: أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو رابع أيام العيد، فيشرع التكبير إلى صلاة العصر، والظاهر أنه يشرع جماعة؛ لأن ابن عمر وأبا هريرة كانا يكبران في أيام العشر وفي أيام منى حتى ترتج منى تكبيراً.
وكان عمر يكبر فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيسمعهم أهل السوق فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيراً، وهذا لا يقع إلا من الاجتماع عليه، وقد جرت عادة المسلمين بالتكبير عقب الصلوات، فلا حجة لمن يقول: هي بدعة، وإنما هي سنة إن شاء الله تبارك وتعالى.
ويوم العيد وأيام التشريق كلها أيام أكل وشرب، ويجزئ ذبح الأضاحي في كل هذه الأيام، والأفضل أن تذبح يوم النحر؛ وذلك لأنه أعظم الأيام عند الله سبحانه وتعالى.
وهي أيام أكل وشرب، فيحرم صيام هذه الأيام بما فيها يوم الثالث عشر، فيوم الثالث عشر من ذي الحجة لا يشرع صيامه، بل يحرم صيامه، إلا لمن لم يجد هدياً من الحجاج، فيصوم أيام التشريق، وأما من سواه فيحرم الصيام، وإنما من أراد أن يصوم الأيام البيض فليصم الرابع عشر والخامس عشر، ويصوم أي يوم في الشهر بعد ذلك إن أراد.
وصوم يوم عرفة يكفر سنة ماضية وسنة باقية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لمن ليس بعرفة، ومن بعرفة يستحب له الفطر ليتقوى على الدعاء.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(54/8)
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
لقد أمرنا الله عز وجل بأوامر ونهانا بنواهٍ في معرض آيات سورة آل عمران، فمنها: الأمر بطاعة الله والرسول، والنهي عن أكل الربا، والنهي عن اقتراف الذنوب والمحرمات، والحث على المسارعة إلى طلب المغفرة والجنة، لكن أهل الجنة لهم صفات عليا لا يتصف بها أحد غيرهم، فلابد من البحث عنها والاتصاف بها حتى نكون من أهلها.(55/1)
الربا حرب لله ورسوله
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:130 - 138].
ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الآيات الكريمات -في أثناء سياق الكلام عن غزوة أحد- في ما يلزم أهل الإيمان حتى ينتصروا على أعدائهم من الانتصار على أنفسهم من داخلها، وترك ما حرم الله عز وجل عليهم، وإتيان ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم، وعلو هممهم وإرادتهم عن هذه الدنيا وزخارفها، والتي إذا ما وقع فيها الإنسان شغلته وانهزم من داخله، فانهزمت الطائفة المؤمنة أمام عدوها.
وهذا هو وجه الارتباط -والله أعلى وأعلم- بين هذه الآيات التي قد يبدو للبعض أنها ليست مرتبطة بسياق غزوة أحد وبين باقي الآيات.
فالربا حرب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتسنى لأمة ينتشر فيها الربا بأنواع كثيرة أن تنتصر على عدوها وهي تحارب الله، وقد آذنها الله بحرب منه سبحانه وتعالى؟! كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278 - 279].(55/2)
التقوى سبب للفلاح
ثم أمر سبحانه وتعالى بتقواه، والتي هي سبب الفلاح، فقال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) وليس هناك في العربية كلمة أجمع للخير في الدنيا والآخرة من كلمة (الفلاح).
وتقوى الله سبحانه وتعالى سبب لتحصيل الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).
والتقوى هي: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثوابه، وأن تجتنب معاصي الله على نور من الله تخاف عقابه.
ونلحظ من خلال هذا التعريف -الذي ذكره طلق بن حبيب أحد فضلاء التابعين رحمه الله تعالى- عمل الجوارح والقلب والعلم النافع الذي هو: (النور) أي: أن تقوى الله عز وجل: أن تعمل بالطاعة وتترك المعصية وأنت راج خائف، وأنت على نور من الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العلم النافع الذي في القلب، والذي يُبصَّر الإنسان بما حوله من حقائق، وليس مجرد علم اللسان، وإنما على نور من الله.(55/3)
التحذير من النار
ثم حذر سبحانه وتعالى من النار، فقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] وهذا جزء من تقواه سبحانه وتعالى، أي: أن تتقي ما يؤدي إلى دخول النار التي أعدها الله أصلاً للكافرين، وإن كان قد يدخلها بعض أهل التوحيد لذنوب اقترفوها، لكن هي أصلاً أعدت لتبقى ويبقى أهلها من الكفار.
فهذه الآيات قد تضمنت التحذير من النار والترغيب في الجنة، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) وهذا لكي يعرف المؤمن مدى تقواه لربه سبحانه وتعالى.
ثم ليعلم المسلم أن مفتاح هذا الخير والفلاح: أن يستحضر أمر الجنة والنار دائماً، وأن يستحضر مدى الخطر الذي ينتظره وينتظر البشرية كلها، إذا هو لم يتق الله سبحانه وتعالى، ولم يجعل لنفسه وقاية من سخط الله وعقابه.
وهذه الآية الكريمة مما استدل به أهل السنة والجماعة على أن النار والجنة مخلوقتان وموجودتان الآن، وأنهما قد أعدتا لأهلهما، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف من رآهم من أهل النار وأهل الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار، وقد أراهما الله عز وجل من شاء من خلقه من ملائكته ومن أرواح أنبيائه.(55/4)
الرد على المرجئة
قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] ليس فيه حجة للمرجئة الذين يقولون: لا يدخل النار مؤمن ولو عصى، لأن النار قد أعدت للكافرين ابتداء وأصلاً، فهم أهلها الأصليين، وأما المؤمنون فوجودهم في النار عارض، وليس وجوداً مستقراً مستمراً، وإنما أناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله عز وجل إماتة، ثم يخرجهم من النار سبحانه وتعالى ويحييهم.(55/5)
حصول الرحمة بطاعة الله ورسوله
قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] إن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كما يقال: إنها تؤدي إلى المفاسد والضنك، أو إلى الشقاء والتعاسة والمتاعب، وإنما هي من أسباب النصر والفلاح، ومن أسباب الرحمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132] وهذه الرحمة ذكرت مطلقة، فهي رحمة في الدنيا والآخرة، فيرحم الله سبحانه وتعالى من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل يتصور أن من أقبل على الله عز وجل وأطاعه، وأقبل على رسوله صلى الله عليه وسلم وأطاعه، أن يشقيه الله عز وجل؟ وهل يتصور ذلك من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى؟! أيها المؤمن! مهما حذرت من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين، وما سوف يترتب على ذلك من المتاعب والاضطهاد والأذى، ومن ضياع المصالح الدنيوية، فتأكد أن كل ذلك من خداع الشيطان، فإنك إنما أمرت بهذه الطاعة لترحم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وطاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، ولا يتصور غير ذلك كما أخبرنا ربنا عز وجل، فهو يبتلي عبده المؤمن ليرحمه، فإذا أصابه بما يؤلمه فإنما فعل ذلك لينعمه وليكرمه وليرفع درجته، وهو سبحانه وتعالى جعل الرحمة مرتبطة بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشقاء والضنك لمن أعرض عن ذكره وعن متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
فكل رحمة وصلت إلى العباد فمن أسبابها طاعة الله عز وجل، وإلا فالرحمة من الله سبحانه وتعالى أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن من أعظم أسبابها: الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، والشقاء الذي يصيبهم من أعظم أسبابه: معصية الله ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.(55/6)
المسارعة إلى مغفرة الله والجنة
ثم أمر الله عز وجل عباده بطلب الجنة، وهذا أمر لا بد أن نتنبه لأهميته، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا)) وليس فقط أن تطلب الجنة وتريدها، أو أن تدعو إليها فقط، وإنما تسارع: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وكما في الآية الأخرى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21].
فلا بد أن تستشعر بأنك في سباق، ولا بد أن تبذل كل ما عندك لكي تصل إلى الجنة، وليس فقط أن تطلبها بضعف، أو أن تطلبها وكأن الأمر قد برم لك، فأنت تسير سيراً متمهلاً لا يقلقك ولا يزعجك فوات وضياع هذا الذي تريد، لا، بل إنما ترجو طلب الخير وتخاف أن يفوتك، ولذا فأنت تسارع في الخير، وفي نفس الوقت تسابق غيرك.
وليست هذه المسابقة فقط بأن تنظر إلى من حولك من المطيعين، بل انظر إلى من حولك ممن سبقك، وهذه هي المنافسة عبر العصور التي يستحضرها أهل الإيمان الكمل.
فهذا موسى عليه السلام يبكي حينما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقه، فقال: (غلام أرسلته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث -وإن كان فيه مقال-: (للعابد في أيام الفتن أجر خمسين، قالوا: خمسون منا أو منهم؟ فقال: بل منكم).
فانظر إلى هذه المنافسة والمسابقة العجيبة! رغم أنهم لم يأتوا بعد، ومع ذلك فهم يريدون ألا يكون أحد أسبق إلى الخير منهم، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)).
وهذه المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة لابد أن تظهر في سلوك كل مسارع، فلا يترك خيراً يفوته أبداً، ولذا فسرها السلف رضوان الله عليهم بتفسيرات رائعة جميلة: قال أنس رضي الله تعالى عنه كما حكى القرطبي عنه في تفسير قوله: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: إلى تكبيرة الإحرام.
وقال غيره: إلى الجهاد، وقال آخر: إلى النفقة في سبيل الله، وكل منهم يذكر شيئاً ينبغي أن يسارع الإنسان فيه، ويذكرون ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فإن كل عمل من أعمال الخير لابد أن تسارع فيه وتسابق غيرك.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يمشي مع بعض الصحابة، فلا يلمح مسلماً آتياً إلا ابتدره بالسلام قبل أن يسبقه فيسلم عليه، ثم قال للصحابي الذي يمشي معه: ما لي أراك يسبقك الناس إلى الخير؟! فانظر إلى هذه المسابقة منه رضي الله عنه! وهو السابق من هذه الأمة، ومع ذلك يسابق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرص على أن يبتدر من يلقاه بالسلام قبل أن يبتدره الآخر، فهو يريد الحصول على الفضيلة.
فانظر إلى نفسك هل تجد في نفسك هذا الحرص، وأنت تلحظ هذه المسابقة والمسارعة في أمر يسير جداً يقع في حياة المسلم كل يوم مرات عديدة؟ إن المسابق والمسارع هو الذي يستشعر مدى خطر تعرضه لعقاب الله، وخطر فوات الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، فيسارع في كل خير ويبادر إليه، لذا فلا ينبغي أن نكون دائماً من المتأخرين عن حضور صلاة الجماعة حتى تفوتنا تكبيرة الإحرام، أو أن نصلي جماعة ثانية، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التبكير والتهجير، فقال: (لو يعلم الناس ما في التهجير والعتمة لأتوهما ولو حبواً).
والتهجير: أن يأتي في الهاجرة قبل الزوال ليحضر صلاة الظهر، والوقت الذي بين الأذان والإقامة من أوله، فانظر إلى هذا الخير العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ونسأل الله ألا يؤخرنا عن طاعته، لكن الإنسان صاحب الهمة العالية يسارع إلى مغفرة الله عز وجل، ويبحث عن كل حسنة يتقرب بها إلى الله، فيسارع إلى طلب العلم، ويسارع إلى النفقة في سبيل الله، ويسارع إلى الجهاد في سبيل الله، ويسارع إلى حضور الجماعة في أولها، ويسارع إلى الجمعة، ويسارع إلى كل أبواب الخير، ولا يرضى بأن يسبقه إلى الله عز وجل أحد.
فهذا أحد التابعين عندما رأى رؤية فقصها على أحد السلف -وأظنه مالك بن دينار - فقال: رأيت أن منادياً قد نادى: هلموا إلى الجنة، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار أو غيره عندما سمع هذه الرؤيا؛ خوفاً من أن يكون غيره قد سبقه إلى الله عز وجل، فهو يريد أن يكون هو السابق إلى الله.
والمسابقة والمسارعة تؤدي إلى مزيد من الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، فهي ليست كالمسابقة والمنافسة على الدنيا التي تؤدي إلى التباغض والحسد والضغينة، وإنما تؤدي إلى مزيد من الحب والود، كما كان حال أبي بكر وعمر وهما يتنافسان في طاعة الله عز وجل، ومع ذلك كان كل منهما شديد الحب لصاحبه.
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى الخير، ومع ذلك يزدادون حباً لبعضهم البعض، فإذا وجدت مسابقة ما أو مسارعة ما، ثم يعقبها نوع من الحسد والضغينة والبغضاء فتأكد أن الدنيا من وراء ذلك، وليست هي المسارعة إلى الآخرة؛ لأن المسارعة إلى الآخرة تزيد من الإيمان والحب في الله، ومعنى الحب: أنك تحب أخاك لأنه يطيع الله عز وجل، فإذا علمت أنه يسارع مثلك إلى طاعة الله، ويسابقك إلى طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ازددت له حباً؛ لأن الله جبل قلوب أهل الإيمان على محبة من يطيع الله عز وجل، كلما ازداد الإيمان ازداد الحب في الله، والإيمان يزداد بالطاعة فتزداد المحبة، وتقل المحبة لقلة المنافسة على الخير، وإن أخذ صورة في الظاهر أنه يسارع إلى الخير ولا يوجد من يسابقه، ولو كان كذلك لأدى إلى زيادة المحبة بإذن الله تبارك وتعالى.
لكن لماذا يقع التنافس المذموم؟ ولماذا يقع التحاسد والتباغض والتفرق؟ بسبب دخول الدنيا تحت ستار المسارعة إلى الخير، فلا بد أن ننظر في هذه المسألة جيداً، وننظر في همتنا، فإن الله لم يأمرنا فقط بطلب المغفرة بل أمرنا بالمسارعة إليها، ولم يأمرنا فقط بطلب الجنة بل بالمسارعة والمسابقة إليها، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133].
وانظر وتأمل في كيف كان حال أهل الإسلام في غزواتهم الكبرى التي أدت إلى حصول النصر العظيم؟! من المسابقة والمنافسة على الخير، فقد تنافس الناس بالأذان وتسابقوا فيه، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فخرجت القرعة لأحدهم فأذن، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو يعلم الناس ما في الأذان ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) وبالفعل لم يكن هناك وسيلة لتحديد من يؤذن إلا الاستهام، فأقرع بينهم سعد فخرجت قرعة أحدهم فأذن.
فلننظر في أحوالنا لماذا تأخرنا رغم أننا نؤدي ما ينبغي علينا أن نؤديه؟ أم لأننا فعلاً نسارع إلى أنواع من نعيم الدنيا ولذاتها ورغباتها، ونترك غيرنا يسبقنا إلى الله عز وجل، فننفق الأوقات الطوال في غير منفعة، وفي غير مسارعة إلى الجنة وإلى المغفرة من الله سبحانه وتعالى.(55/7)
صفات المتقين(55/8)
الإنفاق في السراء والضراء
ثم ذكر الله عز وجل جملة من الأعمال التي هي من صفات المتقين المسارعين إلى المغفرة وهي: قوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في السراء والضراء علامة على بذل الإنسان لنفسه وماله في سبيل الله، وعلامة على حبه الصادق لله عز وجل، وليس فقط يعبد الله على حال واحده، ويترك العبادة على الحال الآخر، بل إنه ينفق في كل الأحوال، ويعبد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة، فلا يحجزه حاجز عن التعبد لله سبحانه وتعالى، وليس هناك إطار محدد لا يستطيع أن يعبد الله خارجه، لا، بل هو يعبد الله بكل ما تيسر له من أنواع العبادة وعلى أي حال.
قوله: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في الضراء أعظم ثواباً عند الله من النفقة في السراء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها) فسبق الدرهم مائة ألف درهم، وذلك أنه أنفقه في الضراء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وبالفعل فقد تصدق بعض أصحابه رضي الله عنهم بشق تمرة، ولم يكن عندهم غيرها، وذلك لشدة حرصهم على الخير، وكان أصحاب الصفة رضي الله عنهم يحاملون على ظهورهم بالنهار، ثم يتصدقون ويكفون أنفسهم عن السؤال، ويقومون بالقرآن في الليل.
فلذلك سبقوا إلى الله سبحانه وتعالى هذا السبق العظيم، ولم يكن عندهم مسكن ولا أهل ولا مال، ومع ذلك كانوا يعملون حمالين، وتخيَّل إنساناً لا يجد عملاً إلا أن يحمل على ظهره، كأن يسقي الماء مثلاً، أو يحمل أثقال الناس على ظهره، وهو من قراء القرآن الذين يقومون بالليل، ثم يجهدون بالنهار لكي يتصدقوا وهم فقراء.
وهذه شربة لبن يصف أبو هريرة رضي الله عنه حاجته إليها، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أصحاب الصفة جميعاً ليشربوا من شربة لبن -سبعين أو ثمانين رجلاً- فشربوا جميعاً من شربة واحدة؛ لأنه لم يكن عندهم شيء، ومع ذلك يحرصون على الصدقة.
وقد جاء بعض الصحابة بصاع من شعير ليتصدق به، فكانوا يجتهدون في النفقة في سبيل الله على كل حال، فلا ينفقون في السراء دون الضراء، وإنما ينفقون في السراء والضراء، وأقل من ذلك من ينفق في السراء، ويمسك في الضراء، وأسوأ الأحوال من يمسك في السراء والضراء والعياذ بالله! وذلك أنه في الضراء في هم الفقر والحاجة، وفي السراء في بخل الغنى والحرص على المزيد، وأكثر الناس كذلك، أكثر الناس كما وصف الله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، فلابد أن يعود الإنسان نفسه على النفقة، وأن ينفق ولو شيئاً يسيراً.
وقد كان بعض السلف يتصدق بأي شيء كل يوم، ولو لم يجد إلا بصله، فكان يجعلها في كمه ويقول: يا الله! لم أجد غيرها، فيأتي فيجعلها في كف المسكين، وما أيسر أن يتصدق الإنسان بهذا الشيء، ولكن الشيء العظيم أن يعود الإنسان نفسه على البذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) أي: يفرغ من إنائه الذي هو ملآن شيئاً يسيراً، لكنه شيء يؤدي إلى الحب والود، ويعود الإنسان على البذل والعطاء، ويؤكد صدق حبه لله عز وجل، فهذه سلوكيات مهمة جداً لا بد أن نهتم بها ونسعى إليها.
وفي الحقيقة أن النفقة في سبيل الله تحرر الإنسان من أسر الناس، وتحرره من شح النفس، وتعبده لله وحده لا شريك له، وترفعه فوق روابط الأرض وجاذبيتها التي تمنع روحه من الانطلاق، فإذا تصدقت وأنفقت وكنت محتاجاً فهذه أفضل الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل: من ليس معه مال ومع ذلك يبذل جهده في أن ينفق في سبيل الله.(55/9)
كظم الغيظ
سلوك آخر: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) فليس الجود بالمال فقط، بل بالسلوك والمعاملة، وكظم الغيظ أن تكظم غيظك ولا تنفذه فيمن تقدر على إنفاذه فيه ممن جعلك الله فوقهم منزلة أو سلطاناً، وليس الحلم أن تحلم مع الأقوياء، وأن تحلم مع من هو فوقك وتتأدب معه بأنواع الأدب، وأن تسيء الخلق وتتكبر وتستعلي على من هم تحتك، فهذا والعياذ بالله من أسوأ الأخلاق، بأن يكون الإنسان ضعيفاً مع القوي، ومتقوياً مع الضعفاء، وإنما كظم الغيظ: أن تكون قادراً على إنفاذه فتكظمه لله سبحانه وتعالى، وهذه سلوكيات مهمة لو تمسكنا بها لانحلت عنا معظم المشكلات في داخل البيوت وخارجها، وفي المعاملات المادية والاجتماعية وغيرها؛ لأن أكثر الناس إذا ركبهم الغيظ تسلط عليهم الشيطان، وتحكم فيهم أعظم التحكمات، ولذا لو نظرت إلى حال الناس في نزاعاتهم وصراعاتهم لوجدت أنواع البلايا والمصائب تخرج من أفواههم وأيديهم بسبب الغيظ والغضب، ولوجدت سفك الدماء، وقطع الأرحام، وأنواع السباب والفسوق والعصيان، وأحياناً قد تجد كفراً والعياذ بالله! -يغيظه غيره فيسب الدين- وقذف الآباء والأمهات، وسل السلاح على إخوانه المسلمين.
ومن ينظر في وسط المجتمعات الإسلامية يرى العجب مما يفعله الغضب والغيظ في أصحابه، وما يؤدي إلى المفاسد العظيمة التي تدمر المجتمع، وليس مجتمع الملتزمين بخال من ذلك، بل ما أكثر ما يقع -كما ذكرت- داخل المنازل من الخلافات الزوجية، وهذا أمر لا بد أن يكظم الإنسان فيه غيظه، فالأهل أولى الناس بحسن الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فليس كل خطأ تراه في البيت يفجر عندك بركان الغضب والغيظ، بل لا بد أن تكظم غيظك، وكذا الأولاد والمربون، فلو استعملنا الحلم لزال عنا كثيراً من المنازعات والخصومات، وما يترتب على هذه الخصومات من ضياع هائل للأوقات، ومفاسد عظيمة تجر إلى غليان القلب -على الأقل- بأنواع الإرادات الفاسدة والعياذ بالله! قوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) دخل عيينة بن حصن -وكان من المؤلفة قلوبهم- على عمر رضي الله عنه، وكان الحر بن قيس ابن أخيه من القراء، ومن أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، وبراً بعمه استأذن له الحر بن قيس رضي الله تعالى عنهم، فأذن له، فدخل عليه عيينة فقال: هيه يا ابن الخطاب! والله ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل والعياذ بالله! فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا من الجاهلين، فما تجاوزها عمر رضي الله تعالى عنه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
فتأمل هذا الغيظ الذي كظمه عمر وعفا عنه ولم يؤدبه! وقارن بين هذا الموقف وبين موقف أي شخص من كبراء أهل زماننا، ومن له سلطان على غيره دون سلطان أمير المؤمنين، أو دون سلطان رئيس الدولة بمراحل، وهل كان سيسمح بمثل هذا أو يعفو عمن فعل ذلك؟! ويكظم عمر غيظه في هذا المقام أمام الناس، وابن عيينة يقول له: هيه يا ابن الخطاب! فيقول لنفسه: يا ابن الخطاب! تصغيراً لـ عمر، وأمير المؤمنين لا يخاطب بهذا، ومن يحكم بالعدل إن لم يحكم به عمر رضي الله تعالى عنه؟! ومن يعطي بالجزل إن لم يعط عمر وقد فتحت الفتوحات العظيمة في زمنه؟! فهذا الأمر: كظم الغيظ والعفو عن الناس من صفات أهل الإيمان العظيمة التي يسهل بسببها التعامل معهم، ويقترب منهم الناس، وتفتح لهم قلوب الخلق، فيدخل فيها الإيمان بإذن الله تبارك وتعالى من خلال هذا السلوك الرائع، العفو عن الناس، ومن عفا عفا الله عز وجل عنه، كما قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].(55/10)
الإحسان إلى الخلق
قال تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذه زيادة، وذلك أنه إذا كظم الإنسان غيظه، فربما كظمه في وقتٍ وأجل الانتقام لوقت آخر، فأتى بـ ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) فهو لا يكظمه الآن لينتقم غداً، وإنما يعفو، وليس فقط يعفو، بل ويحسن إلى من أساء إليه، فهو يعفو ويصفح ويزيد، وهذا كله من الإحسان الذي جعل الله جزاءه الإحسان، وكل هذا منبعه من كمال العبودية لله عز وجل.
إن الأخلاق الإنسانية مرآة عقيدة القلب، والأخلاق السوية التي أمر الله عز وجل أن نتعامل بها فيما بيننا مرآة تكميل عبوديتنا لله حتى كأننا نراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا هو الإحسان الذي يملأ القلب غنىً بالله عز وجل، ومع ذلك فإن القلب مفتقر فقراً شديداً إلى عبودية الله عز وجل، وإلى الحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والشكر، والصبر، وسائر أنواع العبودية، فإذا عبد الله كأنه يراه اكتملت في القلب أو زادت واقتربت من الكمال أنواع العبودية، فحصل غنىً لهذا القلب؛ لأن طاقة القلب هي العبودية التي لا يسدها أي شيء آخر، إلا أن يكمل عبوديته لله، فكلما ازداد عبودية لله عز وجل واستحضاراً لعظمة الله عز وجل في قلبه ازداد قلبه غنىً، وعند ذلك سهل عليه أن يتعامل بهذا الإحسان، بأن يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه.
فهذه هي الأخلاق العظيمة التي لا بد أن يتخلق بها المؤمن عموماً، والداعي إلى الله عز وجل خصوصاً، قال تعالى: ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهذا من أعظم الترغيب في الإحسان إلى خلق الله، وهو ثمرة الإحسان في عبادة الله عز وجل؛ لأن الغني يسهل عليه أن يسامح في حقه، بل ويبذل ويجود، ويعطي إلى من أساء إليه؛ لأنه غني.
وهذا مثل رجل مليونير حصلت بينه وبين الناس مشاجرة على ربع جنيه، فالناس يريدون أخذه منه وهو ملكه، فماذا يعمل؟ يتركه لهم، لأنه عيب أن يتضارب مع الناس من أجل ربع جنيه.
وهكذا هو حقك الدنيوي، فلو كنت غنياً بالله عز وجل لسهل عليك أن تتنازل عنه، ولا تقل: فلان قصر في حقي، بل أنت لا ترى لنفسك حقاً على الناس أصلاً، لأنهم لو أحسنوا إليك فذلك كرم منهم، وفي الحقيقة إنما يحصل ذلك لمن انشغل بما هو أعلى من ذلك، وإنما يذهل عن التفكير في الحجر والخشبة من انشغل بنظره وقلبه بملك الجوهرة، أما من امتلأ قلبه بحب الله عز وجل هان عليه كل ما يقصر في حقه، بل هو لا يرى لنفسه حقاً، ولا يخاطب إلا في حق الله عز وجل.
وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فأعظم ترغيب في خصلة الإسلام هو قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) فالمؤمن يبحث عما يحبه الله عز وجل، وهذا هو الذي يجعل قلبه يرتجف توقاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتوقاً إلى حبه، وهذا هو الذي يدفع المؤمن أعظم من طلبه الجنة، فهو يطلب أن يحبه الله سبحانه وتعالى أعظم من أي شيء، قال تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).(55/11)
محاسبة النفس والاستغفار
ثم صفة أخرى من صفات أهل الإيمان، وهي: محاسبة النفس، والاستغفار، والمراجعة، وعدم إهمال النفس على ما فيها من أمراض.
إن المعاصي والذنوب والفواحش إنما هي دلالات على انحراف في داخل الإنسان أدى إلى ظهور خلل في العمل؛ لأن هناك تلازماً وارتباطاً مثيلاً بين الظاهر والباطن.
ولذلك فالمؤمن دائماً يفتش في نفسه، ويبحث عن أمراضه، ولا يسير في هذه الدنيا تائهاً لا يدري فيما عقل، ولا يدري فيما أطلق، بل دائماً يحاسب نفسه، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ)) فالذكر يؤدي إلى مراجعة النفس في الفواحش، وإلى مراجعة النفس في ظلمها لنفسها، وفي ظلم العبد لنفسه، قال تعالى: ((ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)) وإذا كانت الصلاة ذكراً لله فإنها تذهب السيئات، فلماذا لا تثمر هذه الصلاة عند أكثرنا إن لم يكن عندنا جميعاً هذا الأثر؟! لأنها خلت من ذكر الله، والذكر هو: حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، وليس تحريك اللسان فقط، لذلك فذكر الله عز وجل يؤدي إلى توبة الإنسان الدائمة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)).
فلا بد أن تراجع نفسك وتحاسبها، وتفتش عن أمراضها وتبادر بعلاجها، ولا تترك الأمراض تستشري فتقع في أنواع المفاسد والبلايا وتسلط العدو، لأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه المعاني وبين الهزيمة من الأعداء، لذا كانت هذه الآيات في أثناء سياق غزوة أحد، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه لهذا المعنى، وهذه الصفات والمعاني عندما توجد فينا عندها ننتصر على عدونا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهو يعلم صفات ربه عز وجل، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه وتعالى، وأنه يأخذ بالذنب؛ وهذا يدفعه إلى الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والاستغفار إذا أطلق فالمقصود به المقترن بالتوبة؛ لأن الاستغفار بغير توبة ناقص، وإذا وجد استغفار باللسان مع استهتار القلب بالذنب فهذا ذنب يضاف إلى ذنبه، كما قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
وقال بعضهم: المستغفر وهو مصر على ذنبه كالمستهزئ بربه.
وهذا كمثل إنسان تقول له: اتق الله ودع هذا الفعل المحرم، فيتناوله ويقول لك: سوف نستغفر الله، فهو يرى أنه قد أدى حق الله عليه وزيادة؛ لأنه قال: سوف أستغفر الله، وهذا حال الجاهل الذي يمن بالقبيح والناقص، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] فهو إسلام ظاهر بلا إيمان باطن ويمنون به! وأهل الإيمان الكمل يعرفون كيف يشكرون نعمة الله، ولا يمنون بها أبداً، لكن هذا حال الجاهل الضال، إما لزوال الإيمان أو لنقصه في قلبه، فيرى أنه لو استغفر الله فقد أدى ما عليه وزيادة، ولذلك هذا الاستغفار يحتاج إلى استغفار، لأنه كالمستهزئ بربه عز وجل.
وكثير منهم يستغفر أثناء ممارسة الذنب، لا على سبيل طلب المغفرة بل على سبيل السخرية ممن يأمره بالاستغفار، فهذا بلا شك استهزاء والعياذ بالله! أما أهل الإيمان فهم يستغفرون الله عز وجل لذنوبهم، مع اقتران ذلك الاستغفار بالتوبة إلى الله عز وجل، ولذا ذكر كل واحد منهما كما في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:90] فالاستغفار لما مضى، والتوبة للعزم والثبات على الطاعة في المستقبل، وعلى ترك المعصية في المستقبل، أو قد يقال: إن التوبة عمل القلب، والاستغفار عمل اللسان، فالاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: الوقاية من أثر الذنب، فيطلب أن يستره الله فلا يفضحه، ومن ستره الله عز وجل في الدنيا ولم يفضحه فذلك من علامات إرادة الله بالعبد خيراً في الآخرة، وأن يغفر له ذنوبه.
وهذه الآية فيها ذكر عدم الإصرار، فدل على أن هذا مصطلح شرعي قرآني، فلابد من العزم على ألا يعود إلى الذنب، والله قد نفى عن المؤمنين الإصرار.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا القول عليه أكثر أهل العلم، فالإصرار على الصغيرة يلحقها بالكبيرة؛ لأن الله وصف أهل الإيمان بأنهم لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
والإصرار غير الاستحلال والإباء والتكرار، فكثير من الناس تختلط عليه هذه المصطلحات، لأن بعضها مصطلحات وردت في الكتاب والسنة، وبعضها مصطلحات استعملها أهل العلم كالاستحلال مثلاً، فالاستحلال لفظ استعمله أهل العلم استنباطاً من الكتاب والسنة، وهو: اعتقاد العبد حل الذنب مع بلوغه الحجة، وهذا الاستحلال -حتى ولو لم يفعل الإنسان ذنباً مكفراً- يجعل العبد يخرج من الملة، فإذا استحل ما قامت عليه به الحجة بأن الله حرمه، أو استحل ترك ما بلغته الحجة أن الله أوجبه، فهذا والعياذ بالله كفر.
والإباء مصطلح شرعي، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] وهو: رد الحق ورفض الانقياد القلبي له والعياذ بالله! فهو يرده ولا يقبله، ولا يخضع لأمر الله عز وجل، فهو قد علم أمر الله ولكنه لا يقبل أن ينقاد له، فهو ليس عنده قبول وانقياد باطن، وهذا مثله كمثل إبليس الذي قد علم أن الله أمره بالسجود لآدم، كما في قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، فهو يعلم أن الله قد كرم آدم عليه، وأمره بالسجود له، ومع ذلك {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، فرفض شرع الله وأمره، وما أكثر من يرى أن أمر الله لا يلزمه حتى ولو علمه! فالإباء يكون مع علم القلب، والاستحلال يكون مع زوال علم القلب، أي: أنه لا يصدق أن الله حرم كذا، أو أوجب كذا، مع قيام الحجة عليه، وإعراضه كان هو سبب استحلاله للحرام، أو استحلاله لترك الواجب الذي قد بلغته حجة وجوبه، فهذا يزول معه علم القلب وتصديقه بأن الله أوجب كذا أو حرم كذا، أما الإباء فيكون معه علم بأن الله عز وجل أوجب، وأن الله عز وجل حرم، ثم يرى أن أمر الله لا يلزمه نعوذ بالله من ذلك، كإبليس وغيره من الرافضين لشرع الله سبحانه وتعالى، الآبين المستكبرين، والاستحلال والإباء كفر والعياذ بالله.
أما الإصرار فليس بكفر إذا لم يكن الذنب مكفراً، فهو ليس له علاقة بالكفر ابتداءً، لكن يزيد في العقوبة، وليس هو الذي يجعل الذنب مكفراً، والإصرار معناه: العزم على ألا يتوب، وهذا الإصرار يعرفه الإنسان من نفسه أولاً، بأن يعزم أن يرجع إلى الذنب متى ما قدر عليه حتى ولو كان لا يباشره الآن، بل ربما لم يفعله من قبل، ولكنه عازم عليه، فهو كالحريص على قتل صاحبه، فهو في النار عقوبة له على عزمه الأكيد، وأخذه بالأسباب التي يقدر عليها في قتل أخيه، ولذلك يعاقب معاقبة القاتل وكأنه قتل، وإن كان ربما أقل منه في الدرجة، إلا أنه معه في النار والعياذ بالله، وكأصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون، فهذا إصرار على معصية؛ لأنه عزم عزماً أكيداً، ولا يحدث نفسه بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل.
والإصرار يجعل المصر الذي تقول له: تب إلى الله، فيقول: أنا لا أستطيع أن أمتنع عن الذنب، وسوف أظل على هذا الذنب، وأنا عاجز عن التخلص منه، وهو ليس بعاجز، فهو قادر على أن يتوب ويقلع عما هو فيه؛ لأنه مكلف به، أو يقول: لن أتوب الآن، وحتى ولو قال: إلى أن أموت، فهذا ليس بكافر، خلافاً لأهل البدع الذين قالوا: من عزم في قلبه على أن يظل مصراً على الذنب إلى أن يموت فهو كافر والعياذ بالله، ومخلد في النار، وهذه من ضلالات المعتزلة والخوارج وأشباههم ممن سار على طريقتهم.
وقد يكون إصراره مع تكرار الذنب، وقد يكون مع عدم تكراره، فالذي يعزم أن يعود إلى الذنب فإنه مهما أمكنه ذلك ولو كان الآن مقلعاً عنه فهو مصر.
ومن تكرر منه الذنب وهو عازم على أن يعود فهو مصر، لكن إن تكرر منه الذنب وهو يتوب بين الذنب والآخر، فهذا متكرر منه الذنب، فهذا ليس بمصر طالما أنه يجدد التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
والدليل على عدم تكفير المصر على المعصية ولو كانت كبيرة إلا أن تكون كفراً قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فعلَّق المغفرة فيما دون الشرك على المشيئة.
ولو كان الأمر متعلقاً بالإصرار وعدم التوبة لما كان التائب من الشرك مغفوراً له، لو قلنا: إن معنى الآية ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) أي: لمن تاب، ولكان معنى الآية: إن الشرك لا يغفر نهائياً ولو تاب؛ لأنه قسم إلى: شرك وما دون ذلك، إذاً: الشرك لا يغفر، وما دون ذلك يغفر الله لمن يشاء.
وعلى هذا فالتعليق على المشيئة في قوله: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) هل هي في التائب أو في غير التائب؟ في غير التائب، والآية نص في الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون المصر على السيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وبين المبتدعة من الخوارج والمعتزلة، إذ أن الخلاف ليس فقط في ارتكاب الذنب، وإنما الخلاف والنزاع فيمن مات مصراً، وإلا فإن الخوارج يقولون: إن التائب من الذنب والكبيرة مسلم وقد يغفر له، والمعتزلة يقولون ذلك، فلا أحد يشك في التائب، وإنما المنازعة فيمن مات مصراً، ولذلك فإن هناك فرقاًَ بين الإصرار وبين الاستحلال؛ لأن البعض يحصل عنده خلط في ذلك، فيرى أن الذي تقول له: تب إلى الله، ويقول لك: لا، لن أتوب الآن، فأنا لا أقدر على ترك الذنب، وأنا مستمر على ما أنا عليه، ودعك مني أجعلت علي رقيباً؟! فيتجرأ ليكفره فيقع في الضلال، الذي هو شر من ضلال الإصرار على الذنب، فإن البدعة شر والعياذ(55/12)
أهمية العمل الصالح
قوله عز وجل: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] فيها دليل على أهمية العمل وأنه من الإيمان، وأنه سبحانه وتعالى، يرفع منازل العباد في الجنة بأعمالهم، قال تعالى: ((وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)).
قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ)) أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين.
ولهذا قال تعالى: ((فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)).
ثم قال تعالى: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ)) أي: أن القرآن فيه بيان الأمور وتجليتها، وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم.
قوله تعالى: ((وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ)) أي: أن القرآن فيه خبر من قبلكم، وهدى لقلوبكم.
قوله: ((وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)) أي: زاجر عن المحارم والمآثم.(55/13)
تسلية الله للمؤمنين في الآيات
ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين: ((وَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون.
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتلت منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم مثل ذلك كما حصل يوم بدر، فقد قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون.
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي: نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة.
ولهذا قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140] قال ابن عباس: (ليعلم) أي: لنرى وليبين أنه ليس علماً مستأنفاً جديداً لم يكن معلوماً من قبل، بل هذا علم مشاهدة بعد أن كان علم غيب، والله عالم الغيب والشهادة، يعلم ما في غد، فإذا وقع وشهده سبحانه وتعالى واقعاً علمه واقعاً، لهذا قال ابن عباس في مثل هذه الآيات: لنرى من يصبر على منازلة الأعداء.
قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] أي: يقتلون في سبيلي، ويبذلون مهجهم في مرضاتي.
قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140 - 141] أي: يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما هو فيهم.
قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] أي: إنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، نسأل الله أن يمحق الكافرين.
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
فلهذا قال هاهنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيلي، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143] أي: قد كنتم أيها المؤمنون! قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليهم، وتودون أن لو تنالوا منهم، فقد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا واصبروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
فلهذا قال تعالى: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: الموت، وشاهدتموه وقت لمعان السيوف، وحد الأسنة، واختلاس الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، يتخيل الموت أمامه! وهو: مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكلب وعداوة الذئب، أي: تحس بها وتدركها بهذا النوع من التخييل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/14)
وقفات مع قصة يوسف عليه السلام
إن قصة يوسف عليه السلام من أعظم القصص التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، وفيها عظات وعبر عظيمة للشباب الذي تواجهه اليوم كثير من أسباب الانحرافات والفتن، وقد واجه نبي الله يوسف الفتن في حالتي السراء والضراء، ولكنه اجتاز هذه الفتن بفضل الله ولجوئه إليه؛ فرفعه الله في الدنيا والآخرة، واصطفاه وجعله ممن يقتدى بهداه.(56/1)
برهان الله الذي رآه يوسف عليه السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال الله عز وجل في قصة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] أي: رأى علامة على لزوم ترك هذا الأمر، وقد قيلت أقوال كثيرة في بيان هذا البرهان، وكلها لا دليل عليها، والصحيح: أن نطلق البرهان كما أطلقه القرآن.
فقد قيل: رأى آيات من القرآن مكتوبة على الجدار، ولعلها معاني بعض آيات القرآن مما كان موجوداً في الكتب السابقة.
وقيل: إنه رأى يعقوب عاضاً على إصبعه.
وقيل إنه قرأ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32].
والظاهر -والله أعلم- أنه رأى علامة بينة -يعني أراه الله عز وجل برهاناً ربه من عنده عز وجل، ولم يكن البرهان ظاهراً لمن عنده، وليس المراد بربه هنا العزيز، بل الله سبحانه، أي: رأى دليلاً وعلامة من عند الله عز وجل.(56/2)
سجن الظالمين أهون من سجن الهوى
ثم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} [يوسف:35] ليس للنساء فقط بل للكل، للنساء وأزواجهن والملأ، {بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} [يوسف:35] أي: علموا براءة يوسف عندما رأوا قميصه قد من دبر، وعرفوا تماماً أنه بريء، ومع ذلك رأوا أن إسكات القضية تكون بسجن يوسف، وذلك حفاظاً على سمعة امرأة العزيز، وقد أقنعتهم بكيدها ومكرها أن يسجن يوسف حتى تنفذ تهديدها له، بقولها: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، ويوسف عليه السلام لو استجاب لها لكان في سجن الهوى وهو أشد، ولصار من الصاغرين فعلاً، ولو استجاب لها لصار هناك طابور طويل ينتظر الدور، وليست امرأة العزيز وحدها، وإنما كما قال عز وجل عنه: ((وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ)) يعني: أن البداية ستكون مع امرأة العزيز ثم مع هؤلاء النسوة، وستكون صورة فظيعة غير محتملة لو فعل، لكن الله عز وجل ثبته، فنسأل الله أن يثبتنا! وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] أي: أعظمنه، وهبنه في قلوبهن، فله هالة عجيبة، وهكذا المؤمن الصادق عندما يراه الكفرة صامداً يكون له عندهم قدر من التعظيم.
وكما قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] فقد كانوا يقولون عنه: أمين، فـ أبو سفيان مع كل العداوة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سأله هرقل: هل جربتم عليه كذباً؟ قال: لا.
يعني: أنهم يشعرون بعظم منزلته ومكانته.
فالنساء أكبرن يوسف وأعظمنه، فله هيبة وجلال، ولما رآه الملك قال: ((إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)) ومعنى مكين: أي: ذو مكانة، وأمين أي: مستأمن.(56/3)
كذب إخوة يوسف
ثم قال تعالى عن إخوة يوسف: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] وهذا كذب عليه، وهم كذابون في هذه القضية، فسيدنا يوسف لم يسرق قبل ذلك، وفي الأخبار الإسرائيلية قالوا: إنه سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره وهو صغير، وقالوا: اتهمته عمته أخت إسحاق -وقد كانت تحبه حباً عظيماً- بسرقة منطقة إسحاق حتى تأخذه لديها، وكانت تحتضنه ولا تريد أن يرجع إلى يعقوب، وهذان الاحتمالان ضعيفان؛ لأنه لا يجوز أن نتهم صهر سيدنا يعقوب بأنه كان يعبد الأصنام.
وأيضاً: فإن عمته بنت نبي وأخت نبي وعمة نبي، فلا يمكن أن نتهمها بالكذب، فتقول: إن يوسف هو الذي سرق المنطقة؛ لكي تأخذه من أبيه، وقد كان في شريعتهم: أن من سرق شيئاً دفع إلى المسروق منه، فقالوا: كانت تريد أن تأخذ يوسف لتحتضنه، فحيلة منها أتت بمنطقة إسحاق التي عندها فلفتها على وسطه لكي تأخذه، ففتشوا من الذي أخذها فوجدوها على يوسف فأخذته إلى أن ماتت.
وهذه الأخبار الإسرائيلية هي أولى بالرد من القبول؛ لأن هذه تهمة لابنة نبي وأخت نبي وعمة نبي، فلا يجوز ذلك عليها، والصواب: أنهم كذبوا في اتهامه بالسرقة كما كذبوا من قبل في قولهم: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:17 - 18]، وبسبب الحقد العظيم الذي في قلوبهم كذبوا عليه بعد سنين كثيرة، وما تخلصوا من الحقد إلا لما انكسروا، وأول كلمة ندم بدأت تظهر منهم هي قول كبيرهم: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:80] وهذا هو أول شعور بالتفريط بعد سنين كثيرة، لكن إلى اللحظة الأخيرة كان لا يزال عندهم حقد على يوسف، وتشفوا بأخيهم الثاني، وحتى لو كان فعلاً قد حصل هذا من يوسف فما كان ينبغي لهم أن يظهروا هذا الأمر لعزيز مصر، وهو رجل غريب أجنبي، وكأنهم أرادوا بقولهم ذلك: أن السرقة عريقة فينا، وبعد هذا قالوا: ((فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ)) وهذا شيء عجيب جداً!! فالحقد يعمل في الإنسان أشياء سيئة جداً، فكيف يقولون: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77]؟! هذا هو الحقد الدفين.(56/4)
كرم يوسف عليه السلام
انظر إلى كرم سيدنا يوسف عليه السلام حيث سمع منهم كلمة تسيء إليه وهو قادر أن يعمل فيهم ما يشاء، ولكنه أسرها في نفسه ولم يعمل معهم شيئاً! ومن أول الوقت الذي رآهم فيه كان يستطيع أن يأمر بسجنهم فيسجنوا، أو بضربهم فيضربوا، بل لو أمر بقتلهم لقتلوا، ومع ذلك لم يعمل شيئاً من هذا، وغاية ما كان منه أنه قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89]، فكل ما عمل بهم أنه عاتبهم بهذه الكلمة فقط، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم).
والله! إن هذا شرف عظيم، وهو أن يكون أكرم الناس نسباً عليه السلام، وأنه تربى في بيت النبوة، وكرم يوسف عليه الصلاة والسلام تجده من أول كلمة في القصة، وفي أدبه مع أبيه، فانظر وقارن بين أدب يوسف وإخوته؛ لأن بعض الناس يقولون: إن يعقوب عليه السلام فاضل بين أولاده، ولأجل ذلك وقع منهم ما وقع، وهذه كلمة خاطئة؛ فسيدنا يعقوب ما فاضل المفاضلة المذمومة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أولادكم) أي: في العطاء، فواجب الأب والأم عندما يعطيان الأولاد أن يعدلا في العطاء المادي، أما في الحب فهذا مبني على الصفات، فمن أدب يوسف أنه قال: يا أبت! فهذا أدب عظيم، فكلمة (أبت) فيها الأدب والاحترام والرقة، والكسرة التي في التاء في كلمة (أبت) فيها انكسار وخضوع، يقول الله جل وعلا: ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ))، فالمسألة فيها خضوع، و (يا أبت) تختلف عن (يا أبي) مع أن (أبي) كلمة جميلة، لكن أبت فيها رقة أكثر، فكان بين يوسف أبيه ود واحترام عظيم، وفي نفس الوقت إخوة يوسف يقولون عن أبيهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ففيها سوء أدبهم مع أبيهم، وهو نبي الله، وهم لا يُعذرون بالجهل، فاتهموا أباهم وهو نبي ابن نبي ابن نبي بأنه في ضلال مبين، وهم يعرفون ما يجوز إطلاقه على الأنبياء وما لا يجوز، وقالوا مرة أخرى: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] ويحلفون جازمين بذلك، فانظر إلى هذه الكلمات الفظيعة والعياذ بالله! فمقياس التفضيل هو: الصفات الطيبة، كالتعليم والكرم والإحسان، فسيدنا يوسف أي إنسان يراه يهابه ويقدره، فالملك لما كلمه {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54] وهو في تلك الرفعة.
وصاحبه في السجن يقول: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46]، وصاحباه في السجن بمجرد ما دخلا السجن قالا له: ((إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)).
وإخوته وهم لا يعرفونه قالوا له: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78]، فسيدنا يوسف كرمه بائن جداً، فهو كريم فعلاً، والكرم هذا قد ظهر منه ظهوراً بيناً، فصفات النجابة ظاهرة عليه؛ ولذلك أحبه يعقوب، عندما تقرأ القصة ستحب يوسف وتبغض إخوته قطعاً، فتخيل ما مدى حب أبيه له! فعندما استأذنوه أن يخرج معهم {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف:13]، فيشق عليه مفارقته مدة قصيرة من النهار، ولكن لحاجته إلى اللعب أذن لهم؛ لأنه محتاج أن يرتع ويلعب، ولكن كان حزيناً عليه في هذه المدة، ثم يأتيه الخبر أنه: أكله الذئب، يعني: لن تراه بعد الآن، فبقي عدة سنين وهو متألم لفقد يوسف عليه السلام، فحبه ما زال في قلبه.
وانظر خداع إخوة يوسف حين قالوا: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف:9]، والأمر بالعكس، فعندما يؤذوا يوسف لن يخلوا لهم وجه أبيهم، وإنما سيزداد حباً له وبغضاً لهم، وهكذا الشيطان يزين المنكر، ويصور للعاصي أنه سيحصل على أعظم المكاسب، ولكن الحقيقة على العكس، مثل إخوة يوسف، فلم يخل لهم وجه أبيهم، بل ظل يعقوب على حبه ليوسف رغم أنوفهم.
ثم شمَّ ريحة يوسف عليه السلام على مسافة مئات الكيلومترات؛ لأنهم خرجوا من مصر وهو في فلسطين، قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف:94] فبمجرد خروج العير من مصر وانفصالها منها؛ شم رائحة يوسف، فجاءوا بقميصه وبخبر الفرج، فلما شم ريحة يوسف رد الله له بها بصره.
فحب يعقوب عليه السلام ليوسف كان له ما يبرره قطعاً بلا شك، فهو الذي نشأه ورباه وعلمه، وهو يعلم أن الله سيصطفيه، ويعلم أن الله سيجعله نبياً، فيعقوب عليه السلام وضع الأشياء في مواضعها، وأحب يوسف؛ لأنه ينبغي أن يحب، ولم يحب إخوته مثله؛ لكونهم ليس فيهم الصفات التي في يوسف عليه السلام، بل اجتمعت فيهم خصال المنافقين، كما في الحديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان) فاكتملت هذه الصفات فيهم، وهذه القصة من ضمن الأدلة على أن النفاق أكبر وأصغر؛ لأن هؤلاء اجتمعت فيهم هذه الصفات ولم يكفروا.(56/5)
معنى قولهم: (هذه بضاعتنا ردت إلينا)
وقوله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] يعني: ما نريد بعد هذا؟! فبضاعتنا ردت إلينا من رجل يكرمنا كرماً بالغاً، فهم يتوسلون إليه بإحسان عزيز مصر أي: هو رجل محسن قد أحسن إلينا وضيفنا، وفي نفس الوقت رد إلينا البضاعة، يعني: أعطانا المتاع من غير ثمن، إذاً: فهو يريد أن يحسن إلينا حتى نزداد إحساناً، {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65]، وهذا البعير ينفعنا كثيراً.(56/6)
أم يوسف
أم يوسف عليه السلام مذكورة في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف:99]، وعندما ذكر أنه رأى الشمس والقمر والكواكب ساجدين له، كان تأويل الرؤيا أن الشمس أبوه، والقمر أمه، ولم تذكر القصة تفاصيل خبر أمه مثل أبيه؛ لأن دور سيدنا يعقوب في تربية يوسف عليه السلام وتوجيهه أعظم بكثير.(56/7)
نسخ جواز سجود التكريم في الإسلام
سجود يعقوب وأم يوسف وإخوته له هو سجود تكريم، وقد كان ذلك مشروعاً في الشرائع السابقة بلاشك، وآدم عليه السلام سجدت له الملائكة سجود تكريم وهو عبادة لله، فسجود التكريم كان مشروعاً في الأمم السابقة، ونسخ في الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ولكن لم يكن ليفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.(56/8)
اهتمام القرآن بالعبر والمعاني العظيمة في القصص دون التفاصيل
هذه السورة هي معجزة فعلاً؛ لأنها أولاً تنبه الإنسان، وهي موافقة لصفات أهل الكهف في الجملة لا في التفصيل، لكن الذي يقارن بين القصتين يجد أن مضمونهما واحد، ولكن تجد تفاوتاً هائلاً في المعاني التي ترشد إليها هذه السورة، من معاني التوحيد والإيمان، فلا يوجد موضع إلا وهو مرتبط بالعقيدة، بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وآثار هذه الأسماء والصفات، ويبين ويكشف تماماً شخصيات الأنبياء والصفات العظيمة التي فيهم، فيعقوب عليه السلام في صبره وحلمه واحتسابه واستعانته وتعلقه وعلمه به عز وجل، ورجائه فضله سبحانه، وعدم يأسه من رحمته يضرب أروع الأمثلة في الإيمان بالله ورجائه، ويوسف عليه السلام في العفو والصفح والكرم والجود والحلم والصبر والاحتساب، وهذه الصفات تجد الكلام عنها في قصة أهل الكهف، ولا يمكن أن تتوفر في إنسان عادي.
وعندما تقارن القرآن بكتب اليهود والنصارى تجد أن هناك بوناً شاسعاً، فنجد القرآن لا يهتم بتفاصيل؛ لأنها لا تهم المسلم، لكن بني إسرائيل دائماً يُسهبون في كل القصص، فهم أتوا بقولين في امرأة العزيز: القول الأول: أن يوسف عليه السلام تزوجها فوجدها عذراء، فقالت: إن زوجي كان رجلاً لا يأتي النساء، وكنت امرأً جميلاً؛ فاعذرني، فولدت له إسرائيل بن يوسف، قالوا: وهو والد يوشع بن نون.
القول الثاني: أنها وقفت على الطريق سائلة، فقال: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بمعصيته، وجعل العبيد ملوكاً بطاعته، والله عز وجل أعلم.
لكن القرآن أهمل مثل هذه الأقوال؛ لأنها لا تفيد، وبلا شك فإن الله عز وجل أعلم بالذي حصل لها، لكن الله سكت عن ذكرها حتى ننشغل بما هو أعظم وأهم.
وكذلك قضية الأسماء، فقالوا: امرأة العزيز اسمها زليخا، ولم يرد ذكر هذا الاسم في القرآن.
ويطيل أهل الكتاب في ذكر قصة لحظة اجتماع يوسف بامرأة العزيز ويأتون بأشياء وادعاءات تسيء إلى يوسف عليه السلام، فهم مغرمون بتهمة الأنبياء؛ لكي يبرروا لأنفسهم الفظائع التي يعملونها؛ فإذا كان الأنبياء عندهم زناة وشراب خمرة، وفعلوا الأفاعيل، وقتلوا ظلماً وعدواناً؛ فلا مانع عندهم من ممارسة هذه الأشياء التي فعلها الأنبياء بزعمهم.
