إبراهيم عليه السلام والدعوة إلى الله
إن إبراهيم عليه السلام أمة وحده، اجتهد وجاهد في الدعوة إلى الله، دعا أباه وقومه إلى طريق النجاة بتوحيد رب الأرض والسماوات، خالطهم وصبر على أذاهم، ثم اعتزلهم وجفاهم بعد أن قذفوه في النار، فنجاه العزيز القهار، ولما تبين له أن باه عدو لله تبرأ منه، فإبراهيم أسوة حسنة لكل من جاء بعده لاسيما الدعاة إلى الله.(1/1)
جهود إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:41 - 50].
فإذا اتخذت إلى الله سبحانه وتعالى سبيل الأنبياء والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد وأن تكون سائراً بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومستعداً لعدم قبول دعوتك؛ فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام استعمل أرفع الأساليب، واستعمل الحجج العقلية، والمؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، وأحسن الأدب مع أبيه، وترفق به أعظم ترفق، وترقق له وأحسن إليه، وأبوه آزر يصد عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح لأي حجة عقلية، كما في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
ولا لوجدانية عاطفية لما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، يذكره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله، يرجيه ويخوفه ومع ذلك لا يتذكر، يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان وعبادته له، وألا يقترب منه فيكون له ولياً، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة معه ولا بعده أبداً.
إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه).
فليس بالضرورة أن تظهر ثمرة الدعوة في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين، ولو كان حتى من الأقربين، فالنور الذي عند إبراهيم عليه السلام يكفي لهداية البشرية، وقد امتد نوره عبر الزمان والمكان، وانتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله عز وجل منسوبة إليه، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، ولله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ذلك، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العباد أن الله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.(1/2)
قطع إبراهيم لعلاقات الولاء مع أبيه
القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصرفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال: (ألا إن آل فلان ليسوا بأوليائي إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين).
وكذلك لتتحقق عقيدة الولاء والبراء اعتقاداً وعملاً وسلوكاً في موقف إبراهيم عليه السلام من البراءة من أبيه في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
وفي الآخرة يتبرأ منه أيضاً كما ثبت في صحيح مسلم (أن إبراهيم يلقى أباه آزر فيقول: يا أبت ألم أكن أنهك؟ فقال: يا بني إني لا أعصيك اليوم، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أب أبعد، فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين -أي: حرم الجنة على الكافرين- فينظر إليه فإذا هو ذيخ متلطخ -أي: فإذا هو قد مسخ ضبعاً متلطخاً بعذرته- فيؤخذ بقوائمه الأربع فيلقى في جهنم)، فيتبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه في الآخرة كما تبرأ منه في الدنيا، ولقد جعل الله عز وجل صورة أبيه المعذب في صورة ضبع متلطخ بنجاسته حتى لا يتأذى إبراهيم بصورة أبيه الذي يعرفه وهو يعذب في النار، نسأل الله العافية.
فالله عز وجل أعلم بالمهتدين، ولقد قدر الله عز وجل أن يوجد في أسر كثير من الأنبياء من لا يؤمن، حتى تتحقق هذه القضية وغيرها من الحكم، فقضى سبحانه وتعالى بحكمته ألا يؤمن ابن نوح رغم أنواع الدعوة التي استعملها معه نوح عليه السلام من الترفق له والدعوة باللين، والتذكير بالبنوة التي تربطه به، وتذكيره بالآخرة، ورؤيته للآيات الباهرة المعجزة الحسية الظاهرة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية القاهرة لعقل أي مشرك معاند، ومع ذلك ما آمن ابن نوح وهو أحد أعمام هذه البشرية التي توجد الآن على ظهر الأرض؛ ومع ذلك فالكل يتبرأ منه، بل نوح عليه السلام استغفر ربه من سؤاله عنه.
وقدر الله عز وجل أيضاً وجود امرأة نوح وامرأة لوط في أسرتين من أسر أنبياء الله عز وجل، وقدر سبحانه وتعالى ألا يؤمن أبو لهب وأبو طالب عما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقدر الله عز وجل أن يكون كثير من أقارب أهل الإيمان من الكافرين؛ لتنفصل الروابط الدنيوية وتبقى رابطة الدين، فإن الله سبحانه ما أذن لهم حتى في الاستغفار لذويهم، قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114]، وانفصلت وانقطعت وزالت روابط الأسرة الواحدة وبقي الإحسان.
هذه الروابط التي تنفصل هي روابط المودة والموالاة، وهذه إنما تكون على الدين وطاعة الله واتباع أمره، وأما إذا لم يكن هناك هذا الدين الواحد الذي افترض الله على الخلق جميعاً أن يتبعوه؛ فلا بد من العداوة والبغضاء.
قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].(1/3)
تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله
قال سبحانه وتعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:46]، بعد أن أعرض عن كل الحجج، بل صار منكراً على إبراهيم عليه السلام، اندفع يستنكر عليه: كيف يرغب عن آلهته التي يصنعها، وكان فيما يذكرون ينحت هذه الأصنام لقومه والعياذ بالله.
فإبراهيم كان راغباً عن الآلهة التي تعبد من دون الله، والرغبة في الله لا تحصل إلا بالرغبة عن آلهة المشركين، وتوحيد الله عز وجل لا يحصل إلا بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، فلا يبنى الإسلام إلا على أنقاض الجاهلية والشرك، فلا بد أن تهدم هذه الجاهلية وهذه العقائد الفاسدة في النفوس كما تهدم في الواقع؛ ذلك أنه لا تتحقق دعوة التوحيد في قلب إنسان وهو يقر بعبادة غير الله.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]، وليس ولوده على ملة أخرى بمقتضٍ لصحة منهجه طالما كان يعتقد صحته كما يقول الزنادقة والمنافقون الذين يصححون مللاً غير ملة الإسلام، ويرونها حقاً كما أن الإسلام حق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فهم أبو إبراهيم وأيقن أن إبراهيم راغب عن آلهته، فصار يتوعده ويتهدده: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46].
قيل: لأشتمنك، وقيل: لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ ذلك أنه كان يؤذيه بالكلام، فالظاهر أنه كان يريد أن يزيد على تلك الأذية بالفعل، قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46]، كما قالها قوم نوح عليه السلام لنوح عليه السلام حتى يترك الدعوة إلى الله عز وجل، وكما يقولها كثير من الآباء والأقارب وأهل القوم والوطن والجيران والمعاملين لمن يدعو إلى الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46] {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، وقالها قوم لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167]، وقالها قوم شعيب لشعيب عليه السلام: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، وقالتها الأقوام لرسلهم، فدائماً كانوا يهددونهم بالإخراج من الأرض، وغير ذلك من أنواع التهديد، وقالها فرعون لموسى حين قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، فلابد أن يتوقع الداعي إلى الله سبحانه وتعالى أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة، ولكن هذا لا يثنيه ولو فعلوا ما فعلوا؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما استطاع، وبكل ما أمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأنه يركز فكره في يوم القيامة، ويخاف وعيد الله عز وجل أكثر مما يخاف وعيد الناس.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14].
فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة ولانتقائه للشخص والمكان قد يختلف، فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلد فيتجه إلى بلد أخرى، كما هاجر إبراهيم عليه السلام وذهب إلى ربه، فأبدله الله سبحانه وتعالى خيراً من قومه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
واعتزلهم بعد حين بعد أن بلغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتولى عنهم فما هو بملوم، كما أمره الله فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54].
فمن أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وأصر على الإعراض، وذكر مرة بعد أخرى، فلينشغل الداعي إلى الله عز وجل بغيره، وليبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته إلى الله، إن عجز أن يقيمها وأن ينشرها في مكان ما.
قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: اهجرني طويلاً طالما بقيت على ذلك.(1/4)
التلطف في الدعوة مع المدعوين
أوذي إبراهيم باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل، ولم يكن من إبراهيم عليه السلام رد عليه، وهكذا يوطن الداعية نفسه أن لا ينتصر لنفسه {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، ليس هذا من باب التحية ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان.
أي: ستسلم مني وأنت مني في سلام، وليس معنى ذلك: التحية ولا أنه قصد التحية التي لا يشرع أن يبدأ بها الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راسل ملوك الكفار لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وليست هذه بتحية لهم لأنهم ليسوا ممن اتبع الهدى، لأن التحية إكرام والكافر ينبغي أن يهان، بمعنى: ألا يعظم ولا يبجل ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم والمدح، وإنما يبين حقارة مذهبه، وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو بالتحية ردت عليه كما شرع الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم).
أما أن يبدأهم بالتحية فلا، ولذا لم يكن هذا من باب التحية من إبراهيم، وإنما معنى الكلام جملة يخبر فيها إبراهيم أن أباه سيسلم منه، فلن يرد الأذى بأذى، ولن يرد الكلمة السيئة بكلمة مثلها، ولن يرد التهديد بالتهديد.
وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله عز وجل طريقك في الدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
فهذه منزلة لا يلقاها ولا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم، وهي أن يقابل الإساءة بالإحسان، وكما قال ربنا سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، حتى يشرع الله عز وجل الانتصار لدينه، ويمكن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله عز وجل به بالقوة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، وأما قبل ذلك فإنه يشرع الصبر والاحتساب، يشرع أن يصبر وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، كما قال عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وقال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
فينبغي لك أيها المسلم أن تعامل الناس بذلك، وهذا من أعظم ما يكسبك قبول دعوتك الحق؛ بالسلوك الطيب في الناس، فإنك إذا واجهت كل إساءة لك بإساءة مثلها، وعاقبت دائماً بمثل ما عوقبت به لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول من صبر واحتسب، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
فالله عزم على عباده المؤمنين في ذلك، وأكد عليهم، وأمرهم سبحانه وتعالى بالصبر والعفو والصفح، وجعل لهم في الأنبياء الأسوة الحسنة حتى يقتدوا بهم؛ في ألا يقابلوا الإساءة بالإساءة، ولكن يعفو ويصفح.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: (ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حتى مع الكفرة قبل أن يسلموا، يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف بالمسلم، وكان ذلك من أسباب إسلام كثير منهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة وقد تمكن منهم، وهم الذي قاتلوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه، وقتلوا أولياء الله عز وجل وخيرة أهل الأرض، ومع ذلك فلما تمكن منهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
وكان من أسباب إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن إليه، ومن عليه حين أسرته خيل المسلمين، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، (فقال: ما عندك يا ثمامة؟!) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فيتركه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتالية، ثم بعد ذلك يقول: (أطلقوا ثمامة)، فيطلق ثمامة وقد تحول وتغير وصار إنساناً آخر، فينطلق وهو سيد قومه، ومن حقه أن ينصرف إلى ما كان يريد، وإلى وجهته، فينطلق إلى أقرب بئر في حديقة، فيغتسل ويرجع، فيشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: والله يا رسول الله ما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح أحب الدين إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، وقد أصبح أحب البلاد إلي.
فانظر كيف يثمر الإحسان، وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس، وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تقد القلوب إلى الإيمان بفضل الله عز وجل، ويتأكد ذلك تأكيداً شديداً مع الوالدين، وذلك أنه لا يشرع في الإنكار على الوالدين التغليظ والتعنيف؛ فإن الله عز وجل قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وهذا عام، ولذلك خصص العلماء به أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: لا يتجاوز مع الوالدين إلى درجة التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فلم يجعل سبحانه وتعالى الكفر سبباً لنسخ الأمر بالإحسان بل الأمر بالإحسان للوالدين باق ومستمر حتى مع كفر الوالدين فضلاً عن فسقهما؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، أو أمرا بمنكر؛ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله عز وجل وتعظيماً لأمره، ولكن في نفس الوقت لا تسيء المعاملة بل تحسن إليهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].(1/5)
حكم الاستغفار للمشركين
قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، فلم يجابه السيئة بالسيئة بل بالحسنة، وزاد أنه استغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حياً، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه، ولذا قال إبراهيم: سأستغفر لك، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر، كما قال ربنا سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة:114] أي: بأن مات كافراً؛ {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً للوعد، وكان في فترة الحياة، ويجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).
فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء، وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله عز وجل في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا يحصل نفعه للكافر إلا إذا تاب وهداه الله عز وجل؛ فإنما يغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله عز وجل الدخول في الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فأما إذا مات مشركاً لم يجز الاستغفار، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة له وهو على كفره، وإنما ورد الاستغفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن اليهود كانوا يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يشمتهم بقوله: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم).
والاستغفار بمعنى طلب الهداية؛ ولذلك لا يشرع طلب الرحمة للكافر حال كفره ولو كان حياً، وإنما تطلب له المغفرة، لأن ذلك فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه تبيين أنه على خلاف الهدى، ولذا يدعى له بالهداية وبالمغفرة بأن يتوب الله عز وجل عليه.
ومن هذا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36].
قال الله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم عليه السلام لمعاني صفة الله عز وجل، واستحضاره لنعمه عليه خاصة.
وقال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، ولم يقل: ربك، أو ربنا، أو رب العالمين، وإنما قال: ربي، لشعوره بهذه الخصوصية بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
هذه الخصوصية بهذه العبودية الخاصة، وأنه كان به حفياً، أي: عوده الإجابة، والمؤمن إذا تذكر إجابة الله عز وجل لدعواته التي دعا بها كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وطلب مزيد الفضل من الله سبحانه وتعالى، فإنه عز وجل حفي بعباده المؤمنين، وهو سبحانه حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم، فقد عودهم أن يجيبهم، وأن يصلح شأنهم وأمرهم، وأن يتولى أمرهم بنفسه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك قال: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وختم الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبين لك أهمية هذه المسألة، وهو أن يكون العبد متعلقاً بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، متذكراً نعمته، مثنياً عليه سبحانه، مستحضراً خصوصية عبوديته لله عز وجل، وأن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس، كما قالها يعقوب عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62].
وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيراً في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله عز وجل ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يحضر قلوبهم بين يديه سبحانه وتعالى، مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون، ولكل ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، غيبه وشهادته، ويستحضرون أن الأمر من عنده لا من عند الناس، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
سبحانك اللهم وبحمدك.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا، وللمؤمنين والمؤمنات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.(1/6)
العزلة وضوابطها
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، عندما تصل الدعوة إلى الله عز وجل إلى مداها بأن تبلغ البعيد والقريب والقاصي والداني، وتقام الحجج ويستمر الكفرة على إعراضهم -وإبراهيم عليه السلام دعا إلى الله عز وجل حتى وصل إلى هذه الغاية- فعند ذلك يشرع الاعتزال.
قال: ((وَأَعْتَزِلُكُمْ)) أي: يفارقهم، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجاه الله عز وجل منها، فإبراهيم دعا أباه وقومه، وبين لهم، وأقام عليهم الحجج، وما وجد منهم إلا التكذيب والأذى، والاضطهاد الفظيع، وألقوه في النار فعلاً، فكانت نجاته بأمر الله سبحانه وتعالى.
فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم عليه السلام، واعتزال أهل الباطل واعتزال باطلهم سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إلى غايتها، وظلوا على إعراضهم، وهذه العزلة يجب منها قدر معين في كل وقت على كل مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل وعقائده وسلوكه.
فهذا قدر واجب على مر الزمن، فلا تبيح له قرابته، ولا مواطنته، ولا قوميته لقومه أن يشاركهم في باطلهم، وإنما أباح الله عز وجل موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط، وما أباح ذلك لمصلحة ولا لمداهنة ولا لأمور متوهمة، ولا لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية أو قومية أو غير ذلك، فما أجاز الله أن يوافق الإنسان على الكفر والباطل والمعاصي إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
فلا يجوز لمسلم أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم، وأن من عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم، أو أوضاعهم، أو عاداتهم أو تقاليدهم، لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعاً، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطراً لذلك إذا قرروا ذلك، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر؛ بأن يوجد تهديد بقتل، أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس وقيد أو إتلاف مال، أو نحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في قبول هدية أو نحوها.
وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، فلا يعتبر السجن مثلاً إكراهاً على الزنا في حق الرجل ولا في حق المرأة، فلو حبس سنين على أن يزني مثلاً ما كان ذلك معتبراً شرعاً، وأما القتل والتهديد به، وغلبة الظن بحصوله، أو التعذيب الشديد، كما وقع لـ عمار فمبيح لذلك، فهذا قدر واجب من العزلة.
فإذا لم يستطع أن يقيم دينه إلا بأن يفارق أهل الباطل ودارهم، وجب عليه ذلك، وكذا مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثير من الناس، فإن مصاحبته للكفرة والظلمة والعصاة والفسقة والمجرمين تهيئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم من باطنه قبل أن يكون من ظاهره، والعياذ بالله من ذلك.
فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه تقوده في خلطته لقرناء السوء إلى موافقتهم؛ وجب عليه فوراً مفارقتهم، بل لا يجوز له أن يقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم، ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله عز وجل، وينكرون الشرك والكفر والفسوق والعصيان، ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان إلا لغرض شرعي صحيح، كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو لمصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيماً لأجل دنيا يصيبها، أو أهل أو مال أو ولد، فهذا ممن يقال له: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97].
طالما كان عاجزاً عن إقامة دينه متأثراً بحالهم، وهو لا شك يتأثر، فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم التأثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، ومن لم يتمعر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح، فهذا الذي يبدأ به، فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله سبحانه وتعالى، ولا يكون صالحاً، وإن كان يظهر الصلاح، أو يفعل في نفسه الصلاح؛ فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله، يعتزل الباطل، فلا يفعله ولا يعتقده ولا يرضى به ولا يقره، وكذلك لا يصاحب أهله، ويعتزل أهله فيفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.(1/7)
جلب الدعاء لأسباب السعادة
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] أي: ما يدعون من دون الله من آلهة باطلة، {وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم:48]، أفرده بالدعاء الذي هو العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).
قال تعالى: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، والدعاء من أعظم أسباب السعادة، فمن دعا الله عز وجل، بأن دعاه إلهاً واحداً لا شريك له، ودعاه لقضاء حوائجه، وأثنى عليه بما هو أهله، فهذا يسعد في الدنيا والآخرة، وعسى: محققةٌ من الله تعالى، وهي على ألسنة أنبيائه منه سبحانه وتعالى.
فلذا قال: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، وكما قالها زكريا عليه السلام: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، فلا يشقى إنسان مع الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب الراحة والنجاة والسعادة والفوز والفلاح، فلا يتركه إلا جاهل، وهو السلاح الأعظم الذي ننتصر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟!).
أي: بدعائهم، وتضرعهم، وانكسارهم، ومن حكم تقدير الله عز وجل بالبلاء على المؤمنين: أن تنكسر قلوبهم له، ويستشعرون فقرهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فيكثرون من الدعاء، وهم مستشعرون أن ليس لهم إلا الله، ولا سبيل لهم إلا بالتوجه إليه سبحانه وتعالى، وأن ليس لهم من دونه من ولي ولا نصير، وأنه سبحانه وتعالى مولاهم، ولا يوجد لهم مولى سواه، وأهل الأرض جميعاً قد تركوهم، بل قد اجتمعوا عليهم، ورموهم عن قوس واحدة، فقدر الله ذلك لتلتجئ القلوب إلى الله، وتصعد الأدعية إلى الله، ولا يشقى مع الدعاء أحد إلا من حرمه الله، ونسأل الله ألا يحرمنا دعاءه وإجابته بفضله سبحانه وتعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم مكن لكتابك ودينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين.
ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.(1/8)
اجتماع الأحزاب
يقف الكفار من دين الله تعالى موقف العداء والبغض والحقد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم، ويسعون جاهدين للمجادلة بالباطل ليدحضوا به الحق، وهم على مر الزمن لا يجدون فرصة للقضاء على دين الله إلا انتهزوها، بل لقد همت كل أمة منهم برسولهم ليأخذوه، والله تعالى لهم بالمرصاد، وهو ناصر دينه ومعز أوليائه، ولذا كان على المسلم أن لا يغتر بفتنهم وسلطانهم وتحركهم في الأرض، فإن ذلك كله بلاء، والمعتصم بربه مهدي إلى صراط مستقيم.(2/1)
تعريف الله تعالى عباده ببعض صفاته العلى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فيقول الله تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:1 - 4].
إنه لا بد أن ينتبه أهل الإيمان إلى أن الله عز وجل أثنى على نفسه، بأنه غافر الذنب وقابل التوب، وأنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، لكي يرغب العباد إليه ويرهبوه.
وأخبر سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب من عنده، وأنه هو العزيز العليم سبحانه وتعالى.
ورغب العباد في رحمته ومغفرته وتوبته عليهم إذا تابوا إليه، ورهبهم من عقابه، وامتن عليهم بفضله ومنه، لا إله إلا هو، أي لا معبود بحق سواه، فلا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق سواه، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] وهو العزيز العليم سبحانه وتعالى، إليه مصير هذه الدنيا بأسرها، ومصير العباد كائن إليه عز وجل ليحاسبهم، فمن أيقن بلقاء الله عز وجل عمل لهذا اليوم.(2/2)
مجادلة الكفار في آيات الله ونهي الله عباده عن الاغترار بهم
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الكفار يجادلون في آيات الله، فهم يريدون رفضها وعدم العمل بها وعدم انتشارها.
فالذين يحاربون الإسلام هم الكفرة المعرضون الذين يمنعون ظهور القرآن ولا يحبون انتصار آياته البينات، ويكرهون أن يعلو أمر الله عز وجل في بقعة من الأرض، وأن يظهر أهل الإيمان الذين إذا مكنهم الله عز وجل أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
ما أكثر من يكره التمكين لدين الله عز وجل! فيكره أن تقام الصلاة وأن تؤتى الزكاة، وأن يؤمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر! فبين عز وجل أن هؤلاء يتقلبون في البلاد، فلا يجوز أن يغتر الإنسان بهم، قال تعالى: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].
فلا يغررك تمكنهم وسلطانهم أيها العبد المكلف، والخطاب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة حين لم يظهر الإسلام في أرض من البلاد، ولم يتكون بعد ذلك المجتمع المسلم الذي تعلوه شريعة الله سبحانه وتعالى ويعظم فيه أمره وكلامه، ويقدم فيه هدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما أكثر من يغتر بتقلب الكفار في أنواع النعم في مشارق الأرض ومغاربها! وما أكثر من يرى الدولة لهم فيتابعهم على باطلهم فيكون -والعياذ بالله- واحداً منهم بموالاته لهم، ورضاه عنهم، ورغبته في ظهور كلمتهم، أو بمجرد متابعته لهم في المجادلة في آيات الله سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك.
والذين يغترون بسلطان الكفار وتقلبهم في البلاد هم الذين خبثت قلوبهم، فأراد الله عز وجل أن يميز الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37].
هكذا قدر الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته أن يميز أهل الإيمان وإن كانوا في فترة من الفترات فيما يبدو للناس لا يملكون الدفع عن أنفسهم، ولا يملكون أرضاً من البلاد يعلون فيها منهجهم ويظهرون فيها دينهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يقدره لكي يغتر من يغتر ولكي ينتبه من ينتبه {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4].(2/3)
تكذيب الأمم السابقة لرسلهم
يقول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر:5].
هؤلاء الأحزاب اجتمعوا وتألبوا وكانوا طوائف مختلفة، فاتفقت كلمتهم على محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فقوم لوط وقوم عاد وثمود والمؤتفكات هؤلاء الأحزاب اجتمعوا على رسلهم، وهكذا في كل زمان يقدر الله عز وجل اجتماع أحزاب من أحزاب الكفر والضلال لكي يحاربوا دين الله سبحانه، وجعل رءوسهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين رغم اختلافاتهم الكثيرة، ورغم كونهم من ملل شتى ومن قوميات شتى وأجناس شتى، يجتمعون ويتحزبون.(2/4)
تجمع الأحزاب لحصار الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه
ما أشبه الليلة بالبارحة! فانظر إلى الحصار الذي فرضه المشركون من قريش وغطفان ومن تابعهم من القبائل العربية المختلفة ومن ظاهرهم من يهود بني قريظة، ومن بقي من يهود بني النضير في خيبر ومن دعا منهم في جمعه هؤلاء الأحزاب، حتى اجتمعوا جميعاً لحصار المسلمين في المدينة وجاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، جاءوا حول المدينة من جهاتها، وعند ذلك اشتد الكرب ونجم النفاق وظن الناس الظنون المختلفة، فظن المنافقون أن الإسلام مستأصل، وأن الإسلام يزول، وظن المؤمنون بالله عز وجل أن ينجز لهم وعده سبحانه وتعالى، وأن يفي بوعده لهم ولنبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
اجتمع هؤلاء الأحزاب بمؤامرة اليهود كما اجتمعت الأحزاب من قبلهم على رسلهم، اجتمع هؤلاء الأحزاب رغم كونهم قبل ذلك كانوا لا يتفقون على رأي، بل كان بعضهم يقاتل بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، حتى اليهود كانوا قبل الإسلام يتقاتلون ويتحاربون، كما قال عز وجل عنهم فيما بين من فضائحهم بعد ذكر أخذ ميثاقهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:84 - 85].
فبين سبحانه وتعالى أنهم كانوا يتقاتلون فيما بينهم، ولكن عندما جاء الإسلام اجتمعوا على حربه، وهكذا المشركون ما كان لبعضهم على بعض سيادة ولا إمارة، بل كانت العرب متفرقة على الدوام متقاتلة متحاربة؛ لكن عندما ظهر الإسلام اجتمعوا على حربه! وهكذا إذا نظرت فإنك تجد اليهود والنصارى أعداء على مر العصور، ولكنهم في زماننا يجتمعون وينفق بعضهم على بعض، ومعهم من لا دين لهم كذلك من بقايا الشيوعيين والمشركين عباد الأوثان، وعباد الشياطين والعياذ بالله من ذلك، فاجتمعوا كلهم على حرب الإسلام، ومعهم المنافقون، فكلهم أعداء، ومع ذلك يجتمعون إذا ظهر الإسلام.
ألم تكن طوائف من المنافقين تتفاخر عبر عشرات السنين بأنها حرب على اليهود وعلى الاستعمار وعلى الغرب، ثم بعد ذلك تنحني الجباه وتركع الرءوس، وربما سجدوا لأعداء الله سبحانه وتعالى أو كادوا يفعلون، والعياذ بالله من ذلك.
هكذا تجتمع الأحزاب ضد الإسلام وأهله، وتنفق الأموال ببذخ وسخاء، وتخرج الخزائن من هذه الأموال ممن لا يجدون طعاماً يأكلونه ولا ملابس يلبسونها، فإذا وجه أعداء الله رصاصهم وقنابلهم لأهل الإسلام أغدقت الأموال بما لا يحصيه أحد منا، ولا يراه، وإنما يحصيه رب العباد سبحانه وتعالى.
فهكذا تتحزب الأحزاب وهكذا يكذبون الرسل.
وقد قدر الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الاجتماع لحرب الدين يكاد يصل إلى غايته، ففي يوم الأحزاب أوشك الكفار أن تتم خططهم بنقض يهود بني قريظة العهد وباتفاقهم معهم على أن يقتحموا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كانوا ثلاثة آلاف في أول حفر الخندق، ولكنهم نقصوا حتى وصلوا إلى سبعمائة بعد ذلك، وانسحب من في قلبه النفاق الأكبر، أو في قلبه شعبة منه، حتى وصف حذيفة رضي الله عنه ليلة الأحزاب بأنها أشد ليلة عندما كانوا ثلاث مائة مقاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فانخفض عدد المسلمين الثابتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العشر.(2/5)
قصة ليلة الأحزاب
يقول حذيفة رضي الله عنه: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا واحداً واحداً في ليلة ما رأيت أظلم منها ولا أبرد منها قط، والريح شديدة حتى كان أحدنا لا يكاد يرى أصبعه.
قال حذيفة: فتقاصرت في الأرض كراهية أن أقوم.
فلا يريد أن يظهر لكي يكلفه النبي صلى الله عليه وسلم بعمل لشدة الجوع وشدة البرد، يقول: ليس علي ما أتقي به البرد إلا برد لامرأتي لا يبلغ ركبتي.
وأرسل عثمان بن مظعون ابن أخته عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إلى الحصون ليأتي لهم من هناك بطعام وثياب، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن من لقيت من أصحابي فأمرهم فليرجعوا، يقول عبد الله بن عمر: فما رأيت أحداً إلا أمرته بالرجوع، فلا يلوي أحد منهم عنقه.
أي: كانوا لا يلتفتون إلى كلام عبد الله ولا يسمعونه، بل كل متجه إلى بيته لا يريد أن يكون مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
فعشر المسلمين فقط هم الذين ثبتوا وهم الذين بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي الخلاصة التي أعز بها الله عز وجل الدين في المشارق والمغارب.
وبعد ذلك صلى النبي عليه الصلاة والسلام صلاة طويلة ثم قال: (قد حدث في القوم حدث، فمن يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فضمن له صلى الله عليه وسلم الرجوع ووعده بالجنة.
ونحن نعلم حب الصحابة الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالهم لما يرغب فيه قبل أن يأمر، ولكن كانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان الخوف والبرد الشديد والحصار والكرب في غايته، وكاد المشركون أن يصلوا إلى غايتهم، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5].
فلما طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه رجل بخبر القوم على أن يكون رفيقه في الجنة ما قام رجل، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة) فلم يقم أحد ثم كرر الثالثة، ثم قال: (قم يا حذيفة) وذلك لثقته به، لأنه يعلم أنه لن يعصي له الأمر المباشر، وإن كان الأمر المستحب يحتمل أن يكون متروكاً عندهم.
قال حذيفة: فما كان من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني)، وفي رواية مسلم: (فلا تذعرهم علي).
فذهب حذيفة رضي الله عنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا له بقوله: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).
قال: (فكأنما أمشي في حمام، وما خلق الله في قلبي من الخوف والقر قد خرج فلا أجد منه شيئاً).
فدخل المعسكر ونظر إلى أبي سفيان يدفئ يده ويضعها على خاصرته ويقول للناس: لينظر كل أحد منكم من جليسه.
وكأنه توقع أن يوجد في القوم من ليس منهم، فأخذ حذيفة رضي الله عنه بيد جليسه وقال: (من أنت؟ فقال: فلان بن فلان فترك يده)، وذلك لكي لا يسبقه الرجل بقوله: من أنت.
فقال لهم أبو سفيان: ما أنتم بدار مقام، إني مرتحل فارتحلوا.
وذلك حين رآهم والريح تفعل بهم ما تفعل لا تترك لهم ناراً، ولا يستقر لهم قدر، ولا تقوم لهم خيمة، وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما ذكر الله سبحانه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11].(2/6)
والعاقبة للمتقين
وصلت المحنة إلى أن المشركين كادوا أن يفتكوا بالإسلام كله، كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5]، وهكذا يقدر الله سبحانه وتعالى أن تجتمع أحزاب الكفر من المشارق والمغارب حتى ظن الكثيرون أن الإسلام مستأصل، وأن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ومن يهفوا إلى نصرة الدين مستأصل ذاهب لا يمكن أن تقوم له قائمة بعد ذلك اليوم ولكنها اللحظات التي تسبق نقطة التحول.(2/7)
منازلة اليهود من حصونهم
إن هذا الابتلاء وتلك الزلزلة كانت هي اللحظات التي تسبق نقطة التغير التام، ففي تلك الليلة انصرف المشركون وانصرفت قريش وانصرفت غطفان وبقي يهود بني قريظة في الخوف والرعب، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، ثم أنزلهم الله من حصونهم على أمره فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ونساءهم وأخذ أموالهم وأرضهم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد انهزام الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) وقد كان الأمر كما قال عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:25 - 26] فريقاً تقتلون من الرجال المقاتلين وتأسرون فريقاً من النساء والصبيان {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
فمن كان يظن أن أهل المدينة في يوم من الأيام سيدخلون حصون بني قريظة المنيعة وسيطئون هذه الأرض مالكين لها؟! فذلك بفضل الله عز وجل بسبب الغدر وبالتألب والتحزب الذي كان.
إن الله سبحانه يجعل الكفرة ينقضون العهود والمواثيق التي عاهدوا المؤمنين عليها، كل ذلك يقدره الله بالحق، ويتركهم سبحانه يؤذون المؤمنين وينتهكون حرماتهم ويسفكون دماءهم وهي عند الله عز وجل غالية وذات حرمة عظيمة، لكنه يتركهم يفعلون ذلك بعلمه وحكمته وتحت سلطانه وقدرته، وهو عز وجل الملك، وهو الشهيد على ما يفعلون؛ وذلك لكي يزدادوا إثماً ويستحقوا أنواع العقاب بقدرته عز وجل.
وما أكثر ما كان يثني النبي صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل بهزيمته الأحزاب وحده، فكان يقول: (وهزم الأحزاب وحده)، حيث إنه لم يتحرك المؤمنون لقتال يومئذ، وعندما رجع حذيفة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إليه القر والبرد والخوف كما كان، فوضعه بين رجليه وغطاه ببرد بعض نسائه عليه الصلاة والسلام الذي كان يصلي فيه، فأخبره بخبرهم ورحيلهم.(2/8)
مقاصد أهل الباطل ونتائج أعمالهم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:5 - 6].
يظن أكثر الناس أن الحق هو القوة، فيرون الباطل حقاً لأنه قوي ويرون الحق باطلاً لأنه ضعيف في نظرهم، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق من مكانه الذي يستحقه ويناسبه في الظهور.
فيريدون إزهاق الحق وإبطاله، فاستعملوا كل الوسائل المادية، وكذا الإعلام، والجدال بالباطل ليصدوا الناس، وهموا بأن يأخذوا رسلهم ويزيلوا الحق بأخذ الرسول الداعي إلى الله عز وجل، وكذلك بالجدال بالباطل والكذب والزور وأنواع الشبهات الباطلة، فعندهم السلطان وعندهم من الشبهات ما يخدعون به من هو صال الجحيم، كما قال عز وجل: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:161 - 163].
لا يفتنون إلا من كتب الله عليه أن يصلى الجحيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، ولا يزيغ عن المحجة البيضاء في ظلمات الليل إلا هالك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تركنا على الصراط المستقيم وعلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
ويظهر الحق في فترات النور والانتصار والتمكين، فالحق واضح لمن طلبه والمجاهدون بالباطل يجاهدون ليدحضوا به الحق فيأخذهم الله، كما قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
ولقد كان عقابه تعالى شديداً لمن خالفه وحاربه وحارب رسله وأولياءه وحارب دينه والحق الذي أنزله، وهكذا في كل زمان تتكرر هذه السنة، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6]، فبالحق نزل بهم عذاب الله، وبالحق نفذ فيهم قدر الله، وبالحق نفذت كلمته سبحانه وتعالى.
وكلماته الشرعية هي الحق، وكلماته القدرية هي التي تكون بها الأشياء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهي -أيضاً- الحق الذي لا باطل فيه ولا مرية فيه، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6].
وجبت هذه الكلمة بالحق، فبأعمالهم دخلوا النار، وبحصاد ألسنتهم وأيديهم كبوا على وجوههم، وصاروا من أصحاب النار بما جنت أيديهم وبما كانوا يكسبون، {مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].(2/9)
الواجب على المسلمين في زمن الأحداث
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6] فلنتعظ من ذلك، والمسلمون اليوم يواجهون حصاراً معنوياً وعسكرياً، ويواجهون عدواً كثيفاً متألباً متحزباً في كل مكان ليس فقط في الشيشان أو في فلسطين أو في كشمير، بل في مشارق الأرض ومغاربها، وهي عداوة شديدة لأهل الإسلام.
بل إنَّ تحزب الأحزاب في زماننا ربما لم يسبق له مثيل في زمن العولمة الذي صار فيه العالم كقرية صغيرة، ربما لم يسبقه ذلك التحزب في الاجتماع والتخطيط اليهودي الماكر في المشارق والمغارب، والتعاون الوثيق على الإثم والعدوان، ذلك كله قبل نقطة التحول وقبل نقطة التغيير بإذن الله إلى ما فيه مصلحة المسلمين، وإذا كان من كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام قد صاروا إلى العشر فما ظنك بمن هم دون ذلك وليس مجتمعهم كذاك المجتمع النقي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
فالثبات الثبات عباد الله، فهو عز وجل الذي يثبت القلوب والأقدام، وإنما يلجأ إليه عز وجل في الشدائد، وقد كان خير الخلق عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ويقول: (يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك).
فهو عز وجل الذي يثبت الأقدام ويثبت القلوب على الصراط المستقيم، كما يثبت على الصراط يوم القيامة أقدام المؤمنين ويجعلهم في زمرة الناجين بفضله ورحمته سبحانه وتعالى.
وأما من غرته الحياة الدنيا بأن اشتغل فيها وغرق في فتنها ومشاغلها التي لا تنتهي وظل يسوف كل يوم فليعلم أن المشاغل لا تنتهي، ولا يخرج العبد منها إلا بأن يصير القلب أبيض مثل الصفا مستنيراً قوياً ثابتاً، لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وأما من يسوف الالتزام ومن يسوف العمل ومن يسوف العلم ويقول: غداً أفعل حين تنتهي مشاغلي، ويسوف الدارس إلى حين الفراغ من دراسته، والراغب في الزواج إلى حين الفراغ منه، ومن ليس عنده أولاد إلى أن يكون عنده أولاد، ومن عنده أولاد إلى حين تربية الأولاد، ومن كان عنده أولاد إلى رؤية أولاد الأولاد، فإن المشاغل لن تنتهي.
وهذه طبيعة الدنيا، فمشاغلها لا تتوقف، فلا بد من المبادرة والمسابقة في كل لحظة من اللحظات، فبادر قبل أن يفوت الأوان، ففي الحديث: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) هكذا أخبر نبيكم صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله أن نبيع ديننا بعرض من الدنيا! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في الشيشان وثبت أقدامهم، اللهم سدد رميهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(2/10)
استعينوا بالله واصبروا
استحضار عظمة الله عز وجل تجعل المؤمن واثقاً من نفسه؛ لأنه وضع عظمة الباري نصب عينيه فتلاشت واضمحلت كل أنواع عظمة المخلوقين، وهذا هو سبب ثبات الأنبياء والصالحين أمام أئمة الكفر والطغيان والعناد.
وهذا الاستحضار لا يكون إلا بالإيمان بقضاء الله جل وعلا وقدره، فبهذا الإيمان وبهذا اليقين تهون المصائب، وتذل العقبات في سبيل نصرة هذا الدين وإعلاء رايته.(3/1)
الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد قضى الله عز وجل بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، وجعل الله عز وجل الأيام يتناوب الناس فيها باليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله وهم صفوته من خلقه، وقدر على أوليائه من أتباعهم أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يستضعفون فيها في الأرض، ويكونون قلة أذلة، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
فقدر الله سبحانه وتعالى ذلك مع كونه عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عباده المؤمنين أنواعاً من العبودية التي يحبها، ولا يمكن أن تظهر هذه الأنواع لو هدى الناس جميعاً، ولو شاء عز وجل لهدى الناس جميعاً، وأمره سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] مرة واحدة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] فيقع ما أمر به سبحانه وتعالى، وهو عز وجل لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أشد الناس كفراً وعداوة لله عز وجل قادر أن يقلب قلوبهم ويجعلها على الهدى، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118] لكنه قدر ذلك للحكم البالغة: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:5]، فله الحمد سبحانه وتعالى عليها.
لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد؛ فيجب أن يحمد الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تقع في قلبه معان إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله عز وجل ليظهر منه الخير، وليخرج سبحانه وتعالى من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، وعلى ما يصيب الإنسان في سبيله، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق، وكذلك ليوقن المؤمنون بوعد الله سبحانه وتعالى، ويستحضروا أن الله هو الذي أعطى، وهو الذي منّ، وهو الذي آوى؛ لأنهم سوف تأتي عليهم فترات يملكون فيها الناس، ويكونون فوق الخلق، ويتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا، وانتصرنا، وغلبنا، وقهرنا، كقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] ونحو ذلك مما قص الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أو أنهم سيعلمون أن الله سبحانه هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته سبحانه وتعالى لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بإعدادهم.(3/2)
معان إيمانية
وهناك معان إيمانية لا بد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله سبحانه وتعالى من قبل، وأول هذه المعاني: أن يشهد المؤمن قضاء الله عز وجل وقدره وحكمته وعدله سبحانه وتعالى، ويشهد أن الأمور كلها بقضائه سبحانه، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وهذا من أعظم ثمرات الإيمان.
وأن يشهد خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وأنه هو سبحانه وتعالى الذي جعلهم كذلك؛ ليستحضر عظمة ملك الله، وليستحضر عزته وقهره عز وجل، فانظر وتأمل في قول موسى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه عز وجل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده كذا وكذا من المال والجنود والملك والسلطان، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (ربنا إنك آتيت) فلم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا من أعظم الأمور أهمية، وهو أن يرى العبد أن من يواجهه من الكفرة والظلمة وأعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخافهم، أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، وعدم استحضار هذا المعنى يجعل الناس يسيرون في ركب الظالمين، ويداهنون الكافرين، ويوالونهم، وقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين ذلك؛ لأنهم يخشون أن تكون الدولة للكافرين والظالمين، وأن تكون الغلبة لهم، ويخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس يتبعونهم؛ وذلك لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال عز وجل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:138 - 139] فقد فضحهم الله عز وجل وبين حقيقة ما في قلوبهم، فهم يتولون الذين كفروا؛ لأنهم يبتغون عندهم العزة، ويعاونونهم على الفساد؛ لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، ولو استحضروا أن الملك لله، وأن الله هو الذي آتى فرعون وملأه {زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:88]، وأنه سبحانه هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفي قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته سبحانه وتعالى أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر أن الكافرين يضلون عن سبيله؛ لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك نفوساً قبيحة، فلا بد أن يخرج ما فيها من الخبث، كالمغناطيس يجذبها إلى أمثالها كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37].
فالله عز وجل جعل الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، مع أن إنفاقهم سيكون بعد ذلك عليهم ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) أي: يتحسرون؛ لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، بل يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفي نهاية الأمر ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) وتأمل ذكر (ثم) في هذا الموضع وهي للتراخي؛ ولكي لا تستعجل، ولكي تطمئن ويسكن قلبك، وتعلم أن الأمور كلها بمقدار، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم الله يفسدون في الأرض؟ ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ)) فسوف يأتي زمن يطول أو يقصر؛ ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء قُدر لحكمة من الله عز وجل الملك الحق المليك المقتدر سبحانه وتعالى.
فهو عز وجل الذي آتى ((فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ثم قال: ((لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) ولكي يستجيب أصحاب القلوب الفاسدة كما بين سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة ومن ذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:112 - 113] فتأمل هذه الكنوز القرآنية.
((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله الذي جعل، وهو أول ما ينبغي أن تلحظه في هذه الآية فقال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) ولم يقل: كذلك كان لكل نبي، وإنما قال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)) فالله هو الذي خلق في قلوبهم ذلك: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ)) وبدأ بشياطين الإنس قبل شياطين الجن؛ لأن خطر شياطين الإنس أشد؛ ولأنهم يضلون الناس أكثر من شياطين الجن.
((يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)): يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم بعضاً، وينصح بعضهم بعضاً بالفساد والكفر والنفاق.
((زُخْرُفَ الْقَوْلِ)) وهو القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم التمييز والقدرة العلمية على معرفة النافع من الضار.
((زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) أي: ليغروهم به.
((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) واستحضر هذه جيداً، وهو أن هذا الأمر حدث بمشيئته في قوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)) إذاً: بإذنه تم ذلك، ولحكمته وقع ما أراد سبحانه وتعالى، فهو الذي قدر وجود الأعداء، وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه؛ ولذلك قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ((فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) وهذا نوع احتقار، أي: لا تعبأ بهم، ولا تقلق، ولا تضطرب منهم، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن؛ ولذلك قال عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] فهم أهون على الله سبحانه وتعالى من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا -بأسرها- تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولو أن الدنيا بأسرها كانت تساوي عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس بطول عمر الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس ذلك، وإبليس مخلوق قبل آدم، وقد طلب ذلك إبليس فأجابه الله له.
انظر لتعرف حقارة وتفاهة هذه الدنيا؛ وذلك لأن الله أعطاها لإبليس اللعين حين سأله إياها؛ لأنها أتفه ما يكون؛ ولذلك استحضر أن ذلك بمشيئته سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) هم يكيدون كيداً والله عز وجل يكيد كيداً {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17].
قال عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] أي: يمد لهم عز وجل، لكنهم مربوطون فيما أراد الله عز وجل أن يكونوا فيه، فهم مقيدون بمشيئته {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] لمتانة كيده عز وجل أملى لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء.
قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45].
قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لزخرف القول الغرور ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) فمن حكمته سبحانه وتعالى أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل، وتقبله، وتحبه، وترضاه، وتعين وتساعد عليه، وتسعى إلى نشره في الأرض، وهو باطل مر قبيح ولكن كثير جداً من النفوس تميل إليه بسبب انعدام الإيمان ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) أي: لتميل إلى هذا القول المزخرف الغرور الباطل، وهي قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ((وَلِيَرْضَوْهُ)) أي: وليرضوا بالباطل ((وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)) أي: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، ولتكون نهايتهم وعاقبتهم كما كانت عاقبة من قبلهم؛ لذلك إذا استحضرنا أن الله هو الذي آتى، وأن الله هو الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، فستعرف أن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا في النهاية مطموساً، ولا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه؛ ولذا دعى موسى عليه السلام ربه: أن يطمس على أموال آل فرعون قائلاً: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:88 - 89] وبعض أ(3/3)
مراتب الناس في الاستعانة
وقد جعل الله عز وجل الناس مراتب وأنواعاً في هذا: فمنهم من يستعين بالله سبحانه على قضاء مصلحة دنيوية فهو يتوكل على الله في أمر الرزق، وفي أمر الأولاد، وفي أمر الوظيفة، وفي أمر العمل وغير ذلك، وهذا وإن كان حسناً إلا أنه ليس هو المطلوب فقط.
وكثير من الناس يستعين بالله عز وجل ويدعوه لنيل المحرم والعياذ بالله، فهو يتوجه إلى الله وليس في باله أن يطيع الله عز وجل، فربما وجدت من يخرج لأكل الربا ويقول: توكلت على الله، وما أكثر ذلك، وهناك من يخرج لظلم الناس ويقول: توكلت على الله، وتجده فعلاً يسأل الله التوفيق في ذلك العمل؛ لأنه حصل له الجهل المركب والعياذ بالله ولم يعبأ ببحثه عن الشرع، ولم يتعلم شرع الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ظن الجاهل أنه يتوكل على الله في نيل معصيته وربما حصل له ذلك، فإبليس لم يتوجه لغير الله في طلب المد في عمره قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] فقد سأل ربنا سبحانه وتعالى، وأعطاه الله ما سأل، لكي يستعين إبليس بهذا العمر الطويل على إضلال الناس ومحاربة الله، أفيظن أن الله لا يدري، ولا يعلم ما في نفسه؟! حتى إنه كتم هذا الأمر إلى أن تأكد أن الله أنظره، ثم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، لكنها نوعية عجيبة وغريبة من المخلوقات، فهي تستعين بالله على الكفر به ومعاداته ومعصيته، وتطلب منه ما تستعين به على ذلك، لكنها موجودة بالفعل.
وأعلى الناس قدراً في أمر الاستعانة هو من يستعين بالله على عبادته، وعلى طاعته؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر على الطاعة إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى.(3/4)
مقام الصبر وأنواعه
ثم ينتقل بعد ذلك إلى مقام الصبر بأنواعه الثلاثة، وهي مجتمعة فيمن يطيع الله في فترات الشدة والمحن؛ لأن الصبر: صبر على الطاعات، وهو أعلى أنواع الصبر.
وصبر عن المعاصي وحبس النفس عنها.
وصبر على أقدار الله المؤلمة.
والإنسان قد تصيبه أشياء مؤلمة على أي الأحوال، فالحياة لا تخلو من الألم، فمنذ نزول آدم عليه السلام والإنسان يشقى، كما قال عز وجل: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] هي الدنيا ضنك، وألم لابد منهما، ولكن من الناس من يجري عليه الألم وهو في معصية الله.
وهناك من يجري عليه الألم بغير طاعة ولا معصية، وإنما هي مصيبة تصيبه.
وهناك من يجري عليه الألم وهو من الكفار فتصيبهم آلام يعذبون بها وهم في الكفر والعياذ بالله، أترون مثلاً من يحاربون المسلمين في كل المشارق والمغارب، ألا يصيبهم من الجراح والقتل والمتاعب والشقاء الشيء الكثير؟ ومع ذلك فهم على ما هم عليه من الكفر.
يقول لي أحد الإخوة: كنت أعرف رجلاً من قبل شهر ونصف في كمال القوة والعافية، وكان من عادته أن يظلم كثيراً من الناس فيقول: مررت به الأسبوع الماضي وقد أصيب بورم سرطاني، فأُخذت حنجرته كلها، وأصبح في هزال شديد، وهذا كله في خلال شهر ونصف فقط.
وهكذا أي إنسان، حتى لو كان إنساناً طيباً وعلى حاله ولا دخل له بشيء فإنه يصيبه المرض، فمن ذا الذي لا يصيبه المرض؟ بل قد يقوم الواحد من النوم فيجد شيئاً يؤلمه، فالآلام لا بد أن توجد.
لكن هناك من يجيء له الألم بسبب طاعته لله سبحانه وتعالى، وهذا في الحقيقة في حلاوة.
وأنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة مجتمعة فيمن يطيع الله عز وجل في فترات الشدة؛ لأن الطاعة أثناء الشدة تحتاج إلى صبر مضاعف، فالكل يريد أن يبعدك عن الطاعة، وقد يقال لك: ابتعد عن هذه الطاعة حتى تسير حياتك بسهولة، لا والله! الحياة لا تسير بسهولة بغير طاعة، وإن ظن الناس أنهم يعيشون حياة سهلة.
وانظر إلى متاعب الناس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وابتعدوا عن الدين: هل يعيشون حياة سهلة أم ضنكا؟ والله أنهم يعيشون حياتهم في ضنك وشقاء بأنواعه حتى الأغنياء منهم، وحتى الملوك والرؤساء والكبراء، وحتى السادة المبرزين والمشهورين، فإن حياة الضنك لا تفارقهم كما توعد الله عز وجل فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:132 - 126].
ولو لم يكونوا في ضنك فلماذا يشربون الخمر؟! ولماذا يدخنون المخدرات؟! ولماذا يريدون أن يسيحوا في الأرض وينطلقوا بحثاً عن اللذات؟! فلو أن هذا الإنسان سعيد لما بحث عن مصادر السعادة الأخرى، ولما أراد أن يغيب عقله بالمسكرات أو المخدرات.
فشعوب الغرب والشرق لا تستغني عن الخمر لحظة، ولابد أن يشربوها كل يوم، فشرب الخمر عندهم كشرب الماء عندنا، والمرفهون عندنا يضعون المياه الغازية، وعندهم يضعون الخمرة، حتى في احتفالاتهم وبروتوكولاتهم فلابد من الخمرة، فلا يستغنون عنها، فلو أنهم سعداء في حياتهم فلماذا يشربونها؟! ولماذا يريد الإنسان أن يغيب عنه العقل؟ لماذا يريد أن يعيش في حياة أخرى غير التي يعيشها؟
الجواب
لأنه تعيس في حياته، وانتشرت فيهم المخدرات بأنواعها المختلفة وهم الذين يصدرونها لنا، ويسعون في نشرها للناس.
فمن أراد النزهة الحقيقية فليذهب للصلاة أو العمرة، أو ليصم يوماً، أو ينفق في سبيل الله، أو يطعم مسكيناً، فسيحس بفسحة فعلاً في صدره، لأن الانشراح والضيق شيء في داخل قلب الإنسان قبل أن تكون من خارجه؛ ولذلك سوف يستريح بهذه الأعمال، وربما كان يراه الناس في ضيق، فضلاً أن أكثر شعوب الأرض تعيش في ضيق دنيوي أيضاً، فوعد ربنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] والعياذ بالله من ذلك.
ولذلك نقول: إن الصبر على الطاعة في فترات الشدة يكون أعظم؛ لإنك تجد الناس يقولون: ابتعد عن الطاعة حتى تعيش حياة سهلة، وهم لا يعيشون أيضاً حياة سهلة، ولكن أكثر الناس يستجيبون لذلك، فلذلك كان الصبر على الطاعة في فترات الشدة أهم وأوجب وأعظم.
أما الصبر عن المعاصي فالكل يدعوك إلى المعاصي، وانتشار الفساد يجعل المعصية سهلة، ويجعل المعاصي في متناول كل إنسان.
فإذا أراد شاب مثلاً أن ينال من فتاة شيئاً، فهل يصعب ذلك عليه في وسط هذا الكم الهائل من المعاصي؟! ولذلك فالصبر في هذا المقام أعظم من الصبر عن هذه المعصية في مجتمع مسلم كل الفتيات فيه محجبات، والرجال فيه رجال يمنعون نساءهم من الاختلاط المحرم الفاسد، ويمنعون بناتهم وأخواتهم من ذلك، والمجتمع كله يذم من يزني، ويذم من ينظر، ويذم من يعاكس ويتوعده بالعقاب، أي الصبرين أعظم؟ مع أنه لو صبر في المجتمع المسلم وهو مأمور بالصبر لكان ثوابه عظيم، فكيف لو صبر في وسط الفساد المنتشر في الأرض، والمبثوث في كل مكان الذي يسهل معه أن ينال ما يريد إذا لم يتقِ الله سبحانه وتعالى؟ أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فإنما يعيبه بسبب طاعته؛ لأنه يتوعد ويخوف كما قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وقد يصيبه من ذلك ما يصيبه، ويحتسب عند الله سبحانه وتعالى، ويصبر ويكون بذلك قد حصل أعظم أنواع الصبر قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128].
فإن الله سبحان وتعالى يورث الله سبحانه وتعالى الأرض لعباده المتقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فاليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، والصبر على دينه في فترات الشدائد، كل ذلك من أعظم الواجبات، واليقين بوعد الله من أعظم مقامات العبادة والإيمان، فتوقن: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] وتوقن أن العاقبة للمتقين، فلا تغتر بما ترى من بدايات؛ وأن الموازين لصالح أهل الكفر، وأن القوة في العالم بأسره بأيدي المشركين، فوالله أن ذلك اختبار لك؛ لكي تستحضر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به من أن المؤمنين هم المنتصرون، وتتذكر ذلك لتزداد يقيناً بوعد الله، هذه الآية الكريمة من المبشرات، قال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقد قال عز وجل في معنى هذه الآية آيات كثيرة لكي نستيقن بوعد الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ)) أي: في جنس الكتب المنزلة على الأنبياء وهي الكتب التي تزبر، أي: -تكتب- ((مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) أي: من بعد الكتابة في اللوح المحفوظ: ((أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)).
إذاً: فعليك أن تحقق الصلاح، وتجتهد في العبودية لكي تكون ممن يرث الأرض: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) إذاً: فنحتاج في هذا المقام إلى الاجتهاد في العبادة، إلى أن نكثر من الصلاة والصيام والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، وخصوصاً إذا خوفت كما قال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175] ولذلك أنت تحتاج إلى أن تتبع رضوان الله، فافعل ما يرضي الله، وأكثر من الطاعة، وأكثر من العبادة، ومن الذكر، ومن الدعاء فإن ذلك من أعظم ما يعينك على الثبات على دين الله سبحانه وتعالى.
ومن أعظم ما يحتاج إليه المؤمن في الإعانة على الثبات كذلك: أن يكون مع إخوانه في الله، يوثق علاقته بهم، ويتعاون معهم على نصرة الدين وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى في الأرض ولا يبتعد عنهم.
فنحن كركاب السفينة الكبيرة التي غرقت وبقيت قوارب نجاة يجتمع فيها بعض الركاب، وأسماك القرش في البحر المتلاطم الأمواج تحيط بقوارب النجاة من كل جانب وتنهش في جوانبه، وهي قوارب ليست كالسفينة في شدتها بل هي مطاطية، فأسماك القرش ربما تأخذ من جوانبها وتفزع كل من فيها، ومع ذلك أتظنون أن عاقلاً يقول: إن أسماك القرش تحيط بالقارب فسأنقذ نفسي بإلقائها في البحر، أيكون مثل هذا عاقلاً؟! فهذا الذي يلقي بنفسه إلى أسماك القرش ويترك قارب النجاة الوحيد لا شك أنه هالك.
وأما العاقل فهو يسعى إلى سد ثغرات القارب، ونزح المياه التي تأتي إليه من البحر، وهناك أشياء يأتي منها الخطر فلا بد أن نسدها، ولا بد أن نتعاون على حفظ القارب سليماً.
المجتمع الذي كان في يوم من الأيام مجتمعاً مثالياً يعيش الناس فيه بالإسلام منذ مئات السنين غرق تدريجياً إلى أن صار بعيداً عن حقيقة الالتزام بالإسلام، وبقيت فيه قوارب النجاة وهي من يدعو إلى الله عز وجل من أهل المساجد، ومن أهل الخير، وممن يسعون إلى إقامة دين الله فهؤلاء هم قوارب النجاة، وأسماك القرش التي من حولك هم دعاة الفتن الذين يقولون لك: ابتعد عن هؤلاء(3/5)
حياة القلوب فيما أنزل الله
وصية أخرى نختم بها كلامنا: وهي أن أعظم ما يحيي القلوب هو ما أنزله الله روحاً من عنده وهو كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن نستمد منه الحياة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53] ولا أعني بذلك مجرد تصحيح اللسان وحفظ الحروف والكلمات، وإن كان ذلك هو الخطوة الأولى اللازمة، لكن لا بد له من تدبر وإمرار على القلوب قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وليكن تصحيحك للحروف والكلمات وسيلة إلى تدبر قلبك لها كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) لزينت لك القرآن بصوتي تزييناً، فأنت إنما تريد بتصحيح الكلمات والحروف أن تتفهم القرآن أكثر؛ لأن من لا يحسن القراءة ربما يفوت عليه خير كثير من التدبر بسبب عدم إتقانه له.
وأنا أقول لكم كتجربة شخصية: إن السورة التي أبذل مجهوداً في مراجعتها ولا أحسن حفظها؛ لأني حفظتها على كبر، إذا وقفت لأصلي بها أو أتلوها أظل مشغولاً بألفاظها وحروفها فيضيع معظم التدبر، أما ما حفظته صغيراً فهو مستقر في النفس فأجد السبيل إلى التدبر أسهل وأيسر مفتوحاً بإذن الله تبارك وتعالى.
فنصيحتي إلى إخواني الشباب وأبنائي الشباب أن يستغلوا هذه الفرصة، فأنت في مرحلة التمكن من الحفظ، ولكن لا يكن همك أنهم سيقولون عليك: متقن، أو ستعطى إجازة تفتخر بها وتعلقها على الجدران، أو تعمل بها في أوقات تحتاج إلى العمل بها، لكن اجعل ذلك وسيلة إلى الغاية المقصودة؛ فإنما أنزله الله للتدبر قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونسأل الله مقلب القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه، اللهم! يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك.(3/6)
إصلاح القلوب
إن أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها هي: سلامة القلب من أمراض الشرك والكبر والعجب والغرور وغيرها من الأمراض التي تفسد القلب، وخير علاج للقلوب المريضة هو مداواتها بمراقبة الله، وإخلاص العبادة له، وتوحيده وتذكر الموقف بين يديه سبحانه وتعالى.(4/1)
إصلاح القلوب سبب للتمكين وللنجاة يوم القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: يقول الله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45].
عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه تعالى بوعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة، فقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني).
فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها؟ وهل أعددنا العمل الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟ اعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]، فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا مع سلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه من أمراض الشبهات والشهوات، تلك الأمراض التي أمر الله العباد أن يعالجوا ويداووا أنفسهم منها، حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلب من إيمان.
فالشرك -والعياذ بالله- من أعظم الأمراض خطراً، وكذا الكبر والعجب والغرور، وسائر أمراض النفس التي ينشأ عنها الصراعات بين الناس، وينشأ عنها الشرك والعناد، وينشأ عنها الكفر والنفاق، وسبب ذلك أن الإنسان لم يداوِ نفسه، ولم يسعَ إلى علاج ذنبها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول إلا من علمه الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يداووا أنفسهم، وأخبرهم سبحانه وتعالى بأنه هو الذي يشفي هذه القلوب، وأنه هو الذي يحييها بعد موتها، وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك بأسباب يبذلها العبد، كما هو الحال في كل قضاء قدره، فأمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأن يداووا أمراضهم وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاءه، فيجب علينا أن نسعى في الأرض وأن نأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى مع اليقين وبأن فضل الله أكبر، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، وهو خير من زكاها، وقد كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
إن الله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وخاب من دس الله نفسه، وهذه التزكية والدرس هما محض عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه يناله الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.
إذاً: يجب علينا أن نسعى إلى سلامة القلوب وإصلاحها، وذلك لا يكون إلا بفضل وعون من الله سبحانه وتعالى، وسلامة القلوب وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب في تمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، هذه الطائفة التي ليس عندها من أسباب القوة أو العُدَد والعدة، وذلك لا يتحقق إلا إذا سلمت قلوبها، فالله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، وأما إذا كانت النفوس لم تتزك بعد، ولم تصبر بعد، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، وترى في ذلك كمال عزها مجدها، وهذا الذي صنعته لنفسها يضمحل معه سعيها في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر -والعياذ بالله- وما كان من عمل لغير وجهه فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه وتعالى، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لم تزل بعد متعلقة(4/2)
الإخلاص دليل سلامة القلب
فالغاية المقصودة: أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص لله عز وجل -وهو علامة سلامة القلب- وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15].
والإخلاص عزيز ونادر لا بد للإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت لا بد أن يعلم أنه لا ينال إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا ينال إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ لأن أيسر شيء على الشيطان هو الدخول على النية، وأيسر شيء عليه أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، فلا بد للإنسان إذاً أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون، وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة، ومحاسبة النفس على ما أرادت، ولماذا عملت؟ وكيف أدت هذا العمل؟ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].(4/3)
نسيان الله تعالى دافع إلى الأمراض والآفات
إن نسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى مراقبة الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد أن يكون وراء كل عمل يعمله، وأن يكون في فكره دائماً موقفه بين يدي الله عز وجل، وبما سوف يجيبه على ما سيسأله ربه سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عذب كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك نقول: إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس وفيما يقوله الناس، فهذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، وهو الذي لا ينظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك.
وهذا الذي دفع أناساً إلى الحسد، وإلى الكفر، وإلى العناد، رغم علمهم بأنه هو الحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك ما يقوله المشركون: أن بني هاشم سبقوا بأن كان فيهم نبي، فمن أين يكون لنا نبي؟ ولذلك قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهذا هو الذي يخافون منه ويرجونه، ألم يكن سبب كفر فرعون هو الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف المخلوقات، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاوم هذا الداء أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها به الشيطان كأن يقول له: إنك أنت الأفضل، وأنت الأحسن، وأنت الأعلى، فهذا الذي يغلبه شيطانه، وهو الذي دفع كبر فرعون إلى أن يقول لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فهذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي: هل هو أفضل أم موسى؟ والعقدة في نفسه أن موسى أفضل منه أم هو أفضل؟ فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
والكبر هو الذي أدى بإبليس إلى الكفر والعياذ بالله {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، والنظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، فكيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل وعلى أنه الأحسن، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق على الإطلاق، وأعلاهم عند الله منزلة، ومن كمال خلقه أنه يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر ذلك فيما قدم وفيما أخر من النقص والذنب والخطيئة، وبعد هذا كله يقول: (وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).
فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي لا يتعمد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته عمداً بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام خطأ أو نسيان، أو ترك لبعض الأولى، أو فتور عن بعض المستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن هو دونه؟ وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه، أن يرى أنه هالك إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يُقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، ولسان حاله يقول في خطابه لربه: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88].
فما الذي أطمع إخوة يوسف في أن يطلبوا من يوسف هذا الطلب وهي البضاعة المزجاة، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، ومع ذلك كانوا طامعين في كرمه، وقالوا له: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف:88]، فهم يرجون مع بضاعتهم المزجاة كرمه، وأن يوفي لهم الكيل، ولسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل أن يكون على هذا الحال، وأن يرى نفسه أنه هو المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكنه يطمع في فضل الله وفي رحمته، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؟ فانظروا فيما كان الرجاء؟ وعلى ما كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل -مع كونه في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر- ولكنه فيما بينه وبين الله عز وجل، وهذا لكمال النقص في الحقيقة؛ ولأنها حققت ما ينبغي أن يكون عليه العبد من العبودية والذل، والاستكانة والإنكسار بين يدي الله، فهو لكمال هذه العبودية رأى النقص والتقصير، ورأى أنه لم يحقق ما عليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.(4/4)
كيفية مداواة القلوب
لا شك أن هذه القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها، وهذا ينبني على تذكر الموقف بين يدي الله، وعلى معرفة الآخرة، وعلى معرفة صفات الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الكمال فيها، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي عليه أن يكون، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم، وهذا عدل منه عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(4/5)
بالإخلاص تقبل الأعمال
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فالله عز وجل أغنى الأغنياء، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).
ولذا كان العمل الذي يكون فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله، كما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه، ولا يقبل شريكاً معه في عمل من الأعمال، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون النظر إلى الناس، وعندما ينظر إلى نفسه بعين التقصير والنقص سوف يكون في معاملته مع الناس، وكذلك لا يرى لنفسه حقاً على الناس، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس، وأنها استغنت بالله عز وجل أن يكون الإنسان في معاملته للناس لا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم، وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، وأن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته وخيراً له، فكيف يطلبه منهم؟ فيكون العبد بهذا عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل).
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، بل جعل قلوب أصحابه أسبق شيء إلى معرفة قدره، وإلى تعظيم حقه، ومراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام، مع أنه هو عليه الصلاة والسلام لم ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم.
فالإنسان الذي لا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قصر في حقه هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخْلق بلا نفس يراعي حظها ويراعي نصيبها، وأصبح لا يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، وكان يعامل الناس، وكان يدينهم، فكان يقول لصبيانه أو لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر -أو ضعوا عن المعسر- فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، ولم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا الجواز، إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(4/6)
الغني من استغنى بالله
ألم تعلموا وتسمعوا قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو الحارث بن عبد المطلب، والذي كان من أشد الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن أشد الناس تحريضاً عليه، وكان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما فتح الله لنبيه مكة وأسلم الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه؛ لما كان يتذكر من أذاه له، ومن شدته عليه حال الجاهلية، فاشتكى إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ائته من قبل وجهه، وقل له: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردوداً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (((لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))).
وبهذا كان أحسن مردوداً كما كان يوسف عليه السلام؛ وهذا لأنه استغنى بالله عز وجل، واستغنى بعبوديته لله سبحانه، فاضمحل ما في يد الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء لم يشعر بهذا التقصير ولم يلتفت إليه، فكان الجود والخلق الحسن من أخلاق النبيين، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه، فمن استغنى بالله عز وجل بافتقاره إليه دون سواه أغناه الله عز وجل عن كل ما سواه، وجعل نفسه كريمة فيها الجود والسماحة وسهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى مثل: الحسد، والتباغض، والتنافس على الدنيا، وحب الشهرة والرئاسة على الخلق، والملك والسلطان، وهل ترون العالم كله يسعى إلى الدمار وإلى الهلاك وإلى الحرب وإلى القتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك؟ فمن استغنى بالله عز وجل أغناه وجعله في غنى عن الناس، وفي غنى عن أن يطلب منهم شيئاً، ومن افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، فهي تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن كان فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه يستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق فإنه لا يزال في فقر ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت لله سبحانه وتعالى وأخلصت له عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت وانكسرت.(4/7)
العبودية الكاملة لله تعالى لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع له تبارك وتعالى
إن الانكسار بين يدي الله، والشعور بالعجز والضعف، وضيق ذات الحال، وأن الإنسان لا يملك شيئاً هو من أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى، فالعبد الذي ينكسر لله، ويرى نعمه عليه، ويرى عجزه وضعفه هو أقرب إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى ثم ينال درجة المحبوبية، وهل العبودية إلا حب وانكسار، وبذلك يرتفع الإنسان، ويعلو شأنه، ويكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك بالله شيئاً، فيستحقون إن كانت طائفة أن يمكن الله عز وجل لها: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها، واجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلال ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.(4/8)
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو
إنَّ من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر معرفة أن هذه الدنيا حقيرة وفانية، وأن مآل الإنسان إما إلى جنة وإما إلى نار، فالمؤمن يسابق إخوانه في فعل الطاعات، وهو بذلك يرجو مغفرة الله سبحانه وجنة عرضها السماوات والأرض.
والمؤمنون الصادقون متفاوتون في درجاتهم في الجنة حسب درجات إيمانهم، فتراهم مؤمنين بقضاء الله وقدره، فلا يجزعون عند المصيبة، ولا يفرحون بما أعطاهم الله من فضله، بخلاف ذلك المتكبر المختال ضعيف الإيمان الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل.(5/1)
تأثير إيمان المؤمن وعلمه في فهمه لحقيقة الدنيا وحقارتها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:20 - 24].
إن نظرة المؤمن إلى حقيقة الحياة وإلى صغر مدتها إنما تنبع من إيمانه بالبداية والنهاية التي بينها لنا ربنا سبحانه وتعالى، وإنَّ هداية هذا الخلق بيد الله عز وجل الذي قدر وجوده، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى جعل وجودنا على الدنيا مروراً عابراً، فنأتي على ظهر الأرض سنوات، ثم نبقى ما شاء الله عز وجل في باطنها، ثم بعد ذلك نبعث ليوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك نهاية في نعيم أبداً أو في عذاب أبداً، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، فنظرة المؤمن لحقيقة هذه الحياة التي نعيشها على ظهر الأرض وصغرها وحقارتها، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، يؤثر ذلك في سلوكه تأثيراً بالغاً في سلم أولوياته في الحياة، وما يقدم وما يؤخر، وما يعظم وما يحقر، وما ينفق فيه الوقت والعمر، وما يبخل به، وما يبخل بالوقت والعمر عن أن ينفقه فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يسابق إليه وينافس عليه، وفيما يسعى إلى التقدم فيه، وكذلك يؤثر على سلوكه فيما يصيبه من مصائب ومحن، ويؤثر على سلوكه في معاملته لغيره، وأصل ذلك الإيمان والعلم بما أمرنا الله عز وجل أن نعلمه، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20].(5/2)
النهي عن التفاخر وضرره على إيمان المسلم
إن هذه الشهوات نوع من اللهو اللعب، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، فهذه الحياة التي من أجلها ينفق الناس كل أوقاتهم، ومن أجلها يسفكون دماءهم ويستحلون محارمهم، ومن أجلها كفر من كفر، ونافق من نافق، وظلم من ظلم، والعياذ بالله من ذلك كله، هي لعب ولهو وزينة، فهي زينة يتزين الناس بعضهم أمام بعض فيها، ويفتخرون بما يتزينون به، ومن أجل ذلك عبدوا الدراهم والدنانير والقطيفة والخميصة، فتعسوا في هذه الحياة مصداقاً لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)، فهذا الذي زهد في أعظم ما يتنافس الناس فيه من التفاخر في الدنيا والوجاهة فيها، هذا عبد زاهد.
(طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، فإن أمر أن يكون في الساقة -وهي مؤخرة الجيش- لم يأب ذلك، بل كان فيها مؤدياً دوره، ولا يقول: إن لم تصدروني في الصفوف الأول، وإن لم تعطوني صدور المجالس؛ فلا أكون معكم، ولا أنفذ ما تأمرونني به، وإنما هو مغمور في وسطهم، مذكور عند الله عز وجل في الملأ الأعلى، لا يعرفه أهل الأرض ولكن يعرفه أهل السماء، وهو إن كان في الحراسة -أي: أمر بأن يكون في الحراسة- كان في الحراسة، فلا يستنكف أن يكون حارساً لغيره ممن له عند الناس منزلة أكبر، وتكون حياته أهم من حياة هذا الحارس، فلا يستنكف عن ذلك طالما أن ذلك في سبيل الله، فهو يبذل ولا يشترط منزلة معينة ولا مكانة معينة، وعلامة ذلك أنه إن استأذن لم يعرف، ولذلك لا يؤذن له، ولا منزلة له عند الناس تجعلهم إذا شفع يشفعونه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، فطوبى لهذا العبد، بخلاف ذاك العبد الأول الذي عبد الدرهم والدينار، وعبد المظاهر وتفاخر بها، وعبد القطيفة والخميلة والخميصة، وعبد الوجاهة لدى الناس، ومن الناس من يكون في عبوديته هذه مشركاً بالله الشرك الأكبر، ومنهم من يكون على أدنى من ذلك -أي: مشركاً شركاً أصغر- على حسب تعظيمه لهذه الشهوات، فمن عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميلة والخميصة بحيث يبيع دينه بالكلية من أجلها، فهو مستعد لأن يبيع دينه بعرض من الدنيا، فإذا أمسى مؤمناً وعرض عليه في الليل شيئاً من الدنيا على أن يبيع دينه باع فيصبح كافراً، وإذا أصبح مؤمناً وعرض عليه في أثناء يومه أن يبيع دينه بشيء من هذه الدنيا باع فيمسي كافراً والعياذ بالله.
فهذه فتن مظلمة تطغى على هذا العبد، وإن سعى إلى السعادة في ظنه فهو تعيس لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالتعاسة، فهو مستجاب الدعوة عليه الصلاة والسلام، سواء كان خبراً أو دعاء فهو على أي الوجهين شقاوة ما بعدها شقاوة.
وأما إذا كان يقدم هذه الشهوات على طاعة الله لكن لا يقدمها على توحيده، لا يقدمها على الدين كله، ولا على إيمانه، فإنه يكون فيه من عبودية هذه الأشياء ما يجعله مشركاً شركاً أصغر، وإن لم يصل إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، والحديث يشمل النوعين، فالتفاخر هذا الذي يسعى أكثر الناس إليه ويحرصون عليه نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق التواضع: (الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وإن كان الإنسان من ذوي النسب والشهرة والمنزلة، فليس له عند الله عز وجل إلا عمله الذي يستحقُّ به مرضات الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، فالتفاخر الذي يكون بالوجاهة لدى الناس وبالرئاسة والملك ذلك الذي يتنافس الناس فيه ومن أجله تقام الحروب، ومن أجله يقتل الملايين، ومن أجله تنتهك الحرمات، وتنفق الأموال، وتسفك الدماء فهذا حذرنا القرآن منه، فنعوذ بالله أن يفخر بعضنا على بعض.(5/3)
التكاثر لا يغني عن الإنسان شيئاً بعد موته
وأما التكاثر: فهو أن يكون أكثر من غيره، كالذي قال الله تعالى فيه: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وشعور الإنسان بالكثرة ينافي حقيقته وقد خلق وحيداً، وقد خلق في بطن أمه لا يشعر بشيء مما حوله، ثم يدفن وحيداً يوم يوضع في قبره، فأي نفع بالكثرة وقد خلا كل إنسان ممن مضى في قبره الآن بالشقوة والسعادة، فحتى أقرب المقربين إليك ممن كنت تحبه وما زلت تحبه ممن رحل عن هذه الحياة، هل تستطيع أن تبقى حتى إلى جوار قبره ساعتين أو ثلاث ساعات من يومك؟ فأحسننا حالاً من يزوره كل مدة من الزمن؛ ليسلم عليه في دقائق أو ثوان ويدعو بدعوات ثم ينصرف، وكان ولم يزل حبيباً إلى القلب بلا شك، ولكنه خلا بما قدم وما أسلف.
وهكذا في عموم جنس الإنسان كل منا يخلو وحده بعد ذلك، فما أحراه في حال الحياة أن يكون كذلك باحثاً عما يقدمه لنفسه، منفرداً يعامل ربه وحده، ولا يجعل كثرة المال والولد غاية مقصودة، ولا يجعل مكاثرته لهذه الدنيا هدفه المنشود، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، فقد كانوا من كثرة تفاخرهم وتكاثرهم يذهبون إلى المقابر؛ ليعدوا أمواتهم؛ وليفتخروا بهم على عادة العرب في الجاهلية، وقيل: ((زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) معناه: أن الإنسان يبقى فيها مدة، ثم يرتحل عنها إلى الآخرة، فكأنها زيارة، والذي يظهر -والله أعلم- هو الأول، فإن عادة العرب التكاثر بمن مات، ولو كانوا من أزمنة بعيدة، وكان ذلك من عاداتهم المعروفة، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:1 - 5] أي: لما فعلتم ذلك؛ ولو علمتم علم اليقين لآثرتم الآخرة وتركتم الدنيا، {لَتَرَوُنَ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6]، فأكد الله عز وجل أن من ألهاه التكاثر فسوف يرى الجحيم، ثم يعذب به بعد ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:7 - 8].(5/4)
تشبيه الدنيا بغيث ينبت زرعاً ثم يصير حطاماً
والله سبحانه وتعالى حين يخبرنا أن حقيقة الحياة التكاثر بينكم: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]، يرشدنا إلى ما ينبغي أن نعاملها به من التحقير، وعدم الاهتمام، والتضحية بها، وعدم الانشغال بها كمثل مطر أدى إلى إنبات الأرض، قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]، أي: أعجب الزراع نباته، فوصفهم في هذا الموضع بالكفار للمشابهة بينهم وبين من تعجبه الدنيا، فمن تعجبه الدنيا وينشغل بها هم الكفار الذين لم يشكروا نعمة الله عز وجل بالإيمان، وإن كان في المثل المضروب: الكفار هم الزراع، لكن ما يراد به المثل هم الكفار الذين كفروا ولم يشكروا نعمة الله عز وجل عليهم بالإيمان وبتوحيده عز وجل وببعثة رسله، فأشركوا بالله عز وجل، وكفروا برسله قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20].
فهكذا الدنيا مثالها واضح، وإن كانت تأخذ في عمر الزرع أشهراً، وفي عمرنا نحن تأخذ سنوات طالت أو قصرت، ولكن في نهاية الأمر لابد من أن يكون الإنسان حطاماً، ويكون ما جمعه حطاماً، قال تعالى: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20]، فهذا الذي يجب أن يعمل له المؤمن أن يفر من العذاب، ويطلب المغفرة والرضوان، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} [الحديد:20]، أي: المتاع الذي يغر ويخدع، فلا تنخدعوا به.(5/5)
الأمر بالمسابقة والمنافسة على فعل الطاعات
ثم بين عز وجل ما ينبغي أن تكون فيه المسابقة والمسارعة والمنافسة، قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وسابق بمعنى: أن تقصد أن تكون الأسبق، وأن تكون الأول وأن تأتي في المقدمة، وتستشعر أن هناك من يريد أن يسبقك وأنت تبذل كل ما في وسعك لكي تصل إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه المسابقة من أجل الآخرة هي علاج أنواع الأمراض القلبية التي يثمرها التنافس والتكاثر والتفاخر على الدنيا، إنَّ هذه الأمراض التي حقيقتها الكبر والحسد، والبغضاء، والكراهية تؤدي إلى أن ينقسم ذلك المجتمع أنواع الانقسامات، والتنافس على الدنيا يؤثر سلبياً على العلاقة بين أفراد المجتمع بأن يبغض بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض بالألسنة والأيدي، في الأعراض والأموال والدماء، فيظل الناس في صراعاتهم إلى أن يموتوا والعياذ بالله.(5/6)
الشح سببٌ من أسباب التنافس الذي أهلك الأمم والأفراد
إن الشح -وهو: الحرص على ما في أيدي الناس أن يضمه إلى ما في يده- حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم، (أهلك من كان قبلكم) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فالتنافس على الدنيا يزيد البغضاء والشحناء في القلوب، وأما التنافس على الآخرة فهو يزيد الود والحب رغم أنه تنافس.
إن الإنسان يحرص على أن يكون هو المقدم، وهذا إذا كان في طاعة الله، ولم يخدع الشيطان صاحبه حتى يجعل له الدنيا وقد ألبسها صورة الطاعة، وهو ينافس على الدنيا في الحقيقة وإن كان بستار ولباس الدين، فإنه إذا كان التنافس على الآخرة حقيقة زاد الأمر وداً وحباً، وإذا وجدت التنافس يؤدي إلى البغضاء والكراهية فبالقطع واليقين أنَّ هذا ليس الذي أمر الله به؛ لأن ما أمر الله به يؤدي إلى ما يحبه ويرضاه، وهو لا يحب البغضاء حالقة الدين، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان يؤدي إلى الحسد فالله لا يحبه ولا يشرعه، كيف وقد هلك إبليس به، وهلك ابن آدم الأول به، نعوذ بالله.
إذاً: إذا وجدت البغضاء والكراهية والحسد وإن كان فيما يبدو تنافساً على الدين فأيقن أنه ليس كذلك، وأيقن أن هذا ليس تنافساً على الدين، بل دخلت الدنيا حتماً واستقرت في القلوب، ثم لبست لباس الدين وفيما أُظهر الناس أنهم يتنافسون على مرضاة ربهم والحقيقة أنهم يتنافسون على المنازل في قلوب العباد وفي نظرهم نعوذ بالله من ذلك، وذلك كله راجع إلى شدة الانشغال بالدنيا والتكاثر فيها، ونسيان المغفرة والجنة، فكلما أكثرت الفكر في يوم القيامة، وفي الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكلما تفكرت في الموقف، وفي الحساب والحشر وصفة القيامة، وكلما صغرت الدنيا في عينيك وفي قلبك، وكلما تنافست فعلاً على الآخرة، وهان عليك أن تخذل من الدنيا، وهان عليك وسهل أن تكون سمحاً في معاملتك، غير بخيل ولا آمرٍ الناس بالبخل، فلا بد أن تعرف أن طاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ولذلك كان السباق على الآخرة لابد أن يأتي بالخير، فإذا وجدنا شراً فلنتهم أنفسنا، فإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد.(5/7)
أمثلة في المسابقين إلى طاعة الله
إن الله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا الأمثلة في المسابقين إلى طاعته، والمتنافسين في مرضاته فيما جعل من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من حبهم بعضهم لبعض مع تنافسهم على الطاعة، فهذا عمر يقول حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنفقة: اليوم أسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله صدقة لله عز وجل، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله، وعندما جاء أبو بكر بماله كله قال: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: لا أسابقك إلى شيء أبداً)، ومع ذلك يظل على الحب والود، ويظل الناصح الأمين المخلص، وربما اختلف معه، لكن يظل الوئام والحب صادقاً في قلوبهم بين بعضهم بعضاً؛ ولهذا ولما حاول البعض أن يوقع بينهما عندما أمضى أبو بكر أمراً وكتب لبعض الناس به صكاً أو نحو ذلك، فقابل عمر فقطع ذلك الصك أو تلك الورقة، فذهب إلى أبي بكر يقول: أنت الأمير أم هو؟! فقال: هو لو أراد.
فانظر إلى هذا الفقه العظيم! وكيف كان تنافسهم على الطاعة لا يثمر حقداً ولا ضغينة ولا بغضاء، هذا أبو بكر يوم السقيفة يقول للأنصار، وقد أرادوا أن يجعلوا أميراً منهم بالإضافة إلى أمير المهاجرين، وبين لهم أن هذا الأمر لا يصلح إلا لهؤلاء الملأ من قريش قال: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، وإذا بـ عمر يطلب من أبي بكر أن يبسط يده ليبايعوه، فيؤاثر ولا يؤثر إلا ما يعلم أنه الحق وأنه النصح للأمة، وأبو بكر كان صادقاً فيما نصح، وهو قد رضي لهم ذلك، وإن كان هو الأفضل رضي الله تعالى عنه، وعمر رضي الله عنه له فضل عظيم في تقديم أبي بكر لهذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهكذا كان السباق على الآخرة يؤدي إلى مزيد الحب ومزيد الود، وهكذا طبيعة حقيقة التنافس على مغفرة الله؛ لأن الإنسان المؤمن إنما يحب في الله، وهو إذا ظهرت طاعته في الأرض أحب ذلك حباً لله عز وجل، وحباً لظهور دينه، فكيف يمكن أن يكره ظهور الطاعة في الأرض لأجل أنها ظهرت على غير يديه، أو لأنها ظهرت من غيره، وأي عمل يعمله في الحياة إلا أنه يريد أن تظهر عبودية الله في الأرض، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى، فأما إذا كان يريد كبراً وعلواً فهذا الذي يشرق إذا ظهرت الطاعة على يد غيره، ولا يقبل ذلك ولا يستسيغ ذلك، فتجد الدنيا من وراء ستار الدين، نعوذ بالله من ذلك.(5/8)
تفاوت الناس في الإيمان وتفاوت درجاتهم في الجنة
قال الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]، فالدنيا صغيرة ضيقة لا تحتمل أن يكون الجميع فيها ملوكاً ولا رؤساء، ولذا كان التنافس على رئاستها أشقى أنواع التنافس؛ لأن الأرض لا تتسع إلا لعدد محدود من الكبراء والرؤساء والملوك، وأما الجنة فعرضها كعرض السماء والأرض، وأصحابها كلهم ملوك، قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20]، وأدنى أهل الجنة منزلة من يسير في ملكه ألفي عام، فهو ملك الله عز وجل، وجعل أصحاب الجنة ملوكاً، وجعل لهم ملكاً كبيراً، فأدناهم منزلة: من له مثل عشرة أضعاف ملك من ملوك الدنيا، بل في الروايات الصحيحة أن له عشرة أضعاف الدنيا بأسرها، وهي لا تتحقق لملك من ملوكها.
فانظر إلى هذا الملك العظيم، فهي جنة {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]، فتحقيق الإيمان هو الذي يهدف له المؤمن، وهو الذي يسعى له بكل طريق؛ ليكون مؤمناً حقاً كما وصف الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
فالله سبحانه وتعالى جعل من المؤمنين من هو مؤمن حقاً، فدل ذلك على أن هناك من يقول: أنا مؤمن وليس مؤمناً حقاً كمسلمة الأعراب الذين قال عز وجل فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
فذلك أن الإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وليس مجرد كلمة تقال، ولا إعلان يعلن، والالتزام حقيقة في الباطن والظاهر، وفي السلوك والعمل والعقيدة، فلابد أن يكون الإنسان مجتهداً في تحقيقه من جميع جوانبه؛ ليفوز بهذه الجنة، قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فاعلموا إذاً أنكم لن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل، واعلموا أنكم لن تنالوا هذا الفضل إلا من ذي الفضل العظيم وبمشيئته، فأيقنوا بقدره، وفروا من الله عز وجل إليه، والجأوا إليه سبحانه وتعالى في أن يفضلكم على من سواكم من الخلق، فإن الله عز وجل جعل اصطفاءه واختياره لأهل الجنة من عباده واحداً في الألف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى لآدم يوم القيامة: (يا آدم أخرج بعثا النار؟ فيقال: من كل كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فحتى تكون أنت الواحد في الألف الذي ينجو إلى الجنة فاعلم أن ذلك لن تناله إلا بتوفيق الله عز وجل، فاضرع إليه سبحانه وتعالى أن يمن عليك بفضله، وأن يرزقك طاعته، وأن يعينك على عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.(5/9)
من ثمار الإيمان: الرضا بقضاء الله وقدره وعدم الجزع عند المصيبة أو الفرح غروراً وكبراً
إن من أعظم آثار الإيمان بحقيقة الحياة وأنها لهو ولعب وزينة، والإيمان بالآخرة وتحقيق الإيمان بالله ورسله من أعظم ثمار ذلك وآثاره في سلوك المؤمن في حياته عندما تصيبه المحن، وتصيبه المصائب فهو لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح عندما تأتيه الدنيا فرح الغرور والكبر، ولا فرح البطر والأشر الذي ينسب إلى نفسه الفضل، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وذلك يتحقق بالنظر فيما قدر الله عز وجل من المقادير، وهذا هو ثمرة الإيمان بالقدر، وثمرة الإيمان بما كتب الله عز وجل من مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فجرى في تلك الساعة فيما هو كائن.
وفي حديث أبي هريرة (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق)، أي: جف القلم على علم الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فاللوح المحفوظ قد جف قلمه، وطويت صحفه، وأما الكتب الأخرى فهي نسخ تقبل المحو والإثبات، أما اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، قال ابن عباس: الكتاب كتابان.
فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس المؤمن الإيمان بالقدر؛ لكي لا يأسى على ما فات، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: من قبل أن نبرأ الأرض، أو من قبل أن نبرأ النفوس، أو من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: نخلقها، أو من قبل أن نبرأ الخليقة كلها، فيشمل التقديرات كلها، وهذا أحسن التفسيرات في هذا المقام، فقبل أن يبرأ الله كل ذلك، وقبل أن يوجده، قدر الله هذه المقادير، وذلك أن الذي يترك التنافس على الدنيا سوف يفوته منها، وأن الذي ينافس ويسابق على الآخرة سوف يصيبه من أنواع البلايا والمحن ما يصيبه، فلابد إذاً أن يكون مهيأ النفس مستعداً لتحمل ذلك بغير شقاء ولا تعاسة.
إن المصائب تشقي الناس إذا لم يؤمنوا بالقدر، وإذا لم ينظروا إلى البداية والنهاية، وأما إذا أيقنوا بالنهاية هانت عليهم المصيبة، وإذا أيقنوا بالبداية نظروا إلى حكمة الله الذي علم وقدر وكتب، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ووضع الأشياء في مواضعها، وله الحكمة والملك والحمد، يحيي ويميت وهو على شيء قدير، فليس فقط له الملك بغير حمد حتى يتصرف في ملكه كما يتصرف أهل الدنيا ممن أعطاهم الله الملك؛ للشهوات والرغبات الدنيئة التي يستحقون عليها الذم، كما أنه ليس له حمد بغير ملك بل هو سبحانه وتعالى مع كمال ملكه يستحق أكمل أنواع الحمد، قال تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1]، وأكثر الخلق إذا كان ملكاً تصرف على هواه، وكثير ممن له حكمة يتصرف بها لا يكون قادراً، ولا يكون ملكاً متصرفاً ليمضي الحكمة في مواضعها، والله عز وجل له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
فإذا نظر الإنسان إلى البداية والنهاية فعند ذلك تهنأ نفسه بالحياة وتستقر، ويستقر قلبه ويسكن ولا يجزع عند المصائب، قال عز وجل: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: كتابة كل مقادير الخلائق على الله يسير، وفيه إثبات قدرة الله، وفيه إثبات أسمائه وصفاته ومعرفة علمه وفعله عز وجل بالكتابة، حيث كتب المقادير وأمر بكتبها، ومعرفة مشيئته وقدرته، ومعرفة خلقه لأفعال عباده، هكذا أخبر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] أي: من الدنيا، فأنت إذا نافست على الآخرة فاتتك الدنيا وإذا زهدت في الدنيا، فاتك بالتأكيد من شهواتها، ومع ذلك لا تحزن ولا تأسَ ولا تغضب من أجلها، إنها تافهة يسيرة، إنها أقل من أن تغضب من أجلها أو تحزن على فواتها، قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23]، وقرئت (بما أتاكم) أي: ما آتاكم من الدنيا، وأما قراءتنا ((آتَاكُمْ ٍ)) أي: بما أعطاكم الله منها.
وأما هذا الفرح المذموم فليس مجرد السرور الذي يحصل للإنسان طبعاً وفطرة عند حصول ما يوافقه من أهل أو مال أو ولد، ولكن ذلك الفرح الذي حذر الصالحون من قوم قارون منه، حيث قال: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فليس الفرح هو السرور، ولكن الفرح الذي هو الكبر والبطر والغرور بالنفس وأن يقول: هذا لي، كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فهذا الذي ينسب لنفسه الفضل، ويرغي ألسنة الناس بذلك مباشرة وبغير مباشرة، كأن يأمرهم أن ينادوا وأن يقولوا كما نادى فرعون في قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فأراد أن ينادي بذلك في أرجاء مملكته كما يفعل أكثر ملوك الأرض حين يسخرون من ينادون في الناس بملكهم وحكمهم، والثناء عليهم بفضائل ليست لهم، فسبحان الله هذا هو الفرح إذا فرح، فالإنسان لما أعطي فعلاً فرح الكبر والبطر، ومدح النفس والثناء عليها، وظن أن فضل هذا ليس من الله كان ذلك فرحاً مذموماً، فكيف بمن يفرح بما لم يؤت وبما لم يأته: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
فالله سبحانه وتعالى لام من ينسب لنفسه الفضل فيما أُتي من الخير والحسنات، فكيف بمن ينسب لنفسه فضلاً ليس له؟ قال: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، وهذا من أسباب الشقاء في الحياة.(5/10)
الاختيال والفخر سببان في بغض الله سبحانه
قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، الاختيال: هو الفخر، وهو من أعظم الأمراض التي تحصل للإنسان بسبب حصول شيء من الدنيا، فيفتخر على غيره ويختال، فينسب الخير لنفسه، ويتكبر به على من حوله، ثم هو لنظرته المعظمة للدنيا يبخل بها، ولكونه يشعر أنه هو الذي أتى بها يقول: جهدي ومالي كيف أعطيه لغيري؟! فهو يبخل، ولكي لا يذمه الناس في البخل وحده ويقال عنه بخيل يأمر الناس بالبخل؛ ليكون الناس كلهم كذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37].
فتأمل كيف انتظمت عقيدة القدر والإيمان بالله ورسله علاج كل هذه الأمراض القلبية المشقية للإنسان في دنياه وأخراه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37].
فهذه ستة أمراض: مرض الأسى والحزن على الدنيا، ومرض الإعجاب بالنفس والثناء عليها، ومرض الاختيال، ومرض الفخر، ومرض البخل، ومرض أمر الناس بالبخل والعياذ بالله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24]، فهو سبحانه وتعالى الغني الحميد، فله الغنى التام وعباده كلهم فقراء إليه، وله الحمد التام سبحانه وتعالى لا يحصي الخلق ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فهذا الإيمان بأسماء الله وصفاته هو الذي يريح الإنسان أعظم راحة، وإذا تحقق هذا الإيمان في قلبه بمعرفة معاني أسماء الله وصفاته، والتعبد له عز وجل بها؛ اكتمل إيمانه بإذن الله، فجميع أركان الإيمان نابعة من معرفة الله والإيمان به، ومحبته عز وجل بمقتضى أسمائه وصفاته.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة وبضاعة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين.
اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط بذنوبنا من لا يرحمنا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(5/11)
آلام المسلمين
البلاء والمصائب والآلام النازلة بالمسلمين تصب كلها في قالب إظهار حكم الله تعالى في هذا الوجود، ويترتب على ذلك كله من المصالح ما الله به عليم، وعلى المسلم أن يعلم أنه يجب عليه يومها أن لا يفصل نفسه عن ذلك الجسد المبتلى، بل عليه أن يعيش قضايا إخوانه وهمومهم وكروبهم، وعليه أن يعلم أنه لن يخرجه الصراع والبلاء عن العمل لدينه، وحينها يلزمه أن ينهج منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والعمل، أما إن كان غافلاً معنياً بشهوته، فقد حكم على نفسه بالموت وهو مسئول أمام الله تعالى عما يحدث لإخوانه بسببه، وكذا إن كان منفذاً لمخططات عدوه شعر أم لم يشعر، فقد ارتكب أكبر الوزر وأعظم الذنب، والويل له عند الله إن لم يتب.(6/1)
واجب المسلم تجاه آلام أمته
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن آلام المسلمين كثيرة في المشارق والمغارب، وفي الشمال والجنوب، دماء تسفك، وأعراض تنتهك، وخوف ورعب، وبيوت تهدم، وأموال تغتصب، وأرض تسلب من المسلمين، وبلاد تؤخذ منهم، وقد كان يعلو فيها الحق بإذن الله سبحانه وتعالى، فإذا بها يعلو فيها صوت الباطل والشرك والكفر والعياذ بالله! هذه الآلام الكثيرة كما سمعنا كانت -ولا تزال- عبر التاريخ موجودة، وإنما نذكر بعضها ونستحضر باقيها حتى نؤدي شيئاً من النصح للمسلمين، فإن من لم يشعر بآلام المسلمين، ولم يستحضر ما هم فيه من الهم والكرب والحزن والبلاء؛ يحكم على نفسه بالانفصال عن ذلك الجسد، أو أن هذا الجزء قد مات من ذلك الجسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ومن النصيحة للمسلمين أن تتألم لآلامهم، وأن تفرح لأفراحهم، وأن تهتم لهمومهم، لا أن تجلس في بيتك مع أهلك وأولادك مطمئناً وتنسى آلام المبعدين الغرباء، وتنسى آلام المحرومين الجائعين العراة، وتنسى آلام المشردين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق أو أسروا بعيداً عن أهليهم وأحبتهم، وتنسى أولئك الخائفين الذين يأتيهم من أنواع الخوف والهلع ما الله عز وجل أعلم به.
إن ذلك ليقتضي منا بلا شك -على الأقل إذا عجزنا- أن نمد لهم يداًَ بالمساعدة، وألا تكون قلوبنا جامدة قاسية عن الشعور بآلامهم، علها تتحرك في صدق بالدعاء وطلب النجاة لهم من الله المؤمن المهيمن سبحانه وتعالى.(6/2)
الحكم والغايات المحمودة من وراء مصائب أمة الإسلام(6/3)
شهود الحكمة في أفعال الله وحمده تعالى عليها
وسنتكلم في هذا الأمر ونبين أموراً وفوائد عجيبة، ومن جملة هذه الأمور أن نوقن بأن الله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، فالله عز وجل ما قدر هذه الآلام إلا لحكم وغايات محمودة، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى، ألم تسمع قول الله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]؟ فهو سبحانه وتعالى العزيز رغم أن أولياءه قد قتلوا، وهو سبحانه وتعالى الذي قدر ذلك عليهم، وهو مستحق للحمد على ذلك، فله الحمد على كل حال، والحكم من تقدير البلايا والمحن تقتضي منا أن نسعى في تحصيلها؛ لأننا إذا حصلنا الحكم زالت عنا البلايا والمحن.