وعندهم أشياء منكرة، لكنك تجد القرآن لا يذكر الأحداث في اللحظات الحساسة، بل قال مثلاً: ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا))، فالحديث نفسه وقع في خاطره وزال بسرعة؛ ليثاب، ولكي يكون قدوة للشباب في كل وقت، فقد وجد في نفسه الرغبة ولكنه قاومها، وتركها لله لكي يبقى قدوة لغيره، ولكي لا يظن الناس أن الأنبياء لا يقع في قلوبهم ما يقع في قلوب الناس من الشهوات، فقد كان عنده ما عند الشباب، وكان غريباً ووحيداً، والفاحشة لا تسيء في حق الغريب، فهو ليس من أهل البلد؛ ولذلك تجد الذين يسافرون إلى الخارج يكون من السهل عليهم أن يقعوا في الفواحش؛ لأنهم غرباء، وخصوصاً أنه شاب وأعزب ورقيق، والتي تطلبه هي أولاً سيدته، وثانياً: هيأت الأمر له كما قال سبحانه: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، فكأنها تملكه نفسها، فتقول: تهيأت لك، أو تعال إلي، فلفظة (لك) هذه فيها تمليك، وهي سيدته، فهذا امتحان صعب بلا شك.(56/9)
أدب يوسف وافتقاره إلى الله
امتحن سيدنا يوسف في السراء والضراء، ونجح في كل الامتحانات صلى الله عليه وسلم؛ ليكون قدوة للعالم.
وسبب هذه العصمة هو الإخلاص، فداء العشق وداء الشهوة يعالج بشدة الإخلاص وإرادة وجه الله، فيطرد من القلب إرادة غيره، ففي قراءة قال الله عن يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ} [يوسف:24]، وفي أخرى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وهذا يدلك على أنك بتوفيق الله سوف تعصم، وباللجوء إلى الله عز وجل يعصمك سبحانه، ويصرف عنك كيد الكائدين، وسيدنا يوسف عمل هذا فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] أي أن: نفسه ستودي به لكن يا رب! أنت الذي تعصمني وأنت الذي تنجيني: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، فاتهم نفسه، وشك فيها أيضاً، فافتقر إلى الله، ودعاه أن يصرف عنه إرادة نفسه أن تميل إليهن، وقال: {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فربنا هو الذي يعلمه.
ولذلك نجد سيدنا يوسف في كل المواطن ينسب الفضل إلى الله، ولا ينسبه إلى نفسه أبداً، مثل قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف:101] حتى الدين يفتقر في التوفيق فيه إلى الله عز وجل، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
ويقول الله على لسان يوسف: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] فالرؤيا قد تحققت ولكن من أدب سيدنا يوسف أنه قال: ((قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)).
وكذلك من أدبه أنه لم يقل: وقد خرجت من السجن، وإنما قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100].
وكذلك لم يقل: وجئتم من البدو، وإنما قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100].
وانظروا أدبه: حيث وعد إخوته ولم يخلف الوعد، وعدهم بقوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] فلا لوم ولا عتاب، ولذلك لم يقل: من بعد أن نزغ الشيطان في قلوب إخوتي، ومن بعد أن عمل إخوتي ما عملوا، ومن بعد أن آذوني هذا الأذى، بل قال: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)).
وكل هذه الأشياء من تعليم أبيه بعد تعليم الله عز وجل؛ لأن أباه هو الذي قال له: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، فنسب الفعل إلى الشيطان، وقال له: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6] وكل هذه الألفاظ التي نسب فيها يوسف الفضل إلى الله مليئة بالافتقار.
فهذه الدرجة الأولى من درجات افتقار يوسف إلى الله عز وجل.
والدرجة الثانية من درجات افتقاره: أنه عليه السلام في كل شيء قد نسب الفضل فيه إلى الله، ولم ينسب لنفسه فضلاً أبداً، وأبوه هو الذي علمه ذلك.
فهذه هي التربية الإيمانية العالية، والارتباط بالأسماء والصفات، وقد قال له أبوه في أول القصة: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] وقالها سيدنا يوسف في آخر القصة: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].(56/10)
الأسئلة(56/11)
جمال يوسف عليه السلام
السؤال
كيف كان جمال يوسف عليه السلام؟
الجواب
يوسف عليه السلام أجمل إنسان، فقد أعطي نصف الحسن، فلو قسم الجمال بين الناس؛ لكان ليوسف النصف وبقية البشر لهم النصف، إلا سيدنا آدم، فهو أجمل؛ لأنه سواه الله بيده، فيوسف ورث جمال آدم.(56/12)
سبب تأخير يعقوب للاستغفار لأبنائه
السؤال
لماذا قال يعقوب لأبنائه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98] ولم يستغفر لهم في ذلك الوقت؟
الجواب
أخرهم إلى السحر، فقال لهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98]؛ لأن السحر وقت إجابة، فهو يريد وقت إجابة الاستغفار؛ رفقاً بهم وشفقة عليهم.(56/13)
بطلان تفسيرهم عن يوسف بأنه هم أن يضرب امرأة العزيز
السؤال
ما رأيكم في تفسير قوله تعالى: ((وَهَمَّ بِهَا)) أي: هم أن يضربها؟
الجواب
إذا كان كذلك فأين السوء والفحشاء التي صرفها الله عنه، فربنا قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24]، وضربها شيء جيد، لكن من أدبه أنه لا يؤذي الرجل الذي أحسن إليه في امرأته بأن يضربها، فهذا الفعل ليس مناسباً، فكيف يضرب التي ربته، وهي زوجة الذي أحسن مثواه، والظلم ليس مناسباً بيوسف؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ومن أعظم أسباب البعد عن الزنا أن يعلم الإنسان أن الزنا ظلم لمجموعة من الناس، وإذا رضيت المرأة التي تزني بها فلا تستطيع أن تتخلص من حقوق الآخرين، وهم: أخوها وأبوها وزوجها وابنها، كل هؤلاء ماذا ستقول لهم؟ فإذا تخلصت من ذنب بينك وبين الله وبقية حقوق المخلوقين ماذا ستفعل فيها يوم القيامة؟ فلأجل هذا قال تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].
ولأجل هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمريد الزنا: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! أترضاه لخالتك؟! قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يرتضونه)، فأنت ستؤذي أناساً بالفاحشة، فعندما تفكر في هذا سترتدع عنه؛ لأنك لن تستطيع أن تتخلص من الحقوق.(56/14)
أم يوسف
السؤال
هناك من يقول: إن أم يوسف ماتت قبل ذهابهم إلى مصر؟
الجواب
قد قيل: إنها خالته، وأمه قد ماتت، لكن هذا الكلام خلاف ظاهر القرآن، فما الذي يجعلنا نقبل الإسرائيليات؟! والقرآن يثبت أن أباه وأمه وإخوته سجدوا له.(56/15)
يوسف وإخوته ليسوا من أم واحدة
السؤال
هل كان يوسف وإخوته من أم واحدة؟
الجواب
لا، كان يوسف وأخوه من أم، والعشرة الآخرون من أم ثانية.(56/16)
الأسباط
السؤال
من هم الأسباط؟
الجواب
الأسباط هم: أنبياء بني إسرائيل الذين من نسل الأحد عشر.
فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وبنوه الإثنا عشر يوسف وإخوته، وذريتهم كان فيهم أنبياء عبر التاريخ، فأسباط بني إسرائيل هم الأنبياء، وليسوا الأحد عشر أبناء يعقوب عليه السلام.(56/17)
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب
الصراع بين الحق والباطل سنة من سنن الله عز وجل الكونية، فقد ابتلى الله أهل الحق بأهل الباطل؛ ليمحص أهل الحق وينقيهم، كما أن الله عز وجل يؤيد أهل الحق بالنصر والغلبة في النهاية، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب وإن كانوا أكثر عدداً وعدة، فعلى أهل الحق الثبات عليه والدفاع عنه، فبقدر ثباتهم على الحق ينزل الله عز وجل عليهم النصر.(57/1)
التحذير من طاعة الكفار والمنافقين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:151 - 155].
فقد نهى الله عز وجل في هذه الآيات البينات أهل الإيمان عن طاعة الكفار، وبين عاقبة طاعتهم، وأنها تؤدي إلى الردة والانقلاب على الأعقاب والخسران المبين، وبين سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته في هذا المقام ما تتعلق به قلوب المؤمنين؛ حتى لا يتكلوا على أنفسهم أو عملهم أو جهادهم، ولكن ليتكلوا على الله عز وجل، مولى المؤمنين وخير الناصرين، فهو الذي يتولى شأنهم بالإصلاح، وهو الذي يحفظهم ويعافيهم من طاعة الكفار.
قال ابن كثير رحمه الله: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى -يعني: الهلاك- في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149].
ثم أمرهم بطاعته، وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150].
- ومسألة طاعة الكفار من أخطر الأمور في حياة الناس، وذلك أن الكفر والنفاق والظلم والعدوان لا يتحقق إلا بطاعة طائفة من الناس لرءوس الكفر والنفاق، ولا يستقيم للكفار كيان ولا أمر إلا إذا وجد من يطيعهم، وقد ذكرنا ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه الآية الكريمة: أن الله حذر عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، مع أن المنافقين لم يأت لهم ذكر، ولكن طاعة هؤلاء من أخطر الطاعات؛ لأن هؤلاء المنافقين يتدثرون بدثار الإسلام، ويبثون معاني الكفر والنفاق في المجتمع المسلم، ولذا كان التحذير من طاعة الكفرة والمنافقين متلازم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
والآيات في التحذير من طاعة الكفرة ومن متابعتهم كثيرة جداً في القرآن العظيم، منها قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25 - 28].
فبين سبحانه وتعالى سبب ردة هؤلاء الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد:26]، وهم الكفرة والمنافقون الذين يكرهون القرآن ويكرهون الالتزام بالإسلام، ويكرهون ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] فكيف بمن يطيعهم في الأمر كله؟ فإن طاعتهم في بعض الأمر أدت إلى الردة، ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:25 - 26]، وذلك لأن النفاق كان في الزمن الماضي سراً وأصبح اليوم علانية.
قال حذيفة رضي الله عنه: (كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، وأصبح اليوم علانية) فكيف لو رأى حذيفة رضي الله عنه ما يقع في أزماننا من الإعلان بطاعة الكفرة عياناً جهاراً نهاراً بلا خفاء، بل وتأكيد لزوم هذه الطاعة ولزوم هذه التبعية؟ نعوذ بالله من ذلك.
قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، فجزاء هؤلاء الذين يطيعون الكفرة في بعض الأمر أن تتوفاهم الملائكة بالعذاب والعياذ بالله! وقوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)) السبب: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) فطاعة الكفرة في بعض الأمر تسخط الله، وهم بذلك يقعون في كراهية ما يرضاه الله، وهذا أمر متلازم؛ فإن من أطاع الكفرة فلا بد أن يكره ما يرضي الله، فهم يكرهون مرضاة الله عز وجل، يكرهون ما يحبه، ويحبون ما يكرهه سبحانه وتعالى بطاعة الكفار في بعض الأمر.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، أي: أنه كانت لهم أعمال، وكانوا قد تابعوا الهدى، ثم زال ذلك، وحبط العمل بالنفاق والعياذ بالله! وبالردة التي سببها طاعة الكفار في بعض الأمر، والله سبحانه وتعالى إنما أمر بطاعة من يأمر بطاعة الله دون من يأمر بمعصية الله ولو كان مسلماً، فكيف إذا كان كافراً؟!(57/2)
وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية
قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
فأمر الله عز وجل بطاعة أولي الأمر، ولكنها طاعة مقيدة بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال: (لا طاعة لمن عصى الله)، وقال الصديق رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
فإذا كان الصديق لو أمر بمعصية فلا طاعة له، فكيف بمن دونه؟! فلا طاعة لأحد من أب أو أم أو ولي أو كبير أو عالم أو شيخ أو إمام أو ملك أو رئيس أو صاحب عمل أو أي أحد في معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك يقدح في أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو أن الله سبحانه وتعالى أوجب طاعته وطاعة رسله على الخلق جميعاً، فكيف بمن يلزم الناس بخلاف ما أمر الله عز وجل به؟! فهذا خطر عظيم والعياذ بالله! ولذا كان على المسلم أن يكون منتبهاً لقضية الطاعة والمتابعة.
وقد حذر الله عز وجل من اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فقال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19].
وقال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، فلا بد أن يعرف المسلم لمن تكون طاعته وتبعيته، فيطيع الله ويطيع الرسول ويطيع أولي الأمر من المؤمنين وهم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، فإن خالفوا ذلك لم تكن لهم طاعة، بل ولا يطاعون إلا إذا كانوا يتبعون ما أنزل الله عز وجل، ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
وأمر الله سبحانه وتعالى إتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أنه مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أمره فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فقضية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم جزء من العقيدة الإسلامية الإيمانية، وقد أمر سبحانه وتعالى باتباع سبيل المؤمنين وحذر من اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والمقصود هنا: اتباع الإجماع، وذلك أن المؤمنين إذا كانوا جميعاً على أمر فهذا الأمر هو الحق قطعاً ويجب اتباعه، ويلزم أن يكون الإنسان عليه، فإذا خالفه فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فيوليه الله ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيراً.(57/3)
مراتب طاعة الكفار والمنافقين وشروط الإكراه
وحذر الله المؤمن من طاعة ومتابعة الكفرة والمنافقين والظلمة الآثمين؛ لأن طاعتهم تقود إلى الخسران فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149].
وطاعة هؤلاء وكذا متابعتهم على مراتب وأنواع، فإن طاعتهم في الكفر كفر طالما لم يكن هناك إكراه، وأما المكره فهو مطيع بظاهره كاره عاص للذي أكرهه بباطنه، والله عز وجل قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، كما قال عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وأما من يطيع اختياراً في الكفر لأجل دنيا يصيبها أو لأجل مال أو رياسة أو جاه دون إكراه معتبر شرعاً فلا عبرة بإرادته الأولى، وأعني بالإرادة الأولى: ما كان يختاره لو لم يعرض عليه ذلك، فكثير من الناس يعرض عليه الكفر والفسوق والعصيان بثمن بخس من الدنيا فيقول: أنا لا أريد أن أفعل ذلك، ولكن ماذا أصنع والدنيا تحتاج إلى هذه الأمور؟! وماذا أصنع وأنا لا أستطيع أن أكتسب جاهاً أو منزلة أو مالاً أو وظيفة إلا بالكفر والفسوق والعصيان؟ فيكفر دون أن يوجد الإكراه المعتبر شرعاً، والذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
وباستقراء أدلة الشرع استنبط العلماء شروطه: وهو أن يكون الإنسان المكره عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وأن يكون المكرِه قادراً على إيقاع ما يهدد به، فأما إذا كان المكرِه عاجزاً وكان المكرَه قادراً على الرد وعلى أن يمنع نفسه من ذلك فليس بإكراه؛ فإنه منافٍ لأصل الكلمة، وكذا إذا كان قادراً على التخلص من إكراه المكره بالفرار في الأرض، وأرض الله واسعة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
وهذه الآية نزلت فيمن خرج كارهاً لا مكرهاً من شبان قريش مع قريش لقتال المسلمين في غزوة بدر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل بعضهم لما يعلم من أنهم لا يريدون حربه ابتداءً، ولكن إرضاء العشيرة دفعهم إلى الخروج، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قتل بعضهم؛ لأن الأنصار كانوا لا يعرفونهم، وإنما يعرفهم المهاجرون، ولقد كان يرمى أحدهم بالسهم فيُقتل أو يضرب ضربة بالسيف فيُقتل، فقال بعض الصحابة: استغفروا لإخوانكم، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ))، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه، باب: من كره أن يكثر سواد أهل الظلم والفتن، فجعلها عامة في كل من زعم الاستضعاف وشارك في ظلم وفتنة وفساد في الأرض، حتى ولو وقع ذلك من ناس مسلمين ظالمين، ولذا نهى أبو الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى بعض التابعين عن الاشتراك في الجيوش التي تغزو عبد الله بن الزبير في الفتنة التي وقعت، واستدل بما قص ابن عباس من تفسير هذه الآية كما رواه البخاري.
والمقصود: أن المكره إذا كان قادراً على التخلص ولو بالفرار لم يكن مكرهاً، وكذا إذا كان هناك فسحة من الزمن، فلا يكون الإنسان مكرهاً إلا إذا كان الإكراه فورياً وغلب على ظنه أنه يوقع به ذلك، فأما إذا لم يكن فورياً أو لم يغلب على ظنه ذلك لم يكن مكرهاً.
والشرط الرابع في ذلك: ما ذكره الله في كتابه في قوله: ((وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)).
فأما من فعل وطاوع في كفر أو في معصية من غير إكراه فحكمه حكم من فعل، ويلزمه ذلك الحكم، فإن كان كفراً كان كافراً والعياذ بالله! فمن أطاع غيره في الكفر حتى ولو كان لا يريد ذلك ابتداءً وإنما يفعله إرضاءً لغيره أو يفعله كسباً لدنيا فإنه لا يعد مكرهاً بل يكون كافراً.
وأما إذا أطاعه في معصية وليس في كفر فهذا يختلف باختلاف الحال، فإذا كان معتقداً أن أمر الله هو الواجب وأن معصيته محرمة ولكنه أطاعه لنيل شهوة ولم يكن الفعل كفراً كان عاصياً ولم يكن كافراً، وإن كان له نصيب من العبودية لغير الله وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه أطاع غيره في معصية الله، وشابه الكفار الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، لكنه إذ لم يبع أصل الدين، وإنما باع جزءاً منه لنيل شهوة، أي: ترك طاعة لله عز وجل لنيل شهوة فهذا له نصيب من العبودية، فلا يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه بقي معه أصل الدين فلم يبعه، فلو قيل له مثلاً: اكفر بالله حتى نعطيك من المال كذا أو نعطيك الوظيفة الفلانية أو الرئاسة الفلانية أو نحو ذلك فأبى أن يطيع، فأمروه بالمعصية فقط كأن يظلم مسلماً مثلاً، أو أمروه أن يأكل رباً، أو أمروه أن يفعل فاحشة ففعل لكنه أبى أن يكفر بالله وهو معتقد أنه آثم ومعتقد أنه عاصٍ، ومعتقد أن طاعة الله هي الواجبة وأن معصية الله محرمة؛ فهذا لا يخرج من الملة، ولكنه عبد لذلك الشيء، من الدرهم أو الدينار أو القطيفة أو الخميصة التي ترك من أجلها طاعة الله، وهذه عبودية شرك أصغر لا تخرج صاحبها من الملة وإن كانت عظيمة من العظائم.
وأما إذا أطاع غيره في معصية الله وهو يرى أن له عليه الطاعة ولو خالف أمر الله عز وجل، أو يرى أن له الطاعة المطلقة، أو يرى أن لهذا الغير أن يبدل ويغير شرع الله ويعتقد ما قاله لازماً دون لزوم شرع الله سبحانه وتعالى؛ فهذا كافر، وهذا تجده كثيراً فيمن تعود على التبعية وتعود على الطاعة العمياء؛ فإنه يرى أنه لو أمر بمعصية الله فيلزمه أن يطيع، وأنه لا دخل له بذلك، فإنما عليه الطاعة، حيث تربى على ذلك ونشأ عليها، فلو أمروه بأي أمر لفعل، نعوذ بالله من ذلك! فهذا الذي اعتقد لزوم طاعة غير الله في معصية الله واستحل مخالفة شرع الله عز وجل في هذه المعصية قد استحل المعصية، وهذا -والعياذ بالله- أيضاً يكون كافراً.
أما إذا رأى طاعته الطاعة المطلقة التامة في أي أمر ابتداءً، فيرى أنه لو أمره بالكفر لكفر دون أن يأمره ذلك الآمر بالكفر فإنه يكون كافراً، وهذا في الطاعة المطلقة التامة؛ لأنها تتضمن الأمر بالكفر -والعياذ بالله- ويدخل فيها ذلك فيكون كفراً.
إذاً: فطاعة الذين كفروا بمخالفة شرع الله عز وجل على أقسام: منها ما يكون طاعة مطلقة، ومنها ما يكون طاعة تفصيلية.
فالطاعة المطلقة: تقتضي طاعتهم ومتابعتهم في أبعاض وأجزاء ما هم عليه، وذلك متضمن للكفر، ومن يرى أن عليه أن يطيع ولو أمر بالكفر فهو -والعياذ بالله- عبد لمن أطاعه، ولا ننتظر فيمن قال ذلك أو اعتقده أن يأتي بأمر كفري لننظر في شأنه، بل من صرح بشيء فإننا نحكم عليه به؛ لأننا لا نعرف ما في باطنه إلا بأن يقول ويصرح، ولكن نقول فيما هو الحكم عند الله عز وجل: إذا اعتقد أنه يطيع الكفار طاعة مطلقة ولو أمروه بالكفر لكفر فإن هذا كافر، وهناك طائفة من الناس تربت على ذلك تربية من صغرها ومن أول نشأتها، فربي أحدهم على أن يطيع ولو أمر بالكفر، ولو أمر بالسجود لغير الله، ولو أمر بقتل الأنبياء، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك، وبعضهم قد يتكلم بذلك ويصرح به ويقول: لو أمرونا أن نحارب الأنبياء لحاربناهم!! ولو وقف في وجههم النبي لكان واجباً علينا أن نطيعهم دون أن نطيع النبي!! وهم يصرحون بذلك، واليهود لا يأمرون بذلك فضلاً عمن دونهم، لكن هذا الذي اعتقد ذلك وتربى عليه قد خرج من الملة؛ لأنه صار عبداً عند الذي أطاعه وعزم على طاعته هذه الطاعة المطلقة، حتى ولو لم يأمره في حياته أمراً ما؛ فإن من الناس من يكون بعيداً عمن لهم الأمر، ولكنه يعتقد في نفسه أنهم لو أمروه بالكفر لكفر، ولو أمروه بالمعصية لعصى، وأنه يطيعهم الطاعة المطلقة؛ فهذا كافر.
وأما الطاعة التفصيلية في أجزاء معينة فهذا الذي ذكرنا فيه التقسيم: فما كان من طاعة في الكفر فهو كفر إذا كان بغير إكراه، وأما إذا كان مكرهاً فهو معذور، وكذا سائر الموانع، فإذا كان بغير قصد أو بغير علم فإنه يبين له الأمر أولاً، فبالنسبة لشخص بعينه فلا بد أن تستوفى الشروط وتنتفى الموانع، فطاعتهم في الكفر كفر، وطاعتهم في المعصية مع اعتقاد أنها معصية معصية، وأما مع اعتقاد لزوم طاعتهم دون طاعة الله وطاعة الرسول، أو اعتقاد ما قالوه دون ما قال الله وقال الرسول فهذا من الشرك، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن اليهود والنصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: إنا لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم).
أي: فاتبعتموهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وهذه قضية مهمة، ولابد من الانتباه لما في هذا الحديث؛ لأن كثيراً من الناس قد لا يحسن فهمه ويظن أن أي طاعة في معصية الله تكون عبادة شركية مخرجة من الملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألم يحللوا الحرام ويحرموا الحلال فاتبعتموهم؟)، أي: اتبعوهم على التبديل، وعلى التحليل والتحريم، وعلى التشريع، وليس أنه أطاعهم طاعة مع اعتقاد حل ما أحل الله وتحريم ما حرمه.
فمثلاً: هناك من يقول: إن الزنا أمر لا بأس به، وإنه حرية شخصية.
وهناك من يرد عليه ويقول: بل الزنا حرام حرمه الله عز وجل، ولكنه يزني، وإذا قال له: تعال نزني بعد أن قال له: الزنا حرام، فسيذهب ويزني ويفعل ما حرم الله عز وجل، فهذا ليس بكافر؛ لأنه رد عليه تحليله وتحريمه ولم يتابعه على التحليل والتحريم، وإنما تابعه في الفعل المحرم.
ومن الناس من يكون بعيداً عن هذا، ولا يكلف ذلك، ومع(57/4)
الحذر من التشبه بالكفرة والمنافقين والفاسقين
وكذا من متابعتهم: التشبه بهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
فهو يشمل ما ذكرنا في الطاعة، ففيه التشبه المطلق: وذلك بأن يتشبه الإنسان بهم في كل شيء حتى في كفرهم، فلو أنكروا الأديان أنكر الأديان، ولو أنكروا التوحيد أنكر التوحيد، ولو أنكروا التشريع أنكر التشريع، فيتابعهم ويرى أن ما قالوه لابد أن يؤخذ به جملة، كما يقول دعاة كثيرون في المشارق والمغارب: إن الحضارة الغربية لا يصلح أن نأخذ منها جزء التكنولوجيا والعلم الحديث دون أن نأخذ الأفكار والمبادئ والفنون والآداب، بل لابد أن نأخذها برمتها، ولا نقول: إن هذا يوافق الدين وهذا يخالفه، بل اتركوا الدين جانباً!! وهذه الكلمة لوحدها تنقل عن الملة والعياذ بالله، أعني كلمة: اتركوا الدين جانباً، فكيف يجعل المسلم دينه جانباً ولا يلتزم به في أمر من الأمور؟! فيرون أنه يستحيل أن نأخذ الطب الحديث والهندسة الحديثة والعلوم الحديثة ونحو ذلك دون أن نأخذ الفسق والفجور وإباحة المحرمات التي حرمها الله عز وجل.
فالتشبه المطلق هو مثل الطاعة المطلقة في تضمنها لأجزاء من الكفر؛ وقد وجدنا أناساً من هؤلاء -والعياذ بالله- يصرحون كثيراً في كتاباتهم وأحاديثهم بالطعن في القرآن، والطعن في الرسول عليه الصلاة والسلام، وترديد شبهات الكفرة حول القرآن من أنه ألفه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن فيه أخطاء في كذا وكذا!! وتجد هؤلاء معظمين جداً عند القوم، وخاصة في بلاد الغرب، فإنهم يعظمونهم جداً ويقولون: هؤلاء دعاة حرية، وهؤلاء دعاة المدنية، وهؤلاء دعاة التطور، ونحو ذلك، بل ويُعطون الجوائز الغالية والثمينة على سبهم للقرآن وعلى طعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الطعن في الصحابة رضي الله عنهم والطعن في معاني الإسلام كلها، بل طعنهم في الأنبياء جميعاً، ومع ذلك ما زالوا يعظمونهم أعظم وأكبر تعظيم والعياذ بالله! فهم يسخرون من الأنبياء جميعاً، بل من ذات الرب سبحانه وتعالى، ويعلمون أنهم ما أخذوا الجوائز الثمينة عندهم الحقيرة الدنيئة عند أهل الإسلام إلا لأجل أنهم طعنوا في الله عز وجل وطعنوا في رسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويقومون بالمدح والتفخيم والتبجيل لشخصيات لا يمكن الاقتراب منها، نسأل الله العافية.
فهذا كله من التشبه المطلق، وهو مثل الطاعة المطلقة.
وأما التشبه الجزئي فهو أيضاً كالطاعة التفصيلية، فالتشبه في بعض ما هم عليه ينظر فيه، فإن كان كفراً أو شعاراً عن الكفر كان التشبه بهم في ذلك كذلك، وإن كان في معصية كان معصية بشرط اعتقاد أنه معصية.
وأما إذا تشبه بهم معتقداً صحة ما فعلوه دون ما شرع الله عز وجل فهذا -والعياذ بالله- يكون من المتابعة الشركية.
وأما إذا فعل شيئاً يفعلونه واتفق أن فعله الطرفان دون أن يكون أحدهما أخذه عن الآخر فليس هذا من التشبه المحرم وإن سمي تشبهاً في بعض الأحوال، لكنه ليس بالتشبه المحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا الشيب لا تشبهوا باليهود)، فهذا الأمر يقع فينا بغير اختيار منا، فالإنسان لا يختار أن يشيب وإنما يشيب هو ويشيب غيره، فأنا لم أقع في التشبه قاصداً، وإنما وقع في هو، فإذا تركت التغيير سمي هذا تشبهاً، لكن لا يكون تشبهاً محرماً، فلذلك كان هذا النهي ليس للتحريم، فقوله: (لا تشبهوا باليهود) أي: في ترك تغيير الشيب، فيستحب أن يغير الشيب، ولكن لا يحرم أن يتركه، ولذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض شعرات في وجهه عليه الصلاة والسلام، ولكنه أمر بتغييره استحباباً.
وأما الذي كان مأخوذاً عنهم أو فعله لأجل أنهم فعلوه مثل الموضة، فبعض الناس يفعلون الموضة لأجل أن غيرهم فعلها، فالموضة أن الناس يلبسوا هكذا، فيفعلون مثل ما فعل هؤلاء تماماً لأجل أنهم فعلوه، تقول لبعضهم: أنت تربي شعرك تربية غير صحيحة، فيقول لك: هذه موضة، فهذا أشد من التشبه.
وهناك درجة ثانية للتشبه: وهي أن الإنسان يفعل الشيء لا لأجل أنهم فعلوه ولكن لمصلحة في نفسه، فمثلاً: عندهم يوم من الأيام يفرحون فيه كأن يكون عيداً من أعيادهم فيريد أن يلعب في هذا اليوم، لكنه ليس في ذهنه الاعتقاد الفاسد الذي بني عليه ذلك العيد، فهذه درجة من درجات التشبه، وإن كان هذا التشبه أهون من الأول، لكنه داخل في التشبه المحرم، وإن كان يقول: أنا لا أريد ذلك، أنا ليس لي غرض في التشبه بهم، لكن طالما أن هذا الفعل مأخوذ عنهم فهو من التشبه بهم.
وأما إذا كان وقع اتفاقاً كالملابس المشتركة بين المسلمين والكفار فهذا ليس بطاعة ولا بتشبه في الحقيقة، وإن سمي تشبهاً، فتركه هو الأفضل من أجل المخالفة.
وقد تكون المخالفة في فعل شيء مع هذا الشيء، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود، وهذا مستحب، ولو صام العاشر فقط لما كان ذلك محرماً عليه، بل يجوز أن يصوم العاشر من محرم فقط ولا يحرم عليه ذلك.
وهكذا الخلاف بين العلماء في صيام يوم السبت فمنهم من يقول: هو حرام، ومنهم من يقول: هو مكروه إذا صامه منفرداً، وإنما تقع المخالفة إذا صام معه الجمعة أو صام معه الأحد، فإذا قرن معه غيره لم يكن ذلك مكروهاً؛ لأنه خالفهم حينئذٍ بعدم موافقتهم.(57/5)
طاعة الأمة المنتصرة مرض من أمراض الأمة المهزومة
فهذه القضية قضية عظيمة الأهمية، ولذا تكررت في القرآن كثيراً، وهي من أمراض الأمم المهزومة، فطاعة الكفار أو طاعة الأمة المنتصرة من أمراض الأمم المهزومة، ولذا جاء هذا التنبيه بعد قوله عز وجل: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] إلى قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، فدل ذلك على أن طاعتهم تؤدي إلى الخسران، ودرجات الخسران تكون على حسب درجة الطاعة والمتابعة والتشبه بهم، نسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك.(57/6)
قذف الله الرعب في قلوب أعدائه ونصره لنبيه وأوليائه
يقول ابن كثير رحمه الله: ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعداءهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره الله لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وبالتخصيص بمسيرة شهر يدل على أنه رعب شديد، فمسافة شهر مسافة طويلة، والمسلمون ضعاف وقلة وبعاد ومع ذلك يخافهم أعداؤهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وهذه خصوصية له عليه الصلاة والسلام بالنسبة للأنبياء قبله، وأمته وارثته، فالأمة تنصر، ورعب أعدائهم منهم يتفاوت بحسب شدة التزامهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما التزموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما اشتد رعب أعدائهم منهم، وكلما ابتعدوا عن الالتزام بالسنة كلما هانوا على عدوهم، نسأل الله العافية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) وهذا الحديث متفق على صحته.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلني ربي على الأنبياء - أو قال: على الأمم - بأربع، قال: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحلت لي الغنائم) ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني.
وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب على العدو) رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي) لأن من كان قبلنا كانت تأتي نار من السماء تأكل الغنيمة؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها، ثم أحلها الله لهذه الأمة.
ومعنى كون الأرض مسجداً وطهوراً: أنه يتطهر بها بالماء أو التراب، ففي أي مكان في الأرض أدركت الإنسان الصلاة فعنده ما يتطهر به، وكذا عنده مسجد يصلي في أي مكان، بخلاف من كان قبلنا فإنهم كانوا لا يصلون إلا في البيع والكنائس وأماكن العبادة، ولو فاتتهم هذه الأماكن ما استطاعوا أن يصلوا، فالحمد لله الذي جعل الله لنا الصلاة في أي بقعة من الأرض.
قال: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهراً، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سئل شفاعته) أي: سأل الدعوة التي وعده الله أن يجيبها له وأن يشفع لأحد بها، فتعجلوها.
قال: (وإني اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً) وهذا لكمال شفقته عليه الصلاة والسلام.(57/7)
قذف الله الرعب في قلوب المشركين يوم أحد
وقد روى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) قال: (قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة).
وهذه من الأعاجيب والبينات الظاهرة، فالكفار مرعوبون من أهل الإسلام حتى في حال انتصارهم، فقد رجع أبو سفيان وهو منتصر إلى مكة مرعوباً، مع أنه لم يكن بينه وبين دخول المدينة شيء، لأن المنافقين خذلوا المسلمين، وارتد كثير ممن حضر الوقعة فاراً إلى المدينة، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا قلة قليلة، والعجب أن أبا سفيان عاد إلى مكة مرعوباً! وهذا الذي تجده في كل مكان يقع فيه صراع بين من تمسك بالكتاب والسنة وبين أعداء الإسلام، فرغم انتصارهم فهم في رعب شديد من أهل الإسلام.
قال: رجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)، أي: أصاب طرفاً من الذين قتلهم في غزوة أحد.
رواه ابن أبي حاتم.(57/8)
سبب هزيمة المسلمين يوم أحد
قال تعالى: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) قال ابن عباس: وعدهم الله النصر.
وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]، ففي تفسير هذه الآية قولان: القول الأول: أن هذا الوعد كان يوم بدر، والقول الثاني: أنه كان يوم أحد، وهذا أقرب.
يقول: وقد استدلوا بهذه الآية: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) على أن ذلك كان يوم أحد؛ لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار لأهل الإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة عن الاستمرار في القتال تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة، ولهذا قال تعالى: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)) أي: أول النهار.
((إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) أي: تقتلونهم، والحس: القتل، أي: تقتلونهم بإذنه، وبتسليطه إياكم عليهم.
((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ)) قال ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل: الجبن.
((وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ)) كما وقع للرماة.
((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)) وهو ظفركم بهم.
((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)) وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة.
((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) أي: ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم.(57/9)
عفو الله عز وجل عما حصل من المسلمين يوم أحد
((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) أي: غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك -والله أعلم- لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم، فإن عفو الله عز وجل لا يكون إلا بتوبة أهل الإيمان، وبما يعلم سبحانه وتعالى في قلوبهم من حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما وقع منهم من الفرار لم يكن رغبة عن الدين، ولكن عن ذهول حصل لهم من هجوم العدو فجأة.
فالذي سبب العفو عنهم ما علم الله في قلوبهم من الإيمان، والله يغفر للمؤمنين ما لا يغفر لغيرهم.
قال ابن جريج في قوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) قال: لن يستأصلكم.
يعني: أن العقوبة نزلت ولم يقع معها استئصال، وهل كان بينهم وبين أن يدخلوا المدينة شيء؟ فجيش قريش كان ثلاثة آلاف قتل منهم نحو العشرة أو أكثر قليلاً بينما تفكك جيش المسلمين، لذا تعجبوا من أنفسهم فقالوا: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم.
أي: لم تأسروا، ولم تسبوا النساء، ولم تأخذوا الغنائم، وهذا شيء عجيب! ولكن الله عز وجل قدر ذلك عفواً منه عن المؤمنين، فلو عاملنا الله عز وجل بما نستحقه لاستأصلنا الكفرة، فما هو الذي يمنعهم أن يبيدوا المسلمين؟ وهل يوجد من سلاح يمنع إبادة المسلمين الآن؟ وهل يوجد من كيان يمكن أن يقف في وجوه الكفار فلولا عفو الله عز وجل لاستأصلونا والله! فنسأل الله أن يعافينا والمسلمين في كل مكان.
وقوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) قال ابن جريج: لن يستأصلكم، وكذا قال محمد بن إسحاق، رواهما ابن جرير.(57/10)
حكاية ابن عباس لتفاصيل معركة أحد
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد يعني: ما نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد.
قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله؛ إن الله يقول في يوم أحد: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) قال ابن عباس: والحس القتل.
قال: ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) إلى قوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)) قال: وإنما عنى بهذا الرماة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا) وهذا تشديد وتغليظ في الثبات على ألا يفارقوا أماكنهم.
قال: فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأبادوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعاً ودخلوا في العسكر ينهبون) ففعلوا هذا مع أن ما وقع في بدر كان قد علمهم أن الغنيمة سوف تقسم على الكل، ولكن كانت هذه عادات الجاهلية، ولذا قالوا: الغنيمة الغنيمة.
وهذا دليل على أنه لا يوجد أحد يظن بنفسه السلامة من الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على الإنسان دائماً اشتهاها أكثر، فالذي جعل الرماة يتركون المكان هو أن الدنيا فتحت، والغنيمة موجودة، ولذلك من الخطر العظيم على الإنسان أن تفتح عليه الدنيا.
قال: ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك بين يديه.
يعني: ارتبكت الصفوف واختل الجيش، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس -أماكن في جبل أحد- وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق.
أي: بسبب الارتباك، ودائماً تجد في أوقات الشدة أناساً عندهم الاستعداد لقبول أخبار الشر والسوء، وعندهم استعداد للتشاؤم، إلى أن قال: فرقى نحونا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله) ويقول مرة أخرى: (اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا) قال: حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل مرتين.
وهبل: اسم صنم من أصنام قريش، أين ابن أبي كبشة؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا ينسبونه لزوج مرضعته.
قال: أين ابن أبي كشبة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يسأل عن هؤلاء الثلاثة خصوصاً؛ لأنه يعلم أنهم أساس الإسلام، ويعلم أن وجودهم بقاء لهذا الدين.
قال: فقال عمر: يا رسول الله! ألا أجيبه؟ قال: بلى، فلما قال: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل.
والمشهور أنهم لم يجيبوا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا تجيبوه؟).
قال عمر: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب! قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر.
قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، فالأيام دول، وإن الحرب سجال.
قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
قال: إنكم تزعمون ذلك، فلقد خبنا وخسرنا إذاً، ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أي: عن رأي سادتنا، قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.
وهذا سياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس؛ فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.
فقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذٍ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم، فلما رهقوه يعني: أدركوه قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضاً قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) فلم يزل يقول هذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفْنا أصحابنا أو ما أنصفَنا أصحابنا) يعني: نحن لم ننصفهم، إذ تركنا سبعة من الأنصار يقتلون ولم يقاتل واحد من المهاجرين، أو لم ينصفنا أصحابنا الذين فروا عنا، ولكن طلحة رضي الله عنه هو الذي ردهم، حيث قاتل قتال السبعة حتى ردهم رضي الله تعالى عنه.
وقد كان الرسول يؤخر طلحة إلى اللحظة الأخيرة، حيث قام فقاتل قتال السبعة؛ لأنهم قتلوا ولم يردوا المشركين، أما طلحة فقد قاتل حتى ردهم، وانصرفوا عنه صلى الله عليه وسلم.
قال: فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله أعلى وأجل، فقالوا: الله أعلى وأجل) فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
والعزى: إله من آلهتهم، يعني: أنه يتعزز به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله مولانا، والكافرون لا مولى لهم) فقال أبو سفيان: يوم بيوم، وحنظلة بـ حنظلة، وفلان بفلان، وفلان بفلان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون)، فقال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا.
يعني: فليس الكبراء الذين أمروا بها، ثم قال: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، يعني: ما حصل من المثلة، فإن أهل الجاهلية كانت عندهم كرامة، وكانوا يرون عدم التمثيل بالقتلى خصوصاً أنهم أولاد العم والأقارب، ومع ذلك فعلوا هذه الأفاعيل؛ لأن حمية الجاهلية كانت في نفسه، فهو يريد أن يتشفى شيئاً ما.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقرت بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلت شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار).(57/11)
الرفق في الدعوة إلى الله
إن الله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم إماماً للناس، وأوجب عليهم اتباع ملته، ووصفه بأنه أمة، وليس ذلك لشيء إلا لأنه قد وفى مراتب العبودية لله عز وجل.
ولذا يجب على أهل الإسلام التأمل في سيرته ومواقفه لأخذ الدروس منها، فتعامله مثلاً مع والده الذي ما زال في شركه، كان يظهر فيه أوضح وأرقى صور الأدب والشفقة، وهذا درس عظيم جداً للدعاة، أي: أن يرفقوا بالمدعوين ويشفقوا عليهم.
وكذا كان إبراهيم في صبره وتجلده في دعوته آية من الآيات، وكذا في ثباته على دينه وإعلانه العداوة والبغضاء لمن حادوا عن دربه السوي.(58/1)
تكريم الله عز وجل لإبراهيم، وتشريفه له
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله ألله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل إبراهيم عليه السلام كما قال الله: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:120 - 121] فقد جعله سبحانه وتعالى إمام الحنفاء، وكرمه وشرفه بأن جعله باني بيت الله الحرام، الذي أوجب الله عز وجل على المكلفين حجه وقصده تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وإرادةً لوجهه، وجعل سبحانه وتعالى ملة إبراهيم هي الملة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123].
وجعل الله عز وجل له الثناء والذكر الحسن في الأمم كلها، فالكل ينتسب إليه، كما دعا بذلك عليه السلام فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
وإن كان أتباعه حقاً إنما هم أتباع ملته الحنيفية التي بعث بها، وبعث بها كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وحين يذهب الحجاج إلى بيت الله الحرام يذهبون معظمين لهذا البيت لبانيه، وكل ذلك عبودية منهم لله سبحانه وتعالى، مرددين نداء الرحمن على لسان الخليل عليه السلام، الذي أذن في الناس بالحج، فلباه من في أصلاب الرجال، ومن في أرحام النساء إلى يوم القيامة، حتى أذن الله عز وجل لهذه البقعة أن تعمر بذكره، وذلك حين تعمر بحجاج بيت الله الحرام.
ونتذكر دعوة إبراهيم عليه السلام وسيرته التي ذكرت في القرآن العظيم مرات عديدة؛ حتى نعي منها دروساً وعبراً، وحتى نعرف حقيقة التوحيد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والبراءة من الشرك وأهله، والتضحية في سبيل الله.
عند أن تظهر لنا معان عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى التي قص لنا فيها أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ومواقفه المختلفة؛ نعرف لماذا اتخذه الله عز وجل خليلاً، كما قال عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، والخلة: شدة المحبة، فهو حبيب إلى الله عز وجل، شديد الحب له سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بمنزلته عند الله وهي مقترنة بذكر منزلة إبراهيم عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً).
والنبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا خير البرية! فقال: (ذاك إبراهيم عليه السلام)، وهذا قاله صلى الله عليه وسلم تواضعاً، أو قاله قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد الخلق أجمعين.
وأما إبراهيم عليه السلام فهو أفضل الخلائق على الإطلاق بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من الملائكة المقربين، وأفضل من سائر الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهو خير الخليقة على الإطلاق، بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمواقفه العظيمة وإقامته لأمر الله سبحانه وتعالى، وقيامه بدعوة الحق، حتى صار من يعبد الله عز وجل في الأرض من بعده ينتسب إليه.
وأعلى أمر هؤلاء العباد أن يكونوا متبعين لملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(58/2)
أثر دعوة إبراهيم عليه السلام مع قلة المستجيبين
ولقد قص الله عز وجل علينا في كتابه موافق إبراهيم العظيمة في الدعوة إلى الله وتوحيده، وإقامة أمره ودينه.
مع قلة من استجاب له من قومه؛ فإنه لم يستجب له إلا رجل واحد، وامرأة واحدة، فاستجاب له لوط، كما قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] وأخبر سبحانه وتعالى أن امرأته كانت معه، فامرأته سارة وابن أخيه لوط هم ثمرة هذه الدعوة في زمنه، وإن كانت ثمرة هذه الدعوة لا تقاس في زمن الداعي فقط، وإنما تُرى آثارها في الأرض، وأنت إذا رأيت هذه البقعة التي لا زرع فيها ولا نبت ولا ماء ولا شيء يذكر، وإنما هي بين صخور صماء، ومع ذلك تجدها أكثر بقعة في الأرض يؤمها الناس؛ فإنه يؤمها ملايين من البشر في كل ليل ونهار، فضلاً عن وجوه مئات الملايين التي تتوجه إليها، إذا رأيت ذلك علمت ثمرة الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف تكون؟ وعلمت أن دعوة صادقة تغير وجه الحياة على ظهر الأرض، كما دعا إبراهيم فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
فسبحان الله! تجد هذه البقعة التي لا ثروات فيها بوجه من الوجوه؛ فلا أرض تزرع، ولا معادن ينقب عنها، ولا سماء تمطر عليها، إلا في النزر اليسير، فلا أنهار تجري، ولا عيون تنبع، إلا عين زمزم التي إنما تفي بالشرب لا للزرع، ومع ذلك تجد هذه البقعة أكثر البقع -بحمد الله تبارك وتعالى- تهفو إليها القلوب، وتحن إليها، ولا يرى أحد أنه قد قضى منها وطراً، بل هي أمل الملايين من المسلمين، ولو علم الكفار ما في الراحة والسعادة في التوجه إلى هذه البقعة، وفي التواجد فيها، وفي عبادة الله عز وجل على أرضها، لما عدلوا عن الإسلام بديلاً، ولما رضوا بغير هذا الدين؛ لأن الله جعل هذا البيت هدى للعالمين، ولما لم يذوقوا طعم العبادة في هذا المكان رضوا بأن يتوجهوا إلى غيره، فقلوبهم مفطورة على أن تتوجه إلى هذه البقعة، لولا ما عفا عليها من الشرك والتبديل والتحريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد ذكر الله عز وجل دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، وبين لنا الأسوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام.
فقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:42 - 50].
يخبر الله عز وجل عن إبراهيم أنه كان صديقاً، ومقام الصديقية جزء من مقام النبوة، وذلك أن الصديق عظيم التصديق، كثير اليقين، فهو يوقن بما أخبر الله عز وجل به من الغيب، ويصدق بكل ما أخبره الله عز وجل به.
ومن كان كذلك فقد وصل إلى مراتب الإيمان العليا، وإبراهيم عليه السلام أراد أعلى المراتب، ولذا سأل ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
علم إبراهيم أن المخبر ليس كالمعاين، فأراد المعاينة لهذا الأمر الغيبي، وهو كيفية إحياء الموتى، وليس ذلك شكاً منه عليه السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فإبراهيم لم يشك، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشك، بل آمن كل منهما، ولكن أراد إبراهيم أن يرى بعينه، وذلك أن رؤية العين أكمل في حصول اليقين، ولذلك منَّ الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في آياته الكبرى يوم المعراج كما قال عز وجل: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:12 - 18].
فرأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى الجنة والنار، ورأى سدرة المنتهى يغشاها ألوان لا يقدر على أن يصفها من حسنها، وغشيها فراش من ذهب، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعينيه، ورُفع إلى مستوى يسمع صريف الأقلام، وهذه منزلة عالية له عليه الصلاة والسلام.(58/3)
أهمية البدء بدعوة الأقربين
كان إبراهيم عليه السلام صديقاً عظيم التصديق، وكان نبياً، وكذلك كان رسولاً إلى قومه، وبدأ عليه السلام دعوته بدعوة أبيه، كما قال عز وجل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
وهكذا ينبغي أن يبدأ الداعي بعشيرته الأقربين، كما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] يعني: رهطك منهم المخلصين.
فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته قومه، ودعا أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فآمن به من آمن، ورد دعوته من رد، وهكذا ينبغي على كل أحد أن يكون تأثيره أو دعوته أولاً لأهل بيته، والمقربين إليه من أقاربه وجيرانه وزملائه، وهذا أمر عظيم الأهمية، فليست القضية برسوم معينة لا نستطيع الدعوة إلا من خلالها، أو أشكال معينة لا تقوم الدعوة إلا بها، إنما الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تكون بالقول، والعمل، والسلوك، وفي مخالطة الإنسان لمن حوله، ولو كان الإنسان صادقاً فإن الله عز وجل لا يجعل عمله هباءً منثوراً، خصوصاً في أقاربه وأهل بيته ومن يخالطه، فإن الله يضع للمؤمن القبول في الأرض، ولا نعني بذلك أنه لا بد أن يهتدي كل من تدعوهم من أهل بيتك، ولكن لا بد أن تبذل معهم الجهد الكبير مقدماً إياهم على غيرهم، لا أن تتركهم فريسة للشياطين التي تريد أن تفتك بهم.
وهكذا كان أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يدعون أهل بيوتهم، وهكذا كان الدعاة إلى الله عز وجل يهتمون دائماً بالمقربين منهم، ولا يعني ذلك أن تترك دعوة الأباعد والغرباء، ولكن ابدأ بأهل بيتك، واسع في إصلاح أسرتك: (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فتدعو الكبير والصغير، وتدعو آباءك وأجدادك، وتدعو أبناءك وأحفادك، وتدعو إخوانك وأقاربك، وتدعو كل من حولك إلى الله سبحانه وتعالى.(58/4)
أهمية الرفق في الدعوة إلى الله
ولتكن الدعوة بالأسلوب الرفيق الراقي الشفيق كأسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوته، قال الله عنه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، فناداه بقوله: (يا أبت!) ليذكره بالعلاقة بينه وبينه، والتي تقتضي كمال الشفقة، فذكره بلفظ الأبوة مضافاً إليه حرف التاء، وهذه الصيغة من أرق الصيغ التي تؤثر في نفس من شاء الله عز وجل هدايته، وهذه الكسرة التي في حرف التاء تشعر الأب بانكسار ابنه له، وهذا الانكسار من الرحمة، كما قال عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، وهذا الانكسار للوالدين لا يقع من كثير من الأبناء، فيترتب على ذلك من العقوق والقطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله عز وجل.
فالله عز وجل فرض على الابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدمة على أبيه في البر والإحسان وحسن الصحبة والرفق واللين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة).
فينبغي أن تكون في أتم الحرص على إظهار هذا الرفق واللين، وإذا كان الله عز وجل قد أمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الطاغية قولاً ليناً، كما قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فأولى الناس بالرفق والقول اللين أهل بيتك، وأقاربك، خصوصاً والديك، وكن كما قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، وأنت ليس عليك هدى أحد، ولكن عليك أن تحسن الأسلوب؛ فإن الفظاظة وغلظة القلب -خصوصاً مع الأقارب والآباء والأمهات- من أعظم أسباب نفرة الناس عن الالتزام بالكتاب والسنة، ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع للكثيرين، فيصدقون وسائل الإفساد التي تشوه صورة الالتزام؛ لأنهم يجدون في سلوك أبنائهم البعيد عن الشرع مبرراً لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق، فلا بد أن تكون رفيقاً شفيقاً في دعوتك، فإن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
ولا نعني بذلك المداهنة وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق، وإظهارها، ولقد قال إبراهيم لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، وقال: ((إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74].
وليس هذا من باب السب والطعن، ولكن من باب بيان الحق، فلا نقول عن الحق: إنه باطل.
فما أكثر ما يشتبه الأمر على الناس! فيصفون الباطل بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويقولون: أسلوب حسن، ودبلوماسية في الدعوة! نعوذ بالله! فهذا هو الضلال، وهذا هو الذي يحصل به الانحراف.
وإنما الأمر يكون في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والأخوة والقرابة في بيان الحق، وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة، والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبين له الحق البيان الكافي والشافي، لا أن نتركه من دون بيان، ولا بد من أن يشعر منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وفي حب الخير له، فأنت بمحبتك له تحب له الخير، وتحبه ذلك الحب الفطري، فإذا لم يكن على الهدى تحب هدايته وإرادة الخير له، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (لإسلام أبي طالب كان أحب إلي من إسلام أبي قحافة؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهو يحب إسلام أبيه، وقد حقق الله عز وجل له ذلك.
فالغرض المقصود أن تكون محباً لهداية أهلك وأقاربك، مؤثراً فيهم بحسن العشرة، والسلوك الطيب، والخلق الحسن، الذي يجعلهم يحبونك رغماً عنهم، ويصدقون كلامك وإن أظهروا التكذيب، والرد؛ فأنت ببرك لوالديك وصلتك لرحمك وإحسانك إلى جيرانك تكون قد سلكت سلوكاً مباركاً في الدعوة إلى الله، إما إذا عققت والديك وقطعت رحمك وأسأت إلى جيرانك فتكون بفعلك قد قمت بأعظم أسباب الصد عن سبيل الله.
وإن كنت مظهراً أنك تدعو إلى الله، وإن كنت مظهراً أنك ملتزم بحقيقة الالتزام والدين والطاعة، فلا بد أن تكون مجتهداً في إظهار الإحسان إلى الخلق.(58/5)
بيان ضعف وعجز الآلهة التي تدعى من دون الله عز وجل
قال الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وفي هذا بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، وأنه لا يغني عن نفسه شيئاً، فكيف يغني عن غيره وهو لا يسمع ولا يبصر؟! وهذه متضمنة لإثبات صفة الكمال لله سبحانه وتعالى، فهو عز وجل السميع البصير، الغني الحميد سبحانه وتعالى.
فأنت تبين أن ما يعبد من دون الله لا يملك شيئاً، فلا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابديه شيئاً.
فالبشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون، وليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط، ثم هم كذلك يموتون فيذهب سمعهم، ويذهب بصرهم، وكانوا قبل ذلك في العدم، ولذا فإن من يعتقد في الأموات السمع والبصر المحيط ويسألهم على ذلك، ويعتقد أنهم يرونه ويجيبونه ويغنون عنه شيئاً، فهو -والعياذ بالله- مشرك بالله العظيم.
فيقال له: ((لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)).
فالذي يعبد القبور وأصحابها، ويعبد الجن، ويعبد من يعبد من هذه الأوثان التي وضعت لترمز إلى هذه الآلهة الباطلة، فيقال له نفس الحجة: ((لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)).(58/6)
بيان شرف العلم وعلو منزلة صاحبه
قال عز وجل عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:42 - 43].
شرف العلم عظيم، به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع العبد درجات بالعلم، كما قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].
فالله عز وجل يرفع الدرجات بالعلم.
وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي))، هذا علاج لمرض ينتشر في كثير من الناس، وهو أنه لا يقبل الحق من الصغير، ولا يقبل الحق ممن دونه في السن أو دونه في المنزلة عند الناس، فإبراهيم يذكر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأته، فليست العبرة بطول العمر، ولا بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس، وهذا أمر يستفيد المؤمن منه في دعوته إلى الله عز وجل، إذ يبين للناس أن العبرة باتباع من جاءه العلم من عند الله، والعلم من عند الله هو العلم بالوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده من العلم شيء فينبغي اتباعه، سواء أكان كبيراً في السن أم صغيراً.
كما وكان عمر رضي الله عنه يدني القراء، وكانوا في عهده رضي الله تعالى عنه أصحاب مجلسه ومشورته، كهولاً كانوا أو شباناً؛ فكان القراء الحافظون لكتاب الله هم أصحاب مجلس عمر، وكان منهم الحر بن قيس.
ولم يكن رضي الله تعالى عنه يقدم أي أحد لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأكبرهم سناً).
فالإنسان إنما تكون له المنزلة بالسن إذا استوى في غيره من الفضائل مع غيره، وأما أن يحترم الكبير فنعم، ولكن لا يلزم من هذا الاحترام أن يكون متبعاً على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).
ولكن هذا الاحترام وهذا التوقير ليس معناه قبول كل ما يقوله الكبير.
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
أهدك بمعنى: أبين لك، وإلا فهداية القلب لا يملكها إلا الله، وهو سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل هدايته، وحيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالظالمين، فإنه يضع الهدى في مواضعه، كما قال عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] فهو سبحانه يعلم من يستحق الهدى، ومن يناسبه، ومن يقبل الهدى فينبت أنواع الطاعات ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض، والمحل قابل لهذا الخير.
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
أي: مستقيماً معتدلاً قصداً، وهو الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى.(58/7)
النهي عن عبادة الشيطان
وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
أكثر الخلق يعبدون الشيطان، وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يشعرون بذلك، فلا يوجد إلا قلة هي أقرب إلى المجانين لا بل إلى البهائم بل أسوأ من ذلك ممن يقرون بعبادة الشيطان صراحة! ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، وبعبادة ما يأمرهم بعبادته من الأوثان، والأشخاص والآلهة الباطلة من دون الله، أو مع الله عز وجل تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً.
فقوله: ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)) يعني: بطاعته في دعوته إلى الكفر، وكل من عبد غير الله فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال عز وجل: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] فهم عبدوا الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك، وكل عابد لغير الله ومكذب لأنبيائه الله ورسله وكتبه فهو عابد للشيطان؛ إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله، وأمر بتكذيب الرسل، ولذلك كان كل كافر مشركاً، وكل مشرك كافراً؛ لأنه غير فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والله سبحانه وتعالى حذر بني آدم من عبادة الشيطان، ألا يعبدوه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62].
نسأل الله أن يعيذنا من عبادة الشيطان.
فكثير من الناس يسبه ويلعنه، ولكنه مطيع له وعابد.
كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ربما ينفون عن أنفسهم ذلك -أي: عبادة أهوائهم-، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر كان ذلك عبادة له، كما قال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وهذا كحال من يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة مع أنهم يذمون طالب الرياسة، ويجعلونها مذمة، كما ذم قوم فرعون موسى وهارون بالباطل حين قالوا لهما: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، فهما بزعمهم يريدان الكبرياء، وهذه مذمة، مع أن قوم فرعون هم الذين يريدون الكبرياء.
وأهل الرياسة والملك هم الذين يريدون الملك والرياسة ويقتتلون من أجل ذلك، ومع ذلك يذمون من يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، ومن أجل أن يحافظوا على الطريقة المثلى، ووالله! ما هي بمثلى، ولكن هذا شأن هؤلاء القوم الذين يعبدون الشياطين، وفي نفس الوقت يذمونها.
ويعبدون الأهواء، ويزعمون التبرؤ من الهوى.
ويعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة ويذمون من يريد ذلك، ويقولون: هذا إنسان تابع للمال، ويشترى بالمال، ويذمون المال، ويقولون: نحن لا نحبه، مع أنهم يقتتلون من أجله، فهؤلاء لا يغني تبرؤهم عنهم شيئاً.
وكونهم لا يسمونها عبادة مع كونها عبادة لا يغني عنهم شيئاً، ولذا كان من يعبد غير الله من الأموات وإن لم يسم فعله عبادة يعبد عابداً لهم، كما أن من يعبد غير الله من الكبراء والأحبار والرهبان ممن يقبل تشريعهم من دون الله وإن لم يسم فعله عبادة فقد عبدهم، ولا ينفعه ذلك بعد بلوغ الحجة، ووصولها إليه؛ لأن هذه عبادة له من دون الله.
وقوله: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
انظر إلى هذا التعليل، وتأمل وتدبر كيف أنه جعل طاعة الشيطان لا تجوز، ولا تنبغي؛ لأنه عاص للرحمن.(58/8)
سبب النهي عن عبادة الشيطان واختيار اسم الرحمن
وذكر الله باسمه الرحمن المتضمن صفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهوراً واضحاً جلياً بيناً لكل من يتأمل.
وتظهر آثار هذه الرحمة العامة فيما خلق من البشر، وخلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم، وأولادهم، وجعلها كذلك في الدواب، وآثار رحمة الله عز وجل لأهل الأرض بالمطر وبالأنهار وبالليل والنهار، وبأنواع الرحمات، وهذا أمر ظاهر، لا يخطئه متأمل.
فذكره بأن الرحمن يريد بنا الرحمة، ويريد أن يرحمنا، والشيطان عصي له، فلا تعبده بطاعته في الوقوع في الكفر والعياذ بالله! ولذا كانت هذه العلة مقتضية بأن كل من كان للرحمن عصياً لا تجوز طاعته، ولا متابعته.
وقوله: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا))، الشيطان عصي للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل من عصى الله فلا يطاع في معصية الله عز وجل، ولا يتابع، وإلا كان ذلك من عبادته، أو مؤدياً إليها، نعوذ بالله من ذلك.
فالإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فلا يتابع إلا الحق، ومن يأمر به، من يدعو إلى عبادة الله، وأما من يطيع غيره ممن عصى الله عز وجل فإنما يصل إلى الشقاء، ويُمنع من الرحمة.
نسأل الله العافية من ذلك.(58/9)
طاعة العصاة سبب الشقاء
والشقاء في هذا العالم إنما هو بسبب طاعة من كان للرحمن عصياً، وأعظمهم إبليس، ولهذا قال: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44].
فلا تجوز طاعة الأثمة والكفرة، قال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24].
وقال سبحانه وتعالى لإبراهيم: ((لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))، فالظالمون ليس لهم إمامة للناس، كما قال عز وجل: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
فليس الظالمون داخلين فيمن أمرنا باتباعهم وطاعتهم، ولذا ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يولى على الناس من يأمرهم بعبادة غير الله، وبمخالفة شر عه، فكيف يقال للناس: إنه يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله عز وجل، وهذا هو حقهم عليكم طالما كانوا كفاراً؟! نعوذ بالله من الظلال والطمس على القلوب؛ إذ كيف يكون الباطل سبباً لرد الحق، ولإحقاق الباطل، وكيف يكون الكفر -والعياذ بالله- سبباً لأن يكون الإنسان من حقه أن ينهى غيره عن عبادة الله.
فهل الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله، والعباد عباده؟ فلا بد أن يطيعوا ربهم عز وجل.
بل نقول لكل مؤمن ومؤمنة في كل مكان في الأرض: لا تطيعوا من يعصي الرحمن؛ ولا تطيعوا من يأمر بمخالفة شرعه سبحانه وتعالى، وإن غلب الإنسان على أمر، فلا بد مع الإكراه من طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وإنما يكون الإنسان عند المخمصة والمهلكة، والضرورة التي تعجزه عن الحياة أو تفقده حياته وضروراته.
أما لمجرد نيل شيء من حطام الدنيا عند الناس، فلتذهب الدنيا بأهلها إن كانت في معصية الله.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب، ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(58/10)
من صفات الداعي إلى الله عز وجل
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:44 - 45].
فينبغي على الداعي إلى عز وجل أن يظهر الشفقة والخوف على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وهكذا كانت الرسل دائماً يخافون على أقوامهم، ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الحسنة التي يريد الشيطان أن لا يشعر الإنسان بها، حتى لا تستجيب الفطرة السليمة لها، وهي العلاقة الطيبة التي يستجيب بها هذا الأب لابنه ويظهر أنه مشفق عليه.
وقد قال المؤمن الذي من آل فرعون نفس هذه الكلمة، قال الله سبحانه وتعالى عنه في دعوته لقومه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:30 - 32].
فلا بد أيها الداعي إلى الله من أن تكون خائفاً على الناس، لا تريد أن يدخلوا النار، أو يحكم عليهم بها، أو يحكم عليهم بأنواع العقاب، وإنما عليك أن تحب لهم الخير، تريد لهم النجاة.
فتخاف وتشفق عليهم فعلاً؛ لأن الدعاة إلى الله عز وجل هم أتباع الأنبياء، فيخافون عليهم كالأنبياء.
وهذه الشفقة تحيي في قلوبهم الفطرة السليمة في اتباع من هذا شأنه، والله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، فأنت إذا أظهرت صفات الرب سبحانه وتعالى كان ذلك من أسباب قبول الخير من هذا العبد وإظهار شفقتك على الناس له أساليب بأنواع مختلفة بحسب حال الداعي والمدعو.(58/11)
دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه ورحمته به
وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ)) تأمل في هذه الألفاظ، فمجرد مسيس عذاب يخاف على أبيه منه فهو لا يخاف فقط أن يلقى في النار، وإنما يخاف أن تمسه النار، فهو يظهر له مدى شفقته، وأن مجرد أدنى مس للعذاب يخاف عليه منه، فتأمل ذلك! فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى وما شاء فعل.
ولكن إنما ذلك ليكون أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، في الصبر والاحتمال، حتى ولو لم ير أثراً لذلك.
وقوله: ((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ))، فإذا عذبك الرحمن فمن يرحمك إذاً؟ فالرحمن الذي صفته الدائمة اللازمة له الرحمة إذا عذب فمن يرحم؟ فالله سبحانه إذا لم يرحم عبده فلن يرحمه أحد، فهو الرحمن وحده.
وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واجترمه، وليس لأن الله عز وجل لم يرحمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمه ما يستحق.
وإنما هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الرحمن.
أما الرب سبحانه فالرحمة أحب إليه من العذاب والعقاب، ورحمته سبحانه تغلب غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي، أو: إن رحمتي تسبق غضبي) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالله قد كتب على نفسه الرحمة، كما قال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12] فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، فإذا عذب فقد أخرج الإنسان من رحمته وأي رحمة، ولذا لا ترحمه الملائكة، ولا المؤمنون، ولا شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحد، بل لا ترحمه نفسه، فيمقت نفسه ويبغضها، فينادي مع أهل النار.
مالكاً: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
ولهم نداء آخر ذكره الله بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]، ويسترحمون المؤمنين بقولهم كما أخبر الله عنهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
نعوذ بالله من ذلك، فإذا كان الإنسان قد خرج عن رحمة الرحمن الرحيم، فلن يقع في رحمة أحد، ولن يرحمه أحد.(58/12)
نعيم القرب من الرحمن وشقاء القرب من الشيطان
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].
أي: فتكون من أولياء الشيطان، ومن المقربين منه.
فتشقى شقاء لا نعيم بعده أبداً.
وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، ويتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقربون إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما النعيم أصلاً في القرب منه.
وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وإن كان لا يمكنه أن يتقرب ببدنه وإنما يتقرب بروحه، قال عز وجل: ((وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)).
ولذلك يسعد المقربون من الله، ويسعد من تقرب إليه سبحانه، والله يقترب منهم رحمة وإثابة منه سبحانه وتعالى؛ لتقربهم إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيه هرولة).
فمن قرب إلى الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي.
وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45] النار إنما هي بعد وعذاب، ولذا كانت اللعنة بعداً؛ لأن فيها الطرد والرجم، وصف الشيطان بالرجيم أي: المطرود المبعد، كما قال عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78].
أي: عليه الإبعاد، فهو مبعد من رحمة الله.
والبعد عن الله عز وجل أعظم شقاء للإنسان، والمعاصي من أسباب البعد، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله سبحانه وتعالى، وقرب من الشيطان.
فالشياطين إنما تأوي إلى كل قبيح، ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن والجلوس معهم في مجالس الفسوق والعصيان عذاب للإنسان، نعوذ بالله من ذلك.
ونعوذ بالله من ولاية الشيطان، ومن القرب منه، ومن طاعته، وكلها متلازمة، فإن من أطاع الشيطان واتبع أمره وقرب منه صار عدواً للرحمن، وولياً للشيطان، فكان -والعياذ بالله- معذباً في دنياه قبل أخراه، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن الشيطان، وعن سبله، وأن يقربنا منه سبحانه وتعالى، وأن يرزقنا القرب منه في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(58/13)
القلب السليم
صلاح القلب وسلامته هو الأساس لصلاح الفرد والمجتمع، والقلب السليم يعد من أسباب النجاة يوم القيامة، بل لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان له هذا القلب.
والقلب السليم هو سبب للتمكين في الأرض، فإن سنة الله في الأرض أن لا يمكَّن لأناسٍ مرضى القلوب؛ حتى لا يسلب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، فيجب على المسلم الاهتمام بقلبه، وأن يتجرَّد لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يعمل العمل يبتغي به وجه الله، فلا يلتفت إلى الناس ولا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، وهذا هو الإخلاص الذي هو علامة سلامة القلب.(59/1)
وجوب الحرص على سلامة القلب وتزكية النفس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول سبحانه وتعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45].
عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه وتعالى وعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة فقال (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها مما أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟ واعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا بسلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه، من سائر الأمراض التي كرهها الله عز وجل وأمر العباد أن يعالجوها في أنفسهم، وأن يداووها حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلوب من إيمان، والشرك من أعظم الأمراض خطراً، وكذلك الكبر، والعجب، والغرور، وسائر أمراض النفس التي تنشأ منها أنواع البلايا والعياذ بالله تنشأ منها صراعات الناس فيما بينهم على هذه الدنيا، وينشأ منها الشرك والعناد والكفر والنفاق؛ كل هذا بسبب أن الإنسان لم يداو نفسه، ولم يسع إلى علاج جهلها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول، إلا من رحمه الله سبحانه وتعالى وجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل، فهو سبحانه وتعالى يعلَّم عباده بوحيه ويأمرهم أن يداووا أنفسهم، مع أنه أخبرهم أنه سبحانه هو الذي يشفي هذه القلوب ويحييها بعد موتها، ليعلمهم أنه سبحانه يفعل ذلك بأسباب كما في كل قضاء قدَّره؛ فإنه يتم من خلال الأسباب، ولذا أمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأمرهم أن يداووا أمراضهم، وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وتعالى، ولذا كان واجباً علينا أن نسعى في الأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى، مع اليقين بأن فضل الله أسبق، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، فهو خير من زكاها، ولذا كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
فالله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه، وإن كانت التزكية أو التدسية التي تكون إنما هي عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه ينال أهله الذين أهَّلهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.(59/2)
سلامة القلب سبب التمكين في الأرض
إن سلامة القلوب وصلاحها لا يكون إلا بفضل الله، والعون منه سبحانه وتعالى، لكن علينا أن نسعى إلى سلامة قلوبنا وصلاحها؛ لأن تسليم القلوب لله عز وجل وسلامتها وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب لتمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، التي ليس عندها من أسباب القوة أو العدد والعدة ما تفوق به غيرها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا سلمت قلوبها لله تعالى، فإن الله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، فإذا كانت النفوس لم تتزكَّ بعد ولم تنطرح ولم تسلم، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، والله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر وعمل لغير الله سبحانه وتعالى فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لا تزال تتعلق بالدنيا، وبنصيبها وبرؤية الناس لها، فهذا أمر لا يحصل معه الخير ولا تحصل معه الغاية من تمكين المؤمنين، والتي هي كما قال ربعي: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).(59/3)
الإخلاص علامة لسلامة القلب
إن الغاية المقصودة أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك كان الإخلاص لله عز وجل علامة لسلامة القلب، وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]، والإخلاص عزيز نادر فلا بد على الإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت يعلم أنه لا يناله إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا يناله إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ فإن من أيسر الأمور على الشيطان الدخول على النية، وأيسر شيء عليه هو أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، لا بد للإنسان أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة والمحاسبة للنفس.
كما أمر الله عز وجل بالمحاسبة والمراقبة والنظر إلى العمل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19]، ونسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى أن يراقب الناس، وأن يحاسب نفسه على ما يقتضيه موقفه عند الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد للمسلم أن يعمل العمل وهو متصوّر لهذا العمل والغاية منه وما موقفه بين يدي الله عز وجل من هذا العمل، وماذا سوف يجيب ربه سبحانه وتعالى عندما يسأله، نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عُذِّب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.(59/4)
النظر إلى مدح الناس وذمهم سبب الهلاك والخسران
إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس، ولا فيما يقوله الناس ويظنونه به، هذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، أي: من يكون مع الله سبحانه وتعالى بلا نظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك، فقول الناس وما يظنونه دفع أناساً إلى الحسد وإلى الكفر وإلى العناد رغم علمهم بالحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك بسبب ما يقوله الناس: إن بني هاشم سبقوا وقالوا: منا نبي فمن أين لهم أن يكون منهم نبي وليس منا نبي؟! ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فكلام الناس هو الذي يخافون منه، وهذا من أعظم الخطر.
ألم يكن سبب كفر فرعون هذا الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف وأحقر النفوس، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاومه أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها الشيطان به من أنه هو الأفضل وهو الأحسن وهو الأعلى فهذا هو الذي يغلبه شيطانه، ففرعون قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52].
فإن هذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي اعتقاده بأنه أفضل من موسى، فالعقدة في نفسه هل موسى أفضل منه أم هو أفضل من موسى؟ ولذلك يوازن عند قومه بينه وبين موسى، فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وهذا هو الذي أدى إلى كفر إبليس والعياذ بالله، قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].(59/5)
خطورة النظر إلى النفس بعين الكمال
النظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، كيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل والأحسن وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق على الإطلاق وأعلاهم عند الله منزلةً يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) ومع كل هذا الأمر يقول في خاتمة دعائه: (وما أنت أعلم به مني)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر النقص والذنب والخطيئة فيما قدم وفيما أخر، وبعد كل هذا يقول: (أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)، إذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو عليه الصلاة والسلام المعصوم من الذنب، وهو الذي لا يتعمَّد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام إنما هو خطأ أو نسيان أو ترك لبعض الأَولى أو فتور عن ذكر مستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن دونه؟! وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه؛ بأن يرى نفسه هالكاً إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، لسان حاله يقول في خطابه لربه: وجئنا ببضاعة مزجاة، فما الذي جعل إخوة يوسف يطلبون منه هذا الطلب ويطمعون فيه مقابل البضاعة المزجاةٍ، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، وبسبب طمعهم في كرمه قالوا له: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، فهم يرجون منه الإكرام وأن يوفي لهم الكيل مع أن بضاعتهم مزجاة، وهكذا لسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل يرى نفسه المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكن طمعه في فضل الله ورحمته يجعله يتقرب إلى الله بهذا العمل اليسير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فانظروا فيم كان الرجاء؟ وعلام كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل! مع كونه عليه الصلاة والسلام في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر؛ لأنه فيما بينه وبين الله عز وجل قد حقق ما ينبغي أن يكون عليه العبد من الذل والاستكانة والانكسار بين يدي الله؛ وما ذلك إلا لكمال هذه العبودية عنده، فهو نظر إلى النقص والتقصير ولم ينظر إلى الكمال، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.(59/6)
ضرورة معالجة أمراض القلوب
لا شك أن القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها؛ وهذا ينبني عليه تذكر الموقف بين يدي الله، وتذكر الآخرة، ومعرفة صفات الله سبحانه وتعالى على وجه الكمال، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي أن يكون عليه، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(59/7)
النظر إلى النفس بعين التقصير من علامات الكمال
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن الله عز جل أغنى الأغنياء عن الشرك، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ولذا كان العمل الذي فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله تعالى، فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له)، فهذا الرجل قاتل من أجل شيئين: الأجر من الله، والذكر من الناس، بأن يذكره الناس ويعرفوا مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجه، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون نظر إلى الناس، وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه بعين التقصير والنقص فإنه سوف يكون في معاملته مع الناس كذلك؛ لا يرى حقاً لنفسه، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس وأنها استغنت بالله عز وجل، فينبغي أن يكون الإنسان في معاملته للناس ألا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، فإن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته، فكيف يطلبه منهم؟! ولذلك يكون عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضيعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] بل جعل أصحابه يتسابقون إلى معرفة قدره وإلى تعظيم حقه، وإلى مراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لم يكن عليه الصلاة والسلام ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم، فالإنسان الذي قد جاد بحقه، ولا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قُصِّر في حقه؛ هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخلق بلا نفس يراعي حظها، ويراعي نصيبها، فهو لم يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، وكان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، كان يعامل الناس وكان يداينهم فكان يقول لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر أو ضعوا عن المعسر، فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، لم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحريضاً عليه، مع أنه كان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ابن عمه، فلما فتح الله على نبيه مكة وأسلم أبو سفيان بن الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لما كان من أذاه له ومن شدته عليه، فاشتكى أبو سفيان بن الحارث إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ائته من قبل وجهه وقل له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92])، فهكذا كان عليه الصلاة والسلام أحسن قولاً ورداً كما كان يوسف عليه السلام أحسن قولاً ورداً؛ لأنه استغنى بالله عز وجل، والغنى بالله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان في غير حاجة إلى ما عند الناس، ولا إلى ما يقولون أو يفعلون معه، ولا يلتفت هل أدوا إليه حقه أم لا؟ فإنه استغنى عن ذلك بالله عز وجل، استغنى بعبوديته لله سبحانه فاضمحل ما في أيدي الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً له فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء نحوه لم يشعر بهذا التقصير، ولم يلتفت إليه، فكان هذا الأمر من أخلاق النبيين.
فكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك، ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه.(59/8)
الاستغناء بالله تعالى عما سواه
إذاً: فالإنسان الذي يستغني بالله عز وجل بافتقاره إليه دون من سواه، فإن الله عز وجل يغنيه عن كل ما سواه، ويجعل نفسه كريمة، فيها الجود وفيها السماحة، وفيها سهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى من الحسد والتباغض، ومن التنافس على الدنيا، ومن حب الشهرة والرئاسة على الخلق، ومن حب الملك والسلطان، وما ترون في العالم كله من السعي إلى الدمار والهلاك والحرب والتنافس، وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك.
كذلك من افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن وجد فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه سيستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق، فإنه لا يزال في فقر، ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت وأخلصت لله عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت له وانكسرت بين يديه سبحانه.
ومن أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى للعبد هو انكساره بين يدي ربه، وأن يرى نعمه عليه ويرى عجزه وضعفه، وبذلك ينال درجة المحبوبية، وما العبودية إلا حب وانكسار وذل، بذلك يرتفع الإنسان ويعلو شأنه، وبذلك يكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك به شيئاً، فيستحق التمكين، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء، وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في بورما، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً.
اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.(59/9)
أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله
الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان؛ لأن به يعلم الإنسان ضوابط علاقته مع المسلمين والكافرين، ومما يحتِّم وجود هذا الأمر الآن ما نراه من دعواتٍ تسارع في إرضاء الكفار وموالاتهم، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الحذر منهم ومن أفكارهم التي هدَّمت المجتمعات، فيجب على المسلم أن يوالي الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وأن يتبرأ من الكفر والكافرين، وأن يحذر من الوقوع في أي مظهر من مظاهر الولاء والنصرة لهم.(60/1)
الولاء والبراء وأهميته
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فلما كان حب الله سبحانه وتعالى هو أصل هذا الدين، وأصل تحقيق العبودية له عز وجل، مع الخضوع والذل له، ولما كان حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أصل متابعته والتصديق به، فإن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله لا يحصل إلا بذلك، فكان بيان هذه المسألة ولوازمها والحذر مما يضادها من أوجب الواجبات، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكتف من عباده بأن يعبدوه حتى يتبرءوا من كل ما يعبد من دونه، قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]، وقال ابن عباس رضي الله عنه وغير واحد في تفسير هذه الكلمة الباقية: هي كلمة (لا إله إلا الله)، جعلها الله كلمة باقية في نسل إبراهيم، فلا يزال في نسله من يقولها، فجعل هذا الموالاة لله والبراءة مما يعبد من دونه هي كلمة: (لا إله إلا الله).
فلا يصح إسلام وإيمان عبد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم أن بغض من يعبد غير الله سبحانه وتعالى هو أصل من أصول الإيمان، ولا يتم إيمان العبد حتى يحصل ذلك.(60/2)
الولاء الواجب
إن من أخص معاني الولاء والبراء: الحب في الله والبغض فيه، وهنا نجد أن أنواع الولاء والبراء هي: الولاء الواجب: والبراء الواجب، والولاء المحرم، والبراء المحرم.
والولاء الواجب: هو الحب الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا بوجوده، ولو كان ضعيفاً فلا بد من وجود أصله؛ فإذا زال أصل الحب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم زال أصل الإيمان، وإذا نقص نقص الإيمان، وإذا اكتمل اكتمل الإيمان.
فالحب الواجب هو حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين، وحب الإيمان والعمل الصالح، وحب من أطاع الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
تضمن هذا الحديث: الحب الواجب، والبراء الواجب، وهو كراهية الكفر، وكراهية من يعبد غير الله سبحانه وتعالى تابعة لذلك.
وقد أوجب الله عز وجل حب الإيمان، قال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
فقد تضمن هذا الحديث الولاء الواجب، وتضمن البراء المحرم الذي هو بغض من آمن بالله عز وجل، فإن من تبرأ ممن نصر الدين فإنه يبغض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يبغض شيئاً من الدين فهذا والعياذ بالله من علامات الكفر والنفاق، كما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض الإسلام: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به.
إن المؤمن لا يتم إيمانه ولا يذوق حلاوة الإيمان حتى يكون الكفر عنده بمنزلة الإلقاء في النار، قال صلى الله عليه وسلم (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
ولذلك نقول: إذا عَرضْتَ هذه النصوص القرآنية على ما يُدعى إليه الناس من التحاب في الإنسانية كلها، دون نظر إلى دين أو طاعة أو معصية، وأن الدين لا يفسد للود قضية، وأن الإنسان ينبغي أن يحب كل من ينتسب إلى الإنسانية، مع كون أصحاب هذه الدعوة لا يطبقونها، بل هم أعداء الإنسانية في الحقيقة، وإنما يعرفون حقوق الإنسان الذي هو من جنسهم، أما غيرهم فكأنهم لا يرونهم من البشر، بل يرونهم من الكلاب، كما نسمع هؤلاء الكفرة المجرمين، ومنهم ذلك الرجل المجرم الذي يعبر عن كراهته للإسلام وللمسلمين، ذلك اليهودي الكافر الذي صار عندهم من المقدمين، حتى صار مرشحاً لرئاسة وزرائهم، وهذا الخبيث يقول: إني أشعر بسعادة بالغة عندما أرى دم فلسطينيٍ أو عربيٍ أو مسلمٍ يراق، وذلك أن هؤلاء الكلاب ليس لهم عندنا إلا ذلك، يقصد المسلمين.
وبعد ذلك يقال: إننا لا بد أن نعاملهم بالحسنى، وأن نعاملهم بالاحترام والتوقير، ولا بأس أن نقدمهم في المجالس ونحو ذلك!! وقول هذا الخبيث يدل على مدى الكراهية والبغضاء التي تستوجب منا مزيداً من الكراهية، والله عز وجل قد حذر المؤمنين من اتخاذ عدوه وعدوهم أولياء، وذكر السبب وهو أنهم كفروا، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، فكيف إذا انضاف إلى ذلك مزيد من الظلم والعدوان، بأن أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، وآذوا المسلمين لأنهم شهدوا أن لا إلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وإذا كان الإنسان ملتزماً عندهم بشيء من شعائر الدين فله من الأذى والتعذيب أضعافاً مضاعفة عمن لم يلتزم بذلك، فهذا يستوجب مزيداً من العداوة لا مزيداً من التقرب والموالاة والمتابعة، قال الله عز وجل: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].
هذا التحذير في الآية، مع أن ما فعله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان إسراراً بالمودة من غير حقيقة وجودها، ولم يكن تصريحاً بالود، وإنما كان في صورة نصيحة، وذلك عندما راسل المشركين ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما راسلهم بما يفت في عضدهم في الحقيقة، حيث قال: إن محمداً قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فانظروا في أمركم.
وما فعل ذلك إلا مصانعة لهم على أهله وماله، فإذا كان من فعل ذلك من أجل حماية الأهل والمال فقد ضل سواء السبيل، فكيف بمن يحبهم ويتولاهم ولا يبغضهم؟! فهذا الحب والعياذ بالله لما هم عليه يعتبر من الكفر فضلاً عن أن يكون حباً من أجل الكفر، فهذا والعياذ بالله ينافي الإيمان بالله واليوم الآخر.
إذاً: فالولاء الواجب هو حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب المؤمنين لأنهم أطاعوا الله، ولا يكون الحب في الله إلا مع استحضار طاعة الله عز وجل، ومتابعة شرعه في النفس، فلا يحبه لأجل موافقة الطباع، ولا لأنه يحسن إليه في المعاملة، بل يستحضر طاعته لله عز وجل وانقياده لشرع الله، وحبه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيحبه من أجل ذلك، وهذا الحب لا ينقص مع التباعد والاغتراب، بل ربما ظل الحب كما كان قبل ذلك، مع تباعد الأقطار، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
فلم تفرقهم الدنيا بل ظل الحب باقياً، ولم تؤثر فيه تلك المباعدة التي قدرها الله عز وجل عليهم، ومن هنا كان حب المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنبياء الله عز وجل قبله، ولأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب الأنبياء حاصل رغم تباعد الأزمنة ذلك البعد الطويل.
فإذا سمع الإنسان قصصهم ورأى صفاتهم تتلى عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى أحبهم، ولا بد من أن يحبهم إن كان في قلبه الإيمان، فهذا هو الحب الواجب أو الولاء الواجب.(60/3)
الولاء المحرم
أما الولاء المحرم فهو حب الكافرين على كفرهم، أو من أجل كفرهم، كأن يقول: إن كفرهم لا يضر، أو أمر دينهم لا يعنيني واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
فمن يرى أن اختلاف الدين وأن عبادة غير الله سبحانه وتعالى لا تفسد للود قضية، أهذا يمكن أن يكون محباً لله عز وجل؟! أهذا يمكن أن يكون قد آمن بقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:51 - 52]؟! إن العذر الذي يتعللون به أنهم يخشون الدائرة؛ يخشون أن تنزل هزيمة بالمسلمين، فتراهم يصانعون المشركين والكافرين من اليهود والنصارى، وهكذا كان يفعل المنافقون: ((يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ))، قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:52 - 53].
إن هذا أمر عجيب يتعجب منه المؤمنون، يقولون: أيمكن أن يكون هؤلاء منكم وهم في نفس الوقت يسارعون في اليهود والنصارى؟! قال عز وجل: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]، فموالاة الكفار موجبة لحبوط العمل وموجبة للخسران في الدنيا والآخرة، وجالبة للردة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56].
إن شروط العضوية في حزب الله هي كالآتي: أن يكون الإنسان مؤمناً، مقيماً للصلاة، مؤدياً للزكاة، يركع ويخضع لله عز وجل، لا ينحني لسواه.
أرأيتم حزباً من أحزاب أهل الأرض اليوم يشترط في شروط عضويته تلك الشروط؟! بل يحرم عند القوم أن يقوم الحزب على أساس من الدين.
إذاً: لا بد أن يقوم حزب الله على الدين؛ حتى ينال النصر والتمكين والغلبة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] وإن ظن الناس أنهم قلة، وأنهم أذلة، وأنهم مهزومون الآن، لكن عاقبة الأمر لهم.
ومن الولاء المحرم: محبة الكافرين لأنهم فصلوا الدين عن الحياة، كم من يقول: إنهم إنما تقدموا عندما أخروا الدين وتركوا هذه الخزعبلات، أو يحبهم لأنهم حاربوا الدين، كمن يحب ماركس ولينين مثلاً من الشيوعيين الذين يعتقدون أن الدين أفيون الشعوب، لا أنهم لم يطبقوا الدين في نظم الحياة، وأنهم جعلوا الدين مسألة شخصية، فهو يرى أن الفصل بين الدين والحياة هو المطلوب، وأن ذلك هو الواجب، وكمن يحب من يمنع من إقامة الحدود وغيرها بزعم أنها وحشية وتخلف ورجعية، فهذا لا يحبهم رغم كفرهم، بل يحبهم من أجل كفرهم، وهذا أشد والعياذ بالله ممن يحبهم رغم كفرهم.
بل قد تجد أناساً كثيرين يحبون الكفرة لأنهم يؤذون المسلمين ويحاربونهم، فهذا شر أنواع الكفر.(60/4)
أمور لا تعد موالاة للكفار
أما المحبة الطبيعية التي قد توجد في الإنسان لقرابته ومن يعاشرهم، كمن يتزوج مثلاً امرأة كتابية يهودية أو نصرانية، فقد دلت أدلة القرآن والسنة على جواز ذلك، لكن لا بد أن يبغضها لدينها، فإن كان يحب عشرتها، أو شكلها أو نحو ذلك، فليحول حبه الطبيعي ذلك إلى حبه لإسلامها وهدايتها.
ومثل ذلك في الأب والأم وغيرهما، يحسن إليهما لعلهما أن يهتديا، مع لزوم البغض على الدين إلى أن يؤمنا، وإذا مات أبوه كافراً تبرأ منه كما تبرأ إبراهيم من أبيه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] أي: لما مات على الكفر وتبين عداوته لله عز وجل تبرأ منه، ولذا لم يأذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لأمه، ولم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يستمر في الاستغفار لعمه، بل قد استغفر له فلم يقبل استغفاره، مع أنه كان يحوطه ويحميه، ولكن كما قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
وهذا الحب الطبيعي يلزم معه وجود البغضاء على الدين، وإن أحسن عشرته، فهناك فرق بين الإحسان والبر والقسط والعدل، وبين الموالاة والمحبة، كما قال عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
قال الإمام الشافعي رحمه الله في هاتين الآيتين: فكان ما أمروا به من البر والإقساط غير ما نهوا عنه من المحبة والموالاة.
إننا نحسن إلى من لم يحاربنا في الدين، ونعدل مع كل الخلق، حتى إننا نعدل مع من حاربنا ولا نظلمه، وإن قاتلناه وحاربناه، حتى في قتله نحسن القتلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة).
إذاً: هناك فرق كبير بين أن نحسن معاملة من نريد دعوته إلى الإسلام، وبين المحبة والموالاة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها؛ لأنه ليس كل من نحسن معاملته نكون محبين له.
إن البر والإحسان إلى الكافر أو العاصي هو أن تطعمه إذا جاع، وتكسوه إذا عري، وتمرِّضه إذا مرض وتعوده، فهذا مما لا بأس به إذا كان يعود عليه بالنفع، وذلك بدعوته إلى الإسلام، أو كف شره عن المسلمين أو نحو ذلك.
وكذلك يجب التعامل معه بالعدل، كأن تبيع منه وتشتري، وتفي له بالعقد، وأن تعمل معه في إجارة أو في شركة أو مضاربة، فإن هذا لا يستلزم موالاة، ولا محبة، وإن كان الأولى أن تعامل المسلم وأن تنفعه، لكن حسب المصلحة، فلقد باع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى من المشركين من أهل الحرب ومن أهل العهد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر أصحابه على البيع والشراء والسفر إلى بلاد الكفار للتجارة، ويقر مجيء الكفار إلى بلاد المسلمين للبيع والشراء، وذلك عندما جاء نبطي من أنباط الشام يبيع الطعام في المدينة، فلم تكن الموالاة في البيع والشراء، كما يحاول بعض الجهلة أن يوهموا المسلمين أن مجرد البيع والشراء موالاة للكفار.(60/5)
حكم المقاطعة التجارية
إن البيع والشراء مصلحة، والإجارة والاستئجار مصلحة، ويمكننا أن نقاطع البيع والشراء، ويمكننا أن نبيع ونشتري، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمرين، وهذا حسب المصلحة، فإن ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه كان قد أسرته خيل المسلمين مشركاً قبل إسلامه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فربطه في المسجد؛ ليغير وجهة نظره عن الإسلام، بصحبة المسلمين ورؤيتهم في أثناء عبادتهم، وقد كان أبغض شيء إليه هذا الدين، فحبسه ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك يا محمد: إن تمنن تمنن على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في اليوم الثالث قال له مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة).
فمنَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأحسن إليه، وكان ثمامة قد تغير في هذه الأيام الثلاثة، فانطلق ثمامة رضي الله عنه ولم يكن قد أسلم عند ذلك، وأبى أن يسلم وهو في الأسر، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الإحسان والمن والبر به، من غير فداء، ومن غير قتل، فانطلق إلى أقرب بستان فيه ماء فاغتسل وعاد إلى المسجد، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (والله يا رسول الله! ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فصار أحب الدين إليَّ، وما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، فصار أحب الوجوه إلي، وما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فصارت أحب البلاد إليَّ).
انظر كيف يفعل الإسلام بمن يخالفه، فـ ثمامة لم يكن قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولا سكن ببلده، ولكن حبس ثلاثة أيام في المسجد، فتغير كل شيء عنده، وصار أحب شيء إليه الإسلام، ووجه النبي عليه الصلاة والسلام، وبلد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إنه اعتمر فقيل له: صبأت وتابعت محمداً، فقال: بل أسلمت لله عز وجل، ووالله لا تأتيكم حبة من سمراء اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ثمامة سيد بني حنيفة، فنهى عن بيع القمح وقاطعهم مقاطعة شديدة حتى أكلوا الوبر والعلهز، وحتى أكلوا فضلات الحيوانات وأكلوا الميتة، حتى راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم أن يأذن لـ ثمامة في أن يرسل إليهم الميرة من القمح؛ لأنهم قد جاعوا، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع والشراء، وامتنع عندما كانت المصلحة في ذلك.
فالعبرة بالمصلحة، فما دام البيع حلالاً، ولم يكن فيه إعانة على معصية فهو جائز، أما إذا كان فيه إعانة على معصية كمن يبيع العنب لمن يتخذه خمرًا، أو يبيع السلاح في الفتنة، أو يبني لهم كنيسةً أو معبداً، أو يؤجر لهم ما يستعملونه في المنكر والعياذ بالله، أو يعينهم على شيء من كفرهم وباطلهم، فإن هذا من المحرمات، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وربما دخل في الكفر والعياذ بالله إذا كان مقراًً بكفرهم.(60/6)
حكم قبول هدية الكافر والإهداء له وتهنئته بعيده
إن الإنسان يمكن أن يحسن إلى قريبه الكافر ويهدي له، ويقبل هديته، فإن عمر أرسل بحلة إلى أخيه المشرك بمكة يتألفه بها، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا بعض المشركين؛ لكي يتألفهم بها، ورد هدايا بعضهم، وقال: (إني نهيت عن زبد المشركين) أي: عطاياهم، وذلك أن من يريد بهديته المحبة والموالاة ترد هديته، ومن يريد أن تداهنه في الدين، كمن يهدي إليك في العيد لتحرج وتضطر إلى الإهداء إليه في عيده فلا تقبل منه، ولا تهدي إليه في عيده؛ لأنه لا تكون التهنئة إلا في الأعياد المشروعة، التي هي عبادة لله سبحانه وطاعة فلا يجوز أن تسوي بين الحق والباطل، بأن تهنئ الكافر بعيد يحتفل فيه بالشرك بالله، وبميلاد الرب أو بموته، أو نحو ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لا يرضى بالتهنئة على المعاصي، فيكف على الكفر؟! ولو أن إنساناً سب أباك أو سب قريباً لك تحبه، ثم إنك في موعد سبه من كل عام تأتي له بهدية، وتقول له: كل عام وأنت بخير، أيعقل هذا؟!! وهل يمكن أن يتصور أن من يفعل هذا يحب أباه أو قريبه؟! لا يمكن ذلك أبداً، فإذا كانوا قد سبوا الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً).
فكونك تأتي في موعد السب وفي موعد الضلال وتأتي له بهدية أو تشاركه في حفله بذلك أو تهنيه على ذلك فهذا لا يفعله من يفهم شيئاً من توحيد الله سبحانه وتعالى، ويوقن بما أمر الله عز وجل به من الولاء في الله، والعداء من أجله سبحانه وتعالى.
والبراء الواجب هو بغض الكافرين، كما قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم والذين معه لما قالوا لقومهم الكافرين: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا} [الممتحنة:4]، أي: ظهر {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4 - 5].
هذه هي الأسوة الحسنة، مع أن إبراهيم عليه السلام لم يؤمر بقتال، وكثير من الناس يخلط بين القتال وبين العداوة والبغضاء، ويظن أن هناك تلازماً بينهما، ويظن أن كل من عاديناه لا بد أن نحاربه، وهذا غير صحيح، فيمكن أن تبغضه وتعاديه وأنت لا تحاربه ولا تقاتله؛ لأن هناك محاربة من نوع آخر، وهي فراق في الاعتقاد، وبغض بالقلب واللسان، والمعاملة التي أمر الله عز وجل أن نعامل بها الكفار بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] وقوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فالقتال لا يلزم في كل الأحوال؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك قتال المشركين مدة من الزمن ولم تكن هناك موالاة.(60/7)
شبهة القول بجواز حب وموالاة المعاهدين والذميين والجواب عنها
إن البعض من أهل الجهل والضلال -إن لم أقل: من أهل الزندقة والنفاق-والبعض ممن ينتسب إلى الدين أو الدعوة، ربما حاول صرف الآيات التي وردت في النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وقال: إنما هذه في المحاربين فقط دون المعاهدين والذميين، وأما المعاهدون والذميون فلا بأس في حبهم.
أقول: إن هذا هو الضلال المبين؛ فإن الله عز وجل ما أذن في حب كافر أصلاً حتى ولو كان معاهداً أو ذمياً أو قريباً أو بعيداً أياً ما كان؛ لأن المرء مع من أحب، فندعو الله عز وجل أن يجعل هؤلاء مع من أحبوهم، وإن كانوا معاهدين أو ذميين أو مستأمنين أو غير ذلك، فضلاً عمن تزداد أذيته للمسلمين حيناً بعد حين.
ومعلوم أن الآيات وهي على عمومها لا ينازع في عمومها عالم من أهل العلم، وإنما كما ذكرنا الذي يترك أحياناً القتال والمحاربة بالسيف، أما العداوة والبغضاء فهي من أعمال القلوب ولا تترك أبداً، فإبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين به قالوا: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، فلم يجعل هناك غاية من المصالح مثلاً أو غاية من العهد والهدنة، أو ترك القتال، أو قال: إنهم أصبحوا لا يؤذوننا الآن، أو قال: إنهم ردوا بلادنا إلينا، وما قال: إنهم أرجعوا الذين أخرجوهم من ديارهم إلى ديارهم، أو أقروا بحقهم في العودة أو نحو ذلك، فإنهم لو ردوا كل شبر إلى المسلمين وأرجعوا المسلمين إلى ديارهم آمنين، فإن رجوع المستضعفين من المسلمين إلى ديارهم تحت حكم اليهود أو المشركين ليس هو العود الذي يرضي المسلمين، إنما الذي يرضيهم أن يعودوا يعلوهم سلطان الله وحكم الله سبحانه وتعالى وشريعة الله، فهذا هو العود الذي يستحقونه، وأما أن يعودوا مواطنين من الدرجة العاشرة تحت سلطان اليهود أو غيرهم فما هذا بالرجوع المطلوب شرعاً، على أنهم لو أرجعوهم وردوا كل الحقوق إلى أصحابها، وذهبوا من الأرض التي احتلوها، وخضعوا للمسلمين خضوعاً تاماً، بل لو أدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لما جاز أن تترك العداوة والبغضاء بيننا وبينهم حتى يؤمنوا بالله وحده.
هذا هو نص القرآن الذي لا يحتمل الأمر بياناً بعد هذا البيان: إنما تزول العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، أما القتال فيزول بالعهد، ويزول بالهدنة، ويزول بعقد الذمة، ويزول بالأمان، فيمكن أن نترك القتال لمصلحة نراها بعد ذلك، ولا يكون ترك القتال دالاً على زوال البغضاء كما يزعمون، فهذا أمر لا يقوله من آمن بكتاب الله وبسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن بالله واليوم الآخر.(60/8)
البراء المحرم
أما البراء المحرم فهو البراءة من المسلمين لأجل إسلامهم وطاعتهم لله عز وجل، كما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية النفاق بغض الأنصار)، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ: ألا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق).
فمن أبغض المؤمنين لإيمانهم وأبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو شيئاً منه، أو أبغض الملتزم بالطاعة لأجل التزامه بها، فهذا لا يكون مؤمناً، بل هذا كافر أو منافق؛ وذلك لأن بغضه ذلك يدل على بغضه للطاعة وبغضه لأمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يصدر من مسلم أبداً، كمن تجده مثلاً يحب إنساناً ويتعامل معه بالحسنى، فإذا علمه محافظاً على الصلاة أو تالياً لكتاب الله بدل المجلات العارية، أو أنه يذهب إلى مجالس العلم بدلاً من أن يذهب إلى السينما ونحوها، اتخذ منه موقفاً عدائياً، وكره ذلك منه، فهذا البغض محرم.
وإذا كان البغض من أجل موقف دنيوي فإنه لا يجوز، ويدخل في المحرمات لا في الكفر والنفاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا)، فلا يجوز أن نتباغض على الدنيا، ولا يجوز أن نتباغض من أجل فوات حظ منها، فكيف بمن يبغض إنساناً لأجل أنه رآه يصلي! فهذه كراهية للصلاة، أو أن يبغض امرأة محجبة لأنها تحجبت، وقد علمتم قصة تلك التركية التي دخلت البرلمان وهي متحجبة، وقامت الدنيا ولم تقعد، وأخرى في تركيا أيضاً طردوها من الكلية، بل حرموها من الجنسية، وقالوا: لا يجوز أن تكون هذه المرأة من الأمة التركية؛ لأنها تحجبت، فلا يمكن أن يكون هذا إلا بغضاً للحجاب، وبغضاً للطاعة، وبغضاًَ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا كان الإنسان قد علم أنه من الدين، ولا يمكن أن يحتمل الأمر عنده جهلاً، فإن هناك أموراً قد يجهلها الإنسان ويظن أنها تطرف كاللحية مثلاً، فقد يظن أن اللحية من التطرف، فيبغض الملتحي لأجل أنه متطرف، أما إذا علم أن الكتاب والسنة قد دلا على إعفاء اللحية، وعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملتحياً وأمر بإعفائها، ثم حاربه بعد ذلك وأبغضه من أجل ذلك، فهذا يدخل في النفاق والعياذ بالله، وهذا من البراء المحرم.(60/9)
الفرق بين الكراهية والإكراه وضابط كل منهما
هناك فرق بين الكراهية والإكراه، فليس كل كاره يكون مكرهاً، فالكراهية عمل من أعمال القلب، والإكراه لا بد فيه من ضرر معتبر شرعاً يقع على الإنسان، سواء كان في نفسه أو في ماله أو عرضه بما يتناسب مع الأمر المكره عليه، فإذا غلب على ظنه أنه يوقع به ذلك الضرر أو تيقن وعلم أنه لا يقدر على ذلك، وعجز عن التخلص ولو بالفرار، وكان الإكراه فورياً، وكان قلبه مطمئناً بالإيمان، جاز له أن يفعل ما طلب منه ولو أن ينطق بكلمة الكفر، ولم يجز له أن يعتدي على مسلم؛ لأن حق أخيه ليس بأقل من حقه، فأنت لا تفدي نفسك بأخيك، ومن هنا أجمع العلماء كما نقل القرطبي على أنه لا يصح الإكراه على قتل مسلم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، بل لا يصح الإكراه على قتل معصوم ذمي مثلاً؛ لأن الإكراه إنما هو فيما بينك وبين الله في حقوق الله عز وجل، كما لو أمروك أن تسجد لصنم، فانو السجود لله، ولو كان لغير القبلة، ولا يستطيعون منك غير ذلك.
أما أن تكره على انتهاك عرض مسلم أو أذيته بضرب وتقول: ماذا أصنع إنما أنا عبد مأمور، فهذا الأمر لا عذر فيه بالإكراه، بل الإنسان مسئول عن تصرفاته في ذلك، فإن أتى كفراً فهو كافر، وإن أتى معصية فهو عاصٍ، فأحياناً يطلبون منه أذية مسلم بضربه، وأحياناً يطلبون منه ما هو أشد من ذلك، كأن يقولوا له: كل من وجدت من المسلمين فاقتله مثلاً، أو فحاربه، أو كل مظهر من مظاهر الإسلام فحاربه، فهذا إن أطاع في ذلك لا يكون مكرهاً.
وكذلك هناك فرق بين الكراهة والإكراه؛ إذ إن هناك من لا يكره، ولكن يحرج ويكون كارهاً للأمر ويتمنى ألا يقع، وهولم يهدد ولم يرغم على ذلك، فيختار الكفر والعياذ بالله، وهذا قلبه ليس مطمئناً بالإيمان، كالرجل الذي دخل النار في ذباب، فإنه إنما دخل النار في ذباب بمجرد أن طلبوا منه ذلك قدم الذباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مر رجلان على صنم لا يجوزه أحد إلا قرب شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: لا أجد شيئاً أقرب، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً لأحد دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة)، فهذا يدلنا على أنه ليس بمجرد الطلب ولا بمجرد العرض تقبل أن تقع في الكفر.(60/10)
البراء الواجب
أما البراء الواجب فهو عداوة الكفار، وهذا يتضمن السعي في إزالة باطلهم، لا السعي في تأسيسه وتقويته ونشره في الناس، ويتضمن منع المسلمين من أن ينال هذا الباطل وهذا الكفر شيئاً منهم، ويتضمن السعي في إزالة عبادة الطواغيت من على وجه الأرض، وذلك واجب على كل مسلم كوجوب الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر بالطاغوت يقتضي بغضه ومعاداة أهله، والسعي في إزالة عبادة الطواغيت كما قال ربعي رضي الله عنه: (إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
أما أن يكون راضياً مقراً -وهي درجة دون المحبة والنصرة- بأن يعبد غير الله فذلك دليل على أنه لم يشهد أن لا إله إلا الله بصدق؛ لأنه يشهد أن من عبد غير الله على حق، وكذلك يشهد أن محمداً رسول الله وفي نفس الوقت يشهد لمن كذبه أنه على حق، ويكون ذلك عنده كله سواء، كالمذاهب المختلفة التي توصل إلى المطلوب، وأن الخلاف معهم إنما هو في دائرة النبوة فقط، كما قال قائل يوماً: إن الخلاف مع النصارى ليس في التوحيد وإنما هو في النبوة فقط! أقول: كلا الكلمتين كفر، أي: الذي يقول: إن الخلاف معهم ليس في التوحيد، والذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة، هما سواء في الكفر بنص القرآن.
إذاً: ليس معنى البراء الواجب أننا سوف نسفك دماءهم، وأننا ننتهك كل حرمة لهم، بل يمكن أن نحسن عشرتهم، وليس الحل للمشكلة أننا نقر بدينهم من أجل أن نعايشهم؛ بل نعايشهم بما أمر الله عز وجل من غير ظلم ولا عدوان، وبحدود شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يعني ذلك أن نقر الباطل، أو أن نقر الكفر والعياذ بالله؛ لأن هذا نقض لشهادة أن لا إله إلا الله، كذلك الذي يقول: إن عبادة غير الله لا بأس بها، فهذا نقض شهادة أن لا إله إلا الله، والذي يقول: إن الخلاف لم يكن إلا في أمر النبوة، ولو سلمنا ذلك فمعنى كلامه أن الذي يكذب النبي صلى الله عليه وسلم يبقى الخلاف معه يسير وسهل، ولا يفسد للود قضية والعياذ بالله، أو أن الخلاف فيه سائغ مثلاً، كما قال رجل منهم يوماً من الأيام: إن المؤمنين في اصطلاح القرآن ليسوا أتباع دين خاص، ولكنهم المؤمنون بالإله الواحد! يعني: أن المكذبين للأنبياء مؤمنون بالإله الواحد، وأن من كذب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: لا بأس، أنت لم تشهد أن محمداً رسول الله؛ لأنك تجوز تكذيبه، نقول لهذا وأمثاله: إن من يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكذب القرآن، وقد قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] من كذب ذلك فقد كذب الله، وهل نشهد لمن صدقه بالحق ونشهد لمن كذبه بأنه على حق أيضاً؟ لا يمكن ذلك أبداً، فهذا يكذب قول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
إذاً: المعاملة بما شرع الله سبحانه وتعالى هذا باب آخر لا بد أن نعلم الفرق بين الأمرين؛ لأن الخلل في ذلك خلل خطير جداً، وهناك من يحتج على حب الكفار بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بجارنا اليهودي)، نقول: الإحسان إليه ليس دليلاً على الموالاة، مع أن الحديث في سنده نظر، لكن قد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من الكفار، وأجاز الإهداء إليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل بعض الهدايا إلى الكفار، وأقر إهداء بعض الصحابة لأقربائهم الكفار، وأمر أسماء أن تصل أمها، وهذا حق لا شك فيه، ولكن فرق بين هذا وبين الرضا والإقرار وترك العداوة، فالعداوة هي: أن تسعى إلى إزالة هذا الباطل، وإذا مكنك الله عز وجل من إهدار الباطل كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أذلاء، فهذا هو الواجب الذي لا يجوز غيره.(60/11)
من معاني الولاء: الطاعة والمتابعة
من معاني الولاء: الطاعة والمتابعة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيْمَاً حَكِيْمَاً} [الأحزاب:1]، وقال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24].
والولاء الواجب في ذلك هو أن تطيع الله ورسوله وأولي الأمر من المؤمنين، وهم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].
والمتابعة: هي أن نتبع ما أنزل الله إلينا، نتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ونتبع ما عليه جماعة المؤمنين، ولا نتبع سبيل الكافرين؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].(60/12)
مظاهر الولاء المحرم
من مظاهر الولاء المحرم: طاعة الكافرين ومتابعتهم في الكفر -كما ذكرنا- من غير إكراه.
ومن مظاهر الولاء المحرَّم: أن يرفع الصليب مثلاً، أو يعظم كفرهم وباطلهم والعياذ بالله، أو يطيعهم في أن يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن المظاهر: أن يطيعهم في أن يهين المصحف مجاملة لهم، أو أن يخرج من الدين ويقول: إننا سواء بسواء مجاملة لهم، فهذه المتابعة تقتضي طاعةً في الكفر فيكون صاحبها كافراً.
أما إذا أطاعهم في المعصية فذلك على حالين: إما أن يعصي وهو يقر بأنها معصية، ويقر على نفسه بالذنب، فهذا حكمه حكم أصحاب الذنوب، وإما أن يطيعهم أو يتابعهم مع اعتقاد أنهم طالما أمروا أو فعلوا فيلزم متابعتهم حتى ولو خالفوا الشرع، ولا يجوز هذا من مسلم، لكن أن يقول: طالما أني أعمل عنده وأني موظف لديه فلو أمرني بأي شيء فلا بد أن أجيب ولو خالف أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا إذا استحل مخالفة الشرع، وإذا استحل المعصية، أما لو كان يريد نشر الإباحية في بلاد المسلمين، فهو لو أتيحت له الفرصة لفعل، لكن هو يرى أنه آثم عاصٍ ومقصر، ولو تكرر ذلك منه ولو عزم أن يفعله مرة ثانية، فهذا له حكم أصحاب الذنوب، أما إن كان يقول: هذه هي الحرية والمدنية، هذا هو التقدم، دعوكم من التقاليد البالية التي تقيد هذه المشاعر الإنسانية النبيلة، مثل الحب والعشق والغرام، فهذا كفر بالله تعالى.
ومن مآسي هذه الدعوات أن امرأة فاجرة هربت مع جندي أمريكي وتزوجته في الكنيسة والعياذ بالله! فهاجت الدنيا ولم تقعد! ومع ذلك يقال: ما هذه التقاليد البالية التي تمنع هذه المشاعر النبيلة، ويقصد هؤلاء بالتقاليد البالية المحرمات الشرعية في الدين، وبعضهم يحارب العبادات الشرعية ويسميها: تقاليد، ويعني بذلك الصلاة والطواف بالكعبة وغير ذلك من العبادات، وعندما يرى الملايين من المسلمين يعظمون الكعبة يصاب بحقد فظيع، فمن تابع هؤلاء في ضلالهم، فيعمل المعصية ولا يقر أنها معصية، بل يرى أنها تقدم وحضارة ومدنية، فهو مطيع لهم في الكفر والعياذ بالله؛ لأن هذا قد استحل الكفر، كذلك لو أقر بأن الشرع قد حرم ذلك ولكن قال: إن الشرع لا يلزم هذا الزمان، ونحن في القرن الحادي والعشرين، فكيف نرجع إلى ما كان قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟! نقول: هذا متابعة على الكفر.
كذلك من مظاهر موالاتهم: الصداقة لهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال: (المرء على دينه خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118]، أي: لا يقصرون في اضطراب أموركم، قال تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]،أي: ودوا عنتكم وتعبكم ومشقتكم.
وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، يعني: هذه الصداقة يعلنها أولياؤهم علانية، وربما أظهروا الحزن عليهم أعظم مما يحزنون على المسلمين لو ماتوا، بل ربما يقتل في اليوم عشرات وأحياناً مئات من المسلمين ولا يؤبنون بمثل تأبينهم رابين مثلاً، نسأل الله العفو والعافية! هذه كلها مظاهر خطيرة تتسرب إلى المسلمين من حيث لا يشعرون، وكما ذكرت التعلل والستار في ذلك أن الشرع أمر بالبر والقسط، وأن الشرع أمر بالإحسان في المعاملة، ونحو ذلك، وهذا خلل كبير لا بد من الحذر منه، وهذه القضية لا بد أن تدرس تفصيلاً، ولا بد أن يتعلمها كل مسلم وأن يتفقه في دينه، ويعلم ما هي الحقوق وما هي الواجبات، وما هو الولاء الواجب، وما هو البراء الواجب، وما هو الولاء المحرم، وما هو البراء المحرم.
وهذه معظمها من فروض الأعيان خصوصاً ما يتعلق بأمر القلوب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما قلنا وسمعنا، ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
نسأل الله عز وجل أن يعز المسلمين في كل مكان، وأن ينصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان، وأن يحفظ المسجد الأقصى ويرده إلى المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/13)
خطبة الجمعة الأولى من شعبان 1424هـ
لا يزال المؤمن مع ربه تبارك وتعالى في ارتباط واتصال، يرى بين كل وقت وآخر قدرته وحكمته، وتحقق وعده، والمؤمن مع ربه تعالى في وعوده تجاهه بين شد وجذب في الظاهر، فقد يلمح نصر ربه ويتيقن تحقق وعده فيزداد به ارتباطاً ويقيناً ومنه قرباً، وقد يبتعد نصر الله وتختفي من الكون الأمارات على تحقق وعده فهو في هذه الحال بين طريقين: إما أن يضطرب ويتشكك ويضعف إيمانه فيبوء بالخسران المبين، وإما أن يزداد به إيماناً ويقيناً، ويرى مواطن الخلل والضعف فيعالجها، ولسان حاله كما قال سبحانه عن أهل الإيمان: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)).(61/1)
الوعد الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الحمد الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله صادق الوعد لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين في هذه الدنيا بالنصر والتمكين، ووعدهم في الآخرة بالرضوان والجنان بفضله، فهو الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
قد يبدو للناظر المتأمل في أحوال أهل الأرض عندما يرى تسلط أعداء الله سبحانه وتعالى عليهم، قد يبدو له تأخر وعد الله عز وجل، ولكن المؤمن دائماً يرى ما أراه الله سبحانه وتعالى في كتابه، وما أراه الله عز وجل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من أنه صادق الوعد سبحانه وتعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه الجامع: (أنت الحق ووعدك الحق) ولا بد أن يشهد المؤمن هذا المعنى {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:55] يشهده كما أشهده الله سبحانه وتعالى لأم موسى حين رده إليها كي تقر عينها ولا تحزن، قال الله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13].
فالله سبحانه وتعالى وعده في الدنيا ووعده في الآخرة حق لا يخلف كما قال سبحانه وتعالى فيما وعد به المؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].(61/2)
تحقق وعد الله في الابتلاءات والمحن
يشهد المؤمن عندما يقع في أنواع المحن والابتلاء أنه إنما هو من وعد الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
فكان هذا هو وعد الله عز وجل لهم، كما قال الله تعالى: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
مع أنه كان بالابتلاء والمحنة، وبهجوم الأعداء ومحاصرتهم للمدينة المنورة المشرفة، وأوشكوا فيما يبدو للناظرين إذا لم يوقنوا بوعد الله أوشكوا أن يستأصلوا الإسلام وأهله، ولكن كان هذا هو وعد الله الذي ذكر في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
تخطر الخواطر في القلوب، وتأتي الواردات عليها وتتفاوت في قوتها وضعفها حين تشتد المحن على أهل الإيمان، وأهل الإيمان يرون في المحن وعد الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف، وهو وعد لهم بأنهم يزدادون في المحن إيماناً وتسليماً، ويزدادون إيماناً بمزيد حب الله الذي يفيضه عليهم، وبمزيد التصديق بأمره سبحانه، والانقياد لحكمه، وبمزيد التصديق بسننه سبحانه وتعالى التي أخبر بها، ويزدادون رجاءً في فضله، ويزدادون خوفاً منه، وتنقطع قلوبهم إلا من التوكل عليه سبحانه وتعالى، وعن الأسباب كلها إلا من التوكل عليه، لذا كان وعداً لهم بفضله ورحمته مع أنه فيما يبدو للناظرين أمر مؤلم ومخوف، وضرر يحيط بهم فيما ينظر الناظر، ولكنه وعد الله سبحانه قدره ليرقيهم في منازل العبودية منزلة بعد منزلة، ثم تكون لهم العاقبة، كما قالها هرقل عندما سأل أبا سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: سجال، يدال علينا مرة، وندال عليه مرة، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
كلمة سابقة، ونعمة من الله سابغة على أوليائه الصالحين، وعباده المؤمنين أتباع الأنبياء والمرسلين، لا يزال وعده يتحقق لهم، قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
فالله سبحانه وتعالى ينقصها من حول الكفار من أطرافها، ولا يزال ينتشر الإسلام فيها مدة بعد مدة، ويدخل في دين الله أفراد بعد أفراد، ثم أمم وجماعات بعد جماعات، ولا يستطيع الكفار مهما بذلوا من جهد أن يمنعوا ذلك الأمر، فهو أمر الله عز وجل، بل قلوبهم يائسة من استئصال الإسلام يوم أن تم هذا الدين، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فأنت ترى في قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] ومثلها من الآيات في هذا المعنى نزلت بمكة، والإسلام محاصر، والمسلمون مضطهدون، ومع ذلك ومع كل البذل الذي يبذله الكفار والنفقة التي ينفقونها ليصدوا بها عن سبيل الله فالإسلام ينتشر، تجد هذا المعنى كذلك عندما يجتمع على أهل الحق من أهل الإسلام من بأقطار الأرض، ومع ذلك يظلون على الحق ظاهرين، ومع ذلك يعلي الله سبحانه وتعالى بفضله كلمة الحق والدين، ومع ذلك يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه حكم ولا معقب لحكمه أن كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.
تسمع في وسط اجتماع أقطار أهل الأرض على أهل الإسلام: أن الإسلام في يومنا هذا وفي زماننا هذا هو أسرع الأديان انتشاراً في عقر ديار الكفار، وترى رغم الاضطهاد والأذى الذي يتعرض له المسلمون، وما يتعرضون له من إبادات في مشارق الأرض ومغاربها، ومع ذلك ترى كثيراً منهم يدفعه ذلك إلى مزيد الالتزام بالدين بفضله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، فهو سبحانه وتعالى الذي سبقت منه الكلمة التي كتبها في اللوح المحفوظ ثم أنزلها في كتبه المنزلة في الزبر: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
هذا وعد الله الذي يجب أن يوقن به أهل الإيمان، وما أحوجنا أن نكرر هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نوقن بهذا الأمر وإن تفاوتت في أنظار الناس الموازين، وإن رأوا أن الكفر يزداد قوة أو أن الظلم والعدوان يزداد انتشاراً، لا والله! إنه لفي مراحله الأخيرة التي يلفظ فيها أنفاسه وينتفش انتفاشة مؤقتة، كما أخبر الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
جمع الله في هذه الآية وعد الدنيا ووعد الآخرة، فلابد أن يتحسر الكفار على ما ينفقون من أموال ليصدوا عن سبيل الله، ولابد أن يغلبوا بعد ذلك، وهذا وعد الدنيا، ثم يحشرون إلى جهنم، وهذا وعد الآخرة، قدر الله ذلك ليميز الخبيث من الطيب، قال عز وجل: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:37 - 38].
هذه سنة الله الماضية التي لا تخلف، ولا يخلف وعده سبحانه وتعالى، أنت الحق ووعدك الحق سبحانك وبحمدك.
قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
فالله صدق وعده في كل المواجهات التي وقعت بين المسلمين وبين أعدائهم، حتى فيما هزموا فيه كان صادق الوعد، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، صدقهم الله وعده حين أطاعوا الله، وحين خالفوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا وعصوا من بعد ما أراهم ما يحبون من النصر، كان وعده عز وجل لهم أيضاً خيراً لهم لا شراً لهم، كان مصلحة في حقيقة الأمر أن يهزم المسلمون ليعرفوا عاقبة المعصية، ولو أن الله نصر المسلمين على حالهم تلك لظنوا أن النصر بأيديهم، أو أن لهم منزلة لا يمكن أن تتغير عند ربهم، فيظنون بأنفسهم ما لا ينبغي لها، يظنون بأنفسهم إجلالاً وقدراً لا يستحقونه، فكان من وعد الله لهم أن نقاهم ومحصهم وهذبهم وغفر ذنوبهم، ورفع قدرهم، واتخذ منهم شهداء، فهذا فضله سبحانه وتعالى بوعده الصادق، كان وعداً منه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حتى بالبلاء والهزيمة، وكان خيراً عظيماً، كما قال عز وجل في قصة الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].(61/3)
الابتلاء رفعة للمؤمنين وسفول وانحطاط للعاصين
لو تأملنا قدر الألم الذي تألمته عائشة رضي الله عنها، وتألمه أبو بكر أبوها رضي الله تعالى عنه، وأمها، وقدر الألم الذي تألمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع الأذى يصل إليه في أهل بيته، ويتهم في عرضه عليه الصلاة والسلام، ويتكلم حتى أناس من خلصاء أصحابه ممن هاجروا في سبيل الله، ممن ينافح عن دين الله، ممن يدعو لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأييد من الله، إذا بهم يقعون في عرضه عليه الصلاة والسلام.
ثم تأمل عاقبة الأمر لتعلم كيف ارتفعت عائشة رضي الله عنها إلى منزلة عظيمة لم تكن لتبلغها إلا بما وقع لها، فصار يقال عنها كلما ذكرت: الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سموات، وصار ما كان بالمجتمع المسلم طهارة لهم ورحمة من الله سبحانه وتعالى.
وهكذا في كل ما يصيب المسلمين من بلاء يجعله الله عز وجل كفارة وطهوراً، وتعديلاً لمسارهم حتى يدركوا ما ينبغي أن يعملوه، وينتبهوا لعيوب أنفسهم، ويتطهروا منها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، يقدر الله سبحانه وتعالى من أنواع المحن ما تتطهر به نفوس المؤمنين، ما تستبصر به قلوبهم، وتستنير به صدورهم في طريقهم إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي بعد ذلك وعد الله الحق الذي لا يخلف في نصرة المؤمنين، وفي هزيمة الكفرة والمنافقين، وفي عز من أطاع الله وفي ذل من عصاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).
وقال الحسن رحمه الله تعالى: (هم والله! وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه)، وأنت ترى هذا والله ظاهراً جلياً فيمن يعصي الله عز وجل، ومن يشاقق أمره سبحانه وتعالى، ويشاقق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، يوليه الله سبحانه وتعالى أنواع الذل والهوان والعذاب المهين، ثم يجعل له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، وتأمل في عاقبة إبليس حين تكبر فصغر وأهبط عكس قصده؛ لأنه أبى أن يطيع الله، قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فجعل الله عاقبته إلى صغار، وهوان، وذل، وانحطاط وإهباط من المنازل العالية التي كان فيها، فاعتبر بهذا في كل ما يقع، وأيقن بأن وعد الله حق كما أخبر سبحانه وتعالى مبشراً عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بقتال أعدائهم ووعدهم النصر على ذلك، فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:29 - 33].
فوعده حق سبحانه وتعالى لا يخلف، ولابد أن نوقن بذلك؛ لأن هذا اليقين هو الذي يدفع أهل الإيمان إلى الصبر والاحتساب، وإن رأوا موازين الدنيا كلها في الكفة الأخرى فإنهم يصبرون ويثبتون ليقينهم بأن وعد الله حق، وإنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كما قال ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(61/4)
تكرار مشاهد تحقق وعد الله تعالى
وعد الله سبحانه وتعالى تجده في الأمم، وتجده في الآفاق، وتجده في خاصة نفسك، تجد وعد الله عز وجل لك بأنواع الإنعام، وأنواع الفضل والرحمة كلما أطعت الله، وتجد أنواع الألم والشقاء والعنت، وتجد أنواع النكد، وإن كانت الدنيا كلها في يديك إذا عصيت الله عز وجل، مصداقاً لوعد الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
وانظر حولك لتجد هذه الحقيقة متكررة في كل من ترى، وتذكر لحظات الرحيل لتعرف مآل الظالمين، لتعرف ما كان من أمرهم في نهاية المطاف حتى لا تغرك لحظات القوة الزائفة، ولحظات السلطان المؤقت، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:93 - 94].
هذا وعد الله في الدنيا، ووعد الله في الآخرة تجده في هذه الآيات أيضاً فأيقن به، وتأكد من أنه واقع لا محالة، وأنه قد كتبه الله، قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
هكذا أخبر الله سبحانه وتعالى، ووعد المرسلين، ووعد عباده المؤمنين، فلابد أن نوقن بوعد الله لكي نحب في الله، ونبغض في الله، ولكي نصبر على ما ابتلانا الله عز وجل، ونصبر على طاعته، ونصبر عن معصيته، ولا نوافق أعداءه، ولا نرضى بضلالهم وكفرهم حتى يأذن الله عز وجل بالفرج من عنده سبحانه وتعالى، والمبشرات أكثر من أن تحصى بفضل الله، وهي كلها من كتاب الله، ثم من واقع حال الأمم، ثم من واقع حالنا بفضله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يؤيد أولياءه بنصر من عنده، ويعلي كلمتهم، وقدرهم، ومنزلتهم، ويقدر لهم أنواع الخيرات، ويقدر لهم أنواع النعم المختلفة في السراء والضراء، ويمن عليهم بفضله عز وجل، نسأل الله عز وجل رحمته وفضله فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(61/5)
تحقق وعد الله في الآخرة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فعن وعد الله عز وجل في الآخرة اسمع آيات الله سبحانه وتعالى المخبرة عما يقع للظالمين، وعما يقع للمؤمنين، وعما يقع لأعدائه أعداء الدين، الذي أشركوا بالله وصدوا عن سبيله وهم بالآخرة هم كافرون، قال سبحانه وتعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:38 - 51].
نعوذ بالله من ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:71 - 75].
فالله سبحانه وتعالى ينزل كل إنسان منزلته، ويعطي كل إنسان حقه، ويعتدل الميزان بمثاقيل الذر يوم القيامة، كما قال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، يوم لا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتى الله بها وكفى به حاسباً سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقاد من الشاة القرناء للشاة الجلحاء)، فالله يقضي يوم القيامة بحكمه الجزائي بين خلقه جميعاً، ويوصل كل حق إلى صاحبه فلا يظلم، ولو كان من أهل النار وله مظلمة عند أحد من أهل الجنة فلا ينبغي أن يدخل أهل الجنة الجنة ولأحد من أهل النار عندهم مظلمة، بل لابد أن يعطى حقه من المؤمن، ولو كان الكافر مخلداً في النار والمؤمن مآله إلى الجنة، لكن لابد أن تؤدى الحقوق إلى أهلها، وهذا وعده سبحانه وتعالى الذي لا يخلف، وهو الذي يراه المؤمنون ويشهدونه ويجدونه في أنفسهم، ويجدونه عند ربهم سبحانه وتعالى، ويحمدون الله عز وجل أعظم حمد عندهم، وأقصى ما يقدرون عليه من الحمد، وما يوفقهم الله له على حسب منازلهم: أن صدقهم وعده، وأورثهم الأرض يتبوءون من الجنة حيث شاءوا، فهذا فضله سبحانه وتعالى.
فإذا شهد العباد أن وعد الله حق، أن وعده الحق سبحانه وتعالى عملوا لهذا اليوم، وعملوا للقاء الله سبحانه وتعالى، وصغرت الدنيا في قلوبهم وفي أعينهم، فجعلوها تحت أرجلهم، ولم يجعلوها فوق رءوسهم، ووالوا أولياء الله، وعادوا أعداءه، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، حتى تتوثق عرى الإيمان في قلوبهم.
إن الإيمان بأن وعد الله حق يشمل وعده في الدنيا ووعده في الآخرة، وكلاهما الإيمان به ضروري للمؤمن في كل مراحل حياته، وفي أنواع أخلاقه وسلوكه، ومن أيقن بوعد الله سبحانه وتعالى ووعيده عمل الطاعات، وترك المنكرات، وأحب أهل طاعة الله، وأبغض أهل معصية الله، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، ونج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم انصرنا على من عادانا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وأذهب سخائم صدرونا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك من الخير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين.(61/6)
كلمة النجاة
كلمة التوحيد هي مفتاح الجنة، ولا يدخل أحد الإسلام إلا بنطقها ومعرفة معناها والعمل بها، وقد بين العلماء التوحيد وما ينافيه من الشرك، وبينوا معنى العبادة وأركانها، فلابد لمن أراد النجاة معرفة ذلك والبحث عنه.(62/1)
أعظم نعيم المؤمنين في الدنيا والآخرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم.
أما بعد: فقد فطر الله عز وجل عباده على توحيده وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
والحنيف هو: المائل إلى الله، المعرض عن غيره، فهم بفطرتهم يميلون إلى ربهم، ويشتاقون إليه، لا يقر لهم قرار إلا بمعرفته وتوحيده ومحبته وطاعته، ولا يجدون سعادة في هذه الدنيا إلا إذا توجهت قلوبهم وجوارحهم إلى خالقها وبارئها دون من سواه، وإنما الشقاء في هذا العالم يرجع إلى توجه القلوب والوجوه إلى وجهة أخرى غير ما فطرت عليه، ويرجع ذلك إلى إعراضها عن ذكر ربها.
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
ولهذا كان أعظم نعيم في هذه الدنيا حب الله وعبادته، والأنس به والشوق إليه، كما أن أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وقد جمع بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه فقال: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).
فالشوق إلى لقاء الله هو نعيم الدنيا، والنظر إلى وجه الله هو نعيم الآخرة.(62/2)
أول واجب على العباد
من رحمة الله وفضله على عباده أن جعل أول واجب عليهم هو: معرفته وتوحيده وعبادته بكل أنواع العبادة، فإن غاية وجودهم وحياتهم هي: إفراده تعالى بالعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، من أجل هذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، ومن أجله قام الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، ومن أجله وعليه تنصب الموازين يوم القيامة، وتؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.(62/3)
بيان أهمية الدعوة إلى التوحيد
التوحيد فرض عين، على كل مكلف أن يعلمه ويعمل به قبل الصلاة والزكاة وسائر الواجبات، ولهذا كان التوحيد هو أول دعوة للرسل، ولأتباع الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وفي حديث ابن عباس عن معاذ: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن فقال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: (فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا هم عرفوا الله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).
فتبين بهذا ما يجب على الدعاة إلى الله من البدء بالدعوة إلى التوحيد وبيانه للناس، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم؛ لأن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، فمعرفة الله هي التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (فإذا هم عرفوا الله) أي: إذا هم وحدوه.
إذاً: الذي يدعي أنه يعرف وجود الله أو حتى يدعي التوحيد وهو لا يوحده حقيقة لا يعرف الله.
فإذاً: لا بد أن يدعى إلى معرفة الله، وإلى توحيد الله.
ولذلك نقول: إن أولى الأولويات في الدعوة إلى الله عز وجل هو الدعوة إلى التوحيد، وليس بالمناهج الكلامية ولا بالطرق الفلسفية، ولا بمعرفة محاذير الشرك فقط، بل بالتوحيد الذي هو أول واجب، والذي هو فرض على العباد أن يأتوا به، وأن يتركوا عبادة غير الله، وأن يحبوا الله ويرجوه ويخافوه ويرغبوا إليه ويتوكلوا عليه، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فأول وأولى الأولويات بدء الدعوة بالتوحيد، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يعرفون ربهم، ولكنهم في الحقيقة يشركون به، فالمعلوم أن أهل الكتاب يقرون بوجود الله، ويزعمون توحيده ومعرفته، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يدعوهم إلى توحيد الله، فقال له: (فإذا هم عرفوا الله)، فدل ذلك على أن من لم يوحد الله لم يعرفه، وإن أقر بوجوده، وأقر ببعض أسمائه وصفاته.(62/4)
ثمار الدعوة إلى التوحيد
الدعوة إلى التوحيد دعوة مجربة الثمار والآثار، بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج الله به خير أمة مسلمة.
فدعوة التوحيد هي سبب إخراج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه المنزلة العظيمة، فقد أخرجتهم من أرجاس الشرك والجاهلية، إلى نور التوحيد والعلم، وبها ساد أصحاب ذلك الجيل الفريد الذين هم خير الناس وأفضلهم بعد الأنبياء، جيل الصحابة رضي الله عنهم الذين كانت حياتهم ودعوتهم وجهادهم في سبيل الله، وطاعتهم في كل صغيرة وكبيرة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فحياتهم هذه كانت أثراً جلياً لدعوة عقيدة التوحيد التي استقرت في قلوبهم، ونحن إذا أردنا العمل لذات أنفسنا والفوز برضوان ربنا، والسعي لنصرة دينه وإعلاء كلمته في الأرض، والرغبة في عودة الإسلام عزيزاً كما كان، وعودة الخلافة على منهاج النبوة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد لنا من السير على نفس طريقهم، وسلوك نفس منهجهم الذي أصله ونقطة البدء فيه تحقيق التوحيد علماً وعملاً.(62/5)
بيان عدم الارتباط بين التوحيد وعلم الفلسفة والكلام
لا شك أن التوحيد قد ارتبط في أذهان الكثيرين وللأسف بعلم الكلام والفلسفة، كأثر من آثار الابتعاد عن الكتاب والسنة، كمصدر للعقيدة والعمل والسلوك، فعند الناس أن العقيدة أصبحت علم الكلام، والسلوك أصبح تصوفاً، والعمل أصبح تقليداً للمتأخرين، واتباع المذاهب، وهذه من أعظم المخاطر التي حدثت في الانحراف، وأدت في نهايتها إلى انهيار الخلافة في أطول مدة انهيار إلى الآن، وهي الفترة التي حصلت بعد انهيار الخلافة العثمانية، وقد كانت بلا أثر في معظم أرجاء العالم الإسلامي، بل كانت كل بلاد العالم الإسلامي -تقريباً- محتلة قبل الحرب العالمية الأولى، وسبب ذلك أنه كان هناك انفصال عن الكتاب والسنة، فالعقيدة أصبحت عبارة عن علم الكلام وتأويله، وأصبح السلوك تصوفاً مبتدعاً على أعلى درجات البدع وأسوئها، وأصبح العمل تقليداً أعمى للمذاهب دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، والبعض ارتبط بذلك في ذهنه كالفقه الذي ارتبط بالمسائل الكلامية الفرعية الدقيقة والمتون الصعبة العسيرة التي لا يمكن فكها إلا كما تحل الألغاز! فالسلوك ارتبط بالطرق الصوفية، مما أدى بالبعض إلى الظن أن مسائل العقيدة هي مسائل الترف العقلي، كما ظنوا أن التقليد هو الفقه، فقالوا: نحرق كتب المذاهب، وكما قال البعض: التصوف كله باطل، فأهمل التهذيب، وأهمل إصلاح القلوب.
فكل هذا انحرف أدى إلى خلل كبير جداً في الأمة الإسلامية، فما الدين إلا الإيمان والإسلام والإحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان والإحسان، والإسلام العمل، والإيمان الاعتقاد، والإحسان عمل القلوب.
والقول بأن الكلام في العقيدة ترف عقلي قول كان يقوله الغزالي قديماً، واليوم أيضاً يقول يوسف القرضاوي: الكلام في العقيدة وفي التوحيد ترف عقلي، يجب أن تصان عنه الدعوة الإسلامية خاصة في مسيرة الصحوة الحاضرة! وكم سمعنا ذلك من الاتجاهات الإخوانية؛ خصوصاً أيام مجاهدة الأفغان، والثمرة معلومة، إنها الثمرة التي بدأت بمنهج آخر غير منهج الأنبياء، فحصل فيه تقصير شديد أدى إلى انحراف الناس بعدما حصل التوحيد، فلم يحصل قيام دولة الإسلام المرجوة، وإنما حصل التقاتل المذموم، فالبعض يقول: إن أهم شيء الآن أننا لا نكلم الناس ولا نتكلم حول العقيدة؛ لأن الأفغان عندهم شركيات كثيرة، وعندهم بدع، وعندهم تصوف، فيقول لك: لا أحد يتكلم في هذه الأمور، ونفس الأمر يحدث في مواطن عديدة.
فالمسلمون بلا شك في خطر من جراء هذه الطريقة من التفكير؛ لأنها علاج الخطأ بخطأ أكبر وأعظم وأخطر، صحيح أن علم الكلام مفسدة، وصحيح أن التقليد مفسدة، وأن التصوف مفسدة، لكن علاجه ذلك ليس بإهمال الجانب كله وإهمال الأمر كله.
يعني: لا نقول: إن دعوة الإسلام لا تقوم أبداً بدون عقيدة التوحيد، لكن الواجب على المسلمين أن يتعلموا هذه القضية بنفس الطريقة التي تعلم بها الصحابة، ومن بعدهم من أئمة العلم، بأدلة الكتاب والسنة الصحيحة، كما فهمها سلفنا الصالح من أهل السنة والجماعة، وهي تشمل أوضح الأدلة العقلية والسمعية معاً.(62/6)
بيان خطأ من يظن أن الكلام في مسائل العقيدة والتوحيد يفرق المسلمين
كذلك من الخطأ البين والخطر الظاهر أن يظن أحد أن الكلام في مسائل العقيدة والتوحيد يفرق المسلمين، وينفر الكثيرين منهم، وأن المسلمين اليوم في حاجة إلى التوحد والتجمع! وللجواب عن هذا الشبهة نقول: إن الله قد قضى بعدله وحكمته أن الفرقة والاختلاف في التزام البدع، وأن الوحدة والائتلاف في التزام السنة، فمنهجنا في ذلك تحقيق كلمة التوحيد، ليحقق الله لنا وحدة الكلمة؛ فبتحقيق كلمة التوحيد منا يحقق الله لنا وحدة الكلمة.
وأما من سعى إلى توحيد الصفوف مع السكوت عن البدع، أو موافقتها فلعل هذه أخطر قضية نختلف فيها مع منهج الإخوان، أو كثير من المناهج الأخرى التي تتبنى نفس الموقف، فمثلاً: جماعة التبليغ تقول: لا تكلموا الناس في العقيدة؛ لأن هذا سيؤدي إلى التفرق، وسيؤدي إلى نفرة الناس، وإنما كلموا الناس في الصلاة، وفي فضائل الأعمال الكثيرة.
فلن يفلح من سعى إلى توحيد الصفوف بهذه الطريقة، سواء بالسكوت على البدع، أو بموافقتها، فمن أجل أن يتقرب منهم يقوم بمشاركتهم، مثل الذي يقول: إننا ينبغي أن ننصب خيامنا في الموالد، ونقول أشعارنا وإنشادنا الذي يخالف إنشاد الصوفية قليلاً، فقد أوجدنا لهم البديل، ونحو ذلك.
وإن القريبين من الاتجاهات السلفية من الإخوان لا يعملون هذا، لكن هناك اتجاهات كثيرة يعملون هذا، فلو ضعف الاتجاه السلفي، ولم يصبح يُعمل له حساب، فإن هذه الانحرافات ستظهر بقوة شديدة جداً؛ إذ إنها موجودة في أصل المنهج، فقوة المنهج السلفي في مكان ما يجعل أصحاب البدع يستحيون من أنهم يعلنون بدعتهم بصراحة، فلن يقولوا الكفر البواح الذي يعتقدونه في كثير من المواقف، فهم سيخافون أن يقال عنهم: إنهم يدعون غير الله لكن قد يقولون: يجوز لنا أن نقول: يا سيدي فلان ادع الله لي، لكن لا يقول: ارحمني واغفر لي وأغثني.
والمعتزلة كانوا سبباً في إسلام كثير من المتفلسفة؛ لأنهم ردوا عليهم بقوة في الدفاع عن الإسلام، وكذلك الأشاعرة، لكن من يسعى إلى مخالفة منهج السلف فلن يزيد سعيه للمسلمين إلا فرقة واختلافاً، لكونه لم يسلك القاعدة النبوية عند الاختلاف، وإن سلك ما أسماه بالقاعدة الذهبية، لكن القاعدة الذهبية النبوية السلفية هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة).(62/7)
أهمية العلم بمعنى (لا إله إلا الله)
لما كانت كلمة التوحيد: لا إله إلا الله عنوان التوحيد وعمدته كان معرفة معناها ومقتضياتها ولوازمها والعمل بذلك من أهم ما يجب على المكلف، ومن أهم ما يجب على الداعي أن يدعو إليه.
وكلمة: (لا إله إلا الله) أمر الله بالعلم بها فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
قال البخاري: بدأ بالعلم قبل العمل.
وبوب على هذه الآية: باب العلم قبل العمل، فبوب بهذه الآية، وترجم لهذه الآية، فإنه قبل ما يقول له: (استغفر)، قال: (فاعلم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
وقال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، والاستثناء هنا منقطع، يعني: لكن من شهد بالحق وهم يعلمون ينجون عند الله، أو يشفعون.
أما جنس الشفاعة فلله عز وجل، كما قال عز وجل: ((وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)).
فلا يملك الشفاعة إلا الله، لكن الذين يشفعون هم الذين استثناهم بقوله: ((مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: وهم يعلمون أن لا إله إلا الله، والبعض قال: هم ممن يدعى، مثل الأنبياء والصالحين، والآية عامة، ومن ضمنهم عيسى والملائكة، فهؤلاء يشفعون عند الله عز وجل، لكن الراجح أن الاستثناء منقطع، يعني: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
ومن أمثلة الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56].
فإن الموتة الأولى كانت في الدنيا، وليست في الجنة.
فقوله: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: شهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم معناها، ويعلم حقيقتها، وهو موحد، فهؤلاء يشفعون، وإن كانوا لا يملكون الشفاعة، بل يستأذنون الله عز وجل.
فالعلم بمعنى هذه الكلمة العظيمة شرط في نفع صاحبها في الآخرة، ودخوله الجنة؛ ولم نقل: إنها شرط في نفع صاحبها في الدنيا لأن العلم هذا عمل في القلب، فهذا التصديق القلبي عمل قلبي، ونحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، فالظاهر أن العربي إذا قال: لا إله إلا الله فهو يعلم معناها على الأقل، فهذا العلم إذاً مرده في حكمه عند الله عز وجل في الآخرة، فأحياناً ينتفع به صاحبه فيدخل به الجنة لأول وهلة، وذلك إذا كان يعلم معناها ويعمل بمقتضاها كذلك.
ولكن العلم يتفاوت ومراتبه تختلف، فإن أصل العلم بمعنى كلمة التوحيد من إثبات الألوهية لله وحده ونفيها عن دونه ركن من أركان الإيمان الباطن الذي لا يثبت بدونه، أما ظاهراً فيجب إثبات الإسلام بنطقها، وحمل أمر من ينطقها على السلامة حتى يتبين منه ما يناقضها.
إذاً: الأصل في أي واحد ينطق الشهادة أنه مسلم، وأنه عارف معناها، ولسنا مأمورين أن نبحث عن معرفته لمعناها، وإنما يوضح له معناها ضمن دعوته إليها.
مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64].
والرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أمور الدين إجمالاً.
وأنا أذكر هذا الكلام لغرض مهم جداً وهو أن أناساً كثيرين لما نقلوا ووجدوا في كتب علماء كثر: أن العلم بمعناها والعمل بمقتضاها شرط في حصول التوحيد، دفعهم ذلك إلى أنهم يقولون: كل الناس يقولون: لا إله إلا اله، ولكن لا يعلمون معنى لا إله إلا الله، فأدى ذلك إلى انتشار جبهة التكفير أو التوقف، أو غيرها من البدع التي من هذا النوع.
وذلك بسبب الخلط في قضية العلم بمعنى لا إله إلا الله بين الإجمال وبين التفصيل، وبين الظاهر وبين الباطل.
فلو تبين لنا أنه نطقها ظاهراً من غير أن يدري نهائياً أي معنى لها، كمثل شخص رصت له حروف بلغته اللاتينية مثل: لا إله إلا الله، وقيل له: قل هكذا، فنطق حروف لا يعرف معناها نهائياً، فلا يثبت إسلامه، ولو قالها بالإنجليزية ولا يعرف أن يقولها بالعربية وهو يعرف معناها يثبت إسلامه.
وأما إذا امتنع منها لأنها شعار، ولو قال: أسلمت لله، وهو يعرف أن المطلوب منه قول: لا إله إلا الله، فلا يكفي، وذلك مثل الأسير الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إني مسلم، فقال له: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت وأنجحت).
ومثل نصارى نجران لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أسلمنا، فقال: (يمنعكم من ذلك عبادتكم للصليب، ويمنعكم من ذلك ادعاؤكم لله عز وجل ولداً وقولكم: المسيح ابن الله)، فكونه يقول: أنا أمسلم، وهو عارف أن المطلوب أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكفي.
أما الذي لا يعرف أن يقولها، فقال: صبئنا، صبئنا، فإنها تقبل منه.
فالذي لا يعرف أن يقولها، وذلك بأن كانت صعبة عليه، فهو يريد أن يقول: أنا أريد أن أدخل في الدين هذا، لكن لا يعرف أن يقول إلا صبئنا.
فصبئنا هذه تقبل منه، ويصبح مسلماً بذلك، ويعامل كمسلم في أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فحسابه عند ربه، فلو كان قلبه صادقاً، فيكون قد دخل في الإسلام فعلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لهؤلاء الناس الذي قالوا صبئنا بالدية؛ لأنهم كانوا مسلمين وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).(62/8)
تعريف الإله
الإله لغة: المعبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق، قال في لسان العرب: الإله: الله عز وجل، وكل من اتخذ من دونه معبوداً هو إله عند متخذه، لكن الاستعمال الأغلب أنه المعبود بحق.
وإن كان يطلق في اللغة على الاثنين، ومنه قوله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فهذه الآية بينت أن إلهه هواه.
وقوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28]، فهذه آلهة باطلة.
أما قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فالمعنى: لو كان فيهما آلهة بحق إلا الله لفسدتا؛ لأن هناك آلهة بالباطل، ولكنها لا تعبد بحق، وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهو اتخذه إلهاً بالباطل.
فنحن نقدر كلمة بحق على الاستعمال الأغلب.
فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله.
فإذاً: نجعل جواب لا النافية (بحق) فنحتاج إلى تقدير (بحق)؛ لأن الجواب (إلا الله).
تطلق على الأصنام، سميت بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها.
وأسماؤهم تتبع اعتقادهم، لا ما عليه الشيء في نفسه، وهذا معنى أنها آلهة بالباطل.
فهي آلهة في اعتقادهم فقط.
ومعنى هذا الكلام: أنهم هم الذين سموها آلهة، فهي تتبع اعتقادهم، والحقيقة أنها معبود باطل.
قال أيضاً عن أبي الهيثم: وأصل إله: ولاه، فيكون أصله: همزة لام هاء، أو واو لام هاء (وله) فيكون هناك أله ووله.
وهما وجهان في التفسير لمعنى الإله.
ومعناه: أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم، فإذاً يولهون إليه بمعنى: يدعونه، ويتضرعون إليه، ومن أجل هذا كان الدعاء من أخص معاني العبادة؛ لأن الإنسان يلجأ إلى ربه كما يوله كل طفل إلى أمه.
وقال أيضاً عن ابن سيده: والألوهة والألوهية: العبادة.
وقيل: إنه مأخوذ من أله يأله إذا تحير؛ لأن العقول تأله في عظمته.
يعني: الذي تتحير العقول في عظمته، وهو معنى حق، وإن كان المشهور الأول.(62/9)
بيان خطأ من يفسر (لاإله إلا الله) ببعض لوازمها
الإله هو المعبود بحق، فمعنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، ولا يلجأ العباد ويضرعون ويفزعون في كل ما ينوبهم إلا إلى الله.
أي: التضرع بحق والفزع بحق، وإلا فالكثير يفزعون إلى غير الله، ولكن هذا فزع بباطل، وتضرع بباطل.
وكذلك لا عظيم تحار العقول في عظمته، ولا تدرك حقيقته سبحانه وتعالى، إذ كل من دونه حقير ذليل فقير إليه.
ومن هنا تعلم خطأ من ظن أن معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله فقط.
فإن هذا هو جزء من لوازم المعنى فقط؛ لأن الذي يتضرعون إليه، والذي يملك أن يجيبهم، والذي يعبدونه، لا بد أن يكون هو الذي خلقهم.
فهذا متضمن بالمعنى.
فلو اقتصروا عليه لأصبح هذا غير صحيح؛ ولذلك فإن المشركين الذين أبوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، كانوا يقرون أن لا خالق إلا الله، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
وكذلك من معاني الإله.
أنه الذي تشتاق إليه القلوب، وتميل إليه.
وهذا أحد معاني الوله، كما في لسان العرب.
وفي الأثر عن وهيب بن الورد قال: إذا وقع العبد في ألهانية الرب -يعني: شوقه إلى الله- ومهيمنية الصديقين، -يعني مراقبة الصديق فيراقب ربه عز وجل، فإن الصديق هذا أشد الناس مراقبة لله-، ورهبانية الأبرار -الرهبانية: الانقطاع، والبار: المخلص التام- لم يجد أحداً يأخذ بقلبه.
فلو أن الإنسان وصل إلى هذا فلن يبقى شيء يعجبه في الدنيا، ولا يحب شيئاً إلا الله.
ورهبانية الأبرار معناها: الانقطاع إلى الله عز وجل، ولهذا سُمي الجهاد رهبانية؛ لأنه انقطاع عن الدنيا، وعن الشهوات كلها، وفرقة للأهل والوطن والمال، واستعداد لمفارقة النفس والروح، فهو فعلاً رهبانية الأمة، وليس الانقطاع بمعنى: ترك الزواج ونحو ذلك؛ فهذه هي الرهبانية المبتدعة.
فالقلوب إذاً إنما تستقر وتسكن بتوجهها إلى الله وحده، فالقلب الإنساني فيه فقر وحاجة شديدة إلى إلهه الحق سبحانه، ولا يسدها سوى عبادته والتوجه إليه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالغرض من ذكر هذا الأثر بيان معنى الإله فإنه الذي تشتاق القلوب إليه.(62/10)
معنى العبادة
العبادة تدور حول معنى المحبة والتعظيم، وحول معنى التضرع واللجوء، فالعبادة بصفة عامة هي الحب والذل والخضوع تابع لذلك، أي: الخضوع الذي هو الذل، ولذلك يقولون: طريق معبد، أي: طريق مذلل مهيأ، ولذلك كانت العلمانية كفراً؛ لأنها: رد حكم الله، وهي عدم الخضوع؛ لأن العلماني يرى أن الخضوع لله سبحانه وتعالى لا يلزمه.
فحتى لو أحبه فإن حبه هذا لا ينفع، ما دام يرى أن شرعه هذا ليس ملزم للناس، ولا له هو والعياذ بالله، وإنما يأخذ الذي يريده، ويترك الذي يريده.
فأين الذل والخضوع هنا؟ فهو يزول من أصله.
ولذلك قضية تحكيم الشرع ليست قضية متعلقة بالقوانين فقط، بل هذه جزء صغير منها.
وإنما القضية هذه تشمل حياة كل إنسان في خاصة نفسه، وفي جميع أمور حياته.
فالقضية هنا في رؤية الإنسان أنه يجب عليه أن يخضع لله عز وجل، أما أن يرى أنه فوق أمر الله، وأنه حر في أمر الله؛ فإن هذا منافي لأصل كلمة لا إله إلا الله.(62/11)
عظم التوحيد وبيان بعض أدلته
الحقيقة أن طمأنينة القلب بالتوجه إلى الله دون ما سواه من أعظم أدلة توحيد الألوهية، ولكن لا يشعر بطمأنينة القلب ولا يجدها إلا المؤمنون المحبون الصادقون الذين جربوا الفرق الهائل بين الحياة والموت، وبين السعادة والشقاوة، وبين النور والظلام، وبين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر.
والذي جرب هذا يعرف أن القلب فعلاً محتاج لهذا.
ومن أجل أن يعرف الإنسان قدر التوحيد ينظر إلى غيره، ويتعظ بهم، فينظر إلى الكفار كيف يعيشون وكيف أنهم يحيون أسوأ حياة، وأشقى حياة والعياذ بالله! وهذا دليل على أن التوحيد دليل وجودي، يعني: يجده الإنسان ويتذوقه، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، فهذه الآيات احتج بها الله عز وجل على أن المؤمن لا يستوي مع الكافر؛ إذ لا يمكن أن يستووا، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات كما لا يستوي الأعمى والبصير.
ولن يقول هذا الكلام إلا الذي عرف الفرق، والحي هو الذي يعرف الفرق.
أما الجماد فلا يدرك الفرق، وإنما الحي هو الذي يدرك الفرق بين الحي والميت.
أما توحيد الربوبية فهو الدليل الظاهر بالضرورة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، ولذلك كان الاحتجاج به على توحيد العبادة أكثر في القرآن، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس:3].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] فأي عاقل يقول: الذي خلق وحده هو الذي يستحق أن يعبد، يعني: يلزم من توحيد الربوبية توحيد الخالق، أي: بأن الله وحده هو المعبود، قال تعالى عن موسى لما سأله فرعون: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أي: الذي تدعوا إلى عبادته: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
وكلمة (لا إله إلا الله) تتضمن في شطرها الأول نفي، وهذا هو الكفر بالطاغوت، وتتضمن الإيمان بالله في شطرها الثاني (إلا الله)، وهذا هو الإثبات، قال تعالى في بيان هذا المعنى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
قال سعيد بن جبير والضحاك: العروة الوثقى: (لا إله إلا الله)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم دمه وماله، وحسابه على الله).
فالنطق بها علامة على الكفر بما يعبد من دون الله؛ نقول هذا من أجل البعض الذي لم يفهم كلام محمد عبد الوهاب الذي يقول في تفسير هذا الحديث: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) أنه لا يعصم دمه وماله بالنطق بالشهادة ولا بكونه لا يدعو إلا الله، بل لا يعصم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما عبد من دون الله؛ ففهم منها بعضهم أن كل واحد لا يكفيه النطق بلا إله إلا الله، بل لابد معها من الكفر بما يعبد من دون الله.
فنقول: هذا الكلام غير صحيح؛ فإن الشيخ كان يتكلم على نوعية معينة من الناس، وليس كل الناس، بل أراد الذين كانوا يعبدون غير الله، فهؤلاء هم الذين لابد لهم عند الشهادة من الكفر بما يعبد من دون الله، أما غيرهم فإن لا إله إلا الله ذاتها علامة على ذلك؛ لأن شقها الأول: (لا إله) معناها: أنا أكفر بما يعبد من دون الله.
فيكفي قول: لا إله إلا الله، أو: كفرت بما يعبد من دون الله.
ولا يلزم أكثر من هذا، إلا إذا كان يقول مع لا إله إلا الله بآلهة أخرى.(62/12)
الطاغوت
لا يتم الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، وهو: كل ما يعبد من دون الله وهو راض، وقلنا: وهو راض؛ لأن هناك من يعبد وهو غير راض، ولذلك عندما يقال: (تتبع كل أمة ما كانت تعبد) فإن الذين كانوا يعبدون عيسى لا يذهبون مع عيسى؛ لأنهم لم يطيعوا عيسى، وإنما يذهبون مع شياطينهم وطواغيتهم، ولذلك يقال: (ويتبع من كان يعبد الطواغيت)، ومن ضمن الطواغيت: هؤلاء الأحبار والرهبان الذين قالوا لهم: اعبدوا غير الله.
وأما عيسى عليه السلام فبعيد عنهم.(62/13)
رءوس الطواغيت
رءوس الطواغيت خمسة: الشيطان الداعي لعبادة غير الله؛ ولذلك كل عبادة لغير الله مردها في النهاية إلى عبادة الشيطان، ولذلك كل كافر بالله مشرك؛ لأنه عبدٌ للشيطان؛ ولأنه عبد غير الله سبحانه وتعالى.
فالشيطان هو الداعي إلى عبادة غير الله، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
والمبدل لأحكام الله طاغوت، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن المبدل ينسب الأمر هذا إلى الدين، ويقول: إنه إلينا، فيعتقد الناس أن له حق التبديل، مثل اعتقاد اليهود والنصارى في علمائهم وأحبارهم ورهبانهم، بأن لهم الحق أن يشرعوا لهم، فيحللون لهم، ويحرمون عليهم -والعياذ بالله- من دون الله.
فمثلاً: تجد النصارى في العالم كله يأكلون الخنزير، مع أنهم معتقدون بأن الكتاب المقدس -العهد القديم والعهد الجديد- يحرمه عليهم، والعهد القديم بإجماع العقلاء كلهم فيه تحريم الخنزير، واليهود يحرمون الخنزير، ولكنهم تركوا كتاب الله؛ بسبب قرار مجمع من مجامعهم الذي قرروا فيه إباحة لحم الخنزير! وهذا يوضح تماماً اعتقادهم في أن الناس من حقهم أن يبدلوا.
ومن الطواغيت الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، وليس بشرط أن ينسبها للدين، وإن كان البعض يحاول أن يقصرها على ذلك، والحاكم بغير ما أنزل الله أسوأ؛ لأنه يدعي لنفسه حق التشريع مبدئياً من غير ما ينسبها للدين والعياذ بالله! وكلاهما طاغوت، ومتجاوز للحد، فإن بعض الدساتير تنص على أن مصدر السلطات كلها هو في يد الملك، وحتى التشريعات تصدر باسم الملك، وفي الدول الجمهورية تصدر باسم رئيس الجمهورية، وهو يقول: باسم الشعب، بل في النظام الملكي في كثير من البلاد أن الدساتير كلها هبة من الملك، فمثلاً: الدستور الياباني كل شيء يصدر عندهم باسم الإمبراطور، والإمبراطور هو مصدر السلطات، وهذه كلها -والعياذ بالله- من المناقضة لتوحيد الله عز وجل.
وأصل الطاغوت من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من جاوز حد العبودية، وزعم لنفسه حقاً أو صفة من حقوق أو صفات الألوهية، فهو طاغوت.
فالشيطان الذي يدعو الناس إلى عبادته وطاعته في الكفر بالله ورسوله، وفي مخالفة شرعه، قد جعل لنفسه حقاً من حقوق الإله الحق، وهو: الطاعة المطلقة، فمن أطاعه طاعة مطلقة حتى في الشرك والكفر وتكذيب الرسل فقد عبده، وعلى هذا فإنا نقول بأن الشعب يصبح عبداً للشيطان إذا أطاعه طاعة مطلقة، وليس كل عاصٍ يصبح عابداً للشيطان، وإنما في حالة الطاعة المطلقة التي تشمل أنه مستعد لأن يطيعه ولو في الكفر، ولو في تكذيب الرسل.
كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]، فإنه من المعلوم أن أكثر العالم كانوا لا يعبدون الشيطان بالصلاة والسجود له، أو اعتقاد ألوهيته، بل إنما كانت عبادتهم له بطاعته في الكفر.
ويجب التنبيه هنا إلى أن طاعة الشيطان في المعاصي من الشرك، وإذا وجد في القلب الإنكار الباطن الذي يجعل العبد وإن عصى ربه يقر على نفسه بالذل، ويعترف بالذنب، فلا تصبح هذه المعصية عبادة للشيطان تخرج الإنسان من الإيمان، وقد قال الأبوان: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد جاوز العبودية التي تستلزم تلقي أحكام الله بالقبول والإذعان، وعدم المنازعة، ونسب لنفسه صفة الربوبية بالتشريع، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فلو ادعى لنفسه أن له الخلق مثل الساحر فقد طغى أي: جاوز الحد، فهو طاغوت.
ولو أن شخصاً قال: لي الأمر، فقد طغى وجاوز الحد.
فالله تبارك وتعالى كما تفرد بالخلق، فهو متفرد بالأمر شرعاً وكوناً، شرعاً بمعنى: التشريعات، وكوناً بمعنى قوله: (كن) فيكون.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40].
فاعتقاد أن التشريع أو الحكم لله وحده من معاني توحيد الربوبية، ثم إن تطبيق ذلك بأفعال العباد بالتحاكم والحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني توحيد العبادة والإلهية، فهذا الخضوع هو التوحيد العملي، والأول اعتقادي؛ ولذلك كان من أعظم عبادة الطاغوت تحكيمه في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وأرواحهم.
وكذلك المبدل لأحكام الله الذي يدعي لنفسه حق تبديل الأحكام التي أنزلها الله حسبما يراه بعد إقراره وعلمه بأن الله أنزله، كالأحبار والرهبان الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31] وتفسيرها: أنهم اتبعوهم على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإذا كان الله قد أنكر على المشركين طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدل القرآن فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15] فكيف يتصور أن يكون هذا الحق لغيره؟!! فالظن بأن لأحد من الخلق أن يبدل أحكام الله حسب نظره وهواه من ظن الجاهلية والعياذ بالله! والساحر طاغوت؛ فإنه جاوز الحد، ونسب لنفسه ملك الضر والنفع، وتقليب القلوب حباً وبغضاً وتأليفاً, وقد يزعم الخلق والإحياء والإماتة، وقد يقول: أنا سأجعل العظم حياً، أو أنا سأوقع بين فلان وفلان كذا، أو أحبب فلاناً في فلانة ونحو ذلك.