إن الله عز وجل ما قدر هذه الآلام على المسلمين إلا للخير الذي يريده ويحبه لهم سبحانه وتعالى، وهكذا سنته عز وجل في كل ما يقدر من الأمور المكروهة التي لا يحبها ولا يرضاها، فالله عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الفساد، ويكره مساءة المؤمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، فالله يكره مساءة المؤمنين، ومع ذلك قدر عليهم ما يكرهون ليجعل في ذلك خيراً كثيراً، كما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فنحمد الله أولاً رغم الآلام، بل نحمده على الآلام سبحانه وتعالى، فله الحمد على كل حال، وهو سبحانه وتعالى الحميد الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وشهودنا لهذه الحكم شهود لاسمه الحكيم سبحانه وتعالى، ولاسمه العليم عز وجل.(6/4)
ثبات الإيمان في قلوب أهله
إن البلايا والمحن لها حكم عظيمة لمصلحتنا، وذلك لكي تصدر منا أعمال معينة أهمها الإيمان، فإن الله تعالى قدر المداولة للأيام بين الناس ليقع منا الإيمان، قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:139 - 141]، فأول الحكم هي في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140].
والإيمان -كما نعلم- قول وعمل، فقدر الله عز وجل سنة المدافعة بين الناس صلاحاً للأرض وأهلها، كما قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وذلك أن الإيمان بدون مواجهة مع الكفر والطغيان والظلم والباطل يضعف في نفوس الناس تدريجياً، وهذا -والله- أمر ملحوظ تجده عند المترفين، وتجده عند من لا قضية لهم، وعند من لا يستشعرون أنهم في معركة من أجل الإسلام، فتجد إيمانهم يضمحل تدريجياً ويضعف، ولا يجد الواحد منهم نفسه متأثراً حين يقرأ تلك المعاني العظيمة في القرآن، وتلك الآيات التي وقعت في قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم يوم نزلت، ولا يستشعر العبادات القلبية الواجبة التي لابد من تحصيلها حتى تزول الآلام والمحن.(6/5)
ظهور الصدق مع الله عز وجل
فالله عز وجل قدر هذه الآلام والمحن لكي نؤمن ونصدق مع الله عز وجل، ولكي نكون صادقين في قولنا: (آمنا) كما قال الله عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، ونحن نعلم أنه يعلمهم سبحانه وتعالى كل شيء قبل خلق هذا الوجود كله، فصفة العلم صفة أزلية من صفات الله عز وجل، فالعلم الأول ثابت قبل وجود المخلوقات، فالله كان بكل شيء عليماً، ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً بكل شيء، ولكن ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين علماً يحاسبهم عليه، فيعلمه علم شهادة بعد أن علمه علم غيب، ليرى أنه قد وقع منهم، والله يحب أن يرى منا الصدق، كما قال ابن عباس: ليرى الذين آمنوا أو ليرى الذين صدقوا.
فالله عز وجل يحب منا الصدق، والصدق ليس فقط في الكلام، بل قد قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وقد نزلت هذه الآية في مثل أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، وفي إخوانه الذين صدقوا في العمل بعد أن صدقوا في القول رضي الله تعالى عنهم.
والله عز وجل يحب أن يوجد من المؤمنين من يبذل نفسه وماله وكل شيء عنده في سبيله عز وجل، ويحب كذلك هذه الدماء التي تراق في سبيله؛ لأنها أريقت حباً من أصحابها له عز وجل، ونصرة لدينه، وهو سبحانه وتعالى يتقبلها منهم، (ويبعثهم يوم القيامة وجراحهم لونها لون الدم، وريحها ريح المسك)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك قدر الله أن يتسلط الكفار على المسلمين، ليستشهد من يستشهد، وليظهر المنافقون والبخلاء والجبناء، كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167].(6/6)
الصبر والاحتساب
والله سبحانه وتعالى يحب منا عبادة الصبر، بل هي المفتاح الذي إن وجد مع التقوى غير الله عز وجل ما بنا، ورد الله عز وجل كيد أعدائنا، فالمشكلة عندنا هي عدم الصبر والاحتساب ورجاء الفرج من عنده سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى يفرج كربات المسلمين، وإنما قدر الكربات ليصبروا، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، وهو البصير سبحانه قبل أن يصبروا وبعد أن يصبروا، ولكنه يحب عز وجل أن يرى صبرهم ويحب أن يثيبهم عليه.
والله سبحانه وتعالى قدر أن يُبتلى المؤمنون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وليس ذلك جارياً عليهم بكيد أعدائهم، وإنما يجري عليهم بتقدير الله عز وجل، فالله تعالى قال: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ))، ولم يقل: وليصيبنكم، وإنما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فكيف تحصل الصلوات؟! وكيف تحصل الرحمة؟! وكيف يحصل الصبر؟! وكيف يشهد المؤمنون أنهم ملك لله عز وجل يفعل بهم ما يشاء وأنهم إليه راجعون فيحققون الإيمان باليوم الآخر؟! وكيف يحدث ذلك بغير آلام؟! إن ولادة المولود لابد من أن تسبقها آلام المخاض، وهكذا ولادة التمكين لأمة الإسلام لابد من أن تسبقها تلك الآلام وهذه الدماء إلى أن يولد ذلك الذي كتب الله حياته، فالمجتمع المسلم لا يموت بإذن الله تبارك وتعالى إلى يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة).
فإن ماتت طائفة وسفكت دماؤها وانتهكت حرماتها ولدت من بعدها طائفة أخرى، ولكن مع آلام الأولى والثانية، إلى أن يأذن الله عز وجل بالنصر والتمكين.(6/7)
حصول الضراعة إلى الله تعالى والاستغاثة به
كذلك قدر الله الآلام لأنه يحب أن يسمع تضرعنا ودعاءنا واستغاثتنا، وهكذا أخبر عز وجل حين قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:42 - 43]، فهذا التضرع يحبه الله سبحانه وتعالى، أن تقوم القلوب قبل الأقدام ذليلة لله منكسرة له، فقيرة إليه، تعلم أنَّه لا ناصر لها في الأرض سواه، وإن اجتمعت الأمم من أولها إلى آخرها على أهل الإسلام فالله نعم المولى ونعم النصير، فمن أيقن بذلك قام لله عز وجل داعياً متضرعاً مستغيثاً راجياً يتشبه بقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر وهو يرى قريشاً معها إبليس قد جاءت بحدها وحديدها وأشرافها وكبرائها يحادون الله ورسوله، فما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وإنما ظل يصلي ويبكي ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول علي رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك أنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فالله يحب أن نستغيث به، فعزته وجلاله لن يغيثنا سواه سبحانه وتعالى، ولا ملجأ لنا إلا إليه، وتضرعنا بين يديه من أعظم أسباب كشف الكرب والهم، فهو سبحانه وتعالى الذي وعدنا الإجابة، بل وأخبر سبحانه وتعالى أنه يجيب دعاء عباده فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، وإذا تأملت هذا الترتيب العجيب وجدته وسيلة المسلمين بإذن الله، فالعبد إذا شعر بالاضطرار والخوف الشديد شعر بالاضطرار والتضرع إلى الله، فيكشف الله السوء، وبعد كشف السوء وزواله يستخلفنا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ((وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)).
فهو سبحانه وتعالى يحب أن يسمع التضرع والدعاء، وينزل السكينة على ذلك، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فهو الذي قدر المواجهة مع الكفر لكي يلجأ إليه المؤمنون فينزل السكينة في قلوبهم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وهو تعالى يحب ذلك، ومن أجل ذلك قدر المحن، وقدر الآلام، وله الحمد سبحانه وتعالى على ذلك كله.
وعندما يزداد الكرب والخوف والألم، وعندما يكون هناك رد فعل طبيعي منا إن كنا صادقين، فنتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى في ليلة الأحزاب، ليلة الريح الشاتية الباردة المطيرة، الليلة المظلمة التي لم يبق معه عليه الصلاة والسلام فيها حول الخندق إلا قلة من أصحابه الكرام، فقد رحل كثيرون وقالوا: إن بيوتنا عورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكينة عجيبة، يصلي من الليل ثم يقول لأصحابه: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فمن شدة الجوع، ومن شدة الجهد والتعب والإرهاق، وشدة الخوف والظلمة والريح الباردة لم يتحرك أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي أولئك الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم، فلا يلتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتباً لأحد، بل يلجأ إلى الله، ويصلي كثيراً، فصلى من الليل يتضرع إلى الله عز وجل في هذه الزلزلة التي قال عز وجل عنها: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
وعندما نرى أحزاب الدنيا قد اجتمعت علينا من يهود ونصارى وملاحدة ومشركين ومنافقين من جميع أرجاء الأرض فإننا نتذكر يوم اجتمعت أحزاب العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقاييس في ذلك الوقت لا يمكن أن تكون بميزان الناس في صالح أهل الإسلام أبداً، فعشرة آلاف في مواجهة قلة بقوا وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا يفعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولم يستجب أحد من صحابته لترغيبه حين انتدب من يأتيه بخبر القوم قبل الأمر؛ لأنهم لم يكونوا يخالفون طلبه، فصلى مزيداً من الصلاة، وكرر الترغيب مرة ثانية فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم منهم أحد، فيتركهم عليه الصلاة والسلام ويصلي من الليل، ثم يقول في الثالثة: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم أحد، فيقول: (قم يا حذيفة!)، والصحابة رضي الله عنهم أجمعين لا يمكن أن يخالفوا أمره عليه الصلاة والسلام، وإنما لم يتحركوا عندما كان الأمر مستحباً؛ لأنه كان ترغيباً دون عزيمة في الطلب، ولكن لما قال: (قم يا حذيفة) ما كان له من القيام بد، فقام حذيفة رضي الله عنه وذهب إلى القوم ينظر كيف تفعل بهم الريح، وكيف تفعل بهم جنود الله، فقد كانت الريح تكفئ قدورهم، وتقلع خيامهم، وكان أبو سفيان يقول: النجاة النجاة إني مرتحل.
فترحل قريش، وترحل غطفان بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام، فالأمور العظمى تتقرر في الصلاة يا عباد الله! فبدعوة صادقة أثناء العبادة وأثناء التضرع تنكشف البلايا والمحن.
ويعود حذيفة رضي الله تعالى عنه، وقد ذهب وكأنه في حمام وعاد وكأنه في حمام إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فوجده يصلي عليه الصلاة والسلام.
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على الدوام متضرعاً إلى الله عز وجل مسبحاً ذاكراً، فالتضرع إلى الله من الحكم البالغة التي من أجلها قدر الله عز وجل وجود البلايا والمحن.(6/8)
صدق التوكل على الله عز وجل
وكذلك صدق التوكل على الله عز وجل، وحسن تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى والثقة الكاملة به، كما قال عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62].
وقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175]، فالمطلوب إفراد الله عز وجل بالخوف والرجاء، وأن تنتظر من الله الفرج لا من سواه، فـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.(6/9)
التمحيص للمؤمنين وإظهار المنافقين
والتمحيص لعباد الله المؤمنين من أجل الحكم وأنفعها، ليظهر النفاق ظاهراً علانية بعد أن كان مستكناً في القلوب، فلا يتولى المنافقون أمراً للمسلمين بعد ذلك، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] فهو سبحانه وتعالى يريد أن يمحقهم بعدله، فهذه كلها حكم ومصالح من تقدير البلايا والمحن.(6/10)
ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى
ومن أعظم ذلك وأهمه: ظهور آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى لعباد الله المؤمنين في هذا الوجود، فالله عز وجل تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته في كتابه، وتعرف إليهم بآثارها في هذا الكون الواقع المشهود، فالله عز وجل يريد أن يظهر لنا نفاذ إرادته عز وجل، فإرادته سبحانه وتعالى نافذة، ومشيئته نافذة، ويريد أن يظهر منته على المستضعفين، وإرادته في كسر الجبارين المتكبرين، ولن يقع ذلك إلا بوجود الاستضعاف أولاً، ثم المن على المستضعفين ثانيا، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، فالله عز وجل فعال لما يريد، فهو يظهر للناس ذلك بوجود هذه البلايا والمحن وهذه الآلام ليظهر بعد ذلك أنه العزيز وأنه ذو انتقام، وأنه سبحانه وتعالى المنان، وليظهر ملكه سبحانه وتعالى، فقد كان لا بد من إعزاز وإذلال، ولابد من تقليب الممالك ليعلم الناس أن الملك لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، فلابد من تداول الملك، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسر، ولابد من أن يحدث الإعزاز والإذلال لنعلم أن الله وحده هو المعز المذل، وأنه وحده هو الخافض الرافع، ولابد من محن وآلام ليعلم الناس أن الله وحده هو سبحانه الذي يكشف الكرب ويذهب الغم، فاللهم كاشف الغم ومذهبه، مجيب دعوة المضطرين، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.
ومن ذلك: إظهار أنه سبحانه وتعالى المولى والنصير، وأنه سبحانه وتعالى العزيز، قال عز وجل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150]، وقال سبحانه وتعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40] سبحانه وتعالى، فكيف يحدث ذلك إذا انتصر المسلمون بقوتهم أو إذا انتصروا بعدتهم؟! فهم إنما ينتصرون بنصر الله وتوفيقه عز وجل، فالله مولى الذين آمنوا والكافرون لا مولى لهم.
فيظهر ذلك عندما تحدث هذه الآلام والبلايا والمحن ثم ينصر الله عباده المؤمنين رغم ذلك كله ليظهر أنه سبحانه وتعالى مع المؤمنين، وتظهر آثار معيته عز وجل التي يستحضرها أهل الإيمان الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:249 - 251].
والأمر أمره سبحانه، فهو تعالى يقلب القلوب كيف يشاء، ولولا أنه عز وجل أزاغ قلوب من شاء ثم هداهم لما علمنا ذلك، أما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام على أقوام فقال: (اللهم العن فلاناً وفلاناً، اللهم العن رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله)، ثم أنزل الله عز وجل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]؟! ولقد كان عكرمة وسهيل بن عمرو وأمثالهما ممن سماهم عليه الصلاة والسلام في دعائه، فتاب الله عز وجل عليهم لنعلم أنه عز وجل وحده الذي له الأمر، وأنه وحده مقلب القلوب، ولنلتجئ إليه سبحانه وتعالى في تثبيت قلوبنا ودوام الهداية علينا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي هدى وهو الذي يمن سبحانه وتعالى باستمرار الهداية، ولذا كان يقول الصحابة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول معهم: إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا ويمد صوته بها كما يمدون؛ لأنهم يلجئون إلى الله ويعلمون تقليبه للقلوب وللأقدام، فهو الذي يثبت من يشاء سبحانه وتعالى، ليرينا سبحانه وتعالى أنه الغالب على أمره، فلولا بيع إخوة يوسف له لما كان له من السلطان عليهم بعد ذلك، ولولا دخوله السجن لما كان له الملك بعد ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فهو سبحانه وتعالى ما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، قال عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].
كل هذه أسماء وصفات وأفعال لله عز وجل يرينا آثارها بوجود تلك الآلام، ولا يمكن أن تظهر لنا إلا من خلال هذه الآلام والمحن، ليرينا سبحانه وتعالى أنه يمهل ويحلم، فيمد للظالم مدة من عمره يمهله فيها ويأتيه من نذر الله ما يأتيه، فإذا تاب إلى الله عز وجل غفر الله له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بعباد يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، ألم تسمع لقوله تعالى بعد أن ذكر إجرام المجرمين في قصة أصحاب الأخدود وقتلهم أولياءه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]؟ قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة.
فهو سبحانه يتوب على من يشاء، وربما نرى في أعدائنا من يتوب الله عز وجل عليه بعد ذلك.
وكذلك يرينا ربنا قدرته عز وجل وإملاءه لمن لم يتب منهم، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، ليظهر لنا متانة كيده عز وجل، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، وقد نزلت هذه الآيات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة محاصر مستضعف، ونفذ ما أراد الله عز وجل في سنوات معدودة كما وعد عز وجل، فهو سبحانه وتعالى الذي يكيد، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولا تظن أنه سبحانه وتعالى غافل، بل هو على كل شيء شهيد، وهو عز وجل لا يغيب عن خلقه ولا يغيبون عنه سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء شهيد عز وجل، أي: لا يغيب عن تدبيره وملكه، وإلا فهو سبحانه وتعالى حجابه النور كما قال عليه الصلاة والسلام.
فكل أسمائه وصفاته لها آثارها في هذا الوجود، ولابد من أن تظهر، وهو يحب أن يتعرف إلى عباده من خلال أفعاله ومقاديره عز وجل، فمن أجل ذلك قدر الآلام التي هي كثيرة ومؤلمة لنا.(6/11)
نتائج النظر إلى حكم المصائب والآلام
لكن لو نظرنا إلى هذه المصالح والحكم ونظرنا إلى أسمائه وصفاته التي من مقتضياتها تقدير هذه الآلام لذابت الآلام، ولكانت حلاوة محبة الرحمن سبحانه وتعالى وحلاوة الإيمان به والشوق إليه عز وجل والرضا به وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى مذهبة لآلام المسلمين كلها، وعندما تظهر لهم الحكم أو يظهر لهم من الحكم يوم القيامة ما لم يكن قد ظهر قبل ذلك يود هؤلاء المعذبون المستضعفون أن لو سحبوا من يوم ولدتهم أمهاتهم -بل من يوم خلقت الدنيا- إلى يوم القيامة على وجوههم في الله عز وجل، أما ورد في الحديث الصحيح ما يدلنا على ذلك؟! فإنه قد جاء في الحديث أنَّ الشهداء الذين قتلوا يوم أحد طلبوا من ربهم حين اطلع عليهم اطلاعه، وسألوه أن يعودوا إلى الدنيا ليقتلوا فيه مرة أخرى.
ألم يجد عبد الله بن حذافة رضي الله عنه حلاوة البذل وحلاوة الإيذاء؟! عجب -والله- أن يقال: حلاوة الإيذاء، لكنها القلوب المؤمنة التي بعين البصيرة رأت ما وعدها الله عز وجل.
فـ عبد الله بن حذافة حين رفع ليلقى في قدر من نحاس كان يغلي فيه الماء رأى عظام بعض أصحابه تلوح فبكى فظنه ملك الروم قد فزع من الموت، فلما سأله قال: أبكي لأن لي نفساً واحدة تلقى في هذه القدر ساعة في الله عز وجل، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً يفعل بها ذلك في الله عز وجل، فالحمد لله على هذه المحبة التي قذفها في قلوب أوليائه وجعلهم بها سبحانه وتعالى لا يرون تلك الآلام، بل يستعذبونها في الله سبحانه وتعالى، ويود أهل العافية في الآخرة حين يرون أجور البلاء أن لو قرضت جنوبهم بالمقاريض في الله عز وجل سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية، ونسأله سبحانه وتعالى الإعانة وحسن عبادته عز وجل.
كل ذلك نقوله مقدمة لكي لا نيأس من الآلام الكثيرة، وإن كان غرضنا في الحقيقة أن نبحث في تقصير الأبناء بعد أن سمعنا كيد الأعداء، ونريد أن نتعلم ما يلزمنا، ونريد أن نعرف واجبنا من تقصير أبناء هذه الأمة الذي أدى إلى وجود الآلام؛ لكي ندعو كل المقصرين -ونحن من أولهم- إلى التوبة من التقصير والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أبناء الأمة في التقصير على درجات متفاوتة، والحقيقة أن التقصير هو المؤلم لصاحبه قبل أن يكون جالباً للآلام إلى غيره، والبعد عن الله هو الجالب لألم الخوف والرعب، فإن الأمن والإيمان قرينان كما أن الظلم والخوف قرينان.
فنسأل الله المؤمن المهيمن أن يؤمننا في بلادنا وأوطاننا، وأن يؤمن المسلمين في المشارق والمغارب، فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي بيده الأمر كله، فاللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.(6/12)
موقف المنتسبين إلى الإسلام من دينهم(6/13)
منفذو مخططات عدو الإسلام عن علم أو عن جهالة
إنَّ فريقاً من أبناء هذه الأمة تقصيره أعظم التقصير، وبه نبدأ؛ لأنه أحوج الناس إلى التوبة إلى الله عز وجل، فهذا الفريق تقصيره ليس تقصيراً عادياً، إن هذا الفريق باع نفسه لعدوه والعياذ بالله؛ لأنه رأى الدولة للكفرة والظلمة والمجرمين، فباع نفسه لهم، وباع دينه بعرض من الدنيا فصار لمخططات الأعداء منفذاً، ولمكرهم يداً قذرة نجسةً تطبق ما يريد الأعداء، وجعل من لسانه لساناً للعدو ينشر به الأباطيل والضلالات التي يريد العدو نشرها في المسلمين ليتمكن من ذلك الجسد الواحد؛ لأن أعداءنا يعلمون أنهم لا يقدرون على المسلمين وجسدهم حي ومجتمعهم موجود وإسلامهم في قلوبهم، لا يقدرون على المسلمين إلا إذا كانوا مخدرين، وانتشرت الأمراض في ذلك الجسد، لذا أحبوا نشر البدع والضلالات والكفريات، وبدلاً من أنه كان في غابر الأزمان يتكلم الكفار ويطعنون في الإسلام جاء أناس من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس يتكلمون بما يريد الأعداء حتى طعن منهم من طعن في وجود الله عز وجل وبقائه وحياته، وطعن منهم من طعن في كتابه وكلامه، وأرادوا تصويبه بالقلم الأحمر خسئوا وخابوا والعياذ بالله، ووجد منهم من يطعن في شرع الله ويصفه بالتخلف والرجعية والعياذ بالله، ووجد منهم من يطعن في أحكام الله عز وجل ويتركها ذاهباً إلى ما أوجدته زبالة الأذهان وسخافة العقول الأرضية البشرية الوضعية، ووجد في المسلمين من أراد آباؤهم أن يكونوا مسلمين بالفعل، ودليل ذلك أن الأب حين سمى ابنه محمداً أو أحمد أو غير ذلك من الأسماء الإسلامية كان يريد له أن يعبد الله عز وجل، وما تصور في يوم من الأيام أن يكون حرباً على الإسلام والعياذ بالله من ذلك، فوجد من يصد عن سبيل الله، ووجد من يحارب الإسلام، وهذه الفئة منها من يفعل ذلك على بصيرة، وهو يعلم أنه ينفذ مخططات الأعداء الذين يريدون الصد عن سبيل الله ويريدون أن ينقلب الناس على أعقابهم، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، فعلموا أن الأعداء يريدون ذلك فطبقوا، وسعوا في نشر ما يحبه الأعداء من نشر الفاحشة، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويكرهون أن ينتشر القرآن والصلاة والحجاب، ويكرهون أن تنتشر دعوة الله، فهؤلاء الواحد منهم على بصيرة، ويعلم أنه جندي ذليل خبيث لأعداء الله عز وجل، باع كل شيء علناً والعياذ بالله، وقديماً كان يستتر، وإذا به الآن يعلن أنه قد باع كل شيء ليكون أذل من كلب عندهم، نعوذ بالله من ذلك.
هذا الصنف من الناس هو -والعياذ بالله- في أسفل الدركات إن لم يتب إلى الله عز وجل، وقد دعاه الله إلى التوبة، بل إن هذا الصنف يكون مع أعداء الإسلام في الدركات السفلى؛ لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، لذلك نقول لهؤلاء: دعاكم ربكم عز وجل إلى التوبة فلا تحاربوا دينه أبداً؛ فإنكم لستم تطيقون حرب الله عز وجل، فالله ناصر دينه مهما حدث، كما أخبر عز وجل بقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وهناك صنف من هذا النوع أيضاً ليس على تلك البينة، لكنه متابع لأهل الباطل، متابع لأعداء الإسلام ينفذ مخططاتهم وينفذ ما يريدون، وهذا الصنف نوجه له قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24] لأننا ما زلنا نعده من أبناء الأمة وإن كان مخدوعاً، لكن تيقن -أيها المخدوع- المنفذ لمخططات أعداء الله المعين لهم على ما يريدون من أذية المسلمين وآلامهم وذبحهم وانتهاك حرماتهم وإذهاب دعوة الحق من بينهم أنك إن استمريت على ذلك فمصيرك مصيرهم، وإن كنت لا تريد أن تفتح عينيك على هذا المصير فإنا نوجه لك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وتعلم من ذلك أن أهل هذا الشر نوعان: النوع الأول: الدعاة، والنوع الثاني: المستجيبون لهؤلاء الدعاة على أبواب جهنم.
والحال أن من أجاب الدعاة إلى جهنم قذفوه فيها.
فاحذر على نفسك أن تكون جندياً لأعداء الله، فإن الله لا يرضى إلا بأن يجعل مصير الأتباع كمصير السادة والكبراء، كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67 - 68]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، وهذا هو الخطر العظيم، وهذا هو أعظم التقصير، وهؤلاء يتحملون أوزار الدماء المسفوكة من الأرواح التي أزهقت بغير حق، والأعراض المنتهكة في المشارق والمغارب، في البوسنة، وفي كوسوفا، وفي كشمير، وفي فلسطين، فكل هذه الحرمات المنتهكة إنما يكون على هذا الصنف من المقصرين أكبر الوزر منها، يسائلهم الله عز وجل عنها يوم القيامة لأنهم كانوا السبب الأول في هذه الآلام والمحن وشاركوا وأعانوا.(6/14)
الغائبون عن ميدان الصراع
أما الصنف الثاني من أبناء المسلمين المقصرين: فهم من غابوا عن الوعي وليست لهم قضية، فقضيتهم -في الحقيقة- أن يأكلوا ويشربوا ويمرحوا ويلعبوا ويلبسوا ويكونوا في المظاهر أمام الناس، هذا هو أكبر الهم ومبلغ العلم عندهم، ولك أن تبحث عن قطاع كبير من شباب المسلمين ورجالهم ونسائهم، ولتسأل عن همه وعن رغبته، فماذا يريد؟ يريد الشريط الجديد، والأغنية الجديدة، والفيلم الجديد، والصورة العارية الجديدة، والجريدة القذرة، والمجلة النجسة، والصديقة العاهرة، والعياذ بالله من ذلك، فليس له هم إلا ذاك.
وهذا هو ميدان العمل لأعداء الله عز وجل، وهو حقل الزراعة الذي يزرع فيه الأعداء بذور الانحطاط في أمة الإسلام، وبذور الانهزام، وبذور الوهن، وبذور الانكسار، وبذور الذل لأعداء الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يريد أعداء الله عز وجل أن يوجد فيهم الوهن، وأن يوجد فيهم الحزين على ما أنفق في سبيل الله، وأن يوجد فيهم الذليل المنكسر المستكين لعدو الله عز وجل، فهم البيئة المناسبة الذين يحبون الدنيا، فليست لهم قضية في نصرة الإسلام ولا في العمل به ولا في تعلمه، فليسوا بأعداء له لكنهم ليسوا بجنود له ولا عاملين به، وهذا قطاع للأسف كبير جداً، وعندما نحاول حصره نجده أنه ربما جاوز التسعة والتسعين في المائة من واقع المسلمين ومن مجتمعات المسلمين، وهذا خطر عظيم، وإن كان الأعداء يتربصون بمن يتعاطف فقط من هؤلاء دون أن يستجيب مع من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويتربصون الدوائر ليصدوا كل هؤلاء عن الالتزام، ولذلك تجد هذا الصنف تتوجه إليه كل وسائل الإفساد من العالم كله، من الأقمار الصناعية، ومن قنوات البث، ومن المجلات والكتب، ومن وسائل التعليم والإعلام، ومن كل شيء يفسده، لتشيع فيه الفاحشة والفساد والمنكر، ويمنع من وصول الخير إليه، وهؤلاء -أيضاً- مقصرون أكبر تقصير؛ لأنهم لم يشعروا بآلام المسلمين، وقد حكموا على أنفسهم بالغيبوبة عن ذلك الجسد، أو حكموا على أنفسهم بأنهم ليسوا منه إن لم يتألموا لآلام المسلمين بالكلية، فهم إما في غيبوبة وإما في موت، ولذا يجب أن يفصل هذا الجزء وإلا أفسد باقي الجسد، ولا نود ذلك أبداً؛ فإنهم منا، ومن أبنائنا وإخواننا وفي كل مكان من مجتمعاتنا، ولذا نوجه لهم نصيحة بالتوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعروا أن الله من عليهم منة عظمى، فليشكروا نعمة الله بهذا الدين، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
فيا عباد الله! إن في أيديكم جوهرة ثمينة يريد الأعداء أن يسرقوها لكي تكونوا مثلهم بلا جوهرة، وهي جوهرة الإيمان والإسلام والإحسان، وقد حرم أعداء الإسلام منها، فليس عندهم إلا نجاسة وقذارة، ولذا يحقدون علينا، وكثير من أبناء المسلمين صارت ورقة الجوهرة عندهم مظلمة معتمة، فنسوا أن معهم جوهرة فتركوها، وأوشك بعضهم أن يسلمها للأعداء ليلقيها في بحر الظلمات.
فاعرف قدر هذه الجوهرة، وهي منة الله عليك بالإسلام، وارجع إلى الله عز وجل لتعمل بالإسلام ولتعمل من أجله ناصراً داعياً إلى الله عز وجل وجندياً من جنود الله.(6/15)
أبناء الصحوة الإسلامية وبيان واجبهم
وأما الفريق الآخر الثالث من أبناء المسلمين فهم الذين نسبوا أنفسهم إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى الالتزام بالدين في أوجه مختلفة متباعدة عن بعضها كثيراً، وهم الذين سموا أنفسهم -أو سماهم الناس- أبناء الصحوة الإسلامية، وهؤلاء منهم المقصرون؛ لأن منهم من سلك في سبيل العمل بالإسلام وفهمه، أو الدعوة إليه والعمل من أجل نصرته سبيلاً غير شرعي، فانحرف عن منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة أي: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في الفهم، فقبلوا بدعوات الضلالات، وربما نشروها وأعانوا على نشرها، وربما رضوا بها وقبلوها، وهم على درجات متفاوتة مختلفة، فكان الانحراف في المنهج من أعظم أسباب تسليط الأعداء، وكان ظهور البدع والمنكرات فينا -أبناء الصحوة الإسلامية- من أعظم أسباب التفرق والاختلاف الذي أدى إلى ما نرى من الآلام والمحن.
لذلك لابد من أن يكون هناك منهج واحد صحيح، وهو منهج هذه الطائفة الظاهرة المنصورة إلى قيام الساعة، طائفة أهل السنة والجماعة، نجتمع عليه ونتآلف ونتكاتف وننسى حظوظ أنفسنا وما نريده لها في هذه الدنيا من وجاهة وسط الناس، ومن أن يقال: فلان عالم، وفلان قارئ، وفلان داعية، وفلان كبير، وفلان زعيم؛ لأنه السبب في هذا البلاء وهذه المحن، ونريد أن نجتمع على منهج واحد، ونسير على سبل شرعية، ولا نطبق هذا المنهج بغير ما طبقه به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نفقد في غمار حماستنا الحكمة والبصيرة في دعوتنا إلى الله عز وجل، فكم من تطبيق خاطئ للمنهج ولو كان أصحابه ينتسبون إليه حين دعوا إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بغير معروف، بل بالمنكر بغير فقه ولا علم، وبغير مراعاة للحكمة والمصلحة، وبغير مراعاة لسنن الله الكونية والشرعية، فترتب على ذلك من سفك الدماء وانتهاك الحرمات ما الله أعلم به، وترتب على ذلك تضييع خطوات قد سبقت على طريق إظهار دين الله عز وجل.
لذلك نقول: لابد من أن نسير على منهج واحد ونطبقه كذلك تطبيقاً صحيحاً، وأن نسير عليه بالبصيرة والحكمة والعلم والفقه، ولا نفعل كما فعل المتعجلون الذين ضيعوا الثمرة حين أرادوا قطفها قبل الأوان؛ لأنهم لم يراعوا سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسائر المرسلين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وفي السير على سنن الله الكونية والشرعية للوصول إلى الغايات المطلوبة.
فنحن من المقصرين تقصيراً شديداً، ونريد أن نتوب إلى الله من ذلك التقصير، ذلك أننا ما تعلمنا منهجنا كما ينبغي، ولا طبقناه كما ينبغي، بل تركنا لأمراض القلوب مساحة واسعة منها دخلت الأحقاد، ودخل الحسد، ودخل الغرور، ودخل الكبر والعجب، ودخل الرياء والعياذ بالله من ذلك، ودخل سوء الظن، ودخل التنافس على الدنيا، ودخلت أمراض كثيرة بيننا، ومن ألسنتنا أيضاً دخلت أمراض كثيرة؛ لأننا تركنا مساحة واسعة من ألسنتنا لتغتاب وتنم، ولتكذب، ولتقول الباطل، ولتفجر في الخصومة، وتركنا أوقاتاً طويلة لا نعبد الله عز وجل فيها ولا نذكره، وننام عن الصلوات، وننام عن دروس العلم، ونتأخر عما أحبه الله عز وجل منا، بل لو قلت عما أوجب الله علينا لما أبعدت كثيراً.
لذلك نقول: نحن في ضمن المقصرين وإن كنا نزعم أننا نسير على الطريق، لكن لسنا نسير بالقوة المطلوبة، فهناك وهن، ولذلك نوجه الكلام لأنفسنا ولغيرنا لقول الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فنريد أن نكون أقوياء، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
فنحن نريد أن نكون أقوياء في علمنا، ونريد أن نكون أقوياء في عبادتنا، ونريد أن نكون أقوياء في دعوتنا، ونريد أن نكون أقوياء فيما نتعامل به مع الله عز وجل، ونريد أن نكون أقوياء في علاقتنا ببعضنا، وفي حبنا لبعضنا، وفي تماسكنا، وفي صدقنا مع ربنا سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك هو الذي يذهب الله عز وجل به ما بنا.
فالآلام كثيرة، وما زال التقصير شديداً وبأنواع مختلفة من أبناء أهل الإسلام، والكلمة الأخيرة التي نوجهها لأنفسنا ولإخواننا ولمن كانوا منا ثم فارقونا، أعني لمن كانوا من أبناء الإسلام ثم ارتموا في أحضان أعداء الإسلام وساروا على مخططاتهم، تلك الكلمة الأخيرة: هي النداء بالتوبة الذي وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس، فقال: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم كف أيدي الذين كفروا فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وتب علينا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم امكر لنا ولا تمكر بنا، اللهم اهدنا واستجب لنا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك رغابين رهابين، إليك منيبين مخبتين، اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/16)
الانكسار إلى الله
إن من حكم الله عز وجل الكونية: أن جعل كل بني آدم خطاء، ولا معصوم إلا الأنبياء حتى يكون لهم الكمال في الدعوة إلى الله عز وجل، ولو كان الناس لا يذنبون لذهب الله بهم، وأتى بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم، لأن في ارتكاب الذنب الذي يتبعه رجوع إلى الله تحقيقاً لمعاني الذل والانكسار بين يدي الله سبحانه، واعتراف من العبد لله بمعاني العزة والرحمة والمغفرة، وإعلام للعبد بقدر نفسه، فلا يعتريه الغرور والفخر، ولا يعتلجه العجب والتعظيم لنفسه، فيتكبر على الله بتركه الذل بين يديه، ويتكبر على الخلق بادعاء الكمال لنفسه.(7/1)
الذنوب والمعاصي وعلاقتها بالانكسار لله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فاعلموا -عباد الله- أن الله سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، أسماؤه كلها حسنى تدل على معاني الكمال والجلال، فهو ذو الجلال والإكرام، وكتب سبحانه وتعالى النقص والتقصير على كل من سواه، فأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فكيف بمن دونه؟! وإذا كان سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال وحده لا شريك له فقد جعل كل بني آدم خطاءين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ليس ذلك من وراثة الخطيئة كما يعتقد الكفرة النصارى الذين ينسبون إلى الله عز وجل ظلماً وزوراً وعدواناً وبهتاناً: أن بني آدم ورثوا خطيئة أبيهم آدم؛ ولذا لا يقبل منهم شيئاً إلا بالغداء، فيزعمون أنه لابد أن يكون ذبيحة إلهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خطيئة بني آدم من أفعالهم وكسبهم، فإن الله سبحانه وتعالى قدر ذلك وابتلاهم؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ ولأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ولأنه سبحانه وتعالى يحب أن يغفر، فقدر سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته على العباد أن يذنبوا بالليل والنهار؛ ليستغفروه فيغفر لهم؛ ليشهدوا نقصهم وعجزهم وفقرهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكما كسرهم بالحاجة والفقر إلى الربوبية في خلقهم، ورزقهم فهم فقراء إلى الله عز وجل في بداية أمرهم وفي نهايتهم، وفيما بين ذلك، فهم ما أوجدوا أنفسهم، ولا شهدوا خلقها، ولا خلق السماوات والأرض، وما أعانوا على ذلك، قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، بل هو سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم ورزقهم فكانوا لذلك أذلة لربهم، يرى هذه الذلة وهذه الحاجة كل من طالع وشاهد بقلبه طبيعة الإنسان في كونه يحتاج إلى نفس يتنفسه، وليس بيده أن يأتي به، ولا أن يصرفه في بدنه، فهو يحتاج إلى ربه عز وجل في طعامه وشرابه ونومه ويقظته، وفي كل لحظات عمره وأنفاسه.
فكذلك كسرهم سبحانه وتعالى بما يبتليهم بأنواع المحن والبلايا ليعلمهم سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وكسرهم سبحانه وتعالى بالذنوب لكي يعرفوا أيضاً عجزهم ونقصهم وتقصيرهم، ويذلوا له ذلة العبد المنكسر الذي يعلم أنه لا ملجأ له إلا أن يعود إلى ربه ومولاه وسيده الحق سبحانه وتعالى، رب العباد الذي أوجب على العباد جميعاً أن يتوبوا ويقروا، وأن يعترفوا بالذنوب، وإنما يكمل الإنسان بذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة أن الناس بسبب ما أصابهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون يذهبون إلى الأنبياء واحداً بعد واحد، يذهبون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم يأتون عيسى عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبكمال تعبده لله عز وجل وتوبته واعترافه صلى الله عليه وسلم بذنبه -وهو المعصوم- كمل عند الله عز وجل؛ لأن من مراتب العبودية: مرتبة الاعتراف بالذنب وشهود النقص والتقصير.
وأما شهود كمال النفس، وأنه هو الذي قام بأنواع الخير وصفات الكمال فهي نظرة إبليسية -نعوذ بالله منها- سببها العجب والكبر والغرور والعياذ بالله من ذلك، فإبليس هو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فلم ينفعه إقراره بأن الله هو الذي خلقه وخلق آدم؛ لأنه لم يعترف ولم يعرف لله عز وجل الفضل، وإنما نسب الفضل إلى نفسه، وشهد كمالاً وهمياً لنفسه وزكاها، والله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، فكان في ذلك العجب المهلك والكبر المطغي الذي يزري بصاحبه ويصغره عند الله سبحانه وتعالى.
فإذا وجدت نفسك تعترف بالذنب ولم تصر على ما فعلت فأبشر، فإن الله عز وجل غفار {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وأما إذا كنت ترى من نفسك صفات الكمال، وترى أنك أعلى من غيرك وفوقهم؛ فهذا هو الخطر العظيم، وما أصابنا ما أصابنا من أنواع الكسر والذل إلا بظهور هذه الأمراض نعوذ بالله منها، ولابد للعبد المؤمن أن يكون على الدوام تواباً، معترفاً بذنبه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، والعبد إذا أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي يقول الله عز وجل: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، قد غفرت لعبدي-حتى يفعل ذلك ثلاثاً ويقول الرب عز وجل في الثالثة: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بعباد يذنبون فيستغفرون؛ فيغفر الله لهم)، وهذا إنما يحصل بالانكسار والذل لله عز وجل بشهود المعاصي والذنوب، وربما كان العبد بالانكسار لله عز وجل بسبب الذنوب والإزراء على نفسه وشهود نفسه ظالماً أكمل حالاً منه قبل أن يذنب الذنب، وذلك أن الندم والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل يرتفع العبد بها في مقامات العبودية التي يحبها الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن يقدم على الذنب متجرئاً، فإن هذا في ذاته قادح في عودته وندمه، وقادح في انكساره، والذي يستهين بالذنب ويقدم عليه يحرم هذا الأمر غالباً إلا حين ينكسر لله سبحانه وتعالى.(7/2)
قصة يوسف وما فيها من الانكسار والتوبة
تأمل في قصة يوسف عليه السلام وإخوته حين قال إخوة يوسف في بداية عزمهم على الذنب والجريمة التي ارتكبوها: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]، فقد عزموا على التوبة ولكنهم لم يرزقوها، ولم يتب الله سبحانه وتعالى عليهم سنين طوالاً أكثر من أربعين عاماً أو نحواً من أربعين عاماً؛ لأنهم لم ينكسروا لله، وإنما رزقوا التوبة لما ذلوا ذلاً شديداً، حتى أوقعهم الله في ذل المسألة والحاجة، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:78 - 80]، فكانت بداية التوبة، فهذا الذي أصابهم حين شعروا بأنهم فرطوا في حق يوسف، وقبل ذلك كان الحقد يملأ قلوبهم، وكانوا ما زالوا يحقدون على يوسف حتى قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77]، لكن لما يئسوا من أن ينجو أخاهم وقد أخذ أبوهم عليهم موثقاً من الله وانكسروا كان ذلك بداية التوبة.
ثم زادت الكسرة بغضب أبيهم وحزنه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم، وخشوا عليه الهلاك، وشعروا بمدى التقصير، وزاد الأمر بالفقر وشدة الحاجة حتى قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88]، كلها أنواع من الانكسار، وشعروا بعزة هذا العزيز فخاطبوه بهذه الكلمة: ((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، وشعروا بذل الضر الذي أصابهم، ((مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ))، وذل الأهل ذل إضافي إلى حاجة النفس وضرورتها ((وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ))، ليس عندنا ما يقابل عطاءك، وإنما يسألون عطاءً بلا مقابل، بضاعتهم بائرة لا تنفق في السوق، ولا تباع إلا بالبخس، مثل غروب وحبال ودلاء، وليس عندهم شيء يبيعونه ولا يستبدلونه حتى يأتون بالطعام، وإنما يرجون الكرم؛ ولذا قالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، ذل المسألة والحاجة لينكسروا؛ فلما وقع ذلك تاب الله عليهم، فكان هذا بداية الفرج عليهم، وكان ذلك سبب توبة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإضافة إلى الاعتراف، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:89 - 92]، وكانت هذه التوبة بعد مدة طويلة؛ لذا نقول: إن الذي يتجرأ على الذنب ويقول: سوف أتوب بمجرد أن أفعل الذنب هذه المرة ثم أتوب، غالباً لا يرزق التوبة، وإنما يرزق التوبة من شهد انكساره وذله وضعفه أمام نفسه الأمارة بالسوء، وشهد عزة مولاه وكماله وغناه، وأنه لا يحتاج إلى طاعته، قد مضت ركائب المطيعين وهو المتخلف، وقد عبد الله سبحانه وتعالى العابدون وهو النائم الكسلان، وقد أطاع الله سبحانه وتعالى الطائعون وهو الذي ترك هذه الرفقة الصالحة، فعندما يرى نفسه كذلك يعترف بذنبه، فعند ذلك يقبله الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].(7/3)
انكسار النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الله
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، وذنوبه إنما هي نسيان أو فتور في الذكر عن القدر المستحب في حقنا، أو إنها خطأ في الاجتهاد أو ترك للأولى، هكذا كانت ذنوبه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)، والعبد يشهد تقصيره مقدماً ومؤخراً، يشهد تقصيره في أول عمره وفي آخره، يشهد العبد المؤمن ذنوبه قد أحاطت به من قبل ومن بعد، فيقول: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، فأنت بين ذنب وبين ذنب، إلا أن يتوب الله عز وجل عليك، وستهلك إلا أن يتوب الله سبحانه وتعالى عليك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد أن ذنوبه مقدمة ومؤخرة فيقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو بين سر وعلن، ذنوب بينه وبين الله، وذنوب بينه وبين الناس، بمعنى أنه في السر أذنب وفي العلن أذنب، ثم يقول بعد ذلك: (وما أنت أعلم به مني)، هذا الانكسار العجيب الذي يحصل للمؤمن -إذا صدق في قوله- يرفعه منازل عالية عند الله عز وجل، وليس مجرد ترديد باللسان كمتواضع ليس عنده التواضع، وإنما يقول ذلك وهو يرى أنه ما أذنب في الحقيقة، وأن الأمر كان من غيره، وأن التقصير كان من سواه، وربما لام بعضهم قدر الله وقال: هو الذي قدر علينا ذلك، فعلام اللوم؟! وعلام نعذب أو نعاقب؟! وكثير جداً من الناس يقول: لماذا فعلت بنا يا ربنا هذا؟ ماذا أذنبنا حتى تفعل بنا ذلك؟! نعوذ بالله من هذا القول، وهذا كله لأنهم لم يشهدوا حقيقة العبودية بالانكسار، وأن العبد لا يزال مقصراً في حق ربه عز وجل، وقد قدر الله عز وجل على أبينا آدم الخطيئة، وكتبها عليه، ورزقه الاعتراف بالذنب والاستغفار، فقال هو وزوجه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فقارن بين الحالين: إبليس احتج بالقدر وعاتب ربه عز وجل فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]-نعوذ بالله من ذلك! وحاج ربه عز وجل فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17]، وهذه خطة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، ينسبون إلى الله عز وجل أنه ظلمهم، وأنه الذي قدر عليهم، ويستمرون في محادة الرب ومخالفة أمره، فتجد أحدهم يترك الطاعات ويفعل المعاصي والمحرمات وربما الشركيات، وينسى الآخرة، ويقبل على الدنيا، ولا يشكر نعمة الله، تجد هذه طريقة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، وإذا عوتب عاتب ربه عز وجل، فمن شابه إبليس فهو معه، (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، ومن شابه أباه فما ظلم.
فإذا اعترفت بالذنب، ورأيت التقصير والنقص والعيب الذي عندك، كان ذلك من أسباب رفعتك عند الله عز وجل، وإنما تكمل النفس الإنسانية برؤية تقصيرها وعيبها، وإنما تهلك وتمرض وتموت برؤية كمالها وفخرها وغرورها والعياذ بالله من ذلك! لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا المعنى في مجالسه كلها، وهو معنى الاستغفار الذي هو جالب لأنواع الخيرات والرزق والبركات من الله سبحانه وتعالى، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: (كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، أكثر من سبعين مرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، فأعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم وقد قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، قال ذلك ليعلمنا منزلته الواجبة، والتي يجب علينا أن نعتقدها له عليه الصلاة والسلام، وهو مع ذلك يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)، وكلما كان الإنسان معترفاً بجهله ناظراً إلى سعة علم الله عز وجل كان عالماً بالله كما في قصة الخضر عليه السلام مع موسى صلى الله عليه وسلم -وهو الذي أمره الله أن يصحبه فيتعلم منه، وعلمه ثلاث مسائل في رحلة طويلة- فعندما وقف عصفور على جانب السفينة فأخذ قطرة من البحر الخضر قال: (يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر) فهذه النظرة تجعل العبد يكون صادقاً، (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري).
وعندما تنظر إلى عظمة الله عز وجل وحقه ونعمه، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الحب والخوف والرجاء وكمال كل أنواع العبودية، وتعلم ما أنت فيه مقصر عند ذلك تكون صادقاً.
قوله: (وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، أي: اغفر لي إسرافي في أمري، فأنا أسرفت على نفسي، وأنا قصرت تقصيراً أنا أعترف به، فهذا الذي يرفع قدر العبد عند الله عز وجل.
(فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)، الله عز وجل يقدم من شاء، ويؤخر من شاء، هكذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيد الله، وأنه هو الذي يرفع درجات من يشاء، وأنه سبحانه وتعالى يهب لمن يشاء الطاعات فيجعله مقدماً عنده، ويؤخر من شاء حتى يؤخر في النار والعياذ بالله، الله يقدم من شاء في أمر الدين والدنيا، ويؤخر من شاء في أمر الدين والدنيا.
(أنت إلهي)، وهذا المعنى شمل كل ما سبق في هذا الدعاء العظيم الجامع الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذكر اسم الألوهية مضافاً إلى ضمير المتكلم المفرد (أنت إلهي) لتكميل هذه الخصوصية، فهو يستشعر أنه مع ربه سبحانه وتعالى، ومع إلهه الذي يعبده ويحبه ويخضع له ويذل له، وقد كملت عبوديته بالاعتراف بالذنب بعد كمال الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فهناك خصوصية في قضية العبودية، بمعنى أنها سر بينك وبين الله عز وجل فيما تختص به من عبادته مما لا يعرفه الناس.
وتأمل في قوله: (أنت ربنا)، وفي قوله: (أنت إلهي)، لتعلم حاجة العباد جميعاً إلى الله عز وجل، وفقرهم إليه، ولكل عبد مؤمن صادق مع الله نصيب من قوله: (أنت إلهي).(7/4)
انكسار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
وهكذا قد تكرر مثل هذا المعنى على ألسنة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في شهودهم معاني الأسماء والصفات الدالة على الحب والود والرحمة الخاصة لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، فحين أمرهم بالاستغفار ذكرهم باسم الربوبية مضافاً إلى ضمير جمع المخاطبين: ((وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ))، ثم ذكر الود والرحمة، وهذا أمر خاص إنما يشهده من أخلص لله عز وجل واقترب منه سبحانه وتعالى، فيشهد من آثار وده وحبه سبحانه وتعالى ما يجعله يعرف خصوصية عباد الله المؤمنين بذلك، وللأنبياء أعظم الخصوصية، فيقول: ((إِنَّ رَبِّي))، فذكر ربه هنا منسوباً، ومضافاً إلى ضمير المتكلم، وكما قال صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، فهو سبحانه وتعالى قريب من عباده المؤمنين، مجيب لهم دعاءهم، ما لا يقرب من غيرهم ولا يجيب غيرهم، فهو عز وجل أكثر قرباً لعباده المؤمنين؛ لأنهم أخلصوا له الألوهية والعبادة فهو أكثر إجابة لهم، وهو عز وجل قد يجيب الكفرة كما أخبر عنهم أنهم إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، لكن إجابته للمؤمنين أمر آخر، فلابد إذاً أن يكون بينك وبين الله عز وجل عمل كما كان السلف يدخرون أعمالهم الصالحة، ويسرون بها كما يسر الناس الذنوب.
فالناس يستخفون بالذنوب حتى لا يفضحوا، وأهل الإيمان والصلاح يستخفون بالعمل الصالح؛ لأنه الذي يبقى لهم مضموناً أو يرجون أن يكون باقياً لهم عند الله عز وجل، أو هو أقرب إلى القبول من ذلك الذي في العلن، فإن العبودية التي في العلن تقترن بها كثير من الآفات، وغالباً ما تفسد على كثير من الصالحين أعمالهم-ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأما التي بينك وبين الله عز وجل فهي التي إذا صدقت في قولك: (أنت إلهي) تبقى لك عند الله، ولقد رئي بعض من كان مقدماً في العلم في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت هذه الشطحات والأفكار ولم يبق إلا ركعات في جوف الليل، فنفعه عند الله عز وجل ما أخفاه عن الناس، وهذا هو السر في أن يذكر الإله سبحانه وتعالى في هذا الموطن -والله أعلى وأعلم- منسوباً مضافاً إلى ضمير المتكلم، (أنت إلهي)، فهو كذلك إلهه ولو لم يعبد الله أحد، فهو يستحضر أنه سوف يعبد الله وحده مهما كان من حوله بعيداً عن هذه العبودية، فهو لا يحتاج إلى أن يكون مع الناس ليعبد ربه، فهو يعبد الله عز وجل ولو كان وحده، ولو لم يوجد من الناس من يعبد الله، ولو كان يسير وحده غريباً في طريقه إلى الله؛ لأن الله إلهه، فالعبادة بينه وبين ربه أمر لا يحتاج إلى معين عليه، ولذا يقول يعقوب عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وإنما يحصل ذلك بشهود أسمائه وصفاته، واستحضار معاني كماله وعظمته سبحانه وتعالى، ويعرف فيما بينه وبين ربه عز وجل بسبب أنواع العبادة الخاصة ما يرفع قدره عند الله، ويجعله مقرباً منه سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(7/5)
قوة الله لا يغلبها شيء
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فختم هذا الدعاء المبارك العظيم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) فهو تأكيد على ذلك المعنى المتكرر الذي تكرر مرات في هذا الدعاء وفي غيره: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، (لا إله إلا أنت) تحقيق العبودية، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بمعنى (لا حول ولا قوة إلا بك)، عليك توكلت وإليك أنبت، {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، وغير ذلك كثير في آيات القرآن، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، حتى يكون العبد شاهداً بأنه لن يحقق العبودية لله سبحانه وتعالى إلا بإعانته، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أوصى إبراهيم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن غرس الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فلا يتحول أحد من حال إلى حال إلا بالله عز وجل، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وفي هذا إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، وإثبات أن العباد يجعل الله سبحانه لهم قوة وقدرة، فهو لم يقل: لا قوة إلا لله والقوة لله جميعاً، وإنما قال في هذا الموضع: إلا لله سبحانه وتعالى.
والمعنى الأول {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165] معنى حق قد ثبت في الكتاب والسنة؛ وذلك لأن الله عز وجل هو القوي، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، يتضمن معنى إضافياً، وهو: أن العباد يجعل الله لهم قوة من عنده سبحانه، وهذا عبد يقويه الله على طاعته، وذاك عبد يقويه على كسب الدنيا، وذاك عبد يقويه على ظلم الآخرين، وذاك عبد يقويه على الشرك والعياذ بالله من ذلك، وهو سبحانه وتعالى لا قوة إلا به عز وجل، فهو الذي قدر ذلك، وإذا أمر أن تنزع القوة -قوة أي مخلوق- نزعها سبحانه وتعالى، ويبقى هو المتفرد سبحانه وتعالى بالقوة والعزة والقهر والجبروت، وهو: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سبحانه وتعالى.
وإذا شهد العبد ذلك فإنه يطلب تحول حاله من السيئ إلى الأحسن، وتحول حال قومه وأمته إلى ما يحب مستعيناً بالله عز وجل، وفيما يرى من تقلب أحوال العالم من حوله، وتقلب الملك والسلطان والجاه والغنى والفقر والموت والحياة شاهد على الله سبحانه وتعالى، يشهد أن الأمر كله من عنده، {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]، وإذا شهد المؤمن ذلك كان الناس في عينه وفي قلبه صغاراً، كما هي حقيقتهم في هذا الوجود زماناً ومكاناً، لا يملكون من الأرض ولا من السماء شيئاً، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3].
يشهد المؤمن أنه لا قوة إلا بالله، فلم يشهد الحول والقوة بالناس، فلا يغتر إذاً بما عليه الذين كفروا، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:4]، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197]، وكذلك لا يغتر بما رزقه الله كالذي: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:35 - 43].
وهذا المثل ضربه الله عز وجل لكل أحد اغتر بقوته أو اغتر بماله أو اغتر بسلطانه، ومآله إلى ذلك قطعاً وحتماً، فمن الناس من يريهم الله ذلك في حياتهم كمن ضاع ملكه بعد ملك طويل وسلطان عريض، وتأله وتجبر، ثم يصير إلى الذل والهوان والانكسار والأسر وأنواع الإهانات المختلفة، وهذه آية من آيات الله العظيمة، وهذه سنة ماضية كما سئل الإمام مالك عمن خرج على الظالم فقال: دعه ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم منهما جميعاً سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يسلط بعض الظالمين على بعض، ويولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، والله سبحانه وتعالى حين يجعل بعض أهل الطغيان عبرة للناس، يريهم سبحانه وتعالى آيات قدرته حتى يعلموا أن من سار على ركبهم فهو إلى مصيرهم ومآلهم، وإن كان الذي يظلمه، وإن كان الذي يهينه أشد جرماً وكفراً منه، فإنه أجدر بنفس المصير، وكثير من الناس لا يرى تلك اللحظات التي يرحل فيها الأغنياء والملوك والكبراء والرؤساء الذين ملئوا الدنيا بأنواع التفخيم لأنفسهم، وأنواع الفخر والاختيال على الخلق، وأنواع الكبر والغرور، لكنها تمر عليهم لحظات الرحيل أحياناً في صمت بعيداً عن الأضواء، بعيداً عن أن تصور صورهم، وهم في ذل الموت وغمراته وسكراته، وما يصيبهم من هوان القبور أعظم، ولو فتحت قبورهم لرأى الناس لحومهم بالية بعد أن كانوا ملوكاً أعزة، ولرأى الناس الدود في أبدانهم وقد كانوا منعمين مترفين قد مروا بتلك اللحظات جميعها.
أين ملوك الأرض -عباد الله- منذ آلاف السنين وقد ملئوا الدنيا في زمانهم؟ أي من كان يصيح: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]؟ فأين هو الآن؟! أين أغنياء العالم منذ مائتي سنة؟ لا يوجد أحد منهم على ظهر الأرض، بل كما قيل: ماتوا جميعاً ومات الخبر، لا يوجد من يخبر عنهم، ماتت أخبارهم، انشغل الناس بغيرهم، فلا قوة إلا بالله! الله عز وجل هو القوي، وهو العزيز، وهو الذي يحول البشر من حال إلى حال، ولا حيلة للبشر إلا بالله عز وجل، فلا تشهد قدرة نفسك، ولكن اشهد قدرة الله عز وجل، وإذا فعلت شيئاً فإنما فعلته بالله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56]، فإذا وفقت لطاعة وجعل الله لك القوة في طاعتك، فاشهد أن ذلك بالله لا بنفسك، وإذا وقعت في معصية الله سبحانه فافزع إليه، وفر إليه، واسأله ألا يجعل قوتك في مخالفة أمره، وتدبر في حال من جعل الله كل حياتهم وقوتهم في محادة أمره، كإبليس وفرعون والكفرة والظلمة، وأعداء الإسلام دائماً يحاربون الله بكل قوتهم، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله قوتهم في ذلك نسأل الله العافية، تأمل في ذلك لتعلم أن الأمر بيد الله، ثم يأخذهم العزيز المقتدر سبحانه وتعالى، إذا كان الأمر كذلك صغرت الدنيا في عينك، ولجأت إلى الله سبحانه وتعالى، وتضرعت وانكسرت إليه، إن هذا الدعاء العظيم المبارك الذي يبدؤه العبد بالحمد، ويختمه بالاعتراف بالحول والقوة، ويدعو فيما بين ذلك بأنواع من معاني الإيمان المختلفة؛ والله إنه لمعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمن تدبره، كيف جمع -في موقف واحد لا يستغرق أكثر من دقيقتين- بين كل هذه المعاني الرائعة, (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
صدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أوتيت جوامع الكلم)، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في الجنة، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين(7/6)
الإيمان بالقدر وأثره في السلوك
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان مؤمن إلا به، والإيمان بالقضاء والقدر له ثمار يجدها المؤمن في حياته، فلابد أن يطمئن إلى قضاء الله وقدره ويرضى به؛ فهو يعلم أنَّ ما أصابه من شر أو من خير فكله من عند الله، وليس معنى ذلك أن يجعل القدر حجة له في اقتراف الذنوب؛ لأن الإنسان ميسر لما خلق له، فلابد أن يبادر بالتوبة إلى الله قبل إغلاق بابها.(8/1)
الطمأنينة والسعادة في الإيمان بالله عموماً والقدر خصوصاً
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الإيمان هو الركن الركين الذي يستند إليه المؤمن خصوصاً عند الأزمات، فعندما يشتد الضيق يكون الحصن الحصين الذي يلجأ إليه هو الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، فإذا تحقق في الإنسان الإيمان ووهبه الله ذلك هان عليه كل ما يجده من ضيق، وسهل عليه كل ما يجد من عسر، ويسر الله له سبحانه وتعالى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وإن كانت الدنيا قد ضاقت عليه بأسرها، وإن أحاط به أعداؤه وأعداء دينه من كل جانب، فإنه يجد في هذا الضيق أعظم السعة، وهذا إذا تحقق الإيمان، والإيمان بالقضاء والقدر خصوصاً في هذا الباب من أعظم أسباب السعة التي يوسع الله عز وجل بها على المؤمن الضيق، ويهون عليه كل مصيبة، ويبعد عنه مرض الأسى والحزن، وإنما يستحضر قوته بالله عز وجل؛ لأن القوة لله جميعاً، ويستحضر أن الأمر أمره سبحانه وتعالى، وأنه عز وجل خلق كل شيء بقدر، فهذا يغير سلوكه في معاملة الواقع تغييراً جذرياً.(8/2)
طريقة الكتاب والسنة في الإيضاح والتبيين
إن طريقة الكتاب والسنة هي الطريقة الميسرة؛ لأن الله يسر القرآن والسنة بياناً، ولم يجعل هذا التيسير في طرق المعارف البشرية الأخرى، فلم يجعل هذا التيسير مثلاً في علم الكلام أو الفلسفة أو النظريات العقلية، ولا في المباحث التجريبية، وإنما جعل الله عز وجل التيسير في كتابه، وبهذا يجد المؤمن أن طريقة القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام تتضمن أجل المعارف والعلوم، وأحسن الطرق وأيسر السبل إلى الفهم والعمل الصحيح، فتجد في هذا الطريق العقيدة الصافية النقية، كما تجد فيه الحالة القلبية الإيمانية، وتجد فيه السلوك العملي بالجوارح كذلك، فكل ذلك مرتبط في نسيج واحد، بطريقة عجيبة لا نظير لها في الحقيقة.(8/3)
مسألة القضاء والقدر
وقضية القضاء والقدر من أكبر المسائل التي حيرت عقول البشر، حين ابتعدوا عن مصدر الوحي وما أتت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فتاهوا في الحيرة والضلال، وأعياهم فهم هذه المسألة، حتى كفر البعض بوجود الله من أجل هذه المسألة، فهؤلاء الماركسيون إنما كفر إلههم ماركس بسبب هذه المسألة، فهو الذي يصف أنه لو كان هناك رب فاعل فكيف ستجتمع مع فعله أفعال العباد ومسئوليتهم عن أفعالهم؟ فإذا كانت له قدرة فلابد أن تنعدم قدرتهم، وإذا كانت للعباد قدرة -وهذا هو المحسوس عنده فقط- فلا معنى لوجود الإله، فهو الذي تسبب في إنكار وجود الله عز وجل؛ لعدم فهمه لمسألة القدر وهذا ضلال عظيم، فضلاً عن وجوه الانحراف الكبرى التي وقعت فيها الفرق الضالة بين الجبر والاختيار، وهي مسألة العجيب فيها أنها تشغل شأن كل إنسان، فالفطرة الإنسانية تسأل دائماً هذا
السؤال
ما هي العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب؟ ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يطلبون الإجابة الصحيحة من مصدرها الوحيد، من الوحي المنزل من عند الله عز وجل، وإنما تتخبط عقولهم يميناً وشمالاً وتجد أعاجيب الأقاويل التي خرجت من اللسان بسبب الخذلان؛ وذلك أن الله عز وجل لم يوفقهم لذلك، فلذلك نقول: إن طريقة الكتاب والسنة هي أعظم طريقة في البيان، وفي العمل والسلوك كذلك.(8/4)
مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
ولنذكر شيئاً من هذا في قضية القضاء والقدر بمراتبها الأربعة التي بينها أهل العلم من أهل السنة والجماعة: في أن الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بصفات الله وأفعاله سبحانه وتعالى، فهي إيمان باسمه العليم، وباسمه القدير، وباسمه الفعال لما يريد، وباسمه الخالق البارئ المصور، وبفعله عز وجل أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فجملة الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بالله عز وجل، ولذا فمن أحسن الأقوال في هذا الباب قول الإمام أحمد رحمه الله: القدر قدرة الله؛ وذلك أن مرجع الإيمان بالقدر هو الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا، مع بيان علاقة أفعال الرب عز وجل بأفعال العباد من خلال الآية الكريمة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:55 - 56].
وقد بين أهل العلم أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:(8/5)
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق على وجود المخلوقات
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأول السابق على وجود المخلوقات، وهو علم الله الموصوف به أزلاً لأعمال الخلق قبل أن يخلقهم، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.(8/6)
المرتبة الثانية: الكتابة
والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، فقد كتب الله مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وتبعتها كتابات، فمنها: الكتابة والتقدير قبل خلق آدم عليه السلام، بأن يكون آدم وذريته في الأرض، وقد كتب الله التوراة قبل خلق آدم بأربعين سنة، وكتب فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122].
وكذلك: الكتابة يوم القبضتين والتقدير يوم القبضتين: يوم أخذ الله عز وجل من ظهر آدم ذريته بيمينه وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة بشماله وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً.
وتبعت هذه الكتابات كتابات أخرى، فمنها: الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه، وذلك عندما يكون الإنسان في بطن أمه أربعين يوماً أو ثنتين وأربعين ليلة، وكذا عندما ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ومنها: الكتابة السنوية في ليلة القدر، ففيها يفرق كل أمر حكيم، وكذلك: الكتابة اليومية، فكل يوم هو في شأن، وكذلك: الكتابة التي سمعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج حين صعد إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهناك كتابات متعددة فالله عز وجل لم يزل فعالاً لما يريد، وكل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويعز ذليلاً، ويجبر كسيراً، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويفعل ما يشاء.(8/7)
المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
والمرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تكون في هذا الكون حركة ولا سكون، ولا طاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فأمره نافذ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وكذلك قدرته عز وجل على كل شيء، على أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية، قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، ومع ذلك أمر الله العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وهو يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب المؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن كان قد قدر سبحانه وتعالى الكفر والفسوق والعصيان، لكنه يحب الطاعة ويكره المعصية، فمحبته وكراهيته تابعة لأمره الشرعي ونهيه كذلك، فما أمر الله به وفعله العباد فهو يحبه، ويحب من فعل ذلك منهم، ومن عصى أمره عز وجل وخالف شرعه فهو يكرهه، ويكره من فعل ذلك منهم، وكونه قدر وجود ما يكرهه عز وجل شرعاً فلحكمته البالغة سبحانه.(8/8)
المرتبة الرابعة: الإيمان بالخلق والبعث
وأما المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: فمرتبة الخلق والبعث، فالله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد، كما أنه خالق ذواتهم، وقد خلق قدرة للعباد، وخلق مشيئتهم، وخلق بها أفعالهم، فللعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم، والله خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم ومشيئتهم، ولا يعني إثبات خلق أفعال العباد إلغاء قدرتهم وإرادتهم في إيجاد تلك الأفعال، وإنما الله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، والعباد ميسرون لما خلقوا له.(8/9)
الأدلة من الكتاب والسنة على مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
ونحن نريد أن نسمع هذه المراتب كأدلة من الكتاب والسنة؛ لأن سردها فقط لا يكفي ولا يؤثر في القلب ذلك التأثير العظيم الذي تؤثره تلاوة وبيان ما ذكره الله عز وجل وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن والسنة لم يذكرا هذه المراتب كعلم نظري أو فكر عقلي، وإنما كإيمان يحل في القلب ويتأثر به العمل، فإن الإيمان -كما نعلم- قول وعمل، فتلفت الطريقة القرآنية والنبوية أنظار العباد إلى أمور معينة لابد أن تلتفت لها القلوب لتحيا بالإيمان، وتمتلئ بالنور الذي أنزله الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى في بيان علمه عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:59 - 60]، هكذا تناولت هذه الآيات عدة مراتب للقدر، حيث ذكر الله علمه وكتابته للمقادير، ولكن انظر وتأمل كيف ذكر هذا الأمر؛ لتتفكر في سعة علم الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59]، والقرآن خير ما يفسر به القرآن، فقد قال عز وجل في الآية الأخرى في بيان مفاتيح الغيب التي ذكرها في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، فهذه خمس مفاتيح استأثر الله بهن، فلا يعلمهن ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة في حديث جبريل المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، وتلا: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)) [لقمان:34])، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أعلى البشر قدراً ومنزلة هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأعلى الملائكة قدراً ومنزلة هو جبريل عليه السلام، ولكنهما لا يعلمان شيئاً من هذه الخمس، ولكن أخبر النبي جبريل عن بعض أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، لكن ذلك لا يعني أن واحدة من هذه الخمس يعلمها الناس، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ولو أخبرت ببعض المقدمات أو ببعض الأمور عن الساعة فلا تزال الساعة غيباً، أي: لا تزال الساعة من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والخمس كلها كذلك، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، يقول تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))، ونحن نقطع ونؤمن يقيناً بقيام الساعة، ولكننا لا ندري متى يقع ذلك، ولذلك إذا سمعت من يقول: الساعة تقوم يوم كذا وكذا، أو بقي على ظهور الدجال مثلاً سنتان أو ثلاث، أو بقي على نزول ابن مريم خمسة عشر سنة، أو حتى خمسمائة سنة، أو بقي من قدر الدنيا كذا سنة فاعلم أنه ضال وجاهل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، والأمر نسبي في القرب والبعد، فمنذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1]، بل هي أقرب من زمن أبعد من ذلك، ففي الحديث الصحيح في سنن أبي داود: (أن آدم عليه السلام لما عرضت عليه ذريته أعجبه وبيص ما بين عيني رجل منهم من النور، فقال: من هذا؟ قال: هذا رجل أو نبي في آخر الزمان من ذريتك يقال له: داود)، فمن أيام سيدنا داود وهو آخر الزمان، فالأمر نسبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) قال ذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، إذاً: فلا يستطيع أحد أن يعلم متى تقوم الساعة، لا بالتقريب ولا بالتبعيد؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا الله، ولذلك لا تصدقن أحداً يقول لك: قبل أن تنتهي سنة كذا سوف تقع العلامات الكبرى التي هي ظهور الدجال أو نزول عيسى بن مريم، فكل هذا من الغيب؛ لأن ذلك مما يكسبه الناس غداً: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا))، فلا يعلم ما في غد إلا الله، وكما تقول عائشة: من حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية.
وهذه قضية عظيمة الأهمية؛ لأن البعض يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك تواضعاً أي: أنه لا يعلم وقت الساعة تواضعاً، أو أنه لا يعلم الغيب تواضعاً، لكن الأمر ليس كذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم مفاتيح الغيب، ولكنه أخبر عن غيبيات، فلا تخرج مفاتيح الغيب الخمس عن كونها غيباً، وهذه المفاتيح الخمس استأثرها في علمه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: ((وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ))، فوقت نزول الغيث لا يعلمه إلا الله.(8/10)
التوقعات الجوية تحتمل الصدق والكذب
إن حكم التنبؤات الجوية أي: التوقعات الجوية، والأنسب أن تسمى توقعات؛ لأنها مجرد ظنون، وأهل العلم بها يقولون ذلك، فالذين يعرفون حقيقة الأمر لا يجزمون، ولا يجزم بذلك إلا ضال جاهل، بل كما قال القرطبي: إن من جزم أن المطر ينزل غداً فقد كفر والعياذ بالله؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وإنما أجرى الله سنناً نتوقع حصولها، ولكن كثيراً ما تخيب الظنون في أشياء كثيرة من ذلك، ونحن نعلم أن سنن الله الكونية الغالب فيها أن المطر ينزل في الشتاء، وأنه قد يكون في وقتٍ ما ريح فيها مطر، ولكن لا على سبيل الجزم والتحديد فإنه لا يعلم ذلك إلا الله، وقد يقولون: نحن بالأمطار الصناعية ننزل المطر، وهذا جهل عظيم يخدعون به الناس، كطريقتهم دائماً في التهويل والتضليل، فالأمطار الصناعية لا تغيث الناس، بل مثلها كمثل رجل صعد فوق سطح عمارة عالية والناس أسفل يحتاجون إلى قطرات من الماء فرش عليهم بعض القطرات، أفيقول هذا: قد أنزلت المطر؟ لا يمكن أن يقول ذلك، فما هذا إلا مجرد لاعب يريد أن يخدعهم إذا ظنوا أن هذا مطر، وإلا فما يفعله هؤلاء الكفرة المتمكنون فيما يظنون من توقعات في الأرض، وقد أخذت أرضهم زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فماذا هم صانعون إذا أتاهم إعصار مدمر؟ وماذا يصنعون إذا أصابهم القحط حتى جعل زروعهم وثمارهم تضمحل؟
الجواب
يظلون منتظرين، وأنا رأيت بعيني حالهم في يوم من الأيام في مطاراتهم وشوارعهم عندما أتت عاصفة ثلجية، كل شيء قد توقف، وهم يقولون: إلى أن تتوقف العاصفة الثلجية، يقولون ذلك والبنزين يتجمد في السيارات، والمطارات تمتلئ بأمطار من الثلوج، والطائرات تتوقف، والسيارات تتوقف، وكل شيء يتوقف، فهم لا يستطيعون أن يواجهوا هذه العاصفة الثلجية بشيء، نتصل بالمطار فنقول: متى ستنطلق الطائرة؟ فيقولون: عندما يتوقف الثلج، بعد ساعتين أو عشر ساعات؛ لأنه لم يتضح في الموضوع شيء، فمن يقول: إنه يستطيع الجزم فهو يخدع الناس، وإنما لأهل العلم الحقيقي في هذه المسألة أن يقولوا: نحن جهلة في هذا الباب، فهذا مجرد توقع؛ ولذلك فالتوقعات الجوية إنما تذكر على سبيل الظن الذي يمكن أن يبنى عليه عمل إذا غلب، كأن نقول للصيادين مثلاً: يبدو أن الريح سوف تكون عاتية غداً فاحذروا أن تتوغلوا في البحر، أو أن هذا الإعصار ربما اتجه يميناً واتجه شمالاً فاحذروا ولا تخرجوا من بيوتكم أيها الناس! فمثل هذا يصح أن يبنى عليه عمل مع الجزم واليقين بأن هذا مجرد ظن، وأننا لا نعلم متى ينزل المطر الذي يغيث الناس، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34].(8/11)
سعة علم الله تعالى فيما يتعلق بالجنين
والله سبحانه يعلم كل شيء عما في الرحم قبل أن يوجد ويتكون، أي: فليس المقصود أنه من مفاتيح الغيب بعد أن يتكون، فإنه بعد التكون يكون أمراً نسبياً، لكن الناس يظنون أن العلم الحديث قد جعل مسألة العلم بهذا شيئاً قديماً، فالناس في هذا الوقت يعرفون تصور الجنين، ولكنهم لا يعرفون عنه كل شيء، وهذا من الجهل أيضاً؛ لأن علم ما في الأرحام ليس مقتصراً على كونه ذكراً أو أنثى، وإنما هو علم كل ما يتعلق بهذا الكائن من علم عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، وشكله وصفاته وأفعاله وحاله في البرزخ ومآله يوم القيامة، فالله سبحانه قد علم ما في الأرحام، وليس مجرد أنه ذكر أو أنثى فقط، فهذا من ضمن ما أحاط الله به علماً، ولكن علم الله السابق على وجود هذا المخلوق، وعلى وجود الأعضاء التناسلية لهذا الجنين، أما بعد تكون الأعضاء التناسلية فإنَّ ذلك يصبح من الغيب النسبي؛ لأنه من الممكن أن تشق بطن المرأة ويعرف ما في بطنها، فالملك الذي خلّق هذا الجنين قد علم بشأن هذا الجنين الذي خلّقه بأمر الله سبحانه وتعالى، فالغيب النسبي هذا ليس هو المقصود بأنه من مفاتيح الغيب، فمفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، فمن الحقيقة أنه قبل أن تتكون الأعضاء التناسلية مثلاً للجنين من ذكر أو أنثى لا يمكن لبشر ولا لغيره أن يعلم ما شأن هذا الجنين، مع أنه من يوم تكون الجنين من بويضة ملقحة لابد أن يعرف نوعه في الأغلب أي: لابد أن يكون نوعه محدداً، فهم يقولون: إن التكون ناتج عن حيوان منوي ذكري أو حيوان منوي أنثوي، ومع ذلك فالأمر لا يزال محتملاً، فقد اكتشفوا في الطب مؤخراً منذ عشر سنوات تقريباً: أنه في أول الأسبوع السابع تتكون الأعضاء التناسلية للجنين؛ لأن الأعضاء التناسلية تبدأ في التشكل قبل هذا التاريخ بطريقة واحدة بالضبط، وتكون الذكر مثل تكون الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة قال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة قال الملك الذي يخلقها: أي رب! نطفة علقة؟ مخلقة أم غير مخلقة؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك).
فالرسول عليه الصلاة والسلام يحدد فيقول: (ثنتان وأربعون ليلة)، أي: ستة أسابيع، فسبحان الله! والذكر مثل الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق؛ ولذلك فمن الممكن أن يقولوا في الجنين: هذا سيكون ذكراً أو هذا سيكون أنثى، ولكن بعد الأسبوع السابع، أما قبل الأسبوع السابع فهذا مستحيل، مع أنه من الممكن أن تتحلل الكروموسومات قبل هذا وينظر أن هذا الحيوان المنوي الذكري الذي لقح البويضة يكون من تلقيحه ذكر، ولكنهم يقولون: إنهم اكتشفوا في الأسبوع السابع أن هناك إنزيماً يطرأ في ذلك التوقيت، وهو الذي يتحكم في تشكيل الأعضاء، حتى ولو كان تشكيل الكروموسومات مختلفاً أصلاً، أي: من الممكن أن يكون تركيبه الجيني تركيب الكروموسومات ذكراً، لكن هذا الهرمون إذا نقص صارت الأعضاء التناسلية أنثى، ولو أن تركيبه أنثى كبداية خلايا وزاد هذا الهرمون أو الإنزيم في التوقيت، فإن الأعضاء التناسلية ستتكون ذكراً، فسبحان الله! ينتظرون حتى يتكون فيعرفوه، فمهما قالوا فهو احتمال غالباً، فهو إلى هذه اللحظة بأمر الله سبحانه وتعالى، وهناك على هذا الباب كلام آخر وهو: أن الملك يكتب ما يأمره الله من عمله ورزقه وشقي أم سعيد، وهذا يكون قبل أن يقع هذا الأمر، ونحن نقول: إن مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فنحن نقول ذلك ونلتزمه ونقول: حتى إن علم هذا الملك مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإن الكتابات اللاحقة على اللوح المحفوظ كتابات قابلة للمحو والإثبات، قال الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الكتاب كتابان: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
إذاً: فالكتاب الذي رفعت أقلامه، وجفت صحفه: هو اللوح المحفوظ.
وأما كتب الملائكة فتظل رغم أنه لم يكتب فيها شيء؛ فمن الممكن أن تمحى ويكتب غير ذلك إذا شاء الله، إذاً: فعلم الملك مقيد بأن الله يشاء إمضاء هذا وإنفاذه، أو يشاء محوه، فلو شاء الله أن يمحو ما كتبه الملك لمحاه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ))، ولذلك نجد أن هذه الأمور التفصيلية يمكن أن يطلع عليها بعض المخلوقين، لكن لا على جهة الجزم والقطع، وإنما على جهة التعليق على مشيئة الله.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ليلة بدر بمصارع بعض المشركين، فقد كان يمر على أماكن ويقول: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فقد علقه النبي عليه الصلاة والسلام على مشيئة الله، فما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما علمه ملك أو أحد من خلق الله عن أمر تفصيلي في مفاتيح الغيب الخمس فسوف يكون معلقاً على المشيئة ليظل في خمس لا يعلمهن إلا الله، وما أخبر به من تفصيل دقيق فإنه يظل مجملاً في أجزاء أخرى كالتوقيت مثلاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بتفاصيل ما يقع في أمر الدجال ونزول عيسى بن مريم، ولكن يبقى هذا الأمر إجمالاً وهو: زمن وقوع ذلك، كما أن تفاصيل ما في الجنة وما في النار وما في الساعة مقطوع بها، فلا نقول: إنه معلق على المشيئة إن شاء الله أمضاه وإن شاء لم يمضه، بل إن الله عز وجل شاء ذلك قطعاً وجزماً، فهو شاء أن يبعث الناس يوم القيامة، وأن يحيي الموتى، وهذا مقطوع به وقد شاء الله فعله، وليس إن شاء؛ لأن لفظ (إن شاء) يعني: أنه من المحتمل أنه يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، لكن هذه الأمور ستحصل قطعاً، فلابد أن نجزم أن هناك جنة وناراً، وأن هناك قيامة وحساباً وسؤالاً وثواباً وعقاباً، وأن هناك ميزاناً وصراطاً، وهذا مقطوع به، لكن يبقى هناك إجمال من جهة التوقيت أو التفاصيل الكاملة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يخبر بأمور مجزوم بها لكن فيها إجمالاً من جهة، أو أن يخبر بتفاصيل دقيقة جداً فيبقى التعليق على مشيئة الله عز وجل، وبذلك تظل مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59].(8/12)
مظاهر كذب الكهنة والعرافين
ولابد أن نقطع بأن مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن الأولياء يمكنهم أن يطلعوا على الغيب وينسبون لهم ذلك، ويظنون أنهم يعلمون ما في الغد والعياذ بالله، ومن الناس من يقول عن الكهنة ذلك وهذا أعظم وأقبح، فإذا كان الأنبياء لا يعلمون، والملائكة لا تعلم، والأولياء لا يعلمون، فكيف بالكهنة؟ ولذلك لا تسأل المنجمين أبداً؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، وهذا أمر عظيم الأهمية في سلوك المسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ولماذا الناس يعيشون في هذا الضلال؟ يقال لهم: إن في سنة ثمانية وتسعين تجتمع ست كواكب مع بعضها البعض، وهذه الست الكواكب عندما تجتمع على خط واحد فإنه ستحصل أحداث رهيبة على وجه الأرض، وجاءت سنة ثمانية وتسعين ولم يحصل شيء، وهناك كتاب مكث خمسة عشر طبعة وهو كتاب: عمر أمة الإسلام، وهذا الكتاب يأتي بكلام المنجمين وأمثالهم، فلما أخذنا الكتاب والحمد لله، وجدنا أن ما فيه باطل، والتكهن فيه كثير جداً، ومن ذلك قولهم: سيحصل كذا وكذا، لأن المذنب الفلاني سيمر يوم كذا، سبحان الله! إذاً: فالمسلمون بهذه الإفتراضات الباطلة سيعرفون أموراً غيبية من القرآن العظيم {لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]، إذاً: أي شخص يقول لك: إنه سيحصل شيء في السنة الفلانية من غير أن يذكر شيئاً من الكتاب أو السنة فلا تصدقه، ولو ذكر تأويلاً للكتاب والسنة فاجزم له بأنه باطل، واجزم له أن هذا الشيء لم يتحدد في سنة معينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك، بل الأشياء التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في المستقبل وفي المكان علقها على مشيئة الله، فمن علامات وضع الحديث: أن يحدد مثلاً عمراً معيناً للأمة، فعندما تجد أن هناك تحديداً بالطريقة هذه: سنة كذا سيحصل كذا، فاعرف أن هذا حديث موضوع، ولو قيل لك: إن الدنيا ستفنى بعد كذا سنة، أو أنه قد مضى من الزمن ألفان أو خمسة آلاف وبقي ألفان فاعرف أن هذا الكلام كذب، ولا يمكن أن يكون في الحديث مثل ذلك؛ لأن في ذلك مخالفة للقرآن صراحة، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن وقت قيام الساعة: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أخبرك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله)، إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الغيب عند الله، فنحن نوقن أنه لا يعلم مفاتح الغيب إلا الله، فلماذا نذهب إلى الكهنة والعرافين الذين يسألون الشياطين والعفاريت والملبوسين ويتكهنون أنه: سيحصل كذا، وإذا لم تعمل له كذا فسيحصل كذا؟! وهذا بلا شك ادعاء باطل، فإن هذا الكلام يقوله الكفرة ولا يقوله المسلمون؛ لأن المسلم يعلم من كتاب الله عز وجل أن الله عز وجل وحده الذي استأثر بمفاتح الغيب الخمس، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:59].(8/13)
القرآن يدعو إلى التفكر في مخلوقات الله وأماكن عيشها
إن القرآن يبين لنا معاني معينة لابد أن تلتفت لها القلوب، ويدعوك إلى أن تتفكر فيما في البر، وأن تتفكر فيما في البحر، ولا يحيط بما في البر علماً إلا الله، فالنمل الذي يخرج من بيوته عندما تشتد حرارة الأرض، لا نعلم أين مكانه في هذا الوقت وكيف نجده، وإذا راقبناه وتبعناه فسنجده قد وصل إلى مكان معين، والحشرات المدفونة لا نعرف أين هي، وسبحان الله فهي موجودة في جحورها، وفي أماكن كثيرة، وتحت الأرض، فهذا عالم عجيب، فهو عالم تعيش فيه كائنات كثيرة جداً والله عز وجل هو المحيط بها علماً.
وما في البر من بذور النباتات وغاباتها: إذا ما دخلها إنسان أو دخل أجزاء منها يقول: يا للعجب! كل هذه منذ آلاف السنين موجودة، وبذورها تكبر وتنمو وتصبح بعد ذلك أشجاراً هائلة، وفي مناطق كثيرة هائلة من العالم والبشر لا يعلمون عنها شيئاً، بل وهناك أماكن غير مأهولة بالبشر، وكذلك الغابات الاستوائية: ففيها حيوانات لا يعلمها إلا الله، ومن العجيب أن رجلاً رأى قرداً مثل الأصبع، وفيه تفاصيل الخلق وله وجه وعينان وأذنان، وقد كان هذا بعد نموه وهو لا ينظر إلا في الظلام فقط، متعلق بذيله في الشجرة، وقد أتوا به ووضعوه في حديقة الحيوان بهذه الطريقة، وهذا شيء عجيب جداً، وتذكر هذا الرجل ما يكون في بطن الأم حين يخرج الإنسان جنيناً وفيه كل التفاصيل، وهذا شيء عجيب جداً، فسبحان الله! فالمخلوقات عجيبة الشأن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ)).
وأما في البحر فأمر آخر عجيب، فالبحر هو أربع أخماس الكرة الأرضية، والأرض خمسها، وهذه الأرض لا يحيط بها علماً إلا الله، والبحر أعظم من الأرض، حيث أن أعماق البحار ظلمات بعضها فوق بعض، وأمواج تلو أمواج تجعل ما تحتها أشد ظلاماً من انكسار الأشعة، كما قال عز وجل: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40]، وهذه الظلمات الموجودة في البحر لم يدخلها إنسان، وإن دخلها فإنه يجد أعاجيب من المخلوقات، فلو أخذت قطرة من ماء من أي ممر مائي سواء كان ماء عذباً أو ماء مالحاً، ووضعت جزءاً منها على شريحة، ونظرت تحت الميكروسكوب، فإنك ستلاقي فيها كائنات عجيبة: طحالب ونباتات وبكتيريا وأشياء عجيبة جداً، فكل قطرة من الماء تتركب من ضوابط معينة ونسبة معينة من الأملاح، ولابد من هذه النسب المنضبطة وإلا فسيحصل خلل في حياة البشر، فلو أن الماء المالح صار عذباً والعذب صار مالحاً لحصل خلل في حياة البشر، فالتوازن هذا عجيب جداً، ناهيك عن الكائنات الكبيرة الهائلة.
إن الإنسان عندما يفكر في هذه المخلوقات يطرأ على ذهنه أنه من الذي أحاط علماً بذلك؟ حتى إن أعظم وأعتى الدول التي تملك الكمبيوتر وكل المعلومات لا يحيطون علماً بذلك أبداً، بل يجب على الإنسان حين يعرف هذا أن ينكسر، ولابد أن يعرف أنه جاهل؛ لذلك فإن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار.
أي: أن الإنسان لا يقول أبداً: أنا عالم، كيف يقول: أنا عالم، وهو لا يعرف شيئاً، بل لا يعرف ما الذي بداخله، إن الذي بداخله إلى هذا اليوم عالم عجيب، عالم في كل وقت نكتشف منه شيئاً جديداً، وإن الله كلما أعطانا قدرة أكثر على النظر، كالميكروسكوب الذي يكبر صور الأجسام، فإننا نرى أنَّ الذي كنا نراه ثقباً أصبح ليس بثقب، كانوا يظنون وكنا نظن أن جدار الخلية ثقوب وهي ليست بثقوب، بل هي مواد مركبة بطريقة معينة من أجل أن تؤدي وظيفة معينة، فكلما عرفنا أكثر كلما عرفنا أننا قبل مدة كنا لا نفهم شيئاً، ونحن الآن لا نفهم شيئاً بالنسبة للعلم الكامل، ولذلك فإن هذا المعنى عظيم الأهمية في نفس المؤمن، كما قال الخضر عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وقد وقف عصفور على طرف السفينة فأخذ قطرة من ماء البحر، فقال: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، وهذا معنى عظيم، فلابد أن يحصل في قلب المؤمن أنه يصف نفسه بالجهل يوماً، فإن أعلم الخلق بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)، وهو أعلم الخلق بالله، ولكنه يقول ذلك، ويتوسل إلى الله بعلمه عز وجل، ويعلم أصحابه فيقول: (اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).
قال عز وجل: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)).
فهنا يرشدنا القرآن إلى التفكر في هذا الأمر العجيب، إلى سقوط ورقة من شجرة في غابة من غابات الأرض على الأرض، ففي أثناء سقوطها تتقلب عدة مرات وتستقر على أي وجه من وجوهها، ثم بعد نزولها في الأرض تغور منه سنين طويلة حتى تتحلل، فإذا تحللت صارت بعد بترولاً، وهذا البترول كان في باطن الأرض، وجد من مركبات هيدروكربونية مصدرها أصلاً من مواد حية، هي في الأصل: أوراق ونباتات وأشجار وكائنات حية استمر الدفن عليها في الأرض وبعد سنين طويلة تحولت إلى هذه المواد، فسبحان الله! لأن تركيبها هو تركيبة المواد الهيدروكربونية التي هي من المواد الحية، فلذلك لا أحد يستطيع أن يصنع وقوداً من عناصر الأنسجة هذه؛ لأن الوقود مصدره المادة الحية، فنحن لا نستطيع تركيب البترول، بل لابد أن يستخرج من باطن الأرض، وكذلك الغازات الطبيعية، فكلها في الأصل مواد، فعندما نزلت هذه الأوراق في باطن الأرض استمرت سنين طويلة حتى صارت بنزيناً والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك.
إنَّ السلف يقولون: إن الله يعلم كم مرة تتقلب هذه الورقة، وفي أي زمن، وفي أي غابة، وفي أي مكان؟ فعندما يبدأ المرء في معرفة هذه المعاني فلابد أن ينكسر لله عز وجل، ولابد أن يقر على نفسه بالعجز والجهل.
((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)).
كذلك الفلاح حين يبذر بذرة في الأرض، وهذا من أجل أن نفكر في الرطب واليابس والحبات التي تزرع في الأرض، فإنه يعلم أنه يرزع أرزاً أو قمحاً أو شعيراً، ولكنه لا يمكن أن يعرف كم حبة في يده؟ ولا يعرف أي حبة ستنبت وأي حبة ستموت؛ لأن هذه الحبات لن تنبت كلها، بل بعضها يجف وبعضها ينبت، وبعضها يكون زرعاً وبعضها يكون سنابل، قال تعالى: ((وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))، فكل ذلك كتب في الكتاب المبين في اللوح المحفوظ.
هذا هو الإيمان بعلم الله وبكتابة المقادير، وعندما يوقن الإنسان بهذه المعاني فإنه لا يمكن أن يغتر بعلمه، بل يصف نفسه بالجهل؛ لأن الغرور بالعلم مرض العصر الحديث، وهو مرض الكفرة -والعياذ بالله- الذين وصفهم الله بأنهم: {لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:6 - 7]، وهذا الكلام كله في كوكب الأرض، فما بالك في الكواكب البعيدة الأخرى؟ وما بالك في هذه النجوم والمسافات الهائلة التي بيننا وبينها؟ فالله عز وجل علم ما في السماوات والأرض؛ لأنه سبحانه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، لا يغيب عنا، وإنَّ ما فوق هذه السماوات، وهذه الأشياء كلها تجعل الإنسان لا يغتر بعلمه أبداً، لا بالعلم الديني ولا الدنيوي، وهذا العلم الدنيوي هو الذي جعله الكفرة إلهاً لهم في هذا الزمان يعبدونه من دون الله.(8/14)
العقائد الفكرية الباطلة
فيلسوف ألماني كافر اسمه: نكسن، يقول في فلسفته التي صيغت منها بعد ذلك نظريات كثيرة، وهو من أوائل الملحدين: إن هذا الزمان هو عصر مولد السوبرمان وموت الإله، والكلام هذا من مائتي سنة أو أكثر، أي: أنَّ علوم الثورة الصناعية مازالت في بدايتها، أي: أن الإنسان حسب زعمه في هذا الوقت هو القوي المسيطر على العالم فليس محتاجاً إلى إله في هذا الوقت! فموت الإله يعني: موته في نظرية الإنسان، أي: أنه غير موجود أصلاً، لكن الإنسان لما كان جاهلاً وضعيفاً كان يظن أن في الوجود إله، أما الآن فهو غير محتاج إلى ذلك، وليس المعنى أنه مات فعلياً، إنما هي الصياغات القذرة لهذه العقائد الكفرية والعياذ بالله، مثلما صيغت في رواية من الروايات المشهورة! رواية: (أولاد حارتنا)، فإنها تنصر هذه النظرية، وكذلك: الجبلاوي، ففي خطابه يرمز إلى الله، وتعالى الله عن قوله علواً كبيراً، ويقول: إنه جاء بعد الأنبياء شخص اسمه عرفة، هذا الشخص هو الذي قتل الجبلاوي، وعرفة هذا الذي يقول عنه أنه هو المعرفة العلم، هذا العلم الحديث كما يقول هو الذي قتل الجبلاوي، دخل عليه وسحره وهو غير منتبه له، وقتله، وخرج الناس وقالوا: إن جنازة الجبلاوي غداً والعياذ بالله.
فهذه ثمرة الغرور والكبر والعياذ بالله.
وكان فيما مضى أستاذ في الكلية قد مات والحمد لله، كان يقول للطلبة خرافات منها قوله: قريباً سيصنعون ذبابة، يعرض بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]، ولو اجتمعوا على ذلك ألف سنة لما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، فالناس يعلمون علم اليقين أن البشر لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعون أن يصنعوا جزئي بروتين فقط، فليس في قدرة الإنسان أن يصنع ذلك.(8/15)
الاستنساخ وأطفال الأنابيب هل يعدان خلقاً
إن هؤلاء المنحرفين يروجون الكلام على الناس الذين لا يفهمون، فيخدعونهم ويقولون لهم: نحن صنعنا الأولاد في الأنابيب، والناس يظنون أن أطفال الأنابيب يصنعون في المعمل، فمن يريد أن يكون له طفل عينه زرقاء فليذهب إلى هناك أي: هم يظنون ذلك، ولكن الكلام غير هذا نهائياً؛ لأن أطفال الأنابيب يتكونون من الحيوان المنوي الذي لا يستطيع تلقيح البويضة، وغير قادر أن يصل إليها نتيجة انسداد في القناة، فيأخذون الحيوان المنوي من الرجل ويأخذون البويضة من المرأة، ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة له كدرجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لمني الرجل متقنة، ويأخذون البويضة من المرأة ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة لها من درجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لبيوضة المرأة متقنة غاية الإتقان، ولو تغير أي شيء مع هذا فلن يحصل التلقيح، فلابد من إتقان تام للتلقيح في داخل جسم المرأة، فلا هي ولا الرجل ولا هم يحسون أنه قد تم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، والظروف غير مهيأة، فيحاولون أن يضعوها في المعمل عن طريق الأوزون، ثم يقولون: يمكن أن تنفع أو لا تنفع، فإن نفعت لقحها وتم التلقيح، ثم يأخذونها ويضعونها في رحم المرأة وينتظرونها، ويجعلون المرأة تستريح من أجل أن تنمو النمو الطبيعي، ولا يعملون لها شيئاً، حتى تلد، فيدعون أنهم صنعوا طفل أنابيب!، والذين لا يفهمون ذلك يعتقدون أنهم حقاً قد صنعوا ولداً في الأنابيب في المعمل، وليس الأمر كذلك نهائياً، وهي نفس فكرة الاستنساخ، فإن عملية الاستنساخ مثل التوأمة، وكأنه توأم للإنسان نفسه، فهم يأخذون من الشخص خلية من خلاياه ويجعلونها كبويضة ملقحة يضعونها في الرحم، وللإنسان تدخل في ذلك؛ لأن الغرض في الحيوانات المنوية أن تحملها امرأة، وبدل أن تحمل بويضة ملقحة تحمل خلية من الخلايا، فينمو كذلك ليصبح وكأنه شبيه بالأول تماماً، وإن كان هذا العمل لا يجوز في الإنسان، ولكن المقصود: أن هذا ليس صناعة للإنسان ولا خلقاً له، ولكن هذا هو الغرور بالعلم، فالإنسان عندما يؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى لابد أن يقطع ويجزم بجهله وعجزه وألا يغتر بالعلم.
فعلم الإنسان بالنسبة إلى علم الله جهل، كما أن عز الإنسان بالنسبة إلى عز الله ذل، كما أن غنى أي إنسان بالنسبة إلى غنى الله عز وجل فقر، كما أن قوة أي إنسان إلى قوة الله عز وجل ضعف، وكما أن قدرة أي إنسان إلى قدرة الله عز وجل عجز، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى جيداً.(8/16)
علم الله محيط بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون
وكذلك علم الله بما كان وما سيكون، وما مضى وما سوف يأتي، وتفاصيل ذلك، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالأشياء التي لم تقع قد علم الله عز وجل أنها لو كانت تقع على أي صورة لوقعت، كما قال عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81].