وكل هذا من الطغيان؛ إذ هذه كلها من صفات الله وأفعاله وحده لا شريك له.
والكاهن طاغوت، وهو الذي يدعي لنفسه صفة علم الغيب التي اختص الله بها، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59].
فكل واحد من هؤلاء قد طغى، وجاوز الحد، فصار بذلك طاغوتاً يجب الكفر به، حتى يتحقق معنى النفي في (لا إله إلا الله).(62/14)
كيفية الكفر بالطاغوت
صفة الكفر بالطاغوت أن يعتقد الإنسان بقلبه بطلان ما زعموه لأنفسهم من صفات الربوبية، أو حقوق الإلهية، وأن يصرح بلسانه بذلك، وأن يعلم أنه حين ينطق بلا إله إلا الله فإنه يعني تكذيبه لكل هؤلاء أو غيرهم، ممن يعبد من دون الله.
ثم يكون عمله مطابقاً لقوله واعتقاده، فلا يطيع الشيطان، ولا يستجيب لدعاته فيما يأمرون به من الكفر والمعاصي.
والكفر بالطاغوت: اعتقاد وقول وعمل، فكمال الكفر بالطاغوت ألا يطيع الشيطان في شيء من المعاصي، ولا يتحاكم إلى من يحكم بغير ما أنزل الله، ولا إلى من بدل شرع الله، ولا يأتي السحرة والكهنة.
فاعتقاده الأول أنهم طواغيت باطلة فيما زعموا هذا الأصل، ونطقه بقوله لهم: ليس لكم من الأمر شيء، وعمله: أنه لا يذهب إليهم، ولا يأتيهم، بل يكذب ذلك بالجهاد وباليد والمال والنفس، لإبطال عبادة الطواغيت من على ظهر الأرض كلها، وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
فالفتنة شرك، ولذا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام.(62/15)
بيان كون الهوى من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله
إن من الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله: الهوى، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] هذه الآية نص واضح بأن الهوى إله يعبد من دون الله، ونحن نفرده بالذكر لأجل أن واقع الحياة المعاصرة -والحياة الغربية على وجه الخصوص- ونمط الحياة الذي يراد للناس أن يَعيشوها، هي قضية الحرية وتعظيم ما يهواه الإنسان هي القضية الأولى، وربما تكون أعظم الآلهة التي تعبد هي الشهوات، وليس لمجرد اتباع الشهوات، ولكن لعبادة الهوى، وهذا فرق بين أن يتبع الإنسان الشهوة، وبين أنه يجلس يؤسس ويؤصل اتباع الهوى.
فهناك فرق مهم بين شخص يقول: أنا مخطئ، وأنا أتبع هواي دون الرجوع إلى الشرع، وبين آخر يؤصل بأن كل إنسان حر في أن يفعل ما يشتهي؛ فإن الحرية هذه هي المبدأ الأول للثورة الفرنسية، وأن الناس أحرار فيما يأتون ويذرون، وعليها أسست نظام الحياة الغربية، فعندهم أن كل إنسان حر فيما يشتهي، وفيما يفعل.
ولذلك مثلاً: تجد أن الدنيا تقوم ولا تقعد لو حكم على أحد بالتفريق بينه وبين زوجته بسبب الكفر فيقولون: أين الحرية؟ هو حر يفعل ما يشاء كما يشاء.
وتجد أيضاً قضية الشهوات الجنسية مفتوحة تماماً في الغرب، بحيث إنه يمكن للمرأة أن ترفع قضية على زوجها أنه اغتصبها؛ لأنه جامعها بغير رغبتها! في حين أنه لو جامع غير زوجته - زنى- فإن ذلك لا يعد جريمة! فتجدهم يؤصلون قوانين الزنا، ويبينون ما هو الزنا، وما هو المحرم منه؛ فلا يكون محرماً إلا عن طريق الغصب والإكراه، ومن أجل هذا يقولون: من واقع أنثى بغير رضاها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة! وكل هذا تأصيل لقضية عبادة الهوى والعياذ بالله! وهذا فرق مهم جداً ينبغي أن يعيه جهلة جماعات التكفير والتوقف وأمثالها ممن يرى أن سلوك الإنسان بمجرده يحكم به على صاحبه بأنه متبع لهواه، فمثلاً: يرى المرأة المتبرجة، أو شخصاً تاركاً لبعض الواجبات، أو فاعلاً للمحرمات، فيقول: هذا إنسان يعبد الهوى، ويستدل بقوله تعالى: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43].
أو يجد شخصاً يحب الكرة أو يحب الموسيقى أو يحب المغني الفلاني، فيقول: إنه يعبد ذلك الشيء! فلا بد أن نفرق بين هذا وبين تأصيل حق الإنسان في اتباع هواه، وأن اتباع الهوى حق للإنسان والعياذ بالله! وبين شخص يفعل ذلك على جهة المعصية، ويرى أنه مخطئ إذا فعل ذلك، أو إذا كان عنده شبهة فتبين له إذا كان يرى أنه على الصواب، فهناك فرق عندما يقول أحد: الموسيقى ليس فيها شيء، وليست حراماً، وهناك علماء يقولون كذا، وأين الدليل من الكتاب والسنة؟ فإن هذا أصبح عنده أصل: أن الناس عليهم أن يرجعوا إلى الدين، ولكن القضية أن نظام الحياة العلمانية ترى أن الإنسان حر في أنه لا يرجع إلى الدين، فتأصيل مثل هذا هو عبادة الهوى.
ومن أجل هذا أدخلناه في الطاغوت، مع أن المشهور أنهم يقولون: الطواغيت خمسة، لكنه فعلاً من الآلهة التي تعبد، بل ربما يكون أعظم طاغوت في واقعنا هو الهوى.
قال ابن كثير في تفسير الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال: مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان هذا الشيء دينه ومذهبه.
وإنما يكون هذا شركاً أكبر إذا كان اتباع الهوى يقود إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، وأما إذا كان فيما دون ذلك فهو شرك أصغر؛ ولهذا كانت المعاصي كلها من شعب الشرك، وإن لم يكن حكمها حكم الشرك الأكبر.
والواجب على الإنسان أن يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتم إيمانه، ولابد أن يعرض رغباته وغاياته وخطراته على الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما ألقاه وراءه ظهرياً.
فإن المعاصي في حكم الشرك، وتسمى كذلك في الجملة، لكننا في الحقيقة لا نسمي المعاصي شركاً أصغر إلا إذا ورد تسميتها بذلك، فمن ذلك -مثلاً-: عبد الدرهم، وعبد الدينار، والفواحش، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الرياء شركاً أصغر، وسمى الحلف بغير الله شركاً أصغر، فنحن نقول: إن المعاصي التي وردت فيها تسمية لا شك أننا نسميها كذلك، وإن كان في الجملة حكم المعاصي كلها أصلاً من باب الشرك الأصغر؛ يطلق ذلك عليها إجمالاً، كما نقول: المعاصي بريد الكفر، أو البدع بريد الكفر، أو المعاصي من شعب الكفر، وليس المقصود به كفر الخروج من الملة، وإنما المراد أنه شرك أصغر؛ لأنه اتباع للهوى، وذريعة للأكبر؛ ولأن كل المعاصي تقود في النهاية إلى الكفر، فمن الممكن أن تقود الإنسان إلى الكفر فعلاً إذا وصل إلى الكفر والتكذيب والشرك بالله، فهذا هو عبادة الهوى من دون الله.
والشرك الأكبر صاحبه مخلد في النار، والشرك الأصغر هو من جنس المعاصي في قضية خلود صاحبه في النار.
وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك).
فوجدنا أن فيها قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر.
ووجدنا أن في الحلف شركاً أكبر، وشركاً أصغر.
فنحن محتاجون لبيان هذه الأقسام، ومن أجل هذا وضع العلماء الفرق بينهما، حيث إنه ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أناساً ممن كان فيهم ما سماه شركاً معاملة المسلمين، فتبين لنا بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أنه من ضمن أن الطيرة فيها ما هو شرك أصغر، ومن ضمن أن الحلف فيه ما هو شرك أصغر، فتبين بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد ذلك.(62/16)
بيان خطر المال والجاه
من الآلهة التي يعبدها الناس من دون الله وهم لا يشعرون: المال والجاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخمصية، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
وقوله: (انتكس) يعني: رجع إلى الحال السيئ الذي كان عليه، والتعاسة خبر أو دعاء، يعني: إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عنه وهذا الخبر صادق لا يخلف، أو أنه دعاء قد أجابه الله عز وجل، فدعا عليه بالتعاسة والانتكاس، وأنه إذا شيك -أي: إذا دخلت في قدمه أو في جسمه شوكة- فلا انتقش، يعني: لا أُخرجت بالمنقاش.
فما أشقى هذا العبد الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبر بتعاسته، من أجل أنه رضي لنفسه أن يكون خادماً لما خلق من أجله أصلاً؛ فإن المال واللباس والقطيفة والخميصة خلقت لأجل الإنسان، فإذا به يجعل نفسه خادماً لهذا الذي خلق من أجله؛ إذ إن المفروض أنه يكون خادماً لك، مسخراً لك، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
فالإنسان إذا صار المال والجاه وكلام الناس عنه في هيئته وثوبه وغير ذلك هو كل همه في هذه الدنيا فإنه يصبح من أجله يحب ويبغض، ويوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، وهذا من أعظم الآلهة التي تعبد في زماننا، وخصوصاً في نمط الحياة الغربية التي يراد للناس أن يقلدوها، فإن قضية المال هي من أعظم الأشياء عندهم، أو هي كل شيء عندهم، فبالمال تغير الأديان، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا يكثر في فتن آخر الزمان، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فالرسول عليه الصلاة والسلام بين أن الفتن التي ستأتي في آخر الزمن هي من هذا النوع، فأحدهم قد يبيع دينه بعرض من الدنيا.
فلا بد للدعاة إلى الله وأهل الحلم والدين أن ينتبهوا لهذا النوع، فإن الناس ممكن أن يحاربوا من بعيد اللات والعزى، وإن كانت معظم عبادة الناس ليس في اللات والعزى، مع أن الناس في الحقيقة مدفوعون دفعاً إلى أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا، فأحدهم مستعد أن يكفر بالله لو أعطي مالاً، أو أعطي منصباً، ومستعد لأن يترك ما أمره الله عز وجل به من الولاء والبراء وكل الدين بسبب أنه يخاف على منصبه أو يخاف على مركزه أو يخاف على ماله أن يضيع، والعياذ بالله! فلابد من الانتباه لهذه الفتنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فلابد للإنسان أن ينتبه لهذه الفتنة المقبلة، فقد أصبح الإنسان في هذا الزمان من أجل المال يحب، ومن أجله يبغض، ومن أجله يوالي ويعادي، ويطلبه من حلال أو حرام، ولو طلبوا دينه ثمناً لعرض منها لكان أسرع شيء إلى البيع بالثمن البخس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وهو مع ذلك لا يناله من الدنيا إلا ما كتب له، كما في الحديث الصحيح: (من أصبح والدنيا نيته، فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة نيته، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن حبان في الصحيح، وابن ماجة، والطبراني بإسناد لا بأس به.
وفي الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً).
ولذلك نقول: إن طبيعة العمل التي تستغرق وقت الإنسان وعمره تجعله غير متفرغ لكي يبذل شيئاً في سبيل الله؛ فلا يجد وقتاً لعبادة الله وذكره، ولا يجد وقتاً للدعوة إلى الله، ولا يجد وقتاً للتعلم والتعليم ونشر الخير، وهذه علامة أكيدة على أن القلب بعيد عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (يا ابن آدم! لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)، فتجده دائماً ويداه مشغولة.
وقد يقول قائل: الناس كلهم الآن أشغالهم تستهلك اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وأكثر من اثنتي عشرة ساعة، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل يبين أن هذا سبب البعد عن الله.
فلو أن القلب قريب من الله فإنه سبحانه يفتح لعبده من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فلابد للإنسان من أن يجعل الهم هماً واحداً، وليس معنى ذلك أن يقول: نترك العمل، ونجلس في المسجد.
فهذا كلام غير صحيح، وإنما المطلوب أن تكون همة الناس همة الدين، فعند ذلك يفتح الله لهم أبواب الرزق، وأبواب الطاعة، وأبواب الخير.
فالعودة إلى التوحيد الصافي من الكتاب والسنة، ونبذ الشركيات بأنواعها، واستدلال الناس على التوحيد بآيات القرآن والسنة، وإحياء القضايا الإيمانية التي في القرآن والتي أهملت في عصور التقليد خير عظيم.
فأبواب الخير مفتوحة، ولكنها تريد همة عالية في التقرب إلى الله عز وجل، بحيث لا يكون هم الإنسان إلا هماً واحداً، كما قال عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً).
فهذا وعد من الله عز وجل، وإذا وجدت غير هذا فتأكد بأن هناك غلطاً، وأن هناك خللاً.
وقوله: (الخميلة): كل ثوب له خمل، و (الخميصة): أيضاً نوع من الثياب الحسنة الجميلة.
ولا يتصور في مؤمن يوجد في قلبه شيء من الإيمان أن يضحي بعقيدته لمن يدفع أكثر، سواء كان من الشرق أو من الغرب، أو يرضى بالكفر ويتابع عليه من يظن أنه إن لم يعطه جاع أو عطش، وقد غاب عنه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وقد صارت هذه المصيبة -والعياذ بالله- مبرراً للكثيرين في المتابعة على الكفر والفسوق والعصيان؛ بل على حرب الإسلام وأهله دون جريمة؛ إلا أنهم يلتزمون بالإسلام.
وذلك منهم إرضاء للمجرمين والكافرين، ومن أجل أموالهم، بل صار معلوماً أن الصفقات تعقد على ضرب الإسلام في مقابل الأموال التافهة الحقيرة، أو من أجل الاستمرار في كراسي الحكم والسلطة، فهذا الذي نراه هو حقيقة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه العبودية للمال في أبشع صورها.
فأما من لا يوصله حب المال إلى الكفر، ولكن يوصله لفعل المعاصي -والعياذ بالله- فله نصيب من الشرك الأصغر، فما زالت هناك عبودية، لكن هذه العبودية شرك أصغر، نسأل الله أن يعيذنا من العبودية لغيره، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.(62/17)
حقيقة العبادة
كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على شقين: نفي وإثبات، فالشق الأول فيه الكفر بالطاغوت، وقد تكلمنا على الآلهة التي تعبد من دون الله.
والشق الثاني فيه الإيمان بالله، وحقيقة العبادة.
أما الشق الثاني من كلمة التوحيد -وهو إثبات الألوهية- فهو حقيقة الإيمان بالله؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
والعبادة هي كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
وبهذا يظهر التطابق بين حقيقة الإيمان: أنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وبين حقيقة العبادة، ومن أجل هذا قلنا: إن العبودية لله هي إثبات الألوهية، وحق العبادة لله هو حقيقة الإيمان.(62/18)
أركان العبادة
أصل العبادة: كمال الذل وكمال الحب، فهما ركنان لا تقوم العبادة إلا بهما.
فلابد للإنسان الذي يقول: أنا أعبد الله أن يكون عارفاً بالركنين في الجملة إجمالاً، ويحققهما في ذات نفسه، أما من يدعي أنه يحب الله ولا يخضع له، فهذا لم يحقق العبودية لله عز وجل، وهذا موجود في تصورات قطاع كبير من البشر، فإن ملايين من البشر يقولون: نحن نحب ربنا، ولكن لا يلزم أن نسمع كلامه، ومعظم الغرب يقرون بوجود الله، ولكن لا يوجد منهم خضوع له، ولا انقياد لشرعه، وعلى هذا فليس عندهم عبودية لله سبحانه وتعالى، حتى لو أحبوه.
فالركنان اللذان لا تقوم العبادة إلا بهما: كمال الحب، مع كمال الذل.
فخضوع الانقياد هو أن العبد لا يمكن أن يضحي بأمر الله أمام أي مقابل، كما أنه لا يمكن أن يقدم على حبه لله عز وجل أي حب.
والعبادة كذلك لا تصح إلا بالحب والخوف والرجاء، فلابد من العبادة في كل عمل من الأعمال، فلابد للعبد في كل عمل من أعماله أن يكون محباً لربه جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وأن يكون خائفاً من ربه، خوف المقام بين يديه، وخوف وعيده.
قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، وقال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وفيهما معنيان: الأول: الذي سبق وهو خوف المقام بين يدي الله.
وأما الثاني فالمراد: أنه خاف مقام الرب عليه بالاطلاع، فهي مضافة إلى الفعل، والمعنيان صحيحان.
فمقام الرب عز وجل بالربوبية: الاطلاع في كل وقت، أما مقام العبد بين يدي ربه فسيكون يوم القيامة للسؤال وللحساب.(62/19)
الرد على من يقول: إنه لا يخاف النار، ولا يرجو الجنة
على العبد أن يخاف الوعيد والعقاب، ولا يكون كمن من يقول: أنا لا أخاف النار، قال عز وجل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وكذلك يجب أن يكون العبد راجياً فضل الله ورحمته وثوابه وجنته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فنسب الرغبة إلى الله، والحسب في التوكل على الله، والإيتاء نسبه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال عن آل زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
فالأنبياء وصفوا بذلك، والمؤمنون وصفوا بذلك، ومدحوا على ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فمن زعم أنه يعبد الله حباً فقط، بلا رغبة ولا رهبة فهو منافق زنديق كاذب في دعواه، فلو أحب الله لأطاعه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، فإنه عز وجل يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] فلو أحب ربه لرهبه، وقالت رسله: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، وقال سيدنا شعيب: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]، فكيف تصدق دعوى الحب لله عز وجل مع مخالفة أمره؟ وكيف تصح العبودية بغير خوف ورجاء؟ وكثير من الناس اغتروا بالكلام المنسوب إلى رابعة العدوية -والله أعلم بحقيقة النسبة إليها- وهو قولها: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها! وظنوه دالاً على علو شأن المحبة.
واغتروا بالتفسير المنقول عن الشيخ الشعراوي في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] قال: والجنة تعتبر أحداً! وهذا معناه: أن الذي يطلب الجنة مشرك والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يقول لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29]، فهل هن مشركات؟! وهل الله عز وجل يرغب في الشرك؟! نعوذ بالله! وهل عندما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) [الأحزاب:21] رغب في الشرك؟! فعندكم أن رجاء الله ورجاء اليوم الآخر شرك.
نعوذ بالله! وهذا الكلام ضلال مبين، وهو كلام حقيقته الكفر، يترفع عنه حال الأنبياء والأولياء، وإنما أصله سوء اعتقاد في الله ورسله كما هو حال الصوفية والفلاسفة، فإن عندهم أنه من الممكن أن يقول الله للناس كلاماً غلطاً من أجل أنه لا ينفع معهم إلا هذا، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
من الفلاسفة من يقول: إن الرسل أصلاً كانوا فاهمين، لكن الناس لا ينفع معهم إلا هكذا! وبعضهم يقول: إن الرسل يخدعون الناس، وأن الرسل لم يكونوا يفهمون ما هو الموضوع، والعياذ بالله! فهؤلاء المتدينون من الفلاسفة يقولون: إن الرسل كانوا يخدعون الناس، وهذا معناه أنهم كذابون.
والعياذ بالله! ويقولون: بأنهم لا يفهمون أصلاً، وأن طرق الحكمة غير طرق الرسل، وهؤلاء أكفر الفلاسفة والعياذ بالله! فهذا كلام فضيع جداً، والذي يقرأ كتاب مفصل الاعتقاد لشيخ الإسلام ابن تيمية يجد فعلاً أن كلام الفلاسفة مبني على ذلك، وهم في أحسن أحوالهم يقولون: الرسل أذكياء جداً، لكن العوام من الناس لا ينفع معهم غير هذا، والذي يتلمح مثلاً عنوان كتاب الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام) يجده لم يلغ علم الكلام بالكلية، وإنما يلجم العوام الذين لا يفهمون.
وله كتاب آخر اسمه: (المضنون به على غير أهله)، قال ابن العربي: شيخنا أبو حامد دخل الفلسفة فأراد أن يخرج منها فلم يستطع يعني: أنه ما زالت بقايا الفلسفة مؤثرة فيه، ففي كتابه (المضنون به على غير أهله) يقول: إن هناك أسراراً يضن بها على العوام! ولذلك تجدهم كلهم متفقين على أن الخوف والرجاء والرغبة والتوكل والإخلاص كل هذه من عبادة العوام، يعني: أن الخواص مترفعون عن ذلك، وهذا الكلام ذكره في مدارج السالكين، وفي كل مكان فيه صوفية تجد هذا الكلام موجوداً.
ولذلك كلام الفلاسفة هذا خطير للغاية، وفساد فعلاً في الاعتقاد، وهو يرمي إلى تجريد الرسل أصلاً، فإن الفلسفة لما دخلت أثرت على الناس في عقائدهم، وبمرور الزمن أدت إلى أن يكون كلام الكفار هو الذي يعتقده قطاع عريض من أتباع الرسل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأكثرية -والحمد لله- تأبى ذلك، إلا أن هناك أناساً منتسبين إليها يفعلون ذلك، فإن عقيدة النصارى منبعها من الفلاسفة الكفار، وعامة النصارى يعتقدون هذه العقيدة الكفرية والعياذ بالله! ولو أن أحداً اعتقد أن الجنة هي أكل وشرب ونكاح فإنه يصبح جاهلاً بالدين مبتدعاً؛ لأنه ينكر رؤية الله، وينكر القرب من الله؛ ولذلك فإن الجهمية من شرار الخلق؛ لأنهم ينكرون أعظم نعيم لأهل الجنة وهو القرب، فهم يقولون: إن الله لا يقرب، ولا يقرب منه؛ لأنه يلزم من ذلك الجسمية.
قالوا: ولا يرى في الآخرة؛ لأنه يلزم من ذلك أنه محدود؛ ولذلك أنكروا هذا وقالوا: إن الجنة أكل وشرب ونكاح فقط، وهؤلاء من أهل البدع والضلال، فإنهم لما تركوا ذكر الله، وتركوا القرآن، وتركوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وقعوا في الضلال الذي ما أنزل الله به من سلطان.
فحقيقة هذا الكلام هو الضلال والزندقة؛ إذ كيف يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأل أفضل أولياء الله الصالحين -وهم الصحابة رضي الله عنهم- الجنة، ويستعيذون بالله من النار، ثم يتبرأ مسلم من ذلك، أو يزدري هذه النماذج في الاعتقاد، تارة بأنها عبادة العبيد أو التجار، مثل الكلمة المشهورة الموجودة: الخوف عبادة العبيد، والرجاء عبادة التجار، وأما الحب فهو عبادة الصديقين؟ فهل كان الصحابة وآل زكريا من العبيد والتجار؟ هل أصبح هؤلاء أحسن منهم؟! كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، وهو محي الدين الصوفي، وأما أبو بكر بن العربي فهو المالكي.
وهذا الكلام ليس إلا إعراضاً عن القرآن والسنة وإجماع علماء المسلمين، بل قد صرح أئمة العلماء بكفر من قال: أنا لا أخاف القيامة، قال النووي: ولو قال: لا أخاف القيامة كفر.
فانظر إلى هذه الهاوية التي سقط فيها أولئك القوم، وفتنة الناس بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(62/20)
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة
جاء الدين الإسلامي فألغى كل مظاهر الفساد في جميع نواحي الحياة: في الاعتقاد، أو الأخلاق، أو المعاملات.
ومن أعظم ما عمل على إلغائه وإنهائه: الربا، الذي هو خطر على جميع الناس، ويكفي فيه أنه: محطم للاقتصاد، مبدد للثروات، ولعل أعظم فساده وضرره: تسببه في تعرض المتعاملين به لغضب الله وسخطه وحربه، قال تعالى: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).(63/1)
الجنة وصفات أهلها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:130 - 138].(63/2)
الحث على المسارعة إلى الجنة، وصفتها
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين إما أن تقضي، وإما أن تربي، -تربي أي: تزيد، والربا أصلاً من الزيادة، يربو: يزيد-، قال: فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، -في قدر الدين وصار مضاعفاً-، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً، وأمر الله تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى -في الأولى الدنيا، والأخرى: الآخرة-، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: كما أعدت النار للكافرين، وقد قيل: إن معنى قوله: ((عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر، إذا كانت البطانة من الحرير فالظهارة دائماً تكون أفضل من البطانة.
وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله -كالكرة- والله عز وجل أعلم بصفة ذلك، وهذا ليس عندنا ما يدل عليه عبارة صريحة.
يقول: وقد دل على ذلك كما ثبت في الصحيح: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن).
هذا الحديث رواه البخاري، ولكن ليس صريحاً في أن الجنة كالقبة، فالله أعلى وأعلم.
فالكيفية مجهولة بالنسبة لنا، ولكن الفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وسقفه عرش الرحمن.
قال: وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21] الآية.
قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد: (أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار) حديث ضعيف.
ورواه ابن جرير عن يعلى بن مرة قال: (لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فند)، فند أي: بلغ الهرم، وضعف جداً، (فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجل عن يساره، قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ قالوا: معاوية فإذا كتاب صاحبي)، ومعاوية هو الذي يقرأ الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بقارئ، وقوله: (فإذا كتاب صاحبي) أي: فإذا كتاب هرقل فيه الآتي: (إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار).
وقال الأعمش وسفيان الثوري، وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة.
يعني أن هذه الحجة موجودة في التوراة بهذه الطريقة والله أعلم، رواه ابن جرير من ثلاثة طرق.
ثم روى عن يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون: جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أين يكون الليل إذا جاء النهار؟ وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ أي: حيث يعلم الله سبحانه وتعالى، وملك الله أوسع من السماوات والأرض، فالله عز وجل يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
فمضمون الحجة أنه يكون حيث شاء الله، وملك الله عز وجل أعظم من السماوات والأرض كما ذكرنا.
قال: وقد روي هذا مرفوعاً، رواه البزار عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى: ((جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) [آل عمران:133] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل).
يقول: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون اثنان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله وهذا أظهر، كما تقدم في حديث أبي هريرة عند البزار.
والثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر كما هو معلوم الآن أن الليل يكون في جانب، والنهار في جانب آخر.
فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل: ((كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.(63/3)
من صفات أهل الجنة: الإنفاق
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة، فقال: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:274]، والمعنى: أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى، والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر، وقوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يُعِملُوه -ولم يعملوا بمقتضاه، فلم يعملوا غيظهم في الناس-، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.
وقد ورد في بعض الآثار يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبتُ، فلا أهلكك فيمن أهلك) رواه ابن أبي حاتم.
وقد روى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره)، وهذا حديث غريب وفي إسناده نظر، وإن كان المعنى ثابتاً من أدلة الكتاب والسنة الأخرى.
وقوله: ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره، يعني: التوبة.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة) الصرعة: الذي يصرع الناس، قال: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه، رواه الشيخان من حديث مالك.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه)؛ لأن ماله هو الذي يتصرف فيه، قال: (اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله).
وحقيقة الحال: أن أكثر الناس مال وارثهم أحب إليه من أموالهم، وذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما لك من مالك -أي: ليس لك من مالك- إلا ما قدمت، وما لوارثك إلا ما أخرت).
وأكثر الناس يحبون ادخار الأموال، وهذه الأموال المدخرة تعود للورثة، فهو ليس مالهم، وإنما مالهم ما ادخروه عند الله، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون فيكم الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له، قال: لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً)، الذي لم يمت في حياته أحد من أولاده، فهذا الذي كأنه لا ولد له؛ لأنه لا يدري هل من يعيش من أولاده ينفعونه أم لا؟ وأما من مات من أولاد المسلمين فهم شفعاء في آبائهم وأمهاتهم.
أخرج البخاري الفصل الأول منه: الذي هو: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله)، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش.
حديث آخر رواه الإمام أحمد: عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال: فقال: (أتدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل رقوب: الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك: الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع) صريع: تطلق على فاعل ومفعول، يقال: بل سقط صريعاً أي: مصروعاً، والصريع بمعنى: الصارع، أي: الذي يغلب الناس بالصراع، (قال: فقال: الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه)، وفي بعض النسخ: (فيصرعه غضبه) وقوله: فيصرع غضبه: أي يغلب غضبه.(63/4)
كظم الغيظ من صفات أهل الجنة
وروى الإمام أحمد: عن الأحنف بن قيس عن عم له يقال له: جارية بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! قل لي قولاً ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، فأعاد عليه حتى عاد عليه مراراً كل ذلك يقول: لا تغضب).
وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام.
وفي الراوية الأخرى: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله، فقال: لا تغضب) قال ابن كثير الحديث انفرد به أحمد، مع أنه رواه البخاري، وهذا وهم من ابن كثير رحمه الله.
حديث آخر: رواه الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، قال: الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) انفرد به أحمد.
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أنه كان يسقي على حوض له، فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه -يورد عليه: يدخل إبله على إبله أثناء سقياها- وكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقد أغاظ أبا ذر هذا الرجل جداً، وهؤلاء القوم كانوا يريدون أن يغيظوا أبا ذر فكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر، لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده.
وحديث آخر رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي وائل الصنعاني قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، فلما أغضبه قام، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي وقد كانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أُغضب أحدكم فليتوضأ) وهكذا رواه أبو داود وضعفه الشيخ الألباني.
وحديث آخر: رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع له) أنظره أي: أخر عنه المدة، ووضع له أي: ترك شيئاً من الدين الذي عليه، (قال: من أنظر معسراً أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثاً، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن) عمل الجنة حزن يعني: في الصعوبة، مثل مكان مرتفع يحتاج إلى صعود، ولن يجد الإنسان سهولة في الصعود إليه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)، (ألا وإن عمل النار سهل بسهوة) أي: أرض منبسطة، يعني: أن عمل النار سهل، (وحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) هذا هو المعنى، والله أعلم.
قال: (والسعيد من وقي الفتن) نسأل الله أن يقينا من الفتن، (وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً).
انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.
حديث آخر في معناه: رواه أبو داود عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمناً وإيماناً، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو أقدر) قال: بشر المنصور -هو: بشر بن منصور أحد الرواة- أحسبه قال: (تواضعاً) أي: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعاً كساه الله حلة الكرامة، ومن روج لله كساه الله تاج الملك) بمعنى الدعوة، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء) هذا حديث حسن.
والذي قبله ضعفه الشيخ الألباني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
حديث آخر: رواه عبد الرزاق عن رجل من أهل الشام يقال له: عبد الجليل عن عم له عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً) حديث ضعيف، لكنه شاهد لما قبله، رواه ابن جرير.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله) وكذا رواه ابن ماجة.
فقوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) أي: لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل.(63/5)
العفو من صفات أهل الجنة
ثم قال تعالى: ((وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد -أي: غيظ وغضب وضيق من أحد- وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) وهو من مقامات الإحسان.
وفي الحديث: (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله) حديث صحيح أخرجه مسلم، ولا التفات إلى ما ذكر في بعض النسخ من تضعيفه، فهو حديث صحيح بلا شك، وبعض المحققين ذكر ضعفه وليس بضعيف، بل هو صحيح.
وروى الحاكم في مستدركه عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه).
قوله: من سره أن يشرف له البنيان أي: يرفع له البنيان عند الله في الجنان، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال الذهبي: أبو أمية ضعفه الدارقطني وإسحاق لم يدرك عبادة، وإسحاق بن يحيى بن طلحة هذا فيه انقطاع، لكن له شواهد متعددة، وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة، وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك، لكن أصل هذا الحديث ثابت إن شاء الله؛ لأن له طرقاً متعددة.
وروى من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة) نسأله ذلك.(63/6)
التوبة والاستغفار من صفات أهل الجنة
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً أذنب ذنباً، فقال: رب إني ذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي) قوله: علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) أي: عاقب، فهو يعلم قدرة الله على العفو وقدرته على العقاب، فرجا عفو الله ومغفرته وخاف عقابه فاستغفر لذلك.
قال: (ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر، فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) أي: طالما ظل على تلك الحال، ووافى الله عز وجل تائباً، أخرجاه في الصحيحين.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: لو أنكم تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم، قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، تحمل على الغمام -على السحاب- وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الترمذي.
والحديث له شواهده الكثيرة.
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء قال مسعر: فيصلي، وقال سفيان: ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له).
وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن وابن حبان في صحيحه، والبزار، والدارقطني، وقال الترمذي: هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
ومما يشهد بصحة هذا الحديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنوب ينفع العاصين.
وقد قال عبد الرزاق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] الآية: بكى.
ورواه الحافظ أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون).
قال ابن كثير: عثمان بن مطر وشيخه: ضعيفان، والحديث ضعيف ولا يصح مرفوعاً.
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال إبليس: يا رب! وعزتك لا أزال أغوي عبادك، مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: (جاء رجل فقال: يا رسول الله! أذنبت ذنباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أذنبت فاستغفر ربك، فقال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب، قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة: استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور) أي: الذي ترجع عليه الحسرة.
هذا حديث غريب من هذا الوجه ضعيف، لكن المعنى ثابت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم ذكرناه قبل وفيه: (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء).
وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)) أي: لا يغفرها أحد سواه، كما روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) أيضاً لا يصح، مرسل من مراسيل الحسن.
وقوله: ((وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، أو يصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، والتكرار غير الإصرار، فالإصرار معناه: أن يعزم أن يعود إلى الذنب فيكون قلبه عازماً على العودة، والتكرار: يمكن أن يكون مع إصرار، ويمكن أن يكون بغير إصرار؛ لأنه سيفعل الذنب ثم يتوب، ثم يرجع إليه مرة ثانية، فهو قد تكرر منه الذنب ولم يصر، وإذا أصر ولم يتكرر منه الذنب فهو أشد ممن تكرر منه الذنب.
قال: ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أبي نصيرة عن مولى لـ أبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة).
رواه أبو داود والترمذي، والبزار، وقال علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، ضعفه الترمذي لأجل مولى أبي بكر، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر؛ ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق فهو حديث حسن، والله أعلم.
وقوله: ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير: وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، ((أَلَمْ يَعْلَمُوا)) فهم يعلمون من صفات الله أنه يغفر الذنوب، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110].
ونظائر هذا كثيرة جداً.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) صححه الألباني، وتفرد به أحمد.(63/7)
الأعمال سبب النجاة أو الهلاك، والنصر أو الهزيمة
ثم قال تعالى بعدما وصفهم بما وصفهم: ((أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله ((وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: من أنواع المشروبات: من خمر، وعسل، ولبن، وماء غير آسن، ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أي: ماكثين فيها، ((وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) يمدح الله تعالى الجنة.
هذه الآيات الكريمة في وسط الآيات في سورة آل عمران في ذكر غزوة أحد، وقد يستغرب البعض من ذكرها في هذا الموضع بعد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً))، ثم حذرهم سبحانه وتعالى من النار، وبين صفات أهل الجنة، فنقول: العلاقة بين ما ذكر قبل وبعد قصة غزوة أحد وثيقة جداً؛ وذلك أن المؤمنين إنما يواجهون عدوهم ويواجهون الصراع بين الحق الذي معهم والباطل الذي يعانيهم؛ إنما يواجهونه بأعمالهم فإذا كانت أعمالهم وصفاتهم على الوجه الذي يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى وعلى وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك النصر بإذن الله.
ولذا بوب البخاري باب: عمل صالح قبل القتال.
وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم، وإذا كان الناس يحاربون الله عز وجل، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم بأكل الربا فكيف يتصور أن يكونوا ناصرين لدين الله، وهم لم ينصروه في أنفسهم؟ وكيف يتصور أن ينتصروا على عدوهم عدو الله، وهم لم ينتصروا على أنفسهم؟ فكان هذا الأمر وثيق الصلة بأمر القتال والحرب، بل وبكل صراع يجري بين الحق والباطل، فإذا كان الربا منتشراً في أمة فهذا من علامات خرابها وضياعها، وقد يقول البعض: فالكفار يتعاملون بالربا فلماذا يسودون؟ نقول: إن الله سبحانه وتعالى يعامل أهل الإيمان والإسلام بغير ما يعامل به أهل الكفر والنفاق والعياذ بالله؛ وذلك أن الله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ليرحمهم، ويسلط عليهم عدوهم ليكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8] فلما ابتعد أهل الإسلام والإيمان عن دينهم سلط عليهم بذنوبهم أعداءهم، قال عز وجل: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:7 - 8].
أما أهل الكفر فإنه يملي لهم سبحانه وتعالى حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
فالله عز وجل يبتلي أهل الإيمان والإسلام ومن خرج منهم عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبتليهم به سبحانه وتعالى ليطهرهم، فلذلك لا يقولن أحد: لماذا الكفار ممكنون في الأرض؟ فهذا من إملاء الله لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم سبحانه وتعالى.
أما أهل الإسلام فلهم شأن آخر، إذا أكلوا الربا أضعافاً مضاعفة -وسيأتي الكلام أن ذلك ليس له مفهوم- فلا ينتصرون على عدوهم؛ ذلك أن الربا حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، فكيف ينتصر من يحارب الله ويحاربه الله سبحانه وتعالى؟ لذلك إذا رأينا أمة الإسلام تترنح تحت سلطان عدوها فلنعلم أن من أعظم أسباب ذلك انتشار الربا في مشارق أرض أهل الإسلام ومغاربها، وأكله صريحاً وبالشبهات، وبالحيل المحرمة التي حرمها الله سبحانه وتعالى، وأوضحه: الاقتراض بالفائدة مع الزيادة سواء يقترض الإنسان أو يقرض، سواء كان ذلك مع أفراد أو مؤسسات، فإن ذلك كله من الربا المحرم بلا شبهة ولا تردد، فإن توقيف ووضع الأموال في المؤسسات المالية كالبنوك وغيرها عند أهل القانون أنه كالدين والقرض، وإن سمي بأسماء أخرى، فأهل الاقتصاد متفقون على أن هذا حكمه حكم الدين، فهو يداين المؤسسة البنكية بهذا المبلغ، وبعض البنوك تقرض الناس ويسمى قرضاً صراحة، وإن سمي ائتماناً فليس بائتمان، وإنما هو قرض بزيادة، وهذا مما لا يختلف فيه أهل الاقتصاد أنفسهم في توثيق هذا العقد، وفي توثيق هذه المعاملة، والذي أتى بهذه الأشياء واصطنعها هم أهل الغرب، وهم يسمون هذه الأشياء على حقيقتها، ويوثقون العقد توثيقاً صحيحاً، فأكل الربا وتأكيله -والعياذ بالله- من أعظم أسباب المصائب التي نزلت بالمسلمين نسأل الله العافية.
ثم بين سبحانه وتعالى الصفات الواجبة التي يجب أن توجد في أهل الإيمان والمستحب منها حتى ينتصروا على عدوهم، ولذا سمعنا الحديث: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وهذه الصفات الحسنة الجميلة لابد أن يقف الإنسان عندها، ويتأمل في نفسه، ويتدبر هل حققها أم لا؛ ليعلم لماذا ينتصر المسلمون؟ ولماذا ينهزمون؟ فإنهم ينتصرون إذا تحققوا بهذه الصفات، وينهزمون إذا تخلفت هذه الصفات المذكورة في قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
إذاً: هناك ارتباط وثيق بين المعركة في الخارج والمعركة في الداخل، فالمعركة في الخارج مع الأعداء الذين نريد أن ننتصر عليهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالانتصار في المعركة الداخلية في داخل كل واحد منا مع نفسه، هل انتصر عليها أم لا؟ ولذا ثبت في الحديث الصحيح: (والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله) ولا نقول كما في الحديث الضعيف الآخر: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، بل نقول: إن الجهاد للأعداء هو الجهاد الأكبر، ولكن هذا الجهاد الأكبر مبني على أسس وقواعد كالبناء المرتفع، ولابد أن يكون له قواعد في الأرض، وإذا كان فوق الأرض بلا قواعد ما أسهل أن تأتيه أدنى هزة فتزيله وتهدمه، فكذلك نقول: الجهاد الذي هو جهاد أعداء الله سبحانه وتعالى في الخارج فرع على جهاد النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والشهوات المحرمة في الداخل، وكذلك الأمة المؤمنة عندما تجاهد عدوها، فهذا الجهاد فرع على الجهاد الداخلي داخل المجتمع المسلم نفسه حتى يتهيأ ويعد بوجود الصفات الصالحة في أفراده، والتوافق والبناء على طاعة الله عز وجل بين أفراده؛ ولذلك إذا دخلنا معركة وقد انتشر الربا، ولم يتق الناس الله عز وجل ربهم، وانتشرت الصفات القبيحة، وقلَّت الصفات المحبوبة لله عز وجل، فما الظن بنتيجة هذه المعركة؟ ما نظن قبل الدخول إلا ما أخبرنا عز وجل، وهذا من معرفة سنن الله عز وجل التي قال عنها بعد هذه الآية: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
وهناك ارتباط وثيق جداً بين صفة الأفراد وصفة المجتمع وبين نتيجة المعركة إذا دخلها المسلمون، ولا يلزم من ذلك أن يكون أهل الكفر على نفس الموازين، لا، بل أهل الكفر لهم موازين أخرى؛ لأن الله عز وجل يملي لهم؛ لأنه سبحانه وتعالى يفتح عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون سبحانه وتعالى.
إذاًَ: المسألة كما ذكرنا صراع في أحد طرفيه، فأهل الإسلام لابد أن يعرفوا سنن الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، وبين أهل الإيمان، وبين أهل الكفر، وأن ذلك مرتبط بالأعمال وبالصفات الأساسية، لذلك لا نستغرب ولا نتعجب مما أصاب المسلمين في المشارق والمغارب، وما حل ببلادهم وشعوبهم من أنواع المكاره، كيف لا؟ والربا على تلك الحال المعروفة في أكثر بلادهم إن لم نقل كل بلادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.(63/8)
النهي عن الربا(63/9)
تحريم الربا والترهيب منه
ورد في الترهيب من الربا جملة من الأحاديث: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة -أي: مطهرة- فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، -أي: رماه بحجر في فمه فليتقمه، ويرجع حيث كان- فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قالا: آكل الربا).
رواه البخاري في البيوع مختصراً هكذا، وهو حديث طويل رواه البخاري في مواضع مختلفة.
فآكل الربا: كأنه يأكل لحوم الناس ودماءهم، ولذا كان جزاؤه أن يلقم الحجارة، ويسبح في نهر الدم والعياذ بالله.
وخصوصاً الربا الذي صار اليوم منتشراً بكثرة، حتى إذا أراد الشخص أن يتوب لم يدر لمن يرد الحقوق، فهو يتعامل مع ملايين من البشر، فيظلمون، وتغلوا أسعارهم، وتزداد الأمور فساداً بسبب النظام الربوي الذي يتربع على عرشه اليهود في العالم والعياذ بالله.
وقد وصفهم الله بقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161].
ومعلوم أن أكبر البنوك العالمية يملكها اليهود، وهي التي تقرض الدول بفوائد تظل تسددها من قوت شعوبها أضعافاً مضاعفة، فالديون التي تدان بها دولة مصر مثلاً قد سددت عدة مرات، وما زالت الديون كما هي بحالها، ونسأل الله العافية؛ ولو كانت هذه المعاملة مباحة لكان مباحاً ما يجري في شعوب الأرض الفقيرة التي تسام بألوان العذاب بسبب النظام الربوي العالمي الذي يزداد به الغني غنىً والفقير فقراً، ونعوذ بالله.
فلذلك كان الربا نظاماً محرماً بين الدول وبين الأفراد، فهو نظام في منتهى الخبث، وأكل للحوم الناس ومص لدمائهم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله) رواه مسلم.
وفي رواية: (وشاهديه وكاتبه) رواها ابن حبان وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم.
الذي يأكل الربا: هو الذي يأخذ الفائدة، والذي يؤكل الربا: الذي يدفع الفائدة، وكاتبه: الذي يكتب لهم عقد الربا، وكذا الذي يحسبه ويرتبه لهم.
وشاهديه: من يشهد عليه ويحضره والعياذ بالله، فكل هؤلاء ملعونون، وهذا يدل على الطرد من رحمة الله، وأن هذا من الكبائر، قال: (هم سواء) أي: في الإثم والعياذ بالله.
وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن المصورين).
الواشمة: التي تصنع الوشم.
والمستوشمة: التي تطلب من يفعل بها ذلك، وآكل الربا ملعون، وموكله الذي يدفع الفائدة.
ونهى عن ثمن الكلب، وهو محرم عند الجمهور إلا كلب صيد كما ثبت في رواية النسائي، وكسب البغي هو: مهر الزانية.
ولعن المصورين: أي: الذين يرسمون أو ينحتون صور ذوات الأرواح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) فيه ضعف، ولكن ذكرناه كشاهد لما قبله.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) قال الحاكم: هذا إسناد صحيح، قال الإمام المنذري: والمتن منكر بهذا الإسناد ولا أعلمه إلا وهماً، لكن ثبت بأسانيد أخرى.
وعن ابن مسعود أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا بضع وسبعون باباً، والشرك مثل ذلك).
ورواته رواة الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون باباً أدناها كالذي يقع على أمه) رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام) رواه الطبراني في الكبير من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله ولم يسمع منه، ورواه ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما موقوفاً على عبد الله وهو الصحيح.
ولفظ الموقوف: قال عبد الله: (الربا اثنان وسبعون حوباً -حوباً أي: ظلمة- أصغرها حوباً كمن أتى أمه في الإسلام، ودرهم من الربا أشد من بضع وثلاثين زنية) وهذا الحديث روي من وجوه متعددة.
وروى أحمد بإسناد جيد عن كعب الأحبار قال: لأن أزني ثلاثاً وثلاثين زنية أحب إلي من أن آكل درهم ربا يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا، نعوذ بالله من الربا.
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح، والحديث بطرقه حسنه الشيخ الألباني.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) رواه الطبراني في الأوسط من رواية عمر بن راشد وقد وثق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون حوباً أيسرها أن ينكح الرجل أمه) رواه ابن ماجة والبيهقي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم) أي: حتى يبدو صلاحها.
وقال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وسكت عنه المنذري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه أبو يعلى بإسناد جيد.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة -القحط-، وما من قوم يظهر فيهم الرشا -الرشوة- إلا أخذوا بالرعب) رواه أحمد بإسناد فيه نظر.
نسأل الله العافية.
والأحاديث كثيرة جداً في التحذير من الربا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنا، والخمر) رواه الطبراني وراوته رواة الصحيح، وهذا فيه إيذان بخراب الدنيا، فانتشار الربا والزنا والخمر علامة على قرب خراب الدنيا، وعلى قرب القيامة.
نسأل الله العافية.
وعن القاسم بن عبد الواحد الوراق قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما في السوق في الصيارفة -جمع: صراف- فقال: يا معشر الصيارفة، أبشروا قالوا: بشرك الله بالجنة بما تبشرنا يا أبا محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبشروا بالنار)، وذلك لكثرة تعامل الصيارفة بالربا والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)، كلما يكثر من الربا يئول أمره إلى القلة والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وفي لفظ له قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُل) أي: إلى قِلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أبو داود وابن ماجة من رواية الحسن عن أبي هريرة، والجمهور على أنه لم يسمع منه.(63/10)
شبهات حول الربا والرد عليها
ذكرنا بعض ما ورد في التحذير من الربا الذي هو أحد أكثر الأمراض انتشاراً في زماننا، والناس من أجل التحسينات -وليس الحاجات أو الضرورات- يتعاملون بالربا، وما أيسر أن يقترض الرجل بالربا -والعياذ بالله- لكي يهيئ مسكناً، أو يزين المسكن الذي يسكن فيه، أو لكي يعطي أولاده دروساً خصوصية مثلاً، أو لكي يأتي لهم بملابس جديدة؛ لأنهم يلحون عليه عند دخول المدارس وفي الأعياد أنه لابد أن يعطيهم ملابس جديدة، نسأل الله العافية؛ وذلك من أعظم أنواع البلاء.
فمثلاً: شخص يريد أن يفتح مشروعاً فيتعامل بالربا؛ لأجل أن يوسع على أهله، أو لكي يشتري سيارة، أو يشتري منزلاً أحسن مما هو فيه، وغير ذلك من أنواع التعاملات الخطيرة التي لا تدخل في باب الحاجات فضلاً عن الضرورات، بل هي من التحسينات، والذي يتعامل بالربا ولو درهم منه شر من ست وثلاثين زنية -والعياذ بالله- يزنيها الرجل في الإسلام، فأكل الربا من أعظم أسباب الهزيمة والنكال والخسران الذي يقع للمسلمين.
وقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] لا يفهم منه أنه يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، فمفهوم المخالفة ضعيف في هذا الموطن؛ لأنه وصف للحال الذي كان واقعاً، أو غالب تعاملاتهم كانت كذلك، ولم يزل هذا كذلك، فغالب التعاملات في الربا أنه يؤكل أضعافاً مضاعفة؛ لأن المال يتضاعف عبر السنوات، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن له مفهوم، وإذا خرج الكلام مخرج الغالب لم يكن له مفهوم، بل لو أكل حبة من الربا، وليس درهماً لكان -والعياذ بالله- من أعظم الكبائر، ولو لم يكن مضاعفاً، كما سمعنا: (درهم من الربا شر من ست وثلاثين زينة)، فكيف بالأضعاف المضاعفة؟! فهذا وصف للحال الأغلب الذي كان عليه المشركون في الجاهلية: أنهم كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، فليس للكلام مفهوم في أن الربا غير المضاعف يجوز، بل لا يجوز باتفاق المسلمين، ومن ينازع في ذلك يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ويجب قتله؛ لأن هذه ردة عن الإسلام والعياذ بالله، والقول بأنه يجوز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة لا يقوله عالم، ولا يقوله مسلم في الحقيقة.
ومن الشبهات الباطلة قول من يقول: إن الربا إنما حرم إذا كان في القرض الاستهلاكي، ولم يحرم في القرض الإنتاجي أو الاستثماري، وهذا أيضاً -والعياذ بالله- من أنواع الشبهات المضلة التي تخرج بصاحبها عن حد الإسلام، وإن كان متأولاً أو جاهلاً بين له الأمر، وأقيمت عليه الحجة، ولا يكفر معين حتى تقام عليه الحجة.
والربا الاستهلاكي والربا الإنتاجي والاستثماري كله واحد بإجماع المسلمين، بل أكثر ربا الجاهلية كان في التجارات، ولم يكن من أجل إطعام الطعام، ولا كسوة العريان، وقد كان عندهم الكرم والجود، وما كانوا يتركون أحدهم يجوع ولا يوجد من يطعمه حتى يأكل الربا، وإنما كان أكثر رباهم فيمن يتاجر فيخسر فيرابي بأزيد لأجل أن يعوض الخسارة، وهكذا تستمر المسألة، فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)) لا يفهم منه أن هناك بعض الأنواع جائزة.
وقول من قال من العلماء: إن هذه الآية قد نسختها: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) لا يعنون النسخ الاصطلاحي، بل يعنون: بينتها الآية الأخرى، فعندهم بيان المجمل يسمى نسخاً، بمعنى: نسخت وأزالت الإجمال الذي قد يفهمه البعض من أن الأضعاف المضاعفة هي المحرمة، وأما ما كان رباً يسيراً فليس بمحرم، ليس كذلك، بل الآية الأخرى بينتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278].(63/11)
كيفية التوبة من الربا
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).
كان العباس من أكثر الناس رباً في الجاهلية فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أبطلة.
والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الذنب تكون: أولاً: بالامتناع من المعاملة، فلا تضع مالك مع من يتعامل بالربا، وتجعله وسيلة للتعامل بالربا، ولا تقبل أنت التعامل بالربا في حال من الأحوال، بل تتعامل فيه بما أحل الله سبحانه وتعالى من المضاربة والتجارة الحلال بالبيع والشراء.
الأمر الثاني: أن يرد الحقوق إلى أهلها، بمعنى أن الفوائد التي أخذها والزيادة التي أخذها على أصل المال لابد أن يردها إلى أصحابها إذا علمهم، وإن لم يعلمهم تصدق بها عنهم كوكالة عنهم، لا أنه يريد الثواب بذلك، بل تخلصاً من الحرام، فإذا تصدق بها عنهم يرجى له أن يكون قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو العمل في مال الربا، أنه يأخذ رأس ماله ويترك ما زاد، قال عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
ومن ورث مالاً فيه شيء من الربا فليعلم أنه لم يكن مال مورثه فضلاً أن يكون ماله؛ لذلك لا يصح ميراثه منه؛ لأن المال الموروث لابد أن يكون مملوكاً للمورث الذي مات، فإذا كان رباً لم يكن مملوكاً له، لأن عقد الربا عقد باطل، كما أنه عقد محرم، ولا ينتقل به الملك، ولذلك لا يثبت ملك على تلك الزيادة.
فإذا كان كذلك لم يصح ميراثه، فمن ملك شيئاً من ذلك وجب أن يرده إلى أهله كذلك، فإن لم يعلمهم تصدق به عنهم.
وكذلك من وضع ماله وهو صغير في البنوك الربوية، وزاد ماله أضعافاً مضاعفة بسبب هذه المعاملات الربوية، فإذا تمكن من ماله وجب عليه أن يخرج الزيادات الربوية، ولا ينفقها على مصلحة نفسه إلا أن يكون محتاجاً فقيراً يأخذ كما يأخذ فقراء المسلمين، وأما أن ينتفع بها في نفسه فلا يجوز، حتى ولو كان لا إثم عليه لأنه ليس الذي أمر بوضع المال في هذه المعاملات الربوية، ولكن بمجرد تمكنه من إيقافها، وإخراج المال من هذه المعاملة واجب عليه، ولم يثبت له ملك على الزيادة؛ لأن عقد الربا عقد محرم، وعقد باطل، ولا ينتقل به الملك.