إذاً: فقد علم الله أن هذا الغلام لو كبر لكان كافراً، فعلم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولذلك إذا حصل للإنسان شيء والناس ينزعجون من هذا الشيء فإنهم يقولون: يا أخي! لو كان كذا ما كان كذا وكذا، ولسنا الذين نعرف ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان يفوض علم ذلك إلى الله ويقول: إن علم الله محيط بما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يقول: لو كان كذا لكان كذا وكذا؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، كأن يموت شخص فيقول الناس: لو أنه مات قبل هذا بقليل، لو أنه مات قبلنا أو مات بعدنا، لو أن الله عمل كذا، فلو قلنا له: لماذا تتكلم في هذا؟ أو لماذا تعترض على هذا؟ فإن هذا فتح لعمل الشيطان، فلو كان كذا فالله يعلم ما كان، وهو سبحانه وتعالى الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فثمرة هذا في حد الإنسان ألا يعترض على الله، ولا يقترح على الله، ولا يقول: لم يغير الله هذا الشيء الفلاني؟ فلست أنت الذي تقول هذا الكلام؛ لأن المؤمن يفوض أمره ويفوض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك يرد علم ما لا يعلم إلى عالمه، ولا يدعي علم ما لم يعلم، فقد عاتب الله موسى حين سئل: أي أهل الأرض أعلم؟ فقال: أنا، فعاتبه على ذلك إذ لم يرد العلم إليه، فقدر الله له أن يلقى الخضر حتى يعرفه أن هناك بعضاً من العلوم مما لا يعلمها، وأنَّ هناك من هو أعلم منه.(8/17)
استحضار علم الله ومراقبته ثمرة من ثمار الخوف والتقوى
لقد ساح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام في الأرض من أجل أن يتعلم أشياء كثيرة، ومن أجل أن يتعلم أن العلم مردود إلى الله سبحانه وتعالى، وسيدنا موسى كان يعلم من قبل ذلك، لكن لابد من استحضارها في كل لحظة من اللحظات، فإنه يجب أن يكون في كل دقيقة وفي كل موقف مستحضراً أن الله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى.
ولو استحضر العبد ذلك لصار في أفعاله نور، ولراقب الله عز وجل أعظم مراقبة، فلو تربى الإنسان على ذلك لنشأ يراقب الله عز وجل ويخافه في كل مكان في السر والعلن، كما ربى لقمان ابنه حين قال له: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]؛ لأن (الخبير): من الأسماء الدالة على معنى علم الله عز وجل، وهو العلم المتقن، فالخبير: العليم التام علمه المتقن له، فـ لقمان يقول لابنه: إذا عمل عملاً أو معصية وكانت الفعلة مقدار ذرة أو خردلة وكانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أو في صخرة مغلقة، فإن الله يأتي بها؛ لأنه عز وجل لطيف خبير وهو يعلمها، ولذلك فأنت سوف تحاسب عليها، فلو أن الإنسان تربى على هذا المعنى بالتأكيد لتغير سلوكه، ولترك الغش عندما يكون لوحده وأمام الناس، ولكان أميناً صادقاً، وسوف يكون في كل أحواله متقياً لله سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن الله عز وجل أحاط علماً بما يفعله الكفرة والظلمة والمنافقون وأعداء الدين، وأنه عز وجل ليس بغافل عنهم سبحانه وتعالى، واستحضرت مع ذلك كمال قدرته عز وجل وأن الأمر بمشيئته وحكمته، وأنه لا يغيب عنه ذلك فستراقب الله وتخشاه أشد الخشية، كما قال سبحانه: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، قال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، فالغفلة نقص في العلم، وإذا كان العلم موجوداً في كل وقت صار كمالاً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] سبحانه وتعالى، فإذا استحضر ذلك هان عليه ما يجد مما يمكرون ويفعلون، ويكيدون ويخططون؛ لأن الله عز وجل قد أحاط به علماً، وهو سبحانه وتعالى سوف يتولى أمر خلقه بما شاء عز وجل.(8/18)
كتابة المقادير في ضوء الكتاب والسنة
المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: مرتبة كتابة المقادير، وقد ذكر الله عز وجل هذه المرتبة في الآية التي ذكرنا: ((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)).
وقال عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
وقال عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] أي: بين فيه كل ما يقع في هذا الوجود.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).
وفي الحديث الآخر: (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق)، فهذا الأمر عظيم الأهمية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، وهذا المعنى العظيم من أهم معاني الإيمان بالقضاء والقدر، فقد بينه القرآن، وبين ثمرته العظيمة وارتباطها بالاعتقاد، قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:22 - 24]، وهذه آيات عظيمة البيان، فهناك أمراض خطيرة تعالج بهذه الآيات الكريمة: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي: من قبل أن نخلقها، فالكتاب: هو اللوح المحفوظ كما ذكرنا، والضمير في (نبرأها) يعود على الأرض أو على النفوس أو على المصيبة، أو كما رجح ابن كثير رحمه الله: في أنه يعود على الخليقة، أي: من قبل أن يخلق الله هذه الخليقة كلها من الأرض والنفوس والمصيبة، فإنها موجودة في اللوح المحفوظ وهو معنى صحيح، وقوله تعالى: ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) أي: سهل على الله، فقد أمر الله القلم أن يكتب فكتب في تلك الساعة، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن، وجف على ذلك، وطويت الصحف وجفت، ورفعت الأقلام، فلا زيادة في هذا الكتاب.
وثمرة هذا قوله تعالى: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ))، فلماذا تحزن على شيء فاتك؟ فلو استحضرت أنه مكتوب عليك من قبل، وأنه كان لابد أن يحصل هذا الأمر قبل خلق السماوات والأرض، وقبل أن توجد أنت على وجه الأرض، وقبل خلق الأرض نفسها، وأن هذا سوف يقع في اللحظة الفلانية، فلن تأسى على نفسك ولن تحزن.(8/19)
خمسة أمراض يشقى بهن الفرد والمجتمع
إنَّ مرض الحزن هذا مرض مدمر للإنسان وهو من الشيطان، {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]، فالنجوى شقاء للإنسان، فمن علامات الشقاء للإنسان أنه دائماً يقول: إن المصيبة التي حصلت لي آلمتني، ولماذا حصل كذا؟ وهل كان يحصل غير كذا؟ فيمكث في تخيل هذه الأفكار من أجل أن يتألم ويشقى، والشيطان يوسوس له، لكن لو أن هذا الإنسان استحضر كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلن يحصل له ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، إذاً: فقد حصل الأمر وقدَّر الله وما شاء فعل، وهذا يريح الإنسان راحة عظيمة، قال: ((وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)) أي: بما أعطاكم من الدنيا، ولا من الدين حتى لا تغترون، والفرح ليس معناه السرور؛ لأن السرور يكون بنعمة الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، لكن المقصود بالفرح هنا: الفرح المذموم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر:75]، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76] أي: لا تفرح فرح الغرور، إذ ننسب الفضل إلى النفس، وقد كنا عندما كتبت هذه المقادير عدماً، وكل شيء كان عدماً عدا ما خلق الله عز وجل من القلم والكتاب، إذاً: فينبغي للإنسان أن لا ينسب الفضل إلى نفسه، ولا يقولن: هذا لي، وهذا بجهدي وعملي، وإلا كان مثل قارون في هذه الطريقة، فهو الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؛ لأن الكبر قد أعماه والعياذ بالله، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]، والعياذ بالله من ذلك، فلا يكونن كمن وصفه الله عز وجل بقوله: {هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، فيظن أنه لابد أن يأخذ شيئاً في الآخرة؛ لأنه أخذ في الدنيا، فإذا استحضر الإنسان ذلك لم يغتر، فإن الغرور والكبر من صفات إبليس صاحب هذا الطريق، فهو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، وهذا هو نسبة الفضل إلى النفس، فالإنسان المؤمن لا ينسب الفضل إلى نفسه في الدين أو الدنيا، في المال أو الملك؛ لأن الملك ملك الله سبحانه وتعالى، والمال مال الله، قال تعالى: {آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، وقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، إذاً: فعندما يستحضر الإنسان ذلك فلا يقول: إن هذا حقي، فإنه سيذهب ويكون مالكه قد أخذه، ولا يقول: أنا الذي عملته، لكن يقول: هذا من فضل الله علي؛ ولذلك لما حصلت لـ أم سليم واقعة موت ابنها رضي الله عنها استحضرت هذا المعنى، وقالت لـ أبي طلحة: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فأرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فابنك هذا كان عارية عندنا، أي: أن الله أعطاه لنا ثم أخذه، فالملك ملكه سبحانه وتعالى، إذاً: ينبغي للمرء أن لا يحزن ولا يغتر بما عنده، فإياك أن تقول: هذا لي، أو هذا ملكي، فإن هذا الشيء لم يكن لك، ولابد أن تستحضر أنك أنت والمصيبة والنعمة والخير والشر كنتم لحظة كتابة المقادير عدماً، فإن ذلك يزيل الفرح والغرور، قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]؛ لأن الاختيال والفخر أمراض إبليسية مدمرة للإنسان، فلو أن الإنسان استحضر ذلك القدر السابق لما حصل له اختيال على الخلق، وبماذا تفتخر عليهم وليس لك من نفسك شيء؟ وكذا العلم الديني والعمل الديني والطاعات كلها هبة من الله كتبت لك قبل أن تولد وتوجد، فإياك أن تقول: أنا عالم، وإياك أن تقول: أنا مجاهد، وإياك أن تقول: أنا داعٍ إلى الله، وإياك أن تقول: أنا زاهد، أنا مصلٍ وصائم بمعنى الافتخار، فنحن نعلم أننا بلا شك نعبد الله عز وجل، فإياه نعبد وبه نستعين، لكن لا تنسب الفضل إلى نفسك، فكلنا مفتقر إلى الله عز وجل، ولذا قال الذي كفر عندما دخل جنته: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:35 - 38]، فالإنسان لابد له أن يستحضر فقره إذا تذكر هذا الأزل البعيد حين لم يكن شيئاً مذكوراً، كما يقول ابن القيم رحمه الله: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بعلامة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، أي: أعمال المؤمنين ولذلك يقول المؤمنون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وهذا توفيق من الله عز وجل، فالله هو الذي منَّ عليهم بذلك، وما الذي يفتح للقلب هذا الباب؟ إنه رؤية كتابة المقادير في ذلك العهد البعيد، وما كان من مقادير قبل وجودك حتى تستيقن أنَّ الله هو الذي من عليك، ليس بعلمك، ولا بعملك، ولا التخطيط وحسن العلم والعمل، وإنما هو توفيق من الله عز وجل، فهو الذي أراده لك سبحانه وتعالى، ومن به عليك؛ لذلك فإن من الأمراض: الاختيال والفخر، وهذان مما يخاف منهما على الصالحين في أمر العلم والعمل، والدعوة والجهاد، فإن أول من تسعر بهم النار الذين رغبوا في أن يقال عنهم ذلك لينسب لهم، فالذي جاهد ليقال: جريء، والذي تعلم وقرأ القرآن ليقال: قارئ وعالم، والذي أنفق ليقال: جواد فهؤلاء أول من تسعر بهم النار؛ لأنه يريد أن ينسب له ذلك، فالإيمان بأن كل ذلك قد كتب في كتاب قبل أن يبرأ الله الخليقة يزيل عن الإنسان الفخر والاختيال على الخلق، وكذلك يزيل عنه البخل؛ لأنه يظن أن هذا المال له، فيخاف أن ينقص لو أنفق، فإذا استحضر العبد أنها ملك لله عز وجل، وأن الله هو الذي كتبها ولم تكن له، لمْ يبخل حين يأمره الله بالنفقة، ولم يخف على المال من النقص؛ لأنه يعلم أنه راحل عنه قطعاً، وأن الرزق مقدر؛ لذلك يقول تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، إذاً: الإيمان بكتابة المقادير يزيل عن الإنسان هذه الأمراض الخمسة: الحزن، والفرح الذي هو الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والاختيال، والفخر، والبخل، فهذه أمراض تشقي الإنسان وتشقي من حوله، وتخلق مشاكل لا حصر لها بين الناس، فالإنسان عندما يؤمن بالقدر وبكتابة المقادير تزول عنه هذه الأمراض، والنبي عليه الصلاة والسلام بين كتابة المقادير والإنسان جنين في بطن أمه، فقال عليه الصلاة والسلام: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ففي هذا الحديث ثمار مهمة عظيمة الأهمية في مقام كتابة المقادير من هذا الحديث من كتب العمل والأجل والرزق والشقاء أو السعادة، فإذا علمت أن أجلك مكتوب فلا تخف الموت حين يأمرك الله عز وجل بالإقدام، ولا يكن حب الحياة معلقاً بقلبك إلى هذا الحد، ولا تحرص عليها لدرجة أن تبيع دينك من أجل عرض من الدنيا، وإذا كان الرزق مقدراً لك قبل أن تولد فلا تخف على لقمة العيش ولا تقل: أريد أن آكل فاتركوني وشأني؛ خوفاً من المشاكل، فالمشاكل هي مقاومة الشر والفساد، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن المرء موقن أن الرزق الذي سيأكله مكتوب له من قبل أن يولد، وأن أولاده كذلك مكتوب لهم الرزق الذي سيأكلوه، لما داهن في دين الله ولما خاف ورجا الناس، ولما باع دينه من أجل مصلحة دنيوية، أو باع طاعة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).(8/20)
الحث على طلب الرزق الحلال والإجمال في الطلب
والإنسان إذا آمن بالرزق أنه مكتوب لم يبع دينه بعرض من الدنيا، ولم يقل: أنا أعمل بغير إرادتي ولم أجد إلا الحرام -والعياذ بالله- ولم أجد غير الرشوة، ولم أجد غير الربا، فإن ذلك لا ينبغي، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) إذاً: لابد أن تتقي الله؛ ليجعل لك مخرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب، ولا تقلْ: إني لا أجد غير الحرام، ولكن اطلب الطلب الجميل، واطلب الرزق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القعود في البيت والركون إلى الغير والتقاعس عن الطلب فقال: (أجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة الإنسان، وتأمل كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس على مثل هذا المعنى، مرتبطاً بقضية القضاء والقدر، قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، إذاً: فالمعتقد الصحيح أن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فلماذا يداهنهم ويرائيهم ويسمع لهم؟ فسيصغرون في نفسه ويرتفع عن الأرض بآيات الله عز وجل ومعاني الإيمان العظيمة، فلا يهمه الناس ولا يعبأ بهم رضوا أو سخطوا، كما قال ابن مسعود: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره.
فمن ضعف اليقين بالقدر أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله، تقول: فلان أمره إلى الله لأنه جعل هذا الشيء لا يصلني، إذاً: لماذا تذمه؟ هل هو يظن أنه هو الذي أغلق عليك باب الرزق؟ بل هذا أمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك قول بعض الناس: أنت سوف توقف رزقي، فهل الرزق يقف؟ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ولا يوجد أحد يوقف رزق أحد، وإذا كان هو اغتصب حقك فلن يأكل رزقك؛ لأن رزقك من عند الله، وإن ظلمك وأكل مالك، وإن كان رزقه حراماً، لكنه رزق كذلك، لكن لا تقلْ: أكل رزقي، فاتق الله سبحانه وتعالى ولا تظنَّنَّ أن الناس يملكون لك ضراً أو نفعاً.(8/21)
عدم صحة الاحتجاج بالقدر على المصيبة إلا بعد التوبة النصوح
وإذا أيقنت أن عملك مكتوب أيضاً فانظر إلى الطاعات واعلم أنها فضل من الله عز وجل، وانظر إلى المعاصي وتب منها إلى الله ليصح لك احتجاجك بالقدر، ولا تقل: أن الله كتب علي المعاصي قبل أن أولد، بل قل الكلام الطيب أولاً من أجل أن تقبل هذه الحجة، فإن سيدنا آدم عندما قال الكلام الطيب بعدما تاب قبلت توبته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتج آدم وموسى عند ربهما فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خيبتنا ونفسك، وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله على الناس برسالته وكلامه، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين سنة، قال: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم، قال: فكيف تلومني على عمل كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى، فحج آدم موسى) حُجَّ أي: غلبه، وهو حديث متفق على صحته، وهذا الحديث عظيم القدر؛ فهو يدلنا على الزمن الذي يصح الاحتجاج فيه بالقدر على المصيبة، فنزول الإنسان إلى الأرض كان مصيبة، وسيدنا آدم لم يختبره، ولكنه تسبب فيه بالتأكيد بالمعصية التي عملها، وسيدنا موسى كان يلومه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، لكن سيدنا آدم ليس له دخل في المصيبة وليس هو الذي اختار هذه العقوبة، وقد تاب إلى الله من المعصية، فصارت المعصية بعد التوبة بمنزلة المصيبة، فللإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا المعائب، أما أن يموت قبل التوبة فلن يقبل منه الاحتجاج بالقدر ولو احتج خمسين مرة؛ لأنه يريد أن يلغي مسئوليته ولن تلتغي المسئولية، فالقدر لا يلغي المسئولية؛ لأن الله قدر أن تكون لك مسئولية، فالذي يعمل معصية يقول: لو أن الله يريد أن يهديني لهداني، ادع لنا أن يهدينا الله يا شيخ! فهذا يحتج بالقدر من أجل أن يقول: أنا خالي المسئولية، أنا لا دخل لي في ذلك، وهذا مكتوب علي، صحيح أنه في الحقيقة مكتوب عليك، لكنك تعمله بإرادتك، مكتوب عليك وأنت تعمله بمسئوليتك وبقدرتك التي خلقها الله لك، فأنت تريد أن تلغي المسئولية، وهذه في الحقيقة كلمة حق يراد باطل، فالمشركون قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] والله قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107]، فقد رد الله عليهم كلمتهم؛ لأنهم أرادوا بها عدم الالتزام بالدين، أرادوا بها عدم الإيمان، ويقولون: إن ربنا راضٍ بهذا، لا، فربنا لا يرضى بذلك، ومن أجل ذلك قلنا في المرتبة الرابعة في أول الكلام: إن مع كونه عز وجل قدر المقادير وأراد وجود الخير والشر فقد أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، وهو يحب الإيمان ويحب المتقين ويحب المؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر، إذاً: فهناك أمر شرعي غير الأمر الكوني، وليس شرطاً أن يجتمعا، بل يجتمعان ويفترقان، فلذلك المحبة والرضا من الله تابعة للأمر الشرعي، فالذي يلتزم بالأمر الشرعي يحبه الله، والذي يخالف الأمر الشرعي يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وكونه قدره فلأن كل شيء بقدر، ولكن لا تحتج بالقدر على ذنب أو معصية لم تتب منها، لكنك إذا تبت إلى الله فقد ألغيت عنك المسئولية فعلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ثم يأتي بعد التوبة الصادقة الخوف من الله جل وعلا، لأن التوبة لا تكون توبة نصوحاً ومقبولة مع وجود التقصير، فإذا كانت توبة نصوحاً ومقبولة فلك أن تحتج بالقدر إذا لامك أحدهم، لكن الكفار احتجوا بالقدر في الدنيا، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، واحتج إبليس كذلك بالقدر، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ولم ينفعه الاحتجاج، بل كان {مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18] فإياك أن تكون مثل إبليس في الطريقة، وانتبه فإنك ستحتج ولن يقبل منك احتجاجك، كذلك الحال في من يجيب في الامتحان إجابة خاطئة ويقول: هذا قضائي، فحاله كحال المحتج بالقدر في عمل المعصية وهو لا يريد أن يتوب منها، فإن مصيرها هو السقوط لا محالة، كما قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:54 - 56] فالندم لا ينفع إلا في الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، لكنك ستتحسر يوم القيامة إن لم تكن توبة مقبولة، ولذلك بادر بالتوبة قبل الغرغرة، يقول تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56]، ولن تنفع هذه الحجة، فالتوبة في هذا الوقت لا تنفع، ثم يحتج بحجة ثانية، يقول تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وهذه الحجة لن تقبل كذلك، {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] وهذه الحجة لن تقبل أيضاً، ولن ترجع إلى الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59]، والعياذ بالله، إذاً: فانت حين ترى العذاب وتحتج بالقدر فلن يقبل منك هذا الاحتجاج، وستسألهم الملائكة عند دخولهم النار كذلك ولن يقبل منهم الاحتجاج بالقدر، كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8]، وقال عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] فالملائكة تحتج عليهم بالشرع، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، فالكافرون يحتجون بالقدر وهو قولهم: إنَّ ربنا قدَّر علينا العذاب فوجب ذلك علينا، فيقال لهم: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] أي: يذكرونهم بأوصافهم وأعمالهم، وتكبرهم، وهم مازالوا يحتجون بالقدر ويقولون: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) إذاً: فأنت تدخل النار وهو مكتوب عليك ذلك، لكنك ستدخلها وأنت مذموم؛ لأنه ليس من الحجة أن يظل الإنسان على المعصية ويقول: إنه القدر، وهم في النار يحتجون بالقدر مع ذلك، كما قال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، أي: أن الشقوة التي كتبتها علينا غلبت علينا، {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:106 - 110]، فالله سبحانه وتعالى أحضر لهم عملهم، فقد لامهم وذمهم على الأعمال السيئة مع أنهم يحتجون بالقدر ويقولون: ((غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا)) ولا ينفع ذلك، ولن تقبل هذه الحجة، إذاً: فعندما يؤمن الإنسان بأن عمله مكتوب فإنه ينظر نظرتين: نظرة في العمل الصالح فينظر إلى فضل الله عليه بذلك، وأن الله هو الذي من عليه، وأنه كان عدماً، وإرادته كانت عدماً، وعلمه كان عدماً، فلا يغتر بعلمه أو عمله، والنظرة الثانية: في المعاصي، فيبادر إلى التوبة منها حتى يقبل احتجاجه بالقدر السابق المكتوب عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فلو احتج به مائة مرة على الذنب بعد أن يموت فلن يقبل منه هذا العذر؛ لأن الله إنما يقبل الاحتجاج بالقدر ممن أخلى مسئوليته عن الذنب، ولن تخلي مسئوليتك عن الذنب الذي قد مضى إلا بعد أن تندم قبل الغرغرة، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن ينزل العذاب بالناس.(8/22)
ثمرة الإيمان بأن السعادة والشقاوة مكتوبتان
وإذا آمن الإنسان بأن الشقاوة والسعادة مكتوبتان فسيؤمن كذلك بأن الألم والتلذذ مكتوبان، وعندها فلن يخاف من ألم يصيبه أو لذة تفوته ما لم يكتب الله عز وجل له ذلك، وهذا يدفعه إلى أن يستغني بالله عن الخلق، وإذا علمت أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلن تغتر، ولن تأمن سوء الخاتمة، بل ولن تظن أن عملك سيفيدك، كما يقول بعض الجهلة: إنك ستدخل الجنة حتماً، فلا ينبغي لك أن تقول ذلك عن نفسك؛ لأنك تخاف على نفسك سوء الخاتمة؛ فأنت لا تأمن مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وإذا كان الصديق يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة، فأنت أولى بذلك، ولذلك قال الطحاوي رحمه الله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، أي: الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، ففي هذا الجانب تسأل الله حسن الخاتمة، وتسأل الله أن يتوفاك على عمل صالح، وتسأل الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك).
وأما في الجانب الآخر: فإذا وجدت من يعمل المعاصي ومن يعمل بعمل أهل النار، وعلمت أن من هؤلاء من يكتب الله له النجاة في آخر لحظة فلن تجعل الناس ييئسون من رحمة الله، ولن تنزلهم جنة أو نار، فلست أنت الذي تقول: والله لا يغفر الله لك، ولست ممن يضع نفسه في موضع أرفع منه، وليس لك رفع نفسك فوق مرتبة العبودية، مع أنه كان يعمل الصالحات بخلاف أخيه الغارق في السيئات، فقد قال له مرة: (اتركني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال ذلك الرجل الذي كان يعمل الصالحات: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك) والعياذ بالله؛ لأن الكبر في الإنسان مذموم، فالإنسان لا يتكبر بالعمل الصالح؟ فقد يغفر له في لحظة أنت لا تعرفها، فقد ذكر أن رجلاً قتل مائة نفس فكتب الله له الهداية قبل أن يموت ومن غير أن يعمل عملاً صالحاً، ولذلك ينبغي لك ألا تلزم الناس بجنة أو نار، وألا تضع نفسك في موضع المحاسب والحاكم على البشر، وألا تقول: إن هذا الذي ظلمني لابد أن الله سينتقم منه، بل ليس لازماً أن ينتقم منه، بل من الممكن أن يرزقه الله التوبة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة؛ لأن الله قال: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) أي: أنهم لو تابوا لما عذبهم، سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيقتل ويستشهد، فيدخلان الجنة معاً)، إذاً: فنحن ليس لنا من الأمر شيء، فلا ينبغي أن تقول للناس: أنت تدخل النار أو أنت تدخل الجنة، فأنت توقن بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة عن أهل الجنة وأهل النار، ولكن أين أنت من ذلك؟ فإذا كنت ترجو وتخاف فلا تيئس الناس من رحمة الله، ولا تتكبر عليهم، فإنك لا تعرف ماذا يختم الله لهم به من أجل عمل عملوه ربما يكون صغيراً في نظرك، ويكون عند الله مقبولاً كبيراً، فرب عمل بسيط يغفر الله به ذنوباً كثيرة، فإن الله شكور سبحانه وتعالى.(8/23)
المبادرة إلى التوبة قبل الموت
وقد ذكر أن بغياً من بغايا بني إسرائيل، بُغي أي: مدمنة على الزنا، يعني: فاجرة كما نسمع الآن مثلاً بالنساء الفاجرات، فالشاهد: أنها مرت بكلب يأكل الثرى من شدة العطش، والله يعلم أن في قلبها رحمة بهذا الكلب، فنزلت فملأت موقها من الماء وسقت هذا الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، سبحان الله! فما بالك بإنسان يعمل المعاصي، لكن عنده رحمة ببعض خلق الله سبحانه وتعالى؟! فقد يغفر الله له هذه الذنوب الكثيرة، فلا تقل: فلان هذا لابد أن يدخل النار أو هذا لابد أن يدخل الجنة، فإنَّ الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، وبالعدل يفعل، ولا يظلم الناس شيئاً، فالناس بين الفضل والعدل، ففضله على أهل الإيمان، وعدله عز وجل مع أهل الكفر والفسوق والعصيان.
نسأل الله أن يعاملنا بفضله، وأن يجعلنا من أهله سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الحكم العدل يفعل ما يشاء، فلا تقنط من رحمة الله، وإذا كنت صاحب ذنب فبادر بالتوبة الآن؛ لأنك لا تدري متى يختم لك، وإذا تبت إلى الله عز وجل قبل الموت فقد تبت من قريب، فالله عز وجل يغفر لمن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، لكنك لا تدري متى ستموت وبأي أرض؛ لأن الله هو الذي يعلم بأي أرض تموت النفس، فبادر بالتوبة واترك التسويف.
فمن ثمرات الإيمان بعلم الله أيضاً: أن تعلم أن الله عز وجل هو الذي يعلم متى تموت النفوس؛ لأن ذلك من مفاتيح الغيب الخمس فلا تسوف؛ لأنك لست ضامناً لعمرك، فمن الناس من يقول: سأتوب بعد سنة أو بعد سنتين، ومنهم من يقول: سأتوب غداً، أو سأعمل الصالحات غداً، وما يدريه أنه سيعيش إلى غد؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ذلك.
فهذه من ثمرات الإيمان بكتابة المقادير، فقد كتب للإنسان وهو جنين في بطن أمه الأجل والرزق والعمل والشقاوة والسعادة وكذا الخواتيم التي يختم بها للإنسان؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم بالكتاب قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولذلك فعندما نسأل: هل الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: إنه ميسر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ميسر لما خلق له)، وميسر هذه تثبت له إرادة وقدرة، وتثبت أن إرادة الله فوق إرادته ومشيئة الله فوق مشيئته، وهذا الأمر يكون الحديث عنه في قضية أثر الإيمان بالقدرة والإرادة الإلهية، وأثر الإيمان بخلق الله لأفعال العباد.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.(8/24)
الخير والشر عبر التاريخ
إن الخير لا يعرف إلا بمعرفة الشر، وبضدها تتميز الأشياء، وإن من أعظم أسباب الفتنة والضلال اختلاط الشر بالخير، وتزيين أهل الباطل دعوتهم بشيء مما يظن أنه حق وخير، فما أوقع الكثيرين في البدع إلا حب التقرب إلى الله، فظنوا أنهم بذلك على خير، وهكذا فإن الشيطان يزين باطله بشيء من الخير، ويفتح للعبد باباً من الطاعة ليوقعه في الهلكة والمعصية.(9/1)
سنة الله في دحض الشر وأهله
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: بسم الله الرحمن الرحيم.
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45].
إن الله عز وجل أرسل رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ليهدموا الباطل ويقيموا الحق، فإن الحق لا يكون قائماً إلا إذا هدم الباطل، أرسل الله رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
أجمعين ليقاوموا الشر وينشروا الخير؛ فإن الخير لا يكون خيراً إلا إذا انتفى من الشر وقاومه وأبطله، فإن الاختلاط بين الخير والشر من أعظم الأمور خطراً على المخلوقين وعلى الإنسانية كلها، بل إن إبليس لعنه الله عنده هذا الاختلاط، فهو يقر بأن الله عز وجل خلقه وخلق آدم، ويقر بيوم البعث، وبأن الله هو الذي يُنظر، وهو الذي يحيي ويميت، فقال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وقال: {رَبِّ فأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، وكل هذا لم يجعله في عداد المؤمنين، وإنما هو أكبر الكافرين بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من لبس إيمانه بظلم -وهو الشرك الأكبر- فإن إيمانه قد بطل، كما قال عز وجل عن هؤلاء: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال عز وجل عن إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]، فتبين بذلك أن من لبس إيمانه بالشرك الأكبر فإن إيمانه يضمحل ويزول، ولا ينفعه إقراره بوجود الله، ولا بأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً.
ومن ظلم نفسه بظلم العباد، أو من ظلم نفسه بالذنوب التي هي دون الشرك، فإنه ينقص من إيمانه وأمنه بقدر ما ظلم نفسه، وإنما يتحصل الأمن، والالتجاء التام بالإيمان الكامل الذي ليس فيه ظلم، أو الذي تاب الإنسان فيه من ظلمه لنفسه، فلقي الله سبحانه وتعالى وقد بدل الله سيئاته حسنات، سواء كان ذلك من الظلم الأكبر أو الأصغر، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب إليه ورجع واستغفر وأناب، ولما كان الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده، كان الإيمان بالله مستلزماً للكفر بالطاغوت، وكانت معرفة الشر ضرورية كمعرفة الخير حتى يتجنب الإنسان الشر.(9/2)
معرفة الشر طريق إلى الخير
قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
فتنوعت أسئلة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ليصل الحق إلى الجميع، فيُعرفُ الخير عن طريق البعض، ويعرف الشر عن طريق البعض الآخر ليجتنبه الناس، وليعرفوا الحلال والواجب فيأتوه، ويعرفوا الحرام والباطل والمنكر فيجتنبوه، وحذيفة ممن انتبه إلى خطر الشر، فكان يسأل عن الشر مخافة أن يدركه؛ لأنه وجد كثيراً من الناس منصرفين عن السؤال عن الشر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا -وفي رواية لـ مسلم: قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس.
- قال: فما تأمرني؟ قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة فتموت وأنت عاض عليه).
وهذا الحديث الجليل رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو يبين ما جرى ويجري للناس من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فإن الناس كانوا في جاهلية وشر.(9/3)
صور الشر في الجاهلية
ومعرفة صفات الجاهلية مما يجعل المؤمنين يدركون قدر نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإيمان والإسلام، ويتمسكون به، ويزدادون حرصاً عليه، ويعضون عليه بالنواجذ، ويأبون أن يرجعوا إلى أي مظهر من مظاهر الجاهلية، سواء كان ذلك في العقيدة: وهو ظن الجاهلية، أو كان في الحكم: وهو حكم الجاهلية، أو كان في المعاملات المالية: وهو ربا الجاهلية.
أو كان في وضع المرأة: وهو تبرج الجاهلية، أو كان في الولاء والحمية: وهي حمية وعصبية الجاهلية، أو كان في أي مظهر من مظاهر الجاهلية المختلفة التي يعيش فيها أكثر الخلق إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فقد كان الناس في هذه الجاهلية وهذا الشر، وبقدر قرب الإنسان من معاني الجاهلية بقدر ما يكون فيه من الشر، وبقدر بعده عنها يكون اقترابه من الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال حذيفة: (فأتانا الله بهذا الخير)، يعني: بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان فيها من هداية وتوحيد لله عز وجل ومعرفته ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وترك ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، ودماء الجاهلية، وعصبية الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية، وربا الجاهلية، فقد تركوا ذلك كله إلى دين الحق، والحمد لله رب العالمين.(9/4)
أول شر بعد عصر النبوة
قال حذيفة: (فهل بعد هذا الخير من شر؟)، وهذا هو الذي كان يخافه حذيفة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يوجد بعد هذا الخير شر، وهذا باتفاق أهل العلم هو ما وقع من فتنة في أواخر عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان بداية ذلك قتل عثمان، وأما قتل عمر رضي الله تعالى عنه فقد فتح باب الفتن فعلاً، ولكنه ما كان بأيدي المؤمنين، وإنما كان بأيدي من لا ينطق بالشهادتين، فكان قتل عثمان بيد بعض المنتسبين إلى الإسلام من دعاة الفتنة، وما جر ذلك بعده من الفتن التي وقعت، والاقتتال الذي حصل بسبب أهل الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأوقعوا فيه رغم أنهم كانوا يحرصون على البعد عنه، لكن قدر الله وما شاء فعل، وهو بالنسبة إلى ما سبقه من الخير يعتبر شراً، والأمر في ذلك بلا شك أمر نسبي، أي: بالنسبة إلى ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه الصحابة من ائتلاف الكلمة، والحب العميق، والارتباط الوثيق، وعدم الاختلاف على الإطلاق، وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل لهم مشاكلهم، ويفصل بينهم في نزاعاتهم، فكان بالنسبة إلى ما سبقه شر.(9/5)
اجتماع الخير على دخن فيه
قال حذيفة: (فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن)، وكان هذا هو اجتماع المسلمين بعد مقتل علي رضي الله تعالى عنه رابع الخلفاء الراشدين على معاوية رضي الله تعالى عنهم إماماً للمسلمين جمعاً للكلمة بعد أن تنازل السيد الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو ما زال طفلاً صغيراً: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فتنازل هذا السيد الجليل الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه عن الخلافة لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من أجل جمع كلمة المسلمين، فسمي عام أربعين للهجرة: عام الجماعة؛ لاجتماع كلمة المسلمين، ولم يكن هذا بالنسبة إلى ما سبقه من الخير الأول خيراً محضاً، وإنما كان بدخن فيه، وهو دخن ما جرى من بعض الأمراء خاصة بعد زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وما جرى بعد ذلك في زمن بني العباس وغيرهم من دخن كثير، وذلك ما وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (تعرف منهم وتنكر، قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي) فهذا الدخن شيء من الشر مدخول في هذا الخير، لكنه خير بالجملة، فقد كان الجهاد في سبيل الله في هذه الفترة قائماً لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.
ورغم ما وقع من الفتن والمنكرات ما كان أعداء الإسلام ليصلوا إلى المسلمين، ولا كان يخطر ببالهم أن يفكروا في أذيتهم؛ لأنهم يعلمون شدة بأسهم، وفي هذا العام فتحت بلاد كثيرة، ووصل الإسلام إلى أقاصي الأرض شرقها وغربها، واستمرت الفتوحات إلى أن وصلت بحمد لله تبارك وتعالى إلى حدود فرنسا، وفتحت الأندلس، وأقيمت دولة الخلافة واحدة في الأرض كلها من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، والحمد لله رب العالمين.
وكان الحق ظاهراً -بحمد لله تبارك وتعالى- في أكثر الأحوال، وهو بالنسبة إلى ما يأتي بعده من الشر خيرٌ لكنه خير فيه دخن لعدم الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاهتداء بهديه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف منهم وتنكر)، ففيهم المعروف وفيهم المنكر، والمعروف موجود وظاهر، يوجد من أهل العلم من ينكره بلسانه أو بيده على حسب الشروط الشرعية والضوابط التي بينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(9/6)
شر دعاة جهنم على الأمم
قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: (فقلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبوب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) فهؤلاء ممن دعوا إلى البدعة والضلال والكفر والنفاق والزندقة والانحلال، ممن وصفهم أهل العلم كالخوارج في العهد الأول، وكالباطنية الذين أسسوا الدولة المسماة بالفاطمية، وكغيرهم ممن يبقى إلى يوم القيامة يدعو إلى الكفر والانحلال، وإن كانوا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا)، فهم ليسوا من الأجانب الأغراب، وليسوا ممن ينطق بالكفر الصراح، وإنما يتكلمون بألسنتنا، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويزعمون أنهم منتسبون إلى الأمة، ولكنهم في حقيقتهم كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: (قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس، دعاة على أبواب جهنم) فهم كل من دعا إلى الضلال، ونبذ شريعة الله، وحارب الإسلام وأهله، ونبذ السنة حتى وإن لم تكن رغبته في الملك فقط كما كان الدخن الأول، فقد كان صراعاً على الملك والسلطان، ولم يكن قط إرادة لانتهاك حرمات الله، ولا حرباً للدين، ولا إبطالاً لعقائد المسلمين، ولا موالاة للكافرين، ولا تبديلاً لشريعة الله سبحانه وتعالى، فكان بعد ذلك من الشر ما كان، حيث ظهر هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، وما زالوا يظهرون، وهذا هو الخطر العظيم، فكل من دعا إلى الضلال من البدع القديمة أو المعاصرة، وتمكن من أن يكون قائداً للناس، إماماً لهم يدعوهم إلى جهنم، فهذا من الشر الثاني الذي هو أشر بكثير من الشرور التي سبقت إلا أن يكون شر الجاهلية الأولى فهو مثلها إن لم يكن شراً منها لأجل النفاق والزندقة، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، وهذا دليل على أن من اتبعهم، وسار خلفهم، وقبل باطلهم، وأجاب دعوتهم، فهو منهم ومعهم، ومن جنودهم الذين يسيرون في ركبهم؛ فيكون معهم في النار.
وهؤلاء من المنافقين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، فهذا من كان يعلم فعلاً أنه حرب على الإسلام وأهله، وكان غير ملبس عليه، وأما من لبس عليهم في ذلك فهم في جهنم أيضاً ولا ينجو منهم بعد دخولهم النار إلا القليل؛ لأن من استجاب لداعي الباطل غالباً ما يموت على الكفر والعياذ بالله، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصف حوضه، وأخبر بأن طوله شهر، وعرضه شهر، وماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، وعدد آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يحال بيني وبينهم بعد أن أعرفهم، فأقول: أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار، فأقول: لم؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والعياذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم (فلا ينجو منهم إلا مثل همل النعم)، أي: إلا المهمل من الأنعام، وهذا هو النزر القليل ممن كان فعلاً ملبساً عليه، وما درى أنه يحارب دين الله عز وجل، فهذا مستحق أن يكون معهم، ولكنه ينجو بعد أن يؤخذ إلى باب الشمال، وهذا يدلنا على خطر متابعة الشر والباطل، وإن كان الإنسان قد يكون ملبساً عليه، لكن الواجب عليه أن يتعلم ويستبصر، ولا يجوز له أن يتابع على الباطل، فإن الله عز وجل حذر من المتابعة على الباطل؛ لأن غالب ذلك يؤدي إلى الكفر، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:64 - 68]، وقال عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، وقال سبحانه وتعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، فبين سبحانه أن الأتباع يسألون مضاعفة العذاب للكبراء والرؤساء، فيضاعف الله عز وجل العذاب للفريقين، ولا ينجو منهم إلا القليل ممن مات على التوحيد، وما أبعدهم عن التوحيد؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله بل في الكفر والزندقة والنفاق، ومن عمل ذلك فهو على شاكلة من تبعه.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهذا عدل من الله سبحانه؛ فإن فرعون لا يكون فرعون إلا بقارون وهامان وجنودهما، ولا يكون فرعون إلا إذا كان معه من يعضده على كفره وضلاله وزندقته وانحلاله، فناسب أن يكون من أجاب الدعاة على أبواب جهنم قذفوه فيها، ولذلك كان واجباً على الإنسان أن يحذر على نفسه من الشر والبدع قديمةً كانت أو حديثة، ومن البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى، وموالاة الكافرين والتسوية بين الإيمان والكفر، والزعم بأن الله سبحانه وتعالى يقبل ملة سوى ملة الإسلام، وتحكيم غير شرع الله عز وجل في أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم.
ولاشك أن هذا من الدعاة على أبواب جهنم، وهو -والعياذ بالله- من الكفر والنفاق الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى أبداً ولا شرعه، وهو من الشر الثاني.(9/7)
الأمر بلزوم الجماعة عند الفتن
ثم قال حذيفة: (فما تأمرني؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) وهذا أمر عظيم الأهمية، فإن الإنسان بارتباطه بأهل الخير غالباً ما ينجو من الشر وأهله بإذن الله، ومن خرج بنفسه يظن أنه بعيد عن أهل الباطل فإنه في الغالب يقع في أسرهم، فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والشيطان ذئب الإنسان، فإذا كان الإنسان بعيداً عن أعوان الخير منفرداً بطريق نفسه أدركه أعداؤه وأسروه وأخذوه معهم، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
والإمام: هو الخليفة إن وجد، وإلا فإن وجدت الجماعة دون وجود الخليفة فليلزم أهل العلم منهم، وليكن معهم؛ فإن هذه الأمة لا ينقطع منها الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، أو حتى تقوم الساعة)، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله حتى يقاتل آخرهم الدجال).
وقد أتت أحاديث متواترة أن الخير لا ينقطع من الأمة، وأنه لا تزال طائفة منها على الحق، فإن فقد فقدت الخلافة -كما هو واقع- فإن أهل السنة بحمد الله لا ينقطعون من الأرض كلها.
وإذا فقد أهل السنة أئمتهم من الخلفاء وجب عليهم أن يرجعوا إلى أئمتهم من العلماء، إلا أن يجد الإنسان نفسه في أرض جذعاً، ولا يجد أعواناً على الخير، فهنا سأل حذيفة فقال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟)، واشترط شرطين: ألا يكون لهم جماعة، وألا يكون لهم إمام، فهذا الذي قد يحصل لبعض الأفراد لا أنه يقع للمسلمين ككل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (لا تزال طائفة تقاتل عن الإسلام)، (ولا تزال طائفة قائمة بأمر الله من أمته)، وإنما يقع للبعض حين لا يجد في بلد أو في مكان ما أعواناً على الخير، ولا يجد إلا دعاة على أبواب جهنم من الفرق الضالة؛ فإن لم يجد إلا أحزاب الضلالة فلا يجوز له أن ينتسب إليهم، أو يكون معهم مدعياً أنه على الخير الذي عندهم مما يظهرون من أنهم يتكلمون بألسنتنا، وأنهم من جلدتنا، وأنهم في جثمان إنس، فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه، بل لابد أن يعتزل الشر وأهله، وهذه مرتبة واجبة لا بد منها للمؤمن؛ حتى يكون بعيداً عن متابعة أهل الباطل، ولو كان ذلك بأن يعتزل في الصحاري، وأن يعض على أصل شجرة فيموت وهو عاض عليه خير له من أن يتبع واحداً منهم.
إننا نحتاج إلى معرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الخير والشر حتى لا نقع فريسة للدعاة على أبواب جهنم، وحتى نعرف أن من سبل نجاتنا التقارب مع أهل الحق، ومن قوة الرابطة بين المؤمنين ومن وحدتهم ومن بيان ما يلزمهم: أن يكونوا على منهج الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أئمة العلم أجمعوا على لزوم اتباع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان لما شهد القرآن لهم بذلك، كما قال عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، وقال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ) [التوبة:100].
وهذا المجمع عليه بين أهل العلم من لزوم اجتماع الناس على ما كانت عليه الجماعة الأولى هو سبب النجاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هم؟ قال: هم الجماعة)، وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهي صحيحة المعنى بلا شك.
نسأل الله أن يعيذنا من الشر، وأن يوفقنا للخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(9/8)
درجات اعتزال الشر
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن اعتزال الشر درجات: الدرجة الأولى: اعتزال الشر نفسه، بألا يأتيه المسلم، وأعظم الشر: هو الشرك بالله عز وجل بأنواعه المختلفة التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، والمعاصي من الكبائر الظاهرة والباطنة، والبدع الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يعتزله المؤمن ويبتعد عنه، فيتوب إلى الله عز وجل من ذلك، وهذا الذي أمر الله سبحانه وتعالى به لما قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فالتوبة إلى الله هي: ترك الشر واعتزاله؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة: (الهجرة أن تهجر ما نهاك الله عنه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فالهجرة أن تهجر السوء وتتركه فلا تفعله، وألا تعاون عليه، وألا تشارك فيه، وألا تكون جندياً من جنود الشر.
الدرجة الثانية: اعتزال أهل الشر، بألا يجلس معهم وهم يخوضون فيه حتى ولو لم يشاركهم، فإن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]، وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، فلا يجوز للإنسان أن يشهد الشر إلا بغرض شرعي صحيح كأن ينكر عليهم، فإما أن يزول عنه، وإما أن يزيله، أو يسعى في إزالته، فأما من كان باقياً في مكان الشر ساكتاً عنه فهو من أهل الشر وإن زعم أنه لم يرتكبه؛ فإن الإنسان المسلم لا يجوز له أن يبقى في بلاد يُجهر فيها بمعاصي الله، ويسب فيها السلف.
كما قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يبقى في أرض يسب فيها السلف، فكيف إذا كان يسب فيها دين الله، أو يسب فيها الله سبحانه، ويستهزأ بآياته، ويسخر من العقائد التي أنزلها في كتابه، وجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقائد الغيب، فلا يجوز أن يقيم الإنسان مع أهل الشر إلا أن يكون له غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، فإن وجد أنه لا فائدة لدين الله في بقائه معهم فليرحل عنهم وليعتزلهم، وإن لم يجد إلا أن يعتزل في الصحاري والجبال، فهذا خير له من أن يكون مقيماً للأكل والشرب وسط أهل الباطل والضلال ساكتاً على شرهم، راضياً بدنياهم.
فلا بد أن يترك الإنسان أصدقاء وقرناء السوء، فلا يصاحبهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال عز وجل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فالواجب على المؤمن أن يبحث عن قرناء الخير، ويعتزل قرناء الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك - أي: يعطيك مجاناً- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، فإن لم يجد الإنسان بداً من أن يكون مع أهل السوء، فإما أن يأمرهم وينهاهم، وإما أن يهاجر في سبيل الله، وكما تهاجر نفسه يهاجر بدنه، ولا يجوز له أن يبقى معيناً على الباطل أو ساكتاً عنه، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
ولا بد للإنسان أن يكون واضحاً في انتمائه لأهل الخير، فيبتعد عن أهل الشر، ويتبرأ من أفعالهم، ويتبرأ منهم إذا بلغوا درجة الكفر والنفاق.(9/9)
اختلاط الخير بالشر سبب للفتنة والضلال
فالمسلم صادق في قضية الولاء والبراء، ولا يمكن أن ينتهي إلى الباطل وأهله، والتساهل في هذه القضية من أعظم أسباب انتشار الفتنة بين المسلمين، ومن أعظم الخطر عليهم، فإن اختلاط الخير بالشر مما يلبس فيه على الكثيرين، ومما تقبل به دعاوى أهل الباطل من أجل ما عندهم من الحق، وقد خرج أبونا آدم من الجنة بقسم باطل؛ لأنه ظن أنه لا يقسم أحد بالله كاذباً، فغره الشيطان بالله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فلما وجده يقسم بالله ظن فعلاً أنه ناصح، وذلك تعظيماً من آدم لأمر الله سبحانه، ونسي ما أخبره الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ولا يقبل قول ناصح قط إلا بشيء من الحق معه، وإلا فالناس قد فطروا على قبول الحق ورد الباطل كما فطروا على حاجتهم إلى الماء والهواء.
والشرك والباطل يدخل إلى الأمم من اختلاط الخير بالشر، فقوم نوح ظهر فيهم الشرك بسبب أمرين: الأول أمر من الخير وهو حب الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، والثاني: البدعة الضلالة من اتخاذ التماثيل تذكاراً لهم، ثم كان بعد ذلك عبادتها من دون الله حباً لهم، وعلى أنهم وسطاء بينهم وبين الله عز وجل، وهكذا كانت عبادة اللات والعزى على أنها ملائكة الله التي تشفع لهم عند ربهم، وهم يتقربون بعبادتها إلى الله سبحانه وتعالى، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
فظهر بذلك أنهم يريدون التقرب إلى الله ولكن ما نفعهم ذلك، فتبين أن ما يدعو إليه الشيطان من الشرك يكون عن طريق النفاق الذي يظهر أصحابه الشهادتين، ولكنهم يدعون إلى أنواع الكفر والضلال، وكذا أنواع الشرك كعبادة القبور فإنه يسول لهم أن في هذا حباً للصالحين، وحباً لأهل البيت، وهذا حق لاشك فيه، كما أن عبادة غير الله سبحانه وتعالى شر لاشك فيه، وكذلك يزين الشيطان للكثيرين الوقوع في البدع بزعم حب التقرب إلى الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا جابه إنسان واحداً من أهل البدع وقال له: كيف تقع في هذه البدعة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ زعم أنك لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا تحب أهل البيت، أو أنك تكره الصالحين وتعاديهم، فهكذا يكون اختلاط الخير بالشر سبباً لضلال الإنسان؛ فإن الشيطان لا بد أن يضع في السم شيئاً من العسل وإلا ما استساغ مرارة السم أحد.
نسأل الله أن يعافي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظ عليهم الإسلام نقياً صافياً حتى يلقوا ربهم سبحانه وتعالى وهو راض عنهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في الهند وبورما وكشمير والفلبين وأرتيريا ومصر والجزائر، اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنزل بأعداء المسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا تجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، اللهم فك شرهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(9/10)
الدعاء سلاح المؤمن
الدعاء له منزلة عظيمة في الإسلام، فبالدعاء يستجلب النصر، ويستقى الغيث، ويدفع الضر، وتعم البركات؛ والدعاء أعظم سلاح يتسلح به المؤمن، وأعظم قوة يتقوى بها الضعيف، ولما كان الدعاء بهذه المنزلة الرفيعة كان هو العبادة.
فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله بالدعاء في سره وجهره وعسره ويسره وفي شأنه أجمع.(10/1)
مكانة الدعاء وفضله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فلقد أخبر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، قال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقال عز وجل: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى:26]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل الدعاء في كل أحواله، ويذكر الله عز وجل على كل أحيانه وفي كل المواقف خصوصاً في مواقف الشدائد، حيث كان يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ويتضرع إليه، ويستغيث به فيغيث الله عز وجل أمته بأسرها، كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وكانت استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة ومتتابعة بالليل وبالنهار، فقد كان طول الليل قائماً تحت شجرة في بدر وفي النهار في أول المعركة ظل يناشد ربه، ورفع يديه حتى سقط رداؤه من على منكبيه حتى اعتنقه أبو بكر صاحبه الرفيق الشفيق الرقيق رضي الله تعالى عنه من خلفه وقال: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك؛ فإن ربك منجز لك ما وعدك، فمن شدة الاجتهاد أشفق عليه الصديق رضي الله تعالى عنه، ومن كثرة التضرع أيقن أبو بكر أن الله منجز له ما وعده فقال له: (بعض مناشدتك ربك)، أي: يكفيك أن تدعو جزءاً من هذه المناشدة أو خفف من هذه المناشدة بعض التخفيف، فيكفيك جزء منها.
فانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم كيف غيرت دعوته عليه الصلاة والسلام وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، فلو لم ينتصر المسلمون في غزوة أحد، ولو هلكت تلك العصابة لما عبد الله في الأرض بعد ذلك اليوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد اليوم)، فاستجاب الله سبحانه هذه الدعوة المباركة، وهذه المناشدة المستمرة، وهذا التضرع الأكيد الذي لم يفتر حتى حقق الله عز وجل وعده، وحقق نصره لعباده المؤمنين، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في مقابلة أعدائه بدعاء هو من معجزاته الظاهرة.
فما أحوج المسلمين في مواجهتهم لأعدائهم، وقد تكالبوا عليهم واجتمعوا من أجل إطفاء نور الله سبحانه وتعالى أن يتدبروا هذا الدعاء، وأن يستعملوه، وأن يكثروا من اللهج به؛ عسى الله عز وجل أن يفرج كرباتهم.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يذكر أصحابه بالصبر والثبات ويأمرهم أن يسألوا الله العافية ويخبرهم أن الجنة تحت ظلال السيوف يقول: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب)، وفي رواية (سريع الحساب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم) ثم يتقدم المسلمون فينتصرون بفضل الله منزل الكتاب.(10/2)
أسباب النصر
ونحن نحتاج إلى أن نتدبر هذا الدعاء؛ حتى نستعمله للقوة المطلوبة، وحتى تحضر القلوب؛ فإن القلوب إذا امتلأت بمعرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته واستحضرت عظمته وقدرته وقوته وعزته وأنه سبحانه القيوم بأمر السماوات والأرض ثقلت الكفة، وتغيرت الموازين، وتزلزلت الأرض، واهتزت من تحت أقدام المشركين، ووقع الرعب في قلوبهم، ونصر الله عز وجل عباده المؤمنين بأيسر الأسباب.(10/3)
التوسل سبب من أسباب النصر
وهذه الأسباب هي: أولاً: التوسل إلى الله عز وجل بالإلهية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب) وهذا التوسل إلى الله عز وجل يكاد يكون في أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في أدعية الأنبياء جميعاً، وذلك أن دعوة الأنبياء هي دعوة التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فيستحضر أن الله إلهه الذي يعبده والذي يتوجه إليه بالإخلاص والصدق والتوكل والاستعانة وبكل أنواع العبادات.(10/4)
التوسل إلى الله عز وجل بإنزاله الكتاب
ومن أجل قيام الصراع ناسب جداً أن يبدأ هذا الدعاء بالتوسل إلى الله عز وجل بأنه منزل الكتاب، ولذا قال: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل أنزل الكتب من عنده، وخاتمتها القرآن العظيم، فهو خاتمة الكتب المنزلة من عنده التي تضمنت أحكامه وشرعه، وأنزل الله عز وجل الكتاب؛ ليقوم الناس بالقسط، قال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5].
فالله عز وجل أنزل الكتاب لتكون الحياة على وجه الأرض غير الحياة التي يريدها أولياء الشيطان، أنزله الله عز وجل مستقيماً قيماً لا اعوجاج فيه؛ وذلك ليقوم الناس بالقسط وبالعدل الذي شرعه الله، وليتذكروا اليوم الآخر بدلاً من أن ينشغلوا بدنياهم، فإن فكر الناس واعتقادهم وما يفكرون فيه وما ينشغلون به قضية عظيمة الأهمية، فتأمل فيما يشغل أولياء الشيطان الناس به؛ إنهم يشغلونهم بالشهوات الحقيرة الدنيئة، ويشغلونهم بالطعام والشراب، والجاه والملك والوجاهة واللعب واللهو، ولا يكادون يذكرون القيامة، ولا يكادون ينذرون الناس البأس الشديد الذي من عند الله الذي ينتظرهم، مع أنهم يرون كل يوم لحظة الفراق التي هي من أشد اللحظات التي هي سكرات الموت، فكم من الناس يرحلون! فالضعف الذي يكون فيه الإنسان والألم الذي يعتصره والذي ينبئ عما يحل به بعد ذلك أمر جليل وخطير ينتظر الناس، فالكتاب أنزله الله لينذر بأساً شديداً من لدنه، ولينذر ما الناس مقدمون عليه بدلاً من أن تكون صبغة الحياة هي الجري ورائها بهذه الطريقة التي لا يعرف الإنسان فيها معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ولا يعرف إلا المال والجنس والملك والرئاسة والصراع على ذلك بكل أنواعه، بل توظف العقائد والأديان والملل من أجل هذه الصراعات الدنيئة الحقيرة.
وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، ففي هذه الآية أن الله أنزل الكتاب ليبطل العقائد الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي مسبة لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يقول الله عز وجل: شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، فالله سبحانه وتعالى يغضب لذلك، وذكر أن هذه الكلمة عظيمة، فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95].
وقال عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وكذلك نزل الكتاب ليبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم أجراً حسناً، وهذا هو الذي ينبغي أن يطلب، وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه.
أنزل الله عز وجل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وذلك أن الله سبحانه ما أنزل الكتاب ليكون مجرد شيء يتزين به في صدور المجالس أو على الأرائك والمكاتب، وإنما أنزله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
فهذه قضية عظيمة الأهمية، ومن أجلها يدور الصراع حقاً، فالكفرة والمنافقون أولياؤهم لا يريدون أن يكون الكتاب الذي أنزله الله هو الذي يفصل بين الناس ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وإنما يريدون أن يكون حكم الجاهلية وآراء الرجال وما اشتهوه من الباطل والأهواء السخيفة المنكرة هي الحكم الذي يتحاكمون إليه، فالله عز وجل أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الله الكتاب والعدل الذي يكون عليه بناء الأمور على كتاب الله، فالكتاب معه الميزان، ومعه القياس الصحيح، فكما أن في المحسوسات ميزان فكذلك في الاعتقادات والأعمال والأقوال ميزان، وهذا الميزان توزن به الأشياء بكتاب الله سبحانه وتعالى.
إن هذا الصراع الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم وقام به أولياء الله عز وجل عبر العصور إنما كان لأجل أن يكون الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هو القائم بين الناس، وهو الحكم وهو القسط، وهو العدل الذي يحبه الله، وأن يوزن كل شيء بهذا الكتاب وأن ينظر إلى الحياة الدنيا والآخرة من خلال هذا الكتاب.
فكتب الله عز وجل كلها حق؛ أنزلها الله عز وجل متضمنة كلامه، وجعل القرآن مهيمناً عليها وشاهداً لما فيها من الحق ومبيناً ما زاده أهلها فيها من الباطل والتحريف والتبديل الذي صنعوا، وكذلك مبيناً ما نسخ منها مما كان مشروعاً في وقت وزال تشريعه لحكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك.
وبذلك كان من أعظم ما يتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى في مواجهة الأعداء قول: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل الذي أنزل الكتاب هو الذي وعد بأن يعم حكمه الأرض، وأن يظهر الدين الذي أنزله فيه على كل الأديان، كما قال عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
فالنور الذي أنزله الله هو هذا القرآن العظيم، قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، فهو الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوحى إليه مثله معه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو السراج المنير، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، وإنما كانت الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم منبعها من الكتاب، وحقيقتها تفصيل الكتاب وليست خارجة عنه، قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو يبين حقيقة الكتاب، ويبين تطبيقه العملي، وكان الكفار لا يقبلون ذلك، وكانوا يعارضونه ويريدون أن يطفئوا هذا النور، وأنى لهم أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى؟! وهكذا ترى أمة الإسلام عبر العصور، فقد حاول أعداؤها أن يصرفوها عن القرآن العظيم، وأن يبعدوا كتاب الله عز وجل عن حياة الناس، ومع ذلك فشلت المحاولات، وإن هلك في أثناء ذلك من هلك حين قبل الباطل وابتعد عن الكتاب، سواء ابتعد عنه بالكلية، كمن كفر به وحاربه، أو لم يبتعد عنه بالكلية، ولقد مرت ببعض بلاد المسلمين أوقات كان وجود القرآن فيها جريمة عظمى، وكان وجود القرآن لدى إنسان في بيته معناه أن يسجن حتى يموت أو ينفى في مجاهل البلاد التي يهلك فيها من الصحاري والجليد وغير ذلك، ولقد مضت مدة من الزمن كان الناس لا يتعلمون فيها القرآن إلا سراً، وأدرك من ذلك بعض من يعيش اليوم، فقد كان القرآن في كثير من البلاد تهمة عقوبتها الإعدام، ومع ذلك إذا بهؤلاء يذهب الله عز وجل بهم ويدمرهم تدميراً ويبقى القرآن العظيم.
وهكذا لو تأملت تاريخ المسلمين في كثير من محنهم لعلمت كيف كانت المحاولات بصرف الناس عن كتاب الله، ولإطفاء هذا النور الذي لا يطفأ بإذن الله عز وجل، ولذا كان تمسك المسلمين بالكتاب حفظاً وتلاوة واتباعاً وعملاً ودعوة هو سبب نصرهم، فبقدر تمسكهم بهذا الكتاب بقدر ما ينزل الله عليهم من النصر، وبقدر ما ينزل على أعدائهم من العذاب، ويلقي في قلوبهم الرعب والزلزلة ويهزمهم سبحانه وتعالى، فحاجتنا هي أن نتمسك بالكتاب الذي أنزله الله، وحاجتنا هي أن نتعلم آياته آية آية، ونمرها على القلوب ونتدبر ما فيها ونعمل بها، ونكثر استعمالها، لا أننا نغيب القرآن عن حياة الناس أو عن الدعوة أو عن البيان.
فمثلاً: أنت إذا قلت للناس: هذا الشيء حرام، قالوا: ليس بحرام، وإذا قلت لهم: هذا الشيء منهي عنه، وهذا الأمر لا يجوز، قالوا: بل يجوز، وليس بمنهي عنه، أما لو كنت على بينة من أمر الله عز وجل، وقلت لهم: قال الله كذا، فسوف تجد أمراً آخر، وسوف تجد تغيراً في استقبال الناس لهذه الدعوة، ولذا كان من سمات منهج السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم كثرة الاستدلال بالآيات القرآنية كما أنهم كانوا يكثرون الاستدلال بالأحاديث النبوية، وهي ليست بخارجة عن كتاب الله، بل هي مثله في التحليل والتحريم، وكذا بعده في البيان والإرشاد، وهي تتضمن معنى النور الذي فيه، وتبينه وتوضحه للناس، كما قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
فنحن نحتاج إلى أن نتلو آيات الله في كل المواطن، وبدلاً من أن تقول رأياً أو تعضده بقول فلان أو تقول: العالم الفلاني أفتى بكذا، هذا الأمر ليس بالقوي في النفوس، وسوف يُعارض بأيسر طريق، أما(10/5)
التوسل إلى الله عز وجل بإجرائه السحاب
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم).
فقوله: (مجري السحاب) فيه توسل إلى الله عز وجل بشئون فعله عز وجل وتدبيره لأمر السماوات، فالله عز وجل يجري السحاب الذي لا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أنه هو الذي يصرفه في الناس أو بينهم، ويصرف ما يحتويه من أرزاق للعباد، أو ما يحتويه من عقوبات؛ فهذا السحاب قد يكون فيه العذاب الأليم، كما قال قوم عاد عندما رأوا السحاب: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، قال عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25].
فتأمل هذا السحاب الذي لا يكاد ينظر إليه أحد في زحمة الحياة، وتأمل كيف يُصرف وُيجرى، وكيف تتغير أشكاله! وكيف يُساق من أبعد البلاد في لحظات بأمر الله عز وجل، وتتغير أحوال الناس على ظهر الأرض بناءً عليه، وكيف أنه لو أنزل الله عز وجل جبال البرد من السماء الذي تتضمنها السحاب على الناس لهلكوا جميعاً! فكيف ستفعل فيهم العواصف الترابية والعواصف الثلجية! وكيف ستفعل بهم الأعاصير، فلو أذن الله عز وجل لها أن تخرج هل يملك أحد دفعها من البشر على ضعفهم وعجزهم وعلى تكبرهم وعنادهم؟ فهذه ريح عاد قال الله سبحانه وتعالى عنها: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت:16]، وقال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8].
ولو حرم الله عز وجل العباد من الرزق الذي ينزله سبحانه وتعالى من السحاب فكيف ستجري الأنهار؟! وكيف ستمتلئ العيون؟! وكيف ستزرع الحقول وتسقى الأشجار؟! سوف تمتنع حياة البشر، فالله عز وجل له ملك السماوات والأرض، وما أجمل وما أحسن وما أعظم أن تتوسل إلى الله بشهود ملكه للسماوات التي لا ينازعه فيها أحد، ولكن أكثر الناس في غفلة؛ وذلك أنهم ينشغلون بالملك البائد في الأرض ويظنون أن الملك للناس، ولو تأملوا لعلموا أن السحاب يجري كل يوم وكل لحظة بأمر الله، فلا يستطيع أحد أن يجريه، ولا أن يصرفه في الاتجاهات المختلفة، ولا أن يحمله بشيء يريده أو يمنعه من شيء لا يريده، ولو تأملوا ذلك لأيقنوا أن البشر لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، وأن الله سبحانه هو رب السماوات والأرض، وأنه لو شاء سبحانه أن يسقط السماء على الأرض لأهلك الناس، ولو شاء أن يقذفهم بكسف من السماء لدمرهم تدميراً، كما قال عز وجل عن قوم شعيب: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189].
فالله عز وجل على كل شيء قدير، وهو مجري السحاب سبحانه وتعالى الذي يدبر الأمر كله، وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، وعلى المؤمن أن يتوكل عليه.
واستحضار معنى الربوبية في إجراء السحاب يجعل العبد يستحضر معاني التوحيد مجتمعة في الألوهية أولاً، وفي إنزال الكتاب منه سبحانه وتعالى ثانياً، وفي ربوبيته سبحانه التي يدل عليها إجراؤه للسحاب سبحانه وتعالى؛ وهذا يجعل المؤمن يتعلق بالله سبحانه وتعالى.(10/6)
التوسل إلى الله عز وجل بهزيمته للأحزاب
وقوله: (هازم الأحزاب)، هذا توسل ثالث أو رابع إذا عددنا لفظ (اللهم) توسلاً إلى الله عز وجل بألوهيته، ففيه التوسل إلى الله بأنه هازم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عز وجل قد هزم كل الأحزاب الذين تحزبوا على الأنبياء ليأخذوا الأنبياء، وليوقفوا دعوتهم، كما قال سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
فالجزاء من جنس العمل، وذلك أنهم أرادوا أخذ الرسل، وإيقاف دعوتهم وإهلاكهم، وأرادوا أن يضمحل هذا الدين، واستعملوا في ذلك وسائل البطش ووسائل الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، ووسائل الإعلام الفاسد بالإضافة إلى القوة والبأس، فاستعملوا ذلك حتى أوشكوا أن يأخذوا الرسل، وأن يقتلوهم، قال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ويكادون يصلون إلى غايتهم التي يظنون أنهم واصلون إليها، وفي اللحظة الأخيرة تتغير الأمور، ويظل الأمر يسير رويداً رويداً كما سار فرعون رويداً رويداً خلف موسى ومن معه، إلى أن تراءى الجمعان، وكما دبر إبليس مع المشركين خطة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة مباشرة، وأحاطوا بالبيت فعلاً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، فكما لم تبصر قلوبهم الحق الذي بعث به، كذلك لم تبصر أبصارهم جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج وهم يستعدون للفتك به، قال عز وجل: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5].
فالله عز وجل يأخذ من أراد أخذ ما جاء به الأنبياء؛ فإنه سبحانه وتعالى هازم الأحزاب.
ولنتأمل هذه الغزوة العظيمة التي جعل الله فيها من آياته ما يتوسل به المؤمنون في مواطن مختلفة من دعائهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من استعمال ذكر هزيمة الأحزاب، ويتوسل إلى الله بذلك، كما كان يقول في هذا الدعاء: (هازم الأحزاب)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه على الصفا والمروة: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، فهو سبحانه وتعالى لم يهزمهم من خلال المؤمنين، وإنما هزمهم وحده بآياته سبحانه وتعالى.
فكل من تحزب على الأنبياء وعلى دعوة الحق فهو من الأحزاب، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم ثمود وفرعون وعاد ولوط: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:13 - 14]، فالله سبحانه وتعالى جعل من تحزبوا ضد الإسلام واجتمعوا عليه رغم تفرقهم في غير ذلك مهزومين بقدرته عز وجل، فغزوة الأحزاب غزوة مليئة بآيات الله سبحانه، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:9 - 27].
فاللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم أعداء الإسلام وزلزلهم وانصرنا عليهم.
اللهم انصرنا على القوم المفسدين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم انصر الدعاة إليك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا.
اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين.
ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغوا علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك أوابين، لك مخبتين، إليك أواهين، وتقبل توبتنا، واغسل خبثنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وسل سخائم صدورنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(10/7)
الرحمة
الرحمة في قلوب الخلائق عطية من الله الرحيم، ولولاها لفسدت حياة الناس؛ لأن كل إنسان يريد أن يكون وحده ذا ملك ومال وما إلى ذلك، ولولا الرحمة لما استعدت الدجاجة الضعيفة للموت دون صغارها! ولذلك من لا يرحم الناس، فلا يحرص على هدايتهم، وجلب المنافع لهم، يكون بغيضاً عندهم، ولو كان من أقواهم بدناً، وأكثرهم مالاً، وأفصحهم لساناً.(11/1)
تحقيق العبودية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: قال ابن القيم رحمه الله: غنى القلب: ما يناسبه من تحققه بالعبودية المحضة، التي هي أعظم خلعة تخلع عليه، وأعظم هبة توهب له، وأعظم عطية تعطى للعبد: وهي أن يتحقق قلبه بالعبودية المحضة لله عز وجل، فيستغني حينئذٍ بما توجبه له هذه العبودية من المعرفة الخاصة -أي: بالله عز وجل- عن علمه بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، والمحبة الناصحة الخالصة: أن يكون محباً صادق المحبة، ناصحاً في محبته، مخلصاً لها من كل شوائبها، يحب الله عز وجل من كل قلبه.
وفي حديث ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتى المدينة قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وهذا المعنى ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فأول وصية في التوراة، وأول وصية قالها المسيح عليه السلام: الرب إلهنا، رب واحد، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك.
يقول ابن القيم: تستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية من المعرفة الخاصة، والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل من آثار الصفات المقدسة الإلهية، فإذا استحضر -مثلاً- اسمه سبحانه وتعالى السميع، وصفة السمع، واستحضر استماع الأصوات كلها له عز وجل كصوت واحد وأنه يسمعها جميعها من أدناها إلى أقصاها على اختلاف اللغات، وتباين الألسنة، وتفاوت الحاجات، وهو سبحانه وتعالى يسمع ما خفي منها وما ظهر، وما أسر وما أعلن فإن ذلك يجعله معظماً لربه سبحانه وتعالى، ويجعله مراقباً له في كلامه، ويلتفت إلى كل كلمة يقولها؛ لأنه يستحضر أن الله عز وجل يسمعها، ويستحضر كذلك أنه سبحانه وتعالى سميع الدعاء، كما قال إبراهيم عليه السلام منكراً على قومه عبادة من لا يسمع الدعاء: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72].
فيستحضر في نفسه كم مرة دعا الله عز وجل فسمع الله دعاءه، واستجاب له، وفرج كربه، وقضى حاجته؟ ويوقن بأنه إن لم ير له إجابة فهو سبحانه وتعالى إما قد صرف عنه من السوء مثلها، وإما قد ادخر له عنده عز وجل من الفضل ما يتمنى يوم القيامة أنه لم يكن استجيب له شيء من الدعاء في الدنيا؛ لما يرى من الفضل، وهكذا في كل الصفات يحصل له من آثار شهود ملكوت السماوات والأرض، فإن الله عز وجل هو المليك المقتدر، فيشهد القدرة والعزة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي أقدر العباد على ما بأيديهم، وأنهم لا يقدرون على شيء، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فهو قدير على ذوات العباد وقلوبهم وأحوالهم وأفعالهم الاضطرارية والاختيارية، وهو سبحانه وتعالى قادر على الإحياء والإماتة، والإسعاد والإشقاء، وتفريج الكربات، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.(11/2)
تأملات في آثار صفة الرحمة
ومن يتدبر آثار الصفات في الكون، ويتأمل صفة الرحمة، وأن رحمته سبحانه وتعالى قد وسعت كل شيء، ويتدبر الرحمة المخلوقة التي يرى آثارها في هذا الوجود، فمثلاً: يرى رحمة الدابة التي ترفع حافرها عن ولدها، ويتدبر رحمة الأم لأولادها، فمثلاً: تجد البقرة في حنان عجيب على ولدها بعد ولادتها، وتأمل كل أم آخذة ابنها تحضنه وتحميه، بل ومستعدة أن تعمل كل ما تستطيع عمله لأجل وليدها، وتأمل كيف أن كل أب أيضاً عنده رحمة عجيبة بأبنائه، ثم تخيل أن كل الرحمات هذه التي بين الوحش والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، وبين البشر منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وما سوف يأتي من رحمة في هذه الأرض كلها، كل ذلك أجزاء من الرحمة الواحدة التي أنزلها الله!! فالله عز وجل جعل هذه الرحمة المخلوقة بين الخلق في هذه الحياة ليتراحموا بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الرحمة مائة جزء، فأنزل منها جزءاً، فبها تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين ليوم القيامة)، فكم من الرحمة مدخرةً! بل كيف بالرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، أما هذه الرحمة المخلوقة فهي من آثار اسمه الرحمن، وتصور الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وكيف أنه رحمهم حتى أخذ بقلوبهم إليه، وجعلهم يحبونه، وجعل في قلوبهم من المعرفة والأنس به والشوق إليه ما لا يدركون معه فضلاً أعلى من ذلك؟ وانظر إلى رحمة الله عز وجل بإرسال الرسل، وما أنعم به عليهم من الصفات الطيبة، وجعلهم رحمة للعالمين.
وتأمل في قول جبريل عليه السلام لمريم وهو يتكلم عن عيسى عليه السلام كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، فالمسيح عليه السلام رحمة عظيمة جداً رحم الله عز وجل بها أهل زمانه من القساوة التي كانوا فيها، ومن الغلظة والغضب الذي حل على بني إسرائيل، وعدم استجابتهم ليحيى عليه السلام وقتلهم إياه، فهم الذين تسببوا في قتل يحيى -كما يذكرون في قصصهم- من أجل امرأة زانية.
وتأمل كيف أن سيدنا يحيى عليه السلام صاحب الحنان والتقوى والنقاء يلقى في السجن مدة طويلة -وهو العبد الحصور التقي البر- من أجل امرأة بغي، ويقتل من أجلها بعد ذلك! فكان سيدنا عيسى عليه السلام رحمة للعالمين، ورحمة للأرض مدة طويلة جداً، وقروناً متعددة، ولم يزل عليه السلام رحمة؛ وذلك بسبب بركة دعوته إلى الإسلام عندما ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويخلص الأرض من شر المسيح الدجال، ويخلص الأرض من شر أتباعه اليهود، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فمن لم يسلم في زمنه قتل، ولا يقبل الجزية، وترد البركة إلى الأرض، ويهلك الله بدعوته يأجوج ومأجوج، ويقال للأرض: ردي بركتك، وأنبتي ثمرتك، وهذا الخير العميم يكون بتطبيقه لشرع الله سبحانه وتعالى في زمنه.(11/3)
رحمة الله للمسلم والكافر بإرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتأمل رحمة الله عز وجل بأهل الأرض بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن وللكافر، فهو رحمة للمؤمن لأنه يجد ما لا يمكن أن يوصف بالقرب من الله عز وجل، والعبودية له سبحانه وتعالى، وهذه الشريعة العظيمة هي أعظم نعمة ينعم بها على مخلوق، ورحمة للكافر لأن الكفرة يتعذبون بمخالفتهم الشرع، ولذلك فهم يشقون أعظم شقاء في دنياهم لعدم اختيارهم الإسلام، لكنهم عاشوا في ظله في عدالة وإنصاف، وانظر إلى البشر يوم أن تسلط عليهم أهل الإسلام، وكيف حصل لهم الخير العميم؛ ولهذا أسلم أكثر هؤلاء الكفرة، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ولم تقهر هذه الأمم التي غلبت على الإسلام، وإنما كان هذا الدين زوالاً للحجب عنها، ولذلك فقد أسلمت عامة هذه الشعوب، وظلت مئات السنين مسلمة، فلما كان يومنا هذا بدأ الكفار يزعزعونهم عن الإسلام بكل وسيلة، حتى إنه يقتل الملايين منهم والناس لا تتزعزع عن الإسلام ولله الحمد إلا ما ندر، فالذي حصل مثلاً في الدول الشيوعية من مذابح بالملايين قتل فيها المسلمون وبعد كل هذا نجد المسلمين اليوم في هذه الدول ما زالوا على دينهم آية من آيات الله، ولذا نقول: إن الرسول رحمة للعالم كله.(11/4)
أمثلة لجرائم الغرب في حق البشرية
ولما تسلط الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين على البشر قتلوا الكثير منهم، ودمروا الأرض وأبادوا خيراتها، ففي الحرب العالمية الثانية قتل خمسة وخمسون مليون إنسان، وهذه قضية فوق الطاقة، وفوق التخيل، ألا ترى أن المسلمين في كل حروبهم التي خاضوها عبر التاريخ لم يبلغ عدد الذين قتلوا من الكفرة في كل الفتوحات العظيمة التي سببت الخير للأرض إلا بضعة مئات من الألوف عبر كل العصور، فأكثر المعارك قتل فيها قرابة ثلاثين ألف كافر فيما فر الباقي واكتب بعد ذلك المواقع التي هي أقل من ذلك، بضعة مئات من الألوف لا أكثر، فلما سيطر الغرب قتل في خمس سنين فقط خمسة وخمسون مليون إنسان، ففي يوم واحد قتلوا مئات من الألوف في هيروشيما ونجازاكي، وكل هذا حتى يكون الملك للأمريكان، والعياذ بالله.
وقد كان يراد قبل هذا الملك لـ هتلر، ثم للأمريكان، والروس لما أرادوا أن يعملوا الثورة البلشفية قتلوا ملايين البشر في كل البلدان التي أخذوها الإسلامية منها والآسيوية والأوربية، سبحانك ربي! فهذا شقاء عجيب! وانظروا إلى اليهود اليوم فبسيطرتهم على العالم سببوا شقاءً لشعوب الأرض إلى حدٍ لا يتصور، هذا حتى تعلم أن ربنا عز وجل جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فيجب أن تتأمل آثار هذه الرحمة، وتستشعر اسم الله عز وجل الرحيم.
وتأمل أيضاً صفة الرحمة الخاصة بالخلق، فلا تكاد تذكر بجوار صفة الرحمن سبحانه، وما يعطي خلقه من رزق ومطر ونبات وغيرها من آثار اسمه الرحمن سبحانه وتعالى.
وكذا تأمل اسم الرحمن في ضوء قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4] وفكر معي، فلو أننا لا نستطيع الكلام والتعبير عما بداخلنا فكيف سيكون حالنا؟ هل كنا سنعرف كيف نقضي مصالحنا؟ أبداً، وانظروا إلى مركز عيوب الكلام في المستشفى الجامعي حتى تعرفوا حجم الصدمة التي نزلت بالأمهات والآباء الذين أولادهم لا يستطيعون الكلام وكم يقاسون في سبيل ذلك بلاءً عظيماً، فلنوقن بأن آباءنا هم من علمونا الكلام، نعم فقد كانوا يتكلمون أمامنا لكن كل الناس البكم أيضاً أمهاتهم وآباؤهم يتكلمون أمامهم، لكننا الذين منّ علينا ربنا بالقدرة على الكلام، فهل نستطيع أن نغير {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4]، من الرحمة العامة لكل الخلق إلى رحمة الله عز وجل الخاصة ببعض عباده بتعليم القرآن أو ما تيسر منه؟ لا؛ لأن انتشار القرآن رحمة للخلق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، لذا قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]، فاسم الرحمن دال على الرحمة العامة، واسم الرحيم دال على الرحمة الخاصة الدينية المتعلقة بالرحمة الأخروية، فكل ما يحصل للقلب جراء تدبره آثار الصفات، وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات لكل صفة على الانفراد، ومجموعها قائمة بالذات الإلهية، يساعد على استغناء هذا القلب.(11/5)
القلب الحي والقلب الميت
قال الله سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]، فقد شبه الله سبحانه وتعالى الوحي النازل من عنده بالماء النازل على الأودية فيتسع كل وادٍ على قدر حجمه من المطر النازل، فالقلب كهذه الأودية، والماء النازل من السماء كالوحي الداخل إلى القلوب، فالقلوب الكبيرة بكبرها والصغيرة بصغرها، ومعنى بقدرها؟ يعني: أن كل واحد له نصيب بحسب حجمه، فهناك قلوب كبيرة امتلأت إيماناً وعلماً وحكمة، وهناك قلوب صغيرة لا تتسع لشيء من ذلك، وهناك أراضٍ هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا تنتفع بالقرآن العظيم، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره إلى مولاه استغنت النفس غنىً يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها، فتصبح باردة ضعيفة الانفعال، أو عديمة الانفعال، كشيء جاف ناشف متثلج، وهذا مثال جيد يعني: أن الناس الذين لا يتحركون ولا ينفعلون من أجل الإسلام، ولا من أجل نصرته، ولا العمل له، فهؤلاء يعيشون في ثلاجة غرق الدنيا، فهم في برودة لعدم الحركة، تائهون في ظلمات الكسل، وعدم الحركة توجب العجز المذموم، وتوجب الثقل، وتوجب الإخلاد إلى الأرض، وتذهب الطمأنينة عن النفس، فلا توفر لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر والنواهي، أي: في اجتناب الزواجر، وفي فعل الأوامر، فالنفس التي هي عديمة الحركة دائماً تطلب صحبة عباد الشهوات، وصاحبها يفكر دوماً في كسب المال، أو مضاجعة الشهوات الأخرى، كالرياسة والملك والنساء، فلا يفكر أن يصحب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يستحضر صحبة الملأ الأعلى والملائكة وصفاتهم الجميلة، وكمالهم الذي جعله ربنا فيهم ليكونوا قدوة للبشر.
ولو سمعت سيرة من تقدم لارتحت وتنعمت في الدنيا إن عملت بعملهم، فكيف وقد صحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأفضل منهم جميعاً، ولذا كان يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى)، فقد صارت لهذه النفس المؤمنة حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، أما النفس التي هي عديمة الحركة فقد صارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها، بعد أن كانت برودتها في الأوامر الشرعية، فهي لا تتحرك، فليس الشرع هو الدافع والمحرك الحقيقي لها، وإنما الدافع لحركتها هو الشهوات؛ لأنها بحاجةٍ إليها كحاجة السيارة إلى البنزين، فهذه النفس مقصودها من حركتها قضاء حاجتها من المطعم والمشرب ونحوه لكي تستمر في الحياة؛ لأنها أصلاً لا تعيش إلا لأجلها في نظرها، فلذا صارت البرودة في الشهوات، وفي الحظوظ النفسية التي هي الكلام وسط الناس بالرعونة التي تأتي بالقرارات الغبية، فمرة مشرقة، ومرة مغربة لا يعرف الصواب منها من الخطأ، ولو أنه يفكر ويتدبر في الذي دعاه لاختيار كذا، وهل أريدها لنفسي أم لربي؟ فأكثر الناس يتخذون قراراتهم بدون تركيز، وحياتهم كلها على هذا المنوال، وفي الحقيقة فكثير منا في حياته على هذا النحو، فلا نفكر في نفوسنا ولا نفتش الدوافع التي جعلتنا نفعل هذا؟ فتتخذ قرارات رعناء، فتكون سبباً مؤثراً في رعونة النفس وبرودتها، وبهذه القرارات أيضاً تكون النفس حاملة لليبوسة والجفاف والقسوة والغلظة المضادة للينها وسرعة انفعالها لأجل دينها، وقبولها له، فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، لا تتأثر، وليس عندها قابلية للتأثر والانفعال لأوامر الله وللمواعظ التي توعظ بها، والقرآن يعظنا فهل نتأثر به أم لا؟ وعذرنا القسوة والغفلة.(11/6)
قسوة القلوب
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13]، فمن ضمن آثار القسوة واليبوسة الطارئةِ على القلوب: تحريف الكلم عن مواضعه، وهل أنه يحرف الدين كما يريد؟ لا، إذاً: فهل المعنى أن يأخذ مصحفاً ويحذف آيةً ويضع غيرها؟ لا، وإنما يقول: هذا من الدين ولا يكون جاهلاً، كالطواف حول القبور، والموالد، بل إن عندهم من الدين أن تسمع كلاماً ولو كان باطلاً مخالفاً لشرع الله، فالدين عندهم أننا نحب اليهود والنصارى، وهم يذبحون إخواننا في كل مكان، فهل هذا هو الدين والعياذ بالله؟! أليس يوم القيامة يعادي الخليل خليله، والصديق صديقه بسبب إجرامهم؟ يقول الله تعالى مصوراً حالهم يومئذ: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهذا حالهم والعياذ بالله.
فنقول: ليس الدين أن يستدل مستدل بالآية على أن فلاناً أو علاناً يكون حبيبه يوم القيامة، وآخر يقول: فلان صديقي يوم القيامة وهو من طواغيت الكفار، فهذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه.
إن القسوة تحصل للإنسان حين يسمع آيات الله عز وجل ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها.
فنقول: إن سرعة الانفعال والقبول للحق بأن يقبل ويتأثر، تجد إنساناً تنصحه مرةً فيتعظ ويتأثر، وآخر تنصحه عدة مرات فلا يتأثر لقسوة قلبه، فتصبح عنده برودة، وعدم حركة في الأوامر والنواهي، ولا يقبل النصيحة لقسوة وغلظة في قلبه، ومثل هذا من تجده قاسٍ على المؤمنين لا يرحمهم، وهذا نتيجة لقسوة القلب، والعياذ بالله.
ولو أن إنساناً يعذب حيواناً لأصبحت عنده قسوة قلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فالله عز وجل يكره القلب القاسي، ويعذب أصحاب القلوب القاسية، فكيف بمن لا يعبأ بآلام ملايين المسلمين؟!(11/7)
أمثلة للرحمة وآثار القسوة
وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الرحمة في امرأة كافرة! جعلت تبكي وتبحث عن صبيٍ لها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الطائر التي فصلت عن ولدها، فقال: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا عليها ولدها)، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم التفرقة في بيع الإماء وأولادهن حتى لو كانوا كفرة؛ لأن هناك رحمة عامة، فكل هذه المشاهد هي ثمرات الرقة والرفق واللين لزوال القسوة، ولذلك لو أن بعض الناس ينتسبون للدين وكل همهم الطعن في الآخرين، ويصبح هذا هو الالتزام عندهم، لكانوا بعيدين عن الدين، فليست هذه هي الطاعة لربنا، تحت اسم محاربة أهل البدع من غير مراعاة لخطأ، ولا لتأويل، ولا لجهل، ولا لأي عذرٍ، كالخوارج، فإنك تجد عندهم قسوة عجيبة، فالغلاة في التكفير تجد عندهم قسوة ليست بقليلة، وكل نقطة تكفير فأصلها القسوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، يعني بذلك: الخوارج.
فمناهج الانحراف كلها التي ليس فيها رقة على المؤمنين، ولا رفق بهم، ولا التماس الأعذار لهم ما أمكن، تشكل حالة من علامات القسوة.(11/8)
التكفير والتبديع وضوابط كلٍ منهما
والتحذير من المنكر والبدع واجب، أولاً: لابد من وجود الموازنة بضوابط شرعية منها: التماس الأعذار في التعييب، فهناك فرق بين أن أقول فلان الفلاني مبتدع، وبين قولي: كلامه بدعة، أما صاحبها فنقول: هل استوفت الشروط فيه أم لا؟ وهل أقيمت عليه الحجة؟ هل وصله العلم؟ هل عنده خطأ؟ هل عنده تأويل؟ هل عنده إقرار؟ فننظر فيه من حيث شروط وموانع التبديع والتكفير.
والقضية هذه مذكورة في كلام السلف رضوان الله عليهم، من حيث الطعن في الآخرين بما فيهم أهل البدع، وسنجد الكلام كثير جداً في تعليم الناس الكتاب والسنة، وانظر المنقول عن الأئمة الأربعة، فالإمام أحمد من أئمة الجرح والتعديل، فهل الجرح والتعديل لم ينقل عنه أم أن مذهبه كامل وكذلك العقيدة الصحيحة؟ كل هذا نقل عنه، حتى لا نأخذ طرفاً من هديهم ونترك بقيته.
فالموازنة مهمة جداً، فمن كان عنده خير وشر، فإننا نكره الشر الذي عنده، ونحب الخير الذي فيه، فلا ننظر له من وجه واحد، فهذه المناهج التي فيها رعونة في التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل، وشغل الناس بهذه الأمور دون غيرها، وعدم تحقيق التوازن في العطاء، علامة من علامات القسوة الشديدة، فإن القلوب إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد.(11/9)
حياة القلوب بسقايتها من معين الوحي
فإذا سقيت القلوب بماء الحياة الذي أنزله الله عز وجل على قلوب أنبيائه، وجعلها قراراً ومعيناً له؛ لأن قلوب الأنبياء مستقر فيها النور، ومستقر فيها ماء الحياة: وهو الوحي، قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فجعلها معيناً ينبع منها الخير، فقلوب الأنبياء مدرسة لمن أراد أن يأخذ منها خيراً وحكمةً وهدياً، فاقترب منهم قليلاً حتى تنال منها معاني الإيمان التي فيها، ففاض منها -أي: من هذه العيون التي هي قلوب الأنبياء- على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم، فانقادت حينئذ قلوب الأولياء أتباع الأنبياء بزمام المحبة إلى مولاها الحق، أو انقادت النفس بزمام المحبة إلى مولاها الحق، مؤدية لحقوقه، قائمة بأوامره، راضية عنه مرضية له؛ لكمال طمأنينتها، أو مرضية له بكمال طمأنينتها قال سبحانه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(11/10)
غنى القلوب باعتمادها على ربها
قال ابن القيم: فقوله أي الإمام الهروي في الدرجة الأولى وهي غنى القلب: إن سلامته من السبب أي: من الفقر إلى السبب وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به.
فمثلاً لو أن أحدهم كان عنده رصيد في البنك، فصار مطمئناً لذلك ومعتمداً على ماله الذي في البنك فهل سيكون في نفس الدرجة من الطمأنينة إن لم تتوفر له هذه الأسباب؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، فلماذا اختار الطيور؟ فهذا المثال مهم جداً؛ لأن الطيور لا تدخر أبداً بعكس النمل وغيره، لكن الطيور تنام قريرة العين كل ليلة، وليس عندها ثلاجة أو مخزن تخزن فيه شيئاً من الطعام، ومع ذلك تنام مطمئنة تمام الطمأنينة.
تخيل أنت لو أن عندك في البيت ثلاجة فارغة، ولا يوجد لديك مخزون رز أو سكر، فهل تستطيع النوم وأنت مرتاح هكذا، ولا تعلم ماذا في الغد؟ فالطيور ليست مخبئة شيئاً لغدٍ، ومع ذلك فستصحو الصبح، وستسبح الله، وستنطلق إلى الذي يرزقها كل يوم، فالسلامة ليست موضوعاً سهلاً والله على صغرها، فلماذا يبقى المرء أحياناً مطمئناً؟ لأنه ترك لأولاده شيئاً مثل كل واحد يريد أن يطمئن على مستقبل أولاده، ونحن نقول: ليس الادخار حراماً، لكن المشكلة كلها في أننا لا نسلم من الاعتماد على الأسباب حين نأخذ بها؟ فمن كان معتمداً على سبب غناه، واثقاً به، لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إلا إذا سلم من علة الاعتماد على السبب واعتمد على المسبب استغناء بعد الوقوف على رحمته وحكمته، وبعد مشاهدة أنه الرحمن الرحيم، وتصرفه وحسن تدبيره سبحانه وتعالى، فبذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله سبحانه، فمن كملت له السلامة من علة الأسباب والمنازعة للحكم بالاستسلام له، والمسالمة أي: بالانقياد لحكمه؛ حصل الغنى لقلبه، فإذا وقف العبد على حسن تدبيره ورحمته وحكمته واستغنى القلب به، لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، وإن لم تنضم إليه المسالمة للحكم: وهي الانقياد له، فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، يعني: أنك الآن ما فوضت وتركت الأمور لربنا، بل تقول: أنا سأدبر لنفسي! وأختار هذا، ولا اختار هذا، أنا أريد هذه ولا أريد هذه، أريدها كذا ولا أريدها كذا، هذا لا بأس به في الأمور الدنيوية، لكن المفروض في الأمر الشرعي أن تريد ما شرعه ربنا سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45]، فرعونة الاختيار أن الإنسان يختار لنفسه أشياء عميقة جداً، فيتخير من أوامر الله عز وجل ما يوافق هواه، ويقول: هذا الذي يريده ربنا، ويتشكك في دين الله قائلاً: لماذا الله يريد هذه ولا يريد هذه؟ فطالما أنه يتضايق من أمر ربنا وقدره فسيكون الله قد أوجب عليه أن يضيق صدره بالمحرمات والمعاصي، أليس كذلك؟(11/11)
أوجه المحرمات والمعاصي
إن المحرمات والمعاصي لها وجهان ننظر إليها منهما: الكفر والمكر، فوجه يضيق بالمنهي عنه؛ لأن الله حرمه، ووجه آخر ينظر إليه بأنه حكمه وقدره، وأنه كله في خوض الأمر الرباني، أما أصحاب الوجه الأول فقد أمر الله رسوله ألا يحزن عليهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، وهذه الآية عجيبة الشأن، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك يضيق صدره بالإيذاء، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99]، لكن ربنا نهاه عن هذا الضيق، وفطرة الإنسان بأنه يضيق وتأتيه الخواطر، والأنبياء بشر من البشر، فليسوا منزهين عن هذه الخواطر، مثلما حدث لسيدنا موسى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]، ثم بعدها جاء التثبيت من الله سبحانه وتعالى، وزال ذلك الخوف، وتكلم بعد ذلك بالكلام العظيم الرائع، وهنا أخبر ربنا عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بما يقولون حرصاً على إيمانهم، لكن ربنا عز وجل يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، فمن الذي يستطيع أن يسمع إذاً تخطيطات الأعداء، وإعداداتهم، ومكرهم، ويصبح فعلاً يمتثل: ((وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ))، ويعلم أن الكفار إنما هم في لعب، كما قال سبحانه: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83]؟ فتأمل هذه اللطيفة وتخيل هذا العالم الذي لا يزال يمكر بالإسلام وأهله، ويخططون في الشرق وفي الغرب للفتك بأهل الإسلام، فقال الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:83]، وكل هذا بسبب الاستسلام للحكم وهو: أن تشهد أن الله عز وجل أمرك أن تحب ما شرع، وتكره ما يخالف الشرع، ولكن في نفس الوقت تشهد قضاءه وقدره فترضى بتدبيره سبحانه وتعالى، وتعلم أن ما يقدره على بعض العباد من المخالفة للشرع فإنه يجعل من ورائه خيراً كثيراً، فترضى عن الله عز وجل في كل ما فعل، حتى خلقه للشر وليس بشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، فليس الشر من صفته، ولا من فعله، نعم خلق الله الشر ولكنه قدر من وراء وجود الشر من أنواع الخير ما لم يكن محتملاً وجوده إلا بوجود هذا الشر، فلأجل ذلك قدر الله هذا الأمر المكروه له عز وجل، والمكروه لعباد الله المؤمنين، ولكنه يعطيهم من أنواع العبودية ومن أنواع الخيرات ما لا يمكن أن تحصل لهم إلا بواسطة هذا الأمر المؤلم من الشر، كالمنازعة بالحكم إلى حكم آخر، فأحياناً تجد الواحد قد لا يعمل حساباً لمثل هذا، وأنت إن ابتليت قد لا تطمئن لهذا، لكن لا تعترض على هذا القدر من المرض الذي حصل لك ونحوه من البلاء، فالذي حصل فيه خير كثير لك، ولا تطلب البلاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الله العافية)، وقال: (اللهم إني أسألك اليقين والعافية).
فهل تتصور أنه لن يأتيك بلاء؟ لا، فسوف يأتيك بلاء لا تطلبه أنت، لكنه سوف يأتيك لوحده بإرادة الله عز وجل وبتقديره، فاصبر، وقبل هذا لا تطلبه، لكن لا تقل إن نزل بك بلاء: أنا متضايق من هذا، وكأنك تريد أن يجعل لك الاختيار وتقول: أنا أريد هذه ولا أريد هذه، فيصبح عند الإنسان سخط وجزع بدرجة ما، وهذا هو المذموم، وهذا سبب شقاء الإنسان، فلو أن الإنسان ما غضب أن الله قدر هذا لرأى من وراء الألم هذا أنواع خير كثيرة جداً، كما قال ابن مسعود: حبذا المكروهان: الموت والفقر والغنى.
وما أظنه يعني إلا هذين الأمرين المطلوبين عنده: الموت والفقر والله أعلم؛ لأن الموت يستريح به من هم الدنيا، وهو لا يريد أصلاً؛ لأنه فوض أمره لربنا سبحانه وتعالى، (اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خير لي)، ويعوذ بالله من الفقر إلى العباد، ولو لم يكن معه إلا قليل من المال يستفيد منه لكان أحب إليه من أن يحتاج إلى أحد فلا يلبى.(11/12)
تسليم الأمر لله من كمال الإيمان
يقول: ومن كان فقيراً إلى شيء لم يرده الله ولم يشرعه لم يطلق عليه اسم الغني.
فلا يتم الغنى إلا بتدبير الله سبحانه لعبده، وبالمسالمة لحكمه، والوقوف على حسن تدبيره، فاشهد فضل الله عليك، وأن الله يمكر لك، فهو يدبر لعبده المؤمن ما لا يحسن العبد، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر: وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه وتعالى، فمسالمة الحكم تأتي بترك المنازعة لله والخلاص من الخصومة مع الخلق، فإن منازعة الخلق على الحظوظ الدنيوية والتقاتل معهم عليها دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة، وهي: الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إلى حظ من الحظوظ العاجلة يسخط ويخاصم الخلق عليه فإنه لا يطلق عليه اسم الغريب في الدنيا حتى يسلم الخلق من خصومته؛ لكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظه، استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه، فتكون مخاصمته لله وبالله، كما في الحديث: (بك خاصمت وإليك حاكمت)، فتكون محاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه، فيرد خصمه في المحاكمة إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه؛ فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه، وانتصر لنفسه، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط]، وهذا لكمال عبوديته، ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أمر شرعاً أن يكفر بالطاغوت، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده، يعني: في الواقع الموجود إذا حكم الله بأمر فاجعل لهذا الأمر في قلبك مكاناً، فأنت إذا ابتليت بأنك تريد أن تختار فهل تتحاكم للشرع أو لغيره؟ فالأمر نافذ وأمر الله واحد ولا تحتاج معه إلى تكرار، فإذا أمر فنفذ أمره سبحانه وتعالى وحسب، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50]، أي: مرة واحدة ليست تتكرر، ويمكنك أن تقول: افعلوا القضية الفلانية أو لا تفعلوها، فإن لم تعمل أتيت أنت وعملتها بيدك فلا تصلح معك، فتحتاج إلى أن تعملها وتجرب مرة ثانية، وتعيد المحاولة، لكن أمر الله مرة واحدة، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، ولذلك إذا أخر حاجة معينة فإنما هو لحكمته وإمهاله للكفرة والظلمة، ولحلمه سبحانه وتعالى ولعدله، ولأن {يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:47]، وقد تأتي لحظة تنظر وفي طرفة عين ينتهي كل شيء كلمح بالبصر، لكننا ننسى تلك اللحظات، وننسى الطريق الطويل لهلاك الأمم، فعندما جاءت لحظة قوم فرعون غرقوا فيها، وما نفعه ما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، لكن هذه الأحداث دائماً تنسى! فكل ملوك الأرض قبل هؤلاء الموجودين أين ذهبوا؟ كل واحد له لحظه يموت فيها، فإذا أمر الله بأمر إذا بأمم بأكملها تزول، وحضارات كاملة تختفي، والله عز وجل يفعل ما يشاء.(11/13)
الفرق بين حسن الظن بالله والغرور المذموم
ويجب أن نفرق بين حسن الظن بالله والغرور به، فالغرور: أن تسير في طريق الباطل والمنكر ثم ترى نفسك من أهل الجنة، وأن هذا من العدل، فهذا لا يستحق دخول الجنة، تراه في الطريق مطروحاً يقول: سأصل إن شاء الله، فهذا ليس حسن ظن، لكن حسن الظن أن السائر يمشي ويركب المواصلات ويقول: يا رب! وصلني، فهذا يحسن الظن بربه، فالذي يريد أن يدخل الجنة فلابد له أن يسير في طريق الجنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، أي: يسير في طريق الطاعة، ويعمل الصالحات، ويرجو الله عز وجل أن يغفر له ذنبه وتقصيره، وأن يقبل عمله الناقص بفضله، فهذا يحق له إحسان الظن بربه، ولكن أن يسير في طريق المعاصي والفساد، ويحدث نفسه بالمغفرة والقرب التام، وهو لم يعمل شيئاً أبداً، ولا ضحى أي تضحية في سبيل الله، لا بشهوات، ولا بلذات، ولا براحة، ولا بذل جهداً لا في العلم، ولا في العمل، ولا في الدعوة، ولا في الجهاد، ولا في أي شيء، ويقول: أنا أريد أن أُصبح من المقربين لا أن يصبح مسلماً محافظاً بعض الشيء، نسأل الله العافية، ولذلك لما سمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا أريد أن أكون من المقربين، ولا أريد أن أكون من أصحاب اليمين، فقال: ههنا رجل يود أنه لو مات لم يبعث، يقصد نفسه رضي الله عنه.
مثلاً: إذا لم تمتحن طالبة امتحانات شهرية في ثلاث مواد، وقالت لها المدرسة: إذا أحضرت شهادة مرضية فسوف تضاعف الدرجة الخاصة بك، فهل يجوز أن تصدر شهادة مرضية كذباً وزوراً؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فكم ستأخذين بغشك هذا؟ وماذا سيكون لك في الآخر؟ فلا يجوز أن تكذب، بل إذا كانت مريضة فستأتي بالشهادة المرضية إذا كان سبب تغيبها هو هذا.(11/14)
الأسئلة(11/15)
حكم صوم التطوع عن الميت
السؤال
هل يصح صوم التطوع للميت؟
الجواب
نعم يصح ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)، فإذا جاز في الفرض جاز في النفل بالأولى.(11/16)
حكم صلاة المتنفل بالمفترض
السؤال
هل يجوز أن يأتم مفترض بمتنفل؟
الجواب
كان معاذ يصلي نافلة بقومه وهم يصلون العشاء، وكانت الصلاة يؤذن لها ويقام في مسجدهم.(11/17)
حكم قراءة كل كلمة من القرآن بقراءة غير الأولى
السؤال
أحد الدارسين لعلم القراءات يقول بعدم جواز قراءة كلمة برواية داخل الرواية التي يقرأ بها، فما دليل عدم الجواز؟
الجواب
عندما يعلم الناس رواية، فيقول لهم: هذه رواية حفص عن عاصم فلا يقول لهم في الصلاة: إني سوف أقرأ لكم بقراءة حفص عن عاصم لا، فالقرآن عندما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يقرأ بهذه القراءات كلها، وأصلاً عاصم عمن أخذ؟ إذاً: فالصحابة رضي الله عنهم هم المرجع في اختيارات هؤلاء القراء فهو الذي اختار من كل هذه القراءات.
وقد حصل خلط عند الذين يدرسون علم القراءات من غير أن يرجعوا لفقه الأحاديث ما هو الفقه في ذلك، وما هو الذي لا يجوز؟ فالذي لا يجوز: هو أن يدخل قراءة في قراءة في تعليم هذه القراءة وفي الرواية بها، بل يقول لهم هذه رواية فلان.
أما التعبد سواء في التلاوة في الصلاة أو في غيرها فلا مانع بأن يقرأ بكل ما نزل من عند الله عز وجل، وكلها كاف وشاف.
ولو قال قائل: وما المانع من ذلك؟ فنقول: لأنها ليست من السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرأ هذا على هذا الحرف، وأقرأ هذا على هذا الحرف، فما كان يجمع للواحد في نفس الموطن بحرفين، ففعل هذا بدعة إلا للتعليم، يعني: أنا عندما أعلم رجلاً فأقول له: ورش يقرأ هكذا؟ وحفص يقرأ هكذا مثلاً، لكن في العبادة الواحدة لا يقرأ لهما الاثنين.(11/18)
حكم خروج المسلم للحج من غير أن يترك قوتاً لأهله
السؤال
في كتب الفقه أنه لا يجب الخروج إلى الحج إلا لمن قدر أن يترك لأهله قوتهم حتى يرجع، فمن لم يفعل هل يجب عليه الحج؟
الجواب
لا، فيجب أن يترك لهم نفقتهم الواجبة، وإنما يجب عليه الحج إذا كان تاركاً لقوت أهله وعياله حتى يرجع، والله أعلم.(11/19)
الأخذ بالأسباب المشروعة لا ينافي التوكل
السؤال
هل هناك تعارض بين هذا وبين التوكل؟
الجواب
هذه من أعمال القلوب، ونحن نقول: إن الرسول كان يدخر، لكن حال القلب مهم، فهل قلبه مطمئن إلى السبب؟ أم مطمئن إلى خالق السبب؟ وهل حالك عند عدم ادخارك كحالك حالة الادخار سواء أكان من حرام أم من حلال؟ أحياناً تكون الأمور غير متيسرة، فهل يصبح قلبه متعلق بها بنفس الدرجة أم لا؟ أما الادخار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنته صلى الله عليه وسلم، لكن تأتي له نفقات فينفق، ولذلك ما كانت تمر عليه السنة والقوت موجود، بل مات ودرعه مرهونة عند يهودي في صاعين من شعير، وقوم نبي الله يونس عندما لم يستجيبوا لدعوة نبيهم دعا عليهم سيدنا يونس، حتى إذا اقترب عذابهم عادوا إلى الله عز وجل، وتابوا، وأنابوا، فرفع عنهم العذاب، وكان ذلك رداً لعذاب الله، وقد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أنهم سيؤمنون فيرفع الله عنهم العذاب، لكن لو لم يتوبوا لنزل بهم العذاب، (والدعاء يرد القضاء)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أي: القضاء الذي قدر الله ألا ينزل؛ لأن القضاء نوعان: النوع الأول: قضاء قضى الله أن يقع.
النوع الثاني: قضاء قضى الله أن يرد.
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].(11/20)
الصبر على البلاء
البلاء في الحياة سنة إلهية، ومنه بلاء الرسل بتكذيب المرسل إليهم، وبلاء الدعاة بإعراض المدعوين، ولكي تخف وطأة البلاء بالتكذيب والإعراض ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جملة من القصص المتعرضة لمواقف الرسل مع أقوامهم إجمالاً وتفصيلاً، وذكر الله تعالى فيها ما وجه به المرسلين، وما كان منهم حال التكذيب، وقد بين الله تعالى في كل قصة منها العاقبة الأخيرة في الدنيا لهذا الصراع، وهذا كله تثبيت وسلوى لكل داعية حال صراعه وجداله مع الباطل.(12/1)
البلاء سنة إلهية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الله عز وجل يبتلي العباد بالخير والشر، امتحاناً لهم وفتنة، يختبرهم بهما وهو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي جعل الأيام بين الناس دولاً، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:140 - 142].
فالله سبحانه وتعالى جعل الأيام دولاً بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، حيث جعل الدولة بين الليل والنهار، وبين الحياة والموت، وهو عز وجل بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].(12/2)
إجابة الله تعالى دعوات المتضرعين إليه
إذا تحقق العبد بالعقيدة في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله عز وجل بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، وعلم أن الله سبحانه هو الجبار الذي لا يجبر الكسير سواه، والجبار الذي جبر القلوب شقيها وسعيدها، وانكسر للجبار سبحانه ولم يتجبر، وعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة ولابد، كما قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، فإذا وجد الله تعالى من عبده المؤمن ذلك فإنه سبحانه وتعالى يسخر ملائكته لتشفع له وتدعوا له، فتقول: صوت ضعيف من بلاد غريبة، فلا يزال يرفع منه إلى الله عز وجل عمل صالح ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله عز وجل دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال سبحانه وتعالى عن يونس وهو في بطن الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، فليست هذه الإجابة خاصة بيونس صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم، وليست خاصة بالأنبياء، بل لكل مؤمن تحقق بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم وأيقن هذا اليقين.
فالله عز وجل يستجيب لكل مؤمن في أي موضع كرب، ودعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل كربه، فلنقولها جميعاً: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.(12/3)
العظة والعبرة في قصص المرسلين المبثوثة في القرآن الكريم
الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، وجعل فيها اليقين والصبر، وجعل فيها الموعظة والعبرة، وجعل فيها التثبيت لقلوب المؤمنين، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، وهذه سنة عامة ماضية في كل زمان وفي كل مكان، لا تجد لها تحويلاً، وهي سنة الله التي تمضي في خلقه، ومن يقرأ التاريخ، ويقرأ القصص فيه ويعتبر يجدها سنة ماضية لا تتخلف، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:137 - 141]، فجعل الله في كتابه النور والهدى، وجعل في قصص أنبيائه ما يرشد المؤمنين إلى طريق الحق، وما يجب عليهم فعله في كل وقت وفي كل مرحلة من مراحل حياتهم ودعوتهم، فإنهم طالما صاروا على طريق الأنبياء فلابد أن تسير دعوتهم بنفس المراحل، ولابد أن يواجهوا نفس المواجهات؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض، بل قبل ذلك، منذ كفر إبليس حقداً وحسداً لآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأبى أن يسجد له واستكبر وكان من الكافرين، وبدأ يكيد للأبوين، كراهية وبغضاً وحقداً وضغينة، ففيه كل الصفات المذمومة، وورثها لمن تبعه من ذرية آدم فضلاً عن ذريته التي هي على طريقته وشاكلته والعياذ بالله! لذلك نقول: علينا أن نستلهم هدينا من القرآن العظيم، ومن نوره الذي يهدي به الله عز وجل من يشاء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]، وذلك لكي نبصر أين نضع أقدامنا؟ وما نصنع فيما يواجهنا؟ فإنا إذا حكمنا غير كتاب الله في هذا الموضع -سواء حكمنا العقول بغير نور، أو حكمنا العواطف بغير ضوابط، أو حكمنا آراء الرجال ومقاييسهم- فإننا سوف نضيع حتماً؛ إذ ليس لنا في الأرض من ولي ولا نصير، وحالنا هو الضعف والعجز والفقر، فعلينا أن نكثر من التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فبذلك نقوى، وبذلك نبصر، وبذلك نرى الحق بفضله سبحانه وتعالى.
وقد صدق عبد الله بن رواحة حين قال: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا فالله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله ما يرشد عباده المؤمنين إلى ما يلزمهم العمل به عندما تشتد عليهم الأمور.(12/4)
وقفات دعوية بين الرسل وأقوامهم في سورة إبراهيم
ذكر الله عز وجل قصصاً مجملة في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجعلها لكل الرسل، وهي كذلك كما ذكرنا؛ لأنها سنة واحدة، وطريقة ماضية، ولن تتغير طبيعة المواجهة بين الحق والباطل، فنتلمس من آيات الله سبحانه وتعالى ما يلزمنا أن نعمله عندما تشتد الأمور، ونتلو الآيات من سورة إبراهيم: قال الله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:8 - 18].
يذكر الله سبحانه وتعالى هنا غناه وحمده اللذين ذكر بهما موسى عليه السلام قومه والناس جميعاً، فقال: ((إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ))، ثم قال تعالى: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))، وهذا إما خطاب من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، وإما كلام مستأنف، خاطب الله عز وجل به من كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده.(12/5)
بينات الرسل ورد المرسل إليهم لها
قال تعالى: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)) فكم من الأجيال مرت؟ وكم من القرون مضت؟ وكم من العقوبات نزلت؟ وكم من الناس الذين تصارعوا؟ وكل ذلك أين هو الآن؟! فكما رحلوا هم سنرحل نحن أيضاً، وسيرحل أعداؤنا، وسنقف جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، وكذب النسابون، فلا يُعرف من بعد هؤلاء على وجه اليقين، ولذلك نفوض علمهم إلى الله سبحانه وتعالى، والفائدة ليست في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ولا في عدد القرون، وإنما الفائدة هي فيما كان من طبيعة هذا الصراع الذي دار وحصل، ويحدث مثله في كل عصر وفي كل حين.
قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ))، فالرسل تأتي بالحجج الواضحة البينة التي هي أوضح من الشمس، وكل من دعا بدعوتهم كذلك يأتي بالبينات، ولكن ليست المشكلة في مدى وضوح البينة، ولكن في الأعين التي تبصر، وفي القلوب التي تعي، فكم من أناس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها! وكم من أناس لا يرون البينات في حين يكون الطريق أوضح ما يكون، وتكون الحجة بينة قائمة، ومع ذلك فلا تقبل، ويكون الفرق بين العدل والظلم كما بين الليل والنهار، ومع ذلك يفضل أكثر الناس الظلم والظلام، والعياذ بالله من ذلك.
يقول تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)) فهم إما أشاروا لهم بالسكوت، بحيث وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم حتى يسكت الرسل، وتتوقف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك يكون غالباً على سبيل التهديد والوعيد، وإما وضعوا أيديهم على أفواه الرسل لإسكات صوتهم ودعوتهم، ظانين أن دعوة الرسل يمكن إسكاتها بذلك.
ولذا فإن الدعوة قد تواجه بمثل ذلك، أي: محاولة الإسكات لها، إما بالتهديد والوعيد، وإما بالإسكات المباشر، بتكميم الأفواه بالفعل حتى لا يخرج للداعي إلى الله عز وجل صوت، ومع ذلك فإن الدعوة ستبقى كما قص الله عز وجل علينا، فلم تتوقف دعوة الرسل أبداً بمثل هذه المحاولات، وبقدر ما يكون الإنسان متمسكاً بدعوة الرسل -على وضوح منهجها، وعلى معالمها الأساسية، وعلى تفاصيلها، يلتمسها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- تبقى دعوته عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها.(12/6)
إعلان المكذبين الكفر والشك قبل البحث عن الحقيقة
فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: ((إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، والأصل أن الذي هو في شك من قضية ما، يدعوه ذلك في تصور العقل السليم إلى أن يبحث، لا أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة.
فقبل أن يقدم الكفر لا بد من أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك وهو مرتاب، فليبحث ولينظر، أما أن يسعى في إسكات صوت الحق، أو أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فهذا هو العجب.
إن الكفر أنواع متعددة، والشك واحد منها، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم، وكان الواجب عليهم أن يقولوا: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه، فإننا نبحث عنه، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل إذا كانوا في شك؟ وهنا سنعلم سبب كفرهم وشكهم، فسبب ذلك يظهر لنا أمراضاً في النفوس سوف تظهر جلياً بعد حين، فقد حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، بأن شككوا فيها، وأن الدعوة ليست ببينة ولا واضحة، مع أنه قد جاءت الرسل بالبينات، ولكنهم لا يرون هذه البينات بينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها، وقد واجهت الرسل هذه المحاولة من التشكيك في رصيد هائل في الفطرة من وحدانية الله، فهذه القضية رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل امرئٍ قد أخذ عليه العهد بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فكل واحد عنده هذا الأمر، وقد أشهده الله عز وجل على نفسه، فشهد أنه لا يستحق الإلهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي)، وهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان، ففيه ميل إلى تحقيق التوحيد، ويلقى شقاءً في البعد عنه، ويشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه إلى غيره.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفطرة، فقال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة).(12/7)
الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية
لقد واجهت الرسل تلك المحاولة من التشكيك في الدعوة ذاتها لهذه الحقيقة اليقينية، فقالت: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ))، وفي تفسيرها قولان: الأول: أفي وجود الله شك؟ وهذا وجه ليس بظاهر؛ إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في إلهيته وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فكانوا يجعلون آلهة معه، ومنكرو الربوبية قليل.
الثاني: أفي وحدانية الله في الربوبية والإلهية شك؟ وهذا أظهر، وهو متضمن للأول؛ لأنه إذا قررنا وحدانية الله عز وجل رباً وإلهاً فهذا يتضمن إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين، وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات، ولا يمكن أن يستريب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة فلا بد من أن يسلم بكون الصانع عالماً حكيماً قادراً، قد أتقن كل شيء صنعه، ولا بد من أن يكون له كل صفات الكمال، ومن ثم فهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، ويحتاجون إليها أكثر من الماء والهواء، ويجدونها كالماء والهواء، فكل من أخذ نفساً وجدها كما يجد الهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد.
وقولهم: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) هو دليل توحيد الإلوهية، فقد استدلوا عليه بتوحيد الربوبية، فهو سبحانه وتعالى وحده الذي فطر السموات والأرض، أي: خلقهن على غير مثال سابق، ولا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن السموات والأرض خلقن من غير خالق، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهن ولغير خالق العباد، فإذا قبلت أن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، وقررت أن له صفة الكمال فلا بد من أن تقرر وتعتقد أنه لا يعبد سواه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وتوحيد الرب في أفعاله التي آثارها ظاهرة جلية في الكون -من هذه المخلوقات، وهذه الصنعة المتقنة المحكمة وكل ما في السموات والأرض من آيات- أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد، وأنه وحده الذي يرجى ويخاف، ويحب ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه.
ثم قال تعالى حكاية عن الرسل: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ))، وهذا هو الدليل الثاني، وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة، وهذا دليل قد جربه الرسل، فذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، حيث جربوا أنهم إذا تابوا إلى الله وقبلوا دعوته غفر لهم ذنوبهم، تلك الذنوب التي كانت ظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وكانت هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من فطرت على محبته والشوق إليه، فلما زالت الذنوب بالمغفرة من عند الله عز وجل ازداد أثرها، فوجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذا الكون، وهو الشوق إلى الله ومحبته والرضى به رباً وإلهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دليل -كما ذكرنا- جربه الرسل، فقد جربوا طريق المحبة؛ لأن الذنوب حواجز تحجز القلوب، وران عليها، فلا ترى الحقائق ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب واستجابت القلوب لدعوة الله -التي يدعوا بها عباده- وجدت عند ذلك شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، فذكره سبحانه عند طلب الاستغفار منهم بذكر اسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين، فقال: (ربكم)، وأما عند ذكر وده ورحمته فنسبه إلى ضمير المتكلم، فقال: ((إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)) وهكذا قالها صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامهم إلى أن يستجيبوا لدعوة الله فقالت: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب، فالله يريد بك الخير، ويريد لك أن تغفر ذنوبك، وأن تستجاب دعوتك، والله عز وجل لا يريد لك الشقاء، والعجب أن فئة من الناس تظن أنها سوف تحرم -إذا التزمت- من لذة الدنيا، ونقول: لا، بل سوف تضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق، لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب فإنها لا ترضى عنه بديلاً.
ثم قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، فلو آمنتم فإنه سيمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: {َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؛ لأن الذي لا يتأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، وهو في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن فهذا أجل مسمىً آخر، فعند الله عز وجل علم أنهم لو آمنوا لمتعهم الله، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، وكان هذا أمراً مقدراً أيضاً، والله سبحانه وتعالى كل شيء عنده بمقدار، وقد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر، وهو المتاع إلى أجل مسمى عنده عز وجل.(12/8)
الحقيقة الكامنة وراء تكذيب الأمم لرسلها
ثم قال تعالى: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا))، وهو ذلك الداء العضال، وهنا بدأت تظهر حقيقة المرض، فلماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟ إنهم يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، فقالوا: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، وإنك لتلمح من وراء ذلك حقيقة المرض، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واختصصتم بالوحي دوننا؟! لقد كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم، وليس لكم علينا فضل.
وكل هذه كلمات تدور حول الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بين نفسه وبين موسى ليدلك على حسده لموسى، حيث قال عز وجل عنه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54]، فهو يحسد في الحقيقة موسى، وهذه المقارنة التي عملها فرعون يدعي فيها بأنه ليس مع موسى مال كثير، وفي لسانه لثغة فلا يستطيع أن يبين، والحال أنه قد بين موسى، فما المشكلة؟ إن المشكلة الأخرى أن موسى ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، ففرعون يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، مع أنه ليل نهار كان يقول: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ))، ثم يقول: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ))، فكان يراهم أنهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم، ويرى قلوب المؤمنين قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجدت طائفة من قومه تقبل هذا الاستخفاف وتطيعه على ذلك فأهلكهم الله عز وجل.
وهنا يحكي سبحانه وتعالى عن هؤلاء قولهم: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، فالذي يدلنا على حقيقة المرض هو أنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما هو شأن الكفرة مع الرسل دائماً، ويقولون أيضاً للمؤمنين: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53].
وهذه مسألة ثانية يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، فقد قالوا: ((وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، وقد بينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، فحاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا فيكيف تتفضلون علينا؟! فالشبهة الثانية التي طرحوها هي أن الرسل خالفوا العادات والتقاليد، ويريدون أن يغيروا دين الآباء، وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس.
فهذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به كثير من الناس، وهي الشبهة التي بها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك.
فالنظم الموروثة والتقاليد التي نشئوا عليها يصعب عليهم فراقها، ومن ذلك قول فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فكل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل لما نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه ولا حجة، وإنما هو مجرد التقليد الأعمى، والعياذ بالله.(12/9)
اقتراح المكذبين حصول المعجزات وتكذيبهم لها بعد حصولها
ثم أخبر تعالى عن تلك الأمم أنهم قالوا لرسلهم: ((فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))، يريدون المعجزات المقترحة، يقترحون أن يجعل الصفا ذهباً، ويقترحون ناقة تخرج من بطن الجبل، ويقترحون أنواعاً من المعجزات على قدر عقولهم السخيفة، مع أن البينات قد أتت، والرسل قد وضحت، ولو أتى الرسل بآلاف المعجزات فإنهم لن يؤمنوا، فقد أتت الناقة لقوم صالح فهل آمنوا؟ وقد رأى الناس معجزات موسى وعيسى، ورأى فرعون بعينه السحرة يسلموا؛ مما شاهدوه من معجزة العصا، فهل آمن؟ ورأى الآيات تلو الآيات، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، ورأى البحر ينشق أمام عينيه بضربة من عصا موسى، فهل آمن؟ إنهم لا يؤمنون مع وجود السلطان المبين الذي يزعمون أنه إن حصل قبلوا وآمنوا، فهؤلاء لا يؤمنون أبداً، وهذا مرض في القلوب.(12/10)
بيان الرسل حقيقة بشريتهم
قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) وهذا محاولة علاج لذلك الحسد، وهو أن ينظر الإنسان إلى منِّ الله وفضله عليه، فهو الذي قسم سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى عز وجل، فإذا منَّ الله عز وجل على عبد، فلماذا تعترض على منِّ الله؟! فالله يمن على من يشاء من عباده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]،
و
الجواب
أنها رحمة من الله، فهو الذي خص برحمته من شاء سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الحسد والحقد.
ثم قال عز وجل عن الرسل: ((وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) ما كان لنا أن نأتي بآية ومعجزة إلا بأن يأذن الله بذلك.(12/11)
التوكل في حياة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [آل عمران:122]، فأعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان أنهم يتوكلون على الله عز وجل، فهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه وقت، ويتأكد عندما تشتد الأمور، ويتأكد عندما تزداد المحن، كما قال سبحانه وتعالى في شأن موسى وفرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى أعظم ما يواجه به أهل الإيمان من المحن ومن الكربات.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) وقدم الجار والمجرور ((وَعَلَى اللَّهِ)) للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده ونستعين به وحده، ولأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]، والتوكل على الله عز وجل درجات، فمنه التوكل على الله في أمر الرزق، وهذا توكل الطيور والبهائم والكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله لرزقهم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، وهذا توكل ربما يكون من الكفرة والعصاة والفسقة، وتوكل المؤمنين أعظم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته، ويتوكلون على الله في توفيقه لهم، وأن يعينهم على مرضاته، وأن يبعدهم عن معصيته، ويوقنون بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن ييسر لهم دخول الجنة، وتوكل الرسل عليهم الصلاة والسلام وخاصة أتباعهم على الله عز وجل في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج من يعبده لا يشرك به شيئاً من بين ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، والله عز وجل جعل هذا أعلى التوكل، وهو التوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس أن تتوكل على الله في خاصة نفسك فحسب لكي تعبد الله سبحانه وتعالى في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبدَ الله سبحانه وتعالى في الأرض، فالله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والله عز وجل هو الذي نتوكل عليه في ذلك لتبقى دعوة الحق قائمة.
قال تعالى: ((وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا))، فكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية؟! فقد هدانا الله عز وجل إلى توحيده ومعرفته ومحبته، فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه؟! وكيف لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته، وحتى ولو انغلقت الأسباب كلها؟! بل الحقيقة هي أن التوكل أكمل وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب.
وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله عز وجل إلى ما أراد عندما تراءى الجمعان، وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فهو توكل عظيم حيث لا أسباب، والعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، فقال: (كلا) يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:62 - 63].
وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار ويقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وفي أثر إسرائيلي: أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء، وهو في الطريق إلى النار، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل، وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، ولا بسبب ريح هبت فأطفأت النار، ولا ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء فأطفأ النار، بل بأمر منه عز وجل، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم.
وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال له صاحبه وهو في الغار: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال له: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)، وقال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فهذا توكل عظيم.
فالتوكل على الله عز وجل عندما تنعدم الأسباب من الناس ومن النفوس، وحين تكون نفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، فاليأس كان من الناس ومن الأسباب، ولا ييأس المؤمن من رحمة الله أبداً، بل يبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.(12/12)
إعلان الصبر دفعاً لمرحلة الأذى
ثم قال تعالى عنهم: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، فالصبر واجب الوقت، وهذه عبادات لا ينفك عنها المؤمن، وهذا هو الواجب، كما قال موسى لقومه، ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا))، وبهذا تنال الإمامة في الدين، لا بالعواطف غير المنضبطة، ولا بحسابات عقول قاصرة ضعيفة تدرك الأسباب المادية، ودون أن تطلب النصر من الإله الذي يمن به على من يشاء، ويفتح به أبواب الخير للناس.
وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلابد من اليقين الذي هو ثمرة التوكل على الله عز وجل، وثمرة الإيمان الصادق، بأن وعد الله عز وجل لا يخلف، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
والأذى لابد أن يجده من يسير في طريق الدعوة إلى الله سبحانه، فلا من الصبر، ولا يجوز أن ينفك الداعية عن الصبر والثبات في أي حال من الأحوال.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))، وهذا تأكيد على أهمية الجمع بين الصبر والتوكل على الله، وسوف يكون من ذلك أوسع الفرج بفضله عز وجل.(12/13)
تهديد الأمم المكذبة لرسلها
ثم انتقلت الأمم المكذبة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التهجير، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، فلابد من أن تقولوا مثل ما نقول، ولا تخرجوا عنه قيد أنملة، ولابد من أن ترددوا ما نردد، ولا تقولوا غير ذلك ولو كان من عند الله، ولو أتيتم عليه بآلاف الأدلة، ولا تتكلموا بغير ما نتكلم، ولا تدينوا بغير ما ندين، وإلا فهي أرضنا وسوف نخرجكم منها.
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، لكن هؤلاء لا يدركون هذه الحقيقة، مع أنهم لو فكروا فيما كان عليه أجدادهم، وفيما يكون عليه أبناؤهم من بعدهم لعلموا أن الأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء من عباده، فالله سبحانه وتعالى الأمر أمره والأرض أرضه والعباد عباده، والله سبحانه هو القاهر فوق عباده، وليس العباد بعضهم بقاهر فوق بعض.
قال عز وجل: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)) وهذه كلمة فيها الغرور، والإعجاب بالنفس، والكبر والبغي والعياذ بالله.(12/14)
العاقبة الأخيرة في صراع الحق والباطل وشرط استحقاقها
قال عز وجل: ((فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)) وهذا قسم من الله عز وجل، فلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة تدلان على وجود القسم، أقسم الله عز وجل أن يهلك الظالمين، وهو -والله- لابد من أن يقع.
قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14]، فالأرض له سبحانه وتعالى، وقد وعد بأن يرثها عباده المؤمنون، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، ولكن لمن يكون ذلك؟ {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، فلابد من أن نخاف الله عز وجل وحده، وخوف مقام الله سبحانه وتعالى فسر بمعنيين: الأول: خوف مقام الرب بالاطلاع على عبده ثم بالحساب يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويحاسبهم على ذلك، فإذا خاف العبد مقام الله عز وجل بالاطلاع عليه والمراقبة والمحاسبة استقام وعمل بطاعته.
والثاني: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي)) أي: مقام العبد بين يدي ربه يوم القيامة.
والتفسيران متلازمان؛ فإن الاطلاع والمراقبة والمحاسبة تقتضي أن يقف بين يدي الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن نخاف منه.
وكلا الخوفين واجب، خوف مقام الله وهيبته ورهبته، وخوف وعيده وعقابه وعذابه، ولسنا نقول كما يقول الزنادقة: اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها.
نعوذ بالله، ولكننا نخاف وعيد الله، ولذلك نعمل ليوم لقاء الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الخوف منه وحده لا شريك له.(12/15)
أهمية الدعاء في مراحل الصراع وذكر لوازمه
قال تعالى: ((وَاسْتَفْتَحُوا)) أي: استفتحت الرسل فطلبت الفتح، وطلبت الفصل والحكم، ودعت أن يفصل الله عز وجل بينهم وبين قومهم، كما قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]، والدعاء من أمضى الأسلحة إن لم يكن هو أمضاها وأقواها، وأعظم سبيل للنصر بإذن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، فالنصر بالدعاء، ويكون فتح الأبواب المغلقة بالاستفتاح، فنستفتح الله عز وجل، وندعوه أن يفتح وأن يحكم وأن يفصل في هذه الخصومة التي وقعت، والخلاف بين منهج الحق ومنهج الباطل، والله عز وجل يفصل، وفصله وحكمه الحق والعدل، فعند الاستفتاح يخيب كل جبار عنيد، كما قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، وإن كان الأمر قد يتأخر قليلاً لكن لابد من أن يقع، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، وقد أجيبت الدعوة، ولكن متى وقعت الإجابة؟ لقد وقعت بعد مدة، ولكن الواجب أن تستقيم، فلا تبتعد عن الطريق الحق إلى سبيل الظلال فضلاً عن أن تكون ممن لا يعلم، فلابد من العلم، ولابد من الاستقامة والعمل بهذا العلم، ولابد من عدم الركون إلى من ظلم، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، فبعد الاستعانة والصبر والاستقامة والإيمان والعمل الصالح وعبادة الله وحده لا شريك له يكون الفرج.(12/16)
خيبة الجبارين في الدنيا والآخرة
قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} [إبراهيم:15]، والجبار هو الذي يجبر الناس على إرادته دون التزامه بشرع الله سبحانه وتعالى، ودون أن ينظر في أمره هذا الذي يأمر الناس به، فهو يريد أن يجبرهم عليه سواء كان موافقاً لدين الله أم لا.
فهذا هو الذي يسمى جباراً، وإذا امتنع منه أحد قتله، فالجبار هو الذي يسفك الدماء وينتهك الحرمات ليجبر الناس على إرادته الباطلة المحرمة المخالفة لشرع الله، فهذا يخيب دائماً؛ لأنه عاند شرع الله بعد أن وضح له الحق وعلم أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ومع ذلك فهو يحاربه ويعانده.
قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قوله: (من ورائه) أي: أمامه تنتظره جهنم والعياذ بالله، ((وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ))، وهو عصارة أهل النار، وصديد أهل النار.
قال تعالى: ((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ))، فإذا قرب ذلك الإناء الذي فيه صديد من وجهه فإنه يشوي وجهه والعياذ بالله، وتسقط فروة وجهه فيه، ومع ذلك يسقاه بغير إرادته، فيتجرعه ولا يكاد يمر من حلقه، ويتألم بكل قطرة منه، ويعذب بكل أنواع العذاب، فالناس تشرب لكي تبرد مما تجده من حرارة، وهذا يسقى ليزداد عذاباً.
قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، واللحظات الشديدة على الإنسان هي لحظات الانتقال من الحياة إلى الموت، فيأتيه الموت على الدوام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]، نعوذ بالله من ذلك.
ثم بين سبحانه وتعالى حبوط أعمال الكفار يوم القيامة والعياذ بالله، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، وهذا يعني حبوط العمل وذهابه وضياعه وانتهاءه بالكلية والعياذ بالله، ففي الدنيا لم يحققوا أغراضهم، وفي الآخرة كان العذاب الأبدي والعياذ بالله، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18].
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة والسوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وعقولنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين، لك رهابين، إليك منيبين مخبتين، اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وسل سخائم صدورنا، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، نعوذ بك من شر كل شيء آنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اللهم اقض عنا الدين واغننا من الحق، آمين.(12/17)
العبودية وظيفة العمر
إنَّ العقل يحكم على أنَّ الباب له صانع، وأن لكل فعل فاعل، وأن لكل فاعل غاية يريد أن يصل إليها من خلال فعله، ولله المثل الأعلى في ذلك، فهو قد خلق الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة لغاية منشودة وهي عبادته عز وجل والائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، والإنسان يحتاج إلى عبادة ربه بمفهومها الواسع أكثر من حاجته إلى طعامه وشرابه ونفسه؛ ليعيش مطمئناً سعيداً في الدنيا الفانية، والآخرة الباقية.(13/1)
الغاية من خلق المخلوقات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد فطر الله سبحانه وتعالى خلقه على أن يعلموا أن لكل فعل فاعل، فإذا وجد الإنسان مثلاً بناء محكماً لم ير بانيه، أو وجد جرة يوضع فيها طعام أو شراب، حفر بعد قرون فوجدها، فقد فطره الله على أن يقول: لابد أن هذا البناء أو هذه الجرة قد صنعها صانع، وإذا وجدها محكمة متقنة فقد فطره كذلك على أن يعلم أنه لابد من غاية في صنعها، بل لو أن إنساناً دخل قرية مهجورة أو بيتاً مهجوراً منذ آلاف السنين فوجد في الحائط مسماراً قد دق فيه لأيقن من غير اضطراب عنده ولا شك ولا تردد أن هذا المسمار قد وضعه واضع، وقد صنعه صانع، وقد دقه في هذا المكان إنسان يريد شيئاً من وراء ذلك.
فهذه فطرة فطر الله العباد عليها، ولو أنك من وراء طفل صغير ضربت بإصبعك على رأسه لالتفت ينظر من فعل هذا! ثم يقول لك: لماذا فعلت هذا؟! فلابد أن يكون لهذا الفعل من سبب، وإذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد أن يكون الصانع له غاية من وراء ذلك، حتى المشركون قد أقروا بذلك رغماً عنهم.
انظر في قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كسر الأصنام، فرجع القوم من عيدهم، فوجدوا الأصنام مكسرة، فلم يقع بخاطرهم أن معركة قامت بين الأصنام، وأن الكبير مثلاً قد غضب ثم قام فكسر الصغار، فإن إبراهيم قد ترك كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون، ما صنعوا ذلك ولا ذهبوا للكبير وقالوا: من الذي كسر زملاءك وأندادك من الأصنام؟ بل قالوا لبعضهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59].
إذاً: أقروا رغماً عنهم بأن هذا الفعل له فاعل، وما سألوا الأصنام ولكن سألوا العقلاء، فقالوا: من سمع من يذكرهم؟ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60].
هذه فطرة في الإنسان أن كل فعل لابد له من فاعل، وأنه إذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد للفاعل من غاية، والإنسان ينظر فيرى نفسه والكون من حوله والسموات والأرض كلها مخلوقات قد وجدت، وعلامات الحاجة والفقر بادية عليه، وهو نفسه يقر أنه ما أوجد نفسه ولا صنع شيئاً من نفسه، ولو تأمل فقط طرف أصبعه كيف رسمت هذه الدوائر المحكمة العجيبة التي يختلف كل إنسان منا عن أخيه وعن كل البشر، ويتميز بهذه البصمة، ويتفكر، هل رسمتها أنت يا أحمد ويا محمد ويا عبد الله؟! هل رسمها أبوك لك؟! هل رسمتها أمك وأنت في بطنها جنين؟! هل رسمها أحد ممن يسمون علماء الطبيعة والطب ونحو ذلك؟! قطعاً الإجابة يقينية عند الجميع أن أحداً منا لم يفعل ذلك، وأن الخلق جميعاً وجدوا أنفسهم مخلوقين كذلك، وهذا الفعل لابد له من فاعل، ولابد بهذا الإتقان وهذا الإحكام أن لهذا الفاعل غاية من وراء إيجاد هذا الخلق، وهذه فطرة في الإنسان وأسئلة ضرورية يفكر فيها كل إنسان عاقل أوجده الله عز وجل على ظهر الأرض، من خلقنا؟ لماذا خلقنا؟ ثم يفكر فيرى الناس أجيالاً تلو أجيال، يأتي قوم ثم يذهبون، يولدون ثم يعيشون مدة ثم يموتون، ثم يأتي دور طائفة أخرى ثم يأتي دوره هو ويجد نفسه ينمو، من الذي كبرك من صغرك؟! ولدت وأنت ثلاثة كيلو جرامات ونصف، أو أربعة على الأكثر، ولدت بلا عقل يفكر، بلا يد تبطش، بلا رجل تمشي، بلا لسان يتكلم، بلا قدرة، بلا إرادة، لا تعي إلا ثدي الأم، تريده ولا تدري لماذا تريده في تلك السن، بل فطرت على أن تميل إليه، وعلى أن تلقمه، وعلى أن تمص منه اللبن، فالله عز وجل فطر العباد على ذلك لمصلحتهم لكي تقوم حياتهم وتستمر، فالله سبحانه وتعالى فعل ذلك بنا، وجعلنا في حياتنا هذه نمر بمراحل تنتهي جزماً إلى الموت، فيسأل الإنسان نفسه ماذا بعد الموت؟ ما معنى هذه الحياة؟ إذاً لماذا وجدنا؟ لا شك أن كل عاقل سوف يقول: صاحب الصنعة أدرى بصنعته، فالله عز وجل خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان، فهذه الشمس الهائلة، والنجوم والمجرات والأرض الواسعة، كل ذلك لإحكام وإتقان بالغ، وكذلك جريان الدم في عروقك وفي شعيراتك التي لو فردت وضم بعضها إلى بعض للفت الكرة الأرضية عدة مرات، وفي كل واحد منا من الشعيرات الدموية ما شأنه كذلك، وفي كل ملمتر واحد من دم الإنسان ملايين الخلايا، خمسة ملايين، أو ستة ملايين، أو أربعة ملايين، وفي كل بقعة منها تجد شأناً عجيباً ووظائف محكمة متقنة.
كل ذلك لابد أن يكون لغاية، وأكثر الناس عندما وجدوا أنفسهم قالوا: نعيش لنأكل ونشرب، نعيش لتناكح ونتناسب، نعيش لكي يكون بعضنا رؤساء وبعضنا مرءوسين، بعضنا ملوكاً وبعضنا مملوكين، ولكي يتنافس الناس قتلاً وذبحاً على هذه الدنيا العجيبة، وهم على يقين من أنهم عنها راحلون، ومع ذلك نقطع أن هذه إجابة فاشلة، ولكن انظر إلى حياة الناس فستعرف أن هذه هي الغاية، لماذا يكدح الناس؟ لماذا يتعبون؟ لكي يجمعوا الأموال، لكي تكون لهم الأرصدة، لكي تكون لهم الأرضين، لكي يكون هناك اللذات والشهوات، ثم أليس بعد هذا موت؟ الكل يقول: نعم، لماذا لا يفكرون فيما بعد ذلك؟ لأنهم لم يسألوا من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة: من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين المصير؟ هناك من يقول: خلقنا صدفة بلا خالق، والكل يجمع على أن هذا غير مقبول في مسمار دق على الحائط، وكل إنسان الساعة التي يلبسها في يده لو قال له آخر: إن الحديد الذي فيها، والتروس التي تديرها قد جاءت من قمم الجبال، ونزلت إلى الأرض، وصبت نفسها في انضباط تام، وجاء بعضها وركب على بعض بالصدفة؛ لضحك الناس منه وقالوا: هراء وجنون أن يتصور الإنسان ذلك، مع أن هذا إجابة الكثيرين، وكثير منهم أو الأكثر في الحقيقة يقولون: خلقنا خالقنا وربنا الذي خلق الكون كله، أكثر الخلق يقولون ذلك، ولكنهم لم يسألوا: لماذا خلقنا؟ أو أجابوا بإجابة بلهاء فقالوا: خلقنا لنأكل ونشرب، ونعيش حياتنا، ونتمتع، نسأل الله العفو والعافية.
هكذا يرون الحياة، يرون أن الحياة معناها: تأكل وتشرب، وتأتي النساء، وتأتي الملذات من أجل ذلك خلقنا، إجابتهم إجابة فظيعة، مستحيل أن يكون هذا الإحكام وهذا الإتقان من ورائه هذه الغاية، بل لو تتأمل أن هذه الأمور خلقت فيك، ووجدت فيك كما ذكرنا منذ ولادتك، الحاجة إلى الطعام والشراب لكي تعيش، أنت عندما ولدت جنيناً لم تكن تدري أن حياتك لا تقوم إلا باللبن، ولكن وجدت فيك الرغبة إلى اللبن، والتقام الثدي ومصه وتناول هذا الغذاء والشراب، وعندما أدركت بعد ذلك تجد في نفسك الحاجة إلى الطعام والشراب فتأكل وتشرب، ثم بعد ذلك تعمل لتأتي بالمال لتأكل وتشرب، كل ذلك لكي تعيش، وكذلك النكاح وشهوة النساء، هذه الشهوة لكي يحفظ النوع الإنساني كما تحفظ سائر الأنواع.
إذاً: هذه الشهوات خلقت فينا لكي نحيا فلماذا نحيا إذاً؟ لابد من إجابة أخرى غير أننا نحيا لنأكل ونشرب ونتنافس، أو لتناكح، أو لنأتي هذه الشهوات، فلا يمكن أننا نعيش من أجل ذلك، وإن كان الواقع يثبت أن هذه الإجابة للأسف هي إجابة أكثر الناس على هذا الامتحان.
والله عز وجل أخبرنا لماذا خلق الخلق فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]، فإجابة معظم الناس لعب ولهو، والعياذ بالله، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام:29]، والعياذ بالله، وهذه الحياة الدنيا عندهم لهو ولعب كما أخبر الله عز وجل أنهم يلهون ويلعبون؛ ولذلك كانت إجابتهم فاشلة، وخسرانهم في الامتحان ورسوبهم فيه أكيد، إلا قلة من أهل الإيمان فهموا وأدركوا أنهم لابد أن يرجعوا إلى خالق الخلق، لابد أن يرجعوا إلى صانع الصنعة، لابد أن يرجعوا إلى الذي أحكم كل شيء وأتقن كل شيء، ولا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان ثم يتركه سدى بلا حكمة، وبلا غاية، وبلا حساب، وبلا بعث، وبلا نشور، مستحيل ذلك، لابد أن هناك إرشاداً وهداية، وبالفعل نظروا فوجدوا أن الله عز وجل برحمته أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وضمن هذه الكتب الحكمة من خلقنا، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فجعل لهم وظيفة، وكل الوظائف لابد أن تصب فيها، ولابد أن تجتمع عليها، وجعل هذه الوظيفة طيلة أعمارهم، ليست في جانب من جوانب حياتهم فقط، وليست ديكوراً كما يريد البعض أن يجعله، يجعل هناك لوحة متكاملة، ويجعل في جانب منها عبادة الله، يجعل حياته كلها على ما يشتهي ويريد، ومن أراد من الناس أن يجعل لحياته جانباً من العبادة فهو حر، ومن أراد أن يعبد غير الله فهو حر أيضاً، والعياذ بالله.
هذا ميزان أقوام يملئون الدنيا صياحاً، الناس أحرار فيما يعبدون، وفيما يأتون ويذرون، يكفيهم أن يقروا بأن الله هو الخالق، وبعضهم يقول: ولو قال بعضهم: إن الثعابين والشمس والقمر آلهة تعبد من دون الله لكان حقاً له أن يقول ذلك، ولكان ذلك تراثاً حضارياً، ولكان ذلك ميراثاً إنسانياً يدل على الرفعة والكمال الذي يجب أن يحافظ عليه! نعوذ بالله، فقد وجد في الخلق من يعبد الفئران ومن يعبد البقر، وإلى يومنا هذا لا يزال من هو كذلك، هناك في شعوب الأرض من يعبد فرج الرجل، وهناك من يعبد فرج المرأة، وهناك من ينحت التمثال بنفسه ثم يصير عبداً له، ولم يزل هذا عند الناس كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِن(13/2)
الآخرة خير وأبقى
إن وظيفة العبادة جعلت في القلب حاجة شديدة لها؛ لأنه إذا كانت حياة البدن ستين سنة أو سبعين أو مائة، فقد فقدَ هذه الحياة بضياع لذات متقطعة خلال ستين أو سبعين سنة، ثلثها نائم، وخمسة عشر سنة منها وهو صغير لا يفهم شيئاً، ومن خمسين إلى سبعين أو ثمانين أمراض كثيرة بدأت تدب إلى الجسد، وفيما بين ذلك لذات في لذات، أكل في اليوم لمدة نصف ساعة ثلاث مرات، هذا إذا كان يأكل لحماً ودجاجاً وكل شيء لذيذ، فتراه مع هذا يضيق منه مرة، فينتقل إلى أكل يحبه مرة، وساعات يقضيها في أكلة شهية، هذه هي لذة الطعام ولذة الشراب، ومع هذا لا يشرب دائماً أشياء باردة وجميلة وحلوة وعصائر وكل ما يشتهي.
كذلك لذة الجنس ثوان معدودة، وبعدها يجد رغبة إلى هذا الأمر كل يوم أو يومين أو ثلاثة أو كل أسبوع، حتى يفقد الإنسان حياته الدنيوية، فتنقطع حياة البدن ولذاته، وإذا فقد حياة قلبه وحياة روحه فقد النعيم إلى الأبد، فيفقد لذات الروح والبدن معاً، ويفقد القرب من الله عز وجل، ويحصل له عذاب أبدي غير متصور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)، نعوذ بالله من النار، هكذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
فلو تأمل الإنسان أن موت القلب أخطر من موت البدن بما لا وجه للمقارنة سوف يهتم بحياة القلب، ولو مرض القلب لاهتم بإصلاحه وعلاجه، والبحث عن الطبيب، وأخذ الدواء بانتظام؛ لأن هناك خطورة بالغة على حياة قلبه، فالإنسان حين يفكر في حياته يفكر في الستين والسبعين، وما يلقاه في قبره أعظم، والناس من أيام سيدنا نوح عليه السلام سكنى في القبور سنين لا يعلمها إلا الله، فمن أيام النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من ألف وأربعمائة سنة، والله أعلم كم سيكون بعد ذلك؟ وربما يبقى الإنسان في قبره أضعاف أضعاف أضعاف ما عاشه على ظهر الأرض، وبعدما يقوم من القبر يقوم إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يا سبحان الله! إن يوم القيامة يوم الحساب خمسون ألف سنة، يقف الناس فيه شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء، ومنهم من يقف أربعمائة سنة، ومنهم أربعين، وهناك من يشعر بهذا اليوم كأنه نصف يوم، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، والمقيل: هو وقت القيلولة الذي يكون في نصف النهار أو قبل نصف النهار، يعني: أهل الجنة قبل نصف نهار يكونون قد دخلوا الجنة واستراحوا في أحسن مقيل، واستراحوا من الهموم، والناس الآخرون في حر شمس تدنو من الرءوس قدر ميل، يعرقون عرقاً شديداً، منهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه وإلى نصفه، ومنهم من يبلغ ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله العافية.
هذا الأمر لخمسين ألف سنة في يوم القيامة فقط، ثم بعد ذلك يكون هناك نعيم أبدي أو عذاب أبدي.
إذاً: العقل يقتضي ويوجب على الإنسان أن يهتم بحياة قلبه؛ لأن ضياع حياة القلب معناه: ضياع كل الخير في هذه المدة، وحصول كل الشر في هذه المدة الهائلة التي بلا نهاية، وأي شيء بالنسبة إلى النهاية تساوي صفراً، مهما كانت الدنيا من أولها إلى آخرها لذات، ثم يكون مصير الإنسان إلى النار أبد الآبدين يقسم بالله صادقاً فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، فعندما يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة فيقال: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط، ونعوذ بالله من ذلك، ويغمس أبأس أهل الدنيا من أهل الجنة في الجنة غمسة واحدة فيقال له: هل مر بك بؤس قط؟ هل مر بك شقاء قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي شقاء قط.
فالعقل يقتضي أن يبحث الإنسان عن سبب حياة قلبه، والقلب يحيا ويموت ويمرض وهذا في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، وقال عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19 - 22].
قوله: (من في القبور) أي: الكفار، قبورهم هي أجسادهم دفنت فيها القلوب، وماتت القلوب.(13/3)
فطر الله الناس على عبوديته
جعل الله سبحانه وتعالى في الإنسان فطرة في الميل إلى حياة القلب، وفي البحث والسؤال عنها، والحرص عليها، فحاجته إلى ذلك أشد من حاجته إلى الهواء الذي يتنفسه، فالإنسان يجد حاجة إلى الهواء؛ لأنه لا يحيا بضع دقائق بدون الهواء، فيجد راحة في أخذ النفس تلقائياً، فكذلك حياة القلب جعل الله فطرة في الإنسان أنه يميل إلى أن يعبد الله عز وجل، ويبحث عن هذه العبودية، ولا يستقر له قرار إلا بأن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، الحنيف: المائل إلى الله، والمشتاق إليه، والمريد له المعرض عن غيره، والعابد له؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية في الصحيح: (يولد على هذه الملة).
إذاً: ملة التوحيد والإيمان بالله والعبودية الكاملة لله عز وجل هي فطرة في كل إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، كان العرب يشقون آذان البهائم، وعندما تلد البهيمة لا تلد بهيمة مشقوقة الأذن بل تلدها بهيمة كاملة، كذلك اليهود والنصارى والمجوس والهندوس وكل الملل المشركة يولدون على الحنيفية، ويبحثون عن عبادة الله، ثم يصرف تدريجياً بأنواع الصرف عن عبادة الله عز وجل، ولو ترك وشأنه لاختار هذا الدين، واختار هذه الملة، واختار أن يعبد الله، ولما كانت الشهوات حاجزاً له عن الله سبحانه وتعالى، لكن يظلون يقذفون في قلبه هذه النجاسات والقذارات وزبالة أفكارهم حتى إذا عقل هذا الإنسان وجد في نفسه الأسئلة الثلاث تطرح عليه: من خلقك؟ لماذا خلقك؟ إلى أين المصير؟ ولكنه يسكت عن الجواب لوجود الزبالة والخزعبلات والنجاسات في قلبه، فيقول: لا أريد أن أبحث في هذه المسألة، وإذا قال له إنسان: أين المصير؟ الموت، الجزاء، الحساب، لم تخلق سدى، يقول لك: اتركنا وشأننا ونعيش حياتنا، والعياذ بالله، نريد أن نستمتع بالحياة.
وكثير من إخواننا ممن يعيشون في بلاد الكفر خالطوا الكفار وسألوهم عن ذلك، وعندهم إتقان في كل شيء، لكن إذا سئل أحدهم في مسألة هذه يقول: أنا لا أدري، ولا أريد أن أبحث في هذه المسألة، لأنني أعيا حين أفكر فيها، وكل شيء عنده في حياته اليومية يمر بانتظام إلا هذه النقطة فلا يفكر فيها، مع أن عنده حاجة ضرورية يحس بها، وأنه لابد أن يتوجه، ولابد أن يعبد، فقد خلقه الله كذلك، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء)، مفردها حنيف، والحنيف هو: المائل إلى الله، فقد فطر الله العباد على ذلك، وهكذا أمر الله عز وجل أن نكون، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: أبعدتهم عن دينهم الذي فطر الله العباد عليه؛ ولذلك فإن دعوة الرسل للإنسان تجدها مختلفة تماماً عن أي دعوة أرضية، وعن أي دعوة جاهلية، ويجد الإنسان في نفسه رغبة موجودة من دعوة الرسل، فيه فطرة موجودة من أثر ذلك الميثاق البعيد الذي أخذ عليه وهو لا يدري كيف أخذ، لكنه بالقطع قد أخذ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، فالله أرسل الرسل لتحذير الناس من هذا النفاق، وليذكروهم بهذه الفطرة التي هي نسخة أصلية من دعوة الرسل، ومطابقة لها تماماً، ولذلك عندما يأتي نور الوحي على نور الفطرة يكون نوراً على نور، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
فالعباد خلقوا مائلين إلى الله، محتاجين إلى عبادته أشد من حاجتهم إلى الهواء والماء والطعام، ولذلك جعل الله أدلة التوحيد، وأدلة صدق الرسل كالماء والهواء، يجدها كل طالب للهواء، والهواء لا يباع، والماء غالباً لا يباع؛ لأنه ينزل عن طريق المطر من السماء فتجري به الأنهار والعيون، والأصل أن الماء لا يباع، فالناس في حاجة إليه على الدوام أكثر من حاجتهم إلى الطعام؛ لأن المجاعات هذه حالة استثنائية.
فالله جعل أدلة التوحيد وأدلة معرفته وتعظيمه وربوبيته وإلهيته كالهواء، وجعل أدلة صدق الرسل كالماء، وهو أدنى مجهود يبذله الإنسان، وجعل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الشمس نوراً وضياء، وأدنى بحث فيها سوف يجزم به كل عاقل أن هذا الدين أوضح دين، وأظهر دين، وأحق دين، ولا يوجد حق سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].(13/4)
العبودية سعادة وطمأنينة
العبودية وكون الإنسان عبداً لله عز وجل ليست فقط مجرد تكليف بأمور شاقة تجد فيها مشقة، بل الحقيقة أنها للإنسان كالهواء الذي يتنفسه ويستريح به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال)؛ لأنه يستريح في أثناء العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرت عيني في الصلاة)، ولا شك أن من جرب لحظات من العبودية الحقيقة الكاملة لله؛ لأيقن وحلف بالله العظيم صادقاً من غير حنث ولا خداع للناس أن أعظم لذة في هذه الدنيا قبل الآخرة هي لذة عبادة الله عز وجل، والقرب منه، والتقرب إليه، والشعور بالانكسار والذل والحب له عز وجل، وأعظم ما يجده الإنسان من لذة هي لذة الشوق إلى لقاء الله، كما كان النبي صلى الله عليه يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك).
فالعبودية فعلاً لذة عظيمة، قال عنها بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول بعضهم: يأتي على القلب أوقات أقول فيها: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه، لكانوا في عيش طيب، مع أنه لا وجه للمقارنة بين قرب أهل الجنة من ربهم وبين قرب العباد في هذه الدنيا، وإنما أعطاهم الله ما يعرفون به حقيقة النعيم في الجنة، كما أن الله أعطانا من الطعام ما ندرك به أن هناك في الجنة أنواعاً من اللذات من الطعام والشراب لا تخطر على قلب بشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وما أخبرنا به إنما هو أسماء، وحقيقة اللذة أعظم، فأعظم من نعيم العباد في الدنيا نعيم قربهم من الله عز وجل في الآخرة، وكيف لا وهم ينظرون إلى الله عز وجل، فيذوقون لذة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فالنظرة التي تجري فيها من النظر إلى وجه الله لا توصف، وهم إنما خلقوا للبقاء، ويأتيهم من نظرهم إلى وجه الله عز وجل ما لا يمكن أن يدركه إنسان، فتنحني المخلوقات تعظيماً لله عز وجل في هذه الدنيا، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] أي: انحنى الجبل تعظيماً لله عز وجل، قال: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، فكيف بهم حين يبقيهم الله ليدركوا شيئاً من عظمته، وهم باقون مع ذلك لا يفنون؟ وهذا البقاء الذي هو أعظم من الفناء هو أعظم نعيم عجزت عن إدراكه العقول، فأعطاهم الله ذرةً منه في الدنيا؛ ليقول قائلهم: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه لهم في عيش طيب، وما أفظع أن يحرم الإنسان من ذلك، وما أبشع أن يبعد الإنسان عن ذلك بالخمر المسكرة والمخدرات، لست فقط أعني الخمر التي يشربها الناس والمخدرات التي يشربونها، بل أعني: كل الشهوات، فإنها تعمي القلب، وتجعله تعيساً تعاسة فظيعة لا يدرك لهذه الدنيا طعماً، ولا يدرك لذة العبودية لله، ولذة حبه والانكسار له، ولذة الذل والخضوع له عز وجل، ولذة الشوق إليه، ولذة الخوف منه وحده لا شريك له، فيزول من قلبه خوف كل أحد سواه، فخوفه من الله عز وجل نعيم، والخوف من غيره شقاء، والتوكل على الله عز وجل نعيم، والتوكل على غيره شقاء، وقلق واضطراب وحيرة وشك، ولا تدري هل يقضي لك مصلحتك أم لا؟ وأما إذا توكلت على الله كفاك ما أهمك، وكذلك لذة شكر نعمة الله نعيم، ونسبة الفضل للنفس وللخلق، والانكسار لهم ذل وهوان وغباء وجهل، والعياذ بالله أن يقول الإنسان: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، كذلك لذة التواضع لله عز وجل نعيم، والكبر شقاء للإنسان وعذاب حين يعجب بنفسه ويتفاخر ويتكبر، فإبليس عذب بحاله قبل طرده من رحمة الله؛ لأن في قلبه العجب والكبر والغرور والعياذ بالله، فتجد فعلاً كل هذه اللذات الدنيوية المسكرة المحرمة من مخدرات وغيرها تؤدي إلى تنويم للإنسان حتى يصاب فيها بفشل تنفسي؛ لأنها تجعل مركز المخ لا يحس بأنه يريد أكسجين، فيتوقف الإنسان عن التنفس فيموت؛ ولذا فإن أصحاب المخدرات والخمر يريدون العيش على هذه الحال؛ حتى يحسوا بأن خيالاتهم حقيقة، فيخلطوا ما بين الحقيقة والخيال.
فالذي يتعاطى المخدرات يتخيل نفسه أنه أعظم رجل في الدنيا، قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] أي: في سكر أصلاً أشد من سكر الخمر والعياذ بالله.
كذلك الذي أهدر حياته كلها أمام التلفاز والفيديو، فتارة ينظر إلى ممثلة، وتارة يسمع المغنية هذه، ولا يعرف إلا لعب الكرة فقط، ولا يعرف في الدنيا إلا اللذات، فيخرج من الدنيا مفلساً لم يعرف منها إلا هذا، ونسأل الله العفو والعافية.
إنها لمصيبة عظيمة أن يعيش الإنسان حياته بهذه الطريقة والعياذ بالله، فالإنسان إذا تعود على شهوة معينة فإنه لا يستطيع أن يحيا إلا بهذه الطريقة، ومن الناس من جعل شهوته في النساء كشهوة قوم لوط في الرجال، فإن شهوة امرأة العزيز في يوسف جعلتها لا تحس بما يحدث، فقد فتحت الأبواب ودخل عليها زوجها وهي لا تحس بذلك، فقد كانت مشغولة بشد قميص يوسف عليه السلام، وزوجها كان عزيز مصر، قال عز وجل: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25].
وقد كان يوسف ينفر منها، فلم تمنعها كرامتها من الإبعاد عنه وتركه؛ لأنه هو الذي يبعد عنها، فقد أصبحت الشهوة مسيطرة عليها وقد شغفها حباً، فمثل هؤلاء لم يعرفوا حباً سوى هذا الحب في الدنيا، ولم يذوقوا حب الله عز وجل ولا حقيقته.(13/5)
دعوة الرسل إلى عبادة الله
إن أول الوصايا العشر التي أوصى الله عز وجل بها موسى هي عبادة رب واحد هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك.
والمسيح عليه الصلاة والسلام في الإنجيل قال لربه: أيها المعلم! ولم يقل: أنا ابن الله، أو أنا ثالث ثلاثة، بل قال لهم: ارجعوا للتوراة فقد كتب فيها أن الرب واحد رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك.
فهذه المسألة أعظم المسائل، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأول ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)، ولذلك شرع الجهاد بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وهو تحرير للإنسانية بل إنقاذ للبشرية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فمن رحمة الله عز وجل بالبشر أن أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليعبدوا الله وحده، وكلفه بالجهاد من أجل مصلحتهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم خير الناس للناس تدخلونهم الجنة بالسلاسل)، فيجدون مصلحتهم بالرغم عن أنفسهم، يدخلون الجنة مقيدين بالسلاسل، يقاتلون فيؤسرون ويسلسلون بالسلاسل فلا يمضي عليهم وقت إلا وقد دخل الإسلام في قلوبهم، وصار الإسلام أحب إليهم من كل شيء.(13/6)
قصة إسلام ثمامة بن أثال
إن ثمامة بن أثال كان سيد بني حنيفة، كانت كلمته مسموعة، كان ذاهباً إلى العمرة مشركاً، وقد كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم، فما من وجه أبغض إليه من وجهه، وما من بلد أبغض إليه من بلده، وما من دين أبغض إليه من دينه كما قال ثمامة، فلما أسرته خيل المسلمين أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربطه في سارية من سواري المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف قدر ثمامة وربطه عمداً؛ وجعله على ذلك ثلاثة أيام لكي يرى الإسلام في مجتمع ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، هذا المكان المبارك المشرف المعظم الذي هو بيت التقوى، قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى مجتمع المسلمين؛ ليعرف حقيقة الإسلام، فربطه في المسجد في سارية، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت) أي: إذا قتلتني سوف تقتل رجلاً تفرح بقتله، وإن مننت علي فأطلقتني فأنا أشكر ذلك، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وجاءه في اليوم الثاني فقال: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد)، لكنه بدأ بقوله: إن تمنن تمنن على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، وكأنه وجد أن المن أقرب، وفي اليوم الثالث قال له النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأجابه ثمامة مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة)، ثلاثة أيام غيرت حياة ثمامة بالكلية، وانطلق حراً إلى أقرب بستان فيه ماء فاغتسل ورجع وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح أحب الدين إلي، وما كان من وجه أبغض إلي من وجهك فأصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح أحب البلاد إلي، وإن خيلك أسرتني وأنا أريد العمرة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فلما كان يطوف بالبيت قال له المشركون: صبأت يا ثمامة؟ قال: بل آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ووالله لا تأتيكم حبة من اليمامة من القمح حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تغير ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه تغيراً تاماً لما رأى حياة المسلمين في المسجد حياة عبودية لله سبحانه وتعالى، وبالتأكيد كان لا يدري بذلك؛ ولذلك فعلاً دخل الجنة من خلال الأسر ومن خلال السلاسل التي ربط بها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: العبودية لله سبحانه وتعالى الإنسان يحتاج إليها، ويجد اللذة فيها أكثر من حاجته إلى الهواء وأشد من لذته للطعام والشراب لو قام بها على الوجه السليم.(13/7)
سبب التكاسل في العبادة
نحن نجد المشقة في العبادة، فنصلي ونحن على إعياء، ونصوم ونحن نريد وقت الإفطار يأتي بسرعة؛ لأن هناك نوعاً من النقص في القلوب أو في الأعمال الظاهرة، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام طلب لقاء الرجل الصالح العالم؛ ليتعلم منه مسائل، وأخبره الله عز وجل أنه يلقاه بمجمع البحرين، ولما جاوز موسى مجمع البحرين من حيث لا يشعر؛ لأنه كلف فتاه أن يحفظ السمكة المملحة في مكتل وقال له: متى وجدت هذا الحوت قد أصبح حياً فهناك الملتقى، لا أكلفك غير ذلك؟ قال: ما كلفتني كثيراً، وبالفعل نام موسى عليه الصلاة والسلام، وأحيا الله عز وجل الحوت عند مجمع البحرين، وانطلق في البحر كما وصف الله عز وجل، ونسي الفتى أن يبلغ موسى ومشى وجاوز، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به)، سبحان الله! ومع أنه كان عن اجتهاد، وطلب للخير، ونسيان من الفتى بغير قصد قال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، ومع كل ذلك كان النصب بسبب مجاوزة الحد، فما بالك إذا كانت المجاوزة عمداً فلابد أن يكون هناك نصب، أو كان هناك تقصير وتوان لابد أن هناك مشقة، ولو كانت العبادة على ما أمر الله عز وجل لما وجد الإنسان أي تعب فيها، فقد ورد في الحديث أن: (النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه) وفي رواية: (حتى تتشقق قدماه) أي: تتفطر قدماه (فيقال له في ذلك فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يجد تعباً في ذلك، بل يقوم ليلة يقرأ فيها البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وصلى معه مرة عبد الله بن مسعود فقال: هممت بأمر سوء، هممت أن أجلس وأتركه؛ من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الله عليه وسلم لم يشعر بذلك، فقد جعلت قرة عينه في الصلاة صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يجد الإنسان منه بقدر إخلاصه وبقدر حبه لله عز وجل، وبقدر إتقانه للعبادة، وبقدر أدائه لهذه العبادات على الوجه المشروع، فالبدعة أو التقصير في اتباع السنة أو عدم حضور القلب فيها هو الذي يجعلها عبادة جافة شاقة على النفس، مع أن الإنسان لن يجد الراحة والسكون في العبادة إلا بعد مجهود؛ لأن نفسه ما زالت ظالمة جاهلة حتى تكسى تدريجياً، فالإنسان يولد عارياً ثم يكسى، والإنسان ظلوم جهول، ثم يعلم ويرزق العقل وكلما علم ورزق الإرادة السليمة الصحيحة والعدل وجد حقيقة العبودية، ووجد كيف يؤدي هذه الوظيفة في عمره كله مع الراحة والسكون، واللذة والسعادة في هذه الدنيا قبل القبر وقبل يوم القيامة، وقبل الجنة التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.(13/8)
تعريف العبادة ومفهومها الواسع
العبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ونحتاج فعلاً إلى إدراك هذا التعريف الجميل، فالعبادة هي الطاعة بأنواعها المختلفة، لكنه يضع يدك على الحروف التي ربما لا ترى كل جزء من أجزائها، فالعبادة ليست فقط الشعائر العظيمة التي هي أركان الدين، بل في الحقيقة هي الأوعية التي يفرض لك فيها نصيبك من المحبة والود، والخوف من الله، ورجائه، والشوق إليه وشكر نعمه، فأنت لن تجد أفضل من الصلاة والصيام والزكاة والحج لكي تنال فضل الله عز وجل عليك في حال قلبك، هذه هي الأوعية التي تنال فيها الغذاء، فأنت عندما تحتاج إلى الغذاء لابد أن يكون لك وعاء، فإن لم يكن معك وعاء لن تأخذ غذاء، فلابد أن تأخذ الوعاء وتقف على الباب وتدقه مرات، وتقول: يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فيرزقك الله عز وجل ما لم يكن يخطر ببالك من أنواع الراحة واللذة والسكون، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28 - 29]، طوبى لك إن رزقك الله عز وجل عبادته، ووفقك في عبادتك له سبحانه وتعالى، ولكن كما ذكرنا هذه هي أوعية العبودية، ولابد أن تستحضر أن العبادة أوسع وأشمل من ذلك، بل هي الأركان التي يقوم عليها البناء، قال النبي عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هذه الأركان هي العبادة لكن توجد جوانب أخرى؛ ولذلك أصل هذه العبودية صلاح القلب، قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
إذاً: من العبادة الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
إذاً: المطلوب هو أن تذكر الله؛ ولذا قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فالصلاة فيهما أمران كلاهما عظيم، وأحدهما أكبر وأعظم، الصلاة فيها نهي عن الفحشاء، وإبعاد لك عن مواطن الهلاك، وفيها ما هو أعظم، فيها ذكر الله، وذكر الله أعظم من النهي عن الفحشاء؛ لأن ذكر الله هو حياة الإنسان وحياة قلبه؛ ولذلك قال عز وجل لنبيه وكليمه موسى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، إذاً: الآية هذه تضمنت نفس ما تضمنته الآية الثانية، حيث قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وقال هنا: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114] وشيء أعظم من ذلك كله، وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
فالإنسان محتاج إلى حاجتين: محتاج إلى وقاية من الشر، ومحتاج إلى غذاء، والغذاء أهم، يعني: الغذاء بالنسبة له لو لم يأكل يموت، وإن أخذ بعض المضار فمن الممكن لجسمه أن يتغلب عليها، فإما أن يأكل وإن كان فيه مكروبات، وإما أن يجوع فيموت، وإما أن يشرب ماء معكراً ليس نظيفاً، أو أنه لا يشرب أبداً كذلك الذي اقترف القليل من المعاصي ولكنه يعبد ربه خير من الذي لا يعبد ربه أبداً.
ولذلك نقول: الصلاة لذكر الله عز وجل، والصيام للتقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فالصيام يقرب إلى الله أكثر حتى تتقيه، فأيام رمضان أيام عظيمة البركة، وأيام مليئة بالخير، والصيام جنة، ووقاية من المعاصي، وهو سبب للتقوى وسبب لصلاح القلب، أما الزكاة فقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ} [التوبة:103]، فهي طهارة للقلب وزكاة للإنسان، وأما الحج فقد قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، فهذه العبادات كلها لصلاح القلوب؛ ولذلك القلب هو أساس العبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وعبودية القلب تدور بين العلم والعمل، فالعلم: هو المعرفة والتصديق واليقين بأسماء الله عز وجل وصفاته، ومعرفة ربوبيته وألوهيته، ومعرفة ما يضاد ذلك للحذر منه، ومعرفة الشرك بالله وأنواعه التي يكثر وقوعها في الناس لكي يحذر الإنسان على نفسه منها، ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من تفاصيل لأصول الإيمان كلها: الملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصديق ما جاء به الكتاب والسنة في ذلك وتعلمه تفصيلياً، فكلما تعلمت من ذلك مسألة فهذا في حد ذاته أمر مطلوب، ثم تصديق كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع العبادات من الإيمان والإسلام والإحسان، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر والنواهي، وتصديق أنها حق من عند الله، وأن الله أمر بكذا، وأن الله نهى عن كذا، فكل مسألة من مسائل الدين تتعلمها، ويكون عندك الدليل الصحيح عليها من الكتاب والسنة، فتصدق بأن الله أمر بكذا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، فهذا من عبودية القلب في جانب العلم واليقين والتصديق، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالأدلة ازداد تصديقه ارتفاعاً، ويزداد من ذلك علماً حتى يصل إلى علم اليقين، وربما من الله عز وجل عليه بأشياء تكون من عين اليقين يراها، فيفتح الله سبحانه وتعالى عليه من أنواع العلوم والمكاشفات ما لا يدركه غيره من الناس، وأعظم ذلك أن يعلمه الحق الذي اختلف فيه الناس، ويرشده الله ويهديه إلى الصراط المستقيم فيما اختلف فيه من الحق، قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وأما جانب العمل القلبي فهو عبادات القلب المختلفة، وأصلها: الحب والخوف والرجاء، وهذه أجنحة العبادة الثلاثة، فمن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد، وأما من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، كما يزعم بعض من لا يفهم حقيقة العبادة فيقول: إن كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها، قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وكاذب لم يعرف حقيقة العبودية، إن الله يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وهذا يقول: إن عبدتك رهبة فأدخلني النار! نعوذ بالله من ذلك، أليس الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]؟ فكيف تقول: لا أرجو الله والعياذ بالله؟! المؤمن يعبد الله حباً وخوفاً ورجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد.
ومن العمل القلبي الإخلاص والانقياد، ونية المتابعة الصادقة لشرع الله عز وجل، ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، والإخلاص والاتباع والإيمان هي شروط صحة العبادة، ولا تصح عبادة من العبادات إلا بالإيمان والإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل دون ما سواه، من إرادة النفس وحظوظها وشوائب الرياء، وحب مدح الناس، والخوف من ذمهم وغير ذلك.
ومن شروط صحة العبادة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وأصل الاتباع: قلبي، وكماله: باللسان والجوارح.
وكذلك عبادة الصبر والشكر والرضا، وعبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى، وكذا عبادة الزهد في الدنيا، وتعظيم أمر الآخرة، وتعظيم الرب سبحانه وتعالى، وتعظيم أوامره، وتعظيم حرماته، والورع عن محارمه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من عبادات القلب، وذكر الله أصله في القلب، ثم يعبر عنه باللسان.
والتوبة إلى الله عز وجل أصلها عقد العزم ألا يعود إلى الذنب مع ترك الإصرار والإقلاع عن الذنب، فهذه كلها من عبادات القلب المهمة العظيمة.
والمراقبة لله سبحانه وتعالى، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومحاسبة النفس لله، والتفكر والاعتبار بآيات الله سبحانه وتعالى، وكل عبادة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته من عبادات القلب فهي من أعمال القلوب.
ومنها الاعتقاد واليقين وتصديق الله فيما(13/9)
اللهم بك آمنت وعليك توكلت
يعتبر الإيمان بالله تعالى أصلاً لسائر أركان الإيمان، ويلزم معه الإتيان بالواجبات واجتناب المحرمات، ولكونه تصديقاً تكنه الضمائر وجب على العبد أن يظهره على لسانه بالنطق بكلمة التوحيد، وحرم عليه أن يتفوه بما يضادها، ووجب عليه أيضاً أن يظهره بعمل الجوارح، خاصة الأركان الأربعة من أركان الإسلام، كما وجب عليه أيضاً أن يظهر أثر إيمانه على أعمال قلبه، ومن أهمها التوكل على الله، ولذا فإنه ينبغي للعبد أن يدرك حقيقة التوكل وأهميته، ومنزلته من الإيمان، وعلامات صدقه، وغير ذلك مما يحقق هذا المعنى العظيم.(14/1)
مكانة الإيمان في حياة المؤمن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو حجر الزاوية في قلب المؤمن، وهو الذي تدور عليه رحى حياته، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في غير موضع من كتابه، أخبر بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الناجون والفائزون والمفلحون، وأنهم الذين كتب الله لهم الجنان، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فا غفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).(14/2)
أركان الإيمان وأصله ولوازمه
والإيمان إذا ذكر مع الإسلام فالمراد به ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، كما أجاب جبريل عليه السلام عن سؤاله عن الإسلام والإيمان.
وهذا الإيمان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصله الإيمان بالله، وأما باقي أركان الإيمان فهي لوازمه أو من أجزائه، فالإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم لازم من لوازم الإيمان به سبحانه، فلا يقبل الله عز وجل إيماناً به دون إيمان بالرسل، فإنه لا يكون مؤمناً من كذب الرسل؛ لأن الله عز وجل قد صدقهم وأرسلهم بالصدق والحق، فمن كذبهم فقد كذب الله عز وجل، ولا يكون مؤمناً أبداً من كذب الله.
فليس الإيمان مجرد المعرفة بوجود الله سبحانه وتعالى، وإن كان ذلك -بلا شك- من أصوله، لكنه لا يكون إيماناً نافعاً، فلقد كان المشركون يقرون بوجود الله عز وجل، وبخلقه للسماوات والأرض وبخلقهم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88 - 89].
فهم كانوا يقرون بأن الله عز وجل هو الخالق المالك، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يدبر الأمر، كما قال عز وجل: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
فليس الإيمان بالله عز وجل مجرد المعرفة بوجوده، فلقد كان المشركون يقرون بذلك، ولقد كان اليهود والنصارى أشد معرفة بوجود الله عز وجل، وبكثير من أسمائه وصفاته من غيرهم، بل ويقرون بالبعث بعد الموت، ومع ذلك قال الله عز وجل عنهم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فتبين بذلك أن الإيمان ليس مجرد المعرفة، بل يلزم الإيمان بسائر أركانه، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بالكتب ضمن الإيمان بالله؛ لأنه إيمان بكلامه، والإيمان بالقدر جزء من الإيمان بالله، ولعل هذا -والله أعلى وأعلم- هو السبب في أنه لم يذكر الإيمان بالقدر في قوله سبحانه وتعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285].
وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136]، فلم يذكر الإيمان بالقدر في هذين الموضعين؛ لأنه داخل ضمن الإيمان بصفات الله عز وجل؛ ولأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله، وبكتابة المقادير، وإيمان بإرادته وقدرته وخلقه لأفعال العباد، فكلها صفات له عز وجل، فهو ضمن الإيمان بالله، وأما الإيمان باليوم الآخر فهو من لوازم الإيمان بالله.
إذاً: فلا يكون الإنسان مؤمناً إن أنكر بعثه سبحانه للناس ومحاسبتهم على أعمالهم؛ فإن ذلك -في الحقيقة- إنكار لحكمته، وإنكار لعدله، وإنكار لرحمته، وإنكار لفضله، كما قال عز وجل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12].(14/3)
حكم من أنكر ركناً من أركان الإيمان
من أنكر البعث والجمع بين الخلائق لينال كل عامل جزاء عمله، لينتصر للمظلوم من الظالم، وليثاب المؤمن ويعذب العاصي المكذب للرسل، فإنه منكر لحكمة الله، ولعدله ورحمته، وذلك يعود إلى التكذيب بالله سبحانه وتعالى، فدل ذلك على أن الإيمان أشمل مما يظنه كثير من الناس حين يقولون: نحن آمنا بالله، ولذلك كان كل من أقر بوجود الله مؤمناً عندهم، فيصفون أهل الملل المخالفة لملة الإسلام بالإيمان، ويقولون: هم مؤمنون وليسوا بكافرين.
نعوذ بالله من ذلك! ومن ادعى أن أحداً من الخلق له أن يخالف ملة الإسلام التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام، ويكون مع ذلك مقبولاً عند الله مؤمناً يدخل الجنان، فقد كذب القرآن وكفر بالله العظيم، وبرسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13].
فمن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمناً، وأما إقراره بوجود الله فهو إيمان قد حبط، وإيمان غير نافع؛ لأنه اقترن بالشرك وعبادة الشيطان الذي أمر بتكذيب الرسل، كما هو حال المشركين الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فهذا الشرك قد أحبط القدر الموجود في قلوبهم من الإيمان، والجاري على ألسنتهم، والكائن في بعض أفعالهم، فإن الشرك محبط للعمل، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].(14/4)
حكم النطق بكلمة التوحيد
إن مما يحبطه الشرك عمل القلب، فإذا زالت أعمال القلوب زال الإيمان؛ لأن الإيمان ليس مجرد معرفة، بل هو تصديق وتعظيم ومحبة وخوف ورجاء وتوكل على الله سبحانه وتعالى، كما أنه يلزم منه -بل هو جزء من أجزائه- أن ينطق بلسانه كلمة التوحيد، ولا يكون مؤمناً عند الله ولا في أحكام الدنيا من كان قادراً على نطق كلمة التوحيد -أي: لا إله إلا الله- ثم يأبى ويرفض، كـ أبي طالب الذي أبى أن يقولها، مع أنه كان مصدقاً بها في باطنه، ويعلم أنه لن تغني عنه الآلهة شيئاً، وإنما حمله على عدم النطق بها مراعاة الناس والعادات والتقاليد، ومجاملة كبراء قومه، حتى لا يقولوا: حمله على نطقها الجزع من الموت، ولقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً فلم ينطق بكلمة التوحيد مع أنه كان جازماً موقناً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، فإنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرضة قد أكلت الصحيفة التي علقت في جوف الكعبة ظلماً وعدواناً لحصار بني هاشم لمناصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج دون أن يتثبت بنفسه أو يرسل من يتثبت، وأخبرهم بأن الله قد أبطل هذه الصحيفة وهو على يقين غير متردد من أنها قد نقضت بالفعل دون أن يراها، وإنما ذلك لأنه يعلم صدق ابن أخيه جزماً ويقيناً، ومع ذلك حمله الجزع على عدم النطق بـ: (لا إله إلا الله) عند الموت، فقال: لولا أن يقول الناس لأقررت بها عينك، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله)، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
فتألم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ألماً شديداً، وقال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)، وقال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فدلت هذه النصوص على لزوم النطق في حق القادر عليها.(14/5)
حكم النطق بما يناقض كلمة التوحيد
من نطق بخلاف كلمة التوحيد -كمن قال عن نفسه معانداً لغيره إنه كافر، حين يأمره بالطاعة ويذكره بالإيمان كأن يقول له: ألا تؤمن بالله حتى تفعل كذا؟ فقال: لست مؤمناً، أو قال -والعياذ بالله- إنه كافر- فهذا لا يكون مؤمناً فعلاً، ونطقه بهذه الكلمة يخرجه من ملة الإسلام، حتى ولو قالها استهزاءً أو عناداً أو إغاظة لصاحبه.
وكثير من الناس يقول ذلك ويفعله وهو لا يدري مدى خطر هذه الكلمة، فيقول لمن يجادله ويناقشه إنه قد كفر -والعياذ بالله- ليقطع باب المناقشة، أو يقول ذلك لمن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر؛ ليتخلص من حرج مخالفته لهذا الأمر، فيقال له: ألست بمسلم؟ فيقول إنه ليس بمسلم -والعياذ بالله- أو يقول إنه يهودي أو نصراني؛ ليتخلص -مثلاً- من حرج مخالفته بالفطر في رمضان، أو مصاحبة النساء أو غير ذلك.
فهذا يخرج بذلك من الملة؛ لنقضه النطق بكلمة التوحيد الذي هو جزء لا يتجزأ من الإيمان، ولا يوجد الإيمان بدونه إلا مع العجز، كالحال في الأخرس، أو من وافته المنية فعجز عن النطق ساعة إرادته ذلك، فهذا يكون مقبولاً عند الله عز وجل عذره، والأخرس إذا كان يستطيع الإشارة أو يعمل أعمال الإسلام ويشير بما تفهم به إشارته حكم بإسلامه في الدنيا.
فأحكام الإسلام في الدنيا والآخرة لابد فيها من النطق؛ لأن النطق بكلمة التوحيد جزء من الإيمان، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أنه لا يقبل الاعتقاد مجرداً عن عمل القلب وعن نطق اللسان بكلمة التوحيد، حيث قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وقال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].(14/6)
حكم الاستهزاء بالدين وسب ما يتعلق به
لابد في الإيمان من عمل القلب، كالإخلاص وإرادة وجه الله والدار الآخرة، وحب الله سبحانه وتعظيمه، وإذا كان الاستهزاء بالله وبآياته ورسله وكتبه والسخرية من ذلك قادحاً في أصل الدين مذهباً له فإنه يحكم على صاحبه في الدنيا بالكفر، وفي الآخرة بالخلود في النار والعياذ بالله، حتى ولو زعم أنه ما قصد؛ فإنه قد زال من قلبه التعظيم لله عز وجل الذي يمنعه من الاستهزاء والسخرية والسب نعوذ بالله من ذلك، قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66].
وقد نزلت هذه الآيات في قوم من المنافقين كفرهم الله بهذه الكلمة، والظاهر أنه كان عندهم نفاق أصغر قادهم إلى الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يعد به عن الله، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير.
والعياذ بالله! وقالوا: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم والقراء من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء.
نعوذ بالله، فهم يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يحب الأكل ويتهمونه أيضاً بالجبن، نعوذ بالله من ذلك، مع أنهم ذكروا ذلك في شأن الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات، قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، وذلك أنهم لما ووجهوا بتلك الكلمات قالوا: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به الطريق، أي: يتسلون بهذا الاستهزاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وكان يتلو عليهم هذه الآية-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، وتسمية ما كانوا عليه إيماناً هو باعتبار أصل الإيمان الذي كان عندهم، ولكن قادهم النفاق الأصغر إلى أن وقعوا في النفاق الأكبر والكفر، والعياذ بالله.
وهذا الاستهزاء منهم يسمى نفاقاً، رغم تصريح القرآن بكفرهم؛ لأنهم ما زالوا يزعمون الانتساب إلى الإسلام مع نطقهم بكلمة الكفر، ففاعل هذا منافق أظهر نفاقه فخرج من الملة بذلك، وإنما يبقى على أحكام الإسلام ظاهراً طالما كتم النفاق في باطنه، وأما إذا أظهره على لسانه، وأظهر الكفر الأكبر في أعماله فهو منافق قد أظهر نفاقه، والعياذ بالله، ولا ينفعه الانتساب إلى الإسلام بقاؤه على هذا الانتساب، وإنما لابد من أن يجدد إسلامه بالتوبة الصادقة مما وقع فيه، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هؤلاء الذين قالوا مثل هذه الكلمات؛ لأنهم كانوا يظهرون الرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولذا قال عز وجل: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66] فدل ذلك على أنهم أظهروا الرجوع، ولكن ليس كل واحد منهم صادقاً في الرجوع والتوبة، وإنما بعضهم قد صدق وبعضهم لم يصدق، ولأن الأحكام في الدنيا تبنى على الظاهر، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم الظاهرة وامتنع عن قتلهم، وإلا فلو أصروا على ما كانوا عليه من الاستهزاء والسخرية من القرآن ومن وعد الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين فذلك الإصرار لا يبقى معه شيء من أحكام الإسلام، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والسب أعظم من ذلك أفظع، والعياذ بالله، وهو أشد من السخرية والاستهزاء، لأن الاستهزاء والسخرية تعريض بالسب، وأما السب فصريح، فهو أغلظ، وهو كالضرب للوالدين بالنسبة إلى كلمة (أفٍ)، فإذا منع من قولها للأبوين فلا يتصور أن يباح الضرب، أو يكون في منزلتها، فهو أشد وأغلظ، فمن سب الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه، أو نبياً من الأنبياء، أو دينه سبحانه وتعالى فقد نقض إيمانه بالكلية، فإن الإيمان -كما ذكرنا- ليس مجرد المعرفة، لكنه تصديق مقرون بحب وتعظيم، وانقياد وخضوع، وخوف من الله عز وجل ورجاء له، وشكر، وتوكل عليه.(14/7)
ذكر بعض الأعمال الكفرية
هناك من أعمال القلوب ما قد تضعف في قلب الإنسان ولا تزول إلا بزوال الإيمان بالكلية، وإنما يعرف ذلك بتصريح صاحبها بما يدل على زوالها، أو بأعمال لا تحتمل تأويلاً غير الكفر، كمن يقتل نبياً من الأنبياء أو يقاتله ويسعى في قتله، أو من يصرح بأنه يحارب أهل الإسلام؛ لأجل التزامهم بطاعة الله عز وجل، كما ذكرنا عن هؤلاء المنافقين؛ فإنهم ذموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأجل امتثالهم لأوامره، فكذلك من عادى مصلياً لصلاته، أو عادى صائماً لصيامه، أو عادى قارئاً للقرآن وأبغضه لأجل قراءته وصرح بذلك، أو أنه جعل ذلك لنفسه سنة مستمرة ماضية على الدوام، بحيث يكون كل من أطاع الله عز وجل يعاقب عنده، فإن ذلك -والعياذ بالله- محاربة لله عز وجل، وبغض لما أنزله، ومن أبغض ما أنزله الله وكرهه فقد حبط عمله وزال إيمانه، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
فكل من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأبغض من فعله لأجل أنه فعله، فإنه لا يكون مؤمناً؛ لزوال عمل القلب الذي هو ركن من أركان الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فأما من قالها رياء وسمعةً فهو من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فما تنفعهم شهادة التوحيد، قال عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].(14/8)
حكم ترك أعمال الجوارح
لابد في الإيمان من التصديق بالله عز وجل، وأسمائه وصفاته، وربوبيته وإلاهيته، وهذا مما يتضمنه الإيمان بالله عز وجل، فيلزم أن يصدق المرء بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر، ثم لابد مع هذا من نطق اللسان بشهادة التوحيد، والشهادة للرسل بالرسالة، خاصة خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم لابد مع عمل القلب من الانقياد والحب والخضوع، ثم يستكمل الإنسان الإيمان الواجب عليه بأن يؤدي أعمال الجوارح الواجبة، ويترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، وهذه الأعمال الواجبة -خاصة الأركان الأربعة- من أعظم ما يثبت الإيمان في القلب، وهي -بلا نزاع- عند أهل السنة جزء من الإيمان، وهي عند طائفة منهم من أركانه التي إذا تركها الإنسان حتى يموت تاركاً لها رغم إقراره بوجوبها يكون كافراً.
وإن كان جمهور أهل العلم على أن التكاسل عنها مع الإقرار على النفس بالذنب لا يخرج من الملة، وهذا في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وأما ما سوى ذلك من الأعمال فإنه لا نزاع بين أهل العلم في أن ترك الواجب منها أو فعل المحرم مع وجود أصل الانقياد والحب والخوف والرجاء والإخلاص في كلمة التوحيد والشهادة لا يخرج من الملة، وهذا موضع النزاع بينهم وبين الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة وتارك الواجب، وحكموا بخلوده في النار، والمعتزلة وافقوهم في ذلك، فكانوا من الفرق الضالة المضلة، والعياذ بالله.
أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن الفاسق من أهل القبلة الذي يشهد الشهادتين، ويحرص على أركان الإسلام، ويحافظ عليها، هو في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وجمهور أهل العلم يرون أن ذلك أيضاً حكم من تكاسل عن بعض الأركان أو عن كلها، وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، وذلك أنها حق (لا إله إلا الله)، ويلزم من قال: (لا إله إلا الله) أن يؤديها، ولكن لا يزول الإيمان بالكلية من القلب بزوالها، إلا أن تاركها على حافة الكفر، فيوشك أن يكفر بأيسر شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، ولكن هذا عند جمهور أهل العلم محمول على الكفر الأصغر الذي لا يخرج عن الملة، لكنه الذريعة والسبب الذي يوصل إلى الكفر الأكبر، ويقود إليه بأسرع طريق، كما ذكرنا أن النفاق الأصغر يقود ويؤدي إلى النفاق الأكبر، وربما يقود صاحبه إلى الاستهزاء والسخرية فيزول إيمانه، وكذلك ترك هذه الواجبات العظيمة -خاصة هذه الأركان- هو ذريعة إلى الشرك الأكبر والكفر الأكبر، فلا يستهينن إنسان بترك ذلك.
فإن ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج عند أهل العلم أغلظ وأشد من الزنا وشرب الخمر، فصلاة واحدة يتركها الإنسان حتى يضيع وقتها بالكلية أعظم ذنباً من أن يزني ولو مرات، وأعظم من أن يقتل النفس، وأعظم من أن يشرب الخمر ويسرق باتفاق العلماء؛ لأنهم -والعياذ بالله- يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال.
وكذا من أفطر عامداً في رمضان من غير عذر ولا مرض فإنه -والعياذ بالله- يشك في إسلامه أيضاً، ويظن به الزندقة والانحلال من الدين، وجريمته أغلظ من الزنا والقتل والسرقة وغيرها، وكثير من الناس يستهين بذلك، وما دروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، وليس ذلك خاصاً بالعصر وحدها، ولكنها الصلاة الوسطى المؤكد على أهميتها، والذي يظهر أن من فاتته صلاة مكتوبة حتى يأتي وقت التي تليها فقد حبط عمله كذلك، كما ثبت ذلك في حق من ترك صلاة حتى يخرج وقتها في بعض الروايات، وقد صححها غير واحد من أهل العلم، وهي (من ترك صلاة حتى يخرج وقتها فقد حبط عمله)، نسأل الله العافية.(14/9)
الإيمان بين الدعوى والحقيقة
كثير من الناس يستهين بالصلاة فلا يصليها في وقتها، ويظن ذلك غير قادح في إيمانه.
ولا شك أن الإيمان بالله يقتضي طاعته، وطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم جزء من الإيمان به سبحانه، فالإيمان قول وعمل، فحين يقول المؤمن: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فلا بد من أن يعلم أنه قد دخل في ذلك ما ذكرنا، وهو يجدد إيمانه، ويزيل ما علق به من صدأ ونقص، والمؤمن يصدأ إيمانه وقلبه، ويحتاج إلى جلاء، ومن أعظم ما يجليه ذكر الله بالقلب واللسان، قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
فدل ذلك على أن من الإيمان ما هو إيمان حقاً، ومنه ما هو دعوى غير صحيحة لا يكون صاحبها مؤمناً إيماناً حقاً، وإنما هو مقصر أصلاً، فدل على أنه لا يكون مؤمناً إلا من جمع هذه الخصال.
ومنها أنه إذا ذكر الله وجل قلبه، واضطرب خوفاً من الله وشوقاً إليه وحباً وتعظيماً له سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] فهم يزدادون تصديقاً، وتدبراً وتفكراً، ومعرفة بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته، وحباً لله الذي أنزل هذه الآيات، وخوفاً منه عز وجل الذي يحذرهم عقوبته، ويرغبهم في جنته وثوابه والقرب منه، فيخافون فوق ذلك، ويخشون سوء الحساب، فالقرآن يذكرهم وآيات الله توقظهم، فهم يزدادون به إيماناً كلما تليت عليهم آيات القرآن، وتنفعهم الذكرى كلما ذكروا، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وهكذا.(14/10)
منزلة التوكل وثمراته
من صفات المؤمنين ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، فالتوكل من الإيمان، كالرأس للجسد بالنسبة إليه، فلا تحصل عبادة الله إلا بالتوكل عليه والاستعانة به، ولذا جاء في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت)، مع أن التوكل داخل في الإسلام والإيمان، ولكن ذكر مستقلاً تأكيداً على أهميته، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:84 - 86].
فدل ذلك على أن الإيمان والإسلام لابد فيهما من التوكل، فلا يكون الإنسان مسلماً مؤمناً إلا بالتوكل على الله، فالإسلام والإيمان يتضمنان التوكل، ومع ذلك خص بجملة مستقلة تنبيهاً على شرفه وتعظيماً لقدره، وذلك أنه لا ينال العبد حقيقة العبودية وحقيقة الإيمان والإسلام إلا بأن يستعين بالله ويتوكل عليه، ويعلم أنه لن ينال الخير إلا به، ولا قوة له إلا به سبحانه، وأن ما به من نعمة -وأعظم نعمة هي نعمة الإيمان والإسلام- فمن الله، ولذا يتوكل عليه في تحصيلها، وفي زيادتها وتثبيتها، وفي لقاءه الله عز وجل بها، فبهذا يصح له
السؤال
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وبتحقيق التوكل يصح له قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
وإذا زال التوكل على الله زالت العبادة والإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالتوكل وإن كان من أعمال القلوب إلا أن له أثراً في سلوك الإنسان وفي كل شئون حياته.
فالتوكل يثمر للإنسان الخوف من الله وحده، ورجاؤه دون من سواه، والرغبة فيما عنده، فلا يرغب فيما عند الناس ولا يعبأ بهم، بل يصغرون في عينيه، وبه يعرف حقيقة قدرهم، ويوقن بأنه لا قوة إلا بالله، فتعمل الأعمال خالصة لوجه الله لا للناس، فلا يرجوهم المتوكل على الله ولا يخافهم ولا يتوكل عليهم، ولا يعتمد على أحد منهم، ويأخذ بالأسباب غير معتمد عليها، إنما مستعيناً بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، فهو يحرص على ما ينفعه غير مستعين بأحد سوى الله، فلا يتوكل إلا عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وكل هذا من التوكل على الله عز وجل، ويعلم المتوكل عليه سبحانه أن الأسباب لا تضر ولا تنفع، وإنما ينفع ويضر ربها وخالقها ومدبر الأمر سبحانه وتعالى، فعند ذلك لا يثق قلبه إلا بربه عز وجل.(14/11)
ميادين التوكل
ولا يتوكل العبد إلا على ربه في جلب مصالح آخرته أولاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ويتوكل على الله في جلب مصالح دنياه ثانياً، فهو يتوكل على الله في صلاح نفسه، وصلاح أهله وأولاده، وفي أمر رزقه، وفي دفع أعدائه، وفي شفاء أمراضه، وفي تحقيق مصالحه، وأعظم من ذلك التوكل على الله عز وجل في صلاح دين الخلق ونصرة الإسلام، وهو توكل الرسل وأتباعهم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في نصرة الدين، وصلاح العباد حتى يحققوا له العبودية في الأرض، فينجوا عنده عز وجل.
فالمؤمن الصادق يتوكل على الله في صلاح نفسه وصلاح غيره من الخلق، ويتوكل على الله في نصرة الإسلام حتى يظهره الله عز وجل، كما قال الرسل لأقوامهم الذين آذوهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، وحكى الله عز وجل عنهم قولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].
فالله سبحانه وتعالى جعل توكل الرسل في ثباتهم على الحق، وصبرهم على أذى قومهم حتى ينصرهم الله عز وجل، ويستخلفهم في الأرض، ويمكنهم من الذين ظلموا، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:13 - 15] أي: دعت الرسل ربها بالفتح، أي: بالحكم بينهم وبين قومهم، وهذا من كمال التوكل على الله، فهم يعلمون أن الله يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأنه سبحانه وتعالى الذي يؤيد رسله وأتباعهم بما شاء من أنواع القوة، فهم لا يعتمدون على قوتهم ولا عددهم ولا عدتهم، وإن كانوا يأخذون بما أمروا به من ذلك شرعاً، كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60].