ومن هنا نقول: إن انتشار الربا في الأمة من أعظم أسباب خسارتها، ومن أعظم أسباب ضياعها، ومن أعظم أسباب هزيمتها على أيدي أعدائها، لذلك كان هذا التوافق في السياق بين النهي عن أسباب الهزيمة أولاً وآخراً في غزوة أحد، والنهي عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة والأمر بتقوى الله سبحانه وتعالى.(63/12)
أنواع الربا
الربا يشمل: ربا الفضل وربا النسيئة، ربا النسيئة: هو التأخير، وهو القرض بفائدة، وقد ذكرنا أن تحريمه معلوم بالضرورة.
وأما ربا الفضل فهو: بيع الذهب بالذهب مع عدم التساوي، والفضة بالفضة مع عدم التساوي، وكذلك أصناف الطعوم: الملح بالملح، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، فهذه الأصناف الأربعة يقاس عليها عند بعضهم كل ما كان مثلها من الطعام الذي يكال.
والعلة في الطعام: الطعم، وبالنسبة للذهب والفضة فالعلة النقدية، فهذا ربا الفضل، فإذا تعامل بها مقايضة بمعنى ذهب بذهب فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يجوز التفاضل فيه، وهذا كما تعود الناس عليه اليوم: من بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع التفاضل إما بالوزن نفسه، أو التفاضل في إعطاء مال إلى أحد الطرفين، فيكون البيع ذهباً ومالاً بذهب متفاضلاً مع عدم تساوي الذهب بالذهب في الوزن، وكذا الفضة بالفضة، وهذا نوع من الربا منتشر.
ويدخل في الربا التعامل بالتقسيط في الذهب والفضة بمعنى أن يشتري ذهباً بالتقسيط، وكذلك التعامل في العملة بالتقسيط، فإن ذلك كله من ربا الفضل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فجعل اختلاف الأصناف مبيحاً للتفاضل كذهب بفضة، فيجوز فيه اختلاف الوزن، ولكن لابد أن يكون يداً بيد؛ لأنه قال: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
فإذا اتفق الجنس والعلة وجب أن يتفق الوزن بالنسبة للذهب والفضة، وبالنسبة للنقود الحالية يجوز التفاضل بشرط أن يكون الجنس واحداً والعلة واحدة، والعلة هي: النقدية التي في الذهب والفضة، والطعم في الأربعة الآخرين، وإذا اتفق الجنس واتفقت العلة فلابد أن يكون مثلاً بمثل ويداً بيد، ولا يصح أن يأخذ شخص خمسة عشر جنيهاً مجتمعة بتسعة عشر جنيه مفكوكة، أو واحداً وعشرين جنيه فكة بعشرين جنيه مجمدة، أو يأخذ مائة وخمسة جنيهاً مفكوكة بمائة مجتمعة، فمثل هذا نوع من الربا، وكما ذكرنا يجوز إذا كانت العلة واحدة والجنس مختلف كذهب بفضة، وذهب بنقود، ونقود بنقود مختلفة العملة كالدولارات والريالات، ولابد أن يكون يداً بيد، ولابد أن يسلم ويستلم في نفس اللحظة، ولا يجوز أن يؤجل ولا يوماً واحداً أو ساعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
وكذلك بالنسبة للأرز بالقمح أو الأرز بالتمر شرطها أن تكون متقابضة في نفس المجلس.
فهذا فيما يتعلق بربا الفضل، ومعلوم كيف صار الحال بانتشار الربا انتشاراً فظيعاً في هذا الزمان.
ومن الربا: الحيل التي تستعمل من بيع السلع بسعرين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
ولا نعني بذلك المنع من البيع بالتقسيط مع الزيادة، فهذا أمر لا أعلم خلافاً في جوازه بين السلف، وإنما الذي يمنع منه أن يبيع بيعتين في بيعة واحدة ويجعل الأمر معلقاً في البيعة الواحدة، يعرض لها سعرين ولا يحدد أحدهما، فيقول له: نقداً بعشرة، ونسيئة بالتقسيط باثني عشر، وإذا كان على ثلاث سنين فستة عشر مثلاً، ثم يقول له: إذا جئتك بالمال بعد يوم فسآخذها بعشرة، وإذا تأخرت فهي باثني عشر، وإذا زاد التأخير فهي بستة عشر، فهذا هو الربا المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
ومع انتشار البيع بالتقسيط فقد دخلت هذه المسألة إلى الناس، وأصبح كثير من الناس يعقد على شيء، ثم بعد ذلك يحوله إلى شيء آخر، ويجعل هذا المال مديوناً به إن كان هو عشرة مثلاً يجعله اثني عشر بالتقسيط؛ فصار يبيع عشرة باثني عشر؛ لأن البيع تم أولاً، والسلعة استلمت، وتمت البيعة الأولى، فلا يجوز أن يغيرها، ولا أن يجعل عليه غرامة تأخير، وكثير من الجهات تجعل غرامة تأخير على التعاملات إذا تأخر في السداد، وكل هذا من الربا المحرم الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).(63/13)
صور ربوية منتشرة يجب الحذر منها
بيع العينة هو: أن يبيع ويشتري سلعة نقداً ونسيئة بغرض التحايل على الربا، فهو يريد أن يقترض بالربا، ولكن لا يريد أن يكون صريحاً في التعامل به، فيأتي بسلعة يعرضها للشخص الذي يريد أن يقترض منه، ويأخذ منه المال، ويقول: أبيع لك هذه بعشرة نقداً فيستلمها، وهو لا يريد بيعها، وبعد أن يتم العقد ويستلم السلعة يعطيه سلعة ويقول: بعتك إياها باثني عشر بالتقسيط، والحقيقة أن السلعة عادت ثانية، وأصبح مديوناً باثني عشر، وقبض بيده عشرة، وهذا تحايل على الربا.
والراجح حرمة بيع العينة، وهناك نص في المنع منها، واختلف العلماء في مسألة التورق، وصورتها: أن يشتري الرجل سلعة من السوق لا يريد شراءها ولا التجارة ولا الربح منها، لكن يأخذها ليبيعها بثمن بخس بأقل من ثمنها في السوق لكي يحصل على المال، وليس له غرض في السلعة، إنما غرضه الورق، وهذه تسمى مسألة التورق، ويسمونها حرق البضاعة الآن؛ لانتشار هذه النوعية من المعاملة، وحرق البضاعة لها صور أخرى، مثل: أن يبيعها بسعر بخس من المال بالاضطرار إلى البيع وهي مملوكة له من البداية، ومثلها أن يشتري سلعة بنقد بالتقسيط، ثم يبيعها بنقد تحايلاً لطرف ثالث، فهذه على الراجح ممنوعة، وهي داخلة في الربا، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، ورواية عن مالك، وثبت النهي عن ابن عباس رضي الله عنه حيث قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.
والله أعلى وأعلم.
فمثل هذه المعاملات كلها من أسباب الفساد الذي يقع بين الناس، فلا يرفع عنا الغلاء والوباء إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والناس اليوم في أنواع من الكرب، وقد يظن كثير من الناس أن المخرج من ذلك بالاستدانة بالربا، وهذا ليس بمخرج، بل هذا يزيد الفقر، ويزيد الخراب، ويزيد الضياع، بل التوبة إلى الله عز وجل هي المخرج حتى ترد الحقوق إلى أصحابها، فيرفع عنا الغلاء والبلاء، ونسأل الله العفو والعافية.
ومن الأمور الربوية المنتشرة: بيع السلع قبل قبضها، فإنها من أعظم ذرائع الربا، وهي: المرابحة غير الشرعية التي تقوم بها كثير من المؤسسات المسماة بالإسلامية، ويمكن عقدها بطريقة شرعية، ولكن كثير منها يتم بطريقة غير شرعية، وكثير من الناس يقوم بها فعلياً بنفسه، وليس فقط المؤسسات، مثل أن يريد شراء أو بيع سلع بالتقسيط وهو لا يملك هذه السلعة، ويعرف من يريد شراءها، فيقول له: اذهب فخذ السلعة التي تريد من المكان الفلاني، ثم أنا أحاسب على ذلك، ولا يتم قبض السلعة فيما بين هذا وذاك، ولابد حتى يصح البيع بالتقسيط أن تكون السلعة المشتراه مملوكة للبائع، ولابد أن يتملكها وأن يقبضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تبتاع السلع حتى تقبض).
ويجري هذا على جميع السلع، فكل شيء بمنزلة الطعام كما قال ابن عباس.
إذاً: لابد أن يستلمها بيده، ثم يبيعها بعد ذلك، فالذي يريد أن يربح لا مانع أن يقول للمشتري صف لي الشيء الذي تريده، ولا مانع أن يذهب معه لتعيين السلعة المراد شراءها، وبعد ذلك يشتريها الشخص الذي يريد أن يربح، ويقبضها بيده، ويخرج بها من المكان الذي نهى أن تباع السلع فيه، ثم تباع.
والحديث كما ذكرت: (نهى أن تباع السلع حتى تقبض) والذي يذهب فيشتريها، ثم يقبضها ويخرج بها من المكان وتدخل في ضمانه وملكه، فله أن يبيعها له بعد ذلك، وهو قد أخذ منه وعداً بالشراء، لكن هذا الوعد ليس بيعاً، فلا يبع الذي يأخذ جزءاً من الثمن، ولا يجوز أن يعقد معه عقداً ملزماً قبل أن يشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك)، إنما يعده أن يشتري منه، ثم بعد ذلك إذا تملك السلعة وقبض باعها له.
فهذه أنواع كثيرة من المعاملات تقع بطريقة غير شرعية، ومنها: أنه يقول له: اذهب وخذ سلعة ثم يئِّّس صاحب المحل أو صاحب المكان من استردادها، وهذا أمر فاسد خطير.
ومن هذا الباب ما تعود عليه كثير من الناس من بيع بعض الكوبونات لبعض السلع أو بعض الحجوزات، كأن يحجز سلعة اشتراها سلماً، أو لم يقبضها بعد، وهو حاجز دوراً فيها، وهي مازالت في يد صاحب السلعة الأول الذي هو الباني -مثلاً- للشقة أو المالك مثلاً للكوبون وهي البضاعة نفسها، والكوبون هذا قيمته مائة جنيه، فيذهب فيبيعه لآخر بثمانين، أو يبيع الشقة التي حجزها وهي لم تتعين بعد، أو لم تخصص له، أو لم يستلم مفتاحها، فيبيعها قبل أن يستلمها، فهذا داخل في هذا الباب، وهو نوع من التحايل على الربا؛ لأنه دفع مبلغاً، وباعه بأقل منه حالاً، فهذا مما يجب الحذر منه حتى ينجينا الله.(63/14)
فتاوى المعاملات(64/1)
حكم بيع البخت مقابل نقود
السؤال
يقوم بعض الأفراد ببيع ما يسمى البخت مقابل عشرة قروش، وهذا البخت ورقة مكتوب فيها الجائزة التي يحصل عليها المشتري، فهل هذا يجوز شرعاً؟
الجواب
هذا رباً، محرم بلا شك.(64/2)
حكم من تعامل بالربا ثم امتنع عن هذا التعامل وكيفية تصريف هذا المال الحاصل من الربا
السؤال
تعاملت بالربا في بعض الوقت ثم امتنعت عن هذا التعامل، وأخذت رأس المال ومعي بعض أموال الربا، فهل يجوز أن أستغل هذه الأموال في مصالح المسلمين، كشراء المصاحف والشرائط الإسلامية، والإنفاق في سبيل الله؟
الجواب
نعم، بنية التخلص من هذا المال، فتتصرف فيه تصرفاً يقبله أصحابه يوم القيامة، لأننا لا ندري عن هؤلاء الأصحاب، إلا إن كنت تعلم أصحاب هذا المال، هذا إذا كان تعاملك ليس تعاملاً مثلاً مع البنوك، وإنما كان تعاملك مع فرد، تعرف مِمَّن أخذته، لكن إذا كان هذا التعامل مع البنوك، والبنوك هذه تعاملت مع أشخاص مجهولين بالنسبة لك طبعاً وبالنسبة لنا جميعاً وبالنسبة له في نفسه؛ لأن هؤلاء غير محصورين، ولا يمكن أن تعرف مالك هذا المال؛ لأن مال الربا تجب إعادته، أي: الزيادة تجب إعادتها.
فعليك أن تتصرف تصرفاً تعلم منه أنهم يرضون به يوم القيامة، وذلك بالإنفاق في كل مصالح المسلمين حسب المصلحة، منها ما ذكرت أو غيرها؛ لأنه لا يتصرف فيها عن نفسه، فإذا تصرف فيها عن نفسه عد مالاً حراماً، فلا بد أن يتصرف فيها عن أصحابها المجهولين.(64/3)
حكم ترك الشخص أمواله في البنوك الإسلامية والبنوك الربوية
السؤال
هل ترك المال في البنوك الربوية أو التي نسميها حساباً جارياً حرام أم حلال؟
الجواب
البنوك الإسلامية لا بأس بها إن شاء الله؛ لأنه لو وضعه في حساب استثماري وتصدق بالربح فإن هذا أولى الأشياء، هذا إذا كان يحتاج إلى وضع المال في البنك، أو إذا كان يبحث عن مشروع يستغل به ماله فيضعه في حساب استثماري مثلاً ويتصدق بالربح، أما وضع المال في البنوك الربوية فهم يستغلون أصلاً الحسابات الجارية بنسبة معينة أقل من الحسابات الاستثمارية، لكنها تستغل أيضاً، وبالتالي يتاجر من خلالها، والنصيحة أنه يجب عليه أن يترك البنك الربوي، ولا يجوز له أن يترك المال في البنك الربوي، فإن كان لا يريد إلا البنك الربوي على أن يترك ماله في حساب جار فإن هذا افتراء.(64/4)
حكم مشروع التكافل الاجتماعي في النقابات
السؤال
ما حكم مشروع التكافل الاجتماعي في النقابات؟
الجواب
المشروع في غالب ظني يقوم على أن أغلب النقابات تعقد تأميناً جماعياً مع إحدى شركات التأمين أو مع بعض البنوك الربوية، وهذا الأمر يجعل المشاركة فيه غير جائزة، وصيغته أصلاً فيها نوع من الزيادة والفائدة المشترطة مسبقاً.
وصفة هذا المشروع هو صفة التأمين التجاري؛ ولذلك أنا أعلم أن بعض النقابات وبعض الهيئات تعمل فعلاً عقداً تأمينياً مع بعض شركات التأمين باسم جميع العاملين في المؤسسة، فبالنسبة لهذا بلا شك لا يجوز.
ويقولون: إن الاستثمار منه خمسة وستون في المائة مشروعات استثمارية، وخمسة وثلاثون في المائة ودائع في البنوك، حتى ولو كانت هكذا البنوك الإسلامية أيضاً فإن هذا ربا محرم وليس هو أمراً إجبارياً، ولا هو هبة من الدولة ولا إلى الدولة، فهذا أمر لا يجوز.(64/5)
حكم ربا الفضل
السؤال
هل ربا الفضل ليس بحرام محض، وأنه يأكله عن حرام محض؟
الجواب
صورته: أن أشتري ذهباً وأدفع جزءاً من الحساب ولا أستلمه حتى يكمل باقي الحساب، وهذه تفيد عظم الأمانة عند الرجل، ولا ينفع ذلك إن لم تكن أمانة، والأمانة تعني: أنَّ الرجل يضعها لوحدها ولا يأخذها، فتعد سلفاً وبيعاً مع عدم تسليم رأس المال وعدم استلام السلعة، فتصير بيعاً محرماً من عدة جهات.
فإذا كان الرجل لا يأخذ النقود، وإنما يضعها لوحدها ويصرفها، ويقول لهم: لكم عندي كذا ويكتبها في النوتة، فإن هذا لا يجوز، وكذلك إذا أعطاها للرجل والرجل يأخذها ويضعها ضمن النقود التي يضعها في خزنته، ولا يعرف من أين أتت نقود الرجل، فعشرة جنيهات بعشرة جنيهات، وكأنها أمانة في يده، ولو راحت لضَمِنَها.
فأنت إذا كنت صاحب محل، وجاء شخص ودفع لك خمسين جنيهاً، فتأخذها أنت أمانة عندك، وتعرف أنه لن يعطيك ثمنها قطعاً، فإن هذا لا يجوز لهذه الصورة المذكورة أي: أن الذي يعطي للرجل في كل فترة مبلغاً ثمَّ مبلغاً حتى يكمل ما عنده فيستلم الذهب، فإن هذا بيع بالتقسيط قبل تسليم السلعة، وهذا محرم لا يجوز.
فإذا بعت ذهباً بنقود من غير أن تكون يداً بيد فهذا لا يجوز باتفاق العلماء المعتبرين.(64/6)
حكم القياس على الأصناف الستة في البيع والشراء
السؤال
هل الأجناس الربوية هي التي حددها الشرع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أم يقاس عليها أجناس أخرى حسبما تقوم عليه؟
الجواب
لا نزاع بين الأئمة الأربعة، وبين عامة أهل العلم على أن هذه الستة الأصناف الربوية: الذهب والفضة -كعلة واحدة- والقمح والشعير والتمر والملح يقاس عليها غيرها، ولم يقل بقصرها على الستة إلا الظاهرية، فالأرز بالأرز ربا، ولا يجوز إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأنه لا فرق بينه وبين القمح بالاتفاق، وهذا من أجلى القياس.
وكذلك النقود، فالذهب بالنقود يجب أن يكون يداً بيد، والذهب بالذهب ربا، ولا يجوز أن يبيع ذهباً قديماً بذهب جديد مع التفاضل في الوزن، فلابد أن يكونا مستويين في الوزن، أو أن يشتريه بمال ثم بعد ذلك يشتري الذهب الجديد بيعاً منفصلاً عن الأول.
ولابد أن يكون يداً بيد في النقود بالفضة، أما النقود بالتمر والشعير والأرز والملح فلا بأس، فالذي عليه أهل العلم أن الأصناف تقاس عليها، والصحيح في العلل أن كل نقد يقاس على الذهب والفضة، فالنقود بالنقود، والدولار بالدولار يداً بيد، يجوز مع التفاضل، كأن يكون الدولار بخمسة جنيهات مع تسليمها يداً بيد، أي: يسلم ويستلم في نفس المجلس، فكل النقود تقاس على الذهب والفضة، وكل المطعومات تقاس على الأربعة.(64/7)
كيفية سحب النقود من البنوك ذات الفوائد ووجوبها
السؤال
هناك أموال لأولاد قصر موضوعة في البنك بفوائد محرمة، والوصية عليهم أمهم، فكيف تسحب هذه الأموال؟
الجواب
تقدم أنها محتاجة لمصاريف إلى المحكمة، أو تسحب الفلوس حسب ما تقدر، والله أعلى وأعلم.(64/8)
حكم صندوق التأمين الخاص في الشركات
السؤال
ما حكم صندوق التأمين الخاص الموجود في الشركات؟
الجواب
صندوق التأمين الخاص بما أعلمه في كثير من الأحوال هو عقد تأمين جماعي، ويتم من خلال الشركة مع شركة من شركات التأمين على الحياة أو ضد الأخطار أو نحو ذلك، وهذه الشركات تتعامل بالربا وعقد التأمين معها نوع من التعامل بالميسر.
وهناك فتوى من جميع الكتب الإسلامية في حكم التأمين على الحياة أنه ميسر وربا في نفس الوقت، وقرار أيضاً من هيئة كبار العلماء ولجنة الفتوى بالمملكة العربية السعودية، وكذلك الأزهر: أن التأمين التجاري بأوضاعه كله من الربا والميسر معاً.
فنحن نعلم أن هذه الأموال توضع في بنوك ربوية أو على شكل عقد مع شركات تأمين، طالما أنه اختياري، أما إذا كان إجبارياً فأنت ستسأل عن حاجة تؤخذ منك غصباً عنك، ويحسب ما يؤخذ منك وما تضعه الشركة كذلك، فالشركة تضع جزءاً وأنت تضع جزءاً.
فإذا كان الأمر كذلك، فاذهب إلى شئون العاملين واستفسر من المقتطع منك عن كمية المال الموجود في هذا الصندوق وما تضعه حصة الشركة أو الحكومة، وعن كمية الأرباح في هذا الصندوق واحسب ما لك، وإذا جاء وقت إحقاقك لهذا المال فخذ ما دفعته وما دفعه صاحب الشركة، أو الشركة نفسها، أو الحكومة إن كنت تعمل مع الحكومة، وتصدق بما يتبقى بعد ذلك لأنه ليس مالاً حلالاً، ولا تتصدق به عن نفسك، ولكن عمن لا تعرف من مالكيه الحقيقيين من المسلمين؛ تخلصاً منه.(64/9)
سبب تحريم إيداع الأموال في البنوك هو الفائدة
السؤال
هل تحريم إيداع الأموال في البنوك بسبب الفائدة؟
الجواب
الفائدة هنا ربا بالصريح، وكونهم يسمونها غير ذلك ليس كذلك، يقولون: ذلك قرض بفائدة، أقول: هم يسمونها بوصفها الشرعي والقانوني أن هذا قرض بفائدة، فهو قرض جر نفعاً بزيادة، فهو الربا بعينه، ثم إنهم يأتون بهذه الأموال من إقراض الناس بالربا.
ولا اعتبار لمسألة أنه مشروع أو ليس مشروعاً، فالبنوك لا تعمل مشاريع أساساً، فكل أعمالها ائتمانات، والائتمان يقصد به: تسليف المشروع المال، وقليل جداً أن تكون البنوك شركات، أو يأخذ جزء رأس مال قليل منها ويكون به شركات، فأكثر هذه الأمور عبارة عن إقراض للمشاريع.(64/10)
جواز أكل الطعام عند قريبة زوجها يأكل من فوائد البنوك ومن المرتب الأصلي
السؤال
زوج أختي يأكل من فوائد البنوك ومرتبه الأصلي، فهل يجوز أن آكل الطعام عندها؟
الجواب
طالما وأصل المرتب حلال فيجوز أن تأكلي الطعام عندها.(64/11)
حكم من يدخل بعض المسابقات ويعطى جوائز في الاستثمار
السؤال
ما حكم من يدخل بعض المسابقات، ويعطى أرقاماً، كأن يُعطى أرقام عشرة ريال في الاستثمار على شكل جوائز؟
الجواب
تأخذ ثمنها وتصرفه؛ لأن هذا دفع ثمنها من مال أصحابه فهم الذين دفعوه، فلا تأخذ فائدتها ولا جائزتها، يعني: إذا دفع المال فخذ قيمتها الاسمية، كأن تكون الشهادة بخمسين جنيه فتغيرها وتأخذ القيمة التي أخذتها بالجائزة.(64/12)
حكم أخذ الفوائد من البنك وإنفاقها على الفقراء وحكم قضاء الديون بها
السؤال
رجل وضع ماله في البنك للحفظ والصيانة ماذا يفعل في الفوائد التي يأخذها من هذا البنك، وهل يجوز أن يقضي منها بعض ديونه أو ينفقها على الفقراء؟
الجواب
أولاً: يجب أن يخرج هذا المال من البنك الربوي، وأقصى ما يمكن أن يضعه ففي بعض البنوك المسماة بالإسلامية، فإنها أهون حالاً بلا شك، ولا يأخذ من العائد لينفقه على الفقراء، فهذا هو الاحتياط للدين في هذا المقام.
أما البنك الربوي فلا يجوز في فوائده أن ينفقها على ديونه؛ لأنها ليست ماله أصلاً إنما هو مال مغتصب، حكمه حكم المال المغتصب، بل هو شر منه، كما أنه لا يجوز أن تأخذ مالاً سرقته واغتصبته من غيرك لتسد به بعض الديون أو تدفعه لظالم ظلمك وهو يريد أخذ شيء من مالك.
وكما يقول البعض: اجعله في الضرائب أو نحو ذلك، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأن هذا ليس مالك، ولا يجوز أن تقي مالك الذي تظلم فيه بمال اليتامى والفقراء والأرامل والمساكين.
فلو أن عندك مال يتامى أو مال زكاة وجاء من يريد أخذ شيء من مالك بغير حق، فلا يجوز لك أن تعطيه ذلك المال الذي جعل عندك أمانة أو وديعة، وإنما تقي مالك بمالك، وتقي بعض مالك الذي تظلم فيه ببعض مالك دفعاً عن نفسك، ولا تجعل هذا الدفع والاتقاء من مال الفقراء والمساكين، الذي يجب أن ينفق فيه هذا المال المأخوذ، فدفتر التوفير من الربا.(64/13)
عدم جواز أخذ قرض يجر فائدة لسداد الديون
السؤال
رجل لديه محل، وكل ما يحتاجه من قوت يومه ومصروفاته منه، ولكنه أفلس وعليه جملة ديون يريد سدادها، فهل يمكن له أن يأخذ القرض للضرورة لسداد ديونه؟
الجواب
يأخذ قرضاً من غير ربا وغيره، بأن يشارك شخصاً آخر في المحل، أي: يبيع نصف المحل ويشارك شخصاً عليه.(64/14)
نظام التأمينات الحكومية جائز وليس بمحرم
السؤال
هل نظام التأمينات في العمائر الحكومية نظام ربا؟
الجواب
نظام التأمينات الاجتماعية عند جمهور أهل العلم المعاصرين ليس ممنوعاً منه؛ لأنه هبة للدولة مباشرة يعني: أن الدولة تدخل في ميزانيتها أموراً ربوية وأموراً غير ربوية فمالها مختلط؛ فلذلك لا يحرم الدخول في نظام التأمينات الاجتماعية، فنظام التأمينات الحكومية عند جمهور العلماء جائز وليس بمحرم.(64/15)
كيفية تصريف المبلغ لرجل خرج من شركة على نظام المعاش المبكر
السؤال
رجلٌ خرج من شركة على نظام المعاش المبكر والمبلغ الذي أخذه قليل ومعاشه قليل، ولا يستطيع أن يعمل مشروعاً، ولا توجد أي شركة يعمل فيها في السن الذي هو فيه؟
الجواب
يضع هذا المبلغ في البنك؛ ليتحصل منه على مبلغ مع المعاش البسيط، وهو على الأقل في بنك إسلامي، ويتصدق بجزء من الربح أو الزيادة والله المستعان، لكن لا يضعه في البنوك الربوية فإن الله يمحق الربا، قال تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، بل يضعه في البنك الإسلامي، ونسأل الله أن يجعل له فرجاً ومخرجاً.(64/16)
حكم الكسب والتجارة في المصاحف
السؤال
ما حكم الكسب والتجارة في المصاحف؟
الجواب
الأولى ألا يتكسب، لكني لا أقول بالتحريم.(64/17)
حكم العمل في شركة تركيب وبيع الدش
السؤال
هذا محاسب في شركة تركيب وبيع الدش، ما حكم العمل فيها؟
الجواب
إذا كانت شركة لبيع المحمول والتجارة فيه، فإن بيع المحمول محتمل؛ لأن النفع منه أكثر من المحرمات، أما الدش فتسعة وتسعون في المائة منه غير جائز.(64/18)
جواز شراء سلعة من محل ثم نقلها إلى مركب أو مكان آخر واستلامها
السؤال
هل يجوز لي أن أشتري سلعة من محل ثم أنقل السلعة إلى السيارة ثم أستلم أنا السلعة من السيارة؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك.(64/19)
حكم ما يأخذ الوكيل من مال ليشتري به شيئاً بعد المفاصلة
السؤال
أخ يعمل عند صاحب شركة، يعطيه مبلغاً لشراء بضاعة، مثلاً: ألف جنيه، ذهب هذا الأخ ليشتري بها البضاعة، فحصل منه أنه فاصل، أي: أخذها بتسعمائة وخمسين جنيهاً، هل يأخذ الخمسين له؟
الجواب
لا يجوز له ذلك حتى يذهب ويقول له: البضاعة هذه بألف جنيه، وأنا فاصلت، هل آخذ الخمسين؟ لأنه وكيل، وهذا المال مال صاحب الشركة، وإلا يكون خائناً للأمانة.(64/20)
حكم من له متجر وأعطاه شخص آخر مبلغاً من المال لاستثماره وكيفية الأرباح بينهما
السؤال
شخص عنده محل ملابس، أعطاه شخص آخر مبلغاً من المال لكي يستثمر هذا المال عنده، فكيف تكون نتيجة الأرباح بينهما، حتى يكون مالاً حلالاً ويبارك فيه الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
لابد أن يحسب رأس المال الأصلي الذي هو البضاعة المعدة للبيع، يعني: بعيداً عن الدكان إلا أن يدخل نصيباً في المحل نفسه، لكن إذا كانت النقود في رأس المال الدائم فإنه يحسب نسبة هذا المال الذي يدخله في البضاعة إلى نسبة رأس المال الكلي الإجمالي.
ويحسب نسبة للمضاربة فيه ونسبة لرأس المال، وبعد أن يصفي الأرباح يتفقان؛ مثلاً: على الثلث لرأس المال والثلثين للعامل، أو الثلثين لرأس المال والثلث للعامل أو النصف والنصف، حسب ما يتفقان، ويحددان أن رأس المال له نسبة كذا، وبعد ما يحسب نسبة ربحه من هذه البضاعة يكون ذلك بعد التصفية والحساب، وعليه أن يحسب، طالما أنه أخذ أموال الناس.
ولا ينفع أن يعطيه كل شهر شيئاً فقط، بل يمكن أن يعطيه تحت الحساب، ويلزمه أن يأتي سنوياً من أجل أن يحسب الزكاة الواجبة عليه أيضاً، فإذا أتى للحساب ينظر بعد أن نفترض مثلاً: أن التجارة هذه كانت أصلاً بعشرة آلاف، والرجل أعطاه خمسة آلاف فتصير التجارة كلها خمسة عشر ألفاً غير الدكان وغير الأصول الثابتة بالنسبة لخمسة عشر ألفاً واحد إلى اثنين، وبعد كذا نقول: يأخذ نسبة مضاربة، النصف مثلاً؛ لأنه وجد أن البضائع والفلوس السائلة تساوي عشرين.
فيكون قد كسب خمسة، اثنين ونصفاً للعامل واثنين ونصفاً لرأس المال، أي: أن اثنين ونصفاً يساوي رأس المال، سيكسبه بنسبة واحد لاثنين، وعلى ذلك يعطي الرجل واحداً، ويأخذ هو الاثنين، وعلى ذلك أخذ هو اثنين نظير رأس ماله الذي هو العشرة، وأخذ اثنين ونصف نظير عمله، وأعطى الرجل الواحد الذي هو نظير رأسه ماله، حسب النسبة.
فلا بد من تحديد ذلك ولا يجوز غير ذلك، والذي يمكن أن يجوز أن يشتري بالنقود التي أتاه بها الرجل بضاعة محددة مستقلة، ويضعها في بعض الدكان، ويتاجر له فيها، حتى يبيعها كلها، ويأخذ بعد كذا نسبة العمل ويعطيه نسبة رأس المال، فإذا أراد أن يدخل في البضاعة المستقلة فعليه أن يفعل ذلك وإذا أراد أن يدخله كشريك في البضاعة ككل، فعليه أن يفعل كما ذكرت، فيحسب رأس المال وكميته النقدية ولا يجوز له أن يأخذ النقود ويستعملها هو، ويخطط لنفسه كما يريد من غير أن يدخله شريكاً في البضاعة أو في رأس المال السابق، يمكن أن يدخله على سبيل المثال في رأس المال السابق فيبقى له في الدكان نفسه وذلك دكانه هو.
فإذا وزع خمسة آلاف، وأدخله في الدكان، والدكان يكون له نصيب مثلاً، كأن يكون الربع أو النصف، ورأس المال له مثلاً النصف لما يأتي، فإذا لزم عليه أن يبيع نصيبه من الدكان، فعليه أن ينظر مقدار قيمة هذا الدكان، إذاًَ: فهو يحتاج من أجل أن يدخله في الدكان إلى أن يقيم الأصول الثابتة التابعة للدخول، فلو قال: هذا الدكان يساوي عشرة آلاف مثلاً وقد أعطاه خمسة آلاف فإن هذا الرجل أعطاه نصف الدكان.
فإذا كان يريد أن يصفي البضاعة وأن ينهي الموضوع يقول له: هذا الدكان قيمته تساوي خمسة عشر ألفاً، فيصير عنده سبعة آلاف ونصف، هذا إذا كان سيدخله في الأصول الثابتة نفسها وبهذا الشرط.
والأسهل طبعاً أنه إذا أراد التجارة فقط ويريد أن يخرج في وقت معين، فإنه يدخله في البضاعة وكما ذكرت في المثال الأول، ولو حصلت خسارة على رأس المال، وكان هناك تقصير من العامل فإنه يتحمل هو التقصير كاملاً حتى يرجع رأس المال كما كان مائة بالمائة.
فيضمن له النقص من رأس المال كما أنه يضمن له الربح، فإذا لم يحصل التقصير منه فإنه يتحمل رأس المال كاملاً، ولو قلنا: إن رأس المال أصبح خمسة عشر، وهذا أعطى خمسة، وهذا أعطى عشرة، فإنه لو حصل نقص فإن النقص يكون بنسبة واحد من اثنين، وأما إذا كان الرجل يشتغل بمجهوده من غير رأس مال منه، فكفاه خسارة لمجهوده.(64/21)
حكم بيع العطور والمكياج
السؤال
ما حكم بيع الروائح والمكياج؟
الجواب
بيع الروائح والمكياج للمتبرجات لا يجوز، كما أن بيع الروائح التي تحتوي على كحول لا يجوز.(64/22)
حكم التعامل مع اليهود من حيث البيع والشراء
السؤال
هل يمكن التعامل مع اليهود من حيث البيع والشراء؟
الجواب
الأصل: الجواز إلا ما فيه مضرة على المسلمين أو يكون محرماً في نفسه.(64/23)
حكم العمل في الأماكن السياحية وحكم أخذ الهدية ممن يعمل فيها
السؤال
شخص يعمل في الأعمال المعمارية، وأحياناً يعمل في أماكن غير طيبة، كالقرى السياحية، وكان إذا أتاني بهدايا أو طعام قبلتها من قبيل أن أمواله تعدُّ هدية من أجل المناسبات، فتحريت وعلمت أن الذي أعطاني هذا المال لا يعمل إلا في هذه القرى السياحية فما حكم ذلك؟
الجواب
من الممكن أن ترد هذا المبلغ أو أن تأخذه حسب المصلحة في ذلك، أما العمل في القرى السياحية فمحرم للمعرفة بالحكم، من أن هذه أماكن ترفيهية، لكنه يستحق الأجرة، فهذا المال ملكه، ولكنه غير طيب في حقه هو، لكن يجوز التعامل معه فيه من قبول الهدية ونحوه.(64/24)
حكم استعمال الولاعات والبوتجازات
السؤال
هل استخدام البوتجاز والولاعات حرام؟ ومعلوم أن الولاعات معظمها تعمل للبوتجازات أو تستعمل للسجائر؟
الجواب
يجوز ملئ الولاعات التابعة للبوتجاز، ولا يجوز ملئ ولاعات السجائر.(64/25)
حكم الإجارة غير المعلومة إلى مدة غير معلومة
السؤال
سمعنا أن قانون الإجارة القديم مخالف للشرع، هل هذا صحيح؟ وما هو الحل الصحيح الذي يحتاج المسئول إليه؟
الجواب
أستغفر الله العظيم، لا شك أن القانون القديم فعلاً فيه مخالفة للشرع؛ لأنه غير محدد المدة، وملزم للطرفين إلى مدة غير معلومة، وبالتالي فالأجرة بإجمالها أيضاً غير معلومة، ونعني بالمدة: دفع كل شهر مبلغ كذا، وهذا الأمر لا يستقيم مع تفاوت الأسعار وتفاوت المصالح واختلافها.
ولا شك أنه يترتب عليه نوع من الظلم، فلا بد من تحديد مدة الإجارة باتفاق العلماء، والقانون الحديث: هو القانون الصحيح الذي يجب الالتزام به في العقود، وعدم محاولة التحايل عليه بالرجوع إلى القوانين القديمة.
ومن الممكن أن تحدد مدة يبقى فيها العقار ولو طالت، كأن يقول: مائة سنة مثلاً، طالما يغلب على ظنه بقاء العقار في هذه المدة، فأما الالتزام بالقانون القديم مع مخالفته للشرع فلا يجوز، وقد نقل الإجماع على هذا غير واحد من العلماء، أعني: لزوم تحديد مدة الإجارة في عقد الإجارة، أما محاولة العمل به مع مخالفته للشرع فهو أمر لا يجوز.
وإذا اضطر الإنسان إلى أن يسكن في مسكن مستغن عنه صاحبه ولا يجد غيره فإنه يعطيه أجرة المثل طالما أنه مستغن عنه صاحبه وهو مضطر إليه، فيعطيه أجرة المثل الواقعية، وليس الأجرة المسماة منذ أربعين أو خمسين سنة والتي لا تساوي قروشاً معدودة.(64/26)
حكم من يستدين ولا يريد الأداء ويماطل في الوعود
السؤال
ما حكم من يستدين ولا يريد الأداء ويماطل في الوعود؟
الجواب
من يفعل هذا فهو من السارقين، وإن كان فيما يبدو للناس أنه مستدين، وإذا كان قادراً على الوفاء وماطل فهو ظالم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع).(64/27)
حكم سؤال الناس للمساعدة في سداد الدين
السؤال
هل عليّ شيء إذا جاءتني أموال من عند الناس من غير السؤال في ذلك؟ وهل يمكنني إن كان علي دين أن أطلب من أهل الخير الأموال للمساعدة في سداد هذا الدين؟
الجواب
سؤال الناس لِقضاء الدين سؤال، والإنسان إذا كان محتاجاً جاز له أن يسأل، فإن كان عنده دين وما عنده مال يسدده جاز له أن يسأل، ولكن ليس تاركاً للمستحب وأصله: الجواز حتى يكفي ما عنده، وهذا إذا كان الدين مثقلاً على صاحبه وعجز عن تسديده.(64/28)
حكم الدين إذا مات من عليه دين ولم يُعثَر على الدائن
السؤال
ماتت امرأة وكان عليها دين لرجل منذ خمس سنين، ولم يأت إلى البلد وانقطع ولم تعثر عليه لتقضي الدين الذي عليها، وأراد ولدها أن يقضي دينها بعد مماتها فلم يعثر على الرجل فما الحكم في ذلك؟
الجواب
ينفق هذا المال بنية النيابة عن صاحبه في مصالح المسلمين العامة كصدقة ونحوها، فيكون الأجر لهذا الرجل المجهول في المكان حالياً، فإن ظهر هذا الرجل يخبره بأنه أخرج هذه الأموال صدقة له، فإن أراد الأجر كان بها ونعمت، وإن أراد أمواله ردت إليه أمواله، ويكون الأجر للمتصدق.(64/29)
حكم ما وجد من مالٍ أو نحوه في أرض الكعبة
السؤال
إذا وجد أحد مالاً في أرض الكعبة يتركها أم يعطيها للمسئولين حتى يعثروا عن أصحابها؟
الجواب
لا بأس، إذا كان يعطيها إلى من يعرفها، إذا كانت من الأشياء المفقودة، ويضعها في الأمانات الموجودة في المسجد الحرام.(64/30)
عدم جواز إنشاد الضالة في المسجد
السؤال
إذا وجد رجل في المسجد شيئاً لأحد المصلين، هل يجوز أن يبلغ المصلين عن هذا الشيء المفقود، أم هنا نهي عن ذلك؟
الجواب
المساجد لم تبن لنشد الضالات، وعلى من وجد شيئاً أن يقف على باب المسجد ويقول: من فقد منه هذا الشيء؟(64/31)
حكم من وجد شيئاً له قيمة كالذهب ونحوه في بيت من يعمل عنده
السؤال
امرأة كانت تعمل عند غيرها فوجدت خاتم ذهب في أرض الشقة وحلق ذهب، فأخذته وكانت صغيرة؟ وهي الآن علمت بحرمة الأمر؛ لذا فهي تريد أن تتخلص من هذا الإثم، وهي انقطعت عن هذه المرأة، فهل تجوز عليها الزكاة في ذلك؟
الجواب
لا، لابد أن ترده إليها، أو ترد قيمته على الأقل، أو ما يوازيه إذا كان وزنه معروفاً، ولا بد أن ترجعه للتكفير عنها، إلا إذا انعدمت وسيلة الاتصال.(64/32)
حكم من أخذ مصحفاً من المسجد ليقرأ فيه أو يحفظ به
السؤال
ما إثم من أخذ من مسجد مصحفاً يقرأ فيه ويحفظ به في بيته؟
الجواب
إذا كان المصحف موقوفاً على المسجد فلا يجوز إخراجه منه فإن أخذه كان آثماً على ذلك، وأما إذا كان موقوفاً من غير تحديد للمسجد، وطالما كان يقرأ فيه ببيته فلا بأس، ويعرف إمكان هذا من إمام المسجد.(64/33)
حكم وسائل منع الحمل من أجل استرداد المرأة صحتها
السؤال
رجل عنده ثلاثة أولاد، وامرأته لا تتحمل الإنجاب مباشرة بعد الآخر، فهل من الممكن بعد ثلاث أو أربع سنوات أن تنجب زوجته من أجل استرداد صحتها، يعني: تستعمل وسائل منع الحمل، علماً بأن الزوج دخله ضعيف، وثلاثة أولاد مصاريفهم كثيرة؟
الجواب
هنا أصل الفساد، وهنا ظهرت حقيقة الأمر، فإن كان الأمر من أجل النفقة فالله هو الذي يرزقهم وإياك، فلعلك تحرم رزقاً؛ لأنك تخاف من فقد ذلك، ولكن توكل على الله عز وجل، أما إن كانت الزوجة صحياً ضعيفة، بحيث أنها تنصح طبياً بعدم الحمل فيمكن حينئذ أن تستخدم وسائل منع الحمل.(64/34)
حكم إجهاض الجنين بسبب تشوهه وحكم إجهاضه خوفاً على صحة الحامل
السؤال
أخت مصابة بمرض في الدم، وتستعمل حقناً لمنع الحمل لأنه يتسبب في مشاكل كثيرة، نتيجة لهذا المرض، وقد نصحها الأطباء بعدم الإنجاب، فقدر الله لها أن تحمل مرة أخرى، فأثناء هذا الحمل أخذت حقناً لمنع الحمل، وهي لا تدري أنها حامل، ولما أخبرها الأطباء بذلك قالوا: إن هذه الحقن أحدث تشوهات في الجنين خاصة في شهور الحمل الأولى، فهل يجوز لها أن تجهض نفسها خوفاً من أن تلد الجنين مشوهاً، أو خوفاً على صحتها وهي لم تكمل الشهر الثاني من الحمل؟
الجواب
لا يجوز إسقاط الحمل بعد أربعين يوماً إلا باتفاق أطباء ثقات، على أن هناك خطراً على حياة الأم، وأما احتمال تشوهات الجنين فهذا لا يسوغ إسقاط الحمل بعد الأربعين، والله تعالى أعلم.
وكإنسان مريض هذا ابنه وُلد وعنده تشوهات خلقية، هل نقتله؟ حيث أن الجنين محترم بمجرد أن تظهر عليه علامات خلق الآدمي، أي: أنه تجاوز مرحلة النطفة بيسير، والآن أهل الفطرة يستطيعون إدراك ذلك، وعند الحنابلة: أن الكلام هذا لا يمكن معرفته إلا بعد (81) يوماً.
ولكن عند الشافعية: أنه يعرف ابن الثمانين إذا أخبرت القوابل أن هذا أصل خلق آدمي وجبت فيه الدية، يعني: أصبح أصل إنسان، أما الآن فإن الأطباء يعرفون بالساعات أن هذا الحمل من تاريخ كذا، فهناك خبرة سديدة جداً، والآن بإمكانه معرفة أن هذا خلق آدمي يأخذ حكم الآدمي، أما قبل الأربعين فإنَّ حكمه حكم النطفة بالاتفاق إن شاء الله، فيجوز الإجهاض قبل الأربعين إذا كان هناك مصلحة راجحة، أما بعد الأربعين فهو مع وجود تأكيد حمل الساعات ونحو ذلك، فلا يجهض هذا الحمل إلا بالاتفاق على خطورة حياة الأم وليس لمجرد تشوه في الجنين.
وكل التشوهات احتمالية، وعموماً فإننا ننصح جميع الأخوات والإخوة ألا يستعملوا هذه الوسيلة لأي سبب؛ لأن حبوب منع الحمل فيه ضرر على الطفل، وقد يكون فيه ضررٌ بالمرأة.(64/35)
حكم استخدام وسائل منع الحمل للتمكن من رعاية ورضاعة الطفل
السؤال
هل يجوز استعمال وسيلة منع الحمل لسنوات معينة حتى تتمكن من رعاية ورضاعة طفلها؟ الشيخ: استعمالها لذلك مكروه، أي: أكثر من عامين بدون سبب طبي مكروه.(64/36)
عدم جواز مصافحة النساء مطلقاً
السؤال
بعض النساء الكبيرات في السن التي يتراوح سنهن ما بين الستين والسبعين يقمن بالسلام باليد علي، فهل يجوز ذلك؟
الجواب
هذا لا يجوز والأصل فيه: المنع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).(64/37)
استحباب الزواج في سنٍّ مبكرة
السؤال
هل الزواج في سن خمس وعشرين سنة من السنة؟
الجواب
هذا الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حسب ما قدر عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن غنياً، وإنما عرضت خديجة الزواج عليه بفضل الله سبحانه وتعالى.
فلو توفر للشاب أن يتزوج منذ أول شبابه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وأما إذا لم يتيسر فالله المستعان.(64/38)
حكم عدم معرفة صيغة العقد في الزواج
السؤال
تزوجنا ولا ندري كيف كانت صيغة العقد، ولا ندري أكان الزواج مثلما نحن ندرسه الآن أم لا؟ فما الحل؟
الجواب
الأصل: صحة الزواج، وحمل أمر المسلمين على السلامة، والكلام فيما إذا علم فساد العقد، أما إذا تم الزواج، ولا ندري هل هذا الزواج على الصيغة أم لا؟ فالأصل: أن أمر المسلم يحمل على السلامة، والأصل: صحة العقود.(64/39)
إباحة الزواج من امرأة لا ترتدي الحجاب وإرغامها على الحجاب طالما أنها من أصل طيب
السؤال
هل يجوز أن أتزوج فتاة ترتدي حجاباً ينقصه تغطية الوجه والكفين؟ وهي تعتقد وجوبه، وهل تمتنع من ذلك رغم أن الظروف كلها مؤاتية وهي تعمل والأصل طيب؟
الجواب
نقول: لا مانع من أن يتزوج هذه الفتاة، ويرغمها إذا دخلت بيته بالحجاب الشرعي، ويلزمها ألا تخرج من البيت، أنا أنصحه بأن يفعل ذلك، طالما أن الأمور ميسرة والزواج فرض عليه وهذا متيسر له والفتاة طيبة من أصل طيب، يتزوجها ويلزمها بعد ذلك.(64/40)
حكم اشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها الزوج
السؤال
ما حكم اشتراط الزوجة ألا يتزوج عليها الزوج؟
الجواب
هذا الشرط أدى في الحقيقة في نهاية الأمر إلى تحريم زواج الزوج من أخرى، بالإضافة إلى أنه إذا فعل ما أمرت به الزوجة فسينفسخ العقد، وهذا مستحيل طبعاً، ومن حقه أن يتزوج ويطلق هذه، وهذا الأمر لا يماثل من يعلم شخصاً بأنه إذا عمل عنده في مصنعه فعليه ألا يطلق لحيته.
فحلق اللحية معصية، وعدم زواجه ليست معصية، فإن لم يتزوج الرجل امرأة أخرى فهذا ليس بمعصية، فهناك فرق؛ فلذلك نقول بهذا إذا تم الاشتراط عند العقد.(64/41)
حكم من يقول لصاحبه: زوجتك ابنتي، فقال الآخر: قبلت، وهي ما زالت طفلة
السؤال
رجل قال لصاحبه: زوجتك ابنتي، فقال الآخر: قبلت، وكان هذا أمام مجموعة من الناس، وكانت الابنة طفلة، فما الحكم إذا كانوا يمزحون؟
الجواب
انعقد الزواج، بنص الحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، حتى لو كانت طفلة في المهد.(64/42)
عدم جواز أن يقول الإنسان: لم يوفقهما قدر الله
السؤال
ما حكم من يقول: كان أخوه أو أخوها متقدماً لخطبة فتاة ولم يوفقهما قدر الله تعالى؟
الجواب
هذا لا يجوز، والصحيح: أن يقول: ولم يوفقهما الله، ولم يقدر الله بينهما، ولا نترك التفريق للقدر، فنحن نقول: لم يقدر الله ولا نقول: إن القدر هو الذي يفعل، بل نقول: إن الله هو الذي يفعل بقضاء وقدر.
ويقول: شاء الله، ولا يقول: شاءت إرادة الله، فلا يجوز أن ننسب الأفعال إلى الصفات، بل ننسب الأفعال للفاعل عز وجل، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].(64/43)
تحريم الكلام من قبل المرأة مع خاطبها وتحريم الخضوع في القول
السؤال
امرأة تقول: إنها اتصلت بخطيبها، وحدثته في التلفون، وأريد أن أمنعها؛ لأن هذا خطأ، فماذا أقول لها؟
الجواب
تقول لها: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] والكلام في التلفون مع وجود خطبة سابقة من أعظم أسباب وقوع المرض في القلب.(64/44)
جواز تقبيل أم الزوجة لزوج ابنتها بشرط عدم وجود الشهوة
السؤال
هل يجوز لأم الزوجة تقبيل زوج ابنتها، وكذلك الصلاة أمامه؟
الجواب
هذا الأمر مبني على وجود الشهوة أو عدم وجودها، فالأصل: جوازه، لكن بشرط ألا توجد الشهوة، فلو وجدت الشهوة كان محرماً.(64/45)
تحريم لبس الدبلة للنساء
السؤال
هل لبس الدبلة للنساء فيه تشبه بالرجال أو إحدى أنواع البدع؟
الجواب
لبس الدبلة للنساء مثل التشبه باليهود.(64/46)
اختلاف العلماء في خلوة الرجل بزوجته والدخول عليها
السؤال
هل يُعَدُّ إغلاق الرجل الباب على زوجته دخولاً عليها؟
الجواب
بل يعقد قرانها إذا خلا بها زوجها تماماً وأغلق الباب ولم يحدث إيلاج، وليس عليها العدة وعليه فقط نصف المهر، وبعض المشايخ الأفاضل يقول: إذا أغلق الباب فقد تم الدخول، وعليه المهر كله وعليها العدة.
وأيُّ مسألة بين العلماء فإنه يشرع فيها الاختلاف، فهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله، والشيخ الذي ذكر قوله قال بقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنهم، بل هو المذهب، لكن المسألة خلافية، وهذا من أيام الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهناك من يفتي بذلك، وهو منقول عن عمر رضي الله عنه.
والقول الآخر: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: في أنه إذا لم يمسها فلها نصف المهر، وأنا قلت بظاهر الآية، فطالما أن الصحابة قد اختلفوا في المسألة فلن يكون بعضهم حجة على بعض.
فقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فلم يذكر الله باباً ولا ستراً وإنما ذكر المسيس، والمسيس: هو الجماع كما قال ابن عباس ترجمان القرآن، فهذا هو الظاهر والله أعلى وأعلم.
فالمسألة خلافية اجتهادية والخلاف فيها سائغ، وإذا حصل في هذه المسائل اختلاف فإن المرد فيها يكون إلى التحكيم بمعنى: أنهم يتحاكمون إلى شخص، فما حكم به لزمهم، كما أن القاضي أو الحاكم إذا حكم بمسألة فيها اجتهاد لزم حكمه على الطرفين، سواء كان مذهبهم أو غير مذهبهم.(64/47)
حكم زواج فتاة بعد أن طلقها الأول وقد خلا بها، ولكن لم يحدث إيلاج
السؤال
فتاة عقد قرانها وخلا بها زوجها فلم يحدث إيلاج، فتم طلاقها وتزوجت بعد ذلك، فهل الزواج هذا صحيح بأن ليس عليها العدة وهو يرى أن الزواج ثابت، حيث أنه أغلق الباب، واختلى بها ولابد من فسخ العقد، ما مصير هذه الفتاة في حكم الزواج؟
الجواب
إذا كانت تريد أن تعرف حكمها الشخصي فتأخذ بقول من تثق به من أهل العلم، مثل أي مسألة فيها خلاف بين العلماء، فإنهم يأخذون بقول من يثقون به من أهل العلم، ويردون الأمر لمن يروه عندهم أوثق، فإذا أفتاهم بشيء أخذوا بكلامه، ويلزمهم ذلك، وهذه ليست أول مسألة فيها خلاف بين العلماء قديماً وحديثاً.(64/48)
حكم خطبة الرجل لامرأة أبوها له علاقة بالسحر
السؤال
ما حكم شاب خطب له أبوه، وأبو مخطوبته له علاقة بالسحر؟
الجواب
إذا كانت هي ملتزمة فلن يضرها عمل أبيها، ولكن لا تأخذ منه شيئاً، بل تبتعد عنه.(64/49)
عدد الرضعات التي تحرم
السؤال
كم عدد الرضعات المحرمة؟
الجواب
خمس رضعات، وأما ثلاث رضعات أو رضعتان فلا تحرم، والأحوط الابتعاد، لكن الصحيح أنه لابد من خمس رضعات معلومات، ومعلومات معناها: الذي يذكر ويكون معتبراً، والاحتياط والورع أن يبتعد.