لكن يعلمون أن الأمر ليس بأيديهم ولا بأيدي من خلفهم، وإنما الأمر لله، والغيب له سبحانه وتعالى وإليه يرجع الأمر كله، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.(14/12)
علامات صدق التوكل
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن من علامات صدق التوكل على الله: أن لا يفرح الإنسان بإقبال الأسباب، وأن لا يضطرب عند فقدها، بل يكون ساكناً، أي: قد نزلت عليه السكينة من الله عز وجل لإيمانه وتوكله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه المشركون وهو في الغار، حيث قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وحين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
ومع أن مواقف الشدة واجتماع الأحزاب وتكالب الأعداء تجعل أكثر القلوب في خوف وهلع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة المؤمنين الكمل معه الذين أنزل الله سكينته عليهم كانوا في حالة أخرى، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
وهذا الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان قمة شامخة، وفاض من قلبه من السكينة التي أنزلها الله عليه وعلى قلوب أصحابه ما سكنهم وثبتهم الله عز وجل به، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وذلك في مرات عديدة في مواطن الشدة، وهذا أمر عجيب، حيث يكون اجتماع الأعداء، إحداق الخطر، وتجد الأسباب كلها تقتضي هلاك العبد، ومع ذلك ينزل عليه من السكينة ما يجعله لا يعبأ بالخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وفي ليلة الأحزاب، وفي فرار الناس عنه يوم حنين، وفي يوم الحديبية يوم البيعة حين بلغه أنه قد قتل عثمان، في ذلك كله نزلت عليه سكينة، وأفاضها الله تعالى على قلوب أصحابه، بل تفيض على قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، فإن من سمع هذه المواقف وتدبرها نزلت عليه سكينة من الله عز وجل، فينزل الله عز وجل السكينة في قلوب المؤمنين بمعرفة مواقف الرسل الكرام، وانظر وتأمل في مواقف موسى في مواجهة فرعون، فإن فعلت تنزلت عليك السكينة؛ لأن موسى صلى الله عليه وسلم أيده الله بقوله: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وهو سبحانه وتعالى مع المؤمنين أيضاً عند كمال التوكل عليه، واستحضار معيته عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومعل كلمته، فهذا كله يجعل الإيمان يستقر في القلب، ويجعل السكينة تتنزل، فلا يحصل اضطراب عند إدبار الأسباب المحبوبة، ولا يحصل فرح عند إقبالها، ولا يحصل خوف ولا قلق عند وجود الأسباب المكروهة، بل يوقن العبد أن الله آخذ بنواصي العباد، وبذا يغري أعداءه بأن يفعلوا ما يريدون، كما قال هود عليه السلام {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].(14/13)
حقيقة التوكل
إن التوكل ليس مجرد كلمة تقال، وإنما هو إحياء وتذكير باللسان للمعنى الذي لابد أن يكون مستقراً في القلب.
وإذا أردت أن تعرف صدق التوكل فانظر إلى مسألة السكينة، وانظر إلى الطمأنينة في ذكر الله، واستشعار ضعف العباد وعجزهم عند قدوم الأقدار، فإذا وجدت هذا الأمر حاصلاً فستسعد سعادة الدنيا والآخرة، وستجد نفسك مطمئناً ساكناً، والدنيا حولك تموج وتضطرب ولا قلق عليك، فإذا كنت لا تقلق من هذا فأنى يصيبك ضرر مما دونه؟! وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبئون بما يصيبهم وهم يجدون روائح الجنة، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بما يقع حولهم من أهوال تشيب لها الولدان، ويفر من يفر بسببها وهم في فلكهم.
كحال أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه الذي قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وجعفر بين أبي طالب الذي قتل وما به جرح في ظهره، بل كل جروحه في مقدمته رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه ولم يعبأ بذلك، تقطع يده فيمسك الراية بيده الأخرى، فتقطع فيمسكها بعضديه حتى يقتل شهيداً رضي الله تعالى عنه.
وهكذا مصعب بن عمير يقتل دون اللواء، ولا يسقط اللواء إلا بعد موته فيرفعه غيره.
كانوا لا يعبئون بما يقع حولهم، متوكلين على الله عز وجل لنزول السكينة والطمأنينة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وإذا وجدت اضطراباً وفزعاً فعند ذلك اعلم أن التوكل يحتاج إلى تجديد، وأن الإيمان يحتاج إلى جلاء، ويحتاج إلى إزالة الأمراض من القلب بشهود ملك الله وتدبيره وعزته وقهره، وأنه عز وجل هو الآخذ بناصية كل شيء، وأنه {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
وأن العباد لا يملكون دقات قلوبهم، ولا نبض عروقهم، ولا يملكون جريان الدم في هذه العروق، ولا يملكون حركة ولا سكوناً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يهبون ذلك لغيرهم؟! كما قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، فإذا وقع الاضطراب والفزع فإن التوكل يحتاج إلى تجديد الشهود لتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، أي: تحقيق الإيمان والإسلام، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) فهنا يصح التوكل على الله عز وجل، وتحقيق الإيمان يكون بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن جلاء القلوب بترك الذنوب؛ فالذنوب هي التي تغشي القلب وتعميه وتصمه حتى لا يرى ولا يسمع الحقائق الإيمانية ولا يشعر بها، ولا يجد طعمها ولذتها، فلكثرة الذنوب لا نجد لهذه الحقائق الإيمانية تطبيقاً في الواقع، بل نجد رعباً وهلعاً وخوفاً وفزعاً، نسأل الله العافية، فإذا كان الأمر كذلك احتاج الأمر إلى الإنابة، فنسأل الله أن يجعلنا منيبين إليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(14/14)
المستقبل لهذا الدين
يواجه المسلمون اليوم حرباً شعواء على دينهم في أطراف الأرض، وهذه هي سنة الله تعالى في هذا الوجود، إلا أنه تعالى قد جعل للمسلمين ما يخفف عنهم وطأة هذه البلوى، فهناك نصوص عظيمة تحمل البشارات إليهم بتحقيق موعود الله في التمكين لدينه، وهي كثيرة متنوعة، تجمع كلها على أن العاقبة للمتقين، وفي ثناياها شروط هذه العاقبة المباركة، وهي الإيمان والعمل الصالح وتحقيق الولاء والبراء، وبغير ذلك لن يجني أهل الإسلام ثمرة هذا النصر المرتقب العظيم.(15/1)
بشارة الله بنصر المؤمنين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد: فامتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى الذي أمر به موسى صلى الله وعليه وآله وسلم حين كثر أذى فرعون وقومه لموسى ومن معه فقال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] هذا الأمر من الله وهو قوله تعالى (وبشر المؤمنين) وبشر المؤمنين امتثالاً له نذكر ما وعد الله عز وجل به هذه الأمة من الرفعة والسناء والتمكين في هذه الأرض، وأن الله عز وجل سيورثها هذه الأرض بقدرته وهو العزيز الحكيم، وهو العزيز الرحيم، وهو القوي المتين، ولا حول ولا قوة إلا به، فهو العزيز المقتدر يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بيده الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أمره سبحانه وتعالى في ملكه نافذ، لا يحتاج إلى تثنية وتكرار {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] فهو أسرع مما يتصور الناس وإنه عز وجل قد وعد هذه الأمة وعوداً وبشرها ببشارات لم تكن لأمة قبلها، فرسولها هو البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم أرسله ربه {َمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46].
فعندما تشتد الظلمات، وعندما تجتمع القوات، وعندما تحيط بالمسلمين الأحزاب والأجناس نستبشر بأمر الله سبحانه وتعالى ونستيقن بوعده، فإن ذلك من أعظم أسباب النصر والفرج والتمكين بإذن الله، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وأمر الله عز وجل بتبشير المؤمنين نابع من اليقين بوعده حتى تستيقن القلوب وتستبشر، إذ إن أشد ظلمات الليل ما يكون قبل الفجر، والله سبحانه وتعالى جعل المبشرات من كلامه سبحانه عز وجل {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
وهو سبحانه جعل المبشرات كذلك بأن المستقبل لهذا الدين من كلام نبيه الكريم صلى الله وعليه وآله وسلم، وجعل الله سبحانه وتعالى أكثر هذه المبشرات عندما يزداد الظلم على أمة الإسلام، وعندما يطغى العدو الطغيان البالغ، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129].
فالله سبحانه وتعالى عندما جعل هذه البشارة من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه في صيغة العموم لم يجعلها قاصرة على زمنه ومكانه وقومه، بل قال: ((إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [الأعراف:128].
وهذا عموم لا يقبل التخصيص لزمن أو لأمة من الأمم، لا يمكن أن يكون خاصاً بوقت دون وقت، بل في كل اللحظات في كل العصور الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعبرة بمشيئته عز وجل وأمره النافذ.
(والعاقبة للمتقين)، وهي إشارة من موسى صلى الله عليه وسلم بل وأمر لكي يحققوا التقوى، وأن يكثروا من القرب من الله عز وجل، وأن يتقوا مساخطه وما يغضبه، ومن أعظم ما يغضبه سبحانه وتعالى موالاة الكافرين، والدوران في فلكهم، والرضا بكفرهم، والخضوع لما يطلبونه من الباطل والعياذ بالله.(15/2)
محاولة الكفار القضاء على دين الإسلام
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25 - 28].
فهذا موجب لحبوط العمل، وهو طاعة الكافرين الذين يكرهون ما أنزل الله في بعض الأمر {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
وصدق الله عز وجل، فقد بدت البغضاء من أفواه القوم للإسلام بدت في فلتات ألسنتهم، وهم يحاولون إزالتها بكل طريق، ولكن ما تخفي صدورهم أكبر، ولو حلفوا ألف يمين أنهم يحبون الإسلام، وأنهم لا يريدون به بأساً لكفانا ما في كتاب الله سبحانه وتعالى عما في قلوبهم، وهو عز وجل العليم الحكيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، يعلم سبحانه وتعالى ما تكنه صدورهم وما يعلنون.
فهو الذي أخبرنا عما في إرادتهم من إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 33].
فالله سبحانه وتعالى بين ما في قلوبهم من إرادة فاسدة نجسة خبيثة لإطفاء نور الله، ولكنه بين عجزهم التام عن ذلك؛ فإنه كما لا يمكن أن تطفئ الأفواه نور الشمس فأولى بها ألا تطفئ نور الله عز وجل، فهذا الدين يحتاجه الناس أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل أشد من الهواء والماء والنفس الذي يتنفسونه، فهم يحتاجون إلى الدين لحياة قلوبهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وإن الشقاء الذي في العالم اليوم إنما حدث بسبب الفساد الذي ظهر في البر والبحر لما ظهر أهل الكفر والنفاق على المشارق والمغارب، فملئوا الدنيا فساداً وطاعة للشيطان تخالف ما جاءت به رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، ولو انتسب بعضهم إلى بعض الرسل، فهم في حقيقة الأمر مكذبون بهم، وهم أعداء لهم، إذ خالفوا ما جاءوا به من توحيد الله سبحانه وتعالى وتصديق كل رسول يأتي بعدهم خاصة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهم يكذبونه ويعادونه، ويعادون أولياءه.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى من المبشرات أنه أبى أن ينطفئ هذا النور، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، وهذا من أعظم البشارات، فالكافرون يكرهون ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وهذه صفة فعلية، حيث يأبى الله إلا أن يتم نوره، ومن يقف بإرادته أمام إرادة الله؟! والله سبحانه وتعالى نافذ أمره وحده لا شريك له، ولا قوة إلا به عز وجل، قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] أي: والدين الحق، لا هدى خلاف هذا الدين، ولا حق سواه، فالإسلام هو الحق، لا دين عند الله عز وجل غيره، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(15/3)
دين الله منصور لا محالة
دين الله عز وجل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المنصور، ولا يمكن أن يظهر في نهاية المطاف وفي عاقبة الأمر دين غيره، فالذي يظهر هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج الجماعة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأي بدعة أو انحراف أو تبديل للدين لن يكون له الظهور بإذن الله، وأي محاولة لتشويه صورة الإسلام، أو لإقناع المسلمين بترك بعض هذا الدين، أو أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض لكي يوافقوا أغراض الكفرة والمنافقين، ويتركوا التزامهم بما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ أي محاولة لذلك لن تفلح، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] فعملهم في ضلال، وهذه مبشرة من المبشرات، فلا بد من أن يخطئ الهدف ذلك الذي ضل وتصور تصوراً باطلاً مخالفاً للحقيقة ومخالفاً لما يوجبه الله عز وجل، فالله أضل أعمالهم، وجعل سعيهم في ضلال، وجعلهم يقصدون أهدافاً فلا تحقق، ويتصورون موازين معينة بالقوة والبقاء فلا تقوم هذه الموازين ولا تنطبق، وتتغير بقدرة الله سبحانه وتعالى.(15/4)
محاربة الكفار للمسلمين لانتسابهم للإسلام
لقد جرب أعداء الإسلام مرات عديدة وحاولوا أن يمحوا اسم الإسلام بالكلية، وكم من مرات قتلوا فيها من المسلمين، الملايين لمجرد انتسابهم فقط إلى هذا الدين، وربما كان بعضهم لا يعلمون منه إلا كلمة (لا إله إلا الله)، ولقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (يأتي على الناس زمان لا يدرون ما صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن أقوام يقولون: لا إله إلا الله، وجدنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها).
ولقد أخبرني بعض إخواننا الذين ذهبوا إلى كثير من الشعوب المسلمة التي رزحت تحت الاحتلال الشيوعي الكافر سنيناً طوالاً أنه سأل صبيان المسلمين الذين لا يعرفون إلا اسم الإسلام، ولا يعرفون إلا كلمة التوحيد، سألهم: من نبيكم؟ فقالوا: المسيح! فهم لا يعرفون نبيهم محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأخبرني رجل ذهب إلى هناك أن امرأة عرفت أن اسمه محمد فقالت له: أأنت مسلم؟ فقال: نعم، وأنت مسلمة؟ فقالت: نعم.
قال: كيف ذلك؟ قالت: آباؤنا وأجدادنا كانوا يقولون: (لا إله إلا الله)! لا يعرفون غير هذه الكلمة، ومع هذا قتل منهم الملايين! وتأمل بعض ما نقل من أخبار في غمرة أحداث المسلمين المؤلمة، فقد قتل الصينيون الشيوعيون كثيراً من المسلمين في التركستان الشرقية، ذلك الإقليم الرازح تحت الاحتلال منذ أكثر من مائة سنة، احتله الصينيون بالمذابح، وقتلوا إرضاءً لأسيادهم بعض هؤلاء المسلمين بعد أن سقوهم الخمر وأطعموهم الخنازير والعياذ بالله، وطافوا بهم في الطرقات من أجل إرضاء الغرب كما يزعمون.
لقد أصبح المسلمون قرابين يضحى بها من أجل مجرد الاسم فقط، ومع ذلك وجدوا أن الإسلام لا يمكن أن يموت، بل ينبت من جديد من تحت تلك الأرض التي أحرقوها، وإذا به ضارب بجذوره في كل بقاع الأرض.
ولذلك هم يحاولون محاولة أخرى لأن يتغير هذا الدين على ما يوافقون، فيقولون: دعوهم على اسمهم، فسوف يقاتلون بكل ما يملكون من قوة دفاعاً عن هذا الاسم، فلا تحاولوا إثارة ذلك، ولكن غيروا تصورهم عن هذا الدين حتى يوافق ما يريده الكفار! والله تعالى ما وعد بظهور اسم الإسلام فقط، بل وعد سبحانه بظهور الهدى ودين الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].(15/5)
أهمية العلم بالدين والعمل به في مواجهة الحرب على الإسلام
ولذا يجب على المسلمين أن ينتهزوا الفرصة فيتعلموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء بها، فما هو الذي يمنع شباب المسلمين من أن يحفظوا القرآن كله؟! وما يمنعهم من أن يتعلموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتعلموا التوحيد والفقه والتفسير؟! فهذه كلها علوم موفرة بحمد الله لمن كان عنده همة وعزيمة لحفظ هذا الدين وبقائه نقياً كما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك من أعظم ما يكون غصة في حلوق الأعداء لا يمكن أن تبتلع، وكالحجر الأصم الصلب الذي لا تمضغه الأضراس مهما أوتيت من قوة، بل هو الذي يكسر الأضراس التي تريد أن تمضغه، وهو الذي يرغمها على أن تلفظه.
وأما انحراف الناس في فهم الدين فهو أيسر طريق إلى أن يمضغ الدين فيكون مثل اللبان الطري الذي يشكل على ما تريده الأضراس ثم يبتلع بعد ذلك، ويكون لقمة سائغة إذا لم يكن أهل الحق ثابتين عليه، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم القلوب في آخر الزمان فقال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفاء) أي: مثل الصخر نقياً جداً، في صفاء ونقاء الزجاج وفي صلابة الصخر (لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
فالهوى يحركه بحيث يرى الحق اليوم شيئاً ويراه غداً عكسه بالكلية، وهذه الظلمة في القلوب يجلبها الظلم، وكلما اشتد الظلم زادت الظلمة حتى يكون المرء أشد عمىً من الأعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فيقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، ويرى الأمر اليوم منكراً وغداً يصبح معروفاً، وبالأمس كان باطلاً فأصبح اليوم حقاً، وكان ظلماً وصار اليوم عدلاً، وهكذا دائماً يكون من كان في قلبه ظلمات الجهل والضلال والعياذ بالله، وهو قلب أسود مرباد قذر نجس فيه الإرادات الفاسدة، وهذه صفة اليهود والنصارى، فاليهود عندهم الإرادات الفاسدة، والنصارى عندهم الضلالات الفاسدة والعياذ بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون).
وكل منهم يجمع الغضب والضلال، ذلك أن اليهود علموا الحق وأعرضوا عنه، والنصارى لم يعلموا الحق أصلاً، فالذي قلبه أسود مرباد جمع الصفتين: أسود فهو بظلمات الضلال مرباد قذر، وذلك بفساد الإرادة، فعنده الغي والضلال المنزه عنه أهل الإيمان أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مدحه الله فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، فليس هناك ضلال ولا غي، وإنما هو اعتقاد صحيح وعلم ظاهر نافع حقيقي، وإرادة فيها الإخلاص لله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فأمر بالمبادرة بالأعمال قبل فتن كقطع الليل المظلم يحتار فيها كثير من الناس، إلا من سبق بالعمل الصالح حتى يتضح له الحق، ويظهر له النور بإذن الله تبارك وتعالى من وسط ظلمات الجهل.(15/6)
مبشرات قرآنية بأن المستقبل لهذا الدين(15/7)
البشارة بنصر الله تعالى لرسله والذين آمنوا
المبشرات تملأ كتاب الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] فليس هذا وعداً خاصاً بالرسل، فقد نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنتم -يا أهل الإسلام- موعودون بالنصر مثلما نصرت الرسل إذا حققتم الإيمان، والإيمان قول وعمل ونية واعتقاد وسلوك وخلق، تحقيق لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتزام صادق، وهذا الذي يجب أن نقدمه للإسلام، فإذا كنا نعجز عن أن نقدم للإسلام أنفساً أو أموالاً فإننا لا نعجز عن أن نقدم قلوباً سليمة بتوفيق الله، فنحن نستطيع أن نقدم الشخصية المسلمة في كل واحد منا يحقق التزامه الصادق بالإسلام، ويكون داعياً إلى الله سبحانه وتعالى بسلوكه وعمله وقوله ودعوته، فيبلغ الحق للناس، وإذا رأوه ملتزماً التزاماً صحيحاً، فإن ذلك من أعظم ما يجذبهم إلى الدين.
وإن الظلم والطغيان والعدوان مما يغير الله به القلوب تغييراً عجيباً إلى الالتزام بالدين خاصة إذا كان الظلم من أجل أنه مسلم، أو من أجل أن المسلمين أعلنوا كلمة الحق والتوحيد والدين ورايتهم الإسلامية وما نقم منهم غير ذلك، وما أخذ عليهم غير ذلك في الحقيقة، وإن زعم الظالمون بغير دليل ولا بينة أنهم نالوا منهم شيئاً، وليس عندهم أدنى دليل، والناس يقولون في العالم كله: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، إلا في موازين القوم المجرمين الظالمين، فإن عندهم أن المتهم يستحق الإحضار حياً أو ميتاً بدون أن يثبت أي دليل للإدانة، وإنا لنعجب من هذا الظلم الذي صارت قلوب الملايين تقبله وتقر بمشروعيته، وتسمي ذلك إقامة للعدالة، وبالغوا هم في ذلك فنسبوا لأنفسهم صفة الربوبية فقالوا: هذه هي العدالة المطلقة نعوذ بالله! فالظلم المطلق الأكبر يسمى العدالة المطلقة! عجباً للقوم! لكنها موازين الأرض الفانية، فالقوة عندهم هي الحق وهي العدل، والذل هو الذي يجعل الإنسان مقهوراًً مغلوباً، والمنتصر هو صاحب الحق مهما كان مبطلاً وظالماً وطاغياً، ولو كان مثل قاطع الطريق بل أسوأ فإنه صاحب الحق عند القوم، هذه موازينهم.
أما أن يكون الحق بميزان شرع الله سبحانه وتعالى الذي لا حق سواه فهذا عندهم لا يصح، وكم من راض في المشارق والمغارب بالظلم والعدوان وهو جالس في بيته! وإن لم يشارك إلا بهمته فإنه محصور مع الظالمين وهو تابع لهم، والعياذ بالله.
فما يفعله الظالمون والطغاة والكفار عند هؤلاء القوم هو من العدل والحق ومما ينبغي أن يعان عليه، نعوذ بالله من ذلك، فالإعانة على الظلم ظلم، وربما كان الإنسان معيناً للظالم بهمته دون أن يكون معيناً بماله أو نفسه، فإذا كان معيناً بماله ونفسه وأمره وقوله وفعله فهذا -والعياذ بالله- حكمه حكم الظالم ومصيره عند الله سبحانه وتعالى كمصيره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].
وهذه من البشارات، فإن (عسى) من الله واجبة.(15/8)
البشارة بغلبة حزب الله تعالى
وعندما يخشى المنافقون أن تصيبهم دائرة لأجل ذلك يوالون اليهود والنصارى ويصرحون بذلك بألسنتهم، فعند ذلك يتحقق وعد الله إذا حققنا نحن الإيمان وكنا من حزب الله سبحانه وتعالى الذين قال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ َ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
فإذا حققنا ما أمر الله عز وجل به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56] فإذا حققنا ذلك سنكون حزب الله الغالب.
وهذه بشارة مستقلة، فإن حزب الله هم الغالبون، كما قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].(15/9)
البشارة بخسارة حزب الشيطان
وقد بين سبحانه وتعالى في بشارة أخرى مستقلة أن حزب الشيطان هم الخاسرون، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:14 - 15].
قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:18 - 19].
فالكفرة والمنافقون فريق واحد، والذين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم المنافقون الذين تولوا اليهود، فـ عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين هو الذي والى اليهود ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فبشر الله عز وجل المؤمنين بأن حزب الشيطان خاسرون، وقال سبحانه وتعالى في ذلك أيضاً: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، أقسم الله لأغلبن أنا ورسلي، وذلك -كما ذكرنا- ليس للرسل فقط، بل غلبة الرسل إنما تكون كذلك بغلبة أتباعهم بأن ينتصر أتباعهم كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وليس ذلك فقط في الآخرة، ولكن في الدنيا والآخرة {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(15/10)
البشارة بهزيمة اليهود والمنافقين
والله سبحانه وتعالى بشر المؤمنين ببشارات متعددة، قال عز وجل: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12].
وهذه بشارة مستقلة، وهي قوله تعالى: ((ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)) وتأمل (ثم) في هذا الموضع، فهي تقتضي نوعاً من التراخي، وذلك لنزول الابتلاء، وأن الله عز وجل يبتلي عباده، وقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للابتلاء، كما في الحديث: (وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).
فالله بعثه ليبتليه ويبتلي به، فجعله فرقاناً بين الحق والباطل، وبناءً على ذلك الابتلاء فالله عز وجل يفرق بين أهل الحق المتابعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تكتب لهم الرحمة، والذين يكتب لهم الرضوان، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
فالفلاح في اتباع النور الذي أنزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الكتاب والحكمة القرآن والسنة، ففي هذا يكون الفلاح، وفي غيره يكون الخسران، فالله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، فمن اتبعه كان محقاً ومن خالفه كان مبطلاً ذليلاً عند الله، ولا بد من أن يذل الله من عصاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).(15/11)
البشارة بعزة المؤمنين وعذاب المنافقين وضلال سعي المجرمين
قال الله عز وجل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا * أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139].
وكل هذه مبشرات؛ لأن الله له العزة، وقد جعلها لعباده المؤمنين، قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
ولذلك فإن الاعتزاز والتعزز إنما يكون بهذا الدين بطاعة الله عز وجل كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فإن كنت تريد العزة فعليك بالكلم الطيب، وعليك بالعمل الصالح، وأما مكر السيئات فقد قال الله تعالى عن أهله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، وكل هذه المبشرات قد تكررت عشرات المرات في كتاب الله عز وجل بأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله وأنه يبور ويبطل، ويضل سعي أهله ويبطل مكرهم وكيدهم، ويتحلل ويزول، ولا يتحقق غرضهم، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47] فالله عز وجل جعلهم في ضلال فلا بد من أن يضلوا، ولا بد من أن يشقوا وأن يعذبوا، فقلوبهم فيها من أنواع السعير والنار ما يجعلهم يوم القيامة في النار.
وقال سبحانه وتعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال سبحانه: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
ولا بد من أن نوقن بذلك، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينََ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:137 - 139].
وهذه كلها مبشرات عظيمة {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ َ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]، فلا بد من أن يمحق الله الكافرين، وإنما يمحص المؤمنون مدة ثم تكون لهم العاقبة، وهكذا الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أعلى وأجل، وكلمة الله هي العليا.(15/12)
علو كلمة الله ورجوع الكافرين بالحسرة والبوار
والله قد وعد بأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى، قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
ومقتضى عزته وحكمته أن يسفل كلمة الكافرين، وأن يعلي كلمته عز وجل بفضله وبرحمته وبعدله عز وجل، ويمحق الكافرين ويذلهم لخلافهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:36 - 40]، نعم المولى يتولى أمر المسلمين، فإذا قيل: من للمسلمين يتولى أمرهم وقد تخلى عنهم القريب والبعيد ولا يوجد من يحميهم ولا يوجد من يؤيدهم؟ قلنا: يتولاهم ربهم عز وجل ((نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ))، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
وكم تبلغ الكرة الأرضية في هذا الكون الواسع؟! وكم حجمها في هذا الوجود؟! فأمر الله عز وجل فيها نافذ وهي كذرة، كما قال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فالسموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذين كفروا ينفقون أموالاً كثيرة، وما أنفقوا في أمر من الأمور مثلما أنفقوا في الحرب ضد الإسلام وأهله والإعداد للإسلام وأهله، ومع ذلك فإنهم سينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ لأنهم يجدون غير ما يريدون، ويتحقق عكس مقصدهم، فهم يريدون إضلال الناس والله يهديهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فهم يريدون إضلال الناس فيهديهم الله، ويريدون هزيمة الإسلام فينصره الله، ويريدون إذلال المسلمين فيعزهم الله، وكفى بربك عز وجل هادياً ونصيراً، ولذا يتحسرون، كما قال تعالى: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، وكل ذلك فيه بشارة، فإن حسرتهم هي في عدم تحقق مقاصدهم، ثم يغلبون في النهاية، وتأمل (ثم) هنا، فسوف يتحقق الأمر وإن طال المدى.(15/13)
الحكمة في ابتلاء المؤمنين
وإن قتل من قتل من المسلمين فذلك لكي ينالوا المنازل العالية الرفيعة، ولينالوا الشهادة عند الله، فالله يريد أن يتخذ شهداء يضحون بأنفسهم في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى يريد تمحيص المؤمنين، ويريد إظهار النفاق، يريد أن ينجم ويظهر لكيلا يبقى عند الناس شبهة، ويظهر في الناس معسكر إيمان لا نفاق فيه، ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، لكي يقدم من يقدم على نصرة الكفر وأهله على بينة، ولكي يحيا من حي بالإسلام على بينة، ويهلك من هلك عن بينة، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم له الحمد، وما يقدره من أمور تكرهها النفوس فإنه يجعل من ورائها خيراً كثيراً، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
وقال سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
إنَّ الله سبحانه جعل عاقبة الكفار أن يُغلبوا ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) فلماذا قدر الله ذلك؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا} [الأنفال:37 - 38] أي: إلى الكفر والظلم والعدوان {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].(15/14)
سنة الله في المتجبرين والمستضعفين
لله سنن ماضية في عاقبة الظلم والطغيان والجبروت والعدوان، وإرادة الله سبحانه وتعالى كسر الجبارين وأن يمكن للمستضعفين ماضية، كما قال تعالى في شأن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:4 - 6].
وعندما ولى عمر رضي الله عنه عماراً على بعض البلاد ثم عزله سئل: لماذا فعل ذلك؟ فقال: أردت أن يتحقق قول الله: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ)).
فهذه الآية ليست خاصة ببني إسرائيل، بل إن إرادته تعالى في المن على المؤمنين المستضعفين ماضية، وهي ليست خاصة بزمن دون زمن، ولذلك قال سبحانه: ((وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)).
ثم قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) أي: حتى لا يبقى شرك يظهر ((وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)) أي: يبقى دين الإسلام فقط هو الظاهر العالي، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ومن كان عندهم استعداد لأن يهبطوا فليسوا ممن يحملون راية الإسلام، فالله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين ظاهراً حتى في أشد فترات الانكسار، فعندما قال أبو سفيان: اعل هبل اعل هبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟! فقالوا: وبم نجيبه؟! فقال: قولوا: الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).(15/15)
أهمية الزاد الإيماني في زمن المواجهة
قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
وهذه آيات بينات من الله، والمسلمون يحتاجون إلى أن يسمعوها ويحفظوها ويوقنوا بما تضمنته، فالله تعالى يقول: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ولا بد من أن نزداد إيماناً ونزداد عملاً صالحاً، وليس ذلك في أرض يمكن أن تقع فيها مواجهة أو قتال، بل في كل أجزاء الأرض، فإن المواجهة -في الحقيقة- قائمة، فنحن نحتاج إلى أن نقرأ القرآن، وأن نصلي بالليل، وأن ندعو الله عز وجل بالأسحار، وبين الأذان والإقامة، ونزداد عملاً صالحاً ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وندعو إلى الله، ونبين الحق، ونتعلم العلم، ونعمل بما علمنا؛ لأن ذلك هو الذي يقربنا إلى الله، وكلما ازددنا إيماناً ازدادت دعواتنا أثراً، فيغير الله بها وجه الأرض، ويغير الله سبحانه وتعالى بها موازين القوى، وإن اليقين بلقاء الله والشوق إلى لقائه مما يغير الله به الموازين، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فاليقين بلقاء الله يجعل الموازين عند الناس تختلف، ويجعل شعورهم بقرب النصر أعظم، ولو كانت الفئة المسلمة قليلة؛ لأن ذلك لا يكون بعدد وعدة، وإنما بإذن الله سبحانه وتعالى.(15/16)
عجائب التمكين للإسلام
وآيات الله في السابق واللاحق موجودة ظاهرة، فكم من قوى عاتية تحطمت على صخرة الإسلام! وكم حاول الصليبيون وكم حاول التتار هدم الإسلام! وما حققوا شيئاً إلا علواً مدة من الزمن، ثم بعد ذلك هزمهم الله سبحانه وتعالى، وقهرهم وأذلهم بفضله وعدله وحكمته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) كما استخلف بعض رسله ومكن لهم بالدعوة والبيان وبالوحي الذي أنزله عليهم فآمن به الناس، كما آمن ليونس مائة ألف أو يزيدون، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148]، وإنك لتجد كفاراً في لحظات تحولوا إلى مناصرين للمؤمنين في مواقف كانوا يريدون عكسها، ولو تأملت ما جرى في أول الإسلام من تأييد الله عز وجل لمن أراد إكرامه بهذا الدين لوجدت عجباً، فهذا أبو جهل يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بـ حمزة رضي الله عنه يتغير في تلك اللحظة، فقد كان على دين قومه، فسمع أن ابن أخيه قد شتم، فيأتي إلى أبي جهل ويقول: أتسبه وأنا على دينه؟! ويضربه على رأسه، وأسلم من ساعته.
فانظر إلى هذا الموقف العجيب! لقد كان سب النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع من أبي جهل سبباً لإسلام حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعزه الله.
وكان عمر منطلقاً بسيفه يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيلقاه من يقول له: أختك وختنك قد صبأا، فينطلق وهو ممتلئ غيظاً إلى أخته وختنه زوج أخته لينظر ما عندهما، وكان عندهما من يقرئهما القرآن رضي الله تعالى عنهم، وإذا به في لحظات يجلس فيستمع ويتغير في نفس اللحظة، فانظر كيف يقلب الله القلوب، ويؤيد الله عز وجل الدين بمن شاء، وإذا بالإسلام يكتسب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في لحظات، مع أنه كان يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بعد ذلك دار الأرقم ليعلن إسلامه هناك رضي الله تعالى عنه.
وعندما كان أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يسمع أن مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يقرئان الناس القرآن انطلق وقد أخذ رمحه يريد أن يفتك بهذين اللذين قد سفها أحلامهم وعابا آلهتهم وآباءهم، فيقول له مصعب رضي الله عنه: اجلس فاستمع، فإن رضيته فذاك، وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فغرز رمحه وجلس يستمع القرآن، وكان أسعد بن زرارة قد قال لـ مصعب: أتاك سيد قومه، لو أسلم لأسلم من وراءه، فاصدق الله معه.
فانظر إلى قوله (فاصدق الله معه) فعندما يكون الداعية صادقاً في دعوته مع الله عز وجل يعامل الله عز وجل في الدعوة، ويراقب الله سبحانه وتعالى في كلامه ولا يلتفت إلى الناس، يجعل الله التأثير في دعوته، فغير الله قلب أسيد بن حضير أحد أولياء الله الصالحين وأحد فضلاء الأنصار رضي الله تعالى عنه.
فقال له مصعب هذه الكلمات، وقرأ عليه القرآن، فعرف الإسلام في وجهه قبل أن يسلم؛ لما فيه من البشر والسرور والانشراح، ذلك أن النور إذا دخل القلب انشرح ففاض على الوجه سعادة وسروراً وفرحاً بدلاً من الشقاء الذي كان عليه بالكفر.
ويتحول أسيد بن حضير إلى الإسلام، والقوم ينتظرونه في النادي، فيرجع وهو يفكر ويحتال لكي يسلم سعد بن معاذ الذي كان عنده من الغضب كذلك على أسعد بن زرارة ابن خالته وعلى مصعب بن عمير أشد مما عند أسيد بن حضير، فيرجع ويقول: إن أسعد بن زرارة هو ابن خالتك فاذهب أنت وقل لهما بأن ينصرفا أو يكفا عنك، فإنهما قالا: إن كرهت ما نقول كففنا عنك ما تكره، فذهب سعد بن معاذ ومعه حربته أيضاً، فقال له مصعب تلك الكلمات، وجلس واستمع القرآن فانشرح قلبه للإسلام في لحظات.
فالله سبحانه وتعالى يمكن لدينه بمن شاء، ويستخلف الأمة الإسلامية كما استخلف من قبلها، وبتلك الدعوة دخل الإسلام بيوت المدينة كلها بفضل الله عز وجل، وفتحت المدينة بالقرآن، لقد أسلم سعد بن معاذ ورجع إلى قومه وقد عرفوا في وجهه تغيراً، فقالوا: والله لقد جاءكم بوجه غير الذي ذهب به، فقال لقومه: إن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تدخلوا في الإسلام، فأسلموا في ساعتهم.
هكذا ينصر الله عز وجل الدين بقدرته سبحانه وتعالى، فلا تعجب ولا تستغرب من أن يتغير بقدرة الله عز وجل من في قلبه كراهية الدين إلى أن يكون ناصراً للدين، ويقذف الله في قلب من يحارب الإسلام -فضلاً عمن الخير في قلبه ضعيف- خيراً، ويجعل القوة التي كان يريد استخدامها ضد الحق في سبيله سبحانه وتعالى لنصرة الحق.
وقد استخلف الله عز وجل رسلاً من رسله بالقتال، كما مكن لـ يوشع بن نون بعد أن خرج ببني إسرائيل من التيه وأمر بالقتال فقاتل ونصره الله سبحانه وتعالى وفتح بيت المقدس على يديه، ومكن لداود كذلك، قال عز وجل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:251]، ومكن لسليمان بتلك القوة الهائلة العظيمة حتى خضعت له بلقيس مستسلمة لأمر الله وأسلمت هي وقومها لله رب العالمين مع سليمان لما رأوا من عظيم القوة التي أعطاه الله عز وجل إياها.(15/17)
صور من التمكين لدين الله تعالى
إن الله عز وجل يمكن لرسله بما شاء، وقد جمع الله لهذه الأمة أنواع التمكين كلها، فقد مكن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين في المدينة بالقرآن، وفي اليمن، وفي البحرين، وفي بقاع عديدة، ومكن الله بعد ذلك بأزمنة طويلة في أكبر بلاد الإسلام، فأندونيسيا ما دخلها الإسلام بالحرب والقتال، وإنما دخلها الإسلام بالسلوك الطيب والدعوة إلى الله عز وجل، وهناك تمكين بالسنان والقوة كما فتح الله مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وفتح على أصحابه رضي الله عنهم مصر، والشام، وفلسطين، والعراق، وبلاد ما وراء النهر، والمشارق والمغارب، وبلاد إفريقيا كلها إلى الأندلس فتحت بفضل الله عز وجل، وغلب المسلمون أضعافهم المضاعفة من الكفار في مواقع شريفة عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى آيات ومكن لعباده المؤمنين بذلك، ودخل الإسلام هذه البلاد، وما استطاع الكفار أن يقتلعوه منها إلى يومنا هذا، ومهما فعلوا فلن يضيع الإسلام بفضل الله سبحانه وتعالى، فهذه أمة لا تموت ودين لا ينهزم: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وقال: (حتى يقاتل آخرهم الدجال).
وقال: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين لا يضرهم من خالفهم وخذلهم)، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم وخذلهم).
وفي رواية: (ولو اجتمع عليهم من بأقطارها)، فعندما تجتمع كل القوى على الإسلام وأهله فذلك لن يغير من الأمر الذي قضاه الله عز وجل في التمكين لدينه بما شاء.
وقد مكن الله سبحانه وتعالى لرسله بآيات من عنده، كما أغرق فرعون بآية من عنده، ودمر قوم نوح بالطوفان، ودمر عاداً بالريح، ودمر ثمود بالصيحة، ودمر قوم لوط بأن جعل أرضهم عاليها سافلها، وجعل الله عز وجل تأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنواع من القدرة والقوة عجيبة، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
فيلقي الله في قلوب الأعداء الرعب بقدر عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151].(15/18)
والعاقبة للمتقين
قال الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، فمن شنأ النبي صلى الله عليه وسلم وأبغضه فلا بد من أن يقطع، ولا بد من أن ينقطع هو وأثره، ولا بد من أن يضمحل ويدمر، ذلك أن الله رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، كما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:1 - 6].
فلا بد من أن يأتي اليسر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
فلا بد من أن يأتي بعد العسر يسر، ولن يغلب عسر يسرين، وفضل الله عز وجل عظيم، والله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليملأ الأرض عدلاً بهذا الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم اكتب لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم احفظ دماء المسلمين وأعراضهم وبلادهم، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصرنا على من عادانا، ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.(15/19)
المفصل من السور
كان الصحابة رضي الله عنهم يحزبون المصحف ثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً وإحدى عشرة وثلاث عشرة والمفصل، فإن عدوا الفاتحة ضمن التحزيب بدأ المفصل بسورة الحجرات، وإن لم يعدوها بدأ المفصل بسورة (ق)، وقد سمي المفصل مفصلاً لكثرة الفصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم.(16/1)
كيفية تحزيب الصحابة رضي الله عنهم للمصحف وبيان المفصل منه
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي وائل قال: (جاء رجل يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله -يعني: عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه فقال: أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف: ألفاً ترده أم ياء: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] أو: (من ماء غير ياسن)؟ قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذه؟!) ففهم من هذا الرجل أنه متكلف، ولذلك زجره، ليس لأن السؤال عن القراءات مذموم، ولكن لأن هذا فيه تكلف، ثم قال: (إني لأقرأ المفصل في ركعة).
والمفصل من أول (ق) إلى آخر المصحف، أو من الحجرات إلى آخر المصحف على قولين؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحزبون القرآن ثلاثاً، وخمساً، وسبعاًً، وتسعاً، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، والمفصل، فكانوا يحزبون القرآن على سبعة أيام على طول السنة، فأكثر الصحابة كانوا يختمون القرآن كل سبعة أيام متواصلة، كما ذكر ذلك النووي في التبيان، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك على الدوام، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص كان من أجل أن يخف عليه بالليل يراجعه في الصباح، أي: كان يقرؤه في النهار ليخف عليه في الليل؛ من أجل ألا يغلط.
فكانوا يحزبون القرآن كالآتي: الفاتحة والبقرة وآل عمران، أو البقرة وآل عمران والنساء، فإذا عدوا الفاتحة فتكون سورة (الحجرات) هي أول المفصل، وإذا لم يعدوا الفاتحة من ضمن التحزيب فتكون (ق) هي أول المفصل، الأكثر على أن أوله (ق) والحزب الثاني يشمل سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، والذي يليه يشمل سبع سور، وهي: يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، والذي بعده يشمل تسع سور أولها الإسراء وآخرها الفرقان، والذي بعده يشمل إحدى عشرة: أولها الفرقان وآخرها (يس)، والذي بعده يشمل ثلاث عشرة من الصافات إلى المفصل، والحزب الأخير المفصل.
ذفالرجل قال لـ عبد الله: إني لأقر المفصل في ركعة، فقال عبد الله: (هذاً كهذ الشعر! إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) أي: أنك تقرؤها كأنك تقرأ شعراً أي: أنها قراءة سريعة.
وقوله: (إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم) التراقي: جمع ترقوة وهي العظم الذي في الرقبة، يعني: التي هي أصول الحنجرة، أي: أنه لم يتجاوز الحناجر، فالقرآن لم يجاوز حناجرهم، وهؤلاء هم الخوارج وكل من لم يتدبر، كما جاء في الرواية الأخرى.
قال: (ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع) وهذا هو المقصود: أن يقع القرآن في القلب، وأن أفضل الصلاة طول الركوع والسجود.
هذا مذهب عبد الله رضي الله تعالى عنه.
والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل طول القيام على السجود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أفضل الصلاة طول القنوت)، وقال عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فطول القنوت هو طول القيام.
وينبغي أن يكون الركوع والسجود قريباً من القيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
قال: (وإن أفضل الصلاة الركوع والسجود، وإني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن في كل ركعة.
ثم قام عبد الله فدخل علقمة في إثره، ثم خرج فقال: قد أخبرني بها).
وفي الرواية الأخرى قال: (ثم خرج علينا فقال: عشرون سورة من المفصل في تأليف عبد الله)؛ لأنه في بعض السور التي ستأتي ليست من المفصل في تأليف عثمان رضي الله عنه الذي هو المصحف العثماني الذي هو المصحف الموجود اليوم، أما في تأليف عبد الله في زمن عبد الله فكان يدخل بعض السور في المفصل.
وفي الروايات الأخرى قال: (إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنتين في ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات).(16/2)
حكم الإسراع بقراءة القرآن
عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعدما صلينا الغداة -أي: الصبح-فسلمنا بالباب، فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنية، قال: فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ قال: فدخلنا فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذن لكم؟ فقلنا: لا، إلا أننا ظننا أن بعض أهل البيت نائم.
قال: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، أنى ينامون في هذا الوقت؟ -ولذلك كره العلماء النوم بعد الفجر إلى الشروق- قال: ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت، فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح، حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، قال مهدي: وأحسبه قال: ولم يهلكنا بذنوبنا).
وهذا من أدب التابعين رضي الله عنهم؛ فإنهم دخلوا على عبد الله بن مسعود فتركوه يسبح، ولم يقطعوا عليه التسبيح، بل تركوه حتى أذن لهم بالكلام.
وهذا دليل على فضل التسبيح والذكر في هذا الوقت -حتى على قراءة القرآن- حتى تطلع الشمس، فالذي لا يجلس في المسجد يجلس في البيت؛ لأن عبد الله بن مسعود كان في بيته.
قال: (فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كله، وهو نفس الرجل الذي قال: قرأته، قال: فقال عبد الله: هذاً كهذ الشعر؟! إنا لقد سمعنا القرائن، وإني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمانية عشر من المفصل، وسورتين من آل حاميم)، وهذا على تأليف ابن مسعود.
وسمي المفصل من أجل كثرة الفصل بين سوره ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: باب ترتيب القراءة، والقراءة بتمهل، واجتناب الهذ وهو الإفراط في السرعة، فتجنب الإفراط في السرعة، وإباحة سورتين فأكثر في ركعة، أي: استحباب هذه النظائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب فيها.
وقال في قول ابن مسعود لمن سأله: (آسن أو ياسن): هذا محمول على أنه فهم منه أنه غير مسترشد في سؤاله؛ إذ لو كان مسترشداً لوجب جوابه، وهذا ليس بجواب.
يعني: أنه كان يريد أن يمتحن عبد الله بن مسعود، فيريد أن ينظر كيف علمه، ولم يسأل ليتعلم.
وقال في قوله: (هذاً كهذ الشعر): معناه: أن الرجل أخبر بكثرة حفظه وإتقانه، فقال ابن مسعود: تهذه هذاً، وهو شدة الإسراع، والإفراط في العجلة، ففيه النهي عن الهذ، والحث على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء.
قال القاضي: وأباحت طائفة قليلة الهذ، وقالت: ليس هناك مانع أن يقرأ بسرعة، وهذا خلاف أمر الله في القرآن، وخلاف طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام.(16/3)
معنى الحديث الوارد في الهذ والجمع بينه وبين قول ابن مسعود
أما الحديث الوارد في الهذ المقصود به: ليس شدة الإسراع، ولكنه أسرع قليلاً مع الترتيل، ومع التدبر، فهو محمول على ذلك، أما القدر الذي يزيد على هذا القدر كالذي يقرأ المفصل في ركعة فإنه يكون مذموماً، فهناك هذ أقل سرعة، أما الهذ السريع فهو الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه، بل وأنكره الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً حيث قال: (لا يفقه من قرأ القرآن دون ثلاث ليالٍ) فيكون مكروهاً وهو أن يقرأ عشرة أجزاء أو أكثر من عشرة أجزاء في اليوم ومن باب أولى أن يقرأ القرآن كله في ليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بسرعة شديدة.
هذا وإن كان منقولاً عن بعض الصحابة إلا أن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن بعض الأسانيد عن بعض الصحابة غير ثابتة، لكن إذا صح عنهم ذلك فيحمل على أنه لم يبلغهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم في النهي أن يقرأ القرآن دون ثلاث ليالٍ، وحتى في الأيام الفاضلة يقرأ قليلاً من أجل أن يشغل الليلة بالقراءة، ولكن بترتيل، كما كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يطول السورة أحياناً حتى تكون أطول من أطول منها، فهذا الاختلاف في السرعة.
قال النووي: (هذاً كهذ الشعر)، معناه: في تحفظه، وروايته، لا في إنشاده وترنمه؛ لأنه يرتل في الإنشاد، والترنم في العادة لا يكون مؤثراً في القلب؛ لأن الشعر لا يؤثر كما يؤثر القرآن.
أما قوله: (إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في ركعة) وفسرها أنها عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تأليف عبد الله، فقد قال القاضي: هذا صحيح، وموافق لرواية عائشة وابن عباس أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كان إحدى عشرة ركعة، وأن هذا كان قدر قراءته غالباً.
وقد ورد في بعض الروايات: إحدى عشرة، وفي بعضها ثلاث عشرة، والصحيح أنه كان يفعل هكذا أحياناً وهكذا أحياناً، فأحياناً يصلي إحدى عشرة وأحياناً يصلي ثلاث عشرة.
قال: وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد غير ذلك في قراءته البقرة والنساء وآل عمران كان في نادر من الأوقات.
أي: أن المعتاد هو هذا القدر.
والله أعلى وأعلم.
قال: وقد جاء بيان هذه السور العشرين في رواية في سنن أبي داود: الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، والواقعة و (ن) في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم في ركعة، وعم والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة.
وسمي مفصلاً لقصر سوره وقرب انفصال بعضهن من بعض.(16/4)
الوقت المختار لختم القرآن الكريم
وهنا مسألة أخرى: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بالقراءة قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر).
فلنواظب إن استطعنا على قراءة القرآن في كل شهر، ونجعل هذا الحد الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص هو الحد الذي نجتهد في المواظبة عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اقرأ القرآن في كل شهر، قال: إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: اقرأه في كل عشرين.
قال: إني أطيق أفضل من ذلك.
قال: اقرأه في كل عشر.
قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اقرأه في كل سبع، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك).
وهذا دليل على أن القراءة كل سبع أفضل من القراءة كل ثلاث، وينهى عن القراءة دون ثلاث؛ فإن عبد الله كان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رخصها)، فينبغي علينا أن نجتهد في هذا الأمر، فإن كان لأحد طاقة فليجرب أن يقوم بسبع القرآن في ليلة، فإن قدر فبفضل الله سبحانه وتعالى، وإلا فلا أقل من أن نقرأ في كل شهر.
ونسأل الله الإعانة والتوفيق.(16/5)
فضل الاعتكاف في رمضان وبيان بدايته ونهايته
روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر التي في وسط الشهر).
فقبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن ليلة القدر في العشر الأخير كان صلى الله عليه وسلم أولاً يجاور -يعني: يعتكف- في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين تمضي عشرون ليلة ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: (إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها - أي: رأى في المنام ليلة القدر ثم نسيها -فالتمسوها في العشر الأواخر، في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، قال أبو سعيد الخدري: فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طيناً وماء).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير) أي: أغلقها بحصير حتى لا يدخل عليه أحد، قال: (فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف.
فاعتكف الناس معه.
قال: وإني أريتها ليلتي وإني أسجد صبيحتها في طين وماء، فأصبح في ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر).
وعن يحيى عن أبي سلمة قال: (تذاكرنا ليلة القدر فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، وكان لي صديقاً، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل، فخرج وعليه خميصة، فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين) يعني: يوم عشرين صباحاً، أي: أنهم لا يخرجون من المعتكف إلا صباح الليلة التي يكملون فيها العشر، والعشر الأواخر مثل العشر الوسطى، وهكذا فالرسول لما اعتكف العشر الأول كان سيخرج يوم عشرة صباحاً، ثم اعتكف العشر الأوسط الذي أوله ليلة إحدى عشرة، وينتهي صبيحة عشرين، ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعتكفوا العشر الأواخر، التي يبدأ الاعتكاف فيها قبل غروب شمس يوم عشرين؛ لأنه سيبدأ يستقبل أول ليلة منه، وهي ليلة واحد وعشرين.
فإذا اكتملت العشر الأواخر يخرجون، وكثير من العلماء يقول: يخرج بعد غروب الشمس من يوم الثلاثين.
وهناك آثار عن بعض التابعين: أنهم كانوا يخرجون بعد صلاة العيد، أي: أن أحدهم كان يعتكف ليلة العيد.
فمن أحب أن يفعل ذلك فلا حرج عليه، وإن كان ذلك لا يصح؛ لأن العشر الأواخر قد اكتملت، فيخرج في صبيحة يوم الثلاثين كما في العشر الأوسط يخرج في صبيحة يوم العشرين.
والله أعلم.(16/6)
ليلة القدر
وفي هذا الحديث دليل على أن ليلة القدر تنتقل؛ لأنه هنا أخبر أنها كانت في ليلة إحدى وعشرين، وفي رواية ثانية: أنها كانت ليلة الثالث والعشرين.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان)، يعني: كل منهما يقول: لي حق على الآخر.
قال: (معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.
قلت: يا أبا سعيد! إنكم أعلم بالعدد منا؟ قال: أجل، نحن أحق بذلك منكم، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالذي تليها التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة).
ففي هذا الحديث الترغيب في الأشفاع، والحديث الذي قبله فيه الترغيب في الأوتار.
وعن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين، وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرفت وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه) فكان عبد الله بن أنيس يقول: هي ليلة ثلاث وعشرين، وهذا دليل على أنها تنتقل.
فهذا الحديث غير الحديث الأول، وهذا هو الوجه الذي يجمع بينهما؛ لأن الحديثين فيهما الماء والطين.
قال زر بن حبيش: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: (إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر-أي: الذي يقوم السنة كلها يصيب ليلة القدر -فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟! فقال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها).
وفي الرواية الأخرى: (هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين) وهذا تصريح بأنها ليلة سبع وعشرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدة أوامر وبين لهم عدة ليال.
وهناك حديث في الترمذي: (أنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان).
وهذا تصريح بأن ليلة القدر في السنة التي نزل فيها القرآن كانت ليلة أربع وعشرين.
إذاً هي تنتقل في ليالي العشر الأواخر كلها، وهذا أصح الأقوال.
والله أعلى وأعلم.
والمقصود بأن الشمس تطلع وليس لها شعاع أي: تطلع بيضاء نقية لا شعاع لها، سواء كانت حمراء، أو بيضاء، وذلك في أول طلوعها.(16/7)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل
عن ابن عباس قال: (بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القربة فأطلق، ثم توضأ وضوءاً بين الوضوءين ولم يكثر) يعني: بين الوضوء المسبغ جداً وبين الوضوء الخفيف.
(وقد أبلغ) يعني: أوصل الماء إلى المواضع.
قال (ثم قام فصلى، فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له) تمطى أي: كأنه قام في ذلك الوقت، وقد فعل هذا تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام، من أجل أن يتركه على راحته، ولا يكون مراقباً له؛ لأن الواحد إذا حس أن أحداً يراقبه قد لا يأخذ راحته.
قال: (فقمت فتوضأت، فقام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدراني عن يمينه، فتتامت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ، وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظم لي نوراً).
وفي الرواية الأخرى قال: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة) وفي الرواية الثانية: (أنه نظر إلى السماء وقرأ هذه الآيات)، فيستحب أن ينظر المسلم إلى السماء، ويقرأ آخر عشر آيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] الآيات.
قال: (ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، فأحسن الوضوء) إلى أن قال ابن عباس: (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها)، يعني: يخاف أن ينام.
قال: (فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعيتن، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى).
ويجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة: أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة مع ركعتي الفجر، أو نقول: كان أحياناً يصلي إحدى عشرة وأحياناً ثلاث عشرة.(16/8)
النصر الموعود
إن الله عز وجل خلق الموت والحياة للابتلاء والامتحان، وليرى سبحانه ثمرة هذا الابتلاء في عباده، وليعلم المؤمنين منهم، فما خلق الله البشر إلا ليرى الخير، وما فرض الجهاد على المؤمنين إلا ليرى صبرهم وثباتهم في الدفاع عن الدين، فإذا صبروا وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق أبطل الله الباطل وجنوده، وأعز المؤمنين وأصلح بالهم.
إن فريضة الجهاد لن تنتهي مشروعيتها إلا في آخر الزمان عندما يقاتل الدجال وتخمد الفتن، ويكون الدين كله لله، وبعدها تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.(17/1)
غاية الابتلاء وثماره
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فلقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة، وهذا الأمر من أعظم ما يلزم المؤمن اعتقاده خصوصاً عندما تختل موازين القوى في ظاهر الأمور، ويشتد الصراع مع أهل الكفر والنفاق على ظهر هذه الأرض، ويبتلي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأنواع الابتلاء وبشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ويتسلط الكفرة على بلاد المسلمين وحرماتهم ومقدساتهم، ويظن كثير من الناس أن موازين القوى في هذه الأرض في صالح الكفرة، وأن القوة لهم جميعاً، وأن مفاتيح القضايا بأيديهم، وبالتالي يسيرون في مناهج حياتهم على وفق هذا المعتقد، فهم يوافقون أهل الكفر والنفاق والظلم والباطل؛ لأجل ما يتصورونه من أن القوة والسلطة والتمكين لهم، وأن الأمور بأيديهم.
وأما أهل الإيمان فإذا استحضروا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله سبحانه وتعالى لمتانة كيده يملي لهم، كما قال عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، إذا استحضر أهل الإيمان ذلك علموا أنهم جند الله سبحانه وتعالى الذين ألقاهم في وسط الصراع مع أهل الباطل من غير كثرة عدد ولا قوة عتاد، بل مع ضعف إمكانيات، مع أن جنوده سبحانه وتعالى لا يحصيهم سواه، فالأرض والسماوات وما بينهما مسخرات بأمره، ولو شاء سبحانه وتعالى لأمر الأرض فانخسفت بالكفرة، والسماء لحصدتهم، والبحار لأغرقتهم، وكل عاقل يقر بأن ذلك ليس في يد أحد من الناس، فالأرض والسماء والبحار وسائر ما يحيط بالناس في حياتهم لا يملكونه.
إذا استحضر المؤمن أن أهل الإيمان قد ألقاهم سبحانه وتعالى في الابتلاء ليظهر منهم صدق الإيمان، وقوة اليقين، وصدق الاعتقاد بأنه لا قوة إلا به عز وجل، وأنه لا حول إلا به سبحانه وتعالى، وأن الأمور بيده، وأنه مالك الملك، فإذا ظهر منهم ذلك على ما يحب سبحانه عندها يغير الله موازين القوى لصالحهم في لحظة كلمح بالبصر، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، وتضل أعمال الكفرة وتبطل، ويزهق الباطل كما أخبر سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:1 - 7]، فالله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ليرى إيمانهم، وليرى نصرتهم للدين، وليرى سبحانه وتعالى ما يحب من أنواع عبوديته التي لا تظهر إلا في المحن والشدائد، ولا تحصل إلا بوجود أضدادها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.
وإذا طال الأمر على أهل الإيمان فبسبب ما يحبه الله عز وجل منهم لم يصل إلى ما يريد من الكمال، فلا بد أن يستكملوا معاني الإيمان، وحقائق العبودية؛ لكي يحصل ما أخبر الله عز وجل به.
ولعلهم في هذه المرحلة -عندما يشتد بهم الحال- يكونون في أحسن أحوالهم، وهذا أفضل مما لو مكنوا على حال فيها نقص وتقصير وشهوات ورغبات دنيوية، فيحصل من ذلك ما لا يعلمه إلا الله من الفساد، فلا بد أن ينتبه المسلم لحقيقة الصراع الذي يجري بين أهل الإسلام وبين أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين في مشارق الأرض ومغاربها، وبلا شك أن قلب كل مؤمن يتألم لما يجري مما يكرهه الله من أذية للمسلمين ومخالفة لشرع الله، وصدٍ عن سبيله، وانتشار لأنواع الفساد من الكفر والفسوق والعصيان في مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن ذلك يؤلم كل قلب حي بالإيمان، عالم بحقيقة الحياة قرباً من الله عز وجل وعبودية له، فيتألم إذا وجد حال المسلمين في تباعد عما أوجبه الله عز وجل عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتثال لشرعه، كما يؤلمه تفرقهم واختلافهم وتنازعهم، وما هم فيه من ضعف وهوان، ولكنه في نفس الوقت إذا لاحظ عاقبة الأمور، وعلم لماذا قدر الله عز وجل كل ذلك مما يكرهه سبحانه، وعلم الحكمة من وراء تقدير الشر والمكروه؛ عند ذلك يستفيد أعظم الاستفادة من الواقع الذي يعيشه، ويكون ذلك الألم نافعاً لتحقيق ما أراد الله عز وجل منه شرعاً، وسبيلاً لتحقيق مزيد من الإيمان والعبودية والأعمال الصالحة؛ التي إذا وجدت تغيرت موازين القوى، وأصل ذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومشاهدة آثار هذه الأسماء والصفات في الواقع المشهود الذي يراه الناس.(17/2)
أعمال الكافرين يبطلها الله
يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فهذه هي نهاية أمرهم، وقد ذكر الله ذلك بصيغة الفعل الماضي فقال: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) لتأكيد حصول هذا الأمر، وإن كان في وقت نزول الآية وبعدها لم يزل للباطل أعمال، ولم يزل هناك كفر وصد عن سبيل الله؛ فإبطال الأعمال يتم في هذه الدنيا قبيل نهاية هذه الحياة، وفي الآخرة كذلك سيبطل الله عز وجل أعمالهم.
إذاً: فإبطال أعمال الكفرة الصادين عن سبيل الله يكون في الدنيا وفي الآخرة كما أطلقه الله عز وجل.
فأما في الدنيا فإنهم أرادوا صرف الناس عن دين الله، ومكروا بالليل والنهار ليبعدوا الناس عن الالتزام بالدين، وليرغبوهم بأنواع الشهوات، وليجعلوا أنواع التخويف والإرهاب حواجز تحجب الناس عن الالتزام، فهم يغرقون الناس في أنواع الشهوات، وفي نفس الوقت يستعملون أقسى أنواع التهديد بل والعقوبات لمن التزم بالدين وسار في طريق الحق؛ لكي يصرف هو -إن استجاب- أو غيره ممن يرى ما يفعل به عن دين الله عز وجل، ومع ذلك فلا بد أن يضل الله ذلك العمل، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه، وهذا المكر السيئ لا بد أن يحدث ولا بد أن يبطل، ولا بد أن يهتدي الناس بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيأخذ الله عز وجل بنواصي من شاء منهم إلى سبيل الهدى والرشاد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
فهم يريدون هزيمة الإسلام ولا بد أن ينتصر، ويريدون إضلال الناس ولا بد أن يهدي الله عز وجل طائفة من عباده إلى الحق، ولا بد أن تتغير الموازين في يوم من الأيام.
وأما في الآخرة فأعمالهم كما وصف الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فأعمال الكفار يضلها الله سبحانه وتعالى ويبطلها ويزهقها، ويجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، كما أخبر عز وجل: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].
وبقي الشق الآخر من القضية وهو: أن الله يتولى إحباط وإبطال أعمال الكفار في الدنيا فلا تظهر نتائجها، والعبرة بنهاية الأمر وخاتمة المطاف، وما يبدو للناس عندما يشتد المكر والكيد فإنما هو تمرد صغير جداً في المملكة الواسعة لا بد وأن ينتهي، وقد تركه الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه، فالملك ملكه عز وجل في السموات والأرض، ترك بقعة من هذه المملكة -وهي الأرض- يقع فيها ذلك التمرد، وما هي إلا كذرة في هذا الوجود من ملك الله سبحانه وتعالى، وهي في قبضته عز وجل: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، فأنى يعجزه سبحانه أن يمحق ذلك التمرد الذي وقع في هذه الأرض؟ ولكنه تركه؛ لأنه أراد من طائفة من خواص جنده، وخلاصة من عباده أن يظهر منهم مدى إيمانهم والتزامهم بطاعته، ولذلك ترك هذا التمرد يقع، وأمر طائفة من جنده أن يكونوا محاربين بلا عدد ولا عدة، أو بأقل العدد والعدة دفاعاً عن دينه، وملايين الملايين من جنده تنتظر الأمر لتأييدهم في اللحظة التي يريد ويأذن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].(17/3)
اتباع الحق سبب لصلاح الأمور
يقول الله عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2]، فهذا هو الأمر الذي علينا، أي: مجيء الحق في سلوكنا وأعمالنا وعقائدنا أولاً، فإذا جاء الحق على قلوب وألسنة وجوارح الطائفة المؤمنة عندها يزهق الباطل؛ لأن هذه هي طبيعته، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فالباطل يضمحل تدريجياً، ويذوب كما يذوب الملح في الماء إذا جاء الحق وظهر.
يقول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وهناك سؤال يكرره كثير من الناس وهو: إلى متى ونحن ندعوا ونتضرع، ومع دعائنا فالأمر يزداد كرباً؟
و
الجواب
إلى أن يتحقق ما أراد الله منا شرعاً، وتتم العبودية لله عز وجل من طائفة صادقة لا تشرك بالله شيئاً، ولن يقع ذلك من أهل الأرض كلهم، فلا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، فالكثرة على الاختلاف {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116]، لكن لا بد أن توجد طائفة صادقة مؤمنة تؤمن وتعمل الصالحات، وتحقق الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل الله عليه، ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، وذلك بصدق المتابعة للسنة في العقيدة والعمل، والسلوك والمنهج، والأخلاق والمعاملة، وليس في جانب دون آخر، فالحقيقة في نفس الأمر مطابقة لاعتقادهم ولسلوكهم، فعند ذلك يكفر الله السيئات، ويغفر الزلات، ويرفع الدرجات: ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح أمرهم، فإذا أردنا أن تصلح أمورنا فلنكثر مما أمرنا الله عز وجل به، وأهم ذلك أعمال القلوب وأحوالها، كحب الله عز وجل، والخوف منه ورجائه، وصدق التوكل عليه، وتحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالمحبة له، والتصديق لخبره، والاتباع لأمره، والاجتناب لنهيه، ونصرة سنته، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد:3]، فهذه النتيجة قضى الله عز وجل بها لأن: {الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:3]، فبتباع الحق يحبط الله أعمال الكفار، ويصلح أحوال المؤمنين، ولا شك أن التفريط في اتباع الحق هو الذي أدى إلى أن تقف القضية على ما هي عليه الآن.
إن القضية موازينها -فيما يبدو للناس- في صالح اليهود وأعوانهم من الأمريكان، وسائر فرق الملحدين من النصارى وغيرهم من المشركين والمنافقين ومن والاهم على ما يريدون من هدم الإسلام، ولكن قطعاً ويقيناً أن مزيد الاتباع للحق، أو حتى تحقيق القدر الواجب من هذا الاتباع سوف يغير موازين القضية.
وأما إذا ظل الأمر على ما هو عليه فستظل القضية على ما هي عليه الآن، ولكن لن يضمحل الحق بإذن الله من أمة الإسلام أبداً؛ لأنه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).(17/4)
ما يجب على المسلمين تجاه عدوهم
بين سبحانه وتعالى ما يجب على المسلمين في مواجهة عدوهم فقال: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: أكثرتم فيهم القتل، ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) أي: حسب ما يرى المسلمون وخليفتهم من المصلحة، فإما أن يمن، وإما أن يفدي بمال أو بأسرى من أسرى المسلمين، وهناك اختيارات أخرى وردت في أدلة من الكتاب والسنة يخير الإمام فيها تخيير مصلحة كأن يقتلهم، كما قال سبحانه في أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال:67]، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، وابن خطل وبعض أسرى المشركين، ومنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على من رأى أن المصلحة في المن عليه كـ ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وكان ذلك سبباً في إسلامه، ومنَّ على أهل مكة وأطلقهم وحسن إسلام أكثرهم، ومن لم يحسن إسلامه عند الإطلاق حسن إسلامه بعد ذلك لما رأى من الآيات، ولذا فإنهم استمروا على الإسلام والتوحيد بعد أن ارتد عامة أهل جزيرة العرب، أو منعوا الزكاة، ولم يبق من يعبد الله سبحانه وتعالى إلا في مكة والمدينة، وفي مسجد عبد القيس في البحرين، فكان ذلك الذي وقع من المن من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم في موضع الخير.
ويجوز للإمام أن يضرب عليهم الجزية ويجعلهم أهل ذمة، أو يسترقهم، وهذا مذكور بأدلته في مواضعه، هذا في الرجال، وأما النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم، وكذا إذا أسلم أحد من الرجال سقط خيار القتل، وبقيت بقية الخيارات، والله سبحانه وتعالى جعل ذلك للإمام ينظر فيه بالتشاور مع أهل الحل والعقد؛ ليفعل فيه بالمصلحة.(17/5)
الملاحم والفتن وواجب المؤمنين في ذلك الزمان
قال الله عز وجل: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى ينتهي الجهاد، ولا ينتهي الجهاد حتى ينزل المسيح صلى الله عليه وسلم كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية)، وعندها لا تبقى ملة في الأرض غير ملة الإسلام؛ ذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم يميت الكفار بنَفَسِه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه -ريح نفس عيسى صلى الله عليه وسلم- إلا مات، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) أي: أن رائحة المسيح تبيد الكفار حتى مد بصره، قال: (فيطلب عدو الله -أي: الدجال - فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، قال: فلو تركه لذاب، ولكن يقتله بحربته، ويريهم دمه بحربته).
والأحاديث قاطبة تدل على أن الملاحم الكبرى هي حول بيت المقدس بالشام، فملحمة قبل الدجال مع نصارى الغرب، وذلك بالأعماق أو بدابق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وملحمة عقب الدجال زعيم اليهود وملكهم، وإلههم المنتظر، فالأمم الثلاث تنتظر المسيح: اليهود، والنصارى، والمسلمون، فأما اليهود فقد كذبوا المسيح وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو مسيح الضلالة، وكذا النصارى فإنهم ينتظرون مقْدَماً ثانياً للمسيح لكنهم يعتقدون ألوهيته، فإذا ادعى الدجال الألوهية اعتقدوه كذلك، فتابعوه أو تابعه بعضهم؛ لأن المقتلة العظيمة ستكون قبل ذلك.
وأما أهل الإسلام فهم الذين شهدوا أن المسيح عبد الله ورسوله، فكذبوا الدجال، وصدقوا المسيح ابن مريم.
وعندما يقتل الدجال يقتل معه اليهود، وهذا دليل على أن نهاية هذا الصراع لن تتم أبداً بالمفاوضات والمساومات ورحلات السلام وغيرها قطعاً، فلا بد أن نصدق بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومما نزل عليه عليه الصلاة والسلام: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ويدخل مع الذين أشركوا الذين {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، والذين قالوا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وأما الموحدون من النصارى الذين بلغهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فصدقوا وآمنوا به، وبكوا مما عرفوا من الحق، فهم الأقرب مودة للذين آمنوا كما وصف الله سبحانه وتعالى.
ومما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)، وهذا دليل على وجود قوة وشوكة وجنود تبلغ الآلاف من اليهود قبيل الدجال، ولو نظرنا في تاريخ اليهود لما وجدنا جنودهم تبلغ سبعين ألفاً في أي عصر من العصور، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، والله عز وجل أعلم متى يكون ذلك.
ونحن لا نجزم بتوقيت معين لوجود هذه المعارك، ولا ندعي علم الغيب، ولكن أشراط الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قد كثرت، فلا بد إذاً أن نعد لزمان الفتن عدته، وأن نبادر بالأعمال، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فالواجب المبادرة إلى الأعمال الصالحة حتى يقع ما أراد الله شرعاً، وحتى يرى الله سبحانه وتعالى الإيمان من أهل الإيمان: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:140] قال ابن عباس: ليرى، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].
أقول قولي هذا وأستغفر الله.(17/6)
انتهاء الفتن ونزول البركات
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله سبحانه: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، هذه الآية فسرها غير واحد من السلف بنزول المسيح صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذا نزل زالت الملل الأخرى وانمحت، وعند ذلك تنتهي مشروعية الجهاد.
وأما يأجوج ومأجوج فمع كفرهم إلا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله لنبي الله عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة لأحد بقتالهم، (فحرز عبادي إلى الطور، وعندها يخرج يأجوج ومأجوج).
فالواجب عند عدم القدرة على القتال تحريز عباد الله المؤمنين، وهذا التعليل واضح وبين؛ لأنه لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج فتحريز عباد الله المؤمنين، والتضرع إلى الله بالدعاء، والدعاء سلاح عظيم يهلك الله به الأمتين الكافرتين المتكبرتين: يأجوج ومأجوج.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه بجبل الطور، حتى يكون رأس الثور لأحدهم أفضل من مائة دينار لأحدكم -لقلة الطعام-، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل -أي: بعد شدة الحصار- فيرسل الله النغف -الدود- في رقابهم -في رقاب يأجوج ومأجوج- فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويصبحون قتلى كموت نفس واحدة) أي: في لحظة واحدة يموت يأجوج ومأجوج، (فينزل نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون شبراً من الأرض إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم) أي: أنفسهم المتناثرة في كل مكان، (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت -أي: الإبل- فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل، ثم يرسل الله عز وجل مطراً فيغسل الأرض فتصير كالزلقة)، فهذه هي نهاية المطاف، وعندها يتوقف تشريع الجهاد، وتخرج الأرض بركاتها؛ بسبب تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى.
(عند ذلك يقال للأرض: ردي بركتك، وأخرجي ثمرتكِ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها -بقشرتها-، ويبارك في الرسل -أي: في اللبن- حتى تكفي اللقحة من الإبل الفئام من الناس، وتكفي اللقحة من البقر القبيلة من الناس، وتكفي اللقحة من الغنم الفخذ من الناس)، وهذه بركة تطبيق شرع الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا هو زمن انتهاء الفتنة، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39] أي: حتى لا يبقى شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وعند ذلك تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها.
وقال عز وجل: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))، أي: أن الله ابتلانا بهم وابتلاهم بنا، {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] وهو عز وجل كان ولم يزل بصيراً بما في قلوب العباد، ولكن يحب أن يرى الصبر والجهاد واليقين والإيمان والعمل الصالح من عباده المؤمنين واقعاًً مشهوداًًًًً، ومن أجل ذلك أوجد الكفرة، وأوجد إبليس، وأوجد الظالمين؛ ليرى سبحانه وتعالى ما يحب، وهو يعلم ما لا يعلم الناس، فقد أوجد الفساد وسفك الدماء في الأرض؛ لأنه يعلم أن من بني البشر أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، قالها عز وجل للملائكة لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فمن أجل ذلك أوجد الله هذا الشر، وهذه الأمور المؤلمة التي يألم لها قلب المؤمن يوجد من ورائها خير لعباده المؤمنين، وهذا من لطفه عز وجل بعباده المؤمنين، حيث ظن الناس أنه شر وإذا به في حقيقة الأمر خير، كما قال سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وقال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، ولا شك أن وجود البلاء والمحنة على المسلمين تدفع قلوب الكثيرين من المنهمكين في المعاصي إلى التوبة، كما كانت الهزائم قبل ذلك تحيي الأمة بقدرة الله سبحانه وتعالى.
فلا بد إذاً من مضاعفة الجهد والعمل في هذه الفترات من الدعوة إلى الله عز وجل، والعبادة والسلوك الطيب، وحسن معاملة الخلق بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه وقت يحدث فيه بإذن الله مزيد من الإقبال على الله عز وجل إذا وجد الناس طريقاً مفتوحة ممهدة من خلال سلوك الملتزمين، ومن خلال دعوتهم ومشاركتهم الصادقة في العمل لأجل إعلاء دين الله ونصرته.
قال الله تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ))، وقرئت: {وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4]، فالذين قتلوا لن يضيع جهدهم؛ لأنهم سينالوا أعظم الجزاء، وسوف تتحقق النتائج التي أرادوها حين تعلو كلمة الإسلامن وأما المقاتلون فهم أحياءٌ يهديهم الله إلى طريق الجنان، ويعرفهم بمنازلهم فيها، كما يهدي من قاتل لطاعته في هذه الدنيا، قال سبحانه: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5 - 6]، فهم أهدى إلى منازلهم من أحدكم بمنزله إذا انصرف من الجمعة، وعرفها الله لهم مع أنهم لم يدخلوا تلك المنازل قبل ذلك، وفي التفسير الآخر: (عرفها لهم) جعلها لهم ذات عرف ورائحة طيبة، وإن عرف الجنة ليوجد من مسيرة خمسمائة عام، فلو كانت الجنة في أبعد مكان في الأرض، بل لو كانت الجنة عند القمر لوجد الناس رائحتها في الأرض، ولا يدخلها الظالمون الذين يضربون بسياطهم الناس، ولا المتبرجات؛ فإنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
ثم أمر الله المؤمنين بنصرة دينه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فنسأل الله أن يثبت أقدامنا على الحق والهدى، وأن ينصرنا وأن ينصر بنا الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم طهر البيت المقدس من دنس اليهود، اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، واحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(17/7)
النصر والغلول
إن الله تعالى بين للمؤمنين في القرآن أنَّ النصر لا بد له من أسباب عليهم أن يعوها وأن يعملوا بها، فإن نصرهم الله فلن يغلبهم أحد، وحينئذٍ تتبدل موازين القوى العالمية.
ولن ينصر الله العباد إلا بالتأدب بآداب الشريعة في مواحهة عدوهم، ومن هذه الآداب: اجتناب الغلول والخيانة، وذلك لأنهما من أسباب فساد الأمة وتأخر نصرها، ومعنى الغلول عام واسع وهو يعني: أخذ شيءٍ من الغنيمة قبل قسمتها، ويتناول أيضاً: التفريق بين الرعية بعدم العدل الواجب بينهم، ويتناول أيضاً: أخذ العامل الرشوة في عمله للمسلمين، وكذا يتناول ترك إبلاغ بعض الدين من قبل العلماء ونحوهم.(18/1)
أسباب نصر الله للمؤمنين وبيان نتائجه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:159 - 168].
يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
ذكر الله تعالى هذه الآية بعد أن ذكر سبحانه وتعالى منته على المؤمنين بما وضع في قلبه عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللين والشفقة على المؤمنين وعدم الفظاظة والغلظة، وهذه -في الحقيقة- أوامر لكل إمام وقائد وكبير ومعلم وصفات لازمة له، وأمره عز وجل بالعفو والاستغفار للمؤمنين، وبالمشاورة في الأمر، فبين سبحانه وتعالى بهذا ما يلزم أن تكون عليه الجماعة المؤمنة، وما يلزم أن يكون عليها قادتها، وهذا من أعظم أسباب نصرها، فالله عز وجل ينصرها إذا وفت مقامات العبودية حقها، وهو -عز وجل- وعد وبين أن نصره لهم الذي إذا حدث لم يغلبهم أحد إنما يقع إذا نصر الله، فقال في الآية الأخرى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهنا قال: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ)) فمهما اجتمع على هذه الأمة من أحزاب الأرض كلها فإنه إذا نصرها الله عز وجل فلن يقدروا على هزيمتها، فهذه الأمة لها في معاركها مع أعدائها صفات وموازين خاصة، وأمة الإسلام عموماً والطائفة المؤمنة في صراعها مع طوائف الكفر والباطل لها قواعد وموازين خاصة، فليست تعتمد على كثرة العدد والعُدَد، فإن الله عز وجل إذا نصر قوماً فلا غالب لهم، وهو عز وجل ينصر أهل الإيمان بنصرهم لله عز وجل وإقامتهم لأمره، وبنصرهم لدينه سبحانه وتعالى، وذلك أن نصرتهم له عز وجل -وهو الغني الحميد، وهو الغني عن العباد- إنما المقصود بها أن يُنصر دينه، وأن يُنصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا نصروا دين الله نصرهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة).
وكما جاء في الحديث (وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً).
فقد أعطاه الله لأمته ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار وجوانب الأرض ونواحيها كلها، لكن إذا سبى بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك يسلط الله عز وجل عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ويأخذ بعض ما في أيديهم.
والمقصود: أن الله عز وجل إذا نصر أهل الإيمان فإنه لا يغلبهم أحد؛ لأنه هو عز وجل نعم المولى ونعم النصير، والأمور بيده سبحانه وتعالى.(18/2)
عوامل النصر والهزيمة
وقضية النصر والهزيمة وموازين القوة والضعف لها عوامل مختلفة كثيرة لابد أن ننتبه إليها، لا إلى الموازين الأرضية، ولكن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في تحقيق هذه الهزيمة أو النصر أو في تغيير موازين القوة، وأن الله هو الذي يقدر النصر والهزيمة على العباد، وهذا الأمر متكرر في القرآن في ذكر السنن الماضية والآتية فيما مضى من سنن الأنبياء وفيما ذكر الله من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيما بين من أمور عامة دائمة تتكرر وتقع، فلا بد من أن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في القوة والضعف طاعة ومعصية، وخيراً وشراً، وقرباً من الله وبعداً، وأن نعلم أن الله هو الذي يقدر الهزيمة والنصر، وأنه سبحانه وتعالى إذا نصر قوماً فإنه لا يغلبهم أحد، وإذا خذلهم فمن ذا الذي ينصرهم من بعده، والله سبحانه وتعالى خذل الكافرين وإن بقوا مدة من الزمن يعلو سلطانهم الزائف، ويظهر للناس قوتهم التي يخوف الشيطان بها أولياءه، فالشيطان يخوف الناس بأوليائه امتحاناً من الله عز وجل للعباد، ولكي يرد أهل الإيمان إلى التوبة والإنابة وتكميل مراتب العبودية التي من أجلها قدر الله عز وجل عليهم تسلط العدو، وإنما قدر ذلك لمصلحة أهل الإيمان، ولتكمل عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وإنما أوجد الكفرة وكفرهم -وهو يبغض ذلك سبحانه وتعالى- لكي تستكمل الطائفة المؤمنة أنواع النصرة لدينه، وأنواع العبودية له عز وجل على الأحوال المحبوبة والمكروهة، وعلى العسر واليسر، والمنشط والمكره، فمن أجل أن يعبدوه بأنواع العبودية المختلفة أوجد من هانوا عليه، وسلطهم عليهم، وأقدرهم على أنواع الظلم والفساد في الأرض الذي يبغضه لكي يعبد المؤمنون ربهم.(18/3)
تغير أحوال الأمم
وفي هذه المحن والفترات التي يتسلط فيها الأعداء لابد لكل منا أن يستحضر هذه المعاني؛ لأن الله عز وجل هو الذي بيده النصر، وهو الذي يخذل من يشاء، قال تعالى: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ))، والناس إذا التفتت قلوبهم إلى الموازين المادية فقط ظنوا أن الأمور لا تتغير، وظنوا أن موازين القوة في الأرض سوف تستمر؛ ذلك لأنهم لا يتأملون العواقب، ولو تأملنا عبر التاريخ كيف سقطت الأمم والحضارات، وكيف أن الله أبدل الناس بعضهم مكان بعض، وجعل بعضهم خلائف لبعض، وكيف أن أمماً في حياتنا رأيناها تنهار ويقوى غيرها ليتسلط بعد ذلك، فلو نظرنا إلى الأسباب التي يقدرها الله عز وجل لعلمنا أن الأمور ليست بيد البشر قطعاً، وهذا أمر محسوس مشهود، فالأمم في عنفوان قوتها، وكثير من الناس يظن أنها لن تبيد حضارتها ولا سلطانها، وأقسم الكفرة في كل زمان بذلك، كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44] وهذا أمر عجيب، وهو أن كل الظلمة يقسمون ليقينهم التام بأنه لا يزول سلطانهم ولا يزول ملكهم، والناس في هذه الفترات يظنون هذا الأمر، ولذا فإن كثيراً منهم يبيع دينه بعرض من الدنيا، لكن إذا استحضرنا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
وإذا نظرنا في التاريخ فسنعرف كيف انهارت أمم، وكيف تسلط عليها عدوها بعد أن كانت حضارتهم في عنفوانها، وكان سلطانهم قوياً شديداً، فما زالت آثار قوم عاد وثمود باقية تحكي كيف كان تسلطهم، وكيف كان بطشهم بالناس، وكيف كان عنفوان قوتهم، ومع ذلك فقد زال كل ذلك وأصبحوا خبراً، وجعلهم الله عز وجل أحاديث، وفي زماننا رأينا دولاً تنهار في سنوات معدودة، بل هذا -والله- من أعجب آيات الله، لأنه في آخر الزمان تتابع الآيات، فالدولة الفرعونية بأسرها المختلفة استغرقت مدة طويلة وبعدها انهارت، ومكث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وضل عنفوانهم مدة طويلة، والرومان كذلك.
فلو نظرت إلى قوة الاتحاد السوفييتي السابق في زماننا، وكيف كان في عنفوان القوة ثم انهار ليصبح الناس فيه يتكففون أرزاقهم بأنواع الذل والهوان لعلمت أن هذا الذي وقع في سنوات معدودة كان يقع في الأزمنة الماضية بالنسبة للقوة التي وصلوا إليها في أضعاف هذه المدة من السنين، ولذلك لا تستبعد ولا تستغرب أن تتغير موازين القوى في آخر الزمن في لحظات الآيات فهي أسرع وقوعاً، ففي الماضي كان الزلزال يذكر عبر التاريخ، والآن ترى الزلازل تتكرر في كل يوم, والأعاصير كذلك، وصغر العالم بكثرة وسائل الاتصال يجعل آيات الله سبحانه وتعالى أمام الناظر مرئية، وفي كل يوم يقع شيء يذكر الناس بأن الأرض والسماء ليست بأيدي البشر، وأن قلوب العباد تتقلب في محبتهم وكراهتهم، وفي اجتماعهم وافتراقهم، وقد تجد طوائف من المجتمع انهار بعضها على بعض بالصراع، وتمزق المجتمع بأسره بعد أن كانوا ساكنين ساكتين مقرين بالأوضاع المختلفة، ثم تنفجر الاختلافات بينهم حتى تتمزق هذه الأمة التي كانت قوية.
ومن ينظر إلى أسباب ضعف وتدهور أحوال الأمم يعلم أنها موجودة في ظلمة الكفرة المتسلطين على العالم في زماننا، والذين يظنون أنهم القوة الوحيدة أو نحو ذلك، فأسباب ضعفهم وهلاكهم قائمة وموجودة، ويمكن أن تشتعل في لحظة إذا أذن الله تعالى بنصر المؤمنين، فإنه إذا نصرهم سبحانه وتعالى فلن يغلبهم أحد، ولن يقف في وجوههم أحد بإذن الله تبارك وتعالى، ونعوذ بالله من الخذلان.(18/4)
التوكل على الله وبيان أعلى مقاماته
قال تعالى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، وهذا التوكل المأمور به بعد الترغيب فيه بأن الله يحب المتوكلين: هو التوكل على الله في إصلاح النفوس ونصرة الدين وابتغاء الآخرة، وهو أعلى أنواع التوكل، فإن كثيراً من الناس يظن التوكل على الله مقتصر على أمر الأرزاق، فأكثر من يتوكلون يتوكلون على الله في حياتهم الدنيا، وإلا فإن أكثر الناس لا يتوكلون، ولكن توكل الرسل والأنبياء والأولياء إنما هو في نصرة الدين، وفي إعلاء كلمة الله، وفي إصلاح نفوسهم ليتمكنوا من نصرة الله عز وجل ونصرة دينه، وتحقيق العبودية له، فهم يستعينون بالله على عبادته، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ويتوكلون على الله في أمر الآخرة، وفي دخول الجنة، ويتوكلون على الله في صلاح الدين، وفي صلاح الدنيا والآخرة، وفيما يحتاجون إليه من توفيق الله سبحانه وتعالى لإقامة شرعه ودينه، وهذا أعلى أنواع التوكل كما ذكرنا، وهو توكل الرسل وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(18/5)
الغلول والخيانة وأثرهما في دمار الأمم
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161].
وهذا المعنى له ارتباط بما قبله، فيما يتعلق بصفات الإمام والقائد، فبعد أن بين سبحانه وتعالى صفات النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة واللين، وعدم الفظاظة والغلظة، وأمره بالعفو والاستغفار والمشاورة في الأمر والتوكل على الله عز وجل عند العزم، والاجتهاد في نصرة الدين، والتوكل على الله في هذه النصرة بين أنه يستحيل على أي نبي من الأنبياء أن تقع منه الخيانة والغلول، وهذا دليل على أن هذه الصفة -صفة الخيانة والغلول- صفة مدمرة ومهلكة للطائفة التي يكون قائدها كذلك، فإذا كان قائد طائفة من الطوائف أو أمة من الأمم بهذه الصفة فهذا أمر لا يمكن أن يكون معه بقاؤها، ولذا استحال وجود هذه الصفة في أي نبي من الأنبياء؛ لأن الله أهلهم للمقامات العالية، وأهلهم لقيادة الأمم، فيستحيل أن توجد فيهم الصفات المنكرة المذمومة التي تسبب دمار الأمم وهلاكها وضياعها، فإن ذلك من أعظم أسباب خراب الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
فقيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فخراب الدنيا وانتهاؤها بالكلية ودمار الكرة الأرضية بما فيها، وزوال ما عليها من وجود بشري مرتبط بتضييع الأمانة، ولذا يستحيل أن توجد هذه الصفة الخبيثة في نبي من الأنبياء، أو أن تتصور في نبي من الأنبياء.
ولقد كان هذا الخبر علاجاً لما تكلم به البعض ممن كان يجهل هذا الأمر كما ذكر ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: يخون.
وروى ابن جرير عن مقسم قال: حدثني ابن عباس أن هذه الآية - ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) - نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأكثروا في ذلك فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وكذا رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم مرسلاً، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: (اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))).
وقد روي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم، وهذه تبرئة له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.
وهذه قضية عظيمة الأهمية، حيث تصور بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه، وهذا التصور -كما دلت عليه الروايات الأخرى- إنما صدر ممن يسيء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وهذا مناف لما عليه أهل الإيمان ولعقيدتهم في النبوة، وهو أنه لا يجوز على النبي ذلك، وهذا الأمر ربما يكون قد وقع فيه البعض بناء على عادتهم في الجاهلية التي كانوا فيها قبل ذلك، وهو أن الرئيس والكبير دائماً قد يأخذ لنفسه شيئاً خفية من الغنائم أو من الأموال العامة التي تحت يده، وهذا أمر تجده في أهل الدنيا كأنه قاعدة مستقرة وكأنه حق مكتسب إلا من رحم الله، وإن كانوا دائماً لا يظهرون ذلك، ولكن هذا الأمر لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، وكذلك لا يظن بأي نبي من الأنبياء؛ لأن الأنبياء معصومون من الخيانة، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن هذا الأمر ينافي مقام التبليغ بالكلية، وينافي مقام قيادة الأمة كما ذكرنا، بل كان لا يجوز لكل من اتصف بالخيانة أن يولى أمور المسلمين، سواء الإمامة الكبرى -الخلافة- أو ما دون ذلك من الولايات، فإن تولية الخائنين الذين لا يصلح الله كيدهم من أسباب فساد العالم -نسأل الله العافية- ومن أسباب فساد الأرض، وانتشار المنكرات، وأسباب ضعف الأمم وهزيمتها وخذلانها، فكل أمة تنتشر فيها الخيانة -خاصة من يتولى الولايات ويؤتمن على الأمانات- فإنها أمة مخذولة بلا شك، ولابد من أن يقع فيها الفساد وأن يسلط عليها عدوها، ولابد من ألا يتحقق لها أمر ولا نصر ولا تمكين في الأرض، نسأل الله العافية.
وإذا كان هذا الأمر لو حدث من قائد في قطيفة سبباً لخذلان الأمة فما الظن بما هو أكثر من ذلك؟!(18/6)
فساد ترك العدل في الرعية
قال ابن كثير رحمه الله: وقال العوفي عن ابن عباس: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً.
وهذا وجه آخر في تفسير الآية، وهو عدم العدل في قسمة الغنائم، بأن يعطي البعض ويترك البعض، وهذا -أيضاً- من الخيانة وإن لم يأخذها لنفسه، لكن يخص بعض الناس بما ليس من حقهم ويحرم طائفة أخرى، وهذا من شيم المفسدين في الأرض، أن يخص طائفة من المقربين، كما فعل فرعون عندما قال للسحرة: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]، فطائفة المقربين طائفة يباح لها أضعاف أضعاف الأجرة المطلوبة، ولذلك كان ترغيبه للسحرة إذا انتصروا أكبر مما طلبوه من الأجر، قال تعالى: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، فطائفة المقربين تأخذ أضعاف أضعاف الأجور، وهي لا تحتاج إلى أن تعطى أجراً؛ لأنه يباح لها -والعياذ بالله- من أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم ما لا يسألون عنه والعياذ بالله، فهم يعرفون جيداً ما عليه المقربون، وما للمقربين من فرعون، ولذلك كان هذا أعظم الترغيب لهم، كما أنه جعل طائفة أخرى مستضعفة مستباحة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وجعل المجتمع شيعاً، فطائفة يباح لها ما لا يباح لغيرها، وتنتهك حرمات طائفة دون أن يسأل أحد عنها، ودون أن يجازى على انتهاك حقوقها، وهذا من الفساد في الأرض.
ولذلك كان هذا من وجوه الخيانة؛ لأن الإمام إنما أعطي السلطات والقوة لأجل أن يقيم العدل في الناس وما شرعه الله سبحانه وتعالى، وألا يميز بين الناس إلا بما ميز الله عز وجل به وخص وفرق من الحق والباطل، فالله عز وجل جعل الذي يفرق بين الناس هو إقامة الحق أو الوقوع في الباطل، فمن أقام الحق أعلى الله شأنه ورفعه، ومن وقع في الباطل وعمل به وضعه الله عز وجل وأذلة وأهانه، وجعل الذلة والصغار على من خالف رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يجعل الأمير الناس شيعاً فيقسم المجتمع إلى طبقات وطوائف بحيث تعطى طبقة من الطبقات حقوقاً ويمنع الآخرون فهذا من خيانة الأمانة؛ لأن ما أعطاه الله من القوة والمكانة والأمر النافذ هو أمانة من الأمانات، فإذا وضعها في غير موضعها فأعطى بعض الناس ومنع الآخرين فذلك خيانة وإن لم يأخذ لنفسه، نعوذ بالله من ذلك.
قال العوفي عن ابن عباس: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً، وكذا قال الضحاك.(18/7)
الغلول في البلاغ وأثره على الدين
وقال محمد بن إسحاق: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته.
وهذا وجه ثالث في تفسير الآية، وهو الخيانة في البلاغ، وقد يدل عليه قول ابن مسعود: غلوا مصاحفكم! فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة.
والمقصود: أن الغلول ليس فقط في الأمور المادية، ولكن هناك -أيضاً- خيانة في الأمور المعنوية، وذلك في حق الأنبياء مستحيل كما ذكرنا؛ فإن الأنبياء معصومون، وأصح الأقوال لأهل العلم: أنهم معصومون من الصغائر والكبائر، ولا نزاع في العصمة من الكبائر والصغائر المزرية وكتمان البلاغ فضلاً عما زاد على ذلك من الشرك والكفر، فهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما النزاع في الصغائر غير المزرية، والصحيح: أن الأنبياء معصومون مطلقاً من كل الذنوب التي هي ذنوب في حق البشر الآخرين، بمعنى أنهم لا يتعمدون المعصية، وإن وقع منهم خطأ أو نسيان أو فتور أو خطأ في الاجتهاد أو نحو ذلك من الأمور أو فعل خلاف الأولى فهذا الذي يسمى ذنباً في حقهم، والله أعلى وأعلم.
أما أمر الخيانة بصفة عامة فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يقع من الأنبياء؛ لأن ذلك من أعظم المنفرات عنهم وعن تصديقهم واتباع أمرهم.
فهذا الأمر -وهو الخيانة في الأمور المعنوية بترك بعض ما أنزل الله- إذا وقع من القائد والإمام والمسئول عن غيره وكذلك أهل العلم كان -أيضاً- من أعظم أسباب الفساد، فمن أعظم أسباب الفساد أن يكتم العلماء بعض الدين فلا يبلغوه للناس ولا يقوموا به، فذلك من أعظم أسباب الفساد، وأعظم أسباب انحراف الناس عن الدين الحق، وأعظم أسباب تحريف الملل عما كان عليه دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالرسل كلهم جاءوا بدعوة واحدة ودين واحد وهو دين الإسلام، فكيف حدث الانحراف؟ لقد وقع التحريف حين ترك بعض من كان عليه أمانة التبليغ وإقامة الدين من أهل العلم ومن أهل القوة والسلطان بعض ما أمرهم الله عز وجل به، وهذا من أعظم الأمور خطراً في تحريف الدعوة إلى الله وإبلاغ دينه، فلابد من أن يكون البلاغ شاملاً كاملاً، لا أن يبلغ ما يوافق آراء الناس وأهواءهم، ولا ما يوافق أهل القوة والسلطان، بل لابد من أن يبلغ الدين كاملاً، كما أمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ورثته أمته، فلابد من أن تبلغ الأمة ممثلة في أهل العلم منها ما أنزل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكتفوا بالبعض دون البعض، فإن ذلك أول أسباب الانحراف، فضلاً عن أن يقولوا على الله عز وجل ما لا يعلمون، وفضلاً عن أن يقولوا الباطل وينسبوه إلى الدين.
فترك بعض الحق لا يبلغ هو سبب من أسباب الانحراف، وأشد منه أن يقال على الله عز وجل ما لا يعلم أنه من الدين، وأشد منه أن يقول المرء على الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم أنه خلاف الدين، ولذلك كان عالم السوء وإمام السوء من أعظم الناس خطراً على الأمة، وكان الدعاة على أبواب جهنم هم سبب الفساد الأشد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة: (فهل بعد هذا الخير -أي: الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فعندهم كلام بالإسلام، وعندهم إظهار للإسلام، لكن قلوبهم قلوب شياطين في جثمان الإنس، فهم يتكلمون بالحق ليروجوا به الباطل لا لينصروا به الدين، وإنما يتكلمون به ليتمكنوا من الصد عن الدين، والعياذ بالله، وهذا أمر معلوم، فإن الباطل لا تقبله الفطر والنفوس؛ لأنه مر خبيث لا يمر إلا بشيء من الحق، كخدعة إبليس الأولى {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فقد علم أن هذا الباطل لن يروج إلا بشيء من الحق فعظم الله بالقسم، وظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، والله أعلى وأعلم، فقاسمهما ليظهر أنه يعظم اسم الله، ويعظم الحلف به، وأنه ناصح، وهكذا الباطل دائماً فهو لا يروج على الناس إلا بشيء من الحق، فلذلك كان المنافقون أشد خطراً على الأمة، ولذلك كان كتمان بعض الدين الذي لا يوافق الأهواء الباطلة من أعظم أسباب انحراف الأمم، ومن أعظم أسباب فساد الأرض، والعياذ بالله، فلابد من أن يبلغ الحق كاملاً دون أن يكتم منه شيء، والله المستعان، ولو كان هذا الأمر سائغاً -وهو أن يبلغ بعض الحق دون البعض الآخر- لساغ أن يقال عن إبليس: إن عنده من التوحيد والإيمان: المعرفة بالله، والمعرفة باليوم الآخر، وإنه يدعو الله مباشرة بلا وسائط، فإنه قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79] وهذه طريقة بعض المفترين على الله الكذب -والعياذ بالله- الذين يستعملون هذا الأسلوب، فيلزمهم أن يكون إبليس من الكمل؛ لأن هذه الأمور عنده من الحق، فهل هذا إيمان وهل هذا حق؟! لا، بل لابد من أن يبلغ الأمر والدين كاملاً.
ويستحيل على النبي أن يكتم بعض ما أنزل الله إليه، ولهذا قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه، فهذا أحد وجوه الخيانة.
وكل هذه الوجوه التي ذكرت يستفيد منها أهل الإيمان كما ذكرنا، كما أنهم استفادوا من الصفات الطيبة التي ذكرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يتصف بها صغيرهم وكبيرهم، وأن يتصف بها القادة والمقودون، وكذلك أن يتجنبوا ما نزه الله أنبياءه ورسله عنه من الغلول والخيانة ونحو ذلك؛ لأنها صفات قبيحة، فلابد من أن يتنزه عنها القادة والعلماء والأئمة وكل من له ولاية على غيره، فليس للأب ولا للزوج أن يخون بأن يأخذ لنفسه ما لا يحل له أن يأخذه، أو أن يترك إبلاغ أهله وأولاده وأمرهم وتربيتهم ببعض أمور الدين، والواجب عليه أن يبلغهم، وأن يقيمه فيهم، وإذا خص بعض رعيته دون بعض وقع الفساد في الأسرة بلا شك، فإن أعظم أسباب الفساد في الأسر أن من أهل الولاية فيها كالأب والكبير -مثلاً- من يخص بعض الأولاد بالعطية دون البعض، فيقسم للبعض دون البعض، ويعطي البعض دون البعض، أو يترك إصلاح الخلل الموجود، أو يتمسك ببعض الأمور ويترك أموراً أخرى لا يسعى في إصلاحها.
فكل هذه الوجوه لابد من الاستفادة من الطيب منها والحذر من الخبيث، والصحيح أن كل هذه الوجوه المذكورة داخلة في عموم قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))؛ لأنه فعل في سياق النفي فهو مثل النكرة في سياق النفي، فكل أنواع الغلول الحسية والمعنوية منفية عن الأنبياء، ويجب أن يتركها أهل الإيمان، خاصة قادتهم وأهل العلم منهم كما ذكرنا، وكل من له ولاية على غيره.(18/8)
جريمة اتهام الأنبياء بالخيانة
قال ابن كثير: وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)) بضم الياء، أي: يخان، يعني: ما كان لكم أن تخونوا النبي.
وهذه القراءة سبعية كالأولى.
قال: وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه.
رواه ابن جرير عنهما.
أي: لما غل بعض أصحابه نزل قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ)) أي: يخان؛ لأنه سوف يطلعه الله، والغلول من ورائه والخيانة للنبي نوع من عدم تحقيق الإيمان به.
قال: ثم حكى -أي ابن جرير - عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى: يتهم بالخيانة.
فقوله تعالى: (يغل) أي: ينسب إلى الغلول، وهذا وجه آخر في تفسير قراءة ((يُغَلَّ)).(18/9)
عقوبة جريمة الغلول
ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ))، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة.
فروى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة)، نسأل الله العافية.
وقد ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث، إلا أنه ثابت في الصحيحين بمعناه، ففي الصحيحين عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وقوله: (طوقه) يعني: جعل طوقاً في عنقه، فالتراب الذي يكون في هذا الشبر إلى الأرضين السبع كل ذلك يجعل طوقاً في عنقه، نسأل الله العافية.
وقد احتج بهذا الحديث الصحيح من يقول: إن الأرضين السبع هي في هذه الأرض، وقيل: بل هذه الأرض كلها هي أرض واحدة، فيقول: إن ما يساوي هذا الشبر من الأرضين الأخرى المنفصلة عن هذه الأرض المستقلة عنها يؤتى به ويجعل طوقاً في عنق الغال أو الظالم لشبر من الأرض، نسأل الله العافية.(18/10)
الأموال العامة وعظم خطرها
وروى الإمام أحمد عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وهذا إذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعماله، وهو حد الكفاية بالنسبة لهم، فمن كان ليس له منزل فله أن يتخذ منزلاً، وهذا لا يعني أنه يأخذ من تلقاء نفسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطيهم، أو يجعل من يعطيهم، وذلك بأن يخبره من يعمل الأعمال من جمع الأموال أو ولاية الولايات بأنه ليس له منزل أو ليس له زوجة أو ليس له دابة أو ليس له خادم فيأذن له بأخذ ما يحتاج إليه، فإن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال وخائن للأمانة، وهذا دليل على أن قضية الغلول واسعة، وليست فقط في الغنيمة عندما يغل الإنسان ويسرق من الغنيمة قبل قسمتها، بل يدخل في ذلك كل من ولي ولاية وكان على مال من أموال المسلمين العامة، ووالله إن هذا لبلاء شديد، فكل من ولي على المسلمين من أموالهم شيئاً يمكن أن يتصور فيه الغلول والخيانة بأن يضع الأشياء في غير مواضعها، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الغلول والخيانة.
وأموال المسلمين العامة هي أكثر الأموال استهانة بها عند الناس، فالناس يستهينون بالأموال العامة، ويقولون: إن مال الحكومة حلال، والواقع أن الحكومة ليس لها مال، بل هذه أموال المسلمين العامة، وهي ملك للمسلمين عموماً، وهي أشد خطراً من الأموال الخاصة، ولذلك تجد التشديد في الأموال العامة، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من رجل شراك نعل جاء به بعد أن انصرف الجيش وقال: (تأتي به يوم القيامة) إذ بعد أن انصرف الجيش لا يقدر أن يوصل لكل واحد منهم نصيبه من هذا الشيء اليسير.
فأموال المسلمين العامة أغلظ من الأموال الخاصة، فالشخص الواحد قد ترجع له حقه إذا تبت إلى الله، أما الأموال العامة فهي -في الحقيقة- مملوكة لكل المسلمين، ولكل مسلم حق ونصيب فيها، فكونه يهمل في شيء منها فيدمره ويفسده على المسلمين، أو يستعمله استعمالاً يؤدي به إلى فساده، أو يأخذه بغير حق، أو يحتال بأي وسيلة من الوسائل ليأخذ ما ليس له؛ كل ذلك أمره شديد، ونسأل الله العفو والعافية، ومن ذلك الرشوة، وسيأتي ما يدل على أنها من الغلول، فكل مال يدفع لموظف عام من أجل أن يخون الأمانة أو يؤديها فهو خيانة، إذ واجب عليه أن يؤديها دون أن يأخذ مالاً من المنتفعين بها من المسلمين؛ لأنه يأخذ أجرته من بيت المال، فكيف يأخذ من الناس شيئاً؟! فإذا كانوا يعطونه لكي يؤدي الحق فهو ظالم، وإذا كانوا يعطونه لكي يخون الحق ولكي يخون الأمانة فهذا أشد والعياذ بالله.
وروى أبو داود بسند آخر عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً.
قال أبو بكر -أحد الرواة-: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق).
قال ابن كثير قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير، وهو أشبه بالصواب، وهو حديث صحيح بما قبله.
وهناك حديث آخر رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعاً من أدم ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك) لم يروه -أي: عن ابن عباس - أحد من أهل الكتب الستة.
وهو صحيح، ورووا مثله من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وهذا دليل على أن من غل شيئاً، أو سرق من أموال المسلمين العامة، أو أخذ ما ليس له منها، أو خان في الأمانة، فإنه يأتي يوم القيامة وعلى رقبته هذا الشيء لا يفارقه، وهو حمل ثقيل لا يستطيع التخلص منه، ويستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ويقول: (لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)، فيظل ملازماً له إلى أن يهوي به في النار، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية.(18/11)
هدايا العمال في الأعمال العامة وعقوبة الغال في عمله للمسلمين
روى الإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!) يعني: ما أهدي له لعلاقة كانت قائمة قبل ذلك، وإنما أهدي إليه لأجل الولاية، ولأجل أن يقوم بالحق أو أن يقوم بالباطل، أهدي إليه لكي لا يظلم الناس كما يقع من كثير من العمال، وهذا من الغلول ومن الرشوة المحرمة، أو يهدى إليه لكي يقوم بالباطل فلا يأخذ الحق من أهله، أو لكي يجعله على غيرهم، أو لكي يظلم بعض الناس ويقدم بعض الناس الذين لا يستحقون التقديم على غيرهم، وكل ذلك -سواء سمي هدية أو سمي رشوة أو سمي غير ذلك- من الغلول.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر.
ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه -أي: بياض إبطيه- -ثم قال: اللهم هل بلغت ثلاثاً) أي قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، والحديث رواه البخاري ومسلم.
قال أبو حميد: بصرته بعيني وسمعته بأذني واسأل زيد بن ثابت.
وروى الإمام أحمد عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غلول) وهذا الحديث من أفراد أحمد، وهو ضعيف الإسناد، وكأنه مختصر من الذي قبله، وهذا يدل على أن هذا داخل في الغلول، فمن كان في وظيفة عامة فلا يجوز أن يعطيه أحد شيئاً من الهدايا، ونسأل الله العافية.
وهناك حديث آخر رواه أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري فرددت، فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير أذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك).
قال الترمذي: حسن غريب.
وضعفه الشيخ الألباني، لكن له شواهده في المعنى.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -والصامت هو الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك) والحديث متفق على صحته.
وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة) وسمي الغلول غلولاً لأنه يكون في رقبته يوم القيامة، والغل يكون في الرقبة والعياذ بالله، وقوله: (كتمنا منه مخيطاً) المخيط هو الإبرة.
قال: (فقام رجل من الأنصار أسود -قال مجاهد: هو سعيد بن عبادة - كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله! اقبل عني عملك -يعني: أقلني فلا تعيني في وظيفة عامة ولا تعيني في عمل أجمع فيه أموالاً أو أكون أميناً فيه على أموال-؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا.
قال: وأنا أقول ذاك الآن، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه وما نهي عنه انتهى) كذا رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي رافع قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب، قال أبو رافع: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال: أف لك! أف لك! مرتين فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: مالك؟ امش.
قال: قلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله.
قال: وما ذاك؟ قال: أففت بي؟ قال: لا، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار) ونسأل الله العافية، ونعوذ بالله، والحديث ضعفه الشيخ الألباني، لكن له شواهد أخرى.
وقوله: (فدرع) يعني: ألبس درعاً، وهذا دليل على أن من أسباب عذاب القبر، خيانة الأمانة في الأموال العامة.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول: مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول؛ فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم) وهو صحيح بمجموع طرقه، وقد روى ابن ماجه بعضه.
قوله: (مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم) أي: نصيبي مثل نصيب الواحد منكم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي في قسم الغنائم مع عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان يأخذ الخمس الذي جعله الله عز وجل له ليجعله في مصالح المسلمين، ويأخذ منه نفقته وكفايته وكان لا يكفيه عليه الصلاة والسلام، مع أنه كان يدخر قوت سنته، لكن سرعان ما ينفقها ويبقى أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد لهم في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وليس لهم طعام إلا الأسودان: التمر والماء.
قوله: (أدوا الخيط والمخيط) أي: أدوا الخيط والإبرة (وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد) -أي: إذا كانوا ممن شرع الله جهادهم.
فيجاهد الأقارب والأباعد بكل أنواع الجهاد.
وهناك حديث آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا الخيط والمخيط؛ فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة).
وهناك حديث آخر عن أبي مسعود الأنصاري قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً -والساعي جامع الصدقة- ثم قال: انطلق أبا مسعود، لا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته.
قال: إذاً لا أنطلق.
قال: إذاً لا أكرهك) تفرد به أبو داود، وهو حديث صحيح.
أي: أنه خشي على نفسه من أن يأخذ ما ليس له فترك أن يعمل جامعاً للصدقة وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك وقال: (لا أكرهك).
وهناك حديث آخر رواه أبو بكر بن مردويه عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل: ائت به)، وذلك قوله: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، والحديث ضعيف.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) رواه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح.
وهذا دليل على إثبات عذاب القبر، وعلى عدم قول: فلان شهيد؛ لأنه ربما يكون على غير ذلك، وأما إذا قصد أنه شهيد في أحكام الدنيا فذاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعهم من أن يتكلموا في حق من لم يعرف عنه فساد، وإنما سكت، ولما قالوا: فلان شهيد قال: (كلا) وهذا دليل على أنه قد يقتل الإنسان في سبيل الله ويعامل في الدنيا معاملة الشهداء ولكنه لا يكون عند الله شهيداً لوجود مانع من ذلك، وهو أن يكون قد غل من الغنيمة.
وهناك حديث آخر عن عمر، فقد روى ابن جرير عن عبد الله بن أنيس (أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوماً الصدقة فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: من غل منها بعيراً أو شاة فإنه يحملها يوم القيامة؟! قال عبد الله بن أنيس: بلى).(18/12)
ما يجازى به الغال في الدنيا
ورواه ابن ماجه عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه).
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد مملوك -أي: دون خمسين جلدة- ويحرم نصيبه)، وهذا الحديث ضعيف في عقوبة الغال أنه يحرق رحله، فالتحريق للغال لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الحسن، وقول علي أيضاً ضعيف، فلا يثبت هذا الأمر، وإن نصره بعض العلماء كـ ابن القيم رحمه الله، فالحديث ضعيف لا يعمل به، وإنما أفتى بعض التابعين بأنه يتصدق بثمنه كما سيأتي.
وأما جلد الغال فهذا للإمام، فإن رأى أن يجلده ويعاقبه بجلد أو حبس أو غير ذلك فإنه يفعل على قدر ما يرى، لكن دون الحد.
وروى ابن جرير عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقاً فقال: إياك -يا سعد- أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء.
فقال: لا آخذه ولا أجيء به -يعني: لا آخذ العمل ولن آتي بشيء- قال: فأعفاه) أي: قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
فمن وجد في نفسه ضعفاً عن القيام بالحق فلا يتعين في هذه الوظائف العامة.
وروى الإمام أحمد عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم، فوجد مسلمة في متاع رجل غلولاً فسأل سالم بن عبد الله فقال: حدثني أبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتم في متاعه غلولاً فحرقوه.
قال: وأحسبه قال: واضربوه، قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفاً فسأل سالماً فقال: بعه وتصدق بثمنه) وهذا الحديث ضعيف، أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر.
وقال الداراقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه، وهو عقوبة الغال بتحريق متاعه.
وروى الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه).
يقول: وخالفه أي: خالف أحمد بن حنبل - أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله.
أي: يعزر بما يراه الإمام كما يعزر من أخذ مالاً بغير حق.
وقال البخاري: (وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه) , والله أعلم.
وهذا الصحيح في هذه المسألة؛ لأن الإحراق فيه إفساد من غير مصلحة.
وروى الإمام أحمد عن جبير بن مالك قال: أمر بالمصاحف أن تغير -والذي أمر بذلك هو عثمان بن عفان؛ لئلا يكتب مصحف إلا على الرسم الذي اتفق عليه ويمحى ما سوى ذلك، وكان المخالف في ذلك عبد الله بن مسعود -قال: فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفاً فليغله، فإنه من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، ثم قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة؛ أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان هذا رأي ابن مسعود، وانقطع هذا القول، وأصبح إجماع الأمة أنه لا يكتب المصحف إلا بهذه الطريقة، حتى ولو كانت هناك قراءات ووجوه أخرى في ترتيب السور، فقد أجمعت الأمة على أن المصاحف لا تكتب إلا هكذا والحمد لله؛ وذلك لحفظ القرآن بفضل الله.
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم يخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله! هذا كان مما أصبنا من الغنيمة.
فقال: أسمعت بلالاً ينادي -ثلاثاً؟ - قال: نعم، قال: فما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر إليه، فقال: كلا، أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله منك)، وكان هذا من أعظم العقوبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله العافية.
وقد ذكر العلماء أن من أخذ أموالاً عامة من غير حق ثم تاب إلى الله عز وجل فإنه يتصدق بها عن المسلمين الذين يستحقونها، وهذا هو قول أكثر أهل العلم.(18/13)
الأسئلة(18/14)
حكم أخذ العامل ما يعطاه في عمله مما يسمى بالإكرامية وحق الشاي
السؤال
هل يجوز للعامل أن يأخذ ما يعطاه في عمله مما يسمى بحق الشاي والإكرامية ونحو ذلك؟
الجواب
هذا في القطاع الخاص جائز بعلم صاحب العمل، فإذا كان المرء يعمل في قطاع خاص فأعطاه بعض الناس إكرامية فإنه يبلغ صاحب العمل ويقول له: إن فلاناً أعطاني كذا، وذلك ليكون بريئاً من هذا الأمر، أما القطاع العام فلا يجوز للعامل فيه أن يأخذ شيئاً.
وهناك تنبيه على أمرهم، وهو أنه في لجان التصحيح أيام الامتحانات تبقى بعض كراسات الإجابة للطلبة المتغيبين عن الامتحان، فيأذن رئيس لجنة التصحيح في أن يأخذ منها العاملون في هذه اللجنة، وهي من الأموال العامة والرسول صلى الله عليه وسلم قد شدد في ذلك حتى قال: (أدوا الخيط والمخيط)، فالكراسات هذه إن أخذت فإنه يجب أن تستعمل في مصالح المسلمين العامة كأن تستغل في التدريس بعد ذلك، أما أخذها لأعمال خاصة فلا.
فحق الشاي كما يسمى والإكرامية في القطاع الخاص أمر جائز بإذن صاحب العمل، أما القطاع العام فلا، ومن عمل في شركة وعندهم في الشركة كمبيوتر يسمع منه قرآناً أحياناً ويستفيد منه بعض الأمور التي تنبه -مثلاً- على فضيلة يوم عاشوراء ويوم عرفة ونحو ذلك من الأمور التي فيها مصلحة عامة فلا بأس بعمله هذا، فهذا من المصالح العامة التي فيها دعوة إلى الله عز وجل وفيها تذكير بالخير، ومثل هذا لا يمنع.(18/15)
حكم مد لفظ الجلالة في الأذان
السؤال
هل يجوز مد لفظ الجلالة في الأذان؟
الجواب
الصحيح أنه يمد مداً طبيعياً بحركتين فقط، ولكن بعض المشايخ يقولون: إن هذا مد تعظيم، والصحيح أنه يمده مداً طبيعياً، ولكن لا يبطل الأذان بذلك.(18/16)
حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة تابعة لقبور أزيلت منه
السؤال
ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة ليس فيها قبور، حيث إنه تم إزالة القبور، لكن القبة تابعة للقبور؟
الجواب
تجوز الصلاة فيه إذا أزيلت القبور؛ لأنها هي العلة.(18/17)
حكم الصلاة في مسجد فيه مقام كرسي من خشب
السؤال
مسجد فيه مقام كرسي خشب ليس فيه قبر، فما حكم الصلاة فيه؟
الجواب
إن كان هذا الكرسي الخشب يعبد وثناً من دون الله بحيث يعظم وينذر له فالعلة قائمة في النهي عن الصلاة في هذا المكان، وإن لم يكن يعظم ولا يفعل فيه شيء من العبادات فلا حرج؛ لعدم وجود العلة، نعم ليس هناك نص في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها مقامات، لكن -كما ذكرنا- إن كان هذا الأمر مما يعبد من دون الله فهذا هو سبب النهي عن الصلاة في هذا المكان.
فالمشكلة أن بعض الناس قد يعظم المخلوق تعظيماً يخرج به عن حده، وقد سمعنا أن أحد هؤلاء يقول: إنه يجوز أن يقال: عيسى ابن الله على سبيل التشريف، وهذا كلام باطل، فلا يجوز أن يقال: عيسى ابن الله، ولا أحد من الخلق يقال له: ابن الله أبداً، ولا على سبيل التشريف، فقد رد الله على من قال ذلك فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30] وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]، ولا يجوز قول ذلك على سبيل المجاز، قال عز وجل: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} [الزمر:4] فنزه الله نفسه عن أن يكون له ولد مخلوق.
لكن عيسى عليه السلام هو روح الله على سبيل التشريف، فهذه الروح هي المشرفة المنسوبة إلى الله وليست هي صفة من صفاته.(18/18)
ما يقرأ من القرآن على النصراني، وبيان انحراف أهل الكتاب وضلالهم
السؤال
إذا طلب مني بعض النصارى أن أقرأ عليه بعضاً من القرآن فمن أي القرآن أقرأ؟
الجواب
اقرأ عليه سورة مريم، كما فعل جعفر رضي الله عنه مع النجاشي، واقرأ سورة آل عمران.
وإنَّ أبرز الحجج في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).
فعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مأخوذ من تصديقه صلى الله عليه وسلم، وتصديقه مبني على معرفة المعجزات التي أعظمها القرآن العظيم، ووجوه الإعجاز المختلفة في القرآن الكريم مذكورة في كتب التفسير، وفي مقدمة تفسير القرطبي شيء صالح من ذلك، وكثير من كتب علوم القرآن موجود فيها وجوه الإعجاز أيضاً.
وأما المعجزات الحسية فأحيلك على كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية ففيه معجزات بالأسانيد الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تبلغ مئات المعجزات الحسية، والتي ينقلون عن الأنبياء السابقين أقل من عشرها بلا أسانيد ومع ذلك يقبلونها، فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فقد كذب كل الأنبياء، لزاماً، فمن الواجب علينا أن نبين لهم فساد الاعتقاد بتعدد الآلهة والتثليث، وأن المسيح إله يعبد من دون الله أو مع الله أو هو الله، وبيان كفر من قال ذلك مما لا يحتمل تأويلاً، فهؤلاء يخدعون الناس مستدلين بآيات من القرآن لبيان عقائدهم الباطلة، فإذا كان القرآن حقاً فلابد من أن يقبلوه كله؛ والكثير من الشبهات الآن تلقى في قنوات تبشيرية، ولا أدري لماذا يستمع الناس لها؟! ويحاولون فيها أن يأتوا بآيات من القرآن لإثبات ما هم عليه، فإذا كان القرآن حقاً فقد قال الله فيه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وهذه لا يستطيعون لها تحريفاً ولا تأويلاً على الإطلاق، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهذه كلها نصوص قطعية، فإن كانوا يصدقون بالقرآن فالقرآن حجة عليهم، والواقع أنهم لا يصدقون بالقرآن ولا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وأما قوله عز وجل: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة:47] فهم يحتجون به على بقاء الإنجيل، ونحن نقول: قد أنزل الله عز وجل في الإنجيل ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المسيح بشر مثلهم، فليحكموا بهذا، وليس في هذا إلغاء بالكلية، وإنما هناك عقائد واحدة قالها المسيح عليه السلام كما قالها من قبله الرسل، وجاء بها كل الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم أن يحكموا بذلك.
وهناك شرائع متفق عليها كذلك، مثل: تحريم الزنا، وإقامة الحدود، أعني القطع -مثلاً- في السرقة، والرجم في الزنا، فهذا مما اتفقت عليه كلمة الكتب الثلاثة، واتفقت عليه الشرائع الثلاث: شريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم لا يطبقون شيئاً من ذلك، فقد نزل القرآن في هذا خصوصاً فيما لم يتغير ولم ينسخ، وليس المعنى أن هذا ينفي النسخ، فإننا نعمل بالقرآن ونعرف أن فيه ناسخاً ومنسوخاً، فما وجه الاعتراض؟ فقد أنزل الله المنسوخ لمدة من الزمن وهو عز وجل يعلم أنه سيغيره لمصلحة الناس، وأما ما لم ينسخ فيجب العمل به، فمن ترك العمل بالمنسوخ من القرآن فهل يقال عنه: ترك العمل بالقرآن؟ لا، فكذلك إذا ترك المنسوخ من الإنجيل لو ثبت، وهذا الكلام هو في حق الإنجيل الذي جاء به المسيح، لا الأناجيل التي كتبها الحواريون وأتباعهم على صيغة المسيح، فنحن نعتقد أن الإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى صلى الله عليه وسلم، والنصارى يعتقدون أن الإنجيل الذي بين أيديهم هو صيغة المسيح التي كتبها الحواريون وتلامذتهم وليس هناك كتاب أنزله الله على المسيح.
فنقول: الإنجيل الذي أنزله الله على المسيح صلى الله عليه وسلم يحكم به -كما ذكرنا- في العقائد الواجب اتباعها، وفي الأحكام المتفق عليها بين الشرائع والأخلاق الواجب اتباعها كذلك، وترك الأخلاق المحرمة، كل هذا مما اتفقت عليه كل الشرائع، فليحكموا بذلك، وأعظم ذلك وأهمه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتوحيد الله عز وجل قبل ذلك، فليس لأحد من النصارى ولا اليهود أن يحتج بشيء من القرآن؛ لأنهم لا يصدقون القرآن، ولا يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فليس لهم أن يحتجوا بالقرآن، ولا أن يقولوا: إن الله قد أخبر بذلك؛ لأن الله هو -سبحانه وتعالى- الذي أمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان اعتقادكم في القرآن أنه حق فاقبلوا كل القرآن، وأما إذا لم يكن ذلك فلا تضربوا بعض القرآن ببعض، ولا يجوز لكم أن تأخذوا بعضاً وتتركوا بعضاً، إنما هذا حال الكفار -والعياذ بالله- وهم كذلك، فيجب أن لا يقبل منهم احتجاج بالآيات؛ لأنهم غير مصدقين بها، وهذه الآيات يفسرونها على غير وجهها {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وأهل العلم يردون المتشابه إلى المحكم، فيتفق الكتاب كله، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء:162] فيقول صاحب الشبهة: كيف جاءت ((وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ))؟ وهذه من شبهات المنصرين، وهذه الجملة من الآية منصوبة على الاختصاص، أي: وأخص المقيمين الصلاة، ولها وجوه أخرى في الإعراب من أراد أن يرجع إليها فليرجع إلى تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود، لكن أظهرها ما ذكرنا، وهو تخصيص المقيمين الصلاة، وذلك لأهمية الصلاة.(18/19)
عدة من يتأخر نزول حيضها
السؤال
امرأة كانت تستعمل علاجاً خاصاً بالدورة أدى إلى عدم انتظامها، حتى إنها كانت تأتيها كل ثلاثة أشهر فقط، فطلقت وهي غير حامل، فكيف تكون عدتها؟
الجواب
طالما كانت تحيض ولو كل ثلاثة أشهر أو تسعة أشهر فعدتها ثلاث حيض، وإذا انقضت الفصول الثلاثة ولم تحض وغلب على الظن انقطاع الدورة بالكلية فحينئذٍ تعتد بالأشهر، لكن إن جاءت الدورة ولو بعد عدة أشهر فعدتها بالحيض.(18/20)
اليهود قتلة الأنبياء
لقد ذكر الله تعالى عباده المؤمنين بحقيقة الصراع الكائن بين الإسلام والكفر؛ ليعرفوا حقيقة أعدائهم من الكافرين بآيات الله وقتلة الأنبياء وحملة الدعوة الإسلامية، والمعرضين عن تحكيم شريعة الله تعالى، وبين أن هؤلاء ليس لهم ناصر حقيقي يقيهم غضب الله تعالى ومكره، وإذا كان الأمر كذلك فللمؤمنين جناب عظيم يلوذون به حين تشد بهم الأزمات في مواجهة أولئك الكافرين، ولذا كان عليهم أن يقووا إيمانهم بربهم مالك الملك، والمتصرف في الكون؛ ليجدوا منه العون والتأييد.(19/1)
حقيقة الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فقد قضى الله سبحانه وتعالى بعدله وحكمته بوجود العداوة بين أولياء الرحمن بني الإنسان وأولياء الشيطان، فأولياء الرحمن من بني آدم عليه السلام هم الذين اتبعوه على معرفة الله وتوحيده ومحبته، والتوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، والاعتراف بالذنب، والرجوع إلى أمره عز وجل، والاستغفار.
وأولياء الشيطان، وإن كان بعضهم أو كثير منهم ممن انتسبوا إلى آدم، إلا أنهم والوا عدوهم إبليس اللعين، وساروا على طريقته في الإباء والاستكبار والكفر والعناد، والعياذ بالله، فصارت هذه العداوة مستمرة تجري حلقاتها جيلاً بعد جيل على ظهر هذه الأرض.
والله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذا الصراع منذ أمر آدم بالهبوط إلى الأرض هو وإبليس، فقال سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24]، فهذه العداوة لابد من أن نعرف قواعدها وموازينها؛ لنختار لأنفسنا الفريق الذي ننتمي إليه، حتى لا يخدعنا مخادع عن حقيقة الصراع الذي يجري على وجه هذه الأرض، مما يخدع الشيطان به أولياءه فيظنون أن الصراع ينبغي أن يكون على الملك أو على المال أو على الشهوات أو على الطعام والشراب، فكثير من الناس إنما يصارع من أجل ذلك، فيقع في الفخ الذي نصبه الشيطان، فيكون من جنده، والشيطان وإن أوقع العداوة بينهم إلا أنه لا يرضى لبني آدم إلا الخسران في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.(19/2)
بيان الله لعباده مكر عدوهم وكشفه لحقيقته
والله سبحانه وتعالى بين لأوليائه وأتباع أنبيائه على ألسنة الأنبياء حقيقة أعدائهم وصفاتهم، فجلاهم سبحانه وتعالى وكشف ما في بواطنهم، من إرادتهم العلو والفساد في الأرض، وإرادتهم إطفاء نور الله سبحانه وتعالى، فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
ويملي سبحانه وتعالى لهم؛ وذلك لمتانة كيده، ولأنه سبحانه وتعالى خير الماكرين، قال عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50].
والله سبحانه وتعالى يكيد بأعدائه الكافرين، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].
وبين سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حقيقة الصراع الذي يجري بينهم وبين عدوهم، خاصة من تستمر عداوتهم إلى قبيل قيام الساعة، وهم كفرة أهل الكتاب، كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الملاحم الكبرى أنه: (قبيل الدجال تقع ملحمتهم مع الروم، مع كفار النصارى الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغدرون حتى يأتون تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً، وينتصر عليهم المسلمون بفضل الله عز وجل بأرض الشام)، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أمر الدجال، وذكر صلى الله عليه وسلم الملحمة الكبرى مع اليهود بعد ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
ولقد بين صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الدجال يتبعه اليهود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة).
فدلت هذه الأدلة على بقاء هذا الصراع إلى الأشراط الكبرى قبيل القيامة، فهذه مسألة عظيمة الأهمية في حياة المسلمين، فلابد من أن يعوا أن الصراع لن ينتهي وإن تفاوتت القوى في المراحل المختلفة والأزمنة والعصور المتفاوتة، فإن الله عز وجل يداول الأيام بين الناس امتحاناً لعباده المؤمنين للعلة التي تذكرها سبحانه بقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].
ولقد بين سبحانه وتعالى لعباده وأوليائه صفة الكفرة، وحقيقة طريقتهم حتى لا يخدع المؤمنين مخادع، ممن ينتسب إلى الإسلام بلسانه وهو في الحقيقة من أعداء الله عز وجل المنافقين، الذين يلبسون ويصدون عن سبيل إله ويبغونها عوجاً.(19/3)
حقائق أعداء الله عز وجل
قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:21 - 28].
ما أحوجنا إلى أن نتدبر هذه الآيات التي تجلي لنا حقيقة عدونا وطريقته في الحياة، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
هؤلاء الذين يكذبون آيات الله سبحانه وتعالى ويأبون الانقياد، وهم الكفار من كل نوع، وهؤلاء ينطبق وصفهم على بني إسرائيل كثيراً؛ لأن الله عز وجل ذكرهم فقال: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فهذه صفتهم الممتدة عبر التاريخ، يكفرون بآيات الله عز وجل، وباءوا بكفر عظيم غليظ بتكذيبهم لأنبياء الله عز وجل واحداً بعد واحد، وباءوا بأشد من ذلك، وهو تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد تكذيبهم لعيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهؤلاء هم الذين يكفرون بآيات الله، وإن كانوا يزعمون الانتساب إلى أنبيائه، فإن سبيلهم سبيل التكذيب والكفر والعياذ بالله، هذا وصفهم وحقيقتهم التي لابد أن تجلى وتبين للمسلمين.(19/4)
الكفر بآيات الله تعالى
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران:21].
هذا هو أول وأعظم أسباب عداوتهم، فإنما يعاديهم أهل الإيمان؛ لكفرهم بآيات الله وتكذيبهم رسله، ومن ثم وقعوا في الشرك والكفر والعياذ بالله، فإن من كذب الرسل وكذب بالكتب المنزلة على رسله فقد عبد الشيطان الذي أمر بهذا الكفر، فهو مشرك كافر والعياذ بالله، فتبدو العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبينهم أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
وهي عداوة لا تتوقف، وبغضاء لا تنتهي حتى يؤمنوا بالله وحده بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تحريفاً بفضل الله سبحانه وتعالى وإن رأى أهل الزندقة والنفاق والكفر أن يزيلوا هذه الآيات، ولزوال السموات والأرض ممكن دون أن تزول آيات الله سبحانه وتعالى، فقد وعد بحفظها، فلا تزال في القلوب، ولا تزال كذلك في السطور في الصحف التي حفظها الله سبحانه وتعالى.(19/5)
قتل الأنبياء وحملة الدعوة الإسلامية
إن الله عز وجل بين أن الصراع بيننا وبينهم قائم؛ لأنهم يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، وكل من قتل نبياً فقد قتله بغير حق، فهذا وصف للواقع الذي وقع منهم، وهذا أمر ذُمَّ الحاضرون عليه رغم أنه تركة أجدادهم ومن خلفهم على طريقتهم، وقد علمنا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فكيف يذم الله عز وجل الحاضرين على جريمة ارتكبها الآباء؟ وهو عز وجل أخبر في كتابه أنه لا يعاقب أحداً بجريمة غيره فقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]؟
و
الجواب
إنما ذمهم الله عز وجل لأنهم وافقوهم على طريقتهم، حيث حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقوا من قبلهم في النية والمقصد وفي السلوك والمنهج، وكذلك من يأتي بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فهناك من يحاول قتل دينه ودعوته، فيحاول إزالة هذا الدين من على وجه الأرض، ويحاول أن يميت صوت الحق الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، ويحاول إزهاق دعوة التوحيد التي جاء بها الأنبياء، فلذلك يكون من الذين يقتلون النبيين بغير حق؛ لأنه وافقهم على طريقتهم، فكل من أراد إيقاف دعوة الحق وأراد قتل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يدعون إلى الله عز وجل، فهو من الذين ((يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)) فهذه سبيلهم وطريقتهم.
ولقد ذكر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن بني إسرائيل قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء بكرة نهارهم ثم أقاموا سوق بقلهم في آخر النهار! فهذه عادتهم والعياذ بالله، ولقد كادوا أن يقتلوا رسولاً من أشرف رسلهم وهو هارون عليه السلام، وهو حي بين أظهرهم في حياة موسى، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن هارون عليه السلام: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فهذا فيمن نجوا على يديه، وأخرجهم الله به من ظلمات البلاء الذي كانوا فيه على يديه مع أخيه، ولما غاب أخوه أربعين ليلة كادوا أن يقتلوه عليه السلام مستضعفين له، فإذا كان هذا فيمن صحب الأنبياء منهم فكيف بمن أتى بعدهم؟! فهم يسيرون على النهج والطريق نفسه، والعياذ بالله وهذا الأمر لا يصلح مع أمة الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى؛ إذ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة لا تزول بفضل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، فالله عز وجل يبقي بهؤلاء القوم ما يسوءهم بفضله ورحمته سبحانه وتعالى.
وأما قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس فهي صفة ملازمة لهم كذلك، وهي تابعة لقتل الأنبياء، وذلك أن الأنبياء ما ورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فلكراهيتهم لدعوة الأنبياء أرادوا قتل من يدعو إليها، وأرادوا قتل من يأمر بالقسط من الناس، بل قتلوهم بالفعل، ولا يزال هذا الأمر يقع، ولا يزال الذين يأمرون بالقسط من الناس يتعرضون للبلاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى صبرهم وتضحيتهم وثباتهم على دينهم، رغم ما يتعرضون له من البلاء، وهو سبحانه وتعالى قد جعل تضحية الذين يأمرون بالقسط من الناس بأنفسهم وأموالهم وكل ما لديهم سبباً لانتشار الحق، وسبباً لانتصاره كذلك، فالله سبحانه وتعالى عليم حكيم، وهو عز وجل مالك الملك، وهو الذي يدبر الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده عز وجل أن ينزع أرواح هؤلاء الذين يقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وأن يوقف نبض قلوبهم، وأن يجفف الدم في عروقهم، وأن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأن يرسل عليهم حاصباً من السماء، هو قادر سبحانه على ذلك كله، وقادر على أن ينزع ما أعطاهم من الملك، وهو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وتلحظ هذا في كل يوم ولحظة من اللحظات، ولا ينازع في ذلك أحد، وهو أمر مشهود محسوس؛ ومع كل ذلك أمكنهم سبحانه وتعالى وأقدرهم على أن يقتلوا أنبياءه ورسله، وهو سبحانه وتعالى ينتصر لأوليائه، ويغضب على من آذاهم، فكيف بمن قتل نبياً؟! أو رسولاً؟! وكيف بمن قتل أولياءهم وأتباعهم الذين يأمرون بالقسط من الناس؟! فالله سبحانه العليم الحكيم الحليم، قضى ذلك وقدره؛ ليرى ما يحب من عباده المؤمنين من ثباتهم، ومن توريثهم الحق جيلاً بعد جيل، وطائفة بعد طائفة رغم التضحيات، وليظهر قدرته وقوته، وأنه سبحانه وتعالى ناصرٌ دينه وأولياءه وإن قتل من قتل من الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس.
والله سبحانه وتعالى لم يجعل دعوة الحق التي أنزلها في كتبه وعلى ألسنة رسله مرتبطة بأشخاص، وإنما هي دعوة مستمرة بفضل الله سبحانه وتعالى، وليست مرتبطة بموازين المادة على ظهر هذه الأرض، فموازين القوى الظاهرة لا ترتبط بها أبداً، وإنما هي حبل موصول كما قال عز وجل: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالوحي المنزل حبل موصول طرفه بيد البشر ونهايته توصل إلى الله عز وجل، فمن استمسك به واعتصم نجا، ووصل إلى مرضاة ربه، ودخل الجنان بفضل الله سبحانه وتعالى، ومن تركه وقع في الهاوية والعياذ بالله! وهذا الحبل الواصل بين السماء والأرض أراد الله أن يمتحن به عباده في التمسك به والثبات عليه، فقدر ما قدر من وجود هؤلاء الأعداء {الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21]، وهو سبحانه يري الناس آياته، ومنها تمكن الظالمين ومسارعتهم في الكفر، وكأن الأمور بأيديهم، ثم بعد ذلك يحقق الله عز وجل وعده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].(19/6)
حبوط أعمال الكافرين في الدنيا والآخرة
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:21 - 22]، فكل ما يخططونه ويريدونه يضمحل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37].
وقال عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فعملهم وكيدهم في ضلال، كما قال الله: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، وكما قال: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37]، فالله سبحانه وتعالى جعل كيدهم إلى بوار، وجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، فكلما أرادوا أمراً حصل عكسه حتى يأذن الله عز وجل بإحباط خططهم ومكرهم، إحباطاً تاماً إذا أذن وأمر سبحانه، قال الله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وأما في الآخرة فلا ثواب لهم عند الله، فعملهم كله حابط؛ إذ إن من أشرك بالله وكفر بأنبيائه ورسله -فضلاً عن أن يقاتلهم ويقتلهم- عمله حابط كله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
فالمشرك حابط العمل لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً، فكل من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فهو مشرك حابط العمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).(19/7)
خذلان الله للكافرين
قال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22]، فليس لهم من ناصرين رغم كثرة من ينصرهم؛ وذلك لأن قوة البشر لا تساوي شيئاً في ميزان القوة في هذا الوجود، فكم تساوي من القوة المودعة في الأرض؟ وكم تساوي بالنسبة إلى القوة المودعة في البحر؟ وكم تساوي بالنسبة إلى القوة المودعة في السماء؟ وكم تساوي بالنسبة إلى قوة ملك من الملائكة؟ فإن كنا نؤمن بذلك فلندرك هذه الحقيقة اليقينية، فكيف بالنسبة إلى قوة القوي العزيز الرحيم، العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه سبحانه وتعالى؟! فينبغي أن يكون ظاهراً لكل أحد أن قوة الكفرة والظلمة لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى القوة المودعة في الأرض، فلو تزلزلت الأرض زلزالاً يسيراً بدرجات معدودة لدمرت ما فوقها، فكيف بما في باطنها من أهوال، ولو أمرها الله عز وجل أن تخرجها لخسفت بهؤلاء، ولو شاء لأغرقتهم البحار، أو حصدتهم السماء بأمره عز وجل؟! إن جبريل عليه السلام صاح بقوم لوط صيحة واحدة فأهلكهم عن بكرة أبيهم، وذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى، وصاح بقوم ثمود كذلك صيحة واحدة فأهلكهم الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذين كذبوا الرسل وقتلوا مؤمن آل ياسين {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29].
فالله سبحانه وتعالى جعل في الكون المشهود المخلوق من أنواع القوة والقدرة ما يدلنا على عجز البشر وضعفهم، فكيف يكون لهم ناصر من دون الله عز وجل إن أرادهم بسوء أو بإهلاك، ولو اجتمعوا جميعاً على تناصر بينهم فو الله لن يساووا عنده شيئاً، ولا أدنى من جناح بعوضة، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال عز وجل: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91].
ويمكن للمؤمنين بفضل الله أن يستخرجوا من أنواع القوة التي يدمر الله بها أعداءهم، وذلك بأن يستعينوا بقوة العزيز القوي الجبار، قاهر الخلق ما فوقهم وما تحتهم سبحانه وتعالى.
فإذا استعان المؤمنون بالله وأخلصوا دينهم له، دعوه عز وجل بصدق، فقد نزلزل لهم الجبال وتحرك لهم البحار والسموات والأرض، فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قومُه فأرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، فلم يرد ذلك وقال: (لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله)، فالله سبحانه وتعالى جعل الكفار بلا ناصر، فلا ناصر لهم، ولا ينصر بعضهم بعضاً إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى.(19/8)
ذكر أهل الكتاب المعرضين عن الحق
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23]، فهؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، فما تمسكوا بكتبهم التي أنزلها الله عليهم، بل ما رعوها حق رعايتها ولا حفظوها حق حفظها، فاستحفظهم الله كتابه فضيعوه، ولذلك ما أوتوا الكتاب كاملاً، وإنما أوتوا نصيباً منه، والله عز وجل أعلى وأعلم.
والمعنى: أن آباءهم وأجدادهم قد أوتوا الكتاب، ولكن هؤلاء قد ضيعوه، حتى إن ما بقي بأيديهم من الحق ما التزموا به، وما قبلوه أو طبقوه، فأخبرونا -عباد الله- عن حقيقة هؤلاء القوم في سلوكهم، هل يمتثلون توراة أو إنجيلاً؟ وهل يمتثلون توحيد الله عز وجل الذي أنزله في كتبه كلها؟! فكل كتب الله السابقة -حتى بعدما وقع فيها تضييع وتحريف وتبديل- لا يزال يوجد فيها دعوة التوحيد والحق وتصديق الأنبياء، فالرب رب واحد، هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهذه أول الوصايا في التوراة، وأولها على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام، فهي أول الوصايا في التوراة والإنجيل الموجودين الآن، ومع ذلك هل يطبق (لا إله إلا الله) ويدعو إليها في الأرض أحد غير أهل الإسلام؟! ثم تجد اليوم عداوة عجيبة لهذه الكلمة ولأهلها ومحاولة لإذلالهم، فهم لا يمتثلون كتاب الله، ويُدَعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيأبو ذلك، لا إلى الكتب التي بين أيديهم رغم ما فيها من تبديل وتضييع ولا إلى كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووافقهم في ذلك المنافقون، وتابعوهم على رفض التحاكم إلى كتاب الله، قال تعالى عنهم: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [آل عمران:23] أي: يتولون عن الإيمان، وعن الكتاب، ويتولون عن الانكسار والانقياد لأمر الله كما قال الله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أعرضوا عن آيات الله عز وجل بعد إذ أنزلت وبعد إذ بينت.
فهذه سبيلهم وطريقتهم وطريقة أوليائهم، طريقة تتكرر عبر العصور، وذلك أنهم متابعون لإبليس اللعين في إيذائه واستكباره والعياذ بالله، وهذا أبلغ الذم لهم على ما صنعوا، وذلك لفساد اعتقادهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر إيماناً صحيحاً، وإن أقروا بوجود البعث فإبليس يقر به، وإن أقروا بوجود النار فإن إبليس يقر ويعترف بذلك، فلن ينفعهم ذلك.(19/9)
دعواهم خروجهم من النار بعد أيام معدودة
واعتقادهم الفاسد الذي اخترعوه هو الذي قال عز وجل عنه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24]، وفي كل هذا تحذير لأهل الإسلام من أن يوافقوهم على ذلك الكفر والباطل، ومع ذلك وجد فيمن ينتسب إلى الإسلام من يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولى بعد ذلك فريق منهم وهم معرضون، ويوجد كذلك من يقول: {لََنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران:24]، فيرتكب المحرمات ويستهين بها، ويستخف بالعذاب والعياذ بالله، وربما استهزأ أو استكبر وزعم أنه سيدخل النار أياماً معدودات، ووافق اليهود فيما فعلوا والعياذ بالله، وذلك أنهم قالوا للمؤمنين: نبقى في النار مدة ثم تخلفونا فيها.
فأكذبهم الله سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي لا إله غيره لا نخلفكم فيها أبداً)، فإنما هم في النار مخلدون بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بآيات الله، وكفرهم بأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
مع أن مس النار في ثوانٍ معدودة لا يحتمله الإنسان في الدنيا، وربما بقي سنين معذباً بسبب ثوان معدودة من نار الدنيا، فكيف بنار جهنم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين ضعفاً، فنار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.(19/10)
كفرة أهل الكتاب يوم القيامة
قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:25]، فكيف يكون حالهم عندما يبعث الخلق وقد افتروا على الله الكذب، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون على الله من الكذب والزور والبهتان، وهذا كله يجب الحذر منه، فمن نسب إلى دين الله ما ليس فيه فقد افترى على الله الكذب، وذلك يغره ويخدع به نفسه بعد حين، وإن كان في أول أمره يعلم أنه افترى وكذب، لكنه يضل فيظن أن هذا من الدين، ويدافع من أجله بعد ذلك، ويقاتل عليه حتى يموت كافراً أو فاسقاً أو ظالماً، على حسب أحواله في إعراضه واقترائه وفي إفترائه على الله الكذب، وفي وضوح ذلك وبيانه من عدمه، فالله سبحانه وتعالى يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، ويوفي كل نفس ما كسبت، ويحاسب الناس على مثاقيل الذر من الأعمال، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(19/11)
أعظم أسباب الثبات
قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26].
هذا الأمر إذا استحضره أهل الإيمان كان ذلك من أعظم أسباب ثباتهم على دينهم رغم ما يرون من القوة المادية لأعداء الله التي تكاد في الظاهر تملأ السهل والوادي، بل الآن -فيما يبدو للناس- تملأ الأرض والسماء القريبة من الأرض، ومع ذلك فالله مالك الملك، وهو سبحانه يؤتي الملك من يشاء، فقد كان هؤلاء قبل سنوات معدودة لا وزن لهم، وكانوا مشردين في العالم، وكان من يوالونهم من النصارى كذلك لا قيمة لهم، بل كان مجتمعهم يتصارع ويتقاتل ولم يكن لهم من القوة ما لهم، كانت القوة عند غيرهم فنزع الله عز وجل منهم تلك القوة والملك وأعطاهما هؤلاء امتحاناً لعباده.
فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيده سبحانه، يخلق ما يشاء، وأفعاله كلها خير، فلا يرجى الخير إلا منه، وهو عز وجل يخلق الخير والشر، وخلقه للشر وجعله الكفار يفسدون في الأرض ذلك -والله- من الخير، من حيث لا يدري الناس إلا النزر فالله عز وجل قد يملك بعض الناس ملكاً يعزه به في ظاهر الأمر وقد يذله في باطنه، لأن العزة الحقيقية هي في طاعة الله، والذل الحقيقي في طاعة الشيطان، وإن بان للناس غير ذلك، أي: يخيل إلى بعضهم أن العز هو أن يكون الإنسان مطاعاً في الناس، أو أن يكون له من الجنود والأتباع والقوة التي يقتل بها ويسفك الدماء ويفسد في الأرض ما له، مع أن الله عز وجل قد جعل الإهانة فيمن لم يسجد له، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
فالذي أهانه الله هو من أبى أن يسجد، وهو جعله الله عبداً لعدوه، وهو عبداً للشيطان، وهو الذي يفعل الكفر والفواحش ويفسد في الأرض، وهل يختلف اثنان في أن اليهود والنصارى في زماننا يفسدون في الأرض أعظم الفساد، وأنهم ينشرون الفواحش في الأرض، ويريدون أسوأ مما كان يفعل قوم لوط، حتى شرعوا زواج الأمثال والعياذ بالله، ورضوا بذلك، ويريدون أن يفرضوه على العالم، أبهذا أمر المسيح عليه السلام؟! أبهذا أمر موسى صلى الله عليه وسلم؟! أبهذا نزلت التوراة والإنجيل؟! فهذه الفواحش المنتشرة والغل والفساد الذي يجري في العالم كله هو من ورائهم وبلائهم، ألا يدل ذلك كله على ذلهم؟! وأن الله أهانهم أعظم إهانة؟! وذلك لأن العز الحقيقي هو عند الله عز جل وبيده، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، وقال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، وسائر الأمم غير المسلمين كذلك في ضلال وهوان أشد؛ لأنهم أبوا أن يوحدوا الله، فمن أعزه الله ظاهراً وأذله باطناً فذلك امتحان من الله لعباده، وذلك نافذ بمشيئته، ويجعل الله فيه خيراً كثيراً من أنواع العبودية من أهل الإيمان والإسلام، الذين يصدقون في عبادتهم لربهم عندما يحيط بهم الأعداء، وعندما تشتد عليهم الأمور، وعند ذلك يزدادون طاعة وعبودية، فالله يحب أن يرى ذلك، وهذا من الخير الذي بيده سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]-ظاهراً وباطناً- {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].(19/12)
الدليل الظاهر على كون الملك لله جل جلاله
ومن أدلة هذا الأمر الظاهر -وهو أن الله مالك الملك- ما قد يغفل عنه كثير من الناس، فيظنون أن الملك بيد الناس، وأنه يورثه بعضهم لبعض وسيبقون في هذا الملك ما لهم من زوال.
من أدلة ذلك: إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، وهذا أمر به تقوم الأرض والسماء، وبه تقوم الحياة، فهل ينازع في ذلك أحد؟ وهل يستطيع أحد أن يقول: أنا الذي أؤخر الشمس اليوم حتى يتقدم شروقها أو يطول النهار أو يقصر الليل؟! فنحن نلحظ أن الظهر قد يتقدم قليلاً وكذلك العصر والمغرب والعشاء والفجر، وفي كل لحظة يولج الله الليل في النهار والعكس، فيزيد من هذا ويقصر من ذاك، ويدخل من هذا في هذا حتى يطول النهار ويقصر الليل، والعكس يكون في فصل الشتاء، حيث يقصر النهار ويطول الليل، كما قال تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران:27].
يقول تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران:27] وهذه آية أخرى تراها أمام عينيك كل لحظة، فهذه النباتات التي تخرج من الأرض الميتة من الذي أخرجها؟! ومن الذي أحيا هذه المادة بعد أن كانت ماء وتراباً ميتاً، فإذا بها تصبح حية منتعشة منتشرة فيأكلها البشر والبهائم فتنتقل إلى حياة أخرى؟! ومن الأدلة على عظم ملكه سبحانه: أنه يخرج الحي من الميت فيخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وترى أمماً وشعوباً كانت على ضلال فهداها الله عز وجل، وكان أجدادهم على الكفر، فأخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً، وهناك أمم أخرى كان أجدادهم قمماً في الطاعة والعبودية، وإذا بأبنائهم وذريتهم يخالفون آباءهم، ويكفرون بما كانوا عليه، ويموتون على الكفر والعياذ بالله، وكلا التفسيرين صحيح.
قال تعالى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].(19/13)
نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وبيان عقوبة ذلك
يقول سبحانه وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [آل عمران:28] أي: من يتولهم {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] أي: قد برئ من الله والله بريء منه {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] بأن تكونوا في سلطانهم، أما خارج سلطانهم فلا تجوز التقاة، ولابد من وجود الخوف المعتبر في الإكراه، فتوافقونهم باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان، من غير أن تعينوهم على مسلم بفعل، ولا تدلوهم على عورات المسلمين، فإعانة الكفرة على المسلمين موالاة محرمة بلا شك، وإذا كانت بالقتال معهم في صفوفهم فذلك من الكفر والعياذ بالله.
ثم إن التقاة أمر يلتبس على كثير من الناس، ويستعملونه في غير موضعه، ويتولون الكفار بغير لوازم التقاة، فحذرهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم ونفوسهم، وأنه عز وجل ينتقم ممن خادع المؤمنين، وزعم أنه يستعمل التقاة وهي في غير موضعها، فقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ثم الحساب بين يدي الله غداً {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وما أفلح عند الحساب من ندم وهذا أمر لا مفر منه، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم انصر الدعاة إليك والمجاهدين في سبيلك في كل مكان، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.(19/14)
إن الدين عند الله الإسلام
لقد أمرنا الله عز وجل بالاستسلام لدينه وشرعه، وأن لا نموت إلا على ملة الإسلام، فهذا هو الدين الذي شرعه وارتضاه لكل الأمم، فخالف من خالف فيه، وأعرض من أعرض، فعبدوا الشهوات والملذات، واتبعوا الأهواء فكانت العاقبة الخسارة والبوار في الدنيا والآخرة.(20/1)
وجوب الاستسلام لله وحده
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد أوجب الله عز وجل على جميع خلقه أن يسلموا له سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، وجعل الله عز وجل دين الإسلام دين الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وجعل هذا الاسم الشريف المكرم عنده سبحانه وتعالى علماً على الدين المقبول الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون).
وقال في دعاء استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ولحاجة الإنسان أن يتذكر هذا المعنى دائماً -معنى أن يسلم لله عز وجل- كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول المسلمين يكرره في أدعيته المختلفة، وهذا امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].
وأنت أيها المسلم! حين تقول: اللهم لك أسلمت، تتذكر أولاً نعمة الله عز وجل عليك بهذا الدين، فأنت أسلمت فقد دخلت في الإسلام، وأنعم الله عز وجل عليك بشهادة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، فأنت أسلمت قلبك ونفسك لله عز وجل، وهذا إسلام القلب والوجه لله، بأن يجعله خالصاً في توجهه وتألهه وعبادته لله سبحانه وتعالى، وهذا أصل معنى الدين، قال عز وجل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) [لقمان:22 - 23]، فليس ثم إلا مسلم وكافر، فمن أسلم وجهه -أي: وجهته وتوجهه وإرادته ونيته لله عز وجل فهو الذي استمسك بلا إله إلا الله، وهي العروة الوثقى، ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23].
إذاً: ليس هناك إلا دين الإسلام الذي يقبله الله عز وجل، أن يسلم الإنسان وجهته وعبادته لله وحده لا شريك له، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا الناس إلى هذه الكلمة مجدداً دعوة الأنبياء جميعاً، فإنهم دعوا إلى هذه الكلمة كلهم، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وهذا من أعظم ما يدل عليه ما جاءت به الرسل جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم بدءوا بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى عن أنبيائه جميعاً: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
ومن أحسن ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاة الليل أن قال: (اللهم لك أسلمت) بعد قوله: (والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق)، فإن الشهادة بأنهم حق شهادة بأنهم جاءوا بدعوة التوحيد الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد خلافه، بل من أشرك بالله حبط عمله، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، فالضلال والافتراء العظيم البين في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو ينافي أصل دين الإسلام، فحين تقول: اللهم لك أسلمت، تسلم وجهك وقلبك كما قال عز وجل مادحاً إبراهيم عليه السلام: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، أي: قد سلم قلبه لله، فصار لله عز وجل توجه هذا القلب، وإراداته ورغبته، وقال إبراهيم عليه السلام في دعائه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]، أي بمعنى: بقلب قد سلم لله عز وجل، فالمسلم هو الذي أسلم لله سبحانه وتعالى.(20/2)
معنى الاستسلام لله تعالى
الإسلام يحمل معنى الخضوع والانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وهذا الضلال في ترك الاستسلام والانقياد لأوامر الله عز وجل مناف لدين الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
إن معنى (اللهم لك أسلمت) يقتضي استسلاماً وانقياداً وخضوعاً وذلاً ومتابعة لأمر الله سبحانه وتعالى، ولذا كان من أبى أن يقبل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى كان راداً لأوامر الله، متكبراً على شرع الله سبحانه وتعالى، وكان ذلك مناقضة للإسلام، ولذا نجد أن العبد المؤمن يرى نفسه مملوكاً لله سبحانه وتعالى، تحت شرعه وأمره، له سبحانه وتعالى عليه الأمر كما له الخلق، كما أنه تفرد بالخلق فله سبحانه وتعالى عليه الأمر: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
والدعوات الباطلة التي تنادي بأن الإنسان حر في أن يأتي ما يشتهي، ويترك ما يشتهي، ويفعل ما يريد، ويترك ما يريد دون التزام بالشرع، حتى لو أقر بوجود الله، هذه الدعوة منافية لأصل التوحيد والإيمان، لا يقبل الله عز وجل من العباد إلا أن يسلموا له سبحانه وتعالى، ويستسلموا لأوامره الشرعية، ولا يقابلوها بشبهات ولا بشهوات، ولا يعارضوها بتقليد أعمى أو بمصلحة أو سياسة أو غير ذلك، إنما الأمر أن يقبل الإنسان شرع الله سبحانه وتعالى كاملاً، ورفضه لأي أمر من أوامر الله إباءً واستكباراً قدح في أصل الدين، وما كان كفر إبليس إلا بترك هذا الاستسلام، فقد أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولا تنفعه طاعاته السابقة كما لم تنفع إبليس عبادته قبل ذلك؛ لأنه إذا رد أمر الله عز وجل في أمر واحد فقد نفض يديه من معنى العبودية، ولا يبقى للإسلام معنى، ولا يبقى للدين معنى مع انتقاض معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، ولذا كانت دعوة أهل الإسلام دائماً إلى الانقياد لله سبحانه وتعالى، وتوجيه القلوب إلى وجهة واحدة إلى مرضاة الله عز وجل.
وأما من قبل أمر الله ولكنه خالف وعصى، وهو مقر على نفسه بالذنب والمعصية، وهو يقر أنه مستحق للعقاب لمخالفته أمر الله عز وجل، فهذا نقص إسلامه وإيمانه ولم ينتف بالكلية؛ وذلك لأن أصل معنى الإسلام من الانقياد والقبول بشرع الله موجود في قلبه، وأما الكفر والردة عن الدين فبالإباء أو الاستكبار بترك القبول والانقياد القلبي الذي لا يقبل الله عز وجل من أحد سواه.(20/3)
الفرق بين الشرك وما دونه
لقد بين سبحانه وتعالى الفرق بين الشرك وبين ما دونه في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فبين بذلك أن العبد ربما تقع منه الذنوب، وربما وقعت منه أيضاً الكبائر كما دلت عليه الآية الكريمة، فإنها قسمت المخالفة لما أمر الله عز وجل به إلى شرك وإلى ما دون ذلك، فلا بد من أن نفرق بينهما كذلك، فإن الله لا يغفر لمن أشرك به بعد قيام الحجة، أي: لمن لقي الله مشركاً وقد بلغته دعوة الرسل بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فكذبها أو أبى أن يقبلها، وكلاهما ناقض لما فطر عليه الإنسان من التوحيد، وما شرع الله عز وجل لجميع الرسل من الإسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى.
فإن الإباء والاستكبار غالباً متلازمان، نعوذ بالله من الكفر والنفاق، والله سبحانه وتعالى بين أنه يغفر ما دون الشرك ويشمل ذلك الكبائر والصغائر لمن شاء، وإن كان العاصي في خطر هذه المشيئة، فإنه قد دلت الأدلة القطعية على أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار فيبقى فيها مدة يحترق فيها، حتى إذا صاروا فحماً أذن لهم بالشفاعة، فأتي بهم ضبائر ضبائر - أي: جماعات جماعات- فيلقون في نهر الحياة -نهر من أنهار الجنة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يأذن الله عز وجل لهم في دخول الجنة، ولا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود لموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك نقول: إن من يعصي الله سبحانه وتعالى في خطر عظيم، فإن غمسة في النار تعدل كل نعيم الدنيا، بل تزيله بالكلية، فإنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس فيها غمسة واحدة، فيقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط.
وما أكثر من يستهين بلحظات البقاء في النار! بل يقول: لا بد أن ندخلها ونحترق فيها أياماً، وهذا والعياذ بالله من التهاون بخطرها! وهذا من أسباب النفاق، وربما أدى بالعبد إلى الكفر، وهذا هو الخطر الأشد للمعاصي والكبائر والبدع خصوصاً، وذلك أنها من أسباب سوء الخاتمة، وإنما قلنا: إنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، ولا بد أن يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ولكن ما أدراك أيها العاصي المصر على معصيتك أنك تلقى الله عز وجل بهذه الكلمة؟! ألا تخشى أن يحبط الله عز وجل عملك وقولك بسبب الذنوب ويختم لك بخاتمة السوء؟! فإن المعاصي بريد الكفر، وسميت كثير من المعاصي كفراً لأنها تودي وتقود إليه، وما أكثر من يستهين بالمعاصي، ثم يستهين بالإيمان كله! وربما قاده فعل المعاصي والمداومة عليها إلى أن يستحلها أو أن يأبى شرع الله فيها، فإن الإنسان لا يتحمل طويلاً ذلك الصراع الذي في نفسه بين داعي الإيمان وبين دواعي الكفر والشيطان، إنه يتحدث في نفسه أنه مخطئ مذنب، وأنه يستحق العقاب، فهذا داعي الإيمان يذكره بالتوبة إلى الله، وداعي الشيطان يرغبه في دنياه، ويرغبه في مزيد من الشهوات المحرمة، وأن ينال منها حتى ولو كان على حساب آخرته.
فهذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان لا بد أن يحسم، ولا بد أن ينتهي إلى صالح أحد الطرفين، أما أن يضل على حاله فغالباً ما لا يستمر طويلاً، فإن الأمر قد يبدأ برغبة وشهوة، لكنه قد يصل إلى أمر الإباء والعياذ بالله، فهؤلاء قوم لوط بدأ أمرهم بالشهوة المحرمة -شهوة فعل الفاحشة وإتيان الذكور في مجالسهم- ولكن آل بهم الأمر والعياذ بالله إلى أن ردوا ما جاء به رسولهم لوط عليه السلام، فكفروا وأشركوا بالله حين ردوا شرع الله سبحانه وتعالى، وما ذكر الله عز وجل عنهم في كتابه أنهم عبدوا أوثاناً، وما ذكر سبحانه وتعالى أنهم اتخذوا أصناماً، وإنما ذكر عز وجل عنهم هذه الفاحشة، ومع ذلك فهم بإجماع أهل الإسلام كفار مخلدون في النار، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وما ذكر الله عز وجل إلا إباءهم وردهم لما جاءهم به لوط عليه السلام، واستهزاءهم به عليه السلام، وما حاولوا معه من أنواع المنكر والعياذ بالله، وعدم استجابتهم لدعوته، فهكذا تكون الذنوب والمعاصي سبباً وبريداً يوصل الإنسان إلى الإباء وإلى نقض أصل الإسلام والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فالعبد يبدأ بشهوة وتتبعها شبهة وعقيدة فاسدة، يتبع ذلك كله إباء ورد لشرع الله عز وجل، وأنت ترى العالم إلا من رحم الله من أهل الإسلام عبيد شهواتهم.(20/4)
عبودية الشهوات وعواقبها
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبودية الشهوات كما بينها الله عز وجل في كتابه، قال سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) [الجاثية:23]، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يختم ويطبع على قلب من اتبع هواه: ((مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، وهو الذي كلما هوى شيئاً ركبه، فاتباع الهوى مردٍ ومهلك يقود الإنسان إلى الشرك بعد أن فعل المعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، فهذه عبودية منها ما يكون شركاً أكبر كما هو ظاهر الحديث، وذلك حين يستعد أن يبيع دينه بالدرهم والدينار، ويبيع دينه بالقطيفة والخميصة، يبيعه بعرض من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فكثير من الناس يبيع دينه وهو مستعد لذلك نتيجة استجابته للشهوات حين تتحكم فيه تحكماً تاماً، فتكون عبوديته للدرهم والدينار والقطيفة والخميصة شركاً أكبر والعياذ بالله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم من أهل الرياء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فهذه الآيات توضح أن هناك عبودية كاملة للدنيا بمعناها التام، عبودية الدرهم والدينار؛ لأنه قال: ((لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)).
والمسلمون الذين بقي معهم أصل الإيمان والإسلام لهم بعد دخول النار إن دخلوها الجنة، وأما من ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يكونون إلا الكفار، فهذه الإرادة إرادة الدنيا وزينتها قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا))، وهذا الأمر الذي أخبر الله به مقيد بمشيئته، قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فهم لا يأخذون كل ما يشتهون ولا ينالون كل ما يريدون، وإنما ما كتب الله لهم من الدنيا مع نغصها وكدرها وشقائها وألمها، فإنها لا بد أن تنال كل من كان على ظهر الأرض بشيء من الشقاء قدراً من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فلا سعادة كاملة على وجه الأرض، لا بد من نوع من الألم، ولا بد من نوع من التعب، وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي في الجنة بإذن الله، وفي الدنيا منها بالقرب من الله عز وجل، وذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالرضا به رباً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالشعور بالشوق إلى الله عز وجل ومحبته، فهذه ينالها أهل الإيمان من نعيم أهل الجنة الذي نالوه بقربهم، ومرضاة الرب سبحانه وتعالى عنهم لقربهم منه.
إذاً: هناك عبودية للدنيا وهي اليوم منتشرة انتشاراً خطيراً وعنيفاً، بل يروج لها في المشارق والمغارب، بل هذه عمدة حضارة الغرب، بل سفالته وانحطاطه، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، ولا يعملون إلا من أجلها، ولو أقروا بوجود الله وبوجود الأنبياء أو بالكتب فهم يقرون في حياتهم قولاً وفعلاً بأنهم لا دخل لهم بالشرائع التي جاءت بها الأنبياء، ولا دخل لهم بما أمرت به الرسل، وإنما حياتهم ينظمونها كما يريدون؛ تحقيقاً لمصالحهم الوهمية التي توهموا سعادتهم فيها، وإنما قيمهم قيم المادة فقط، وقيم الحياة فقط والرفاهية فيها، ولا يعملون ولا يسعون إلى آخرة، ولا إلى إقامة شريعة ما جاءت بها الرسل، وإلا فأخبرونا: هل أمر المسيح بهذا السلوك الذي عليه الغرب والذي عليه أكثر الأمم؟! وهل أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالظلم والعدوان والقتل والطغيان الذي عليه اليهود؟! وهل أمر كل منهما أو غيرهما من أنبياء الله بالشرك بالله ودعاء غير الله وقبول تشبيه غيره به سبحانه وتعالى؟! وهذه أمم الأرض كلها إلا من منّ الله عليه بدين الإسلام، الحق تقبل شريعة غير شريعة الله وترتضيها، وتقاتل من أجلها، وتسعى إلى فرضها، والحقيقة أنها نابعة من عدم الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، فهم لا ينفعهم الإقرار بوجود الله ولا بوجود الرسل، فإن الإقرار بوجود الله إنما يكون إيماناً مع عبادته، وإنما يكون الإقرار بوجود الرسل وصدقهم مع متابعتهم فيما جاءوا به، وكلهم قد جاءوا بوجوب متابعة بعضهم بعضاً، وبوجوب متابعة وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
فلا يكون إسلام إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) متفق على صحته، وهذا أمر لا يختلف فيه أهل الإسلام والإيمان، في أنه لا يقبل صرف ولا عدل ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن أبى متابعته ورضي بدين غير ما جاء به من دين الإسلام.
ولذلك نقول: إن هذه العبودية للشهوات ربما كانت تامة، وربما كانت جزئية إذا باع جزءاً من دينه بالدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، فهذا يكون شركاً أصغر، وإذا باع شيئاً من الدين ولم يبع أصله، إذا ضحى بالطاعة ولكنه لم يضح بالتوحيد، ولكنه على شفا الشرك، اقترب منه وحاذاه نسأل الله العافية، وتوشك قدمه أن تنزلق.
وقد ذكرنا أن خطر سوء الخاتمة هو أعظم ما يخاف على المبتدع وعلى المصر على الكبائر والمعاصي عموماً، فإن ذلك من أخطر ما يهدده، وإنما المؤمن الكامل الإيمان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فكيف بالعاصي؟! وإذا كان المؤمن يسأل الله أن يتوفاه مسلماً حذراً من سوء الخاتمة فكيف بمن يلاقي ربه عز وجل كل يوم بأنواع المحادة والمخالفة لشرعه سبحانه وتعالى؟! فنقص الإسلام يقرب الإنسان من الكفر والعياذ بالله، هذا هو خطر المعاصي الأشد على الإنسان، وإلا فمن وافى الله موحداً فله يوم يخرج فيه من النار أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه وإن كانت -كما ذكرنا غمسة- في النار أشد من كل عذاب في الدنيا، وغمسة في النار تنسي الإنسان نعيمه في الدنيا بأسرها لو كانت له.
نسأل الله عز وجل أن ينجينا من النار، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(20/5)
الاستسلام للأقدار الكونية والشرعية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن العبد بحاجة إلى أن يؤكد معنى الاستسلام لله سبحانه وتعالى في نفسه كل يوم مرات ومرات، كما أمر الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] تسلم لله سبحانه وتعالى، فحاجتك إلى ذلك مثل حاجتك إلى الطعام والشراب، وحاجتك إلى أن تجدد هذا المعنى في نفسك حاجة شديدة؛ لأن الإنسان تأخذه شهوات الدنيا بعيداً عن القضية الأولى في حياته، وهي أن يسلم الله وينقاد له.
ومعنى ثان من معاني الإسلام في قول المؤمن متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام: (أسلمت لرب العالمين) (اللهم لك أسلمت) فهذا معنى الاستسلام لأوامره الكونية القدرية التي لا يقدر على دفعها، فهو يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلم ما قدر الله سبحانه وتعالى عليه مما لا دخل له به.
وما يقدره الله عز وجل على الإنسان فمنه ما يكون له تعلق من خلال قدرته وإرادته، فهو الذي أقدره عليها، وهو الذي جعل له مشيئة فيها، وهذه لا بد أن يمتثل فيها شرع الله ناظراً إلى إعانته وتوفيقه ومستعيناً به سبحانه وتعالى، مستحضراً أن لا قوة إلا به، كما قال سبحانه وتعالى معلماً عباده أن يقولوا في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فهو يعبد الله، وهذا معنى الاستسلام لأمره الشرعي سبحانه وتعالى: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) يستحضر فيه العبد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا بإعانة الله، وإلا بتوفيقه عز وجل، ولا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى كما يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
فهذا المعنى لا بد أن يكون مستحضراً، وذلك أن ما يتعلق بقدرة الإنسان وإرادته فالله عز وجل على كل شيء قدير، ومن ضمن هذه الأشياء ما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم، فهو سبحانه وتعالى الذي يشاء، ولا يشاء العباد إلا أن يشاء كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وهنا تدفع القدر بالقدر، تدفع قدر المعصية بقدر التوبة، وتدفع قدر المخالفة بقدر الموافقة، تفر من قدر الله إلى قدر الله، وتدفع قدر الله بقدر الله مستعيناً به سبحانه وتعالى على طاعته فاراً من معصيته، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، تفر إلى الله منه، وتتعوذ بالله منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فالعبد يستعيذ بالله منه؛ لأنه يستحضر أن أمر الله سبحانه وتعالى الكوني نافذ فيه، ولن يوفق لطاعة الله وترك مخالفته إلا بإعانته عز وجل.(20/6)
الأخذ بالأسباب لا ينافي الاستسلام للأقدار
وهناك من أوامر الله القدرية الكونية التي تقع في العباد بغير إرادة منهم، ولكن لهم قدرة على أخذ أسباب يسرها الله عز وجل لهم، كما أن قدر الجوع يقع في أنفسهم من غير إرادة منهم، وكذا قدر العطش، وكذا قدر المرض، وهكذا أقدار كثيرة تقع فيهم، ولكن يسر الله لهم أسباباً لدفعها، والخلق مجبولون مفطورون على أن يأخذوا بالأسباب، فلا يجد أحد منهم جوعاً في نفسه إلا بحث عن الطعام، ولا عطشاً إلا بحث عن الشراب، وكذلك في المرض وغير ذلك يبحث الإنسان عن أسباب نجاته، فطروا على ذلك، فلو أن إنساناً لمس مثلاً شيئاً ساخناً لوجد يده تبتعد تلقائياً؛ وذلك لأنه مجبول مفطور على الحرص على الحياة، والحرص على أسباب النجاة والبعد عن أسباب الخطر، ولا تجد عاقلاً إلا يفعل ذلك.
وهذه الأسباب منها المشروع ومنها غير المشروع، فهذا تفعل فيه ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عز وجل، فإن الله عز وجل قد قدر الأسباب والأرزاق، وهو سبحانه وتعالى أمرك بأن تكسب الحلال وتترك الحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، خذوا ما أحل، ودعوا ما حرم، فأنت مأمور بأن تأخذ بالأسباب، لكن تأخذ ما أحل وتترك ما حرم، فتطلب طلباً جميلاً.
وهذا أمر غاية في الأهمية فيما يتعلق بحياة الإنسان، وذلك أن الأسباب أصبحت طاغية على أكثر البشر، وأصبح الأخذ بها عنوان اعتقادهم لا يبالون بأي سبب كان من حلال أو حرام، ما لاح لهم أخذوه، ويقولون: نأخذ بالأسباب! وهذا في الحقيقة دليل على ضعف اليقين أو انعدامه، وضعف التوكل على الله عز وجل أو انعدامه، فإنما تأخذ ما أحل الله لك، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وتترك ما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وهو عز وجل قد أذن للمضطر فيما حرم عليه في ظروف الاضطرار، وليس عندما يشتهي أو مجرد الحاجة وإنما: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، وليست الضرورة هي التي يتصورها الناس أن كل ما يشتهون ضرورة، فقد أصبحت كماليات الحياة عند الناس ضرورة، وإنما الضرورة ما ذكر الله تعالى في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، وهذه المخمصة هي الجوع الشديد، وهي التي يخشى منها الهلاك، فما يهلك الإنسان وما يفوت عليه حياته ومصالحه هو المعتبر، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست تبيح ما حرم الله سبحانه وتعالى على العباد، وأكثر الناس عندهم تحسيناتهم ضرورة، فحاجته إلى التجارة مثلاً أصبحت ضرورة، وحاجته إلى كماليات المنزل أصبحت ضرورة تبيح له الربا والرشوة والغش والخداع والسرقة، والعياذ بالله من ذلك! وذلك كله من الوهم الذي يخدعهم به الشيطان، فإنما الضرورات: ضرورة الدين، وضرورة النفس، وضرورة العرض، وضرورة العقل، وضرورة المال، إذا كان يزول بالكلية شيء من ذلك بحيث تتعسر حياة الإنسان فهي الضرورة، وأما مجرد الحاجات والتحسينات فليست بالضرورات التي تبيح المحظورات.
بقي قسم ثالث من أقسام الأحكام الكونية القدرية: وهو القسم الذي لا يقدر العباد على دفعه، من مرض لا علاج له، أو من موت قريب أو حبيب، أو أمر يجري على الإنسان رغماً عنه، أو قد أخذ بالأسباب فما أنتجت، فكم من إنسان يأخذ بالأسباب ولا تحصل النتائج المرجوة التي يريدها، فعند ذلك لا بد من الاستسلام، فإذا قلت: (اللهم لك أسلمت) فأنت تستسلم لهذا النوع من الأحكام دون سخط وجزع، ودون اعتراض على أمر الله سبحانه وتعالى، فتسلم نفسك لله عز وجل، وتفوض أمرك إليه، وترضى بما قسم، ولا تختر خلاف ما اختار سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، هو الذي يصطفي من شاء، ويختص من شاء برحمته، وهو سبحانه يبتلي من شاء بعدله، وهو سبحانه يفعل ما يشاء في ملكه، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] كما قيل لـ أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، وقد علم أنه ميت، قالوا: نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب رآني، فظنوا أنه يقصد الطبيب المعلوم، فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، لا يملك العباد إلا أن يخضعوا لأمره عز وجل، فإن خضعت له وأنت راض بقضائه وقسمه قد استسلمت له دون منازعة ومخاصمة له سبحانه وتعالى، فأنت يجري عليك القدر، وأنت مرضي عنك، وأنت مثاب، وأنت مجزي بالإحسان إحساناً، وإذا أبيت إلا المعاندة والمخاصمة والسخط والجزع فسوف يجري عليك القدر، وأنت مذموم معاقب مستحق للعقاب في الدنيا والآخرة، تجلب لنفسك أنواع البلايا بالإضافة إلى البلية التي أنت فيها، فلا تجزع ولا تسخط، وارض بما قسم الله عز وجل لك، واصبر على ما أصابك، فإن هذا هو الذي شرعه الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، ونقول متابعين له: اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت إلهنا لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر! اللهم إنا نسألك الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار! ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك طائعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين!(20/7)
أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن
الله نور السماوات والأرض، وكل ما في هذا الوجود من الأنوار فهو منه سبحانه، ويمن على من يشاء بنور الإيمان بفضله، ويحرم من يشاء بعدله، جعل النور في كتبه، وفي أنبيائه، وفي أوليائه، وعلى المسلم أن يحذر من أمور تحجب عنه النور فيقع في الظلمات، ومن هذه الظلمات: ظلمة الشرك والكفر، وظلمة البدع، وظلمة الكبائر، وظلمة الصغائر، وظلمة المكروهات، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.(21/1)
الله نور السماوات والأرض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوامع الكلم، وفضل على النبيين بذلك، وجعل الله عز وجل كلماته المباركات سراجاً ونوراً للأمم، تهتدي بها إلى صراط الله المستقيم، وأدعيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم معجزاته وأظهر دلالات نبوته؛ لما جمعته من معاني الإيمان، وأرشدت إليه من معاني الإحسان، التي تزكو بها النفوس، وترتقي بها القلوب.
ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم ما كان يدعو به في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بالحمد وهو أفضل الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله)، ثم شرع في الثناء على الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فقال: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، وقال عز وجل مبيناً ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35]، فهذه الآية من أعظم ما يبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وقد فسره السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم بمعنى أن الله منور السماوات والأرض، وجاعل النور فيهما.
فهذه الآية الكريمة في ضرب مثل نور الإيمان بالله في قلب العبد المؤمن ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ))، فالمشكاة هي: الكوة في الجدار، أو التجويف في الجدار، وذلك يكون أبعد عن الريح حتى لا ينطفئ السراج الذي بداخلها، فقلب المؤمن مثل ذلك لا تطفئ نور الإيمان فيه رياح الفتن، فالمشكاة صدره، والمصباح هو الفتيلة المضيئة، وهي: نور الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، المصباح في زجاجة، والزجاجة قلبه بشفافيته وصلابته، فهو شفاف يدخل إليه النور، ويخرج منه النور، فالمؤمن في كل حال يتعظ بمواعظ الحق ويستجيب لها، ويلين قلبه لها ويتأثر بها، وهو في نفس الوقت يشع النور فيمن حوله ممن يخالطه ويعاشره من أهله وجيرانه وقرابته، فهو ينشر فيهم نور الإيمان، ومعرفة الله سبحانه وتعالى وشرعه، والإيمان برسله وكتبه، وهو في نفس الوقت صلب لا ينثني عن الحق، ولا يتأثر بما حوله من الباطل، فالزجاج ينكسر ولا يتغير شكله، فكذا المؤمن ثابت على الحق ولو أصابه ما أصابه في الله.
وقد بين الله عز وجل أنه نور السماوات والأرض أي: منورهما، ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف: هادي أهل السماوات والأرض.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: نور السماوات والأرض من نور وجهه.
فالله عز وجل جعل النور في السماوات والأرض، النور الحسي والنور المعنوي، وهو سبحانه وتعالى خالق هذه الأنوار التي يراها الناس ويدركونها، وهذا في حقيقة الأمر أثر من آثار اتصافه سبحانه وتعالى بالنور، كما قال عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: خلقه جميعاً، (حجابه النور) هذا هو الحجاب الذي يحجب الخلق في هذه الدنيا عن رؤيته سبحانه وتعالى، ودونه حجب أخرى، وآخرها نور مخلوق لو كشفه الله عز وجل لأحرقت أنوار وجهه عز وجل جميع الخلق؛ لأنهم لم يهيئوا في هذه الدنيا للنظر إلى وجه الله عز وجل، وهذا الحجاب هو الذي حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرؤية ليلة المعراج، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي الرواية الأخرى: (رأيت نوراً)، فقد رأى نور الحجاب صلى الله عليه وسلم، فكيف يراه وقد حجبه هذا النور الهائل الذي هو نور الحجاب؟!(21/2)
الله سبحانه منور السماوات والأرض
الله سبحانه وتعالى هو منور السماوات والأرض، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، إن الذي يعرفه الناس من هذا الوجود المحسوس إنما هو بالنور الذي خلقه الله فيه، وقد ذكر الفلكيون أن الظلام في هذا الكون المشهود يبلغ أكثر من 99%، وأما النور الموجود فيه فهو 1% أو أقل من ذلك، فما الظن -عباد الله- بما نجهله ولا ندري عنه؟! فانظروا إلى هذه الأنوار كلها: نور الشمس، ونور القمر، ونور النجوم وسائر الكواكب، وغير ذلك، فهو شيء يسير في هذه السماء الدنيا، وما لا نراه ولا نعلم عنه أضعاف مضاعفة؛ وذلك لنتعظ، ولنعلم محدودية علم البشر، ومحدودية قدرتهم، وأنهم في هذا الكون الواسع لا يدركون ولا يحيطون من علم الله إلا بما علمهم.
وهكذا أيضاً في النور المعنوي (نور القلوب)، فإن كثيراً من الخلق يعبدون غير الله عز وجل، قد أظلمت قلوبهم، ولم تستنر بنور الوحي الذي أنزله سبحانه وتعالى ليضيء للناس طريقهم، وليفهمهم حقيقة هذا الوجود، فلينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وليعلموا أن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب المبين الذي هو النور كما قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15].
وكذلك أرسل الله رسله وهم أنوار، وخصوصاً خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم السراج المنير، وليس معنى ذلك أنه مخلوق من مادة غير الطين فهو بشر صلى الله عليه وسلم، خلق من آدم، وآدم مخلوق من تراب، وكل الأنبياء كذلك، فهم نور القلوب الذي تستضيء بها، وتعرف حقيقة هذا الكون الواسع الهائل المترامي الأطراف الذي لو تأمل الإنسان نفسه فيه لعلم أنه كالذر والهباءة الصغيرة أو أقل من ذلك، فإن الإنسان بالمقارنة إلى هذا الكون الواسع الكبير حجماً كأنه لا شيء على الإطلاق، فما أضعفه! وما أصغره! وما أذله! وما أحقره! وما أقل قدراته وعلمه! وهكذا إذا نظر إلى الزمان الذي قبله والذي بعده، فلو قورن بما مضى من بداية الخلق فقط لكان كالهباءة أو أقل، ولو قورن بما سوف لكان مثل ذلك، فكم يكون الإنسان؟ وما هي حقيقة حجمه زماناً ومكاناً؟ فإذا قورن ذلك بالأزل وبالأبد، علم الإنسان حقيقة أمره، وأدرك ضعفه وعجزه، وفقره وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى.
فعلى الإنسان أن ينظر إلى حقيقة وجوده، لماذا أوجده الله على تلك الصورة وعلى هذا الحال؟ ولماذا خلق السماوات والأرض؟ هذا السؤال الفطري هو الذي عميت عنه قلوب أكثر البشر، وامتلأت بالظلمات بسبب إعراضها عما جاءت به الأنبياء.
وتأمل أن الله سبحانه وتعالى جعل النور في قلوب أوليائه التي فاض عليها من قلوب أنبيائه، فأنبياء الله عز وجل هم السرج المنيرة التي تنير بكتب الله سبحانه وتعالى التي هي النور المبين، الذي يبين لمن سمعه وقرأه أنه الحق، ويبين الطريق لمن التزم به، وآمن به وصدقه، وعمل به، فهو سبحانه وتعالى قد من على عباده المؤمنين بأعظم نعمة حين جعل في قلوبهم النور فأدركوا أن الله عز وجل خلقهم لغاية حكيمة، وأنه سبحانه وتعالى جعل لهم مهمة عظيمة، اصطفاهم بها واجتباهم على خلقه وهي: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وأن يعرفوه ويحبوه، ويخافوه ويرجوه، ويتوكلوا عليه، ويلجئوا إليه، ويسندوا ظهورهم إليه سبحانه وتعالى، متوكلين عليه، متحصنين به، مستعيذين به، مستعينين به سبحانه وتعالى، وكذلك في كل أنواع العبادات الأخرى، خلقهم الله عز وجل لذلك، فعرفوا لماذا وجدوا، وما هو الهدف من خلقهم، ثم عرفوا ما هم مقبلون عليه من القيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وهذا كله من آثار نور الإيمان، وهم كذلك يرون بنور الله سبحانه الذي جعله في قلوبهم المثل العليا في صفات الأنبياء، ويرون الأعمال الصالحة من كتب الله عز وجل، ويؤمنون بوجود الملائكة الذين يعبدون الله عز وجل ويسبحونه بالليل والنهار وهم لا يفترون، ويؤمنون بالقدر، وأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].(21/3)
حال الناس مع هذا النور
حقائق الإيمان التي جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام لتبينها للناس هي التي تملأ القلب بالنور، فيهتدي الإنسان، ويعرف هدفه وغايته وبدايته ونهايته بدلاً من أن يكون أعمى لا يدرك شيئاً ولا يعقل شيئاً إلا ما تدركه البهائم من الطعام والشراب، فقارن -يا عبد الله- بين من امتلأ قلبه بالنور ففهم حقيقة هذا الوجود، فهم غايته، وحكمة وجوده، وفهم ما ينبغي له أن يعمله، وما بدأ منه، وما ينتهي إليه، وبين آخر لا يعرف من الدنيا إلا طعاماً وشراباً، وشهوة جنسية، لا يعرف من الدنيا إلا ما تعرفه البهائم.
وتأمل في العالم لتدرك أن الله سبحانه وتعالى قد امتن بأعظم النعمة على عباده المؤمنين، تجد أن أكثر العالم يعيشون فعلاً لأجل شهوات البطون والفروج، والقطيفة والخميصة، والدرهم والدينار، يعبدونها من دون الله عز وجل، وتصور أن هذا هو الذي تقام من أجله الحروب، وتسفك من أجله الدماء، وتحتل من أجله الأراضي، ليفرض على الناس نمط حياة عجيب، وأشقى حياة يمكن أن يتصورها الإنسان أن يعيش كالبهيمة والعياذ بالله، ويقاد كالأنعام، ويفرض عليهم أن يعيشوا من أجل البطون والفروج، لا يعرفون معبودهم، ولا يدركون كماله وجماله، ولا يعرفون شيئاً عن أسمائه وصفاته، يعملون بالنهار كالحمير، وينامون كالجيفة في الليل، وقبل ذلك وأثنائه ينظرون إلى مشاهد الفسق والفجور، الذي هو استسلام للشهوات المهينة الحقيرة، ينظرون إليها ليل نهار من خلال وسائل الإفساد التي تفسد عليهم حياتهم، وتظلم قلوبهم، فوالله إن الظلام ليحل بوجود هذه الأمور ولكن أكثر الناس غافلون، ويزدادون طلباً لها في عناية وجهالة وسفاهة عجيبة إلى أن يأتي الموت بغتة، ويرحلون عن هذه الحياة، وإذا بهم وقد نزلت بهم ملائكة سود الوجوه يقبضون أرواحهم، ويضربون وجوههم وأدبارهم والعياذ بالله، فينزعونهم عن أهليهم وأموالهم وسلطانهم وملكهم.
وطائفة أخرى من الخلق تعيش حياة الشياطين، ليست فقط كالبهائم بل أسوأ من البهائم، هم أضل من الأنعام؛ وذلك أنهم يعيشون من أجل الشهوات الشيطانية، التي هي أمراض إبليس من الكبر والعجب وإرادة العلو والفساد، لا لمجرد تحصيل الشهوات فقط، بل يريدون بذلك محادة الله عز وجل ومعاندته، تأمل هؤلاء الذين يسعون في الأرض فساداً، الذين يريدون العلو فيها والفساد، وهم معجبون بأنفسهم، غايتهم الملك والرئاسة والعلو على الناس، ومن أجل هذه الشهوات الإبليسية -التي هي أشد خطراً من الشهوات الحيوانية- يعيش الناس، وتنفق الكثير من الساعات بل من الأيام والشهور والسنوات، وتنفق الأموال والأعمار لأجل تأصيل معاني عبادة غير الله عز وجل، حتى تستقر في النفوس تلك الأمراض الإبليسية التي هي أخطر من الشهوات الأرضية، فالشهوات الأرضية جعل الله عز وجل لها منفذاً ومخرجاً، بمعنى أن الإنسان ينال منها شيئاً مباحاً، وجعل الله للعبد فيها دائرة من المباح، بحيث يطعم حلالاً ويشرب حلالاً وينكح حلالاً ويلبس حلالاً، وجعل دائرة أخرى من المحرمات التي تضره إذا أتى بها، وربما استعبدته إذا غرق فيها والعياذ بالله! أما الشهوات الإبليسية فهي محرمة بالكلية، لا يجوز للإنسان أن ينال منها شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فبطر الحق أي: رده وعدم قبوله، مثل إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراؤهم.
تأمل شعوباً بأكملها مريضة بهذه الأمراض، تحاول إذلال غيرها، وتحاول فرض إرادتها الجبارة الكافرة على الأمم في المشارق والمغارب، والجبار هو كل من يجبر الناس على ما يريد دون رجوع إلى شرع الله سبحانه وتعالى، وهو خائب قطعاً، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15].
فتأمل هذه الظلمات التي تمتلئ بها قلوب أكثر الخلق، طوائف من البشر تعيش حياتها من بدايتها إلى نهايتها لا تعرف من الدنيا إلا حياة البهائم أو حياة الشياطين والعياذ بالله من ذلك، وأما أن ترتفع نفوسهم عن الأرض لتدرك صغرها وقصر الدنيا وقصر نصيبنا منها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تساوي جدياً أسك ميتاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على جدي أسك ميت، أسك أي: صغير الأذنين فقال: (أيكم يود أن له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيباً فيه، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
إن الإنسان بحاجة إلى أن يرى حقائق هذا الوجود، ويرى صغر الدنيا فلا يعمل لها، بل يعد العدة للقاء الله عز وجل، ولا يقتصر على اللذة فيها، وإنما يعلم أن اللذات التي فيها إنما هي بلغة يسير بها لتستقر حياته ليتفرغ إلى ما هو أهم من النعيم الحقيقي بمعرفة الله عز وجل، وأسمائه وصفاته وجلاله وجماله سبحانه وتعالى، إن حاجة العبد إلى هذا النور المذكور في كتاب الله عز وجل هو الذي جمع الله عز وجل فيه الأنوار التي وردت في الكتب الأخرى، والتي جعلها في الكتب السابقة، وحاجتنا إلى هذا أمس من حاجتنا إلى ضوء النهار، وأمس من حاجتنا إلى ضوء المصابيح، وأمس من حاجتنا إلى أي نور حسي تراه الأعين، وتأمل عمل البشر، واشكر نعمة الله عز وجل عليك أن جعل في قلبك النور إن كان لك نصيب منه وإلا فأدرك نفسك.
وتأمل كذلك في هداية الله عز وجل للمخلوقات كلها؛ لتعلم أنه هادي أهل السماوات والأرض جميعاً.
وتأمل ما جعل الله في قلوب الملائكة أهل السماوات من الأنوار العظيمة التي هي مادة خلقهم فضلاً عن معرفتهم بربهم وعبادتهم له، قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كثرة من في السماء: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد)، فهو سبحانه منور السماوات والأرض بالنور الحسي والنور المعنوي، ومنور من فيهن، هدى من شاء سبحانه وتعالى، وجعل في قلوب بعض خلقه من النور ما يضيء البلاد الكثيرة، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ويظهر هذا النور نفسه يوم القيامة، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15].
فيا عباد الله! التمسوا النور، التمسوا نور الكتاب، والتمسوا نور السنة، فالله عز وجل جعل الكتاب نوراً وجعل النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
فالله سبحانه وتعالى جعل النور يلتمس في الدنيا لتدرك فائدته يوم القيامة، وفي ساعة المرور على الصراط، واحرص على أن يكون نصيبك من النور كثيراً كبيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل الله عز وجل أن يجعل له نوراً، فالسراج المنير يحتاج إلى مزيد من النور، وهذا أمر لا ينتهي إلى حد، ولا يتوقف إلى غاية، بل لا يزال أهل الإيمان في الجنة يزدادون نوراً كلما رأوا ربهم عز وجل إلى ما لا نهاية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا نهاية لكماله سبحانه وتعالى، هو عز وجل له المثل الأعلى، وله صفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو ذاهب إلى المسجد: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعل لي نوراً)، وفي رواية: (اللهم اجعلني نوراً)، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم يسأل ذلك وهو الذي ينير للناس صراط الله المستقيم فحاجتنا إلى سؤال الرب عز وجل أن ينور قلوبنا لحبه ومعرفته أشد، وإن القلب إذا دخل فيه نور الإيمان انشرح وصار فسيحاً واسعاً، وصار لا يؤثر فيه زبالات الخلق إذا ألقيت على الإنسان، فقلب المؤمن واسع منشرح، وهي منة الله على أنبيائه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وقال موسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} * {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]، وقال عز وجل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ولأهل الإيمان نصيب بقدر اتباعهم لأنبيائهم: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ(21/4)
أنواع الظلمات(21/5)
ظلمة الكفر والشرك
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، يقلب قلوب عباده كيف يشاء، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من النور، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من الظلمات.
وأعظم الظلمات التي تمنع القلب من رؤية النور ظلمات الشرك والكفر بالله، وبأنبيائه، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والكفر بواحد من هذه الأصول ظلمة عظيمة تمنع وصول النور بالكلية.(21/6)
ظلمة البدع
ثم بعد ذلك ظلمات البدع، وخاصة بدع الاعتقاد الفاسد، والشبهات المضلة التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، أو بوعده ووعيده، أو بقضائه وقدره، أو بأي أصل من أصول الاعتقاد، فالبدع المضلة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ظلمات متعددة؛ ولذا تجد في كلام أهل البدع الظلمة والفساد، وإذا قرأت كلامهم تعجب كيف خرج هذا الكلام من أناس ينتسبون إلى الإسلام، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! ولكن إذا علمت أنهم أعرضوا عن مقتضى هذه الكلمة، وأعرضوا عن كتاب ربهم وعن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وانشغلوا بقيل وقالوا، وانشغلوا بآراء الرجال، وانشغلوا بما وضعه الناس من المذاهب والأفكار المنحرفة؛ علمت لماذا وقعت في قلوبهم الظلمة.(21/7)
ظلمة الكبائر الباطنة
ومن الأسباب المؤدية للظلمة في القلب الكبائر الباطنة، وهي أمراض إبليس من: العجب، والكبر، والحسد، والنظر إلى كمال النفس، وازدراء الخلق واحتقارهم، نعوذ بالله من ذلك! وهذه الكبائر الباطنة قد يتلبس بها كثير ممن يظهر الصلاح، ويظن به التقوى والإيمان، وهذه الكبائر الباطنة أخطر من الكبائر الظاهرة، فذرة من الكبر تمنع المرء من دخول الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرياء قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: هو الرياء).
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن خطر هذه الكبائر الباطنة ببيان عقوبتها فقال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صورة الناس يطأهم الناس بأقدامهم، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، نعوذ بالله من ذلك! فالناس المتكبرون يحشرون يوم القيامة في حجم النمل في صورة البشر، يطؤهم الناس بأقدامهم ذلاً وصغاراً، فلما تكبروا صغروا، ولما تعالوا عن أمر الله عز وجل اهبطوا، تبعاً لزعيمهم ومقدمهم إبليس عليه لعنة الله سبحانه إلى يوم الدين، قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13].(21/8)
ظلمة الكبائر الظاهرة
ثم بعد ذلك الكبائر الظاهرة، فكل منها حجاب يمنع وصول النور إلى القلب، ويؤدي إلى وجود ظلمة فيه كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وهذه الكبائر الظاهرة هي التي تهلك أكثر الخلق، ويستعبدهم الشيطان بها، نعوذ بالله من ذلك!(21/9)
ظلمة المعاصي
ثم بعد ذلك المعاصي التي هي من الصغائر، فكل منها له ظلمة في القلب، وكلما ارتكب الإنسان شيئاً من المعاصي أظلم قلبه، وذهب شيء من النور الذي كان فيه حين كان تاركاً لهذه المعصية.(21/10)
ظلمة الوقوع في المكروهات
ثم بعد ذلك فعل المكروهات، فإنها تؤدي إلى ظلمة أيضاً ولكن بقدرها، ولا يكون ذلك كظلمة المعاصي، بل إن كثرة انشغال الإنسان بفضول المباحات يؤدي إلى فوات نصيب عظيم من النور، ويفوته به الربح عند الله عز وجل الذي هو هادي أهل السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
فالعبد المؤمن يبتعد عن أسباب الظلمة، ويسلك سبل النور، ويسأل الله عز وجل أن يجعل في قلبه نوراً، وأن يجعل له نوراً حتى يعيش في نور بدلاً من الظلمات التي يعيش فيها أكثر الخلق، فإذا قال العبد في دعائه: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) كان ذلك متضمناً بسؤال الحال سؤال الرب سبحانه وتعالى أن يجعل له نوراً، وأن يكثر له منه، فأنت تعترف أنه ليس لك من نفسك هداية ولا نور ولا حياة، فكما وهبك الله حياة البدن فاسأله أن يهب لك حياة القلب، وكما وهبك نور العينين، فاسأله أن يهب لك نور البصيرة في القلب، وهو سبحانه وتعالى يمن على من يشاء من عباده، ويبسط الخير للمؤمنين، ويجعلهم سبحانه وتعالى في النور في الدنيا ويوم القيامة، والجنة مليئة بالنور، ويرفع سبحانه وتعالى فيها حجابه فينظر المؤمنون إلى ربهم، فإذا رأوا ربهم سبحانه وتعالى وجدوا من النعيم واللذة ما لا يجدون مثله في الجنة، (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل في قلوبنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً، وأمامنا نوراً، وخلفنا نوراً، اللهم اجعل لنا نوراً.