فمن قال: أنا لا أذكر الأم أو نحو ذلك، فالاحتياط أن يبتعد، ولكن لا يحرم حتى تكون خمس رضعات معلومات.(64/50)
حكم من ترتدي النقاب ثمَّ يراد منها خلعه في الخطبة أو أي مناسبة أخرى
السؤال
ما حكم الأخت التي تنقبت حديثاً وأمها تريد لها خلع النقاب في يوم الخطبة، والخطبة ستكون عائلية جداً، فتقول لها: إن لم تخلعه لن تحضر الخطبة؟
الجواب
لا يعملون خطبة، وهنا أحسن؛ لأن الخطبة سيحضرها خطيبها، وسيرى وجهها وهي متزينة، ووجود الزينة الفظيعة في يوم الخطبة ويوم العقد ويوم الزفاف لا يجوز أن يراها إلا المحارم أو الزوج، وغير هؤلاء لا يجوز أن يروها مهما كان الأمر.(64/51)
عدم جواز خلع المرأة ثيابها بالكامل في غير بيتها
السؤال
هل يجوز للمرأة خلع الثوب في المسجد أو عند أختها وخلع الخمار والجلباب، نعرف ذلك بحديث: (أيما امرأة خلعت ثوبها في غير بيتها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)؟
الجواب
خلع الثوب في هذا الحديث المقصود به: خلع الثياب بالكامل في الحمام، أما أن تضع خمارها فليس بممنوع طالما لم يشهدهن رجل.(64/52)
عدم لزوم تذكر الرجل شكل مخطوبته إذا نسي شكلها
السؤال
ما حكم الذي نسي شكل المخطوبة وهي كانت تعجبه؟
الجواب
لا يلزم أن يتذكرها، فيعقد إن شاء الله.(64/53)
حكم عقد رجل على امرأة والخلو بها أكثر من مرة مع عدم حصول إيلاج، ثم طلقها قبل أن يبني عليها
السؤال
رجل عقد على امرأة من وليها، واقتضت الظروف أن يخلو بها أكثر من مرة، وكان يفعل كل شيء معها إلا الإيلاج، ثم طلقها قبل أن يبني بها، هل عليها عدة يراجعها فيها؟
الجواب
لا، والمسألة خلافية، ولكن الراجح عندي: أنه لابد من عقد جديد ومهر جديد؛ لأن الدخول: هو الجماع.(64/54)
الأصل في النظر: المنع، والنظر إلى المخطوبة لا يجوز إلا مرة واحدة
السؤال
هل النظر إلى المخطوبة دائماً حرام، أم عند التقدم لها فقط؟
الجواب
النظر الأصل فيه: المنع؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] لكن إذا كان يخطبها ويتقدم لها فقد أذن الشرع في ذلك، فالأصل: المنع إلا ما ورد فيه الدليل، فإذا نظر إلى ما يعجبه، والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فانظر إليها)، وقال: (ومن خطب امرأة فلينظر إليها، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)، فهذا دليل: على أنه ينظر إليها بهذا القدر، فإن وصل الأمر إلى غايته، ونظر إلى ما يعجبه منها، لم يعد النظر مرة ثانية.(64/55)
عدم جواز أخذ الخاطب من مخطوبته صورة فوتوغرافية
السؤال
هل يجوز أن يأخذ الخاطب من المخطوبة صورة فوتوغرافية؛ لأن مدة الخطوبة طويلة جداً، ووالدها لم يوافق على العقد؟
الجواب
لا يأخذ صورة فوتوغرافية؛ لأن هذا من أعظم أسباب الفساد.(64/56)
تغليظ حرمة ترقيق الحواجب للنساء والرجال
السؤال
هل يجوز ترقيق الحواجب للنساء والرجال؟
الجواب
لا يتصور أن يفعلها الرجال، لكن إذا فعلتها النساء فهي من الكبائر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، فنمص الحواجب حرام، وهي كبيرة من الكبائر، بأي أداةٍ كانت.
وأما في الرجال فهي أشد وأغلظ؛ لأن الرجال لا يحتاجون إلى الزينة، فإذا كانت المرأة التي تحتاج إلى الزينة حرم عليها ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، والنامصة: هي التي تعملها لنفسها ولغيرها، والمتنمصة: هي التي تذهب إلى أخرى وتطلب منها ذلك.
فكيف إذا كان الرجل هو الذي يفعلها؟! فهذا أعظم من فعل المرأة، بل هو أكبر من الكبائر.(64/57)
زواج المسلم من الكتابية المتدينة التي لم يكن لها زوج كتابي من قبل زواج صحيح
السؤال
هل زواج النصارى زواج جاهلية؟ يعني: مثل زواج النصارى واليهود؟
الجواب
زواج الجاهلية الذي تحدثنا عنه هو أقرب، طالما أنه كان بإعلام، وطالما كانا متدينين بذلك، يرون حل هذا الفرج ويرون حرمة الزنا، فهذا الزواج يعتبر زواجاً صحيحاً، وعلى سبيل المثال: رجل نصراني تزوج امرأة نصرانية زواجاً على شريعتهم وعلى حسب دينهم، فهل يجوز للمسلم أن يتزوج هذه المرأة؟ لا يجوز أن يتزوجها، أما إذا كانت غير متزوجة فيجوز أن يتزوجها؛ لأن الله قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فيمكنه أن يتزوجها إذا كانت بلا زوج.(64/58)
حكم زواج أهل الكتاب من بعضهم
السؤال
ما حكم زواج أهل الكتاب من بعضهم؟
الجواب
هو زواج معتبر صحيح، وبالتالي ينظر في مسألة الإحصان فيه، إذا كان قد تزوج أو لم يكن قد تزوج.(64/59)
عدم صحة زواج الرجل من المرأة ما دامت في ذمة الزوج الأول
السؤال
امرأة تركت منزل زوجها منذ عشر سنوات ولم تقض المحكمة بطلاقها أو نفقتها، فهل يصح الزواج منها إن تقدم لزواجها رجل آخر؟ مع العلم أنها متهمة بالزنا؟
الجواب
هي ما زالت على ذمة هذا الزوج؛ حتى ولو زنت؛ لأن الزنا لا يقطع الزوجية؛ حتى يقع طلاق أو إقامة حد أو شيء آخر، ولا تنقطع الزوجية لمجرد الزنا، فهذه المرأة ولو زنت فهي ما زالت على ذمة زوجها الأول، فلابد أن يدعوها إلى التوبة ويستعين لذلك بكل من يمكن أن يستعين به لمنعها من هذا المنكر من أهلها، لكن لا يتهمونها بالزنا من غير أن يثبت ذلك.(64/60)
سعي المسلم لزواج كتابي من كتابية لا حرج فيه ولا إثم
السؤال
إذا سعت أخت مسلمة في زواج نصراني من نصرانية فهل عليها ذنب؟
الجواب
ليس عليها ذنب؛ لأن الزواج أغض للبصر وأحصن للفرج بالجملة للرجال والنساء، ولو كان هناك كافر يزني، وكافر لا يزني، فالكافر الذي لا يزني أهون شراً من الكافر الذي يزني، لكن لا تنبغي الصداقة أصلاً.(64/61)
حكم قص أو ترقيق الشعر الموجود بين الحاجبين
السؤال
هل يجوز قصُّ الشعر الموجود بين الحاجبين بالذات للمرأة؟
الجواب
الذي أراه أن الشعر بين الحاجبين هو جزء من هذا الحاجب، فلا تزيله المرأة ويدخل في الحديث: (لعن الله النامصة والمتنمصة).(64/62)
حكم من تريد أن تلبس النقاب وزوجها يرفض بشدة
السؤال
ماذا تفعل من تريد أن تلبس النقاب وزوجها يرفض بشدة؟
الجواب
سبحان الله، أوما علم الرجل أن هذا الأمر نزل فيه القرآن صريحاً ومباشراً للنساء جميعاً، وفيه أمر بالنقاب وليس أمر استحباب بل هو أمر وجوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]؟ فإن في الآية دليلاً على أن تتنقب كل النساء، فكيف بالمرأة التي بلغت؟ وعلى العموم فإنها تظل على ذلك مع زوجها، وتأتيه بالأدلة الشرعية لعل الله أن يهديه.(64/63)
حكم رسم الحناء على الأيدي للنساء
السؤال
هل رسم الحنا على الأيدي للنساء حلال؟
الجواب
نعم، الحنا شيءٌ يقتضي زواله، فلا بأس به، وبدلاً من الرسم يطبعونه طبعاً، والرسم بالحنا يجوز.(64/64)
لا يجوز طاعة المرأة لزوجها في معصية الخالق
السؤال
هذه امرأة زوجها يطلب منها أن تخفف من شعر حاجبيها وهي ترفض ذلك، وتذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة)، وهو يقول: إن تزين المرأة لزوجها له ثواب عظيم؟
الجواب
ليس له أن يطالبها بذلك، والنمص: تغيير لخلق الله، فعليها أن تعصيه لله عز وجل، وكما أنها تطيعه ابتغاء مرضاة الله فهي تعصيه ابتغاء مرضاة الله، فليس له أن يأمرها بالتنمص، فالتنمص محرم.(64/65)
النقاب أحوط من الحجاب لسد الذريعة وتجنب الأذى
السؤال
ما حكم فتاة في سن السادسة عشرة يقول الناس لها: بأن ترتدي النقاب، ولكنها ترتدي الحجاب، وكلما مرت من مكان تعاكس من الشباب الذين لم يهتدوا، وهي لا ترضى بذلك؟
الجواب
فلتلبس النقاب إذاً، فهو أستر لها وأنفع لها عند الله عز وجل، ومسألة أنها مقتنعة أو غير مقتنعة هذا ليس راجعاً إليها، فلا شك أن النقاب أحوط، وأظن إن شاء الله أن ما سمعت من الأحاديث سوف يكون دافعاً لها أن تتحجب الحجاب الكامل، أعني: النقاب.(64/66)
عدم جواز سفر المرأة من غير إذن زوجها
السؤال
يقول: تعليق على قانون الأحوال الشخصية الجديد: وهو عدم استئذان الزوج في سفر الزوجة، والزوج لا يرضى بهذا الوضع فما الحل في ذلك؟
الجواب
إن هذا القرار يلزم إصداره من قبل مجلس الشعب وليس من وزير الداخلية، وعلى مجلس الشعب أن يسن القوانين الموافقة للشريعة، وليس من حق وزير الداخلية أن يقرر ذلك.
وهذا القرار مجرد أمر إجرائي، لكن فيه خطورة بلا شك.
وسفر المرأة من غير إذن زوجها لا يجوز شرعاًً، فالزوج له الولاية على زوجته بلا نزاع، بإجماع أهل العلم.
ومسألة تغطية الوجه للمرأة فيها اجتهاد، والخلاف فيها سائغ، وأنا لم أجزم بأحد القولين في إجابتي؛ لأنه قد يكون هناك أدلة قوية في مسألة عدم الوجوب، لكن الأحوط: هو تغطية الوجه.(64/67)
حكم لبس الخواتم بالنسبة للخطوبة والزواج
السؤال
ما حكم لبس الخواتم بالنسبة للخطوبة والزواج؟
الجواب
لبس الخاتم خصوصاً للزواج أمر عرف عن النصارى، وذلك إذا لبس خصوصاً في الإصبع التي تسمى (رينج فينجر)، يعني: إصبع الدبلة، أما إذا كان خاتماً وليس بدبلة يلبس في الخنصر وليس له تعلق بالزواج وإنما هو الذي تيسر مثلاً، من أن يهدي الرجل لزوجته عند الزواج خاتماً، فإنه لا بأس بذلك ضمن ما يكون.
لكن تخصيص الدبلة واعتبار أنها علامة على المرتبط أو المتزوج فكل هذه الأمور لم تؤخذ عن أهل الإسلام، وبالتالي فهذا الأمر أخذ أكبر من حجمه.
وجعل هذا الأمر علامة للود والحب أو البغض والكراهية يدل على التشبه بالنصارى، فإنهم يعتقدون ذلك، بل يقولون: هو كعرق في هذا الإصبع مرتبط بالقلب إذا ربط بالدبلة ربطت المحبة، وإذا نزعت نزعت المحبة، وهذا أصل اعتقادهم، أو أن القسيس كان يضع هذا الخاتم بعد أن يقول على الأصابع الثلاثة قبله، قل: باسم الأب، والابن، وروح القدس، إله واحد آمين، ويضع الخاتم على الإصبع الرابعة والعياذ بالله.
فعلى كلَّ هم يضعون هذا في الإصبع؛ لأنه أصل مأخوذ عنهم، فلا يجوز التشبه بهم، سواء كان عرقاً من هذا الإصبع إلى القلب يربط المحبة، أو أنه في اعتقادهم الشركي في التثبيت والعياذ بالله.(64/68)
حكم تحدث الخاطب مع مخطوبته بالهاتف وبإذن أبيها
السؤال
هل يجوز للخاطب أن يحدث خطيبته بالهاتف وبإذن أبيها؟
الجواب
إنما يحادثها لما يجوز أن يحادث به الأجنبي الأجنبية، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: لا يجوز أن تتصل امرأة برجل، أو رجل بامرأة فتسأل عن سؤال، أو تقضي حاجة، أو تبيع أو تشتري، ولا يجوز أن يتسامرا بالهاتف ويتضاحكا ونحو ذلك مما يقع في المحادثات الهاتفية، وما يبث من مشاعر الحب والود والغرام.
إن ذلك مما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبية، وليس هذا من القول المعروف، وهذا يؤدي إلى المفاسد الكبيرة، لكن إذا كانت امرأة مثلاً تتصل فأجبتها فهذا يجوز، وغير ذلك لا يكون من القول المعروف.(64/69)
جواز أخذ المرأة من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف لتقصيره في احتياجات المنزل
السؤال
امرأة تأخذ من وراء زوجها بعض المال؛ لأنه لا يأتي باحتياجات البيت، فهل هذا جائز؟
الجواب
يُنظر هل هذه احتياجات بالفعل؟ يعني: إذا كان الزوج يقصر في المعروف فيما يناسب المستوى الاجتماعي الذي تعيش فيه هذه الأسرة وبما جرت به العادة في مثل هذا الحال، فإنه يجوز لها أن تأخذ بغير إذنه بالمعروف.
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لامرأة أبي سفيان هند بنت عتبة: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وأما إذا كانت تأخذ هذا المال من غير علمه وهو لا يقصر في الاحتياجات الأساسية للمنزل، فلا يجوز لها ذلك.(64/70)
عدة المرأة المتوفى عنها زوجها والحكمة من ذلك
السؤال
المرأة التي مات عنها زوجها هل عليها عدة؟
الجواب
نعم بلا شك، عليها أربعة أشهر وعشرة أيام، والحكمة من العدة في حالة ظروفها هذه: هي مراعاة الرابطة الزوجية العظيمة، فضلاً عن التأكد والتيقن من براءة الرحم، والله أعلم بحكمة تشريع ذلك، فمراعاة الروابط الزوجية وإظهار الحزن على الزوج بالحداد وإظهار المودة التي كانت بينهما أمر مشروع بلا شك.(64/71)
عدم جواز الكذب أو الحلف كذباً، وجواز استعمال التعريض في حالة الظلم
السؤال
هل يجوز أن يحلف الإنسان ليتخلص من ظلم وقع عليه في الضرائب مثلاً، وهل يجوز أن يكذب دون حلف؟
الجواب
لا يتجنى بالحلف، بل يستعمل التعريض خروجاً من الكذب، والتعريض: هو خروج من الكذب، فلا يحلف في ذلك، وليس هناك حاجة إلى الحلف للضرائب وغيرها.(64/72)
حكم من ألزم ابنه بحلق لحيته معلقاً ذلك بيمين الطلاق لأمه
السؤال
أنا شاب ملتزم، ونظراً لظروف خاصة أقسم والدي بيمين الطلاق معلقاً لأمي إذا ما حلقت لحيتي، ما حكم هذا اليمين؟
الجواب
واضح أنَّ أمك ليس لها دخل بالموضوع، وإنما يريد هو أن يلزمك بحلق اللحية، وبراً بأبيك وأمك لا تحلق إن شاء الله وإنما مُره أن يُكَفَّر، لأنك لو أطعته في هذا لتحمل من الأوزار على الدوام، فكل لحية تحلقها يأخذ عليها ذنْباً، فأنت تريد أن تبره أليس كذلك؟ فبراً بأبيك ورحمة به وشفقة عليه لا تطعه في هذا الأمر، وعليه أن يكفر عن يمينه في الطلاق.(64/73)
كفارة اليمين على الترتيب، والخيار يكون بين الثلاثة الأوَل
السؤال
هل كفارة اليمين على الاختيار أم لا؟
الجواب
الخيار حاصل ما بين ثلاثة كفارات وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، لكن لا بد من الترتيب، بمعنى: أنه لا يجوز أن يصوم إلا إذا عجز عن واحدة من الثلاثة، لكن أي واحدة من الثلاثة تجزئ، فيأتي مثلاً بكسوة للمساكين، فيكسو كل مسكين بما يستر به عورته ويجزئه ذلك.
أو يطعمهم طعاماً يشبعهم، كأن يكون كيلواً وربعاً من أرز لكل مسكين مثلاً، أو يحرر رقبة، فهو مخير بين الثلاثة، فإذا عجز عن الثلاثة ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام متتابعة.(64/74)
من يحلف بكتاب يلزمه كفارة يمين
السؤال
رجل حلف بالمصحف أن لا يفعل كذا، ما كفارة هذا؟
الجواب
الحلف بكتاب الله عز وجل يلزمه كفارة يمين.(64/75)
حكم من أقسم ألا يعمل مع صاحب العمل، ثم أراد أن يعود للعمل
السؤال
شخصٌ أقسم ألا يعمل مع صاحب العمل إلا أن يعطيه أجرة معينة، ولم يعطِهِ أجرة، ويريده أن يعود إلى العمل؟
الجواب
يكفر عن يمينه ويعود، فيطعم عشرة مساكين، ويطعم كل مسكين كيلواً وربعاً من أرز.(64/76)
حكم الرجل يكون عليه نذر وله دين عند أحدهم فيأمر المستدين بالوفاء بالنذر عنه
السؤال
شخص عليه نذر مائة جنيه وله دين مائة جنيه فهل يلزم من عليه الدين بدفعه عنه؟
الجواب
لا، وإنما يقبضه ثم يدفعه بنفسه.(64/77)
حكم من نذر في وقت محدد أو في غير وقت محدد ثم لم يستطع الوفاء بالنذر
السؤال
رجل نذر أنه عندما تلد امرأته فسوف يذبح خروفاً، ولم يتمكن من ذلك فماذا يفعل؟
الجواب
إن كان نذره في وقت محدد يكفر عن يمينه وإن كان النذر ليس لوقت محدد وإنما عندما تلد في أي وقت فإنه ينتظر، ويكون النذر في ذمته إلى أن ييسر الله عز وجل له قضاء هذا النذر والوفاء به.(64/78)
النذر المعلق بالمشيئة حكمه حكم الحلف تماماً
السؤال
ما حكم النذر المعلق بالمشيئة، كأن يقول: إن رد الله علي غائباً فسأتصدق بألف جنيه إن شاء الله؟
الجواب
هذا لا يجعله نذراً، وإنما هو مثل الحلف، فإذا لم يتصدق فليس عليه شيء، ولكن الأولى أن يفعل.(64/79)
النذر المعلق على معصية معصية
السؤال
ما حكم من نذر أنه إن فعل معصية فعليه كذا وكذا؟
الجواب
إذا علق النذر عليه فهو معصية، يعني: لو أن واحداً قال: لله علي إن نظرت إلى امرأة أجنبية أن أصوم شهراً، وإلا عمل المعصية المعلقة بالنذر، كمثل بعض الناس يحاول أن يمنع نفسه مثلاً من فعل معاصٍ متعود عليها، كشرب السجاير أو ممارسة العادة السرية أو عمل أي شيء خطأٍ، فيرغم نفسه ويخوفها، فيتعبد بعبادة معينة.
فهذا يلزمه ويحرم عليه فعل المعصية، لكن إن وقع النذر المعلق بالمعصية، فهو نذرٌ مكروه كما ذكرنا، ويكره أن العبد لا يفعل شيئاً إلا بمقابل.(64/80)
حكم من أراد تزويج ابنته من رجل صالح وهي تريد الزواج من رجل آخر
السؤال
رجل يريد أن يزوج ابنته من رجل صالح، وهي تريد الزواج بآخر، هل يجوز لها أن تجعل غير أبيها ولياً لها، كأن يكون عمها أو خالها ولياً لها، وما الحكم إن زوجها أبوها ذلك الرجل؟
الجواب
أولاً: إذا لم تكن راضية بالزواج من ذلك الرجل الصالح فهي حرة ولا يزوجها أبوها رغماً عنها، ثانياً: إذا امتنع أبوها من أن يزوجها بالرجل الذي تريد -إذا كان صالحاً- سقطت ولايته وانتقلت الولاية إلى غيره فيجوز أن تجعل عمها ولياً لها، أما الخال فليس بولي.
يعني: شرط أساسي في الرجل الذي تريد أن تتزوجه أن يكون صالحاً، أما لو كان فاسقاً فمن حق الأب أن يعترض؛ لأن الكفاءة معتبرة في الدين.(64/81)
حكم رفض الفتاة لشخص يتقدم لخطبتها بسبب عدم إطلاق اللحية
السؤال
هل يجوز للفتاة رفض شخص يتقدم لخطبتها بسبب عدم إطلاق اللحية؟
الجواب
نعم، يجوز لها ذلك، هي كما تشاء جزاها الله خيراً، ثبتها الله على ذلك.(64/82)
حكم الرجل يكتب إرثه لإحدى زوجاته وأحد أبنائه هرباً من الظلم لا قصداً للتمليك، مع العلم أن هناك ورثة غير هذه المرأة وابنها
السؤال
هذا رجل كان عليه قضايا، وتخلصاً من القضايا كتب المنزل لزوجة له، وكتب السيارة باسم أحد أبنائها وهو يعرف جيداً أن حق الورثة محفوظ، ثم توفي الوالد، والظاهر أن الورثة لم يستطيعوا الحصول على هذه الأوراق ولكن عندهم تصوير من أن أباهم إنما كتب ذلك للتخلص من الظلم الذي يقع عليه فقط، ولا يقصد التمليك.
فأرادت زوجته أن تأخذ البيت وهي تقول: إنه لا حق لأحد فيه؟
الجواب
طالما أنه على يقين من أن والده قد كتب هذا المنزل للتخلص من الظلم فقط، ليس على سبيل الهبة، فكونهم أخذوا بصمة الزوجة على عقد البيع دون علمها، يعني: بحيلة لهذا المنزل، فهذا أمر ليس مخالفاً للشرع، إنما هو إعطاء كل ذي حق حقه، فطالما أنها ستأخذ حقها في المنزل وفي السيارة فذلك لا بأس به، والله أعلى وأعلم.(64/83)
عدم جواز أكل لحمٍ لم يذكر اسم الله عليه، والأصل في المسلم السلامة
السؤال
إذا دخلت المنزل فوجدت لحماً مثلاً، أنا أشك في أن البائع يذكر اسم الله عليه عند الذبح، فهل آكل أم لا، مع أنه مسلم؟
الجواب
طالما وأنه مسلم فالأصل فيه: أنه يسمي الله تعالى؛ لأن الأصل في المسلم السلامة.(64/84)
حكم اللحوم المستوردة وذبائح الكتابيين
السؤال
أفتى الإمام محمد عبده بأكل ذبائح الكتابيين، فعلى أي أساس كان هذا الإفتاء؟
الجواب
قلنا: إن الشيخ محمداً عبده والشيخ ابن باز يفتيان بذلك ويحلان اللحوم المستوردة بناءً على أنهم من أهل الكتاب، وأن الأصل في ذبائحهم: الحل، لكن الكلام يبقى في توصيف الواقع، والخلاف في هذا في تحقيق المناط وفي تطبيق الفتوى على الواقع.
فهل هم أهل كتاب أم لا؟ وهل هم يذبحون أمْ لا؟ وهل يسمون بالله أم لا؟ فالواقع الآن: أنهم في الغالب والأعم لا يسمون ولا يذبحون، والاختلاط بينهم وبين الذين ليس لهم دين عندهم كثير جداً في بلاد أوروبا؛ ولذلك نقول: الأصل فيه: الذبح حتى نتأكد.
والحكم في ذبح الرقبة كاملة، فإن وصل الذبح إلى آخر الرقبة فهو خلاف السنة، لكن إذا بدأ بالذبح من الحلق حلت الذبيحة؛ لأنه حصل الذبح في الشرع قبل موت الذبيحة، والذبائح المحلية كالهمبرجر والكفتة إذا كانت مذبوحة على الشريعة، كأن تكون مذبوحة في مصر، فالأصل فيها: الحل.
والآكل في المطاعم مثل: ماكدونالد والدجاج كنتاكي نسأله: هل هو دجاج مستورد أم مصري؟ فالدجاج إذا كان مصرياً حلَّ أكله، وإذا كان مستورداً فلا يجوز وإن كان مكتوباً عليه: ذبح بالشريعة الإسلامية.
واللحوم المستوردة الراجح فيها: المنع، حتى نتأكد أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية من مسلم واحد.(64/85)
حكم التجسس لصالح الكفار
السؤال
هل حكم التجسس لدولة مثل إسرائيل، القتل أم السجن؟
الجواب
هذا مرده إلى إمام المسلمين، وإمام المسلمين هو من ينظر في المصلحة وفي مدى تكرر هذه الجريمة، فجريمة التجسس تبيح قتل هذا الإنسان الذي يتجسس، وتبيح عقابه بما هو أقل حسب المصلحة، وحسب تكرر هذا الأمر، والضرر الذي وقع من هذا الرجل.(64/86)
حكم حرق الكفار بالنار أثناء المعارك
السؤال
هل يجوز حرق الكفار بالنار أثناء المعارك؟
الجواب
إن معظم الحروب المعاصرة وجلها فيها استعمال للنار، فلا نزاع حالياً في جواز هذه الأمور في قتال الكفار.(64/87)
الجمع بين قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جئتكم بالذبح) وبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر خلال فترة الاستضعاف، وغضبه لما أراد خباب الاستنصار منه
السؤال
كيف نجمع بين قول الله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أهله بالصبر خلال فترة الاستضعاف، وقتد غضب لما أراد خباب الاستنصار، وبين قوله عليه السلام: (إنما جئتكم بالذبح).
الجواب
هذا يكون في المستقبل، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الكبير لهذه الدعوة، والبيان لهذه الحجة، وأمرهم بالصبر عن جهاد اليد والسنان إلى أن يحين وقته، وقوله: (إنما جئتكم بالذبح) إشارة إلى قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] حيث نزلت هذه الآية ولم يكن هناك جمع، ولم يكن هناك للمسلمين جيش، ومع ذلك نزلت بأنه سوف تقع ونحن على يقين كما نجزم الآن يقيناً وقطعاً أننا سنقتل اليهود، فإن أردنا أن نقتلهم الآن، وذهب ذاهب منا إلى الحدود مثلاً يريد أن يطبق ذبح اليهود كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنه سيرد ويمنع ويحبس وربما يقتل.
ولذلك نقول: كفوا أيديكم الآن إلى أن يأتي وقت الذبح، ونحن جئناهم بالذبح عندما يكون هناك حاجة إليه.
والأمر متفاوت في هذا، فأحياناً تكون هناك شدة، وأحياناً يكون هناك تغليظ في الكلام ودعاء عالمي عليهم، ويظهر أثره بإذن الله تبارك وتعالى، وهذا من الأمور العظيمة في الدلالة على أهل الحق، ولا مانع في ذلك، بل هذا مشروع مستحب، وقد يجب أحياناً أن يغلظ عليهم في مواقف معينة وتظهر لهم القوة، وكما ذكرنا فإنه يُدعى عليهم كما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم علناً.
وعند ذلك يظهر بإذن الله تبارك وتعالى أثر هذا فيعلمون أنه الحق، لأنهم يوقنون أن الدعاء من أهل الإيمان مستجاب بإذن الله، وهناك شواهد عديدة في ذلك ليس في الزمان الماضي ولكن في زماننا.(64/88)
قبول الجزية من الكفار الوثنيين هو الصحيح، والخلاف في تكفير الحجاج خلاف ضعيف جداً
السؤال
ما هو الراجح في الكفار الوثنيين، هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ وهل الخلاف في تكفير الحجاج خلاف سائغ؟
الجواب
الراجح في الوثنيين وفيمن يدفعون الجزية هو قول مالك رحمه الله، وقول أبي حنيفة في غير مشركي العرب ورواية عن أحمد، وهذا أصبح موافقاً لقول مالك فهو قول الجمهور: إن كل الكفار من جميع الملل إن عرضوا الجزية قبلت منهم، أما تكفير الحجاج فقول ضعيف جداً مرجوع، والخلاف فيه ضعيف وليس بخلاف.(64/89)
حكم من قاتل من المسلمين في صفوف الكفر ضد المسلمين
السؤال
ذكر أهل العلم: إن المسلم الذي يقاتل في صفوف الكفار ضد المسلمين يعامل معاملة الكفار، فكيف يتفق هذا مع ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بعدم مقاتلة نفر من المسلمين خرجوا مع كفار مكة لمقاتلة المسلمين؟
الجواب
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمرهم بترك مقاتلتهم، وإنما أمرهم بترك قتلهم لعل الله أن ينجيهم من هذه المعركة، فيتوبون إلى الله عز وجل، فهم لم يكونوا يريدون حرب الإسلام ولكن ننظر فيمن قتل من هؤلاء، فإن بعضهم كان شباباً غير معروفين من الأنصار فقتلهم الأنصار؛ لأنهم وقفوا مع المشركين.
فقال بعض المسلمين: استغفروا لهؤلاء فإنهم كانوا سالمين، يعني: كانوا قد أسلموا، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
فدل ذلك على أنهم كفار، وكذلك لم يُعطِ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم دية، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن يفدي نفسه وابن أخيه، الفضل بن أبي طالب ونوفل كذلك.
فلو أنه كان مسلماً لكان ماله حراماً، ولا يجوز أن يؤخذ منه مال، ولكنه استدل بذلك: على أنه يعامل معاملة الكفار؛ لأن ذلك كان هو الظاهر، ومثلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قتلهم نصيحة، لعل الله أن يبقيهم فيتوبون إلى الله، كذلك حينما جاء ملك الجبال واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين وقد كانوا يستحقون ذلك، ولو حدث ذلك لماتوا كفاراً، ولكن أبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً)، فطلب حياتهم لعل الله أن يتوب عنهم.(64/90)
طلاق الحامل طلاق سنة وتنتهي عدتها بوضعها حملها
السؤال
طلق رجل زوجته وهي حامل، فهل يقع هذا الطلاق؟
الجواب
اتفاق بين العلماء: أن طلاق الحامل طلاق سنة، فإذا كانت حاملاً فقد وقع الطلاق بالاتفاق، ومدتها وضع الحمل، فلو طلقها ثم بعد تسعة أشهر، أو يومين، أو يوم واحد، أو لحظة، وضعت انتهت العدة، قال الله عز وجل: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].(64/91)
الطلاق الذي يقصد به التهديد عليه كفارة يمين على الأصح
السؤال
رجل قال لزوجته: أنت طالق إن أنا أتيت باللبن فما حكم ذلك؟
الجواب
كان ينوي التهديد؛ لأنه لم يأت باللبن، فيكفر عن يمينه على الصحيح، وكم من الناس يحلفون بالطلاق وتختلف الصيغ، فلا بد أن ينظر في كل واقعة فيما قال.
فالذي يقول: علي الطلاق، يسمونه: حلفاً بالطلاق، والذي يقول لامرأته: إن عملت كذا فأنت طالق، ينظر في الأمر، فإن كان القول صريحاً فلا يبحث عن نيته.
فإن قال لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: أنا لم أنوِ الطلاق، فهذا لا يجدي؛ لأن اللفظ الصريح لا عبرة بمخالفته، وإن قال لها: أنت طالق إذ لم تفعلي كذا أو قال: علي الطلاق ينظر، هل يقصد الطلاق أم يقصد التهديد والوعيد؟ فإن كان يقصد الطلاق طلقت، وإذا فعلت خلاف ما أمر وهو يقصد التهديد فعليه الكفارة، وهذا هو الأصح.(64/92)
من زار مريضاً فأكل أو شرب عنده فلا حرج في ذلك
السؤال
هل من زار مريضاً فأكل أو شرب عنده يضيع أجره؟
الجواب
لا، ليس في هذا أثر فيما أعلم، بل لا بأس أن يقبل ما ضيفه به المريض فإنه ينزل ضيفاً عليه، ولا حرج أن يقدم له أو أن يأكل عنده.(64/93)
انتفاع الميت بما يهديه له الحي من النوافل إلا صلاة الفريضة
السؤال
هل ينتفع الميت بمن يهدي له صلاة أو صياماً أو صدقة جارية؟
الجواب
الصحيح نعم، إلا صلاة الفريضة.
وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/94)
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
إن النظر في عواقب الماضين، وقراءة تاريخ السابقين، يولد عند الإنسان العبرة والعظة، حيث يرى عاقبة المتقين وعاقبة المكذبين، ومآل كل منهما، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتفكر في العواقب، ولكن لن يستفيد من التاريخ إلا من نظر إليه نظرة إسلامية، وعرف حقيقة الصراع الدائر بين الأمم من خلال النظر الإسلامي الصحيح.
وإن ما نراه اليوم من الضعف والوهن في الأمة هو بسبب النظرة الخاطئة في أصل الصراعات القائمة بين الأمة، فعلى الأمم النهوض من غفلتها ورفض الوهن والضعف، والتمسك بحبل القوي العزيز.(65/1)
سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ الأمة
قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:137 - 148].
سورة آل عمران معلم أساسي في تاريخ أمة الإسلام، ودرس للمؤمنين عبر العصور وفي كل الأزمنة والأمكنة، وبيان لسنة الله سبحانه وتعالى، وقراءة إسلامية للتاريخ، يحتاج إليها المؤمنون في كل زمن وفي كل حال من أحوالهم.
فالأحوال دائماً في تغير وتبدل، والله يداول أيام العسر واليسر، والكثرة والنصرة بين الناس، فهو سبحانه وتعالى قد جعل للأمم سنناً يسير عليها البشر في الأزمنة المختلفة، وإن كانت أعمار الأمم لا تقاس بالسنوات وإنما تقاس بعشراتها أو مئاتها، وتقاس بالقرون، وإن أمة لم يتجاوز سلطانها مائة أو مائتين من السنين ثم تتعرض للاضمحلال والزوال لهي أمة مهينة، ولننظر في تاريخ أمة الإسلام لننظر ولنعلم كيف استقر بفضل الله عز وجل سلطانها قروناً متعددة، وبما انتصرت؟ وفي كم انتصرت من الزمن؟ ولماذا ضعف سلطانها وتسلط عليها أعداؤها؟ وفي كم من الزمن وقع ذلك أيضاً؟ حتى لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد، وحتى لا تغرنا القوة الزائفة الزائلة التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لأهل الكفر في أزمنة مختلفة ليبتلي بها عباده، بذلك ويختبر ما عندهم، وينظر ماذا يعملون، ولو تأمل متأمل في الأرض والسموات لأيقن وجزم وقطع لمجرد التأمل أن البشر وجودهم وقوتهم وملكهم وما بأيديهم لا يساوي شيئاً، فتأمل وجود البشر بالنسبة إلى الأزل وإلى الأمد، بل بالنسبة إلى ما مضى فقط من حياة البشر على ظهر الأرض وما بقي منها، وكم يعيش الإنسان بالنسبة إلى هذا الدهر الطويل، لتعرف قدر الإنسان في الزمان بأنه كالهباء فعلاً، أو كاللحظة العابرة، أو كالخاطر الذي يخطر على البال أو أقل من ذلك، فوجودنا أصغر بكثير مما يشعر به الكثيرون منا من أن حياتهم طويلة، وتأمل حجمنا في المكان، وانظر إلى مصير كل منا في الأرض، كم يشغل منها بالنسبة إلى مساحتها الكلية؟ وكم تشغل الأرض من هذا الكون الواسع الفسيح؟ وكم تشغل من المجموعة الشمسية مثلاً؟ وكم تشغل من المجرة؟ وكم تشغل المجرة من آلاف الملايين من المجرات مما لا طاقة للبشر ولا علم ولا سمع ولا بصر يصل إليه فضلاً عن أن يحيط به؟ وكل هذا في السماء الدنيا، وكلما ارتفعنا اتسع الأمر لتعلم صغر الإنسان.
ثم تأمل ما بأيدي الناس من القوة في دنياهم التي يعيشون بها على ظهر هذه الأرض، ثم قارن بينها وبين القوة التي أودعها الله عز وحل في شيء واحد فقط فضلاً عن أشياء متعددة، في البحر مثلاً، كم من الطاقة في هذه البحار التي لو أمرها الله عز وجل أن تغرق الناس لأغرقتهم؟ كم في الرياح من طاقة وقوة هائلة تدمر ما بأيدي البشر في لحظات معدودة؟ ففي أيام معدودة وليال يدمر الله عز وجل أمماً بأسرها، ويقع ذلك في كل زمان، وليس هذا فقط في زمن عاد، بل يتكرر أمام أعين البشر في زماننا في كل عام مرة أو مرتين، فتسمع عن إعصار، وتسمع عن غرق، وتسمع عن حرب، وتسمع عن دمار، وتسمع عن زلازل، فهناك قوة مودعة في الأرض، هذه الأرض التي لو أمرها الله أن تبتلع الكفرة والظلمة والمنافقين لابتلعتهم في لحظة، ولضيقت عليهم، وانشقت بهم، ولو أمر الله عز وجل ما في السموات من المذنبات أن تحصد الأرض وتصيب ما شاء الله عز وجل أن تصيب لكان شيئاً واحداً منها مدمراً لقارات بأكملها، فسبحان الله! أبعد هذا يغتر المغتر ويظن أن الأمر بأيدي الناس؟! ما يملك البشر وما بأيديهم إنما هو أصغر من الهباء بالنسبة إلى ما أودع الله عز وجل في بعض مخلوقاته من القوة، فالقوة لله جميعاً، لذا تأكد وأيقن أن الأمور تجري بمقدار من عند الله سبحانه وتعالى، وهي أثر من آثار قدره الماضي سبحانه، وأثر من آثار السنة التي قد مضت فيمن قبلنا، وأثر من آثار قوة الله عز وجل وقدرته على خلقه حتى لا تغرنا البدايات، وحتى لا نيئس من النهايات، وحتى لا نزن الأمور بموازين ما بأيدي الناس، حتى كأن القوة الوحيدة هي ما بأيديهم، حتى كأن التخطيط والتدبير إنما هو الذي يصنعونه، والأمر ليس كذلك، فهناك تدبير آخر، وهناك سنن يقدرها الله سبحانه وتعالى، ويجعلها سبحانه وتعالى هداية لأهل الإيمان، وموعظة لهم، ويبين بها لسائر الناس ما يفعله عز وجل بأوليائه وأعدائه؛ ليظهر لكل أحد أن الأمور من عنده سبحانه وتعالى نازلة، فالله عز وجل يقلب الأمور، ويداول الأيام، ويغير الأحوال والموازين، فإذا لحظنا ذلك بقلوبنا، ووعته أفئدتنا، كان ذلك سبباً لسلوكيات وأفعال معينة من طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن الصبر والثبات، والتخلص من أمراض عديدة تصيب الأمم في فترات الضعف والمحن، كالوهن، والحزن، والاستكانة للعدو ولباطلة، والمتابعة له على الباطل، فكل ذلك بسب عدم ملاحظة سنن الله سبحانه وتعالى أن الأمور من عنده عز وجل.(65/2)
الأمر بالتفكر في أحوال السابقين لمعرفة سنن الله في خلقه
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهل انتبهنا إلى هذا الأمر ونظرنا في عاقبة المكذبين ونحن نسير في الأرض؟ حتماً ويقيناً أن أكثرنا لا ينظر، بل كل البشر إلا من رحم الله، فنستثني أقل القليل ممن ينظر في عواقب الأمور وفي نهايات المطاف، ويقرأ التاريخ قراءة إسلامية، وقد ذكر الله عز وجل الأمر بالنظر في سنن من قبلنا مرات عديدة في كتابه، فقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].
وقال عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وآيات كثيرة متكررة بهذا المعنى تأمر بالسير في الأرض؛ لننظر، لا لمجرد الأكل والشرب، ولكسب المكاسب، ولكن لنقرأ التاريخ قراءة إسلامية.(65/3)
القراءات الفلسفية الأرضية لحقيقة الصراع
أكثر الفلسفات والتفجيرات البشرية الأرضية تحاول أن تقرأ التاريخ؛ لتعرف مواطن الصراع ومحاوره بين البشر، وطالما لم يستضئ القارئ بنور الوحي المنزل على رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم ينشرح قلبه لحقائق الإيمان، فإنه يذهب مذاهب شتى في تفسير التاريخ والصراع الذي يجري على وجه الأرض، ويحاول أن يستخلص النهايات على حسب فهمه وإدراكه، وإذا لم يكن هناك إيمان بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام كان هناك التخبيط وخلط الأمور، ولذا يسيرون سير العميان، بل أسوأ من ذلك، يسيرن في وسط وهاد وأودية مهلكة تهلكهم والعياذ بالله، ويلعبون كالمجانين، وأعني بذلك الكفرة والمجرمين الذين يحادون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويسعون في الأرض فساداً، ويحاربون دينه، فيظنون أن الأمور بأيديهم، ويتكبرون في الأرض بغير الحق ويقولون: من أشد منا قوة؟! ويعيثون في الأرض فساداً، ترى آثارهم فسادهم في المشارق والمغارب، وتلف من أمثالهم وأشباههم ممن جعلهم الله عز وجل عبرة وعظة للمؤمنين، وإنما ينتفع بقراءة التاريخ قراءة صحيحة من هداه الله.
إنما يهتدي البشر بنور الوحي المنزل من عند الله عز وجل، فقد تكلم أناس كثيرون في أن حقيقة الصراع الذي يجري بين البشر محوره المال، والسلطان التابع له، والقوة الاقتصادية عندهم هي المحرك الحقيقي لكل الصراعات، ولهذا تجد أحدهم يلقن لطوائف أو لملايين من البشر من الشعوب المختلفة، أن معظم الحروب التي قامت، هي من أجل المال والثروة والسلطان، وقد يتأكد ذلك في حس الكثيرين بأنواع الحروب القائمة المعاصرة على الثروات المختلفة، وصراع البشر من أجل المال، ونظروا بناء على ذلك أن الإنسان إنما قيمته ما معه من المال، وأصلوا أننا سوف نحارب، ونسالم، ونوالي، ونعادي، على حسب الأموال، فمن يعطينا أكثر نكون تبعاً له، نظرة تجد أمماً وشعوباً تصدقها، بل آلاف الملايين من البشر قد استوعبت هذه الفكرة واقتنعت بها، وعاشت من أجلها، ولو نظرت من حولك في الناس الذين يعيشون معك لوجدت من هذا النوع ملايين متعددة، لا تعيش إلا لأجل المال، وبعضهم يرضى بأقل القليل من لقمة العيش، لا يعرفون من الدنيا إلا الحصول عليها، ولو بأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل ليس بعرض ذا بال عند أهل الدنيا، بل بعرض رخيص لا يساوي شيئاً، يبيعون دينهم من أجله؛ لأنهم اقتنعوا بأن الإنسان إنما يساوي ما معه من المال.
والأمم المفتونة بالمال ليت فقط آحاد البشر، بل شعوب كاملة المال هو المحرك الأساسي لها، والصراع عندهم ليس صراعاً بين أولياء الرحمن وأوليا الشيطان، إذ لا يعرفون إلا أولياء الشيطان فقط، وإنما الصراع من أجل المال.
ومن النظرات التي تفرع منها وهي نظرة مادية محضة، النظرية الشيوعية، والاشتراكية التي مدراها على الصراع بين الطبقات من أجل المال، وأنه لابد أن تسود الطبقة العاملة، وأنشأها عمال في بداية الأمر، ثم انتقلت النظرية إلى بلاد فيها فلاحون، وقالوا: لابد أن تسود هذه الطبقة على غيرها، ومن هنا جعلوا في مجالسهم التشريعية نسباً معينة لهذه الطبقة؛ لتكون هي السائدة، ولتكون هي الغالبة، نظرية عاش البشر بها نحواً من ثمانين سنة أو ما زال بعض البشر يعيشون في ظلها إلى يومنا هذا، شقوا بها، وأشقوا غيرهم، ومات ملايين بل آلاف الملايين، وأجيال تلو أجيال عليها فشقيت بهذه النظريات، وأصلت الصراع بين طبقات المجتمع بدلاً من التعاون بين طبقاته، وزرع التواد والتحاب، فقراءة معينة للتاريخ أخرجت هذا الفكر الذي أخرجه ماركس، ثم طبقه لينين، وسار عليه بقية الأنعام، وما اختلفوا كثيراً عن أمثالهم ممن يعظم المال، بل القضية واحدة، فنظرية الرأس مالية التي عاش ويعيش الناس بها حقبة من الزمن، قد شقوا بها أنواع الشقاء، وهذه النظرية مدارها على الربا، الذي حذر الله عز وجل منه، فبها يزداد الغني غناً وسلطاناً، ويطحن الفقير طحناً، وأمم تحاول أن تستغل كل ثروات الآخرين، وتأكل ما بأيديهم وتعيشهم أذل حياة والعياذ بالله.
فطريقة تفكير وقراءة للتاريخ أنبتت هذه النظريات المنحرفة وآخر يرى في التاريخ أن الصراع الحقيقي بين البشر والمحرك الأساسي له هو الشهوة الجنسية، فالبشر إنما يعيشون لأجل شهوة الرجل للمرأة والمرأة للرجل، ولذا يقدسون هذا الأمر، ومن علامات تقديس ذلك عندهم الكم الهائل من الشهوات المطروحة على البشر، وتعظيم من عنده هذه البضاعة من أهل الإعلام والفن والشهوات المحرمة كلها، وما يدور حول هذا المحور من أنواع التجارات والأعمال، وإنفاق الملايين على الأفلام والأغاني والملاهي التي تدور حول قضية واحدة هي قضية الجنس، وأعمار تنفق لأجل هذه القضية، وتجد هناك من يعيش جامعاً هذه الخزعبلات، ويفسر التاريخ على ذلك، وأسس نظريته على هذه الخزعبلات، وأقنع بها الكثيرين، ثم صارت هذه الأمور هي التي بها تدرك الشخصيات، ويقدم أناس ويؤخر غيرهم، ويملك أناس ويزال غيرهم، بتخطيطات كلها تدور حول هذه المسألة، وحول الشهوات المحرمة في ذلك، وأنواع أخرى كثيرة من النظريات التي مبناها على قراءة خاطئة للتاريخ، ومحاولة باطلة لتفسير السنن التي يقدرها الله عز وجل.(65/4)
قراءة أهل الإيمان لحقيقة الصراع
أما أهل الإيمان فيرون أن ما يجري على الأرض صراعاً بدأ بالصراع بين آدم وحواء عليهما السلام، وبين إبليس العدو اللدود للإنسان، والصراع حول قضية الطاعة والمعصية، طاعة الله عز وجل أو معصيته، فهناك من يطيع الله فيعبده ويوحده، ويتبع رسله، وهناك من يكفر به ويعصيه، ويخالف رسله ويعاديهم، ويسعى في الأرض فساداً، وهذا هو الذي يجري عليه محور الصراع، إذ بين البشر هو بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وحول قضية التوحيد والشرك، وقضية الإيمان والكفر.
ومن هنا يفهم أهل الإسلام والإيمان الذين اتعظوا بمواعظ القرآن أنهم لا يصح لهم بحال من الأحوال أن يغفلوا عن هذه الحقيقة، أو يقبلوا خداع الشيطان وأولياءه من زخرف القول الغرور، الذي يوحيه بعض الشياطين من الإنس والجن إلى بعض؛ لصرف الناس عن حقيقة الصراع؛ ولكي يقعوا في دوامات الفتن، ويغفلوا عن مصدر القوة الحقيقية، ومصدر النصر الآتي بإذن الله لأهل الإيمان والإسلام.
فإذا فقدوا فهمهم وقراءتهم للتاريخ قراءة صحيحة وفق كتاب الله عز وجل فسوف يغرقون في فتن عجيبة، وإذا جعلنا محور الصراع الذي يقع في الأرض هو حول المال، أو الجنس، أو الأرض، أو حول علو قومية معينة فلنبشر بالدمار، فهناك خمسة وخمسون مليون إنسان قتلوا من أجل فكرة خطرت في بال واحد، هي أن الجنس الألماني هو الذي لابد أن يسود، فالحرب العالمية الثانية قامت من أجل ذلك، فوقع خمسة وخمسون مليون إنسان قلتى، والجرحى أضعاف ذلك، كل ذلك لأجل فكرة سيطرت على إنسان وأقنع بها ملاييناً فساروا في حروب مدمرة، فـ هتلر هو الذي رأى أن الجنس الألماني يجب أن يسيطر، وأن الأمم الأخرى لابد أن تخضع، ومثلها وإن كانت أوسع قليلاً نظرية التفرقة العنصرية ووجوب علو الجنس الأبيض، وما زالت هذه قائمة في الحقيقة، حيث يرى الأوروبيون البيض وأمثالهم من الأمريكان أن الأمم الأخرى لابد أن تكون حقيرة وذليلة لهم، واليهود يفكرون بنفس الطريقة، حيث يقولون: إنهم سادة العالم، فلذا يريدون السيطرة على العالم من خلال كل الوسائل، فالمال يسخرونه، والجنس يسخرونه، والصراعات دائماً يسخرونها؛ لأجل سيطرتهم على العالم.
فهل نغفل نحن عن حقيقة أو مفتاح الصراع بين البشر؟ فإن الصراع الحقيقي يدور بين الإيمان والكفر، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومحور الصراع: هو قضية التوحيد والشرك، وقضية الطاعة والمعصية، فنريد أن نطيع الله، وأن يطيعه البشر ويتبعوا رسله ويصدقوهم، ويلتزموا أوامرهم، ونريد أن يعبد الله وحده لا شريك له في الأرض كلها، ويريد أعداء الإسلام غير ذلك، فيريدون أن يعبد الشيطان، وأن يعبد المال، وأن تعبد الشهوات، وأن يعبد البشر، وأن تعبد الأحجار والأشجار وغير ذلك، والصراع يقع ويجري، وسنة الله عز وجل في هذا الصراع عبر التاريخ واحدة، وموازينه تسير في مراحل ثابتة، وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة في توقيت يعلمه الله سبحانه وتعالى، بناء على صفات وأحوال الأمم والأفراد المنتمية لهذه الأمم، ولذا كانت تلك المقدمة بالغة الأهمية، ونعني: الآيات التي وردت ذكرت صفات المؤمنين، من أول التحذير من الربا وعدم أكله، ثم ما تلا ذلك من الأمر بأوامر عظيمة الأهمية من تقوى الله عز وجل، والمسارعة والمنافسة في جناته التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين قال الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134 - 135].(65/5)
زمن انتهاء الصراع وكيفيته
علمنا مفتاح تغير الموازين والقوى، لكن كيف ستتغير موازين القوى وخرائط الواقع؟ وكيف سينتهي هذا الصراع ونحن حلقة من حلقاته؟ ولكي تعرف الجواب ارجع إلى ما بدأنا حديثنا به من أن أعمارنا صغيرة جداً، ولكننا كجزء من حلقات هذا الصراع لا نقيس هذا الصراع بأعمارنا نحن، فنحن صغار دائماً، وعمرنا صغير دائماً، ولكن وسع أفقك قليلاً؛ لتعرف أن أعمار الأمم كما ذكرت أوسع من أعمار البشر، وهذا كله بالنسبة إلى الأجل والأبد شيء يسير جداً، والله هو الذي يقدر مقادير الأمور كلها.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
فأمر التكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولرسل الله جميعاً له عاقبة معينة، وانظر في تاريخ الأمم لتعرفها، فهذه آثار عاد في حضرموت في جنوب جزيرة العرب تنبئك عن أثر تكذيب عاد لنبيهم هود، وهذه ديار ثمود في شمال جزيرة العرب تنبئك عن أثر تكذيب ثمود لصالح، وهذه آثار قوم لوط في الأردن تنبئك عن الدمار الذي حل بهم لما كذبوا لوطاً، وهذه آثار الفراعنة تؤكد أنهم كانوا أمة قد ضربت بأوتادها في الأرض قوة وتمكناً، وسلطاناً، وعتواً، وملكاً ظاهراً تام السيطرة عليها وعلى من حولها من الأمم، ثم ترى كل ذلك قد زال، أمم سادت ثم بادت، وزلت وهانت، وأبيدت بالكلية بعد أن تسلط عليها أعداؤها مدة.
وتأمل تاريخ بني إسرائيل؛ لتعرف سنة الله فيهم وفي أمثالهم عندما يؤمنون ويكفرون، ولتعرف نهاية حلقتنا من الصراع، فإنها سنن ماضية لا تتغير ولا تتبدل، وإن كانت الموازين بأعين الناس الذين لا يبصرون إلا الأمور المادية التي بأيديهم، ولا يرفعون أبصارهم وأفئدتهم إلى ما هو أوسع من تحت أرجلهم من أرض وسماء، ولا ينظرون إلى ما قبلهم وبعدهم من الزمان، فهذه النظرة التي ينظرون بها تؤدي بهم إلى الجزم بأن الموازين في صالح أعداء الإسلام، وأن الأمر بأيدي الكفار، فلابد من السمع والطاعة لهم، الدوران في فلكهم، ونسأل الله العافية.
وهذا كله من أعظم الخطر علينا، فلابد أن نستوعب دروس التاريخ، ونعلم ما قال ربنا سبحانه وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137]، فإما أن تسير بأقدامك لترى بعينك، وإما أن تكتفي بإخبار الله سبحانه وتعالى وسير السائرين الآخرين الذين نقلوا لك، وأنت لابد سائر، ولكن لابد أن تتأمل آثار من قبلك في سيرك، فما من موطن إلا وترى فيه قبور السابقين، وترى مصارع الناس، وترى آثار الأمم السابقة، إذ لا يوجد بلد خال من ذلك فضلاً عما يتناقله الناس، وقبل ذلك كله ما أخبر الله عز وجل به عن الأمم قبلنا، وحقيقة الصراع الذي دار بين الرسل وبين أعدائهم.(65/6)
التعرف على عاقبة المكذبين من خلال قراءة سيرهم
قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
أي: تأمل؛ لتعرف مآل المكذبين، ففي زماننا تأمل في حال الذين يكذبون كتاب الله، والذين يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين يسعون في الأرض فساداً: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:45]، فسوف ترى أمراً عظيم الأهمية.