اللهم عليكم باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، وأصحاب الضلال ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا.(21/11)
أنوار الرجاء تبدد ظلمات اليأس
إن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء سنة كونية مقدرة على أنبيائه وأوليائه لحكمة بالغة اقتضاها، ولذا تجد الصراع بين الحق والباطل على مدار الأيام والأزمان والعصور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، فالسعداء هم الصابرون على البلاء، الشاكرون للنعماء، العالمون عاقبة البلاء، الطالبون النصر على الأعداء، الذين يريدون الظفر بما عند رب الأرض والسماء، فالرجاء هو أصل النصر، وأساس الإيمان، وعلامة الثبات على دين الله.(22/1)
حكمة الابتلاء للمؤمنين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والعمل للإسلام، والعمل من أجل نصرة الإسلام طريق مملوء بالآلام والمحن، وكلما ازدادت المحن وكثرت الجراح، وعظمت الآلام؛ ظهر من آثار أنوار الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين ما لم يكن موجوداً قبل ذلك، وإن من العلم بالله سبحانه وتعالى -وهو حقيقة الإيمان أو أصل الإيمان- أن يعلم العبد أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن يعلم سنته سبحانه وتعالى في خلقه، لماذا خلق الله عز وجل الخلق؟ ولماذا أوجد سبحانه وتعالى في الأرض الخير والشر، والإيمان والكفر مع قدرته عز وجل على جعل الناس أمة واحدة على الإيمان لو شاء كما قال تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]؟.
إن العلم بالله سبحانه وتعالى، وتحقيق الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعرفة سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت في الأولين وتمضي كذلك في الآخرين؛ لهي من أعظم الفوائد التي تحصل للمؤمنين في سيرهم في هذا الطريق عندما تصيبهم الجراح والآلام والمحن، وقد قدر الله سبحانه وتعالى وجود الحياة أصلاً لكي يرى سبحانه وتعالى من عباده المؤمنين ما يحب.
من أجلك أيها المؤمن! من أجل أن تؤمن وترجو وتخاف وتحب وتبذل وتضحي، من أجل أن تعبد الله سبحانه وتعالى أوجد الله عز وجل إبليس والشياطين والكفرة والملحدين والمنافقين، وكان في قدرته عز وجل -ولم يزل- أن يجعل: {مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]، بدلاً من هؤلاء، لكنه سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، وهو سبحانه وتعالى القدير، يحب ظهور عبوديته في وسط أنواع الكفر والضلال، وهذه عبودية خاصة، عبودية تختلف عن عبودية الرخاء، وعن عبودية سائر الكائنات، نعلم أن كل الكائنات تسبح لله عز وجل وتعبده، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقال عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]، وغير ذلك من الآيات التي تؤكد عبودية الكائنات كلها.
والملائكة تعبد الله عز وجل ليل نهار كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، ومع أن الله خلق الخلق أصلاً لعبادته فإنه سبحانه وتعالى أوجد النوع الإنساني وكذلك الجن، وخلقهم سبحانه وتعالى لتوجد منهم عبودية أخرى، وهي عبودية الضراء والشدة، عبودية الخوف من الله دون من سواه، والتوكل على الله عز وجل دون من سواه، عبودية الرجاء في وسط أجواء اليأس فيما يبدو للناس، هذه العبودية من أجلها قدر الله ما يكرهه؛ لأن هذه العبودية أحب إليه سبحانه وتعالى مما يكره، ومما لو قدر الله سبحانه وتعالى عدم وجود الكفر والنفاق والظلم والفساد، فيكون الناس كلهم أمة واحدة، ولكن ظهور هذه العبودية التي فيها مقاومة ومنازعة ومجاهدة، وفيها هجرة وبذل وتضحية، وغير ذلك من أنواع العبودية التي تحصل لأهل الإيمان؛ أحب إلى الله مما لو كانوا جميعاً على طاعته، دون أن يكون بعضهم على معصيته، فافهم حكمة العزيز الحكيم الذي له الملك وله الحمد، {يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2]، فهو سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو غالب على أمره، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
وليس لنقص العزة هزم أولياؤه في المعارك، ولا لعجزه -تعالى الله عن ذلك- قتل من قتل من أوليائه ورسله، وجرح من جرح منهم، واستضعفوا في الأرض، ونيل منهم أنواع النيل، وابتلوا وسجنوا وعذبوا، ليس هذا لعجزه عز وجل، فهو العزيز سبحانه وتعالى، وهو القدير، له ملك السماوات والأرض، وهو الذي بيده الموت والحياة، قال تعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:2]، ومع ذلك كله بحكمته سبحانه وتعالى قدر أن يوجد هذا البلاء وهذه المحن التي تجعل من لا يعلم صفات ربه سبحانه وتعالى ييئس ويبتئس، وربما يترك الطريق والالتزام بدين الله عز وجل، أو ربما يترك العمل من أجل نصرة الدين فيأثم من ترك هذه النصرة، ويقول: ماذا نصنع والأمور كلها ضدنا والعالم كله ضدنا؟! نقول: لابد أن تعلم أن الله عز وجل هو العليم الحكيم، وهو العزيز الحكيم، وأن حكمته اقتضت ذلك؛ لأنه يحب أن يرى منك كما رأى قبل ذلك من أنبيائه ما يحب، فانظر هل يرى الله منك ما يحب؟! قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، (ولنبلونكم حتى نعلم) قال ابن عباس: حتى نرى، حتى يعلم الله هذه الأمور علماً يحاسب العباد عليه، يعلم الجهاد والصبر من عباده المؤمنين علماً يحاسبهم عليه، ويثيبهم على ما صدر منهم بفضله وتوفيقه وإعانته سبحانه وتعالى.(22/2)
أسباب حصول الرجاء(22/3)
الإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته
إن تحصيل الرجاء -الذي هو من أجلِّ أنواع العبودية- يكون بثلاثة أمور ذكرها الله عز وجل: الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة سنته سبحانه فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فمن يرجو رحمة الله أولاً؟ المؤمنون، وهذا يظهر جلياً كما سنذكر في مواقف أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقد كانوا في غاية الرجاء في لحظات الشدة، وذلك مبني على علمهم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، وباستحضارهم هذه الأسماء والصفات ومعانيها وآثارها في الوجود، فهم يرون مالا يرى الناس من آثار أسماء الله وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى في خلقه، يشهدون ما أشهدهم الله بالوحي المنزل، وما قذف في قلوبهم من أنواع العلم به سبحانه وتعالى، فيشهدون بذلك مالا يشهده الناس.
انظر مثلاً إلى ما أمرنا الله أن نشهده، أشهدنا سبحانه وتعالى أنه هو الذي أخرج فرعون وجنده من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، وأشهدنا عز وجل أنه هو الذي أزلف هناك في اليم فرعون وقومه ومن معه، فسبحان الله! والله عز وجل أشهدنا أنه أرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً.
والله عز وجل أشهدنا أنه جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون! والله جعلنا نشهد في كتابه بوحيه أن ما يجري من عداوة الشياطين لدعوة الأنبياء إنه هو الذي جعلها قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
الله سبحانه وتعالى أشهدنا أنه جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأشهدنا سبحانه وتعالى هدايته لمن شاء له الهداية، وإضلاله لمن شاء له الإضلال.
وأشهدنا عز وجل أنه النصير لمن شاء نصره ولو اجتمعت الأرض ومن فيها على هزيمته {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
فشهود هذه المعاني يجعل العبد يعيش في جو آخر، يعيش في دنيا غير دنيا الناس، الناس لا يشهدون من وراء الأحداث التي تقع إلا مظاهرها الحاضرة أمام أعينهم، ولكن لابد أن ترى ما وراء ذلك وما قبل ذلك وما معه من أوامر الله النازلة، ترى ما قبله من الكتب في اللوح المحفوظ، وما سبق ذلك من علم الله سبحانه وتعالى، وما مضى من إرادته النافذة، وتشهد كما ذكرنا نزول الأوامر من عنده نافذة كما أمر في إحياء هذا وإماتة ذاك؛ لإعزاز هذا وإذلال ذاك، أن تشهد أن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما أن له الملك فله الحمد، له الملك يدبره كيف يريد سبحانه وتعالى، وهو محمود على ذلك، وكم ممن أعطاه الله عز وجل ملكاً عالياً يبتليه بذلك فإذا به يتصرف تصرف السفهاء فلا يحمد على ذلك، وكم من حكيم له حكمة ومعرفة ولكنه لا يملك، لكن الله له كمال الملك والحمد، له الملك وله الحمد، وتفرد بكمال القدرة.
هذا الذكر العظيم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) يأخذ قلب العبد إلى آفاق بعيدة عما يرى من حياة الناس من صراعاتهم، وليس أنه يبتعد عن الصراع بل هو في أتون هذا الصراع كما يقولون، هو غير معتزل في حقيقة الأمر، أو مجرد متفرج على الصراع الذي يجري، إنه وسط هذا الصراع بالفعل، ينصر دين الله، ويبذل ويضحي، لكنه يرى دائماً ما وراء أفعال الناس، الناس يتصورون أن أفعالهم هي الموجبة، وأن إرادتهم هي النافذة، وهو يرى وراء ذلك أمراً آخر، وفوقه أمر آخر يرى أوامر الله بكن فيكون، ومشيئته سبحانه وتعالى النافذة، وقدرته الشاملة لأفعال العباد الاضطرارية والاختيارية، ويرى في النهاية العاقبة التي أرادها الله عز وجل لكلا الفريقين، لأهل التقوى والإيمان، ولأهل الكفر والفسوق والعصيان.
وهذا إنما يشهده من نظر في التاريخ، ولا نعني بالتاريخ مجرد الحكايات، لكن نعني بالتاريخ سيرة الأمم مع أنبيائها، سنة الله سبحانه وتعالى التي مضت، إن القرآن قص علينا من مواقف الأنبياء وأفعالهم ومن معاني الإيمان التي شهدوها مالا يوجد في كتاب، ولا يوجد فيما يتلوه الناس من أخبار، وما يتناقلونه من تواريخ، لا نظير لكتاب الله سبحانه وتعالى، يقطع من تذوق حلاوة الإيمان بهذا الكتاب إنه كلام الله الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا شبيه لهذا الكلام أبداً، وخصوصاً إذا قرأ الإنسان غيره من الكتب التي دخلت فيها أيدي الناس مما أصله نزل من السماء من عند الله عز وجل، ولكن دخلت فيها أيديهم بالكتابة والزيادة والنقصان، والتبديل والتحريف، أو فيما خطه الناس من تلقاء أنفسهم من حكايات التواريخ.
نقول: إن نظرة في تاريخ الأمم والشعوب، وتاريخ الصراع الذي يجري؛ لهي مما يضيء لأهل الإيمان طريقهم، ويحقق معاني الإيمان في قلوبهم؛ فيحصل لهم نور الرجاء في قلوبهم، كما ذكرنا أن الأمر الأول الذي يحصل الرجاء هو تحقيق الإيمان، وشهود صفات الرب سبحانه وتعالى التي هي موجبة لكمال الملك والحمد، ويشهد أفعال الرب سبحانه وتعالى فيما يقع من هذا الصراع وهذا الوجود، وكما ذكرنا يعيش ببدنه مع الناس ولكنه يعيش بقلبه في جو آخر، كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وهل كان أبناؤه كفرة؟ لا، ولكن لم يستحضروا ما يستحضره من أن الله هو الذي يفعل، وهو الذي يدبر، وهو الذي يعطي، وهو الذي يجتبي، وهو الذي يعلم، وهو العليم الحكيم، وهو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يمن بفضله على من يشاء كما من على من سبق، وهو يشهد هذه المعاني، ويعلم من الله عز وجل؛ من عواقب ونهايات الأمور، ومن فعله عز وجل بالناس ما لا يعلمون، ولذا وقفوا على حد التصرفات الظاهرة.(22/4)
الهجرة في سبيل الله
الأمر الثاني الذي يحصل به الرجاء بعد تحقيق الإيمان: أن يكون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة:218]، والهجرة بالبدن فرع عن الهجرة بالقلب، بل لا تحصل الهجرة بالبدن إلا بهجرة القلب أولاً، وهجرة القلب إلى الله فرض، وهجرة البدن تختلف باختلاف الأحوال.
إن الذي أوجب أن يهاجر المؤمن من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأوجب هجرة المؤمنين من مكة ومن سائر البلاد إلى المدينة، وهكذا الهجرة الباقية إلى يوم القيامة التي لا تنقطع ما دام الجهاد باقياً؛ إنما أوجبها اختلاف المنهج، إنما أوجبها هجرة المؤمن لعادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم وأخلاقهم الفاسدة، وتصوراتهم الرديئة، يهجر كل ذلك وهم لا يوافقونه ولا يقبلون أن يعيش وسطهم بتصورات أخر غير سخافات عقولهم وأباطيل عقائدهم، فهاجر بقلبه من عبودية غير الله إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله وحده، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله وحده، ومن نصرة الباطل والعصبية والجاهلية إلى نصرة دين الله وحده، فهي التي أوجبت المخالفة والمفارقة واختلاف الطريق فاستوجب ذلك الصدام، ودائماً تبدأ بذرة الطائفة المؤمنة ضعيفة في وسط صخور عاتية تحاول قتلها وتحجيمها ومنعها من الظهور، فلابد أن يقع صدام غير متكافئ القوة في الظاهر مع أنه لمن يرى ما وراء الأمور وما وراء ستر العادة والبدايات يعلم أن موازين القوة الحقيقية في صالح أهل الإيمان ولو بدءوا ضعافاً، إنما ابتلاهم الله بأن وضعهم في وسط صفوف العدو لينظر ماذا يفعلون؟ وماذا يبذلون؟ وكيف يهاجرون؟ كما ذكر الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، المؤمنون ليسوا أقل عدداً إلا بالنسبة إلى عدوهم في الأرض، أما بالنسبة لجنود الله فجنود الله أكثر قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فهذه الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، والمسلمون يعدون على أصابع اليد، فهذه الآية: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، في سورة المدثر وهي من أوائل ما نزل قبل أن تنتشر الدعوة، وقبل أن يوجد الأجناد، ولو تأملت الكون كله لأيقنت هذه الحقيقة، كم من عباد لله في السماوات والأرض مسبحون لله؟ الكائنات كلها تسبح الله، أيعجز الله عز وجل أن يأمر الأرض أن تبتلع هؤلاء الكفرة وقد ابتلعت بالفعل من قبلهم؟ أيعجز الله سبحانه وتعالى أن يأمر السماء أن تحصبهم وقد حصبت بالفعل أمثالهم؟ ألم نر الزلازل والصواعق وما ينزل من الأعاصير المدمرة؟! الله لا يعجزه أن يأمر البحار أن تغرق هؤلاء وقد أغرقت قبل ذلك من أغرقت، ولو تأملت السماء أو البحر أو الأرض لوجدت الإنسان فعلاً من أصغر ما يكون، وهذه القنابل الهائلة والأسلحة الفتاكة ماذا تصنع وسط هذه الأرض الهائلة؟ إنها كأعواد الكبريت في وسط مدينة هائلة، كطفل يلعب بعلبة كبريت ماذا يصنع؟ هل يمكن أن يهد الجبال؟ حتى ولو هد الجبال {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، فهناك آلاف الملايين من المخلوقات التي هي مستعدة للإطباق عليه وإنهائه في لحظة، وهو يوقن أنه لا يملك منها شيئاً, أيملك أحد من الناس ما في باطن الأرض من القوة الهائلة؟ لو انشقت هذه الأرض ماذا سيقع؟ إن الطاقة الموجودة في باطن الأرض، والطاقة في البحار، والطاقة الموجودة في نجم صغير في الكون أو في شهاب فقط كافية لتدمير أمم بأسرها، بل بتدمير الأرض ومن عليها! الله عز وجل جنده أكثر، ولكن ابتلي العباد لكي يهاجروا في سبيل الله، وقد بدأ الصراع لأجل هذا الاختلاف بين المنهج والمنهج، بين الحق والباطل، فهجر المؤمنون العادات والتقاليد وما وجدوا عليه الآباء والأجداد وما وجدوا عليه المجتمعات المنحرفة، وأرادوا أن يعيشوا بإسلامهم، أرادوا أن يعيشوا بنظام حياة مختلف عن نظام الحياة التي يحياها من يعيشون لبطونهم وفروجهم، ومن يعيشون لكبريائهم وجبروتهم وغرورهم، ومن يعيشون لأجل أمراض إبليسية وأخرى أرضية شهوانية حيوانية، لا يعيشون إلا من أجل ذلك، وأهل الإيمان يريدون أن يستنقذوا العالم من شر هذه الأمراض، وأهل هذه الأمراض يريدون فرض باطلهم على الناس، ويخدعونهم أعظم الخداع، فحصل الصراع، وهو صراع غير متكافئ القوة فيما يبدو للناس، أهل الباطل أقوى والحقيقة العكس تماماً، لكن هذا ابتلاء لأهل الإيمان لينظر الله كيف يعملون، فبدأت الهجرة البدنية فكانت أثراً من آثار هجرة القلب أولاً، فمن هاجر لابد وأن يجد الرجاء، من هاجر سوف يصطدم، فما الذي يفتح له الأبواب؟ وما الذي يسهل له الصعاب؟ وما الذي يجعله يتخطى تلك العقبات؟ إنه الرجاء، فإيمانه ومعرفته بالله هو أصل المعرفة، ثم هجرته إلى الله بقلبه وإن احتاج ذلك إلى أن يهاجر ببدنه فذلك الذي يفتح له باب الرجاء.(22/5)
الجهاد في سبيل الله
ثم الجهاد في سبيل الله، وأصله بذل الجهد في مرضاة الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل) وقمة ذلك بلا شك بذل الجهد في جهاد الكفار، وهذا القتال هو ذروة سنام الإسلام؛ لأنه تتمة لذلك الجهاد الباطن، وذلك الجهاد الباطن هو أصله، وهذا كجبل الثلج يبدو منه قمته وتحت السطح تسعة أعشاره، وحقيقة الأمر أن الخاسر من لم يجاهد نفسه في الله عز وجل حتى يعلمها الحق، وحتى تعمل به، وحتى تأمر به وتدعو إليه وتصبر على مخالفة الناس على ما أصابها في مخالفتهم، ويجاهدها بدفع الشبهات والشهوات التي يبثها الشيطان في النفوس، ويجاهدها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد، ويجاهدها لتبذل في سبيل الله ما استطاع أن يجاهد، ولا شك أنها منة من الله عز وجل أن يقيم الرب سبحانه وتعالى عبده ليبذل نفسه وماله في سبيل الله، إن هذه منة من الله ينبغي أن يظل من حرم منها باكياً على نفسه والله، ينبغي أن يظل باكياً وهو يرى في الأرض في زمنه من يبذل لله عز وجل نفسه وماله ووطنه وأرضه وأهله، يبذل كل ذلك لله عز وجل، ينبغي أن يبكي على نفسه كما بكى البكاءون، قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، مع أنهم غير مقصرين ولكنهم يخافون أن يكون قد فاتهم الخير، والله عز وجل علم منهم عذرهم الذي أقعدهم عن شهود هذه المواطن، وقد نزلت الآيات فيهم تشهد لهم بالإيمان والصدق والإخلاص لله عز وجل، ومع ذلك كانوا يبكون، ونحن ما شأننا؟! أنحن فعلاً نحب الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل بأنواعهما المختلفة، ونحب أن نكتب مع المجاهدين في سبيله سبحانه وتعالى وإن كنا لسنا معهم في أرض المعركة أم أن الله عز وجل قد علم منا ما يكرهه فثبط الهمم والعياذ بالله من ذلك؟! عز وجل ثبط همم أقوام وكره انبعاثهم فأمرهم بالقعود كما قال عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، نعوذ بالله أن نكون من هذا الصنف! فأيهما أولى أن يبكي على نفسه: الذي نزل القرآن ببيان إيمانه وصدقه ونصيحته لله وللرسول صلى الله عليه وسلم أم من لا يدري ما شأنه؟ فإذا كان الإنسان قد أقامه الله سبحانه وتعالى على ثغرة من ثغرات الدين، فكيف يفرط فيها؟ وكيف يتنازل عنها؟ وكيف ينسحب منها وقد من الله عز وجل عليه بذلك، وهو في الحقيقة إنما ينتظر مناً آخر وفضلاً آخر ليحصل له عظيم الرجاء؟! الله عز وجل جعل الرجاء لمن أتى بهذه الثلاث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، وإلا كان الرجاء أماني، وفرق بين الرجاء وبين أماني الغرور كما قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13 - 14]، نعوذ بالله من ذلك! غرتهم أماني مغفرة ظنوها قطعية؛ لأنهم أهل دنيا كما قال قائل من هذه النوعية: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، كما يقول القائل إذا أكرمه الله بشيء من الدنيا ونعمه: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، يرى الكرامة إنما هي في العطاء الدنيوي، ويجزم لنفسه بالآخرة والمغفرة عند الله سبحانه وتعالى من شدة الغرور والجهل، وكم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، وما أروع هذه الكلمة وهي من الحسن البصري رحمه الله! نعم، كثير من الناس يغتر بأمان باطلة، لكن الذي يرجو يجد فعلاً نور الرجاء وشموس الرجاء في قلبه، هذا الذي حقق الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وشهد سنته الماضية في خلقه في أنبيائه ورسله، وفي أعدائه، وعلم عواقب الأمور ونهايتها، ولم يقف عند بداياتها، فهاجر وتحمل مفارقة الناس والآراء ومفارقة الجهالات والأخلاق الفاسدة والضلالات والمنكرات، وتحمل كل ذلك في سبيل الله عز وجل، ثم بذل جهده لإعلاء كلمة الدين ونصرة الإسلام، وسعى لكي يبذل ويضحي في سبيل الله عز وجل، وهو مستعد أن يضحي بكل شيء في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى.
إن النظر فيما ذكر الله سبحانه وتعالى من قصص أنبيائه ورسله من أعظم ما يوقد أنوار الرجاء في قلب العبد المؤمن؛ لأنه يرى كيف كانت سنة الله، وكيف كان فضل الأنبياء، وكيف كان يقينهم مع من معهم من المؤمنين، وكيف كان رجاؤهم في فضل الله! رغم أن كل المعطيات الظاهرة كانت تدعو إلى اليأس كما هذا كثير من المسلمين اليوم، فالكثيرون يشعرون باليأس والحزن العميق؛ لأجل ما أصاب المسلمين وما زال يصيبهم من أنواع البلايا والمحن على أيدي شر خلق الله، على أعدى أعداء الدين من اليهود والنصارى والمشركين والعياذ بالله! ممن يبذل جهده كله في إهانة المسلمين وأذيتهم، ولكن كل هذا في حقيقة الأمر لمن حقق الإيمان مبشرات النصر، وهذه كلها مما يسبب له مزيد الرجاء في قرب الفرج والنصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى، وإنما هي فترة تمحيص وهداية من هدى الله، وفترة تراكم الظلم والباطل بعضه على بعض، فأنت ترى في كل يوم تميزاً حتى من كان عنده مسألة واحدة من الدين، ربما تجد إنساناً عنده مئات المسائل والمواقف من الباطل، وعنده مسألة واحدة من الدين، فيريد أهل الباطل أن يفارقوه، ويقولون له: إما أن تفارق هذه المسألة وتكون معنا وإما فأنت عدونا وضدنا! والله إن الإنسان ليعجب! أنواع الباطل كثيرة جداً، وكثير جداً من الناس يوافق على الباطل، لكن المحنة تكون حتى على مسألة واحدة يكون الإنسان عليها فضلاً عمن كان عنده أكثر من ذلك، كمن عنده مسائل بفضل الله سبحانه وتعالى وقف فيها في صف الحق؛ فعودي، ومن يقف في صف الحق كاملاً، يقوله كله ويلتزم به كله، فلا شك أنه سوف يعادى أتم معاداة، أما ترى ما كان من معارك هائلة من أجل فتوى مثلاً بمنع مصافحة الأجنبية وتحريم ذلك! وما ترى من معارك من أجل الدعوة مثلاً إلى تحريم السجائر أو تحريم التبرج أو نحو ذلك! ترى عجباً! مجرد فتوى تحارب مع مئات الفتاوى الموافقة للباطل، لكن الحق لا يرضي أكثر الناس، فيسعى هؤلاء في المفاصلة، فأهل الباطل هم الذين يفاصلون، أما ترى غطرسة اليهود وكفرهم وعنادهم؟! لو قدم لهم أعظم التنازلات وأكبر التراجعات لا يقبلون ذلك، كما وصفهم الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فالقضية واضحة جداً، والغرض المقصود: أن شهود سنة الله سبحانه وتعالى في أنبيائه ورسله يفتح للقلب أنوار الرجاء، وينير القلوب ويمنعها من حصول اليأس الذي هو من الكفر.(22/6)
قبسات من مواقف نبي الله يوسف عليه السلام(22/7)
الشكوى إلى الله سبحانه
نريد أن نقتبس قبسات من هذه الأنوار من مواقف أنبياء الله سبحانه وتعالى متفرقة عبر التاريخ، لكنها تلتقي في هدف واحد، وطريق واحد، وهي أن هذا الرجاء يعظم عندما تكون الأسباب مخالفة، وعندما تنعدم الأسباب الموافقة، وعندما تكون ظواهر الأمور كلها في صالح الأعداء.
فلنتأمل في قصة يوسف ويعقوب صلى الله عليهما وسلم، قال الله عز وجل: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:84 - 87]، ففي هذه الآيات عدة فوائد ولن نحصيها، أولها: أنه لما ازداد الكرب على يعقوب عليه السلام بعد فقد ابنه الحبيب الذي علم ابتلاء الله عز وجل له، وعلم صفاته المتميزة التي تؤهله لوراثة النبوة، فقده وهو أحب الناس إليه، يحبه لجميع الأوصاف التي فيه، فهو أكرم الناس، وأجمل الناس، والصفات الإيمانية قبل ذلك وبعده متضمنة لكل محبة، وفقده في أشد سن يتعلق فيه الأب بابنه خصوصاً وهو يرى ضعف باقي الأبناء وعجزهم، فتأتيه مصيبة أخرى! فقد بنيامين وفقد كبيرهم الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف:80]، ثلاثة من أبنائه يبتعدون عن أبيهم، فما تذكر بهذه المصيبة عندما نزلت به إلا أمر يوسف، تذكر المصيبة فكانت الشكوى إلى الله؛ لذلك الشكوى إلى الله عز وجل وبث الحزن إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم أسباب تفريج الكروب، الشكوى إلى الله تسمعها في نداء نوح: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6]، دعاء فيه شكوى إلى الله، وتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وفي الحديث الآخر: (جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، الشكوى إلى الله من أعظم العبادات في فترة المحنة، تشكو إلى الله وتقول: يا رب! فعلوا كذا وكذا يا رب! ظلموا وفجروا وكفروا ونافقوا.
ويعقوب عليه السلام يشكو إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، وهذا الرصيد الهائل في قلب العبد المؤمن يجعله يرجو دائماً ولا يصل أبداً إلى اليأس، بل يزداد رجاءً وإيماناً، (أعلم من الله) أي: من صفاته ومن أسمائه الحسنى، يعلم من أفعاله وسنته الماضية مالا يعلمون، يظنون الأمور تعقدت تعقداً هائلاً لا مخرج منه، أصبح بنيامين عبداً، وذاك الآخر لن يرجع لأنه لن يتمكن من أخذ أخيه، ويوسف قد ضاع من زمن بعيد، فمن أين الحصول على يوسف؟ ولكن يعقوب يشكو إلى الله.
فلنكثر من الدعاء والشكوى إلى الله، وهو عز وجل يعلم ما يفعله الكفرة ولسنا بالذين نعلم الله سبحانه وتعالى في دعائنا وشكوانا ما الذي يقع، فإن الله عز وجل أعلم منا ولكن نشكو له تضرعاً وتذللاً، والله يحب أن يسمع منا الشكوى والتضرع إليه سبحانه وتعالى، ويجب أن نظهر حزننا على ما يجري للمسلمين.
ثم قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، ففيه الأخذ بالأسباب، وقبل أن ننتقل من نقطة الشكوى نقول: الشكوى تكون إلى الله، فمن تشكو؟ أولاً: تشكو إلى الله نفسك الأمارة بالسوء، تشكو إلى الله سبحانه وتعالى أنها لا تطاوعك على ما تريد من طاعة الله حتى يصلحها الله عز وجل لك، وحتى يهيئها لكي تتقبل الخير وتستجيب له وتنتفع به.
وتشكو إلى الله عز وجل غيرك ممن ظلم وفجر.
وتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ما تجد من حولك من فقد المعين على الخير، والمعاون على البر والتقوى، وجلد من ليس بثقة ولا بأمين، تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، فسمع نشيجه من آخر المسجد، بكى بكاءً عظيماً، وعمر كان يحمل هم أمة الإسلام، مع أنه رضي الله عنه فتح الأمصار، وفتح الفتوح، ولكن كان يتمنى حجرة مليئة بمثل أبي عبيدة بن الجراح يستعملهم، كان لا يجد من يستعملهم، تخيلوا وضع الصحابة رضي الله عنه ونوعية هؤلاء وعمر يشكو إلى الله يقول: اللهم إليك أشكو ذنب الفاجر، وعجز الثقة! لا يدري من يستعملهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى بيتاً مليئاً بالرجال يكفونه تعليم الناس وقيادتهم إلى الخير والجهاد في سبيل الله، ووزن الأمور بالموازين الشرعية، والإفتاء والقضاء والحكم وسائر أنواع الوظائف، عمر في زمنه يشكو، وكيف لا يشكو ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة تكاد لا تجد فيها راحلة)؟! فإذا كان هذا في زمن الأنبياء وزمن الخلافة الراشدة فما الظن بزمننا عباد الله؟! فنشكو إلى الله أنفسنا أولاً؛ لأنها نفوس فيها ضعف وعجز وتقصير شديد، تحتاج إلى أن يصلحها الله سبحانه وتعالى، ونشكو إلى الله من حولنا ممن معنا وممن علينا، ونشكو إلى الله ونتضرع إليه سبحانه عسى الله عز وجل أن يغيثنا وأن يزيل شكوانا، ومع شدة هذه العبادة ومع الإكثار منها بإذن الله يكون الفرج، وأنت تلمس ذلك.(22/8)
الأخذ بالأسباب المقدورة
النقطة الثانية: الأخذ بالأسباب المقدورة، قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، والتحسس: هو البحث في الخير، (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ)، بدأ بيوسف أولاً؛ لأنه الذي شعر بمدى فقده عندما عجز هؤلاء العشرة أن يحفظوا أخاً لهم، وعجزوا أن يعيدوه له رغم الوعود والمواثيق فضلاً عن عجزهم أولاً عن حفظ أخيهم بسبب حسدهم وما كان منهم من خلف الوعد، ومن الغدر وعدم الأمانة وغير ذلك، لكنه ترفق بهم ونصحهم بأن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فالأخذ بالأسباب المقدورة أمر عظيم الأهمية في حياتنا، قد تكون الأسباب في أيدينا محدودة، والأسباب في أيدي أعدائنا كبيرة جداً وكثيرة، ولكن لنأخذ بالأسباب المقدورة لنا، فإن هذا بإذن الله تبارك وتعالى يكون من أعظم أسباب الرجاء والبعد عن اليأس، ومن أعظم أسباب الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، فالتحسس: البحث عن الخير، أن تبحث وتجتهد فيما تحت يدك.
وبالفعل انطلق هؤلاء الأبناء، وجعل الله الفرج كاملاً في لحظة بفضله عز وجل، قال: ((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)) لا تيئسوا من إراحته ورحمته عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يرحم من يشاء، ويجعل الروح والراحة والإراحة من عنده سبحانه وتعالى في أي وقت يشاء، قال تعالى: ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ))، إن اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى من الكفر، ولذا قال صاحب الطحاوية: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام يعني الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، فالمؤمن موقن بصفات الله، ويوقن أنه الرحمن الرحيم، فكيف ييئس من رحمته وقد علم أن الله ادخر عنده تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة، وأنزل رحمة وزعها على الخلق، فبها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها، فكيف ييئسو من هذه الرحمة الواسعة؟! الله عز وجل أرحم الراحمين، فاليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، والإلقاء باليد يأساً من الفرج؛ هو من الكفر والعياذ بالله، ومن أعظم أسباب الخذلان، قال تعالى: ((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)).
ذهبوا إلى يوسف وقد أصابهم نوع من الذل، وانكسروا له وهم لا يدرون، قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88]، انظر كيف كانوا يهينونه عندما ألقوه في البئر، واليوم يقفون منكسرين يقولون: ((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، إنها عزة والله، أعزه الله، وليس هذا مجرد اسم فقط، لكن أعزه الله فوقهم، يقولون: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88]، حصل فقر شديد، وحاجة شديدة، وجاءوا ببضاعة بائرة، بضاعة لا تستحق أن تشترى، يعلمون أن بضاعتهم مزجاة، ومع ذلك يرجون الفضل، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]، لسنا بالذين نجزيك، فنحن لا نستطيع أن نجزيك، وهنا ظهر الكرم الحقيقي، وظهرت الرحمة والشفقة، وظهرت الخصال الحميدة التي كانت مقتضية بتفضيله عليهم فعلاً، والتي لمحها يعقوب قديماً، وأخبر يوسف أنه مجتبا ًمن عند الله، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:89 - 90]، كشف يوسف عن نفسه، وبين لهم أنه يوسف؛ فكان الفرج من جميع الجهات، ظهر يوسف، وظهر بنيامين، وظهر الثالث، وعادوا جميعاً، وعاد ليعقوب بصره، واجتمع شمل هذه الأسرة بفضل الله سبحانه وتعالى، جاء فضل الله وفرجه بالصبر وعدم اليأس من رحمته، وكلما ازداد الضيق اقترب الفرج، أول ما سمع يعقوب بأخذ بنيامين قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]، وذلك لماذا؟ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]، وهكذا كان فعلاً ما توقعه يعقوب، وعسى من الله سبحانه وتعالى واجبة، وهو رجاها بفضل الله، فهذا نبي رجا من الله سبحانه وتعالى، وحصل له الرجاء عندما اشتد الكرب، فعندما يشتد الكرب يعظم الرجاء عند أهل الإيمان؛ لأنهم يعلمون أن الله هو العليم الحكيم.
وهذا من تحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته، فشهود آثار هذه الأسماء والصفات وأفعال الرب سبحانه وتعالى التي يرى العبد آثارها وتأثيرها في هذا الكون؛ يجعله يعظم الرجاء عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:90 - 92]، أي كرم هذا؟! ونحن نرجو من الله عز وجل أكرم الأكرمين أكثر مما رجاه إخوة يوسف من أخيهم عندما استكانوا له وذلوا، ونحن قد أصابنا وأمتنا الضر، وجئنا بأعمال وصفات مزجاة، أعمالنا مزجاة لا تستحق أن تقبل، دعواتنا وعبادتنا وصفاتنا لا تؤهلنا لشيء، أعمالنا مزجاة، وجئنا بأعمال مزجاة، بضاعتنا لا تصلح أن يشتريها الرب سبحانه وتعالى إلا بكرمه، فنسأله أن يقبل منا ما لا يستحق القبول، وأن يمن علينا بفضله وهو أكرم الأكرمين سبحانه وتعالى، وإنما كرم الكرماء في الدنيا أثر من كرمه عز وجل، ولولا أنه الكريم لما وجد كرم في الدنيا، الكرم المخلوق في قلوب العباد إنما هو أثر من آثار اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالكرم الذي هو صفته عز وجل، فالكريم هو الله سبحانه وتعالى؛ لذا نرجو الله عز وجل أن يمن علينا بفضله، وأن يتكرم علينا بأن يقبلنا رغم أننا لا نستحق القبول، وأن ينصرنا رغم أننا لا نستحق النصر.(22/9)
قبسات من مواقف نبي الله موسى عليه السلام
موقف آخر نستحضره جيداً ونحن في هذه الأيام المباركة من شهر الله المحرم حول عاشوراء، ذكر الله سبحانه في قصة موسى في سورة الأعراف تقتيل فرعون للسحرة ظلماً وعدواناً وتجبراً وطغياناً، ومعاندة للحق بعدما ظهرت الآيات الحسية بعد الآيات الفطرية العقلية، وأقر السحرة بعجزهم، بل وأعلنوا إيمانهم، وإذا بفرعون يلفق لهم تهمة يخترعها على الفور، فهو أستاذ في الاختراع، اخترع التهمة في مجلسه مع أنه الذي جمع السحرة على عينه وأتوه {بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، أتى بكل السحرة، فهو الذي جمعهم ومع ذلك قال: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، كان الجزاء هو التقتيل والتقطيع، تقطيع الأيدي والأرجل، والصلب على جذوع النخل، وكان من السحرة الرضا بالله عز وجل والتضحية بما كان أغلى شيء عندهم، التضحية بالأنفس وبالأموال وبالمنزلة، ضحوا بكل شيء، {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126]، كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، قال الله عز وجل في سورة الأعراف بعد أن ذكر هذا الأمر الفظيع من فرعون ومن قومه الذين رأوا بأنفسهم الآية ومع ذلك قتلوا السحرة: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129].(22/10)
إمهال الله لفرعون وجنوده
أولاً: ننظر إلى إمهال الله عز وجل لفرعون وجنده، كم أمهلهم سبحانه وتعالى مع الظلم والطغيان؟! ما أكثر ما نستعجل! نقول: قد ظلموا قد قتلوا قد سفكوا الدماء قد كفروا قد فجروا قد نافقوا فلماذا يتركهم الله؟ وأين المصائب والأيام السوداء التي تنزل عليهم؟! قد يقول كثير منا ذلك، تأمل قصة فرعون لتعلم سنة الله سبحانه وتعالى، لتعلم كيف يمهل الله عز وجل الأمم رغم طغيانها، والله إن موقف فرعون وجنوده في قتل السحرة أمر عظيم خطير جداً، أمر في منتهى الظلم، ويبقى موسى عليه السلام لا يصنع شيئاً إلا الدعوة إلى الله، فيقول الملأ السادة والكبراء من قوم فرعون يحثونه على الاستمرار في الأذى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} [الأعراف:127] يعني: أتتركهم؟! {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، يسمون فعل موسى فساداً في الأرض، وهم من سفك الدماء وقتل الأولاد الرضع واستحيا النساء بالظلم والعدوان لمجرد أنهم من طائفة أخرى غير الطائفة التي ينتمي إليها فرعون والعياذ بالله! ظلم بين، فساد فظيع، ولكن: (رمتني بدائها وانسلت) كما يفعل فراعنة الزمان من اليهود والأمريكان وغيرهم ممن يرمون المسلمين بأنهم الذين يفسدون في الأرض، وبأنهم أهل الباطل والإرهاب وغير ذلك، مع أنهم والله يفعلون بشعوب الأرض جميعاً أنواعاً من الإفساد لا تتصور، فضلاً عن المسلمين، لو خدش واحد منهم قامت الدنيا ولم تقعد، وأما إذا ذبح أولاد المسلمين، وقتل أطفالهم، ورملت نساؤهم، بل وانتهكت أعراض نسائهم؛ فهذا عندهم أمر عادي! يحرق مئات المسلمين في غداة واحدة والعالم كله لا يحرك ساكناً، ما المشكلة؟! بعض المسلمين احترقوا أحياءً فما عندهم إلا مجرد آهات التأسف! والحقيقة مزيد من التمكين لعباد الأبقار والعياذ بالله لكي يتمكنوا من رقاب المسلمين، سبحان الله! لكن لو تأملت هذه المواقف بالنسبة إلى ما فعله فرعون، وأن الله أمهله مدة بعد هذه الواقعة، لو كان الواحد منا في مثل ذلك الموقف سيقول: الآن ينزل به العذاب بعد أن فعل بالسحرة ما فعل، وبعد أن أعرض عن الآيات، وبعد أن أقيمت عليه الحجة من كل وجه، ومع ذلك فهو مستمر على المعاندة، بل ومستمر على زيادة الأذى، وقومه لا يتعظون، قوم في منتهى العجب! قوم مستخفون فهم الذين يحثونه، له أعوان ومرغبون في مزيد من سفك الدماء، {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف:127]، فما هو الفساد الذي يقوم به موسى وقومه؟! إنه الدعوة إلى الله عز وجل، فهم يقولون: لابد أن توقفهم عند حدهم، لكن فرعون واضح جداً أنه لا يقدر على مواجهة المسلمين، لكنه اتهمهم بأنه يوجد انقلاب ومكر مكروه في المدينة، وزعيم الانقلاب موسى عليه السلام، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، وكان المفروض أو أول من ينزل به البأس زعيم الانقلاب، فكان هو أول من يقتل ويصلب، لكنه كان يخاف من موسى فعلاً بشيء قذفه الله في قلبه وليس من عند أحد، ولا بالأسباب، ولذلك تجده يتحاشى موسى دائماً قالوا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ} [الأعراف:127] {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، لماذا لا تبدأ بموسى أولاً؟ هم يقولون له: موسى، قال لهم: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، فأمر بقتل الأبناء، وهو لا يقدر إلا على هؤلاء، وكان لا يقدر على موسى؛ لأن الله عصمه؛ لأن الله كف يده سبحانه وتعالى، ولابد أن تلحظ أن موسى اعتصم بالله قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27]، هو قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:26]، هم يقولون له: اقتله! لابد أن تعمل لهم شيئاً، {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، ومن كان يمنعه؟! إنه الله عز وجل؛ لأنه استجار بالله، فلتكن استجارتنا بالله، اللهم إنا نعوذ بك، يا ربنا ورب كل شيء {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27].
قال سبحانه وتعالى عن فرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، هل عند المجرمين طريق آخر غير البطش؟ ليس عندهم إلا ذلك، كم استمر فرعون يقتل الأبناء ويستحيي النساء؟ استمر على الأقل أربعين سنة؛ لأن تقتيل الأبناء واستحياء النساء كان قبل ولادة موسى صلى الله عليه وسلم، وموسى بلغ أشده، ووقعت الواقعة التي جعلته يهاجر إلى مدين وبقي هناك عشر سنين، وعاد، ووقعت المحاورات مدة طويلة من الزمن، وكل ذلك وتذبيح الأولاد مستمر {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، وهذا من غرور فرعون فليس للطغاة سبيل إلا البطش والتنكيل، ولكنها وسيلة لا تفلح، يقيناً أنها لا تفلح، ولا تحسم مسائل صراع المناهج والملل والأديان مسألة سفك الدماء وقتل الأولاد واستحياء النساء للإهانة والإذلال، فهذه وسائل لا تفلح.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك رهابين، لك مطواعين، إليك منيبين مخبتين.
اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وثبت ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والشيشان، وفي كشمير وأفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزمهم وانصرنا عليهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(22/11)
توبة صادقة
إن فضل العلم على العبادة كبير، بل إن العبادة لا تكون صحيحة ومقبولة إلا بشيء من العلم.
فكم من عابد جاهل جر على نفسه الويلات، كما وقع لهذا العابد الذي أفتى هذا القاتل بعدم قبول توبته.
وكم من عابد عبد الله على جهل فكانت عبادته تعب ونصب بلا أرب، فلابد من العلم حتى يكون الإنسان على بصيرة فيما يأتي ويذر.(23/1)
عظم القتل وجعله من الكبائر
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل راهب، فأتاه فسأله فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فأتاه فسأله فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، فانطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله عز وجل، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأرسل الله إليهم ملكاً في صورة آدمي فجعلوه بينهم -أي: حكماً- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهن كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى الأرض التي أراد -وهي القرية الصالحة- بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة).
وفي رواية: (فأوحى الله إلى هذه -أي: القرية الفاسدة- أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي، فقاسوه فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة، فقبضته ملائكة الرحمة)، وفي رواية أيضاً في الصحيح: (أنه لما أتاه الموت ناء بصدره -أي: مال بصدره- جهة القرية الصالحة)، مال مقدار الشبر.
هذه القصة عظيمة فيها من العظات والعبر ما نحتاج إلى أن نقف معها للتدبر والتأمل، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً)، والنفس الواحدة قتلها ذنب عظيم، قال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
فهذا الذنب العظيم الذي هو قتل الناس جميعاً وقع هنا مضاعفاً تسعة وتسعين مرة نعوذ بالله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، أي: لا يزال في سعة ولا يزال الطريق واسعاً أمامه ما لم يصب دماً حراماً والعياذ بالله.(23/2)
توجيه كلام ابن عباس في عدم توبة القاتل
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن الله عز وجل لم يجعل لقاتل المؤمن عمداً من توبة) يعني: بذلك أن تلغي عليه جميع التبعات، وتلغي عنه كل الحقوق، فإن قاتل النفس بغير حق عليه حق لله، وعليه حق للقتيل، وعليه حق لأولياء القتيل، وكل حق لابد أن يؤدى، ولا شك أن التوبة كما دل عليه هذا الحديث تجب الحق الذي بينه وبين الله، وأما أولياء القتيل فحقهم في شرعنا أن يسلم إليهم نفسه ويمكنهم، فإما أن يقتصوا، وإما أن يقبلوا الدية، وإما أن يعفو، وأما حق القتيل نفسه فهذا يجب أن يقتص منه يوم القيامة.
وجعل الله سبحانه وتعالى حقوق العباد لابد فيها من أن يقتص من أهلها أو ممن أتى عليها يوم القيامة، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن هذا القاتل فيرضي القتيل من عنده حتى يعفو عنه في الآخرة، وربما عفا عنه أهل القتيل في الدنيا فتظل توبة القاتل معلقة بما شاء الله سبحانه وتعالى أن يفعله.
وحقوق العباد أعظم الحقوق؛ ولذلك فتوبة الظالم، وتوبة المغتصب، وتوبة آخذ المال بغير حق، وتوبة الضارب وسافك الدم كل هؤلاء لا تتم توبتهم إلا بمسامحة المظلوم؛ لأن حقوق العباد مبناها على المشاحة ولابد أن تؤدى الحقوق إلى أهلها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى إنه ليقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء)، فإذا كان بين البهائم قصاص فلابد أن يكون هناك بين البشر كذلك إلا ما شاء الله أن يعفو المظلوم عن الظالم.(23/3)
الأعمال بخواتيمها
فهذا الرجل قتل تسعة وتسعين نفساً إلا أن الله عز وجل أراد له خاتمة السعادة فقذف في قلبه حب التوبة، وكان ذلك قبيل موته، وبدون مقدمات يعلمها فقد كان في كامل قوته وفي عنفوان شدته، وهو ما زال على عادته من الاستهتار بسفك الدماء، وربما غاضه الإنسان بكلمة فقتله، ولكن حسن الخاتمة كانت له عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يدفعنا دائماً إلى ألا نُيئس أحداً من رحمة الله، وأن نعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأنها بيد الله سبحانه وتعالى، فأنت لا تدري هذا الذي يفعل كل هذه المعاصي، أو كل هذه الفواحش ما تكون خاتمته فلعله كتبت له خاتمة السعادة، ويختم له بعمل صالح حتى ولو كان بقلبه دون جوارحه، فيموت عليه فيقبل الله عز وجل منه، ولذا لا تحكم على الناس بجنة ولا بنار، وإياك أن تقول لأحد: لا يغفر الله لك، وإياك أن تقول: هلك الناس، فالله أعلم، وبهم هو سبحانه وتعالى الشكور الذي يشكر القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، وهو سبحانه وتعالى الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
فهذه بغي من بغايا بني إسرائيل سقت كلباً فشكر الله لها فغفر لها، وهذا رجل نحى غصناً من شوك عن طريق المسلمين فدخل به الجنة، فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة.
ورحمة الله واسعة فتسعة وتسعين رحمة مدخرة ليوم القيامة، وأنزل عز وجل رحمة واحدة بها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فادخر سبحانه تسعة وتسعين رحمة إلى يوم القيامة، فأنت لا تدري ماذا يكون حال الناس! ولذا لا تحتقر أحداً وأنت تدعوه إلى التوبة، بل تدعوه وأنت محب مشفق ناصح أمين، ولا تنظر إليه بعين الاستعلاء؛ لأنك لا تدري بما يختم لك وبما يختم له، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجب أن يتعلق برجائه قلبك، وهو سبحانه وتعالى الذي تجعله أملك، وهو سبحانه وتعالى الذي ترجوه ليوم فاقتك وحاجتك، فلا تعتمد على عملك بل عليك أن تتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله قذف في قلب هذا العبد البحث عن التوبة، وكان السؤال في موضعه فقد سأل عن أعلم أهل الأرض.(23/4)
الواجب على الشخص إذا أراد السؤال عن دينه
فالواجب أن يسأل الإنسان عن العلماء؛ ليرشدوه إلى طريق الصواب، والأفضل أن يسأل عن الأعلم، وهذا عند الناس ربما يكون بناء على الشهرة بالعبادة أو الوعظ أو غير ذلك، فأفتاه الناس بأن أعلم أهل الأرض هذا الرجل الراهب المتعبد الذي بلغ من صيته في الزهد والعبادة ما بلغ، حتى قال الناس عنه: إنه أعلم أهل الأرض، وهذا يدل على أن كلمة أعلم أهل الأرض يخطئ فيها كثير من الناس، ولا يدرون كيف يزنون العلم والعبادة والزهد والورع ونحو ذلك.
ولذلك أفتوه أن هذا الرجل هو أعلم أهل الأرض، وإذا كان الأمر في ذلك الزمان والناس قلة ففي زماننا أولى بألا ندري من هو أعلم أهل الأرض، فالله عز وجل أعلم بعباده، وهو سبحانه وتعالى مطلع على قلوبهم وعلومهم وأعمالهم.
فدله الناس على الراهب؛ لأنهم كما ذكرنا يخلطون بين العلم والعبادة ولا يميزون بين موضع كل منهما، وفضل العالم على العابد كفضل الرسول صلى الله عليه وسلم على أدنى أصحابه، وفضل العلم أفضل من فضل العبادة كما دلت عليه هذه القصة العظيمة، قال: (فدل على الرجل الراهب فأتاه فسأله فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا)، فهذا الرجل قتال شديد الغضب، شديد البطش، والرجل الراهب يظن أن الجرأة والشجاعة في أن يواجه هذا الرجل بأنه ليست له توبة، وهذا من قلة علمه أو من جهله؛ لأنه أولاً أفتاه فتوى باطلة، وكم من عابد أو زاهد يظن بنفسه لكلام الناس عليه أنه من أهل العلم، وهذا خطر عظيم، فليس بمجرد أن يكون الإنسان زاهداً في الدنيا، أو متعبداً، أو حتى واعظاً ومذكراً، أو أن يكون خطيباً مفوهاً، أو أن يكون داعياً إلى طريق الحق أن ذلك يقتضي أن يكون عالماً يفتي الناس.(23/5)
التحذير من التجرؤ على الفتوى بغير علم
وأكثر الناس يختلط عليهم الأمر ومن ضمن من اختلط عليهم الأمر هذا الراهب نفسه، فقد صدق مقولة الناس عنه: أنه أعلم أهل الأرض، وخدعوه بقولهم: إنه أعلم أهل الأرض، فتجرأ على الفتوى بغير علم، ولم يكن ذلك في شريعتهم ولكنها الجرأة على الفتوى، وهذا أمر منكر حذر منه أهل العلم، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفتوى بغير علم فقال: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
ولابد أن تكون منتبهاً فإياك أن تظن نفسك حين تعظ الناس وتذكرهم أنك بذلك بلغت منازل العلماء، أو أنك تتجرأ على الفتوى بمجرد ذلك، ولربما سألك الناس وأحرجوك في السؤال، فإياك أن تترك: لا أدري، وإياك أن تخجل منها، وإياك أن تستحي أن تقول: لا أدري، فأكابر العلماء كانوا إذا سئلوا عما لا يعلمون قال أحدهم: لا أدري، وكانوا يقولون: إن نصف العلم (لا أدري)، وكانوا يلقنون أبناءهم وتلامذتهم (لا أدري)، وجاء رجل إلى الإمام مالك فسأله عن مسائل فأجابه عن أربعة من نحو بضع وثلاثين مسألة والباقي قال: لا أدري، فقال: إذا كنت أنت لا تدري فماذا أقول للناس؟ قال: أبلغ من وراءك أني لا أدري، اذهب وانشر في المشارق والمغارب أن مالك بن أنس عالم دار الهجرة لا يدري، أيدخل الناس الجنة على أجسادنا التي تذهب إلى النار؟! فإياك أن تظن أنك إذا وعظت الناس أو ذكرتهم، أو أنك قرأت بعض المسائل أو حتى أتقنتها أنك صرت بذلك -كما يخدع الناس به الكثيرين- عالماً، فالعلم لابد أن يكون بالبينة من الكتاب والسنة في كل مسألة تتكلم فيها، وتعلم أنك قد أحطت بما ورد في هذا الباب من كتاب الله، وتعلم عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه في هذا الباب الذي تتكلم فيه، وتفهم تفسير الآيات ومعانيها وما تكلم السلف فيها من الأحكام، ثم تعرف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وتعرف ما تثبت به صحة الحديث، ووجوه الجمع بينها، وكذلك معرفة القواعد التي يستدل بها على خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها كما في القرآن، ثم تعلم هل أجمع العلماء في هذه المسألة أم اختلفوا؟ وإذا كانوا قد اختلفوا فعلى أي شيء يكون الترجيح فيما بينهم؟ ولابد من معرفة طرق القياس الصحيح وما ينقض به وما يرد به عليه؛ حتى لا تقيس قياساً فاسداً وأنت تظنه قياساً صحيحاً، فهذا لابد منه للعالم فضلاً عن مصادر الاستدلال الأخرى التي قد تحوجه الفتوى إلى استعمالها.(23/6)
الحرص على ألا تكون التضحية في غير موضعها
والمقصود أن هذا الرجل كان قليل العلم، وكان يظن أن الجرأة في الحق هي أن يواجه هذا الرجل القاتل بمثل هذه الفتوى التي سوف تزيده غضباً، وكم من الناس له هذه الصفة! فيتجرأ على ما لا ينبغي أن يتجرأ عليه، ويضحي بنفسه ويظن أنه يضحي بها في سبيل الله، وهو إنما هو رجل جاهل يقود غيره إلى الجهل والضلال أيضاً، فليحذر على نفسه من ذلك، وليحذر كل امرئ منا على نفسه من أن تكون تضحياته في غير موضعها، ولا شك أن هذا الرجل الراهب علم أن هذا الرجل قد قتل تسعة وتسعين نفساً، ولا شك أنه يعلم صفة مثل هؤلاء الناس الذين كثر منهم القتل، ومع ذلك ما استعمل معه تقية، وما استعمل معه مداراة، ولا استعمل معه حسن الحديث، وإنما واجهه وظن أن ذلك هو الحق، وهذا كان من الباطل، فلما قال له: لا، غاظه بلا شك فقتله فكمل به المائة كما هو متوقع، فهذا رجل قتال للنفوس وهذا يقول له: ليست لك توبة، إذاً: فلتكن مائة بدلاً من تسعة وتسعين، وسبحان الله! ما زال في قلبه حب التوبة، وما زال الأمر يقذف في قلبه مرة بعد مرة، ولم ييئس هذا الرجل، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض وكأنه شعر أن هذا الرجل ليس بعالم، فسبحان الله! رجل بهذه المثابة والله عز وجل يقذف في قلبه ما شاء سبحانه وتعالى من التوجه إليه.
وأما هذا الذي أفتاه فليس بعالم فعلاً، فسبحان الله مقلب القلوب وخالق الإرادات! وهو سبحانه وتعالى يوجه وجهة قلوب العباد إليه.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل هذه المرة على رجل عالم، فأتاه.
إذاً: ينبغي أن يتحرى الإنسان وأن يأتي العلماء ويجالسهم ويسألهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فقال له: إنه قتل مائة نفس، وكلها قتلها بالظلم، وحتى هذا الرجل الأخير وإن أفتى بالباطل فليس عقابه أن يقتل؛ لأنه أفتى فتوى باطلة، فلا يقتل، ومع أنه رجل راهب عابد لكن انظر إلى فضل العلم على العبادة، قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! واستدل به العلماء على قبول توبة القاتل.
وذلك أن أمتنا أشرف عند الله عز وجل من أمة بني إسرائيل، فإذا كان ذنبهم عظيماً وعليهم الآصار والأغلال، ومن قتل مائة نفس لم يحل بينه وبين التوبة، فكذلك في أمتنا، ولذلك قلنا أن التأويل الصحيح لكلام ابن عباس على عدم قبول توبة القاتل: أن الله لم يجعل لقاتل المؤمن عمداً توبة مستدلاً بآية سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93].
فهذا في التوبة التي تعفيه من جميع المسئوليات، بل يبقى حق القتيل وإذا شاء الله أن يرضيه يوم القيامة من عنده أرضاه.(23/7)
ما يحتاج إليه المفتي عند إفتائه
قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، وهذا يدل أنه رجل فقيه فعلاً، فلم يرشده فقط أن التوبة تقبل ثم يتركه في البيئة المجرمة التي تركته يسفك الدماء بهذه الطريقة، وسكتت عنه طيلة هذه المدة، بل ينقله إلى بيئة جديدة، فإنه لابد من تغيير، ولابد من صحبة أخرى، ولابد من قرناء آخرين، بل لابد من بلد ودار أخرى حتى يتغير سلوك هذا الرجل، فدل كلامه على أنه رجل فقيه ليس فقط بالأحكام الشرعية الظاهرة، بل بأحوال القلوب أيضاً، فمن علامات قبول التوبة -وبعض العلماء يجعلها ضمن الشروط والصحيح أنها من علامات قبولها-: أن تبدل السيئات حسنات، وأن يعمل بعد توبته بالحسنات والعبادات والخيرات بدلاً من السيئات التي كان يعملها.(23/8)
فضل الصحبة الصالحة في التثبيت على الطاعة
فقد أرشده إلى أن يغير صحبته، وهذا من أعظم ما يحتاج إليه التائب والسالك إلى الله عز وجل، فعليه أن يبحث عن قوم يعبدون الله فيعبد الله معهم، ولا يرجع إلى أصحابه أصحاب السوء، فإن ذلك من أعظم ما يعينه على التخلص مما كان فيه من الذنوب ومن العودة إليها مرة ثانية، فأرض سوء تلك التي تتركك تعمل السيئات وتعينك عليها وتحثك عليها، وكم من ملتزم أعلمه ترك الالتزام بسبب العودة إلى قرناء السوء، وأن أصحابه الذين كان معهم في جهله وظلمه وذنوبه ومعاصيه عادوا إلى صداقته مرة أخرى، فحثوه على المعاصي والفساد فرجع مرة أخرى إلى الذنوب، وكم من أخ ملتزم كريم كان سبب التزامه رفقة صالحة وأصحاب أعانوه على طاعة الله وعبادة الله عز وجل معهم، وهذا ليس بالرياء بل هو من التعاون على البر والتقوى، فإن النفوس تتشجع لوجودها مع بعضها، وإن من عادة الإنسان أنه مدني يقلد من حوله فأكثر الناس يقلدون في الشر، وقلة منهم من تقلد في الخير، وأما أفذاذ العالم فهم الذين لا يحتاجون ولا يعنيهم أمر الرفقة اكتفاء بمن كان قبلهم، وربما اكتفاء بمن هو دونهم، ونحن نعلم أن أمر الرفقة أمر مهم عظيم الأهمية.
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير خلق الله على الإطلاق، يأمره الله بأن يلزم أصحابه قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أستاذ هؤلاء الصحابة فهو الذي علمهم، وهو الذي هداهم الله عز وجل به، وهو الذي أرشدهم إلى طريق الصواب ومع ذلك فهو يحتاج إلى أن يصبر نفسه معهم، ولا يعني ذلك أنه لا يلتزم بدونهم، ولكن رفقة الصالحين مطلوبة ولو كانوا دونك في المنزلة، فأنت تحتاج إلى أصحابك في الخير وإخوانك في الله ولو كنت أفضل منهم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرض موته آخر ما قاله عليه الصلاة والسلام: (اللهم! في الرفيق الأعلى).
ويقول الخليل عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ويقول يوسف عليه السلام كما قال الله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وذلك أن صحبة الصالحين نعيم في الدنيا والآخرة، وصحبة الظالمين والفاسقين والكافرين عذاب في الدنيا والآخرة، فصحبة أهل الفساد عذاب للإنسان، ومجرد النظر في وجوه الظلمة أو سماع كلامهم، أو النظر في وجوه الفسقة والفجرة يصيب الإنسان بالهم والكرب، ويصيبه بالضيق ولا يدري من أين يأتيه الضيق، بل لولا الضرورة من صحبة هؤلاء لمحاولة أداء فرض الله سبحانه وتعالى بإصلاح وجه الأرض وملئه بالخير لما استطاع المؤمن أن ينظر في وجوه الظالمين، ولا أن ينظر في وجوه الفاسقين ولا أن يصحبهم فضلاً عن الكافرين، ولذلك بلاء أن يعيش الإنسان في وسط قوم كافرين.
وانظر إلى قول الله عز وجل عن بلقيس: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43]، ولذلك أقول لكثير من إخواننا الذين أملهم في الدنيا أن يسافروا إلى بلاد الكفار لكي ينالوا شيئاً من الدنيا إن ذلك لعذاب، فلا تظن أن هذه الدنيا التي تحصلها سوف تسعدك بل النظر في وجوه هؤلاء القوم خصوصاً الذين جمعوا بين الكفر والفاحشة -والعياذ بالله- وعدم عفة الفروج من أعظم أسباب البلاء، وأم جريج دعت على ابنها عندما لم يجبها ثلاث مرات عندما أتته وكان يصلي النافلة فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأكمل صلاته حتى ملت وانصرفت، فكرر ذلك ثلاث مرات، وكان الذي ينبغي عليه أن يخرج من صلاة النافلة لكي لا يؤذي أمه حيث لم يرد عليها.
والمقصود أنها دعت عليه فقالت: (اللهم! لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات)، وكانت رحيمة به فلم تقل حتى يواقع المومسات مثلاً ولا حتى يعاشرهن، وإنما ينظر في وجوههن فقط، وكان نظر جريج في وجوه المومسات كنظر مضطر مكروب يريد أن يتخلص من المصيبة التي أتته به هذه المومسة، وكانت امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل سمعت الناس يذكرون عن عبادة جريج، فتعهدت بإغوائه، فعرضت نفسها عليه وتصنعت له فلم يلتفت إليها، فإذا كان لم يلتفت إلى أمه فهو لم يلتفت إلى البغي، فأتت راعي غنم فمكنته من نفسها فحملت منه زناً -والعياذ بالله- ثم وضعت مولودها وأتت به بني إسرائيل وقالت: هذا من جريج، فأتوا صومعته يضربونه ويشتمونه وهدموا الصومعة التي كان يعبد الله عز وجل فيها، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة -وهم فرحون فقد كانوا يتمنون هذه الزلة له كما يتمنى أهل الفواحش دائماً للإخوة الزلات- فقالوا: زنيت بهذه المرأة، فقال: دعوني أصلي، وكان في كرب عظيم؛ فقد كانت المصيبة التي أصيب بها أنه متهم بالزنا وأن هذا الولد ابنه من الزنا، فصلى ثم طعن في بطن الصبي الرضيع وقال: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله الصبي فقال: أبي الراعي فلان، فجعلوا يقبلون يديه ورجليه وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال: أعيدوها من طين كما كانت.
فانظر إلى هذه الدعوة التي دعتها عليه أمه: أن ينظر في وجوه المومسات، فنظر إليها مضطر لكي يبرأ نفسه، فسبحان الله! وقعت الدعوة واستجيب النداء، وهذا عذاب على الإنسان فما بالكم بمن ينظر إلى وجوه المومسات مسروراً مبتهجاً ينتظر الصورة الآتية، وينتظر أن تزداد عرياً وفحشاً -والعياذ بالله- ويبحث في القنوات المختلفة والأطباق التي تأتي بهذه الصور من المشارق والمغارب، والمصيبة أن هذه الفواحش تؤتى علانية كما قال الله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]-والعياذ بالله-.
فهذا حال من ينظر إلى المومسات، بل إلى الوجه فقط مما يجوز كشفه عند كثير من أهل العلم، فما بال من ينظر إلى ما هو أسوأ من ذلك من أبدانهن، فما بال من ينظر إلى الفروج -والعياذ بالله- نظر تحريم، فما بال من يأتي الفواحش فهذه مصيبة، وكما قلنا: مجرد صحبة أهل الفساد، والنظر في وجوه أهل الظلم تقسي القلب، إلا أن يكون ذلك لغرض شرعي صحيح كالدعوة إلى الله، وهذا لن يكون بتلذذ مثلاً في النظر أو نحو ذلك، فلن يكون إلا لمصلحة شرعية ويكون لغرض الدين.
وأما صحبة أهل الخير فنعمة من الله سبحانه وتعالى، وإنما تستطيع أن تدرك أهمية هذه النعمة عندما تختلط بغيرهم وأنت قد ذقت معنى مخالطة الصالحين الذين يريدونك على طاعة الله، ولذلك تجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن رضي الله عنه كان أكبر شيء يهتم به هو الرفقة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في القبر، فهذا أهم شيء كان عنده، ويستأذن عائشة ويأمر بأن يستأذن بغير اسم أمير المؤمنين، وقال: قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب ولا تقولوا أمير المؤمنين؛ فإني لست لهم اليوم بأمير، قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه لمجرد الرفقة في القبر؛ لكي يكون مع صاحبيه، ولذلك يقول علي إني كنت أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء النوم: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم! اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني، وثقل ميزاني، وفك رهاني، واجعلني في الندي الأعلى)، ومعنى (الندي الأعلى) أي: اجعل روحي مع النسم الطيب، فهذه لحظات النوم التي لا يحس فيها الإنسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ما لا ندركه، والروح في هذه اللحظات تكون في أحوال، ونحن -نسأل الله العفو والعافية- الواحد منا ينام ولا يعرف ماذا يحصل! لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (واجعلني في الندي الأعلى) فمجرد ساعات محدودة فقط يريد أن الروح تكون مع أرواح المؤمنين.
وكذلك في البرزخ، ففي الحديث الصحيح عن روح المؤمن (وتجعل روحه في النسم الطيب)؛ لأن صحبة الصالحين نعيم فعلاً، ولأن ذلك من آثار الحب في الله وأوثق عرى الإيمان، والبعد عن الظالمين من لوازم البغض في الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الرجل فقيهاً حين قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء.
وهكذا نوصي كل أخ أقبل إلى الله عز وجل بقلبه أن يبحث عن قوم يعبدون الله، ويخلصون في عبادتهم لله، ويتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله معهم، فهو والله يحتاج إلى ذلك احتياجاً أكيداً، ولذلك عندما يستفتي البعض أن الآباء والأمهات أو الأهلين والأقارب يمنعون الأخ من الذهاب إلى مجتمع الإخوة الصالحين، فأنا لا أتردد في أنه لا يجوز أن يترك مجتمع الإخوة ولا يجوز أن يبتعد عن مسجدهم ومجتمعهم ولقاءاتهم؛ لأن ذلك من أسباب فتنته، وكم من شخص أعلمه كان ملتزماً في المسجد ثم بعد ذلك كان بداية الأمر أن يصلي في مسجد آخر غير مسجد الإخوة، ثم بعد ذلك يصلي بعض الصلوات في المسجد وبعض الصلوات في البيت؛ لأنه لم يجد من يسأل عنه، ولم يجد من يقول له: أين كنت؟ ولم يجد من يقول له تأخرت عن صلاة الفجر، ولا يجد من يقول له: تخلفت عن الدرس، ولم يجد من يقول له: هل قرأت القرآن أم لا؟ فلم يسأل عنه أحد، وكثير من الناس يظن أن المسجد إنما جعل لمجرد أن يصلى فيه ثم يغلق، وهكذا يريدونه أن يصلى فيه ثم يغلق، ثم بعد ذلك ترك الصلاة في المسجد، ثم جمع الصلاة بعضها مع بعض، وأعلم بعضهم وصل ربما -والعياذ بالل(23/9)
النية الحسنة تساعد في قبول التوبة
قال: (فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت)، أي: ختم الله له بما أراد عز وجل قال: (أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) أي: من أعوان ملك الموت، فإن ملك الموت له أعوان: ملائكة بيض الوجوه؛ لقبض أرواح المؤمنين، وملائكة سود الوجوه؛ لقبض أرواح الفاجرين والمنافقين والكافرين، قال: (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله عز وجل) ولم يذكروا عبادة؛ فإنه لم يعمل بعد عبادة من العبادات، وإنما ذكروا حال القلب، فذكروا إقباله بقلبه إلى الله عز وجل، وكان سيره في الحقيقة طلباً للخير ولم يبدأ بعد فعل الخير.
قال صلى الله عليه وسلم: (وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط) يعني: من العبادة، فإنه لم يعمل شيئاً من العبادات؛ لأنه لم يصل إلى القرية الصالحة قال: (فأرسل الله إليهم ملكاً في صورة آدمي) وهذا فيه تشريف للإنسان؛ فقد علمه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وفيه تشريف لصورة الآدمي، فهي صورة شرفها الله فلا تهنها أنت بإذلالها لعدوها اللدود وهو الشيطان، وذلك بأن تجعل هذه الصورة المكرمة تنطلق في وجوه المعاصي والفجور، وتذل لذلك العدو اللدود وتجعل هذا الوجه الذي جعل الله فيه المحاسن، وجعل فيه السمع والبصر، وجعل من ورائه العقل الذي يفكر، وجعل فيه اللسان الذي ينطق وسائر الحواس فلا تجعله يتمرغ في الوحل والذنوب بدلاً من أن يخر ساجداً لله عز وجل.
فالله كرمك بهذه الصورة فاعرف تكريم الله لك، فالملك الذي يحكم بين الملائكة يأتي في صورة آدمي وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]، وهذا تكريم للإنسان فهي صورة خلقها الله عز وجل بيده، وهذا يقتضي منك شكر نعمة الله عز وجل عليك بألا تعبّد هذه النفس لغير خالقها، وأن تصون هذا الوجه عن السجود والمسألة لغير خالقه.
وكان الإمام أحمد يقول: اللهم! كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك.
قال صلى الله عليه وسلم: (فجعلوه بينهم -أي: حكماً- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهن كان أقرب فاجعلوه من أهلها).
والحقيقة أن الرجل كان أقرب إلى الأرض السيئة، والقرية الخبيثة، ولكن الله عز وجل لأجل صدق توبته وإقباله عليه حرك الأرضين، فغير سكون الأرض، فالأرض ساكنة لا تتحرك، والأماكن الأصل فيها الثبات، ولكن الله عز وجل غير وجه الأرض من أجل هذا الرجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقاربي، وكان الرجل باذلاً كل وسعه في الوصول إلى الأرض الطيبة، فناء بصدره -أي: مال بصدره-)، وميل الإنسان على جنبه من ظهره تجعل مقدار شبر، فهو عمل والله عز وجل عمل عملاً آخر بالإضافة إلى عمله فقربه سبحانه وتعالى إلى الأرض الطيبة؛ لأنه أراد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فجعل هذه القرية الصالحة تتقرب، والقرية الفاسدة تتباعد، وقاسوا المسافة بينهما فوجدوه أقرب إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة.
نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ونسأله أن يجعلنا من التائبين، وأن يجعلنا من المتطهرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(23/10)
الأسئلة(23/11)
حكم تكسير طالبان للتماثيل
السؤال
لقد أثار موقف حركة طالبان بتكسير التماثيل جدلاً وفتاوى كثيرة تجعل الحليم حيران، فما هو الصواب؟
الجواب
لا شك أن الحكم الشرعي المجرد هو وجوب طمس التماثيل، سواء كانت تعبد أو لا تعبد، فإن علياً رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه مسلم قال لأمير سرية أرسله: (ألا أرسلك على ما أرسلني به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجد قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته)، وفي رواية: (ولا صورة إلا طمستها)، وهذا أيضاً لم يخصص منه بما يعبد أو لا يعبد، وقد امتنع جبريل عليه الصلاة والسلام من الدخول إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في البيت تمثال وكان تحت السرير جرو للحسن أو الحسين، فقال: (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة فمر بالكلب فليخرج، ومر بالتمثال فليقطع رأسه يصير كهيئة الشجرة)، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم ووجد عائشة قد سترت سهوة لها بقرام فيه تصاوير فقال: (يا عائشة! إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع هذه النمرقة، وقطع الستارة وجعلها وسادتين توطآن)، وجعلها ممتهنة.
فهذا يدلنا على عدم جواز اتخاذ الصور ووجوب إزالتها سواء كانت تعبد أو لا تعبد، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ووجد فيها حمامة من عيدان، ووجد فيها صورة إسماعيل وإبراهيم يستقسمان بالأزلام، وكانت صورتهم الحقيقية فعلاً؛ لأنه ذكر ذلك فقال: (قاتلهم الله، والله! لقد علموا ما استقسما بها قط)، وأمر بمحو الصور صلى الله عليه وسلم، مع أنها صور أنبياء وهذه كانت أشياء تاريخية عظيمة ولو كانت طبق الصورة طبق الوجه مثلاً لمحاها صلى الله عليه وسلم، وكسر صلى الله عليه وسلم حمامة العيدان بيده، (وعندما كان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت في فتح مكة كان يشير للأوثان وهي ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة ويقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، والأصنام تتساقط على وجوهها).
وأرسل من يكسر في القبائل الأصنام، وقد كانت بعضها أصناماً تاريخية جداً وتراثاً إنسانياً قديماً لكنها تخلف وانحطاط، وتراث البهيمية بل أسوأ من البهيمية كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وكان التراث من عهد قوم نوح فهو أقدم من بوذا ومن غيره، فكان هناك ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر في قبائل العرب، وكان الذي أوحى بالتنقيب عنها الشيطان إلى عمرو بن لحي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، وذلك أنه هو الذي أوحى إليه الشيطان أن يحفر في مكان كذا وكذا ليجد تماثيل معدة، فأخرجها وأمر الناس بعبادتها وفرقها في قبائل العرب، وكسرت كل هذه الأصنام بمجيء الإسلام، ولم يبق منها بحمد الله تبارك وتعالى شيء.
ولذلك نجد بالفعل أن الأمم كلها تماثيل آلهتها في الجاهلية موجودة في الغالب، وأما أمة العرب فلا يعرف وجود تماثيل هذه الآلهة الجاهلية -والعياذ بالله- رغم أنها زالت عبادتها بحمد الله بمجيء الإسلام، والذين يقولون: كان هذا في أول الإسلام لخوف العبادة، نقول لهم: أتظنون أن التوحيد كان أقوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو معكم؟! أنتم تظنون على كلامكم الفاسد هذا أن التوحيد الذي معكم أقوى من التوحيد أيام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وأي اعتقاد أسخف من هذا؟! وأي بناء باطل للفتاوى أسخف من هذا؟! وفي الحقيقة أنها الآن تعبد حتى تماثيل الفراعنة فهناك من يأتي من المشارق والمغارب، وهناك من يأتي من الغرب خصوصاً ويعبد آلهة الفراعنة في الهرم الأكبر، وتوفر لهم كل الوسائل المهيئة بذلك.
والمقصود أن الحكم الشرعي في كسر الأصنام معلوم ولا ينازع في ذلك عالم، ومسألة أنها تعبد أو لا تعبد وأنها تراث إنساني هذا كلام لا يصح أن يعتبر، وما ذكر من ذلك مما يصح اعتباره هو قضية أذية المسلمين وقضية المصلحة والمفسدة، وهذا جدير بالاعتبار وجدير بالنظر، ولذلك نقول: إن الحكم هكذا، وأما الفتوى زماناً ومكاناً متى يتم؟ وأين يتم تكسير هذه الأوثان؟ فعلى حسب المصالح والمفاسد، وينبغي أن تقدر من قبل علماء المسلمين في المحلة التي هم فيها، وإذا كان يتعرض المسلمون في غيرها لأذى فينبغي أن ينظر في هذا الأمر أيضاً، وأن يقدرها علماء المسلمين المعتبرين من أهل السنة والجماعة لا الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ويقولون مثل هذه الخرافات والخزعبلات المذكورة، لذلك نقول: القضية قضية المصلحة والمفسدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضية والأصنام مبسوطة حول الكعبة، ولكن مصلحة الوفاء بالعهد كانت مرجحة على مصلحة كسر الأصنام، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمصلحة إقامة الحجة والبينة على قومه ترك الصنم الكبير مع أنه كسر الأصنام الأخرى، وهذا دليل على أن المصالح والمفاسد معتبرة في هذا الباب، والله أعلى وأعلم.
فلا شك أن حركة طالبان لها مواقف إيجابية كثيرة في إقامة كثير من الشعائر الدينية وإن كنا نحن لا نعلم حقيقة التفاصيل أكثر مما ينشر في الجرائد عنهم، وينبغي حتى يتم الحكم عليهم النظر في واقع الحال هناك أكثر، ونحن لا نحيط به علماً حالياً إلا ما يأتينا من أخبار، وبلا شك أن فيها الخير الكثير في إقامة الشريعة وإقامة الدين، والله أعلى وأعلم.(23/12)
حكم قراءة القرآن ولمسه لغير المتوضئ
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن ولمسه وأنا غير متوضئ خاصة عند المذاكرة؛ حيث تكثر الحاجة إلى قراءته؟
الجواب
قراءته جائزة، وأما لمس المصحف من غير وضوء فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).(23/13)
حكم الأخذ بالأيسر من آراء المذاهب الأربعة
السؤال
هل لي أن آخذ بأيسر آراء الأئمة الأربعة عملاً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)؟
الجواب
هذا كلام فاسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخير بين أمور مباحة في الشرع، وليست أقوال الأئمة الأربعة شرع، بل كل منهم يجتهد في الوصول إلى الشرع، وليس كل قول من أقوالهم يعد شرعاً فأنت تختار الأيسر منها، بل يجب عليك أن تسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم، فالله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإن كنت لا تدري الراجح من الأقوال فاسأل العالم الذي في زمنك أو في بلدك عن الراجح من هذه الأقوال وخذ بكلامه، وإذا اختلفوا عليك فخذ بالأعلم منهما في نفسك، وهذا هو الواجب عليك ولا يجوز لك غير ذلك.
ومسألة اختيار الأيسر هو في الحقيقة قول ضعيف جداً، فأضعف الأقوال في مسألة الأئمة الأربعة أيسرها، ومن عمل برخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك أقول: الملاهي الليلية جائزة على هذه الطريقة؛ لأن الحنفية يجيزون شرب المسكر من غير عصير العنب، ويقولون: الخمر هو عصير العنب فقط -يعني: النبيذ فقط- وأما الويسكي والبيرة وغيرها فليست حراماً؛ لأن هذه عصير تفاح وعصير بصل وعصير شعير، إذاً نأخذ بقول الحنفية في ذلك، وعلى مذهب سفيان الثوري أن النظر إلى عورات نساء أهل الذمة لا يحرم إلا خشية الفتنة، فرؤية مومسة أجنبية ترقص عريانة ليس فيه مشكلة على مذهب سفيان الثوري، وعلى قول ابن حزم في المعازف وإباحتها نقول: أحضروا الفرق واعملوا موسيقة إلى الصبح فما أحد عنده مشكلة، إذاً: فالملاهي الليلية بهذه الطريقة ليست خطأ، والواحد منا لا يستبعد من الاتجاهات الإسلامية المنحرفة هذه أن تخرج بالطريقة هذه فتاوى اعتماداً على هذه الطريقة نعوذ بالله، وهم يقولون أكثر من هذا.(23/14)
حكم صلاة التسبيح
السؤال
حكم صلاة التسبيح؟
الجواب
صلاة التسبيح صححها بشواهدها الشيخ الألباني وجماعة من العلماء، ولذلك نقول: إن صلاة التسبيح مشروعة ولكن غيرها أفضل منها، فالصلاة التي فيها إطالة قراءة القرآن أفضل من صلاة التسبيح، والرسول عليه الصلاة والسلام علمها عمه العباس، والعباس تأخر إسلامه فلم يأخذ كثيراً من القرآن، فالحافظ للقرآن يصلي الصلاة بالقرآن أفضل.(23/15)
حكم الجلوس مع من يسمعون الأغاني ويمتنعون من الصلوات
السؤال
أخ مغترب يسكن مع زملائه وهم لا يصلون، ودائماً يسمعون الأغاني بصوت عالٍ، ودائماً ينصحهم بالتوبة والصلاة وعدم سماع الأغاني، فهل على هذا من شيءٍ إن سكت عنهم؟
الجواب
جزاك الله خيراً على نصيحتهم، لكن لو لم يستجيبوا لك فابحث عن غيرهم، فمن الصعب جداً أن يجلس الشخص في السكن مع هذه النوعية من الناس، فسماع قليل من الموسيقا على طوال الأيام يؤدي إلى قسوة القلب.(23/16)
حكم تفضيل أحد الأبوين
السؤال
هل يجوز تفضيل أحد الأبوين على الآخر؟
الجواب
لابد من تفضيل الأم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك).(23/17)
حكم الأجرة على تحفيظ القرآن
السؤال
هل يجوز أخذ أجر على تحفيظ القرآن الكريم؟
الجواب
الراجح جوازه، والأفضل والأحوط عدم أخذ أجرة، لكن من جهة الجواز فالراجح جواز ذلك والله أعلى وأعلم، والإمام أحمد يقول: بغير اشتراط.(23/18)
حكم البعد عن الرفقة الصالحة خوفاً من الأذى
السؤال
هل يجوز البعد عن الإخوة الصالحين الملتحين خوفاً من السجن مثلاً؟
الجواب
هذه أوهام كبيرة جداً وحواجز وهمية، فالناس يظنون أن أي واحد يلتحي يدخل السجن، والأمر ليس كذلك، وعندما يكون هناك فعلاً أن كل واحد يلتحي يدخل السجن، نقول عندها: أنتم مجبورون على حلق اللحية، لكن هذا ليس حاصلاً، ولا أن كل واحد يلتزم يدخل السجن، والكلام هذا ليس حقيقياً، وهذا الكلام إنما هو من الشيطان كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فأنا متأكد أن هذه أوهام الشياطين، فالبعد عن الإخوة مهلكة، ولذلك فالشيطان يأتي بخطوات فيقول له: ابعد عنهم فقط وهكذا، والذئب إذا أراد أخذ شاة فما دامت محمية في القطيع فليس قادراً على أن يهجم على القطيع كله، لكن ينظر الشاة البعيدة عن القطيع فيأكلها، (وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية والشيطان ذئب الإنسان).(23/19)
شروط قبول التوبة
السؤال
ما هي شروط قبول التوبة؟
الجواب
أركانها: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود، وإذا كان في حق آدمي: أن يرد الحقوق إلى أصحابها.(23/20)
نصيحة لمن يتحدث مع الأجنبيات
السؤال
نصيحة لشاب له علاقات مع الفتيات يكلمهن ويتحدث معهن لفترة طويلة، فماذا تقول له؟
الجواب
أقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم في أشرف مواقف الحج وهو (بعد أن رمى الجمرة ووقف بعرفة هو وأصحابه ومعه الفضل بن عباس وقفوا بعرفة، ونزل من مزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام ورمى الجمرة، فجاءت المرأة الخثعمية وهي في ثياب متسترة، وتسأل عن فتوى شرعية، وجعل الفضل ينظر إليها فلوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنقه، فقال له عمه: لويت عنق ابن أخيك، فقال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن عليهما الفتنة)، وأنت أتأمن على نفسك الفتنة؟ وأنت بعيد عن هذه العبادات وصلاتنا تكاد تكون مجرد أداء روتيني، والإنسان لو أدرك عشرها وتدبرها لكان ذلك خيراً، فما بالك إذا كان ربما لا يحافظ عليها في الجماعة.
فنصيحتي الأكيدة أنه لا يشعر بالسهام القاتلة التي تصيب قلبه من خلال هذه النظرات، فليتب إلى الله عز وجل حتى يفيق قلبه من هذا السكر الذي هو فيه، فسكر الشهوة يعمي ويصم -والعياذ بالله- أشد من سكر الخمر، كما أن امرأة العزيز لم تشعر بما تصنع بيوسف حتى تمزق قميصه لأجل الشهوة المحرمة، فأنت لا تدري ما يصيب قلبك، وأنت مقتول بهذه النظرات، فتب إلى الله عز وجل واقطع علاقتك بهن، ونسأل الله لنا ولك العافية.(23/21)
حكم قتل النفس
السؤال
هل القاتل نفسه مخلد في النار؟
الجواب
لا يخلد في النار إلا إذا مات على الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن قتل نفساً بقطع براجمة: (اللهم! وليديه فاغفر).(23/22)
ما ينبغي أن يكون عليه الدعاء
السؤال
عندما يسأل الإنسان الله تحقيق أمر معين فهل من المشروع زيادة الأعمال الصالحة في هذا الوقت فضلاً عن زيادة النوافل؟
الجواب
نعم، وليكن سؤاله لتحقيق هذا الأمر المعين أمراً أخروياً، وسبيل المداومة على هذه الطاعات أن تجعل الآخرة أكبر الهم، ومبلغ العلم، وليس ذلك للدنيا.(23/23)
حقيقة الصراع بين الحق والباطل
خلق الله الخلق ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، فكان الصراع بين الرسل وكفرة أقوامهم، وكانت الشبه الباطلة تتوارد تجاه الرسل، فأمر الله رسله بالصبر والاستعانة والتوكل عليه لمواجهة الظالمين من أقوامهم، وأعلمهم أن مآل هؤلاء الظالمين إلى جهنم وبئس المهاد.(24/1)
آثار تحقيق معاني العبودية في القلوب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:141 - 142].
فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأيام دولاً بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، بين الليل والنهار، بين الحياة والموت، وهو عز وجل بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، قال تعالى: ((وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)).
وقال عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
فعندما تشتد الظلمات بأهل الإيمان فإنهم دائماً يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى، وينادونه في وسطها: أن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين؛ لأن كل مؤمن يعلم أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو الله عز وجل عن كثير، ويعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الإله وحده المعبود بالحق لا شريك له، ولا يتوجه المؤمن إلى أحد سواه، وهو الإله الذي تفزع إليه الخلائق في حوائجها.
وإذا اشتدت الظلمات علم الإنسان حقيقة التوحيد، وأقر بها حتى يكون ذلك سبباً للفرج بإذن الله، فينادي: (لا إله إلا أنت) فينزه الله عز وجل عن كل نقص، وينزه الله عز وجل عن الظلم والعبث، وعدم الحكمة، وينزهه عن الضعف؛ لأن مواطن الشدة كثيراً ما يضل فيها الناس، ويظنون أن الله سبحانه وتعالى ما قدر ذلك بحكمته جل وعلا يظنون ظن الجاهلية، ويظنون بالله ظن السوء، ومنهم من يظن أن ذلك خارج عن قضائه وقدره، ومنهم من يظن بالله عز وجل الظلم، وأنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، والله سبحانه منزه عن ذلك كله.
فينادي المؤمن من قلبه وبلسانه: (سبحانك) فهو ينزه الله عز وجل عن الظلم، وعن أن يكون في هذا الوجود ما يخرج عن قضائه وقدره وقدرته وعلمه وحكمته؛ فلا يظن أنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، فالله سبحانه منزه عن ذلك كله؛ لأنه قدر سبحانه وتعالى المقادير بالحكمة.
فينادي المؤمن: (لا إله إلا أنت سبحانك)، فالمؤمن يعلم أن ما أصابه كان بسبب ظلمه لنفسه، وأنه لابد أن يعترف بالظلم لنفسه؛ وأن يبوء بذنبه ليغفره الله له، وأن يعترف كما اعترف الأبوان -من قبله- بظلمهما لأنفسهما، قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فعندما يعترف الإنسان بالظلم، وبنعمة الله عليه؛ يكون ذلك من أسباب الفرج، فيقول: ((سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)).
إذا حقق العبد هذه العقائد في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله عز وجل بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، ويعلم أن الله سبحانه هو الجبار، ولا يجبر الكسير سواه، ويجبر القلوب على فطرتها وشقيها وسعيدها، فينكسر حينها للجبار سبحانه ولا يتجبر، ويعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، والله سبحانه وتعالى إذا وجد من عبده المؤمن ذلك فإنه سبحانه وتعالى يسخر ملائكته تشفع له وتدعو له، وتقول: صوت ضعيف في بلاد غريبة، هذا وهو فيها غريب لا يزال يصعد إلى الله عز وجل منه عمل صالح، ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله عز وجل دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال سبحانه وتعالى عن يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:78 - 88].
فليست هذه خاصة بيونس عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والتسليم، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي لكل مؤمن تيقن بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم، وأيقن هذا اليقين، فاستجاب الله عز وجل له، ويستجيب لكل مؤمن مكروب في أي موضع دعاه، فدعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل كربه.
فنقولها جميعاً: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، واليقين والصبر، والموعظة والعبرة، والتثبيت لقلوب المؤمنين قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].(24/2)
السنن الإلهية في قصص المرسلين(24/3)
الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية
هناك سنة عامة سنة ماضية في كل زمان ومكان لا تجد لها تحويلاً، سنة الله التي تمضي في خلقه، من يقرأ التاريخ والقصص ويعتبر، يجدها سنة ماضية لا تتخلف أبداً قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:137 - 141].
جعل الله عز وجل في كتابه النور والهدى، وجعل في قصص أنبيائه ما يرشد المؤمنين إلى طريق الحق، وما يجب عليهم فعله في كل وقت وفي كل مرحلة من مراحل حياتهم ودعوتهم، فطالما ساروا على طريق الأنبياء فلا بد وأن تسير دعوتهم بنفس المراحل، ولابد أن تواجه نفس المواجهات؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسان على ظهر الأرض، بل منذ كفر إبليس حقداً وحسداً لآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وحين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وبدأ يكيد للأبوين ولجنس الإنسان كراهية وبغضاً وحقداً وضغينة، وورثها لمن تبعه من ذرية آدم، فضلاً عن ذريته التي تكون على طريقته وشاكلته -والعياذ بالله- نستلهم ذلك من القرآن العظيم، ومن نوره الذي جعله الله عز وجل يهدي به من يشاء، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
لكي نبصر أين نضع أقدامنا، وماذا نصنع فيما يواجهنا، فإنا إذا حكمنا غير كتاب الله في هذا الموضع، سواء حكمنا العقول بغير نور، أو حكمنا العواطف بغير ضوابط، أو حكمنا آراء الرجال ومقاييسهم؛ فإننا سوف نضيع حتماً، إذ ليس لنا في الأرض من ولي ولا نصير إلا الله سبحانه وتعالى.
فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا إن الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله ما يرشد عباده المؤمنين إلى ما يلزمهم العمل به عندما تشتد عليهم الأمور، وقد ذكر الله عز وجل في ذلك قصصاً مجملة ذكرها في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لا تتغير فيها طبيعة المواجهة بين الحق والباطل، سنة واحدة وطريقة ماضية، فنتلمس من آيات الله سبحانه وتعالى، ما يلزمنا أن نعمله عندما تشتد الأمور.
قال الله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:8 - 18].(24/4)
استمرار سنة الصراع بين الرسل وأقوامهم
يخبر الله سبحانه وتعالى عن غناه وحمده الذي ذكر موسى به قومه والناس جميعاً، فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [إبراهيم:8 - 9].
وهذا إما خطاب من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، أو كلام مستأنف وهو خطاب من الله عز وجل لمن كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، كم من الأجيال والقرون مضت؟! وكم من العقوبات نزلت؟! وكم من الناس تصارعوا؟! وكل ذلك أين هو الآن؟! كما رحلوا هم سنرحل نحن أيضاً وسيرحل أعداؤنا، وسنقف جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى، نحن وإياكم سنموت؛ فما أفلح عند القيامة من ندم.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))، أي: النسابون يعلمون من بعد هؤلاء على وجه اليقين؛ ولذلك نفوض علمهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الفائدة ليست في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ولا عدد القرون، ولكن الفائدة هي في طبيعة هذا الصراع الذي دار وحصل ويحدث مثله في كل عصر وفي كل حين.(24/5)
وضوح بينات الرسل وعمى المبصرين لها
قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)).
فالرسل جاءوا بالحجج الواضحات البينة التي هي أوضح من الشمس، وكل من دعا بدعوتهم فهو كذلك يأتي بالبينات، ولكن ليست المشكلة في مدى وضوح البينة، ولكن في الأعين التي تبصر، وفي القلوب التي تعي، فكم من أناس لهم {قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وكم من أناس لا يرون البينات؟ مع أن الطريق واضح، والحجة بينة قائمة، ومع ذلك لا تقبل، ويكون الفرق بين العدل والظلم كما بين الليل والنهار، ومع ذلك يفضل أكثر الناس الظلم والظلام، والعياذ بالله من ذلك! قال تعالى: ((جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ))، إما أشاروا لهم بالسكوت ووضعوا أيديهم على أيدي الرسل أنفسهم حتى يسكت الرسل؛ لتتوقف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك يكون -غالباً- على سبيل التهديد والوعيد.
أو وضعوا أيديهم على أيدي الرسل في محاولة مباشرة لإسكات صوتهم، وإسكات دعوتهم، فهم يظنون أن دعوة الرسل يمكن إسكاتها بذلك، ولا بد أن تواجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى محاولة الإسكات إما بالتهديد والوعيد، وإما بالإسكات المباشر بتكميم الأفواه بالفعل حتى لا يخرج للداعي إلى الله عز وجل صوتاً، ومع ذلك فسوف تبقى الدعوة، وسوف تستمر كما قص الله عز وجل علينا، ولم تتوقف دعوة الرسل أبداً بمثل هذه المحاولات، وبقدر ما يكون الإنسان متمسكاً بدعوة الرسل على وضوح منهجها على معالمها الأساسية وتفاصيلها يلتمسها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يتمسك بذلك كله بقدر ما لا يمكن أن تموت دعوته.(24/6)
رد الرسل على المشككين في دعوتهم
إن هذه الدعوة ستبقى عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل، وهي التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها؛ فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم:9]، فالذي هو في شك، ما الذي يقتضيه عقله السليم أن يفعله؟ يقتضي أن يبحث لا، أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة، فقبل أن يقدم الكفر لابد أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك، وهو مرتاب؛ فليبحث ولينظر: إما أن يسعى في إسكات صوت الحق، وإما أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فالعجب من هؤلاء! فالكفر أنواع متعددة، والشك واحد، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم.
وكان يقتضي العقول السليمة أن تقول: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه فإننا نبحث عن الحق، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل؟ هذا إذا كانوا في شك حقاً، لكن سوف يظهر لنا حالاً لماذا كفروا ولماذا شكوا؟ الحقيقة: أنها أمراض في النفوس وسوف تظهر جلياً بعد حين.
فهم حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، فقالوا: إن الدعوة مشكوك فيها، ثم قالوا: إن الدعوة ليست بينة ولا واضحة، مع أن الرسل جاءت بالبينات؛ ولكنهم لا يرون هذه البينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها.
وواجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك برصيد هائل في الفطرة، من وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وهو رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل واحد مؤمن أو كافر قد أخذ عليه العهد {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
إذاً: كل واحدٍ قد أشهده الله عز وجل على نفسه، وشهد أنه لا يستحق الألوهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر أبيه آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: لقد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا أن تشرك بي).
فهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان: إما ميله إلى تحقيق التوحيد، أو الشقاء في البعد عنه، فالإنسان يشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه لغيره، ولكن أكثر الناس يسكتون هذه الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجودها بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة)، وهذا أثر من آثار الميثاق الأول، وهي الفطرة الإنسانية في توحيد الله عز وجل، لذا واجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك في الدعوة ذاتها بهذه الحقيقة اليقينية.(24/7)
دعوة الرسل للتوحيد
قال تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ))، أي: أفي وحدانية الله شك؟ وفي تفسيرها قولان: القول الأول: أفي وجود الله شك، وهذا وجه ليس بظاهر، إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في ألوهية الله وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فيجعلون آلهة معه، ومنكرو الألوهية قليل.
القول الثاني: أفي وحدانيته في الربوبية والألوهية شك؟! وهذا أظهر من القول الأول وهو متضمن له؛ لأننا إذا أقررنا بوحدانية الله عز وجل، ورضينا به رباً وإلهاً هذا إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين.
وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات؛ إذ لا يمكن أن يرتاب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة، فلابد أن يكون الصانع عليماً حكيماً قادراً، له كل صفات الكمال، وبالتالي فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.
فهذه كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، والتي يحتاجونها أكثر من الماء والهواء، ويردونها كالماء والهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لـ فرعون: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24].
فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي قضية التوحيد.(24/8)
الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية
قال تعالى: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، هذا هو دليل توحيد الألوهية، والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فهو وحده الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، ((فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).
فلا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن هذه السماوات والأرض خلقت من غير شيء، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهما، ولغير خالق العباد.
إذا قررت وقبلت بأنها لابد لهما من خالق، وقررت أن له صفات الكمال، فلا بد وأن تعتقد أنه لا يعبد سواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، وهو توحيد الرب بأفعاله، وهذه الأفعال آثارها ظاهرة جلية في الكون من المخلوقات والصنعة المتقنة المحكمة، وكل ما في السماوات والأرض من آيات هو أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد ويرجى ويخاف ويحب، ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله، وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه.
فهذا توحيد الربوبية وهو الدليل الأول على توحيد الألوهية.
قال تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)).
هذا هو الدليل الثاني على توحيد الألوهية وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة.
وهذا الدليل قد جربه الرسل، جربوه إذ ساروا إلى الله، وقبلوا دعوته؛ فغفر لهم ذنوبهم، وهي تلك الذنوب التي كانت كالظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا، وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.
كأن هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من قصرت في محبته والشوق إليه، فلما زال أثرها بالمغفرة من الله عز وجل، ذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، ووجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذه الدنيا وهو الشوق إلى الله ومحبته، والرضا به رباً وإلهاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).