فـ هرقل رغم كفره كان يعرف من سنن الله عز وجل ما ذكره لـ أبي سفيان حين سأله هل حاربتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينه وبينكم؟ قال: سجال، يدال علينا مرة، وندال عليه مرة، قال بعد أن سأله أسئلة أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، فسنة الله ماضية، وأهل الإيمان سائرون على نهج الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولذلك السنن ماضية متكررة، ليس في وجود الأنبياء فقط، بل في كل صراع يوجد بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بين ما جاءت به الرسل وأوليائهم من جانب، وبين التكذيب والمخالفة والإباء والرد والصد عن سبيل الله من أعداء رسله من جانب آخر، أتظنون أن أبا جهل وأبا لهب هما أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟ أو أن فرعون هو عدو موسى فقط؟ ليسوا هم الأعداء فقط، بل كل من يعادي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعادي ما جاء به موسى وعيسى، ويعادي ما جاء به إبراهيم، ونوح، وهود، وصالح من التوحيد، والإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل، والقدر، وكلما جاءت به الرسل من التزام شرع الله عز وجل، فهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أعداء موسى وعيسى وإبراهيم، وهم والله! كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، بل هم أهل الأرض إلا من رحم الله، نسأل الله العافية.
فالعداوة والتكذيب لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تكون بالإباء والرفض لما جاءوا به، وهو أمر لم يزل مستمراً قائماً إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، وإلى أن يأذن سبحانه وتعالى بهلاك الكفر وأهله من الأرض كلها.(65/7)
فائدة القرآن وبيانه لا تكون إلا للمؤمن
قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]، أي: قد حصل البيان بأن بلغ الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا القرآن العظيم فيه بيان الأمور على حقيقتها كما يقول ابن كثير، وكيف كانت الأمم قبلنا مع أعدائهم، فمن كذب القرآن جملة فقد قامت عليه الحجة بذلك، ومن صدقه جملة نفعه ذلك نفعاً إجمالياً، إلا أنه لن ينتفع نفعاً تفصيلياً، ولم يعتدل الأمر معه اعتدالاً حقيقياً كاملاً إلا بأن يعرف تفاصيل هذا البيان، ويستضيء بنور القرآن وثنائه، فيرتفع به عن الأرض وموازينها وشهواتها.
وتأمل أن البيان للناس والهداية والموعظة للمتقين؛ لتنظر كيف تنتفع بالقرآن، وكيف تجد طعمه، وكيف ترى نوره، فليس كل الناس يهتدي بهذا البيان، وقد بين الله بهذا الكتاب العظيم ما تقوم به الحجج، فمن قصر في طلب العلم منه فهو آثم، ومن أعرض عنه بالكلية فهو الكافر والعياذ بالله.
وإنما ينتفع به من اتقى الله، فإن كنت تريد أن تنتفع بالقرآن، وتهتدي به وتتعظ بمواعظه، فاعمل بما علمت منه، واعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وتجنب معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وتستشعر وقوفك بين يديه، وحضورك يوم القيامة مسئولاً عن القليل والكثير، والنقير والقطمير، والكتاب الذي يعرض عليك {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فتخاف وتتقي، فأنت إن عصيت تسير في طريق شوك، وهذا الشوك الذي يؤلم أجرك هو معاصي الله، ومخالفة شرعه، رغم أن أكثر البشر يظنون أنهم يسعدون بهذه الشهوات، ونسال الله العافية.
فأنت كماش في طريق الشوك ينظر أين يضع قدمه، وكم من الأشواك في حياتنا، بل قل: ألغاماً تنفجر كل يوم، تصيب أحدنا فتدمر قلبه، وتدمر إيمانه وإسلامه، وتذهب بطاعته لله عز وجل، وأكثر الناس لا يشعرون، ويستمرون في مشيهم دون أن ينظروا إلى مواضع الأقدام، فتقوى الله العمل بطاعته، وعلى قدر ما علمت يفتح لقلبك هدايات، قال تعالى: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] فلا يهتدي ويتعظ إلا من اتقى الله قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فإذا أشكلت عليك الأمور، واضطربت الأحوال، فلا تدري ما تأتي وما تذر، فاعمل بما تيقنت أنه طاعة من صلاة وصيام، وقراءة قرآن، وغض بصر، وحفظ فرج، وترك ظلم، رباً وغيرها، واترك ما تشك فيه، فإذا عملت بهذا فسوف تهتدي، لكن المشكلة أننا قاعدون ولم نتغير كما ينبغي، ولا ينبغي أن ننظر إلى ما نقدر عليه ثم نتباكى على عجزنا.(65/8)
تغير حال الأمة يكون بتغير الشعوب لا بتغير آحادهم
أمة الإسلام لديها طاقات وثروات هائلة، ولديها ملايين البشر القادرين ببضعة آلاف منهم على تغيير وجه العالم بالكلية، ولو وجدت هذه النوعية من الآلاف المؤمنين المتقين في بلد واحد فقط لتغيير وجه العالم بأسره، لكن بشرط أن يكونوا ملتزمين التزاماً حقيقياً، وعندهم تقوى حقيقية، فبمثل هؤلاء تنصر الأمة.
أما إذا فقدنا التقوى، الشعور بأننا في طريق ذا شوك فلا ننظر إلى مواقع الأقدام، وكذا إذا فقدنا الشعور بأننا في أزمة تقتضي الجدية في كل أمر من الأمور، في طلب العلم، وإصلاح النفس، والعمل، والعبادة، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل بما شرع الله سبحانه وتعالى وبما نقدر عليه، فلن نغير من واقعنا، ولن نقدر على إصلاح شيء ذا بال منه، مع أن الذي نقدر عليه كثير، وما نراه اليوم من ضعف وقلة حيلة ليس لقوة الأعداء حنكتهم وإنما هو مقدر من عند الله عز وجل، وأيضاً هو بسبب التقصير الذي عند جملة الأمة، ولو وجد أفاضل البشر على الإطلاق في وسط جمع مقصر لضاع الفضل بين زخم التقصير كما سيأتي في هذه السورة، وكما قال الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152].
فالعشرة المبشرون بالجنة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جيش المسلمين في غزوة أحد، ومع ذلك وقعت الهزيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل ندرك ما ينبغي علينا أن نعمله؟ فعلينا تقوى الله، ومعالجة أمراضنا، كمرض الوهن والحزن والاستكانة وغيرها.
قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، أي: كلما اتقيت الله عز وجل فيما بينك وبينه، فراقبته وعاملته، وأخلصت له، وصدقته، واجتهدت في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كلما كان النصر حليفك، وليس يصلح أن يكون هذا في آحاد الناس، بل لابد أن يكون سمة عامة للأمة والطائفة الملتزمة بالطاعة، التي تقول إنها على الحق، لا يضرها من خالفها وخذلها حتى تقوم الساعة، أو تريد أن تكون كذلك، أما إذا كانت السمة العامة لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالملتزمين أو بالمتقين للجهل مثلاً أمراض القلوب، أو ضعف الحب والود، أو أنواع من الصراعات على الدنيا والتنافس عليها، فحينئذ لا يكون لهؤلاء النصر والغلبة، وعلى ذلك وجب على الأمة تغيير نفسها؛ ليغير الله حالها، فإن الأمور سنن من عند الله، وليست مجرد أمور أرضية، ولقد قال عمر رضي الله عنه عندما أتوه بالبرذون ليركبه -وكان البرذون يتبختر به ويريدونه أن يركب عليه؛ ليليق بمقام أمير المؤمنين- فنزل منه عمر وقال: أركبتموني على شيطان، ما نزلت منه إلا أنكرت نفسي، قال: أتظنون الأمر من ههنا، أي: من الأرض؟ إنما الأمر من ههنا، أي: من السماء، وأشار إلى فوق، فلذلك لابد أن نعمل بما علمنا وبما نقدر عليه، فمن عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، ومن عمل بما قدر عليه رزقه الله القدرة على ما لا يقدر عليه، ووالله! إن القوة كامنة كمون النار في الزناد في هذه الأمة، وشرر يسير منها يرعب الأعداء، وهم يدركون ذلك جيداً، ويعرفون السنن، ولكن هل سنستخرج هذه القوه ببديل التقوى؟ وهل نحولها من هذا الخمول إلى الواقع بالعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى؟ أم نظل مستكينين في أنفسنا؟(65/9)
سبب ضعف الأمة وإهانتها
سبب ضعف الأمة هو وجود الوهن الداخلي في كل فرد منها ثم أدى إلى الوهن العام فيها، مع أن بأيديها من القوة ما لا يحيط به الأعداء، ولست أقصد الوهن الداخلي في المجتمع الذي نعيش فيه فقط، بل وحتى الوهن الداخلي في نفس كل واحد منا، قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا} [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا: {وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]، أي: على ما فات، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: العاقبة والنصرة لكم، وهذه الآية في شأن غزوة أحد تنهى المؤمنين عن الضعف بسبب ما جرى، والضعف الذي يصيب الأمم المغلوبة هو محصلة وهن داخل كل واحد منها، فاجتمعت هزيمة كل فرد فهزمنا جميعاً، وأعداء الإنسان داخل نفسه هم الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء وأمراض أخرى في الداخل، وكلها تسعى في أرض القلب فساداً، فأدت إلى حصول هذا الوهن، وأدى الوهن في مقاومتها إلى الوهن العام الذي أدى بدوره إلى الضعف.
والوهن: هو حب الدنيا وكراهية الموت، والصراع على شهوات الدنيا، هذا المرض الذي يعرف الأعداء جيداً أثره فيسعون إلى نشره، وأكثر الناس يأكلون الطعم، ويتنافسون على الدنيا أحقر المنافسات، نسأل الله العافية.
والحزن أن يظل الإنسان يفكر فيما مضى، لا لينتقل منه إلى عمل في المستقبل، بل لمجرد الأسى والحزن، ويتذكر الآلام لا ليستفيد من التجربة؛ لينطلق إلى عمل جديد، ولكن لكي يتألم فقط، أو يندب حظه، وهذا دائماً يجر سلسلة أمراض منها: العتاب على القدر ولومه، والشعور بالظلم، وأنه كان ينبغي أن يقع غير ما وقع، وعتاب الآخرين ولومهم وادعاء تقصيرهم في حقه، وهو المقصر، وأنواع من الأمراض التي تؤدي إلى أمراض أخرى، كمرض الحزن، والمقصود به المنهي عنه الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى اليأس من رحمة الله، وإلى الاستسلام، والاستكانة التامة للعدو الداخلي والخارجي، فييأس من الإصلاح الداخلي، وييأس أيضاً من إصلاح ما حوله، فيقبل الواقع، ويغرق في شهوات الأرض، نعوذ بالله من ذلك قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فدلهم على الاستعلاء بالإيمان رغم الضعف الظاهر، والهزيمة في أحد، وقتل منهم سبعون، وجرح من جرح، فقد جرح النبي عليه الصلاة والسلام، وكاد المشركون أن يقتلوه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والذين فقدوا من المجتمع المسلم في غزوة أحد وزنهم في ميزان البشر بأمم، فـ حمزة أسد الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير الذي أدخل الله على يديه أهل المدينة في الإسلام وأمثالهم، فكم يساوي هؤلاء الشهداء الأفاضل الذين قتلوا؟ قد أخبرنا الله عز وجل بأن الواحد منهم بأمم لا بأمة وحدها، فالواحد منهم يغير مجرى التاريخ، ومع ذلك ينزل قوله الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فكل ما فقدناه بالنسبة إلى فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة ومصعب ومن معهما، رضي الله عنهم أجمعين هين وقليل، فينبغي علينا من باب أولى أن لا نهن أو نضعف، بل لابد أن يتم السير إلى الله عز وجل بكل قوة، وفي الطريق الصحيح، والطاعات كثيرة جداً، فلا تقتصر على صورة معينة، بل تستطيع أن تعبد الله عز وجل في كل حال وفي كل مكان، على العسر واليسر، والمنشط والمكره، وهناك أنواع عديدة من العبودية التي تؤديها في حالة الضعف والإحباط الذي يقع، والذي يملأ النفوس اليوم بسبب الأحداث الأليمة التي تمر بها الأمة في الداخل والخارج، وبسبب أنواع البلايا والمحن، وتسلط الأعداء بأنواعهم المختلفة.
إذاً: فلابد أن تكون لك قوة في طاعة الله، بما تقدر عليه وما تعلمه، حتى يفتح الله عز وجل عليك ما لا تعلمه، وما يغيب عنك، وما لا تقدر عليه، فلابد أن لا نهن أو نضعف في أداء أي عمل في طاعة الله عز وجل، ونعمل بما في أيدينا بكل قوة، ولا نحزن على شيء قد فاتنا، إذ لاشك أن المسلمين في أحد كانوا يريدون نصرة الإسلام، وعلو كلمة الحق، أو على الأقل طائفة عظيمة منهم فيها من هذه الإرادة ما لا يوجد في الأمة اليوم بأسرها، ففيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وباقي المبشرين، ولا شك أنما فات بفعل الغزوة كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فلا يجوز الحزن عليه، أفترى وسيلة من الوسائل التي عجز المسلمون عنها اليوم بالمقارنة إلى ما فات المسلمين في أحد يقتضي منك حزناً على ما فات؟ إن ما فات المسلمون في أحد بالنسبة إلى نصرة الإسلام في الأرض أعظم من كل الوسائل، فالقتال كان وسيلة لنصرة الإسلام، ومع ذلك فقد فاتهم ما فاتهم بسبب تصرف بعضهم، ونحن قد فاتتنا أشياء عجزنا عنها، نتمناها ونرجوها، ونحدث أنفسنا بها، ومع ذلك فليس ذلك الفوت مبرراً للحزن، أو للضعف، بل تعلم أنك كلما حققت معاني الإيمان كلما علوت به من الله تبارك وتعالى.
إذاً: فلابد أن نعلم جميعاً أنه كلما زاد رصيدنا من الإيمان، كلما رجحت كفتنا في الصراع مع الأعداء، وبالعكس من ذلك فإن حصل فينا داء الضعف، كحب الدنيا، وكراهية الموت، والحزن على ما فات حزناً يجذبنا إلى الأرض، ويدفعنا إلى اليأس، وإلى الإحباط، وإلى عدم التغيير المطلوب من الداخل أي: من النفوس حتى تصلح، وحتى يغير الله ما بنا من هذه الأمراض، فإنه كلما حصل ذلك كلما ضعف الإيمان، وكلما ضعف الإيمان كلما نزلنا إلى الأسوأ، فحال القلب بالنسبة لهذه الأمراض يشبه صاروخاً يريد أن يرتفع، ولكن فيه ضعف في قوته، وبه روابط تجذبه إلى الأرض، فإذا كانت قوته ضعيفة، والأربطة التي ربط بها إلى الأرض قوية فلن ينطلق، فلابد أن نتخلص من السببين: الأول: روابط الأرض التي تجعل المسلم يخلد إلى الأرض ويتبع الشهوات، ويحب الدنيا حباً مذموماً، فعليه أن يتخلص منها ويعظم الرغبة في الآخرة.
والثاني: قوة دافعة للارتفاع، وهي في الحقيقة قوة الإيمان، والإيمان علم وعمل وتصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يقيناً، وحب، وخوف، ورجاء، وتوكل، وعبادة، وصلاة، وصيام، وزكاة، وعبادات تؤدى لا كصورة، ولكن بالحقائق الباطنة، فلا تصم عن الطعام والشراب، ولم تصم ألسنتنا عن الغيبة والكذب، ولم تصم قلوبنا عن الحقد والحسد والضغينة والبغضاء، ولم تصم جوارحنا عن معاصي الله، فهذا الصيام أصبح صورة لا حقيقة له، ومعلوم: أنه لن يكون باطلاً فيؤمر صاحبه بالإعادة، إلا أنه لا يثقل الميزان، ومع ذلك لا يحكم على صاحبه بالكفر؛ لأن كل واحد عنده ذرة إيمان ينجو بها من الخلود في النار، لكن هذه الذرات لن ترجح الكفة في الصراع مع الأعداء، إذ لابد من أمر ثقيل كما قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
فعدم علونا يدل على أننا لسنا مؤمنين الإيمان الكامل، ولا أقصد بذلك الآحاد أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، والعشرة المبشرين، والشهداء الذين قتلوا، وجماعات من الصحابة، قد شهد لهم ربهم فقال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فهناك أناس تريد الدنيا وليسوا منافقين، إذ أن المنافقين أمثال عبد الله بن أبي بن سلول رجعوا عن المعركة، والباقون هم أهل الإيمان، لكن إرادة الدنيا عندهم كانت مؤثرة على المجموع، فحصل لهم ما حصل.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله.(65/10)
الأسئلة(65/11)
حكم إحياء ليلة النصف من شعبان
السؤال
في هذه الأيام يرغب البعض في إحياء ليلة النصف من شعبان فهل صح شيء في ذلك؟
الجواب
هناك أحاديث متعددة في فضيلة ليلة النصف من شعبان، وأن الله عز وجل يغفر لكل خلقه إلا مشرك أو مشاحن، أي: بينه وبين أخيه شحناء، فكل من بينه وبين أخيه شحناء فليسع إلى إزالتها حتى يغفر له إحيائها بهذا الأمر، ولكن لا يشرع الاجتماع على قيام الليل في تلك الليلة، ولم يصح شيء في دعاء مخصوص فيها يسمى دعاء ليلة النصف من شعبان، ولكن هي ليلة فاضلة؛ لأن الله عز وجل ينزل فيها إلى السماء الدنيا، وهذا حديث حسن أيضاً.
وصيام يوم الخامس عشر من شعبان مشروع أيضاً؛ لأنه ضمن الأيام البيض، وإن كان لا يخصص وحده، بل ينبغي أن يصام معه الثالث عشر والرابع عشر، ويجوز صوم يوم الست إذا كان قد صام قبله يوم الجمعة، أو كان له سبب كما إذا كان من أيام البيض كما ذكرنا، والله أعلم.
وبعض الأفاضل يضعف الأحاديث، ولكن الظاهر أن لها أصلاً لا تقل عن رتبة الحسن، وقد حسنها الشيخ الألباني والإمام المنذري وغيرهما.(65/12)
حكم قضاء الصوم لمن في صومه جهد ومشقة
السؤال
لي بنتان تصومان رمضان بجهد، فهل الأيام التي تفطران فيها بسبب الحيض يجوز لي الإطعام بدلاً عنهما، أم لابد من الصيام؟
الجواب
، لابد من صيامها طالما أنها تستطيع وليست مريضة مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه، فيجب عليهما القضاء ولو في أيام الشتاء.(65/13)
حكم أخذ الأموال من مكان الوظيفة كتعويض عند الاستقالة
السؤال
ما حكم الأموال التي تؤخذ من الشركات كتعويض للعاملين مقابل الاستقالة؟
الجواب
إن كانوا هم الذين عرضوه نتيجة فسخ العقد أو إنهاء العقد فلا بأس بذلك، لكن لا توضع في بنك ربوي، بل يسعى إلى استغلالها في أي مشروع يكون أولى وأفضل، فإن أراد وضعها في بنك فلا يضعها إلا في بنك إسلامي ويتصدق بجزء من الربح.(65/14)
تعصيب الأخوات للبنات في الميراث
السؤال
امرأة توفيت وعندها أربع بنات فقط، ميراثها يقسم على أولادها فقط أم أخوات هذه السيدة لهن نصيب؟
الجواب
أخواتها لهن نصيب؛ لأن البنات الأربع يأخذن الثلثين، فإن كان منهن ذكراً فله الثلث الباقي؛ لقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] وإن لم يكن مع البنات إلا أخوات الميتة فهن أيضاً عصبة في الثلث؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة).(65/15)
بيان مكان إخراج الفطرة
السؤال
من ذهب لأداء العمرة في آخر شعبان وعاد في شوال فكيف يخرج زكاة الفطر؟
الجواب
يخرجها في المكان الذي يفطر فيه، وإن أخرجها في بلده، أو وكل أحداً بإخراجها جاز ذلك.(65/16)
حكم عمرة المرأة بدون محرم
السؤال
ذهبت أختي إلى العمرة ولم يكن عندها علم أنه يجب عليها أن تذهب مع محرم، فهل يتقبل الله منها بدون محرم؟
الجواب
إذا كانت لا تعلم مع أنه كان يلزمها السؤال فنسأل الله عز وجل أن يغفر لها، وأن يتقبل منها، والعمرة صحيحة وإن كانت تأثم لسفرها بدون محرم إلا أن مسألة الرفقة الآمنة فيها اجتهاد سائغ، وإن كنا نرجح عدم جواز السفر إلا بمحرم.(65/17)
حكم أرباح أسهم الشركات
السؤال
أرباح الأسهم التي تكون في شركة أدوية أحرام هي أم حلال؟
الجواب
طالما أن نشاط الشركة نشاط مباح، فالأرباح -إن شاء الله- تكون مباحة.(65/18)
حكم شركات (بزناس) والاشتراك فيها
السؤال
هناك شركة ذهب تقوم بعمل قلائد بأحجام صغيرة لا تتعدى الخمسة جرام، وعملية التسويق تتم كالآتي: عندما يقوم شخص بالشراء من إحدى شركات السبائك لا يقبض الذهب ولكن يستلم شهادة للسبيكة، ويستلم كرتاً فيه رقم سري يتم تسجيله على موقع الشركة على الإنترنت، وبذلك يسجل المشرتي كعضو في الشركة، ويقوم العضو بعد ذلك بالتسويق للسبائك وله عمولة على ستة أفراد يشترون عن طريقه، وهؤلاء العملاء يأخذون عملة على غيرهم وهكذا، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا نوع من الخداع، وهذه الأنظمة كلها أظن أنها أشياء وهمية مجردة، وأول خطأ في هذا الأمر أنه يجب على من اشترى الذهب أن يقبضه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) فشراء الذهب لابد أن يكون حاضراً بحاضر، فهذا الموضوع خداع، وهو عبارة عن وهم، وهي نفس طريقة البزناس، لكنها هذه المرة على ذهب وهمي، وحتى لو كان حقيقياً فلابد من التسلم والاستلام، فمن يدخل في هذا يدخل من أجل العمولة التي هي في الحقيقة مبنية على احتمال أنه سيخدع قدراً كبيراً من الناس الذين سيخدعون غيرهم، إلى أن تصل الشركة إلى مرحلة معينة، فهذه الشركات الوهمية غالب ظني أنها لو كانت صحيحة فهي لا تجوز؛ لعدم التقابض.(65/19)
قوة الشعوب والأمم في إيمانها لا في عدتها وعتادها
السؤال
الناس اليوم لا تعرف إلا رغيف العيش والحياة المستورة؛ لضغط الظروف الاقتصادية عليهم، فكيف نطلب ممن همه رغيف العيش أن يعمل للإسلام، وكيف نعالج من حاله: لا حياة لمن تنادي؟
الجواب
أنا موقن أن هناك حياة في من أناديهم، وانظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا ثلاثمائة مع أبي عبيدة رضي الله عنه في سرية زادها جرام تمر، ومصير كل واحد منهم وهم يذهبون إلى قتال الأعداء تمرة كل يوم، وفات أحدهم ذات يوم تمرته فوقع الرجل لعجزه عن الحركة حتى شهد له أصحابه أنه لم يأكل تمرته فأعطاها له، ونفد التمر حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فهؤلاء كانت عندهم همة للإسلام.
وحديث صحيح يرويه ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عيادة سعد بن عبادة ومعه خمسة عشر صحابياً تقريباً، وليس عليهم قمص، ولا عمائم، ولا أردية، ولا خفاف، ولا نعال، إلا الأزر، فهذا كان حال أهل الإسلام الأول، وهؤلاء هم الذين أدخلنا الله بهم في الإسلام، وهم الذين جاهدوا وتحملوا الصعاب حتى انتصر الإسلام، ورغيف العيش الذي تهمه وتقلله في نظرك يصبح بكثرة تذكر الآخرة، وبكثرة التذكر للقاء الله عز وجل، وبتعظيم ما عظمه الله عز وجل من معاني الإيمان نعمة عظيمة، وتشعر بأنك قد أخذت كثيراً جداً، وحينها اعلم أن الله عليك بفهم آية؛ لأنك أغنى من كل أصحاب الملايين؛ ولأنك تذوقت طعم آية أو حديث عرفته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذقت حلاوة سجدة دعوت الله فيها صادقاًَ من قلبك.
روى سهل بن سعد قصة زواج الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابي الذي يريد أن يتزوجها وليس معه إلا إزار، فيقول سهل رضي الله عنه: ما له رداء، ويقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فالتمس شيئاً، فذهب يلتمس وأتى وقال: لم أجد شيئاً، فقال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب يبحث ثم رجع ولم يجد خاتماً من حديد، قال: لكن يا رسول الله! هذا إزاري فلها نصفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تصنع بإزارك! إن لبسته لم يكن عليها منه شيء)، وتخيلوا أن الإنسان يتزوج ولا يجد شيئاً، إذ لو كان عنده نعل لأعطاه، ولو كان عنده رداء لأعطاه، فهو لا يجد في البيت شيئاً ولا حتى خاتماً من حديد، فهذه طبيعة الحياة التي عاشوها، فكانوا دعاة ومجاهدين لا يبالون بالدنيا، ولنقرأ كتاب فضل فقر الصالحين، ونتشبه بهم في الكماليات، ولسنا قادرين أن نستغني عنها، حتى أصبحت بالنسبة لنا ضروريات، وانظروا إلى من أراد أن يتزوج كيف يشترط عليه شروط، ويشترط عليهم شروطاً فوق طاقة الأب الذي سيزوج ابنته، وهذا مثال فقط حتى نرى ما نحن فيه من العبث.(65/20)
فألقي السحرة ساجدين
إن للحق نوراً يقذف في قلب صاحبه فيجعله يتحول من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وذلك ما يظهر بجلاء في سحرة فرعون حين سطع الإيمان في قلوبهم.
وقصة سحرة فرعون ذات حكم وأسرار، إذ أنها كانت مناظرة تاريخية بين الحق والباطل، ولذا فإن الله ذكر تفاصيلها وكرر ذكرها؛ لأنها قصة نصر وعزة، وما كان كذلك فالقرآن يفصله أكثر؛ حتى تطمئن قلوب المؤمنين بالحق التي هي عليه.(66/1)
حال السحرة قبل كفرهم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن من بيان القرآن العظيم بيان ما يفعله الإيمان في شخصية الإنسان، وتحويله هذه الشخصية تحويلاً عجيباً في لحظات، فيرفع صاحبه من أسفل سافلين إلى أعلى القمم، وهذا ما نلحظه في حال السحرة، فلقد جاء السحرة من كل مكان ولهم هم واحد وهو المال، يسيل لعابهم للأجر الذي يتوقعونه من فرعون، وذلك مما يُشْعر بالجشع وحقارة النفس، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] أي: أنه زادهم أكثر من المال وهو التقريب من فرعون، فالتقرب منه له منافع عديدة عندهم، وسوف يؤدي إلى مصالح أكثر من الأموال بكثير، فيجدون أموالاً مستمرة، ووجاهة ومنزلة، وهكذا كانوا يرون قبل هدايتهم أن هذا الذل الذي هم فيه هو سعادتهم، مع أن فرعون كان يكرههم على السحر، لكنهم كانوا يرون أن هذه هي أنسب طريقة للبحث عن العلو في الأرض والكبرياء، وكان لديهم اهتمامات شيطانية وحيوانية والعياذ بالله، قال عز وجل عنهم: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه:63]، والعجيب أنه لم يحصل مرة أن سيدنا موسى طلب منهم أن يخرجوا من الأرض، ولكن فرعون اخترع هذا وافتراه، وأقنع به كل من حوله حتى صارت عندهم قناعة أن موسى يريد أن يخرجهم من الأرض، مع أن الطلب الذي يريده موسى هو أن يؤمنوا بالله وبرسله، أما خروجهم من مصر فلم يطلبه منهم، وإنما هذا كذب من فرعون، فتابعه قومه في غباء وجهل عظيم.
قال تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: أن الطريقة التي كانوا عليها يرونها أنسب طريقة، مع ما فيها من الخلل العقائدي والفكري والعملي والسلوكي، والتبعية المهينة والعبودية لفرعون، فكان يقول: أنا ربكم الأعلى، والناس قد تعودوا على الطاعة العمياء إلى درجة أنهم دخلوا البحر وراءه في مغامرة عجيبة والعياذ بالله، ومع ذلك يرون أنها الطريقة المثلى {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] وهذا العلو من الاهتمامات الشيطانية التي كانوا يتمنونها.(66/2)
تحول حال السحرة بعد إيمانهم
تحول هائل قال عز وجل: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:46 - 48]، وهذا تشريف عظيم لموسى وهارون عليهما السلام، {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]؛ لأنه تعود أن كل عمل يحتاج إلى إذن منه حتى الإيمان والعياذ بالله، فكأنه يقول: كيف تعملون هذا دون إذني، فقال تعالى: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ *
الجواب
=6001077> لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123 - 124].
وإن الذي يبحث على المال والقرب من فرعون، والعلو في الأرض، عندما تنزل عليه هذه العقوبة غير المحتملة فإنه سوف يدع الكل ويرجع ليركع مرة ثانية، ولكن إذا بالسحرة الذين صاروا مؤمنين ولم يعودوا سحرة كما كانوا، تغير حالهم كما قال: عز وجل عنهم: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف:125]، وأصبحت عندهم اهتمامات أخرى وهي: قضية الإيمان بالآخرة ولقاء الله عز وجل، والانقلاب والرجوع إليه سبحانه وتعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأعراف:125 - 126]، أي: أن حقيقة الأمر أنه لا يوجد مكر مكرناه، بل هو صاحب المكر، فهو الذي جمع السحرة من كل مكان، وحقيقة الأمر أنه ما نقم منهم إلا أنهم آمنوا وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف:126]، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
فواجهوه بهذا الدعاء، فإذا بهم يعرفون الله عز وجل، وأنه هو الذي يصبر عباده، وأنه هو الذي يتوفى من شاء على الإسلام، ويقلب القلوب سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، وقد قال السحرة كما في سورة الشعراء: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50 - 51]، وهنا صارت لهم منافسات أخرى، فكان طمعهم في المال فصار طمعهم في مغفرة الخطايا، وهنا طلبوا أن يكونوا مقربين من الله، وأن يكونوا أول من آمنوا، وقبل هذا كان الذي يغريهم هو القرب من فرعون، وأرادوا الآن التنافس في أن يكونوا أسبق إلى الله: {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51].(66/3)
صبر السحرة على الابتلاء
قدر الله عز وجل أن يسلط فرعون على أبدانهم، وأن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي: يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو الرجل اليمنى مع اليد اليسرى، ويصلبهم في جذوع النخل، ورغم هذه الهزيمة الفظيعة لفرعون، والتي كانت بالحجة إلا أن فرعون وجد من يطيعه ويفعل ذلك.
قال ابن عباس عن السحرة: كانوا أول النهار سحرة وآخر النهار شهداء بررة.
أي: أن هذه آية على حسن الخاتمة، وأن الله يهدي من يشاء، فإن هؤلاء الناس عاشوا حياتهم كلها في السحر والضلال، والتلبيس على الناس، وإعانة فرعون على باطله، إلا أن خمس أو ست ساعات جعلت نهايتهم أسعد النهايات.
قال عز وجل عن فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، والعجيب أن الله ساق على لسان فرعون ما يثبت به السحرة، لأنه لفت نظرهم فقال الله على لسانه: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى))، إلى أنهم أيقنوا أن الله أشد عذاباً وأبقى، ومن أجل هذا استحضروا أنهم قادمون على الله، فصغرت الدنيا عندهم، وصغرت المدة التي يهددهم فرعون فيها بالتعذيب والنكال الفظيع، فأجرى الله على لسان فرعون ما ثبتهم الله عز وجل به، وذلك أنهم عندما قارنوا -بدلالة أفعل التفضيل التي تقتضي التفاضل- بعذاب فرعون عذاب الله أيقنوا أن عذاب الله أشد، وفرعون يظن أنه هو الأشد عذاباً وأبقى والعياذ بالله، فلما قارنوا وكانت المقارنة محسومة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، وهذا جواب على قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، ثم قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، وهذا دليل أن بداية ممارستهم للسحر كان إكراهاً، فلما تعودوا على الإكراه واستمرءوا الأمر أصبحوا جنوداً لفرعون والعياذ بالله.
وليس بعذر للمرء أن يختار الباطل إذا بُدئ بإكراه إذا لم يكن قلبه مطمئناً بالإيمان، فهم قالوا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، فأعلنوا أن الله عز وجل خير ثواباً وأبقى سبحانه وتعالى.
قال تعالى حاكياً قولهم: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذا وعمرهم في الإيمان ساعتان أو ثلاث ساعات، ولكن -سبحان الله- لقد خرجت هذه الكلمات المنيرة التي خلدها الله عز وجل بذكرها في القرآن العظيم منهم، وهذه الأقوال كانت مما يذكرهم بها سيدنا موسى عليه السلام، ولكنهم لم يكونوا متنبهين لها قبل ذلك، ولكن الإيمان هو الذي نقلهم إلى الإحساس بها والشعور بها فقالوا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76]، فحسن التزكية وتطهير النفس، سبب في دخول الجنة(66/4)
طريقة القرآن في تناوله لأحداث التاريخ
إن مما جعل الله عز وجل في القرآن أنه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمه للمؤمنين، فالله عز وجل يشفي به صدور المؤمنين من الآلام والهموم والأحزان، وذلك مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للمهموم، فأمره أن يدعو فيقول: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي).
ومن عظمة القرآن أنه عند طريقة تناوله لأحداث التاريخ، تشعر عند قراءتك له أنك تتجاوز الزمان والمكان، وتعيش في اللحظات المسعدة المبهجة، وكأنك واقع فيها؛ لأن الإنسان إنما يتألم ويحزن على الواقع المؤلم الذي هو فيه، وعلى قهر الرجال وغلبة الدين، وعلى الظلم والفساد، وعلى ضياع أشياء كثيرة جداً، وأهل الإيمان يكون من همومهم وغمومهم عدم التمكن من إقامة الدين، وتسلط الكفرة والمجرمين والظالمين، ولا شك أن هذا من أشد ما يؤلم أهل الإيمان، ويجعل في قلوبهم غيظاً، كما قال عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15]، وهذا ألم يحتاج إلى شفاءً، وكما يجد كل مؤمن في زماننا هذا الألم مما يفعله اليهود والنصارى والمشركون بالمسلمين في أقطار الأرض ولا يجد له شفاء إلى الآن، فلم ير ما يشفي صدره، ولهذا فإن الناس يفرحون بأي مصيبة تنزل بالكفرة حتى ولو كانت فيها مفاسد أخرى، وهذا الغيظ هو مما يفعله الكفار، وتأمل طريقة القرآن لعلاج هذا الهم والحزن، فنجد أن القرآن يتحدث عن لحظات النصر والتمكين للمؤمنين في مساحة واسعة، ومذكورة بتفصيل رائع، حتى يأخذ القرآن القلب بعيداً عن الواقع المؤلم الذي يكون فيه، ويظهر ذلك في سورة الأعراف، وهي سورة مكية، ومثلها سورة يوسف، وسورة القصص التي تناولت قصة بني إسرائيل وقصصاً أخرى.
فالقارئ تأخذه الآيات بعيداً عن هذا الواقع، وتجعله يعيش في لحظات انتصار الحق وكأنه حاضر تلك اللحظة، فهذا من أعظم أسباب السعادة وشفاء الغيظ والجرم والهم والحزن.
وإننا نشهد عبر التاريخ انتصارات متعددة، ليست خيالاً بل حقيقة، ولحظات الابتلاءات رغم أنها طويلة الزمن، ولكنها تذكر في القرآن في كلمتين أو سطرين أو قريباً من ذلك، ولحظات التمكين والنصر والعز لأهل الإيمان، رغم أنها قد تكون ساعات أو لحظات معدودة، إلا أنها تفرد بمساحة واسعة، وتذكر بأدق تفاصيلها؛ ومنها: الموقف الذي وقع فيه نصر الله عز وجل لموسى يوم الزينة، فيجد القارئ تفاصيل الموقف قد ذكرت في عدة مواطن من القرآن بأروع تفصيل؛ لتفاعل خلجات النفوس عند تفصيلها، كل لحظة بلحظتها.(66/5)
صورة من أسلوب القرآن في قصة يوسف عليه السلام
سيدنا يوسف من الابتلاء بمكان، حيث قد خلد الله في القرآن ذكره بأسلوب رائع، وذلك أنه بقي في السجن بضع سنين، ومضت المدة، وذكرت في جملة واحدة قال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42].
ولكن نرى لحظات التمكين في هذه القصة ذكرت بتفصيل دقيق من قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) [يوسف:43] إلى قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكلها تفصيل دقيق، بحيث يعيش القارئ فترة من السعادة، فيوسف في السجن والناس يحتاجونه، فلما ذهبوا إلى السجن، وسألوه عن تفسير رؤيا الملك فأجابه يوسف بكل عزة وكرم، وما قال: صفني عند الملك، ولا أعطى له سيرة ذاتية، بل قال لهم ما يحتاجونه، وما قال للسائل: أنت نسيتني عند الملك، فلماذا لم تقل له؟ بل الرجل نفسه يقول له: فسر هذا لعلي أرجع إلى الناس، يعني: يرجع ويتركه في السجن، ولم يقل للملك: أخرجوا يوسف، وإنما قال الرجل: أرسلوني أنا، حتى يأخذ لنفسه مكانة، قال تعالى حاكياً عن الرجل: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45]، فذهب إليه، وأخذ من يوسف تأويل الرؤيا، ولكن ربنا قدر ذلك؛ لتكون هذه القضايا بمثابة سلالم ومراحل يرتفع بها سيدنا يوسف.
وقد أساءوا إليه أعظم إساءة، وسجنوه سبع سنين أو خمس سنين ظلماً وعدواناً، على ما اتصف به من الطهارة والنقاء، وليس على جريمة ومع ذلك يؤول لهم شيئاً شغلهم، وليس فقط يؤول لهما الرؤيا، بل يحل لهم مشكلة اقتصادية سوف تحصل: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف:47]، إذاً فلم يخبرهم بالخطب فقط، بل أعطاهم الحل أيضاً: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47] أي: لا تأكلوا كثيراً، بل كلوا قليلاً واتركوا الباقي في السنابل؛ لأن هذا سينفعكم.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48] أي: ادخروا وتحصنوا، ثم زادهم فأخبرهم عن شيء لم يرد في الرؤيا: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف:49] وهذا مما جاءه من الوحي، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49] أي: سوف يأتي لكم فرج بعدها، والإنسان عندما يكون في بلاء ويتوقع فرجاً يكون أهون عليه، لكن لو لم يكن عنده أمل في الفرج ولا يعلم متى تنتهي مشكلته، سيكون في وضع يبقى صعب جداً، ويوسف عليه السلام أخبرهم بأنه سوف يأتي فرج دون أن يطلبوا منه ذلك، فصلى الله وسلم على يوسف، ما أحلمه وما أكرمه! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت مكانه لما أولت لهم الرؤيا -الحديث في معناه- حتى يخرجوه)، أي: حتى أشترط أن يخرجوني من السجن، والحديث فيه إرسال لكن معناه حسن، فانظروا لما كان الأمر فيه نعمة تكلمت عنه الآيات بتفصيل رائع جداً، وكلها ترفع من قدر يوسف عليه السلام.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، وهذه غير (ائتوني به) التي بعدها، لذا كان بقدرة سيدنا يوسف أن يخرج بشفاعة الخمار وأن يقول له: هناك شخص مسجون فأخرجوه، لكن الشيطان أنسى الفتى أن يذكر يوسف، وكان ذلك في الحقيقة لمصلحة يوسف، لأن خروجه بشفاعة الخمار غير خروجه بشفاعة الملك، ولذا فإن الملك بعدها قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54]، فارتفع يوسف أكثر بهذا الكلام، ولكنه مع ذلك يقول: (ارجع إلى ربك)، فأصبح السجن عنده ليس هماً أكبر، بل أكبر من ذلك طلب إثبات براءته، فكأنه يقول: إثبت براءتي قبل أن أخرج من السجن، وكان بإمكانه أن يقول: أخرجوني واعملوا الذي تريدونه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: (لو كنت مكانه لأجبت الداعي) أي: داعي الخروج.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، أي: أن ربك لا يعرف شيئاً، لكن ربي ((بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ))، ففي مملكة الملك تحصل أشياء لا يعرفها الملك، ولكن يسأل الملك ويتثبت فتفتضح امرأة العزيز بطريقة عجيبة، فعلاً إنها لحظات مبهجة للنفس، إذ أن الباطل يضمحل: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51]، ويأتي الملك بالناس والنسوة كلهن، وكأن يوسف سيدخل تهمة فظيعة: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، فسأل وعرف قبل أن يواجه الجميع؛ لأنه يقرر حقيقة وهي أنكن راودتن يوسف عن نفسه {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]، سبحان الله! وتنزيه لربنا أن يحصل ذلك من شخص بهذه المثابة، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:51] وهذه تبرئة عظيمة جداً {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51] وهذه تبرئة أكبر ليوسف عليه السلام، فهذه امرأة العزيز برأته، والنسوة برأنه، وثبتت براءته عند الملك، ولك أن تتخيل هذه الفضيحة للنسوة، وقد أنزل الله بهن جزاء وفاقاً؛ لأنهن راودن يوسف عن نفسه وكدن به، وهو قد دعا فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33]، فافتضحن أمام الملك وأمام أزوجهن، وتخيل زوج كل منهن ماذا سيكون موقفه، ولكنهم هم السبب؛ لأنهم أزوجهن الذين أدخلوا يوسف السجن وليس النساء، فكان ذلك موقفاً مخزياً للباطل ومظهراً للحق، فقارئ هذه الآيات يلاقي شيئاً جميلاً، فيجعله يستريح وهو جالس في أي مكان {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، يا للذل! إن المرأة نفسها تخجل أن تقول لزوجها مثل هذا الكلام، بل المرأة الحقيقة قد تخجل من هذا الكلام فيما بينها وبين زوجها، فضلاً عن أن تقوله أمام الناس، بل الأدهى أن تقول ذلك عن شخص أجنبي وأمام كل الملأ: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]، فهذا ذل، وقد قالت من قبل: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] فمن الذي صغر هنا؟! إنها هي التي صغرت صغاراً عجيباً.(66/6)
صورة من أسلوب القرآن في قصة فرعون مع موسى وبني إسرائيل
إن فرعون قد امتد تعذيبه لبني إسرائيل من قبل ولادة سيدنا موسى إلى بعد وجود سيدنا موسى، فهو الذي يقول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، وهذا كان بعد واقعة السحرة بزمن، أي: أقل تقدير فيه أربعون سنة، والموجود في التوراة نقلاً عن بعض أهل العلم أن المدة أربعمائة سنة والله أعلم، وأعتقد أنها مدة طويلة جداً، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وذلك التسلط والبلاء الذي لم يوجد مثله قط في التاريخ، صورة غير محتملة من التعذيب، والناس يحزنون لأنهم يدخلون السجن خوفاً من الضرر، والطفل الذي يولد يقتل ويذبح أمام أمه، بل {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4] أي: للخدمة، فتخيل اليوم الكفرة عندما يقتلون أولاد المسلمين خوفاً منهم، أو يأخذون بعض النساء كالعراقيات أو الفلسطينيات في إسرائيل ليخدموا من في بيوت اليهود، ويقيدونهن في بيوتهم، أيضاً المسلمون في معظم البلاد الإسلامية يتعرضون لانتهاكات كثيرة، وفرعون كان يقتل أولادهم الذكور، ولم يقل: هذه السنة سوف نعفي الناس من ذلك، وكلمة (ويذبح) أشد من يقتل؛ لأن في الذبح تعذيب للنفس الإنسانية، ويصعب على الشخص أن يرى ابنه يذبح، وسيدنا موسى جاء الذباحون معهم السكاكين، ولهذا فإن أم موسى ألقته في اليم، وكان ذلك أهون عليها من أن تراه يذبح أمامها.
ومكث فرعون على ذلك مدة طويلة، ولكن الله ذكرها في جملتين، وأما لحظات النصر من أولها تطول وتكرر، وأسرار التكرار في القرآن شأنها عجيب جداً؛ لأن كل موضع مختلف عن الموضع الثاني، فيأتي لك بأجزاء من القصة، بحيث تجد فيها تفصيلاً غير التفصيل الآخر، فتعرف في النهاية مجمل المسائل التي حصلت.
قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] فحدد ذلك التوقيت، وهو يوم الزينة عند اجتماع الناس في وقت الضحى.
قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60]، وتخيل الموقف إذ فرعون آتٍ بأبهة وغرور، فحضر الملك والجنود والسحرة والوزراء وكل الناس {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء:39]، وهناك إعداد نفسي: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40] أي: هم الذين سيغلبون فنتبعهم، وقد جاء الحوار في سورة طه وفي غيرها، وتفاصيل هذا اليوم مذكورة بالتفاصيل؛ لأنه يوم نصر وعزة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61]، فكرر عليهم هنا موسى الدعوة مرة أخرى، وهذا هو المقصود أصلاً من الدعوة إلى الله عز وجل، وإن كان جمع الناس ليبين لهم معجزة مادية، ولكن قبل ذلك لا بد من الكلام المعنوي المهم، وهو التذكير بمعاني الإيمان والدعوة إلى الله عز وجل: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:61 - 62].
فلمجرد أخذ رأي ثان ترددوا قليلاً، وفي هذا دليل على أن الباطل ليس مستقراً، بل هو مزعزع؛ لأنه دائماً يسير في طريق القطيعة، ويتبعه ضعفاء الإيمان الذين تقال لهم الكلمة فيذهبون وراءها دون عقيدة راسخة.
قال تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:62 - 64].
ومثله في سورة يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) [يونس:78].
فسيدنا موسى يريد أن يقول: هل تتخيلون أن الناس كلهم مثلكم، وأن القضية بالنسبة لهم: من الذي له الكبرياء؟ أو من هو المستعلي على الآخر؟ وكان سيدنا موسى يمكن أن يتهمهم كما يتهمون أهل الإيمان دائماً أنهم يريدون الرياسة والملك، ولا يريدون الدين، أو أنهم يريدون الكبرياء في الأرض، ويريدون أن يتفضلوا على الناس.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، فقال: (بل ألقوا).
وفي سورة الأعراف قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:113 - 115].
وهذا دليل على أنهم بمجرد ما سمعوا من فرعون ذلك الوعد استعدوا للمواجهة، وقالوا: ألق يا موسى! ونحن سنلقي: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا} [الأعراف:115 - 116] وهذا أمر، وفى سورة طه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] ففي الآية الأولى: (ألقوا) أي: أنتم، وهذا استهانة بهم وتحقيراً لشأنهم.
وتلك لحظات عظيمة جداً أفردت بمساحة واسعة جداً في الذكر؛ حتى تشفي صدور المؤمنين من فرعون، فهو الظلم الغشوم، وهو إمام يدعو إلى النار، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن أبي جهل: (هذا فرعون هذه الأمة) أي: أن كل أمة لها فرعون، ففرعون شخصية طاغية متكررة الأوصاف قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] أي: بسلوكه وعمله، أما هو فقد مات، لكن طريقة فرعون ومنهجيته في الظلم مسجلة في التاريخ، ولها أناس يمشون عليها، وسيغرقون نفس غرقه والعياذ بالله من الهلاك.
فمن شفاء القرآن لما في الصدور أن اللحظات العظيمة تذكر بالتفصيل، وهذا يبهج النفوس المؤمنة، ويذكرها بأيام الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]، فالتذكير بأيام الله من أعظم أسباب الثبات على الحق؛ لأنه هناك لحظات من أيام لله عز وجل قد ينطفئ فيها الإيمان وتمكث مدة طويلة، حتى إن الأمة تضجر، وتقول: متى تأتي لحظة الفرج؟ فعندما تتذكر أمثالها من أيام الانتصار والفرج تهون مصائب الطريق، ويهون البلاء، ويمر سريعاً دون أن يؤثر في النفس المؤمنة.
وقصص الأمم السابقة التي أخبر الله عنها لم تكن عربية، وإنما الخطابات في القرآن هي ترجمة أو لمعاني كلامهم بأدق شيء، وهذا من إعجاز القرآن، فهذه الكلمات التي وقعت وعبر عنها بهذه الدقة البالغة، فالمعاني كانت موجودة في ألسنتهم لكن لا يوجد أحد يترجمها من البشر بهذه الطريقة القرآنية أبداً، فذكرت هذه الألفاظ لبيان تلك المعاني بأكمل وجه.
وتفاصيل القرآن للقصة الواحدة في عدة مواطن له حكم وفوائد وأسرار عظيمة، فهي ليست مجرد تكرار عادي، وفي بعض المواطن تكرار ظاهري فقط، فمثلاً: السحرة كانوا عدة آلاف، وقد يكون بعضهم قالوا: (أئن لنا مرة)، ومرة أخرى قالوا: (إن لنا) فكل هؤلاء يريدون أن يظهروا تبعيتهم لفرعون، ولا مانع أيضاً أن يكون بعضهم قال: (رب موسى وهارون) وبعضهم الآخر قال: (آمنا بربنا) فحكى الله القولين.
وبعضهم قال أيضاً: (رب هارون وموسى) فبعضهم قدم اسم موسى وبعضهم قدم هارون، فمن قال: (هارون وموسى) فهو قاله مراعاة لسيدنا هارون، لأن سيدنا هارون أكبر في السن، ومن قال: (موسى وهارون) راعى موسى من جهة الدين.(66/7)
فتنة بني إسرائيل
بعد أن من الله على بني إسرائيل بأن أنقذهم من فرعون أمر الله موسى أن يخرج بهم جميعاً لوعد الله، فتقدم موسى وكلمه ربه، فكان سيدنا موسى في قمة السعادة وهو يسمع كلام الله عز وجل، ومن شدة الشوق إلى الله سأل الله عز وجل النظر إليه وقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُر إِلِيْكَ} [الأعراف:143]، ومكث سيدنا موسى أربعين ليلة يصوم نهارها ويقوم ليلها، وتخيل سيدنا موسى عليه السلام الذي أنزل الله عليه الوحي ويصوم النهار ويقوم الليل ماذا سيفعل الأربعين يوماً فيه؟! بلا شك أن الإنسان سيجد في نفسه اختلافاً عند صيام النهار وقيام الليل، فوجد في نفسه حالة عظيمة جداً من الشوق إلى الله عز وجل، إضافة إلى ذلك أنه يسمع كلام الله، فلم يتحمل موسى لترك هذا الطلب مع أنه طلب، ولكنه من شدة الشوق قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال ذلك شوقاً إلى الله وحباً له عز وجل، ونتيجة للعبادة العظيمة المتواصلة أربعين يوماً، وعجل سيره ليرضى الله عز وجل عنه، وإذا به يسمع هذا الخبر المؤلم؛ والله سبحانه وتعالى يبتلي عبادة بما شاء، فهذا ليس منافياً لكرامة سيدنا موسى عند ربنا، لكن الله سبحانه غضب؛ لأن أتباع موسى وقعوا في الفتنة.(66/8)
غضب موسى من ضلال قومه
قال تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85] وإذا بسيدنا موسى يصاب بحالة غضب وأسف، وحزن شديد جداً، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150]، والعجيب أنهم ما كانوا متمسكين بالعقيدة كتمسكهم بسيدنا موسى، فأخذ سيدنا موسى العجل وحرقه ونفثه في البحر، وهم سامعون مطيعون، وسيدنا هارون قد قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، وكادوا يقتلونه والعياذ بالله وقالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] وإذا بسيدنا موسى من شدة الغضب يريد أن يعمل شيئاً، فأمسك بأخيه هارون؛ لأنه كان في ظنه أن هارون مقصر، ولم ينصح القوم مع أنه نبي مثله ورسول، فألقى الألواح ليتفرغ لذلك، ولم يلقها إهانة لها، بل ألقاها كشخص في يده شيء، ويريد أن يتخاصم مع شخص فيرى ما في يده، وما فعله موسى كان غضباً لله عز وجل، كيف أن سيدنا هارون تركهم، (وأخذ بلحيته) وكان سيدنا موسى قوياً، فإذا به يجره إليه من شدة غضبه لله عز وجل، وسيدنا هارون أكبر منه سناً، لكن من شدة الغضب لله عز وجل، فعل ذلك {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93]، وسيدنا هارون كان لديه طريقة جميلة للرد (قال يبنؤم) أي: أنه ابن أبيه وأمه، ولكن تذكيره له بصلة الرحم من جهة الأم هنا أنسب؛ لأن الأم الرقيقة الحنونة التي رعت سيدنا موسى وضحت من أجله، وفي سورة الأعراف: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فكان بهذه الطريقة أن سكن غضب موسى، ودعا واستغفر لأخيه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:151]، فبدأ بنفسه؛ لأنه هو الذي أخذ أخاه وجره إليه، وقد قال له هارون: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).
وأتى له بعدة أعذار منها: أنهم كادوا أن يقتلوه ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي))، ومنها: لكيلا يشمت به الأعداء ((فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ)) ومنها: عملك هذا سوف يجعلهم يقولون: إني ظالم، وأنا لم أظلم، ((وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) فلا تعاملني معاملة الظلمة، ومنها كما في سورة طه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فموسى لو كان مكان هارون فسوف يأخذ المؤمنين ويترك الكفرة، فرأى سيدنا هارون أن المصلحة تقتضي أن يجعل بني إسرائيل في مكان واحد، لا أن يتفرقوا، وهو قد دعاهم إلى الله، والله قد شهد له أنه بلغ، كما قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90]، فهو لم يقصر في الدعوة، ولا في إنكار المنكر، ولكنهم لم يستجيبوا له، ولديهم تبعية عجيبة لسيدنا موسى، وتبعية لما يقولونه حيث يسمعوا كلامه في قتال الجبابرة، فسيدنا هارون أتى بحجج متعددة: عدم استجابة بني إسرائيل، وأنه مستضعف، وأنهم كاد أن يقتلوه، وأنه قد بلغهم فعلاً ولم يكن من الظالمين، وأنه يجوز إشمات الأعداء به، فهنا لان موسى عليه الصلاة والسلام، وخصوصاً عندما ذكره أنه ابن أمه، وهذه طريقة جميلة لتسكين غضب الأخ.(66/9)