وطريق المحبة طريق جربه الرسل؛ لأن الذنوب حواجز القلوب، فهي ران يرين عليها فلا ترى الحقائق، ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب، واستجابت القلوب لدعوة الله، وجدت القلوب شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، عندما قال: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ))، وجاء باسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين: (ربكم) وعندما ذكر وده ورحمته نسبه إلى ضمير المتكلم (إن ربي رحيم ودود).
وهكذا قال صالح عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامها إلى أن يستجيبوا لدعوة الله.
قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ))، وهذا يرقق القلب فالله يريد بكم الخير، وأن تغفر لكم الذنوب؛ فاستجيبوا لدعوته، إن الله عز وجل لا يريد لكم الشقاء، الناس تظن أنها سوف تحرم من لذة الدنيا إذا التزمت، وفي الحقيقة سوف تتضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق؛ لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب لا ترضى عنه بديلاً.
قال تعالى: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، لو آمنتم به فسوف يمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؛ لأن الذي لا يستأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، أي: في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهذا أجل مسمى آخر عند الله عز وجل، فعلم الله سبحانه وتعالى أنهم لو آمنوا لمتعهم، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر ومتاع إلى حين، وإلى أجل مسمى عنده عز وجل.(24/9)
أسباب رفض الكافرين الدعوة إلى الله وأساليب طعنهم في الرسالات
لماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟ يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، قال تعالى: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)).(24/10)
حسد الطغاة للرسل على ما آتاهم الله من الوحي
هذا هو الحسد ذلك الداء العضال: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واخترتم بالوحي من دوننا؟ فكأن لسان حالهم يقول: كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم؛ إذ ليس لكم علينا فضل، وكل هذه الكلمات تدور حول ذلك الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: {قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]؟! ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بينه وبين موسى، ليدلك على حسده لموسى، قال عز وجل عنه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54].
ففرعون في الحقيقة يحسد موسى، وأما هذه المقارنة التي يعقدها فرعون ويدعي فيها بأن موسى ليس معه مال كثير، وفي لسانه لثغة لا يستطيع أن يقول فيبين، بل قال: لا يكاد يبين، إذن قد بين ما في موسى فما المشكلة؟ فهو ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، وكل ذلك لأنه يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، ويشعر أن الناس لا تبصر جيداً، مع أنه ليلاً ونهاراً يرسل في البلاد من ينادي ويقول: ((يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ))، ثم يقول: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ))، أي: أنتم لا تبصرون أم ماذا؟ فهو يراهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم؛ لأنه يرى القلوب المؤمنة قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجد طائفة من قومه تقبل بهذا الاستخفاف، وتطيعه على ذلك؛ فأهلكهم الله عز وجل.
((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، في هذا ما يدلنا على حقيقة المرض، وأنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما يقولها الكفرة لكل الرسل وللمؤمنين من أتباعهم دائماً: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]؟ وهذه شبهة يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، عندما قالوا: ((إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، وبينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، عندها حاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا؛ فكيف تتفضلون علينا؟!(24/11)
اتهام الطغاة للرسل بتغيير دين الآباء والأجداد
من الشبه التي طرحوها أنهم خالفوا العادات والتقاليد، وأنهم يريدون أن يغيروا دين الآباء، قال تعالى: ((تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)).
وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس، وكونهم يخرجون على ما كان عليه الآباء والأجداد، وعلى تقاليد المجتمع الذي نشأوا فيه، فكانت هذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به أكثر الناس، كما أنها هي الشبهة التي بسببها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه، يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول له: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عيناك.
فالنظم الموروثة، والتقاليد التي نشأوا عليها، وعدم مخالفة دين الآباء، كل ذلك قاله فرعون للصد عن دعوة موسى، قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وهكذا دائماً كل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل للباطل الذي نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه، ولا حجة لديه، وإنما هو التقليد الأعمى، والعياذ بالله.(24/12)
طلب المعجزات
قال تعالى: ((فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))، والشبهة الثالثة التي يتمسكون بها هي: أنكم أيه الرسل لم تأتونا بمعجزة، فهم يريدون المعجزات المقترحة، يقترحون مثلاً: أن يجعل الصفا ذهباً، أو ناقة تخرج من بطن الجبل يقترحون أنواعاً من المعجزات مفصلة على قدر عقولهم السخيفة، مع أن البينات قد أتت، والرسل قد وضحت، ولكنهم لم يقبلوا البينات، ولو أتى الرسل بآلاف المعجزات فإنهم لن يؤمنوا بذلك، فقد أتت الناقة لقوم صالح فهل آمنوا؟ وقد رأى الناس معجزات موسى وعيسى فهل آمنوا؟ فرعون رأى بعينه السحرة يسجدون؛ لأن عصا موسى التي تحولت ثعبان قد أكلت كل ثعابينهم، فهل آمن؟ ورأى الآيات تلو الآيات، فرأى الجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، رأى البحر ينفلق أمام عينيه بضربة من عصا موسى، فهل آمن؟ الحقيقة أنهم لا يؤمنون مع وجود السلطان المبين الذي يزعمون أنه إن حصل قبلوا به وآمنوا؛ ولأنهم نوعية خبيثة من مرضى القلوب فلا يؤمنون.(24/13)
علاج الرسل لمرض الطغاة الحاسدين
قال تعالى: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ))، نعم هذه حقيقة نقررها ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)).
فهذا محاولة علاج لداء الحسد، وهو: أن ينظر الإنسان إلى مَنَّ الله وفضله، فهو الذي قسم سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى عز وجل، فإذا من الله عز وجل على عبد؛ فلماذا تعترض أنت على من الله؟ قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ))، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32].
ف
الجواب
أنها رحمة من الله، فهو الذي اختص برحمته من شاء سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الحسد لمن شاءه من عباده؟ قال عز وجل عن الرسل: ((وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: ما كان لنا أن نأتي بآية ومعجزة إلا بأن يأذن الله بذلك.(24/14)
أهمية سلاح التوكل على الله في الدعوة إلى الله
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
أعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان: أنهم يتوكلون على الله عز وجل، وهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه المؤمن، ويتأكد ذلك عندما تشتد الأمور وتزداد المحن، فيعظم حينها التوكل عليه والاستعانة به سبحانه، كما قال سبحانه وتعالى عن قول فرعون مهدداً: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128].
وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى من أعظم ما يواجه به أهل الإيمان هذه المحن وهذه الكربات.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)).
وقدم الجار والمجرور في: ((وَعَلَى اللَّهِ))، للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده، ونستعين به وحده؛ لأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله، قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 46].
والتوكل على الله عز وجل درجات: منه التوكل على الله بأمر الرزق، وهذا توكل الطيور، والبهائم، وسائر الكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله؛ لرزقهم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً.
وهذا التوكل ربما تشارك وتساوى فيه الكفرة، والعصاة، والفسقة إلا أن توكل المؤمنين أعظم؛ فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته وتوفيقه لهم، أي: أنه يعينهم على مرضاته، ويبعدهم عن معصيته، موقنين بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن يوفر لهم دخول الجنة.
أما توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام على الله عز وجل فهو في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج الناس من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، وهذا هو أعلى درجات التوكل، بأن تتوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس فقط أن تتوكل على الله في خاصة نفسك لكي تعبده أنت في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبد سبحانه وتعالى في الأرض؛ لأن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلنتوكل عليه في ذلك سبحانه وتعالى؛ لتبقى دعوة الحق قائمة.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)).
وكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية، وهدانا الله عز جل إلى توحيده ومعرفته ومحبته؟ فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته؟ وفي الحقيقة أن التوكل أكمل ما يكون، وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب، وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله سبله، ووفقه الله عز وجل إلى ما أراد، عندما تراءا الجمعان وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فهذا توكل عظيم، إذ لا أسباب بالمرة، فالعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، قال: ((كَلَّا))، يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:62 - 63].
وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وفي الأثر الإسرائيلي عند البخاري عن ابن عباس: (أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء وهو في الطريق إلى النار فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم) فهو هنا توكل على الله بلا أسباب، وهو في لحظات سقوطه في النار، ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، أو بريح هبت فأطفأت النار، أو ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء جعل النار الساخنة مطفأة باردة، لا، بل بأمر منه عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 96].
فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم.
وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له صاحبه وهو في الغار: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).
فهذا توكل عظيم، وهو التوكل على الله عز وجل عند انعدام الأسباب من الناس ومن النفوس، فنفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، ولعلك تيأس من نفسك أنت؛ كما قال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وهذا اليأس من النفس هو عجز.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمع في أن يؤمن عمه أبو طالب، وبذل الجهد في ذلك، وما آمن أبو طالب فقال تعالى له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، يأس من النفس، وإذا كنت لا تملك أن تهدي أحداً فبالأولى لا تملك ذلك لنفسك، ولا تملك لأحد نفعاً ولا ضراً، ولا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً؛ فكيف تملكه لغيرك؟! وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فالمؤمن قد ييأس من النفس، ومن الناس، ومن الأسباب، ولكنه لا ييأس من رحمة الله أبداً، فيبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.(24/15)
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
قالوا: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، إن التوكل والصبر واجب في كل وقت وحين، وهذه عبادات لا ينفك عنها المؤمن.
وبهذا تنال الإمامة في الدين لا بمجرد العواطف غير المنضبطة، ولا بحسابات عقول قاصرة ضعيفة تدرك الأسباب المادية دون المن الإلهي الذي يمن به على من يشاء، ويفتح به أبواب الخير لمن يشاء سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: ((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا)).
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلا بد من اليقين الذي هو ثمرة التوكل على الله عز وجل، وثمرة الإيمان الصادق بأن وعد الله عز وجل لا يخلف، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
((وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا))، فالأذى وارد، ولابد أن يجده من يسير في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولابد من الصبر، ولا يجوز أن ينفك المؤمن عن الصبر والثبات في حال من الأحوال.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ))، تأكيد جديد على أهمية الجمع بين الصبر والتوكل على الله، وسوف يجعل الله من ذلك أوسع الفرج بفضله عز وجل.(24/16)
مرحلة التهديد للرسل من أقوامهم
انتقلت المواجهة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التهديد، فقالوا لرسلهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13]، أي: لا بد أن تقولوا مثلما نقول، ولا تخرجوا عنه قيد أنملة، لابد أن ترددوا ما نردد، ولا تقولوا غير ذلك، ولو كان ما لديكم هو من عند الله، ولو أتيتم عليه بآلاف الأدلة، ولا تتكلموا بغير ما نتكلم، ولا تدينوا بغير ما ندين؛ فالأرض أرضنا وسوف نخرجكم منها، وما علموا أن الأرض لله {يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فهؤلاء لا يدركون هذه الحقيقة، مع أنهم لو فكروا فيما كان عليه أجدادهم، وفيما سيكون عليه أبناؤهم من بعدهم؛ لعلموا أن الأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء من عباده، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والعباد عباده، والله سبحانه هو القاهر فوق عباده، وليس العباد بعضهم بقاهر فوق بعض، قال عز وجل: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا))، فهنا تلمس في كلامهم الغرور والإعجاب بالنفس، والكبر والتسلط والبغي ((أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)).(24/17)
عاقبة الظالمين المكذبين للرسل
قال عز وجل: ((فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ))، قسم من الله عز وجل مؤكد بلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة، وهي تدل على وجوب تحقق ما أقسم الله عز وجل عليه، وأنه سوف يهلك الظالمين ولا بد.
قال تعالى: ((وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ))، هذا وعد من الله بأنه سيورث الأرض لعباده المؤمنين كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
ولكن لمن يكون ذلك؟ وماذا يراد منا؟ قال: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي))، لابد أن نخاف الله عز وجل وحده، وخوف مقام الله سبحانه وتعالى فسر بمعنيين: الأول: خوف مقام الرب على عبده بالاطلاع عليه، ثم بالحساب له يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويحاسبهم على ذلك، فإذا خاف العبد مقام الله عز وجل عليه بالاطلاع والمراقبة والمحاسبة اتقاه وعمل بطاعته.
الثاني أن يخاف العبد مقامه بين يدي ربه يوم القيامة.
والتفسيران متلازمان، فإن الاطلاع والمراقبة يقتضي المحاسبة، فالعبد موقوف بين يدي الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن نخاف منه، ولا يجوز أن نخاف غيره قال تعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ))، وكلا الخوفين واجب: خوف مقام الله ورهبته، وخوف وعيده وعقابه وعذابه، ولسنا كما يقول الزنادقة: اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها.
بل نخاف وعيد الله، ونعمل للقاء الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يرزقنا الخوف منه وحده لا شريك له.(24/18)
دور الدعاء في النصر على الأعداء
قال تعالى: ((وَاسْتَفْتَحُوا))، أي: استفتحت الرسل وطلبت الفتح والفصل والحكم، ودعت الله عز وجل أن يفصل بينهم وبين قومهم، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].
والدعاء من أمضى الأسلحة إن لم يكن هو أمضاها وأقواها، وأعظم سبيل للنصر بإذن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).
أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم.
وهكذا يكون النصر بالدعاء، ويكون فتح الأبواب المغلقة بالاستفتاح، نستفتح الله عز وجل، أي: ندعوه أن يفتح لنا، وأن يحكم بيننا، وأن يفصل في هذه الخصومة التي وقعت، وفي الخلاف بين منهج الحق ومناهج الباطل.
قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15].
وإن كان الأمر قد يتأخر قليلاً لكن لابد وأن يقع، قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89].
إذاً: فالاستقامة سبب في إجابة الدعوة، ولو بعد مدة، ولكن الواجب أن تستقيم ((اسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، أي: لا تبتعد عن الطريق الحق إلى سبل الضلال، فضلاً عن أن تكون ممن لا يعلم، فلا بد من العلم ومن الاستقامة معاً، والعمل بهذا العلم، ولابد من عدم الركون إلى من ظلم، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، ومع الاستعانة، والصبر، والاستقامة، والإيمان، والعمل الصالح، وعبادة الله وحده لا شريك له يكون الفرج.
((وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ))، والجبار: هو الذي يسفك الدماء، وينتهك الحرمات؛ ليجبر الناس على إرادته الباطلة المحرمة والمخالفة لشرع الله، دون أن ينظر في أمره الذي يأمر الناس به، فهو يجبرهم عليه سواء كان موافقاً لدين الله أم لا، فهذا يسمى جباراً، وإذا امتنع منه أحد قتله، وهذا النوع يخيب دائماً، قال تعالى: ((وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))؛ لأنه عاند شرع الله بعد أن وضح له الحق، وعلم أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ومع ذلك فهو يحاربه ويعانده.
قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16]، ونعوذ بالله من ذلك.
((مِنْ وَرَائِهِ)) أي: جهنم أمامه تنتظره، (ويسقى من ماء صديد)، والصديد هو: عصارة أهل النار، وجروح أهل النار ((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)) وإذا قرب ذلك الإناء الذي فيه الصديد من وجهه فإنه يشوي وجهه، ويسقط لحم وجهه فيه، ومع ذلك يسقاه رغماً عنه، فهو يتجرعه ولا يكاد يمر من حلقه، ويتألم في كل جزئية من جزئياته، ويعذب بكل أنواع العذاب، فالناس تسقى لكي تبرد ما في أجوافها من حرارة، وهذا يسقى ليزداد عذاباً.
((يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)).
أشد اللحظات على الإنسان هي لحظات الانتقال من الحياة إلى الموت.
((وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))، ((وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ))، نعوذ بالله من ذلك.
ثم بين سبحانه وتعالى هبوط أعمال الكفار والعياذ بالله، وأنها في الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً، قال تعالى: ((كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ)) والآية دليل على هبوط العمل وذهابه وضياعه وانتهائه بالكلية والعياذ بالله، ففي الدنيا لم يحققوا أغراضهم، وفي الآخرة كان العذاب الأبدي مآلهم ((ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)).
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة الملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا.
ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصر لنا ولا تنصر علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين لك رهابين، إليك منيبين قانتين، تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وأزل الشحناء من صدورنا.
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان.
نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء.(24/19)
خذوا ما آتيناكم بقوة
إن من الواجبات الملقاة على عاتق الأمة الإسلامية أخذ الدين بقوة، بقوة العلم النافع، والعمل به.
وهاتان القوتان لا تنفكان عن بعضهما، ولا يمكن أن يستغنى عن إحداهما، فالواجب على كل فرد في هذه الأمة أن يسعى ويجد ويجتهد من أجل تحقيق هاتين القوتين في نفسه أولاً وفيمن حوله ثانياً، حتى يعود لهذه الأمة مجدها وعزها.(25/1)
ضرورة أخذ أمور الدين بقوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الواقع الذي نعيشه كمن يستلقي على الفراش ويقرأ صحف الصباح، هذه هي المشكلة لدى الكثيرين منا إن لم يكن لدينا جميعاً، نسأل الله العافية.
لا شك أن الأمر لبني إسرائيل بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة هو أمر لنا كذلك؛ لأن شريعتنا أتت بمثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل الخير).
والقوة المذكورة هنا هي في أمر الدين؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فتبين بذلك أن القوة البدنية إذا لم يكن معها قوة في النفس وقوة في القلب في مرضاة الله سبحانه وتعالى لم تكن نافعة؛ لذا نقول: إن هذا الأمر أمر لنا، وهو أمر من الله إلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، فقال له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا موسى عليه السلام قال الله عز وجل له: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145].
وقال سبحانه وتعالى ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
فهذا أمر الله للأنبياء، ولذا فهو أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمر لنا بالتبع؛ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونتبع أنبياء الله عز وجل.
لا شك أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم مرحلة حاسمة وخطيرة، وإذا بذل كل فرد من أفراد المجتمع المسلم جهده وكل ما عنده من قوة، عند ذلك يرجى أن يتغير الواقع، ويرجى أن يأتي الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، وأن تتبدل الأحوال التي قد يظن كثير من الناس أنها لا مخرج منها، وأنها وصلت إلى طريق مسدود.(25/2)
أنواع القوة
نريد أن نستعرض معاً ما هي أنواع القوة التي نحتاجها فيما نحن مقبلون عليه، وفيما نحن فيه تجاه الإسلام؟ وكيف نعمل من أجله؟ وما هي القوة المطلوبة في ذلك؟ تكلم أهل العلم عن نوعين من أنواع القوة يحتاجها كل سائر في أي طريق، ويحتاجها السائر إلى الله سبحانه وتعالى بالأولى.
النوع الأول: القوة العلمية المبصرة التي يرى بها طريقه.
النوع الثاني: القوة العملية، قوة الإرادة وقوة العزم، وقوة التحرك بالفعل، ولا تغني واحدة من القوتين عن الأخرى، فلابد من قوة علمية مبصرة، فالإنسان عندما يسير بسيارته مثلاً في طريق مظلم، وهذا الطريق مليء بالعقبات ومليء بالتفرعات الخطرة التي لو لم يكن الإنسان يعرف الطريق جيداً ويبصر لن ينجو منها، ويوشك أن يهلك في أحد الأودية المهلكة، التي يقع فيها من ينحرف عن هذا الطريق، كما أن في هذا الطريق قطاع طرق كثيرون، ينتظرون أي إنسان تتعطل مسيرته فيهجمون عليه ويمزقونه إرباً، أو يأخذونه أسيراً عندهم فضلاً أن يستولوا على ماله ولو كان معه شيء آخر كأهله وأولاده وغير ذلك لاستولوا عليه، وهذا والله نحن بصدده كمثال، فلابد أن يكون السائر على صراط الله عز وجل ذا قوة مبصرة، فهذا السائر بسيارته لا يمكن أن يسير في الطريق المظلم بدون نور في السيارة، وإلا يصطدم بالعقبات، أو يضل الطريق عند الانحرافات والتفرعات، أو يسقط في أحد الأودية المهلكة، كذلك لا يمكن أن يكون الموتور متوقفاً؛ لأنه لو توقف حتى ولو كان معه نور لأوشك النور أن ينطفئ، كما قال أحد السلف: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، فإن لم تكن متحركاً عاملاً بعلمك أوشك هذا النور الذي أعطاك الله إياه أن ينطفئ، إذا لم تكن تزكي هذا العلم بالعمل أوشك هذا العلم أن يرحل ويزول، كنور السيارة حين ينطفئ إذا لم يكن المحرك يعمل، فلابد أن يكون هناك محرك حتى يستمر النور، وإلا انطفئ بعد قليل.
وكذا إذا لم يكن المحرك يعمل فقطاع الطرق يريدون أخذ كل شيء معك، يريدون أخذ قلبك حتى يفرغوه من الحق الذي فيه، ويملئوه بباطلهم وزخرفهم، ويريدون أخذ أموالك ليستغلوها في الربا والميسر والخرافات والخزعبلات، ويريدون أخذ أولادك ليكونوا عبيداً والعياذ بالله لمناهجهم المنحرفة، وجاهليتهم العفنة، ويريدون أخذ أهلك من أجل أن تكون نساء الأمة مباحات لمن يشتهي ويريد في الهيئة وفي الفعل وفي غير ذلك، ويريدون وقف عقل الأمة بالكلية.
ما أكثر قطاع الطرق من أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين! فهم متربصون بكل طريق، فهل آن لنا أن نشعر بالخطر حتى نستمر في طريقنا بكل قوة، ونحافظ على النور الذي معنا، ونندفع كذلك على الطريق الصحيح بأقصى ما عندنا من قوة، أم ما زلنا نتحرك وما زلنا نعمل بطريقة كمن يستلقي على الفراش وينظر ويتأمل ويتعاطف مع هذا الفريق ضد هذا الفريق؟ هذا أمر خطير لابد أن ننظر في علاجه جيداً، فإننا منذ مدة طويلة قد بدأ كثير منا الالتزام، لكن هل حققنا ما هو مطلوب منا في نوعي القوة: القوة العلمية، والقوة العملية؟ سوف نذكر بعض التفاصيل الضرورية لكل واحدة منهما؛ لينظر كل واحد منا إلى نفسه أولاً قبل أن ينظر إلى الآخرين، ماذا حقق في هذا الجانب؟(25/3)
القوة العلمية المبصرة وأنواعها وثمرتها
نقول: إن القوة العلمية المبصرة، أصلها العلم، وثمرتها البصيرة في القلب، حيث يبصر القلب الحق من الباطل، والسنة من البدعة، والهدى من الضلال.(25/4)
وجوب تعلم الإيمان والإسلام والإحسان الواجب
ماذا حققنا من علم واجب علينا ونحن نعلم؟ ومن لا يعلم نقول له: إن العلم الواجب على كل مسلم ومسلمة وعلى الطائفة المؤمنة كذلك نوعان: نوع هو فرض عين على الأمة كلها، يعني: فرض عين على كل واحد من الأمة لا يسعه أن يكون جاهلاً به، وهذا هو علم الإيمان والإسلام والإحسان الواجب، فلابد أن يكون الإنسان على علم بالدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فيفهم من ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد الله عز وجل به خيراً، قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
فتبين بذلك أن من خصال النفاق ومن خصال المنافقين عدم التفقه في دين الله عز وجل، وعدم العلم بدين الله سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه وتعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].
وكان السلف يعدون من ذلك أشياء لو نظرنا إلى عامة من يظهر منه الالتزام اليوم لوجدناها موجودة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كان زيد بن صوحان رحمه الله أحد التابعين في درس له في المسجد وكان في المجلس أعرابي، وكان زيد قد قطعت يده اليسرى في إحدى الغزوات، فقال الأعرابي: إن كلامك ليعجبني وإن يدك لتريبني! فاستغرب زيد فقال: وما يريبك منها؟ إنها الشمال، فقال: والله ما أدري أتقطعون اليمين أم الشمال؟ فقال زيد: صدق الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].
فالأعرابي لا يدري أي اليدين تقطع اليمين أو الشمال، وهذا يدل على وجود شيء من النفاق في قلبه، وإن لم يكن من النفاق الأكبر، والعياذ بالله، لكن علامة من العلامات، وهو يدل أيضاً على أن الجهل أمر فظيع.
إذاً: فلينظر وليقف كل منا إلى مجموع طائفتنا كم منا من يعرف أن اليمين هي التي تقطع أم الشمال؟ فإذا قلنا: من أين تقطع؟ أتقطع من المرفق أم تقطع من الكوع الذي هو الرسغ أم تقطع من الإبط مثلاً كما يقول الخوارج؟ وفي أي شيء تقطع؟ فالحقيقة إذا نظرنا إلى هذا الأمر لوجدنا أن كثيراً جداً من الملتزمين لا يعرفون أصلاً أن اليمين هي التي تقطع، وأنها تقطع مثلاً من الكوع، وهذا أمر كان عند السلف في وقت من الأوقات علامة على الجهل الشنيع، يعني: كون الشخص لا يدري من أين تقطع اليد في السرقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: ضياع العلم علامة على الخطر العظيم، فنقول: هناك علم طلبه فريضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
هذا هو النوع الأول من أنواع العلوم، وهو كما ذكرنا علم الإيمان والإسلام والإحسان، ففرض على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم من علم الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وما تدل عليه هذه الكلمة من نفي الشرك، ومن بطلان أي عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أصول التوحيد الواجبة التي لابد أن يحققها حتى تصح شهادته وتنجيه من النار، والجهل بأنواع الشرك المنتشر في الناس الذي يوشك الناس أن يقعوا فيه، ومن وقع فيه فصاحبه لا يكفر حتى تقام عليه الحجة؛ لأنه وقع فيه عن جهل، لكن هذا لا يعفيه من الإثم، فلا نعني بالعذر بالجهل أنه معذور، بمعنى زال عنه الإثم تماماً، طالما كان مقصراً في طلب العلم فهو آثم إثماً عظيماً؛ لأنه يجهل أمراً من أمور دينه وتوحيده.(25/5)
وجوب تعلم ما تصح به الصلاة وما تبطل
كذلك لابد للمسلم أن يعلم ما تصح به صلاته وما يشترط لها بمجرد بلوغه، يعني: يجب عليه أن يتعلم الطهارة والغسل، وما تصح به الصلاة وما تبطل، وما شروطها وما أركانها، يلزمه أن يتعلم ذلك كله؛ لأنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
أما ما يسميه بعض المنحرفين الذين يستهزئون بأنواع من الفقه: فقه دورة المياه، مع أنه من الفروض العينية على كل مسلم ومسلمة فلا يلتفت إليه ولا يؤبه له.
وكذا يلزم المسلم أن يتعلم ما يصح به صومه، وما يبطل به، وما يحرم عليه أثناء صومه؛ لأنه لا تصح العبادة إلا بتعلم ذلك.(25/6)
وجوب تعلم صاحب المال فقه الزكاة
كذلك فرض على المسلم إذا كان ذا مال أن يتعلم فقه الزكاة، فيتعلم متى يلزمه أداء الزكاة، وكم نصابها، وكم يخرج كل عام، وما هي الأموال التي يخرج منها وما لا يخرج، فهذا أمر واجب على أي واحد منا عنده أموال قد بلغت النصاب؛ فبالنسبة لزكاة عروض التجارية ففيها اثنان ونصف في المائة، أما بالنسبة للفضة فنصابها خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً من الفضة، والذهب نصابه خمسة وثمانون جراماً تقريباً، جاء في الحديث: (ليس فيما دون خمس أواق من الفضة زكاة) خمس أواق هي مائتا درهم، والدرهم العربي وزنه ثلاثة جرامات، فإذا اكتمل نصاب الذهب والفضة فتخرج زكاتهما اثنين ونصف في المائة.
أما عروض التجارة والأموال القائمة فعند جمهور أهل العلم أنها تحسب على الأحظ للفقير، مراعاة للأصل الذي هو أن الزكاة تجب في كل مال، إلا ما استثناه الشرع وهو ما لم يبلغ نصاباً، فإذا كان يبلغ نصاباً بالفضة ولا يبلغ نصاباً بالذهب فيخرج على نصاب الفضة.(25/7)
وجوب تعلم فقه الحج والعمرة لمن استطاع الحج والعمرة
كذلك الحج والعمرة يجبان على من استطاع السبيل إلى بيت الله الحرام فقط، لكن لا يؤدي عبادة الحج من المسلمين كل سنة إلا واحد في الألف، ولو نظرنا إلى من يؤدي هذه العبادة لوجدنا كماً هائلاً جداً من البدع والمنكرات والمخالفات، ربما أدت إلى بطلان الحج أو إلى نقصانه وكذا العمرة؛ لأنه لم يفكر في أن يتعلم ما يلزمه.(25/8)
وجوب تعلم فقه المعاملات التجارية بالنسبة للتاجر
كذلك لو أقدم المسلم على أي مشروع أو أي تجارة أو أي عمل لابد أن يتعلم حكم هذا المشروع، ويسأل أهل المعرفة في ذلك، فلماذا لا نطبق هذا الكلام فيما يلزمنا من أمور الإسلام كما ذكرنا؟! يلزم المسلم في باب المعاملات أن يتعلم فقه المعاملة التي يتعامل بها، فإذا تعامل بأي نوع من أنواع المعاملات لزمه شرعاً أن يتفقه فيها، فكل من يبيع ويشتري يلزمه أن يتعلم فقه البيع والشراء، وما يجوز وما لا يجوز، بدلاً من أن يقع في أمر محرم ثم يقول: لم أكن أعلم، لماذا لم تعلم؟ لأنك قصرت في التعلم، ولأنك لم تأخذ ما آتاك الله عز وجل بقوة؛ القوة العلمية المبصرة التي تعرف من خلالها الحلال من الحرام.
كان عمر رضي الله عنه يأمر كل من يجلس في السوق أن يتعلم فقه البيع والشراء؛ حتى لا يأكل الربا وهو لا يشعر، وحتى لا يقع في الغرر والميسر وهو لا يشعر، فكل من أجر أو استأجر أو استؤجر كل هؤلاء لازم عليهم أن يتعلموا فقه الإجارة، ويكون تعلم ذلك بالقراءة، وبالسؤال وبسماع دروس العلم عبر مجالس العلم أو الأشرطة ونحو ذلك.
إذاً: كل من يتعامل في معاملة معينة يلزمه أن يتفقه فيها، يعني: من يتعامل مثلاً في المضاربة والشركة يلزمه أن يتعلم فقه المضاربة والشركة، كم هائل جداً من المشاكل والاختلافات والأمور المحرمة ترتكب ممن يظهر الالتزام ويكون ظاهره أنه متبع للكتاب والسنة ومتبع لأهل العلم ومع ذلك إذا ضارب يفعل العجب، إذا شارك يفعل أغرب الأمور، ويقول لك: لم أكن أعلم! لا، لا يجوز أن تقدم على المضاربة حتى تتعلم كيفية المضاربة، وتتعلم ما يلزمك في هذا الباب، هذا فرض على كل من تعامل بهذه المعاملة.(25/9)
وجوب تعلم فقه النكاح وما يتعلق به من نفقة وسكنى وطلاق وغير ذلك
كذلك فرض عين على كل من تزوج أن يتعلم فقه الزواج، ما يجوز للرجل من امرأته وما لا يجوز له منها، وما يجب عليها من طاعته وما لا يجوز أن يطلبه منها، لابد أن يتعلم فقه ذلك، لكن نرى أن أول عمل يقوم به الشاب عند إرادة الزواج هو البحث عن المال والبيت والمهر وتكاليف الزواج وغير ذلك، ولا يفكر أن يدرس فقه الزواج، والمرأة كذلك غفلت عن فقه الزواج مع أنه فرض عين عليها أن تعلم ما يلزمها.
كذلك يلزم كل من أراد أن يطلق أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يقع طلاقه وفق الشرع، ولا يقع طلاقاً بدعياً محرماً مثلاً، كذلك المرأة فرض عين عليها أن تتعلم فقه الطلاق قبل وقوعه، وإذا لم تكن تعرفه يلزمها أن تعرفه وقت وقوع الطلاق، وفي الغالب الأعم أن أي امرأة تطلق من زوجها فأول عمل تعمله تأخذ ملابسها وتمشي إلى بيت والدها، مع أن ربنا سبحانه وتعالى يأمر بعدم الخروج من بيت الزوج، حيث يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] يعني: لابد أن تكون في فترة العدة كلها موجودة في بيت الزوج، ويجب عليها أن تعرف العدة.(25/10)
وجوب تعلم أحكام الإرث
كذلك يلزم كل من مات له ميت وترك مالاً أن يتعلم فقه الميراث، هذا فرض عين عليه؛ لأنه لا بد أن يعرف ما حقه وما حق أخواته وحق أقاربه، حتى يلتزم بذلك ولا يحيد عنه.(25/11)
مجمل ما يجب تعلمه من أمور الدين
النبي عليه الصلاة والسلام قد بين حكم أمور الإسلام الواجبة، بين أركان الإسلام التي بني عليها، وليس معنى ذلك أنها فقط هي الإسلام لكن هي أركانه التي تركها وعدم فعلها يدل على انحلال قيد الاستسلام أو اختلاله، إما أن ينحل بالكلية ويضيع إسلام المرء، أو يختل على الأقل.
فهذه الأبواب التي لا يكاد يصل إليها إلا من نعتبره عندنا متخصصاً أو طالب علم مهتماً جداً كأن يكون قرأها ودرسها على المشايخ، ومع ذلك هناك من طلاب العلم المتخصصين في الدراسات الشرعية من تكون هذه الأبواب عنده غامضة جداً؛ لأن الطلاب في الغالب الأعم لا يكادون يصلون إليها، وإنما قبل الامتحان ينظر الطالب في المسائل المحتملة أن تأتي في الامتحان، وليس نيته أن يدرس دين الله عز وجل ويتعلم الدين، فهذا الأمر خطير بلا شك، ولذلك تجد في هذه المسائل أعاجيب حتى ممن قد يكون قد حصل على شهادات رسمية وأهل في هذا الجانب.
نقول: إن تعلم الإسلام فرض عين، فهل نحن أخذنا هذا الأمر بجد وبقوة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؟ فرض عين على المسلم أن يتعلم علم الإيمان، أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأن يتعلم من هو المسلم ومن هو المؤمن ومن هو الكافر؛ لأن هذه الأمور يترتب عليها الولاء والبراء، ويترتب عليها الحب والبغض، ويترتب عليها كثير من المعاملات من الحلال والحرام فيما يجوز بين المسلم والمسلم، وما لا يجوز مع الكافر.
وليس معنى ذلك أن المرء يقر بوجود الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ويحفظ خمس كلمات أو ستاً، لا، بل عليه أن يعلم تفاصيل ضرورية في هذه الأركان، لابد أن يعلم توحيد الله، من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس المقصود أن يعلم حجج وشبهات أهل الباطل والرد عليها، لكن يعلم ما تصح به عقيدته في الله عز وجل، يعلم أن الله بكل شيء عليم، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، وحتى يؤدي العبادات الواجبة التي هي داخلة في أمر الإحسان عليه، وأن يخلص لله عز وجل، وأن يخاف الله عز وجل، وأن يرجوه، وأن يطمع في رحمته، وأن يدعوه رغباً ورهباً، وأن يتوكل عليه، وكله مبني على معرفة الأسماء والصفات؛ لأن هذه عبادات واجبة من لم يؤدها كان ناقص الإيمان أو منعدم الإيمان، كما قال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال عز وجل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وقال الله سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، وقال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
أي: لابد أن تعلم أن النعمة من عند الله فتشكرها، ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأنك تعلم أنك لله وأنك إليه راجع، وأن الله هو الذي يقدر الأمور سبحانه وتعالى بقدرته وعلمه وحكمته، ولابد أن تعلم أن الله حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، لابد أن تعلم هذه الأصول العظيمة من الإيمان بأسماء الله وصفاته التي تترتب عليه العبادات الواجبة، التي هي ضمن أمر الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا مبني على علم الإيمان الذي أوجبه الله عز وجل.
كذلك لابد أن تعلم الإيمان بالملائكة، وكيف أنها خلقت من نور، وأنهم يطيعون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قال تعالى عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولابد أن تعتقد أمانتهم واجتهادهم في العبادة.
كذلك لابد أن تؤمن بالرسل الذين أرسلهم الله عز وجل وما يجوز لهم وما لا يجوز عليهم، وما يمكن أن يقع منهم، وكيفية معاملتهم؛ وإلا فقد يضل الإنسان بسبب جهله وسبب عدم معرفته بحق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما تلك البدع المنتشرة فيما يتعلق بالرسل وبالأولياء وغير ذلك إلا من جهل كثير من الناس؛ لأنهم لو علموا أن الرسول بشر من البشر وبالأولى الولي لعلموا أن الرسول أو الولي لا يملك أن يغيث، ولا أن يسمع كل الأشياء، ولا أن يبصر كل شيء، ولا أنه يقسم الأرزاق مثلاً، فينبغي أن يعلم المعلم أن صفات الرب عز وجل ليست صفات للنبي ولا صفات للولي، فلا يتوجه إلى هؤلاء بصرف العبادة لهم ودعائهم.
لابد أن يعلم أصول الإيمان باليوم الآخر، بما في ذلك أشراط الساعة، وما يكون من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من أهوال القيامة، هذه فروض عين على كل إنسان أن يتعلمها، ولا يجوز أن يجهل هذه الأمور.
وسأضرب مثالاً على ذلك: لماذا حدث اضطراب عظيم جداً عند الناس نتيجة أن ممثلاً في تمثيلية قال يوماً: لا يوجد شيء اسمه عذاب القبر؟ فالناس أصابهم ذهول وشك ولا يدرون حقيقة الأمر؛ لأنه لا يوجد عندهم علم راسخ، فهم يأخذون الآن اعتقاداتهم من تمثيلية نسأل الله العافية! وهناك كتب كثيرة جداً تناولت أشراط الساعة فيها الكثير من البدع والمنكرات، وأصحابها أصحاب دراسات عليا في الشريعة أو في الأزهر الشريف، يقول أحد هؤلاء الكتاب: إن المسيح الدجال يظهر في ربيع (1992م)، وآخر يقول: المسيح الدجال سيظهر من مثلث برمودا، وغير ذلك من الأعاجيب، لماذا هذا الخلل العظيم وهذا التقصير الشديد حتى من أناس داخل دائرة الالتزام ظاهرياً.
أما عن قضية الإيمان بالقضاء والقدر، فهي قضية بلا شك مزلة أقدام، وموضع ضلال للكثيرين الذين لم يتعلموا منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وإنما أخذوا اعتقادهم من مجرد حديث يسمعونه أو من كلمة قد يقولها قائل في الطريق، ولم يهتموا بهذه المسألة ولم يبحثوا فيها، ولم يتعلموا هذه المسألة العظيمة التي هي ركن من أركان الإيمان، والتي لو أنفق الواحد مثل أحد ذهباً في سبيل الله وكان مخلصاً لما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر كما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن الإيمان بهذه الأصول الستة شرط في قبول العمل، حتى ولو كان العمل خالصاً فإنه لا يقبل إلا بالإيمان بهذه الأصول.
فهذه أصول الإيمان يلزم كل مسلم أن يتعلمها، بل وفرض عين كما ذكرنا حتى يحقق معاني الإيمان.
وأما الإحسان فالواجب كما ذكرنا هو أن يعبد الله سبحانه وتعالى مخلصاً خائفاً راجياً، يعني: يحقق معاني العبودية كأنه يرى الله سبحانه وتعالى.
فالقدر الواجب من ذلك أن يوجد في قلبه التوكل الواجب، والحب الواجب، والخوف الواجب؛ لأن كل هذه العبادات فيها قدر واجب أشار إليه القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وقال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
فسمى الله تعالى من كان حب هذه الأشياء في قلبه أكبر من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، والعياذ بالله من ذلك.
وسائر عبادات القلب من شكر نعمة الله، والرضا بقضائه سبحانه وتعالى، والرضا به رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً.
كذلك الولاء والبراء، يعني: الحب في الله والبغض في الله، كل هذه من الواجبات التي هي أعمال القلوب الضرورية التي لا يثبت الإيمان إلا بها، وهي ضمن الإيمان في الحقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعلها باسم الإحسان تنبيهاً على أهميتها وشرفها ومراقبة الرب سبحانه وتعالى في أدائها، والله أعلم.
هذا هو النوع الأول من العلم المطلوب.(25/12)
أهمية تفرغ بعض المسلمين للتفقه في الدين
النوع الثاني من العلم المطلوب، وهو الذي لا يحصل النوع الأول لكل واحد من المسلمين والمسلمات إلا بوجوده، وهو المذكور في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
يعني: فرض عين على كل طائفة، أو كل جماعة من المسلمين في مدينة أو قرية أو حصن أن ينتدبوا منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ثم يرجع ليعلمهم أمور دينهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في دينهم ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين المفتين ولو بعدت ديارهم، كما يقول ابن حزم: ولو كانوا بالصين.
ومعلوم أن الناس لا يرحلون كلهم لطلب العلم؛ لأنهم مشغولون بمكاسبهم وأرزاقهم، ولذا فلابد أن يوجد في كل مدينة أكثر من عالم؛ لأن المدينة يسكنها ملايين من الناس فلا يكفيهم عالم واحد بلا شك، بل أطرافها يصعب الانتقال بينها.
والنوع الأول من العلم لا يمكن أن يوجد لدى الناس إلا إذا وجد هذا النوع الثاني، فإن الرجل الذي يريد أن يطلق فلا بد أن يتعلم فقه الطلاق، لكن كيف يتعلم فقه الطلاق إذا لم يجد عالماً في بلده يسأله؟! وهذا الشخص لا يلزمه أن يكون متفرغاً تماماً لدراسة كل أنواع العلم ليدرك كل المسائل بالدليل الراجح؛ لأن هذا أمر يعسر على كثير من الناس، ولا يمكن أن يكون واجباً على الجميع، لكن الواجب أن يسأل أهل العلم إن كان لا يعلم.
إذاً: وجود أهل العلم واجب وهو فرض على الكفاية، فالمثال الذي ذكرناه سابقاً: هو مثال قطع اليمنى من اليسرى في السرقة هذا من علوم فرض الكفاية بلا شك، إذا وجب على الناس أن يقطعوا يد سارق وجب عليهم أن يعلموا تفاصيل ذلك، ولكن هذا الأمر إنما يحصل مع انتشار العلم، وقبض العلماء هو شر؛ لأنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، ومعنى ذلك أن قبض العلماء وقلة العلم من علامات وأشراط الساعة، وفي ذلك دلالة على أن الدنيا يصيبها الخراب بقلة العلم والعلماء، وقلة العلم ليس حاصلاً في عامة المسلمين فقط، بل في كثير ممن يعتقدون أنهم الملتزمون بالدين وأنهم أهل الدعوة إليه ونحو ذلك.(25/13)
القوة العملية وجوانبها وثمرتها
القوة العملية المطلوبة التي لابد أيضاً أن نأخذ ما آتانا الله عز وجل فيها بقوة، تشمل جوانب كثيرة، سوف نذكر أربع نقاط فيها تحتاج منا إلى وقفة:(25/14)
القوة في أداء العبادة وفق الشرع
النقطة الأولى: القوة في أداء العبادة كما أمرنا الله عز وجل بها، يعني: أولاً: ينبغي أن نعلم ما تصح به العبادة وكذا أداؤها، يعني: نؤديها كما يحب الله عز وجل؛ لأن هذه العبادة هي التي تغير الإنسان وتشكل حياته بالكلية إذا أداها كما ينبغي، فهو إذا أدى الصلاة كما أمر الله عز وجل كان من المفلحين، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فأول وصف لهم هو الفلاح، فلاح عظيم؛ لأنه لو أداها بالخشوع الواجب وبحضور القلب لتغيرت حياته بلا شك، كذلك لو استحضر الإنسان عظمة الله حين يكبره، واستحضر حمده حين يثني عليه، واستحضر رحمته فرجاها، واستحضر ملكه فمجد الله عز وجل به، وطلب الهداية منه بعد أن يقرر أنه يعبده وحده، ويستعين به وحده، ويتبرأ من ملل الباطل والضلال، وهي فرق المغضوب عليهم والضالين، وغير ذلك من المعاني الأساسية التي هي من معاني الإيمان؛ لتغير حال هذا الإنسان إلى الأحسن، ونحن في هذا الجانب عندنا قصور شديد جداً، لابد أن نجتهد في علاجه، حتى إن الواحد منا قد يظن أنه يصلي نوافل ويصوم نوافل، وهذه النوافل في الحقيقة إنما تكمل جزءاً مما فرط فيه من الفرائض في أغلب الأحيان إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فإذا تحدثنا مثلاً عن المحافظة على صلاة الفجر في ميقاتها في الجماعة في المسجد وعدم التفريط في ذلك، لوجدنا أمراً خطيراً ألا وهو تفريط أكثر المسلمين في صلاة الفجر.
أما عن القيام بالنوافل التي أوجبها الله عز وجل على المسلمين في أول الإسلام؛ إعداداً لأمة الإسلام، وإعداداً للطائفة المؤمنة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى تهيأ للواجبات العظيمة الملقاة على عاتقها فعبادة قيام الليل، وترتيل القرآن فيه ونحو ذلك مما كانت واجبة، ثم نسخ الوجوب بإجماع أهل العلم ولكن أداء ذلك يؤهلنا إذا كنا نريد فعلاً أن نغير وجه التاريخ.
الملتزمون الآن لا يريدون خلافة على منهاج بني أمية، ولا على منهاج بني العباس، ولا على منهاج المماليك، وإنما يريدون خلافة على منهاج النبوة، فلا شك أنها تحتاج إلى أنواع أخرى من الناس، أنواع تشبه نوعية الصحابة رضي الله عنهم وإن لم تدركها.(25/15)
الأخلاق وأهميته في التغيير إلى الأحسن
النقطة الثانية: الأخلاق، أي: الأخلاق التي لابد أن تغير من سلوكنا مع من حولنا، وهذا جانب من أصعب الأشياء تغييراً، وما يزال الأمر مبناه على عادات الإنسان قبل أن يظهر التزامه بالسنة، وإظهاره الالتزام بالسنة أمر عظيم ولا شك أنه مطلوب، ولكن لابد أن يكون كذلك تغيره بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام في أخلاقه في معاملاته في لسانه، كيف يعف عن عورات الناس في بصره، في أذنه، في سلوكه في معاملته للناس، حتى لا يوجد في قلبه شحناء ولا ضغينة ولا حقد ولا حسد، ولا يوجد في قلبه تنافس مع مسلم على الدنيا، ولا رغبة في زخرفها الزائل، ولا يكون في قلبه غش للمسلمين، ولا نظرة احتقار لطائفة منهم أنهم لم يعطوه حقه، أو أنه ينبغي أن يكون فوقهم وأعلى منهم قدراً.
وكذلك لابد أن يكون مجتنباً للغيبة والنميمة، وأن يكون صادق الحديث، يفي بالوعد بحيث إذا وعد شخصاً اطمأن وعلم أنه سوف يؤدي ما طلب منه، إلا أن يعجز.
فمثل هذه الأخلاق حين تتغير فينا سوف يتغير شيء كثير فيما بيننا، لو لم نتمكن من أن نبلغ الناس الكلام المباشر فسلوكنا سوف يكون دعوة بلا شك.(25/16)
الترابط والتآلف
النقطة الثالثة في قضية القوة العملية التي لابد منها: قوة الترابط والتآلف فيما بيننا، وإصلاح ذات البين، والحرص على المودة الواجبة بين المؤمنين؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه ذاق طعم الإيمان وذكر منها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
فهذه الرابطة القوية التي لابد من الحرص عليها لا تكون هي آخر المهمات، لابد أن تكون القلوب مترابطة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
من يرضى من الناس أن يسكن في بيت الجدران فيه مجرد أحجار مرصوصة دون أن يكون بينها مادة لاصقة من أسمنت أو غيره؟ من يرضى أن يسكن في بيت من ألواح خشب مرصوصة بعضها فوق بعض لا توجد بين أخشابه مسامير؟ فمجرد أي محاولة لإسقاطه سوف يسقط، هل حالنا فعلاً حال الجدار الصلب القوي؟! هل حالنا حال الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟! هل نتفقد الغائب منا؟! هل نعود المريض؟! هل نبحث عن المحتاج؟! هل نسعى إلى هذه العلاقة القوية التي مهما حاول أحد أن يزعزعها عجز عن ذلك، لابد أن نهتم بهذه المسألة جداً فإنها من السلوك العملي المطلوب؛ لأن الحرص على تقوية الروابط حتى نكون كجسد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأمور أهمية في تحقيق ما يلزمنا تجاه ديننا.(25/17)
القوة في الدعوة إلى الله تعالى
النقطة الرابعة: هي القوة في الدعوة إلى الله عز وجل، لابد أن نستشعر مدى الخطر الذي نحن فيه، ومدى الهجوم الشديد على كل معاني الإيمان والإسلام التي يتعرض لها عقل المسلمين، عقل الأمة، لابد أن يكون هناك جد واجتهاد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى نواجه هذا الهجوم الشديد على المسلمين.
أمر عادي جداً أن يختلط الواحد منا كل يوم بعشرات المنكرات، أنا تعودت بحكم طبيعة العمل أن يكون معظم الذين أتعامل معهم من النساء، بحكم أنهن أمهات الأطفال ونحو ذلك، فأنا لا أحصي كم مرة أقول: إن شاء الله تتحجبي ولا تأتي المرة الثانية إلا بالحجاب، وتأتي لي في المرة الثانية من غير حجاب، وأقول: يلزمني أني أقول لها مرة ثانية؛ فمثلاً: في ثلاث ساعات أو ساعتين في محل عملي أقول لسبعين أو ثمانين امرأة: إن الحجاب فرض، غير التي تمشي في الشارع، فكم من منكرات في المدارس والجامعات وغيرها من الأماكن، فلو أن كل واحد فينا اجتهد أن يوصل كلمة الحق؛ فإن مرتكب المنكر سيجد نفسه محاصراً؛ لأنه سيجد كل يوم واحد يقول له: إنك ترتكب منكراً، وبهذا ينهدم الباطل ويزهق، قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وسيزول ويضمحل ويتفكك.
لو أن الناس يسمعون الحق مرات عديدة، ووجدوا من يخبرهم ويقول: هذا هو الحق، وهذا هو شرع الله سبحانه وتعالى، بالتأكيد أن الوضع سيتغير، فلابد أن يكون هناك نوع من الاجتهاد في هذا الجانب؛ لأن الواجب علينا كثير جداً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(25/18)
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
لقد كانت غزوة الأحزاب من أعظم المواقف التي تبين فيها صدق المؤمنين فيما عاهدوا الله عليه، وصبرهم على ما ابتلاهم به من مواجهة الأعداء.
وفي هذه الغزوة يظهر تأييد الله للمؤمنين، بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون.(26/1)
سنة الابتلاء وعاقبته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:22 - 27].
وقد جعل الله عز وجل البلاء وعداً للمؤمنين لا وعيداً لهم، قال تعالى: ((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)) أي: وهو مكتوب علينا، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]، وما يصيب المؤمن من بلاء فهو نعمة، وعطية من الله عز وجل يكتبه له، وذلك للمؤمن وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وكيف لا يكون وعداً له ونعمة، وهو يزداد به قرباً من الله وإيماناً وإسلاماً، ويزداد له حباً وتعظيماً.
وكيف لا يكون البلاء بالحرمان عطاء وهو حرمان من شيء زائل وعرض تافه صغير يوشك أن يحرم منه كل أحد، ولا يوجد عطاء أوسع من فضله وجوده وكرمه، ومن ذلك أخذه قلب عبده إليه وتوجيه ناصيته إليه، قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، فأي شرف أعظم من أن تتوجه ناصية المؤمن قلبه إلى الله عز وجل، وأن يفرد الله سبحانه وتعالى بالتوكل والإنابة والخشوع والخضوع له وحده لا شريك له، وأنه وحده سبحانه وتعالى الذي يتولى أمر المؤمنين قال تعالى على لسان المؤمنين: ((هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))، فعند ذلك تكون البلية عطية، وتكون المحنة منحة، ويكون الابتلاء نعمة ومنة من الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن بإيمانه وإسلامه؛ لأنه إذا اقترب من الله عز وجل وازداد إيماناً وتسليماً كان ذلك أنفع له في دنياه وأنفع له في أخراه.
ونتأمل عاقبة ما قال المؤمنون نجد فعلاً أن هذا وعد الله لهم، فعندما انتهت غزوة الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، وتحول المسلمون من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم الذي ظلوا عليه بفضل الله عز وجل، يهاجمون به الشرك ومواقعه ومواضعه حتى نصرهم الله عز وجل في المشارق والمغارب، وأظهر دينه وكلمته على الدين كله وأتم أمره، ولا يزال الإسلام يتقدم والمسلمون يتقدمون حتى في أشد فترات الضعف المادي؛ فهاهم يهزمون أمام التتار وتفتح بغداد للتتار ويقتل كل من فيها؛ ثم بعد حين يدخل التتار في الإسلام ويلتزمون بأحكامه كما أقروا بكلمة التوحيد، ويصير التتار إلى يومنا هذا شعباً مسلماً من أشد الشعوب الإسلامية قوة في الجهاد في وجه الأعداء، فسبحان الله! الذي ينصر المسلمين إذا اقتربوا من الله عز وجل وأطاعوه، ويجعل لهم قوة وشوكة ويدبر لهم الأمور، وإن كان الأعداء يظنون أنهم يمكرون، وإنما ذلك من مكر الله عز وجل بهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10]، فقد بار مكر يهود، وبار مكر قريش، وبار مكر المنافقين الذين يتربصون بالإسلام، وبار مكر الحلف العجيب بين طوائف الشرك وكفرة أهل الكتاب والمنافقين للمكر بالإسلام وأهله، والمؤمنون يرون هذا وعداً من الله لهم: كما قال الله تعالى ذلك عنهم لما رأوا الأحزاب: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)).(26/2)
تمحيص المؤمنين لمعرفة الصادقين
ثم ذكر الله المؤمنين بالصادقين الذين مضوا موفين بالعهد مع الله عز وجل، صادقين في أقوالهم، وأحوالهم، وأعمالهم، ليقتف من بعدهم أثرهم، فقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
تأمل أولاً هذا التبعيض: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فليس كل المؤمنين بهذه الصفة، فالمؤمنون الكمل هم الذين وصلوا إلى هذه الغاية، وليس كل المؤمنين بهذه الدرجة من الصدق، وهؤلاء الصادقون هم الذين يثبت الله بهم باقي الطائفة المؤمنة، وهم الذين ينصر الله بهم بقيتهم وينصر الله عز وجل بهم دينه، وهؤلاء هم من جنس من قال الله عز وجل فيهم: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:249 - 250]، فتتفاوت القلوب، كما يتفاوت الإيمان فيها؛ فهذا طالوت لم يجاوز معه النهر إلا مؤمن، ومع ذلك فأغلبهم قالوا كما قال الله تعالى: ((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ))، فبقية قلة مؤمنة وعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، استخلصوا من عشرات الآلاف، وقد كان بنو إسرائيل قبل النهر أكثر من ثمانين ألفاً كما ذكر في الآثار، وما جاوز مع طالوت النهر إلا ثلاثمائة وبضعة عشر، ومع ذلك فلم يكونوا كلهم على نفس الدرجة، وإنما كان منهم صادقون يوقنون أنهم ملاقو ربهم، وهؤلاء هم الذين ثبت الله بهم البقية.
فكذلك قوله تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) فهؤلاء الرجال هم خلاصة المؤمنين وخلاصة البشرية، وهم خاصة أتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
كان منهم أنس بن النضر كما يذكر أنس رضي الله تعالى عنه: (كنا نرى أن هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] نزلت في أنس بن النضر وأصحابه)، ومعنى قضوا نحبهم أي: وفوا بعهدهم.
قال تعالى: ((رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، قال أنس بن مالك -وكان سمَّي بعمه- غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر، فقال: لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع، وهاب أن يقول غيرها.
فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- ثم انطلق ليقاتل، فلقيه سعد بن معاذ فقال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، إني لأجده دون أحد، قال سعد: فو الله يا رسول الله! ما استطعت أن أصنع ما صنع، قال أنس: فوجد قد قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وما عرفته إلا أخته ببنانه، أي: بعلامة في طرف إصبعه، أي: ما عرفوه من كثرة الجراح رضي الله تعالى عنه، وكانوا يرون أن هذه الآية نزلت فيه وفي أمثاله كـ مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحمزة بن عبد المطلب، ومن قتل على الصدق مع الله عز وجل.
فعندما يوجد هؤلاء فينا ولو كانوا قلة تتغير موازين الحياة على وجه الأرض، وإنما يكون ذلك بصدق الإرادة وصدق التوجه إلى الله عز وجل، والصدق في الأمور كلها؛ والصدق صفة أساسية للمؤمن يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً، والصدق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، وليست الصديقية بمنزلة هينة، ولا بشيء ينال بالتمني، ولكن بتحري الصدق قولاً وعملاً وحالاً حتى يكتب عند الله صديقاً.(26/3)
الحث على الصدق في الأقوال والأفعال والنهي عن ضده
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، وما أقبح أن يكتب العبد عند الله كذاباً، نعوذ بالله من ذلك.
والصدق الذي ذذكره الله عز وجل في هذا الموطن لم يكن صدق كلام فقط، بل كان صدق القول والفعل، كان كلاماً مبهماً فقال: ليرين الله ما أصنع، فخاف وهو الصادق بإخبار القرآن عنه أنه من الصادقين؛ ومع ذلك خاف أن لا يكون صادقاً، وكان العهد أن يبذل كل وسعه في نصرة الإسلام، ولما كان صادقاً قرب الله له البعيد، وكشف له من الغيوب حتى وجد رائحة الجنة دون أحد، والجنة يجد الناس ريحها من مسيرة خمسمائة عام، وهو قد قربت إليه رائحتها حتى وجدها دون أحد، وقاتل حتى ما استطاع سعد بن معاذ سيد الأنصار الذي اهتز لموته عرش الرحمن، والذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسميه سيد الأنصار، يقول: (قوموا إلى سيدكم) ما استطاع أن يفعل فعله، فقال: يا رسول الله! ما استطعت ما صنع، فانظر كيف كان أنس قدوة لـ سعد رضي الله تعالى عنهم.
هذا الصدق والجدية والقوة فيما يعمله الإنسان، هو توحيد الإرادة كما ذكر أهل العلم؛ فالإخلاص توحيد المراد وأن لا يريد إلا وجه الله عز وجل.
وأما الصدق فتوحيد الإرادة بمعنى: أن يكون الإنسان جاداً فيما يريد، صادقاً في ما يطلب من مرضاة الله عز وجل، بمعنى أنه لا ينشغل بأمر آخر عما يطلبه ويريده من الصدق، فالإنسان قد يطلب مطلباً لكنه يطلبه بضعف، ويتأخر في تحقيق غاياته من ذلك الطلب؛ ونشبه هذا بقطارين، أحدهما: يسافر من بلد إلى بلد مباشرة بسرعة دون أن يتوقف في المحطات المتوسطة، والآخر: يقف في كل محطة، فالوجهة واحدة، ولكن الأول يقطع المسافة في ساعة أو ساعتين، والآخر ربما قطعها في ست ساعات أو سبع.
أما فيما بين العبد وربه فالتفاوت أعظم بكثير، وذلك أن البطيء له رغبات وإرادات على الطريق أضعفت سيره قوته في طلبه النهائي وفي غايته الأخرى، فهو يريد من كل محطة من المحطات شيئاً، وفيها أناس يركبون معه، وأما الآخر فطريقه واحد وإرادته واحدة، فكذا المؤمن الجاد قد أخذ ما أتاه الله بقوة.
وقد تجد هذا التفاوت بين الناس في الصدق في طلب العلم، فتجد إنساناً يجتهد في طلب العلم فيدرك في المدة الوجيزة بصدقه في الطلب ما لا يدركه غيره ممن يترنح في سيره ممن يبدأ كتاباً ثم لا يكمله، يقرأ مسألة ثم لا يتمها، يقرأ باباً من العلم ثم لا يستمر، يحضر بعض الدروس ثم ينقطع وهكذا، وكذلك الصدق في العبادة وإصلاح النفس وتهذيبها، فتجد إنساناً قد التزم لكنه يتوانى في تصحيح أخلاقه وإصلاح نفسه، ولا تزال الأمراض تنهش قلبه، ولا تزال نفسه مريضة مثخنة بالجراح، وعندما يكون هذا هو الوصف العام لأكثر من أظهر الالتزام فلا نتوقع إذاً إلا تأخراً وبطئاً في الوصول إلى النتائج المرجوة، وإن كنا لا نريد من ذلك طعناً في النيات.
قد تكون هناك إرادة لوجه الله ولكن ليس هناك الصدق المطلوب في العمل، وليس هناك الصدق المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل، فمثلاً: قد يوجد من يبذل عمره ووقته وكل فرصة سنحت له في الدعوة إلى الله عز وجل، وهناك من يكون بطيئاً ينتظر الرسوم والعادات، لا يستطيع أن يدعو إلا من خلال رسوم معينة وطقوس معينة إذا غابت فشل، وتوقف في دعوته، فلابد أن يكون هناك صدق في البذل والتضحية في سبيل الله، والصبر واليقين.
والصدق يدخل في كل الأحوال والأعمال، فالصدق مع الله سبحانه وتعالى أن يكون جاداً غير متوانٍ ولا متكاسل، والصدق في الذكر أن يكثر من ذكر الله ولا يني في ذكره، كما أمر الله عز وجل موسى وهارون: فقال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، فالله عز وجل أمرهما بأن يقوما بالحق ولا يتوانيا في ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا ينشغلا بغير الله عز وجل عنه، وإن كان حبه موجوداً لكن قد يكون ضعيفاً، ولذلك يقدم عليه الأمور الدنيوية من الأهل والمال والولد، ويكثر وقوعه أثناء الطريق، نسأل الله العافية.
قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)) كان هذا الصدق في الجهاد، وهو أعظم مراتب العمل، وذروة سنام الإسلام؛ ولذا كان الصدق فيه محققاً لغايات أهل الإسلام.
وقد ظل أنس بن النضر نوراً ينير الطريق، وأسوة حسنة لكل من أتى بعده، فإذا كان أسوة لمثل سعد بن معاذ فكيف لا يكون أسوة لمن بعده، بعد أن ذكر الله أمره في القرآن العظيم بهذا الثناء الحسن، قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، فكان منه الصدق في الجهاد والصبر والثبات والإقدام والتضحية، ولم يعبأ بما يصيبه في طريقه في سبيل الله عز وجل، ولم يلتفت أنس بن النضر إلى بضع وثمانين جرحاً حتى سقط في آخر واحد منها عجزاً عن أن يستمر في القتال، رضي الله تعالى عنه وعن أصحابه، وألحقنا بهم صالحين.
وقوله تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ))، ليس هذا العهد خاصاً بـ أنس، بل كل من أسلم وآمن قد أعطى هذا العهد، كما قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7]، وإنما يتفاوت الناس في الوفاء، فكل مؤمن قد قال: سمعنا وأطعنا، وإلا كان هذا قدحاً في إسلامه وإيمانه، إذ لم ير لله على نفسه السمع والطاعة؛ إن كل مؤمن يقول ذلك، ولكن يتفاوت الناس في تحقيق ذلك والصدق فيه، قال تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)) أي: وفَّى بنذره وعهده مع الله عز وجل، ووفى بما وعد به الله من الثبات والصبر والتضحية في سبيل الله.
قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)) فقد كان المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم هذه النوعية كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم، وأهل بيعة الرضوان، وأهل بدر، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كان منهم هذه النوعية الفريدة التي تنتظر أن تفي بعهد الله، وقد فعلت بفضل الله عز وجل وسارت على الطريق.
قال تعالى: ((وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))؛ وذلك لأن التبديل والتغيير عما كان عليه الإنسان مع ربه عز وجل يقتضي نكوساً ورجوعاً عن الحق، ويقتضي تفريطاً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ((مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))، وذلك أن التبديل مردود وهم مقبولون عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين، وأن لا يردنا خائبين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(26/4)
تقدير المكروه ليحصل المحبوب
الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: قال الله عز وجل: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)).
هذا التعليم لما قدره سبحانه وتعالى من مقدم الأحزاب؛ ليظهر صبر من صبر، ونفاق من نافق، وكل ذلك بقضائه وقدره، فقد كان في قدرته أن يصرف الأحزاب قبل أن يأتوا، فلا تجتمع كلمتهم، وأن يفت في عضدهم، ويلقي الرعب في قلوبهم قبل أن يأتوا، لكن قدر سبحانه وتعالى مجيئهم، ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)).
لقد قدر الله عز وجل وجود المكروه؛ ليحصل المحبوب الأعظم الذي يحبه الله عز وجل ولا يحصل إلا بمقابلته بضده، فذلك الذي من أجله قدر الله سبحانه وتعالى أن يأتي الأحزاب، وأن يغدر اليهود، وأن تجتمع كلمة الكفرة والمنافقين وأهل الكتاب مع بعضهم على أهل الإسلام، وأن يظن المسلمون بالله الظنون، قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]؛ فتقدير كل هذا لأجل أن يظهر الصدق الحقيقي في أحوال القلوب، وفي ثقتها بالله عز وجل، وفي حبها ومتابعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خوفها من الله عز وجل دون من سواه، وفي اليقين بوعده رغم انعدام الأسباب، أو رغم أن الأسباب تأتي في الاتجاه المعاكس، والبوادر والأسباب الظاهرة تقول: إن الإسلام قد حوصر، وإنه يوشك أن ينتهي، وإن المعركة محسومة لصالح الكفرة والمنافقين.
وهنا يظهر الصدق في اليقين بوعد الله عز وجل والصدق مع الله عز وجل في الثبات؛ فإن رأيت كل دنيا المسلمين مدبرة، توقن بأن نصر الله آت ووعد الله متحقق، وما دام المؤمن عنده إيمان فلابد أن يرى ذلك، وأن يصدق مع الله في أحواله كما صدق في أعماله وأقواله، ليجزيه الله بصدقه، وأبهم الجزاء ليتسع الذهن الإنساني لأوسع العطاء، فقال: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ))، فلم يذكر ماذا يجزيهم، وهو تعالى سيجزيهم ما لم يخطر ببال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(26/5)
فضل الله في فتح باب التوبة للكفار والمنافقين
قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ)) قدر الله أن يقع منهم النفاق ليعذبهم عدلاً منه عز وجل؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وهو الذي أراد ذلك وقدره، لكنه سبحانه لا يعاقب عبداً إلا بما صنع، ليعذب به، قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ)) أي: على نفاقهم، وفتح لهم باب المغفرة إن تابوا فقال: ((أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) فهذا الكرم من الله عز وجل؛ لأنه ليس كلهم خالص النفاق كما كان ابن أبي ابن سلول، وإنما كان منهم من وقع في النفاق لاختلاطه بأهل النفاق، وكان منهم من فيه نفاق أصغر، فكان فتح باب التوبة.
وحتى من أشرك بالله عز وجل ونافق النفاق الأكبر فإن الله عز وجل لم يغلق باب التوبة دونه، ويقبله إن أخلص دينه لله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]، فلا تستبعد توبة أحد، فالله عز وجل قد رغب الذين شتموه عز وجل وسبوه، وادعوا له الصاحبة والولد في التوبة، كما قال سبحانه وتعالى عن النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فالله عز وجل دعا من أشرك به إلى التوبة، ودعا من سبه إلى التوبة كذلك، قال الله عز وجل عنهم في الحديث القدسي: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) ومع هذا دعاهم إلى التوبة فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75] فدعاهم سبحانه وتعالى إلى التوبة رغم كفرهم وشركهم بالله.
وكذلك دعا من قتلوا أولياءه واضطهدوهم وعذبوهم وألقوهم في النيران إلى التوبة، فقال عز وجل عن أصحاب الأخدود: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
فباب التوبة مفتوح حتى يغرغر العبد، وهو مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، مفتوح ما لم ينزل البأس والعذاب، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]، وقال الله عز وجل: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)).
قال تعالى: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) لقد كان هذا من آيات الله عز وجل العظيمة، فقد رد الله الذين كفروا ولم يفعل المؤمنون شيئاً، وإنما رد الكفار بغيظهم في قلوبهم، فلم ينالوا خيراً حين أرادوا بالمسلمين شراً؛ فكل من أراد بالإسلام والمسلمين شراً فلا ينال خيراً، وهذه حقيقة مؤكدة فلا يقصد أحد مؤمناً السوء إلا رده الله عز وجل ولم ينل خيراً، وإن تصور أنه سوف يحصل على الخير فلن يحصل إلا على السوء الشر جزاء وفاقاً.
ثم ختم الله الآية بقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا))، فمن الذي يرد عشرة آلاف؟ ليس في قدرة المسلمين أن يردوهم، لا بسلاحٍ ولا بحسن ترتيب، فالأمر ليس إلا مقتضى أسمائه وصفاته عز وجل، فهو الذي هزم الأحزاب وحده، ورجع المشركون خائبين يجرون أذيال الخيبة؛ وهذا مما يسعد القلب ويفرحه عبر العصور، وهذه أيام الله التي أمر أنبياءه أن يذكروا الناس بها، كما قال في شأن موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5] فيوم الأحزاب من أيام الله عز وجل، التي يعالج المؤمن بها حزن قلبه وغم نفسه مما يصيب المسلمين، من نكبات ومحن فيتذكر أن المسلمين قد مروا بلحظات أشد منها.(26/6)
حفظ الله دينه بنا أو بغيرنا
إننا نقطع ونجزم أن هزيمة المسلمين في قطر من الأقطار لن يترتب عليها زوال الإسلام، ولو أبيد المسلمون عن آخرهم، لما كان في ذلك زوال الإسلام؛ وذلك لأنه بفضل الله قد انتشر، ثم إنه قد مرت بالمسلمين لحظات أشد بكثير مما تمر به الأمة الآن ولم ينته الإسلام.
لقد كانت هزيمة الأحزاب من فضل الله ونعمته علينا، كما أنعم على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بنعمته وفضله؛ لأن هزيمة الأحزاب سببٌ في إسلامنا، وفي وصول النور إلينا، وكانت أيضاً سبباً من أسباب حسن الظن بالله عبر العصور، ونحن نتضرع إلى الله ونتوسل إليه بهذا الدعاء: (وهزم الأحزاب وحده)، كما كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم متوسلاً إلى الله بذلك في كل موطن يواجه فيه العدو؛ فيدعو ويستنصر هازم الأحزاب سبحانه وتعالى.
والله عز وجل جعل لحظات أشد من هذه اللحظات تمر على المسلمين وما ضيعهم، فعندما تتذكر أيام الله وتلحظ بقلبك رجوع أبي سفيان وقريش وغطفان وخذلان اليهود -الذي يسر القلوب، ويفرح الله به المؤمنين عبر العصور- بما وقع في بني قريظة، فعندما تتصور ذلك وتستحضره يزول الهم والغم، وهذا من أعظم الأسباب في كون القرآن العظيم نور القلب وربيع الصدر؛ والله عز وجل يزيل الغموم بالكتاب العزيز، فيرشد الإنسان إلى مقتضى أسماء الله وصفاته وقوته وعزته، وهو لا يغالب ولا يمانع؛ لأنه الغالب على أمره القوي العزيز سبحانه وتعالى، الذي لا يقف لقوته شيء؛ ولو تدبر العبد ذلك لأيقن ضعف العباد جميعاً وفقرهم وذلهم، فكل عز في مقابلة عزة الله عز وجل ذل، وكل قوة بالنظر والنسبة إلى قوة الله عز وجل ضعف وعجز، وكل غنى فقر وعدم بالنسبة إلى غنى الرب سبحانه وتعالى، والله عز وجل جعل الدنيا في الآخرة كنقطة من بحر، وهي كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع؟! فكيف بصفات الرب سبحانه وتعالى إذا قورنت صفة البشر بها، وكذلك الحال إذا قارنا الدنيا بالآخرة.
فإذا استحضرت أن الله هو القوي العزيز، فما يصنع الأعداء؟ فالله تعالى كما وصف نفسه (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن).
نسأل الله أن يثبتنا على الهدى، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، اللهم اعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم دمر اليهود والنصارى والمنافقين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، واهدنا سبل السلام، واجعلنا هداة مهتدين، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.(26/7)
رمضان والنصر على النفس
لقد كرم الله الإنسان، وجعل له جسماً وروحاً، وأمره بعبادته وطاعته، وكما أن للجسم غذاءً مما أنبته الله في أرضه، فللروحِ كذلك غذاء، ومصدره كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا تحققت العبودية منه فقد ارتفع عن صفات البهيمية، وإلا فإنه سيكون في أسفل سافلين؛ لذا كان شهر رمضان محطة لنقاء القلب وصفائه، ومراجعة النفس، والإكثار من قراءة القرآن، ومن الصلاة والخشوع فيها، وبهذا يتحقق النصر على النفس بحيث ينتج الانتصار عليها النصر على الأعداء.(27/1)
تكريم الله للإنسان والحكمة من خلقه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فلقد كرم الله عز وجل الإنسان أعظم تكريم، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه كرَّم بني آدم، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فكرمه الله سبحانه وتعالى إذ جعله مخلوقاً لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وبهذا ترتفع نفسه وتسمو عن صفات البهيمية، وإلا فإنه يكون في أسفل سافلين، كما قال عز وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1 - 6].
فأقسم الله سبحانه وتعالى بالأماكن التي نزل فيها وحيه على الرسل إلى بني البشر؛ لكي يتمم الله عز وجل عليهم نعمته بتقويم نفوسهم وقلوبهم، كما قوم ظواهرهم وأبدانهم فقد خلقهم الله عز وجل في أحسن تقويم، ولا بد أن يكتمل هذا التقويم بتحسين بواطنهم، فأنزل الله عز وجل كتبه في هذه الأماكن الثلاثة: في بيت المقدس الذي يزرع فيه التين والزيتون، وفي طور سينين عندما أنزل الله عز وجل التوراة على موسى، وفي مكة البلد الأمين حين أنزل الله عز وجل القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من لم ينتبه ويلتفت إلى ما جاءت به الرسالات رد إلى أسفل سافلين في بدنه وروحه وقلبه، في بدنه حين يهرم ويكبر، ثم بعد ذلك يصبح جيفة منتنة والعياذ بالله، وأما القلوب فما أكثر ما تموت قبل الأبدان، تموت حين لا تعرف ربها ولا تتوجه إليه ولا تحبه ولا تخضع له ولا تستسلم ولا تنقاد ولا تطيع، فتموت وتتعفن ويخرج منها النتن والخبث والعياذ بالله، إلا أن يحييها الله سبحانه وتعالى، والإنسان حين ننظر إليه بهذه القيمة الغالية العالية الرفيعة يكوِّن ثروة يغير بها الحياة على وجه الأرض، يغير صورتها وكيفيتها، وأما إذا نظرنا إليه كما ينظر إليه أعداء البشر، كآكلة استهلاكية يأكل ويشرب، وليس متطلباته إلا الطعام والشراب واللباس فإنه يصبح عبئاً، وتصبح كثرة البشر مصيبة، إذ يتحول الإنسان إلى أسوأ من البهيمة، إنهم يتعاملون مع البشر على أنهم كالبهائم والعياذ بالله، وبالتالي لا بد من تنقيصهم، والإنسان إنما يصبح أهلاً حين ينتسب إلى آدم عليه السلام الذي كرمه الله عز وجل، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وعندما يحقق العبودية لله سبحانه، وعندما يتخلص من أسر الشهوات، وكأنه ولادة جديدة، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي قراءة أبي وهي قراءة تفسيرية: ((وهو أب لهم)) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهات للمؤمنين، وإنما كان أباً لهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بنبوته ولدت قلوبهم وخرجت أرواحهم من ظلمات الجهل والظلم والشهوات والغي والفساد إلى نور الإيمان والمعرفة والتوحيد، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].(27/2)
الحكمة من مشروعية الصيام
لقد كان الصيام فرصة عظيمة للارتفاع والسمو والإصلاح الداخلي الذي نحتاج إليه أعظم احتياج؛ لأنه لا غنى لنا عنه، وإلا صرنا في مصاف البهائم نرتع كما ترتع، وإنما شرع الله عز وجل الصيام لتحقيق التقوى، ولنتحكم في أنفسنا؛ لكيلا يكون الإنسان عبداً لشهواته، بحيث تتحكم فيه الشهوات، ويصبح هو الذي يتبعها، ويتبع الهوى، ومن اتبع الهوى كان أمره فرطاً، قال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وأنت في هذا الشهر الكريم تذكر الله سبحانه وتعالى، وقد فتحت لك أبواب الطاعات وأبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وأُعنْتَ بتصفيد الشياطين، وأعنت بتوفيق الله عز وجل بمناد ينادي: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وفي كل يوم من أيام هذا الشهر الكريم المبارك أعنت على هواك حتى لا تتبعه، وحتى يكون الأمر مستقيماً لا فرطاً، وبترك ذكر الله والغفلة عنه وباتباع الهوى يصبح الأمر فرطاً، نعوذ بالله من ذلك، فهل وعينا ما شرع الله عز وجل لنا؟ وهل حققنا ما شرع لنا؟ وهل بدأت نفوسنا تولد من جديد؟ وهل بدأت تتحرر من أسر شهوات البطن والفرج، والتي تعمي الإنسان وتغلق قلبه عن الفهم، وتجعله لا يرى من الدنيا إلا عبودية هذه الشهوات: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)؟ إن التعاسة التي يعيش فيها أكثر البشر إنما منبعها أنهم ابتعدوا عن البشرية والآدمية، وصاروا يشاركون البهائم في ما هي فيه، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فبالغفلة عن ذكر الله صاروا كالأنعام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فالله سبحانه وتعالى حذرنا من ترك ذكره، وإنما ينسى الإنسان ذكر الله عز وجل إذا استمر على تلك الغفلة وأهمل نفسه، فيصير والعياذ بالله خارجاً عن طاعة الله، خاسراً لدينه ودنياه، تعيساً في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
إن الله عز وجل شرع لنا في هذا الشهر من وسائل التهذيب ووسائل الإصلاح ما تقترب به النفوس الإنسانية من حقيقتها التي وجدت من أجلها، فهذه العبادات إنما شرعت كأوعية يتحصل الإنسان بها الطهارة والنقاء.
إن الإنسان يحتاج إلى غذاءين، الأول غذاء للبدن، ويكفيه منه لقيمات يقمن صلبه، وأنواع الملذات إذا تيسرت فبها ونعمت، وإلا فالإنسان لا يعيش من أجلها، وأما من يشغل فكره بأنواع الأطعمة ويتململ من نوع واحد، ويقول: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) [البقرة:61]، فذهنه مشغول بالفوم والعدس والبصل وأنواع الأطعمة كما تشتهي البهائم، فهذا الإنسان الذي همه في شهوة بطنه وشهوة فرجه، وشهوة العلو والفساد في الأرض، نعوذ بالله من ذلك، دمَّر نفسه وحياته، وقد شرع الله لنا في هذا الشهر الكريم ما تزكو به النفوس وتتحرر، فشرع لنا في أثناء نهار رمضان الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، لكي نتحكم في أنفسنا، وشرع لنا في ليل رمضان أن نتناول ما نحتاج إليه من طعام وشراب.
الثاني: غذاء للروح والقلب، غذاء بذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو المقصود الأعظم من العبادات، كما قال عز وجل عن خير عبادة وهي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
فذكر الله في الصلاة أعظم وأكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فالصلاة تذهب السيئات، إذ أنها تقرب الإنسان من الله، وهي ذكرى للذاكرين، فإذا حصلت هذه التغذية للقلب نما وتطهر من أدران وأمراض الخبث والفساد الذي يحل فيه، وكلما استسلم للشهوات صارت إراداته كإرادة البهائم.
إذاً: لا بد لنا من هذا الغذاء الآخر، غذاء الروح والقلب، وذلك يكون بذكر الله سبحانه وتعالى.(27/3)
أهمية الإخلاص والخشوع في العبادات
إن العبادات كلها كالأوعية التي تقف بها على باب الكريم، حتى يفيض فيها عليك من نعمته وفضله، ومن عطائه وجوده، فيفيض على قلبك من أنواع الحب والخوف والرجاء والإنابة والشوق إليه سبحانه وتعالى، وإلا فلا تغني عنك العبادات شيئاً، وإذا لم ينل قلبك نصيباً منها صارت العبادات حركات تريد أن تنتهي منها، وصارت الصلاة طويلة، وصار الصيام مشقة وصعباً، وصار الحج مفارقة للوطن والأهل، ونفقة وغرماً على صاحبها، وتعباً في أماكن ليست مهيأة للنزول، ونوماً على التراب أو وقوفاً في الجبال أو نحو ذلك، وصارت الزكاة مغرماً ينقص المال بسببها، فإذا لم تع ما في هذه العبادات -مما شرع الله عز وجل- من أنواع التغذية الباطنة للقلب، ومن أنواع العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى، فلن تحصل على هذه العبودية القلبية إلا إذا أتيت بالوعاء، فكثير من الناس قد يظن أنه يمكن أن يحصل له غذاء لقلبه وحياة لروحه بدون العبادة، وليس ذلك ممكناً، بل لا بد أن تأتي بالوعاء وتقف على الباب وتدقَّه، وتطلب وتتذلل وتتضرع إلى أن يفتح الباب فيفيض الله عز وجل عليك من نعمه.(27/4)
مجاهدة النفس والانتصار عليها طريق للانتصار على الأعداء
قال بعض الصالحين: جاهدت نفسي على قيام الليل سنة، واستمتعت به عشرين سنة.
فجهاد النفس لن يطول بإذن الله تعالى، وإنما هو يسير؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
لا بد أن ننتصر على أنفسنا، لا بد من هذا الانتصار الداخلي حتى يتحقق الانتصار الخارجي، ولذا كان شهر رمضان عند أهل الإيمان شهر الانتصارات، وشهر تحقيق أعظم الفتوحات بفضل الله سبحانه وتعالى، ففي يوم السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر التي انتصر فيها الإسلام ودحر الشرك والكفران، وعُبِدَ الله سبحانه وتعالى في الأرض بها إلى يوم القيامة، وكان هذا بفضله سبحانه وتعالى على أهل الإيمان.
وفي رمضان كان فتح مكة البلد الأمين الذي جعله الله سبحانه وتعالى خير موضع على وجه الأرض، وانتشرت منه دعوة التوحيد إلى أقطار الأرض، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ويئس الكفار من إزالة دين الإسلام من على وجه الأرض، وإنما غاية ما وصلوا إليه: تحجيمه أو تقليله أو صرف الناس عن حقيقته، أما أن يزال فلقد قال عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ولم تزل انتصارات المسلمين في رمضان تتابع بفضل الله سبحانه؛ لأن الإنسان إذا انتصر على نفسه انتصر على عدوه، وإنما يهزمه العدو إذا كان قد انهزم من الداخل؛ لأن هناك تحالفاً بين الشيطان وبين الكفار بمللهم المختلفة، فهم متعاونون على الكفر والفساد في الأرض، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، نعوذ بالله من شرهم، فإنما ينتصرون علينا بذنوبنا، ولذا كان من أهم ما يدفع به المسلمون عن أنفسهم تسلط الأعداء الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:147 - 148]، وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:4 - 5].
فبمغفرة الله تدفع الفتنة، وبالاستغفار يدفع ضرر الأعداء وأذى الظالمين وتسلط المجرمين، فيهم إنما تسلطوا علينا بذنوبنا، فهل من فرصة أوسع من هذا الشهر الكريم لاستجلاب الخيرات، ودفع المضرات، وكشف الكربات عنَّا وعن إخواننا المسلمين في كل مكان، لا بد أن نجتهد أعظم اجتهاد في تحصيل هذا الصلاح الداخلي والخارجي حتى يتحقق النصر على الأعداء بإذن الله تبارك وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(27/5)
أهمية تدبر القرآن في شهر رمضان وغيره
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، وقال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].
فالله سبحانه وتعالى جعل القرآن حياة للقلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وجعل القرآن إذا مر بالقلب كالمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]، وجعل القرآن وخصوصاً في هذا الشهر الكريم سبباً لإيقاظ الهمم والإرادات، وإحياء القلوب بهذه العبادات العظيمة إذا تدبرت القرآن، فلا يكن هم أحدكم آخر السورة، كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وعندما قال له رجل: (قرأت المفصل في ركعة، أو قرأت المفصل في ليلة، فقال له: هذاً كهذ الشعر، إني لأعلم النظائر التي كان يقرن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سورتين في كل ركعة، عشرين سورة في عشر ركعات)، فلم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في كل الليالي يكثر القراءة جداً، كما قد يهتم الكثير منا بذلك، وإنما كان يهتم صلى الله عليه وسلم وينشغل بتدبر آيات القرآن، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه قام ليلة كاملة بآية واحدة، وهي قوله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فكان يقرؤها ويبكي ويتضرع لربه عز وجل، ويقول: يا رب أمتي أمتي).
وقام بعض الصحابة رضي الله عنه ليلة بقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
فالذي ينبغي عليك أيها المسلم ألا تهتم فقط بالختمة، وإنما تهتم بأن تقف عند الآيات، تقف بقلبك فتتدبر وتتعظ بمواعظ القرآن، وتتغير من داخلك بها، وتسموا بأخلاقك بها، فإذا فسدت الأخلاق فسدت علينا حياتنا، وكثرت مشاكلنا ونزاعاتنا، وكَثُر الحقد والحسد والغل والتنافس على الدنيا، ويكثر الفساد في الأرض بسبب سوء الخلق ونقص الإيمان أو انعدامه بالكلية، فهناك ارتباط وثيق بين الإيمان وبين السلوك، وبين الإيمان وبين القرآن وتدبره.(27/6)
تدبر القرآن يورث الخشوع في القلب
تخشع القلوب إذا تدبرت كتاب الله عز وجل، وكما قال عثمان رضي الله عنه: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله)، فعندما تكون القراءة طويلة في الصلاة وتقول: متى يركع؟ ومتى تنتهي هذه الصلاة؟ فتحس بسعادة غامرة عند انتهاء الصلاة، فإن كانت سعادتك بسبب إتمام النعم عليك، فهذا من فضل الله عز وجل، وإن كانت سعادتك لأنك انتهيت مما ألزمت به نفسك، وأنت بعد لم تحصل على قرة العين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأنت تحتاج إلى مراجعة.
فليس المقصود هو مجرد الوقوف: (فرب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، نعوذ بالله من ذلك.
فنحتاج إلى أن تخشع قلوبنا، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، فتأمل هذا الاقتران جيداً، فإننا لا نجد أنفسنا في الصلاة، ولا تفتح القلوب ولا تفتح الأبواب بكثرة الانشغال باللغو، وبتضييع العمر فيما لا ينفع.(27/7)
أسباب انغلاق القلوب وفسادها
إنما تغلق القلوب وتسد بالمشاركة في اللغو والباطل والمنكرات الفظيعة، فوالله لو كان المشي في الطرقات فقط لكفى به سبباً لإغلاق القلوب، فكيف والناس يطلبون أنواع المنكرات طلباً! وذلك بالجلوس أمام وسائل الإفساد والعياذ بالله، من قبل الإفطار وبعده وهم ينظرون إلى العورات المكشوفة، ويسمعون المعازف المحرمة، وينظرون إلى إعلانات خبيثة منكرة، وهذه الإعلانات تعلن كيف يصبح الإنسان بهيمة، ليس همه إلا الطعام والشراب واللباس وفخامة المسكن، ورفاهية السيارة ووسائل الحياة المترفة، ويروجون لحياة الغرب والشرق والعياذ بالله، بعيداً عن حياة الإيمان والإسلام والإحسان، بعيداً عن معرفة الرحمن سبحانه وتعالى، ومعرفة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما يقضي الإنسان وقته فقط في النظر إلى هذه الوسائل المفسدة للقلوب والأبدان، فضلاً عما تتضمنه من حث على المنكرات، ومن أنواع الشهوات المختلفة، فضلاً عن أنواع الجلوس على المقاهي، وشرب الدخان المحرم بأنواعه المختلفة، والجلوس مع شياطين الإنس حول الغيبة والنميمة والكذب والسخرية من الناس، ويعجب الإنسان في هذا الشهر الكريم حين يمر بالمقاهي فيجدها ممتلئة عن آخرها، ماذا يصنع الناس فيها؟ يدخنون الشيشة بعد الإفطار، وبعضهم والعياذ بالله يفطرون في نهار رمضان، ولا يدركون الثروة الهائلة التي سرقت منهم، ولا يدركون الجرم الفظيع الذي ارتكبوه، ولو صاموا الدهر كله ما حصلوا ثواب صوم يوم من رمضان تركوه عمداً والعياذ بالله، احترقوا وهلكوا، ماذا يصنعون؟ يلعبون الطاولة والدمن والعياذ بالله، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه).
ما بال الناس يكثرون الخوض في لحوم الخنازير وشحومها ودمائها النجسة الخبيثة؟ وكذلك مثلها: اللعب بأوراق الكتشينة وغيرها، فضلاً عن غير ذلك من أنواع المحرمات الأخرى التي لا تزال تنتشر في أوساط الشباب من المخدرات والمسكرات، وأنواع الشهوات المحرمة، وهذه أماكنها معدة ومهيأة.(27/8)
أسباب تسلط الكفرة والظلمة والمنافقين على المسلمين
إن الناس لم يستشعروا ما بأيديهم من كنوز أنواع الخيرات المختلفة، فكيف إذاً ننتصر على الأعداء؟! وكيف نتحرر من سلطانهم وشبابنا ورجالنا ونساؤنا غرقى في هذه المحرمات؟! وكيف نتخلص من تسلط الكفرة والظلمة والمنافقين؟! وكيف يُولى علينا خيارنا بدلاً من شرارنا؟! لا يحصل ذلك إلا إذا تخلصنا من هذه المنكرات، والله سبحانه وتعالى يولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، وإنما يتسلط علينا أعداؤنا كما ذكرنا بذنوبنا، وأمة الإسلام تمر بمرحلة حساسة خطيرة جداً، فقد تجمع أهل الأرض كلهم على دينها، وأرادوا صرفها عنه، وإن تدثروا بدثار الحضارة والمدنية، وهذا أمر لا يشك فيه عاقل، بل يظهرون عداوتهم ويعلنون الحرب على الإسلام، واتهام المسلمين بأنواع التهم علانية صريحة، فماذا ننتظر عباد الله؟(27/9)
أهمية الدعاء ومدى ارتباطه بشهر رمضان وبالنصر على الأعداء
إن شهر رمضان فرصة عظيمة للدعاء والتضرع، قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] , وهذه الآية في وسط آيات الصيام؛ لتعلم أن الأمور تتحدد في المحاريب، وأن تغيير الحياة على وجه الأرض يتحدد وتعطى وتوهب ويمن عليك وأنت في المحراب: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]، فقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم النصر في غزوة بدر في الليلة السابقة منها وفي يومها قبل أن تبدأ المعركة، وذلك عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي طوال الليل، وقد نام الصحابة استعداداً للمعركة، كما يروي علي رضي الله عنه قال: (ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يصلي ويبكي، ويتضرع إلى الله عز وجل).
ومن شدة دعائه واستغاثته يشفق عليه صاحبه الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ويلتزمه من خلفه، ويضع رداءه الذي سقط عنه من شدة رفع يديه في الدعاء، وكان ذلك في يوم بدر في السابع عشر من رمضان، يقول: (يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن ربك منجز لك ما وعدك) وهكذا أُعطيَ النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم النصر في غزوة الأحزاب، وذلك بانصراف الأحزاب عن المدينة وهزيمتهم هزيمة منكرة بفضل الله سبحانه وتعالى، ففي ليلة الأحزاب قبل أن ينصرفوا، قام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟)، فلم يجبه أحد، فيتركهم ويصلي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يأمر حذيفة ليأتيه بالخبر، ويعود حذيفة بالخبر السار المفرح برحيل الأحزاب، وأن الله فعل بهم ما فعل من زلزلتهم وهزيمتهم حين ألقى الرعب في قلوبهم فانصرفوا.
كذلك عندما أُعدت مريم عليها السلام لتحمل هذه المهمة الثقيلة الشديدة بأن تلد المسيح عليه السلام من غير أب، قيل لها أولاً: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]، وبعد أن عرفت فضل الله عز وجل عليها، قيل لها: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]، فيا أهل الإسلام! قد اصطفاكم الله على الأمم، ومن عليكم بالقرآن العظيم، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين، واقنتوا لربكم واسجدوا واركعوا مع الراكعين، وقوموا الليل إلا قليلاً، ورتلوا القرآن ترتيلاً، واذكروا الله ذكراً كثيراً، وتضرعوا إلى الله عز وجل، من منا من شدة دعائه وكثرته يقول له صاحبه: كفاك مناشدتك ربك، فقد وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء عباده المؤمنين، فقال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أندرك حجم الأزمة التي نحن فيها حتى يكون دعاؤنا مناسباً لهذه الأزمة؟! أندرك قدر المصيبة التي نزلت بالمسلمين حتى يكون دعاؤنا في هذا الشهر مفتاحاً لأبواب الخيرات ومغلاقاً لأبواب السيئات، ونكون على قدر المسئولية؟! هل ندري كم من المسلمين يتألم في المشارق والمغارب؟! هناك من يتألم لفقد حبيب، أو أسر قريب، أو يتألم لضياع مسكن وهدمه، أو يتألم من جراح أصابته، أو يتألم مما أصاب أمته، أو عرضه وأهله، أو وطنه، أو يتألم لما أصاب أرض المسلمين في المشارق والمغارب، وما أصابهم في حرماتهم التي انتهكت وثرواتهم التي نهبت وبلادهم التي احتلت، كم قدر المصيبة التي نحن فيها؟! هل يتناسب دعاؤنا واجتهادنا مع ذلك، أم أننا ما زال دعاؤنا على الطعام والشراب، وعلى إصلاح أحوال التجارة والأموال، وعلى نجاح الأولاد في الامتحانات، وعلى كذا وكذا من أمور الدنيا؟! هل نفوسنا ارتفعت عن ذلك، أم أننا ما زلنا نعيش في الحضيض؟! نسأل الله عز وجل العافية.
نريد أن نرتفع عباد الله في هذا الشهر، فهو شهر الارتفاع وشهر القيام لا الرقاد، وشهر سمو الروح بولادتها من جديد على يد نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم.
نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم الكافرين وانصرنا عليهم.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
اللهم انشر لنا من رحمتك وهيئ لنا من أمرنا مرفقاً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له، واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
ربنا امكر لنا ولا تمكر علينا، ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/10)
صفات جيل النصر المنشود
نرى جلياً صفات جيل النصر المنشود مذكورة في سورة الحشر، صفات الصحابة من المهاجرين والأنصار، السابقين إلى الله ورسوله، الذين قام الإسلام على أكتافهم، ونقلوا السنة والقرآن إلينا غظان طريان كما أنزلا، وأتوا بالإسلام إلينا على طبق من ذهب، فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، بهم استنارت قلعة الدين، وابتهجت طائفة المؤمنين، وزلزل الكفار، ودحر الأشرار.
فصبرهم على الجوع والعطش وإيثارهم وحب بعضهم بعضاً، وتضحيتهم بالمال والنفس والولد لإعلاء كلمة الله غير خاف على أحد، فلابد أن نعرف واجبنا نحوهم، أما من طعن فيهم من الشيعة والرافضة وغيرهم، فما لهم عند الله من خلاق.(28/1)
أهمية الحديث عن صفات جيل النصر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فكلما اشتد الصراع بين الحق والباطل تضرع المؤمنون إلى الله سبحانه وتعالى يدعونه عز وجل أن ينصرهم، وأن يعلي الحق، ويظهر دينه بهم، فلزمهم أن يبحثوا في أنفسهم عن الصفات التي يجب أن يتصفوا بها؛ لكي يحقق الله سبحانه وتعالى وعده لهم، فإنما جعل سبحانه وتعالى وعده مشروطاً باتصافهم بصفات معينة، وليس وعداً مطلقاً لكل متسم باسم الإسلام أو الإيمان، أو لكل منتسب إلى الدعوة والدين والجهاد، ولكن ذلك لمن شابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار منهم وإن لم يلحق بهم، قال الله عز وجل: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]؛ فهم منهم؛ لأنهم على طريقتهم، ولهم بعضاً من صفات الصحابة رضي الله عنهم، ذلك الجيل الفريد، جيل النصر الذي مكن الله عز وجل به لدينه، والذي جعله سبباً لانتصار الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن الله سبحانه وتعالى إذا اختار قوماً لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة أول مجتمع مسلم في الأرض؛ فإنهم لابد أن يكونوا خير الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وقال الله عز وجل مادحاً إياهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى قبل وجودهم بقرون وأجيال، وربما بمئات أو آلاف السنين، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
وقال عز وجل في خطابه لموسى عليه السلام قبل وجود عدة أجداد من أجداد أجداد أجداد الصحابة، فقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].
نحتاج دائماً إلى أن نعرض أنفسنا على هذه الآيات؛ لأن المواجهة الحالية التي بين الإسلام وبين قوى الكفر المتحزبة المجتمعة على الصد عن سبيل الله، وصرف الناس عن دين الله؛ لا يمكن أن تنتصر إلا بمن كانت صفتهم وأحوالهم قريبة من صفات الصحابة رضي الله عنهم، وذلك أن ظهور الإسلام في مواجهة هذه القوى الكافرة كلها من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين لا يمكن أن يكون بدون الوصول إلى حقيقة العبودية والإيمان والعمل الصالح الذي وعد الله عز وجل أهله بالاستخلاف في الأرض، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
ولذلك فإننا لا نشك لحظة واحدة في أن النصر المنشود الذي يتطلع إليه المسلمون، وهو نصر يريدونه حاسماً، وعودة للإسلام على خلافة راشدة على منهاج النبوة، لا نشك أن ذلك النصر يمكن أن يحدث على أيدي من يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغضونهم، فضلاً عمن يكفرهم ويلعنهم، ونعوذ بالله من سوء حالهم.
لذلك أتوقف لحظات مع صفات جليلة وصف الله عز وجل بها المهاجرين والأنصار؛ لنزن أنفسنا بها، وننظر ما نصيب كل واحد منا من هذه الصفات، فإن الله ذكرهم بصفاتهم؛ لكي يعلم أن الاقتداء بهم في هذه الصفات هو الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وهو الذي شرعه.(28/2)
الفيء تعريفه وصفات أصحابه
ذكر الله تعالى في الآيات التي من سورة الحشر لمن يكون الفيء، والفيء: هو المال المأخوذ من الكفار بغير قتال، وسمي فيئاً؛ لأن أصل هذا المال خلقه الله عز وجل ليستعين به الناس على العبودية لله سبحانه وتعالى، فلما استغله الكفار في معصية الله والكفر به، والشرك به، أخذه الله عز وجل منهم ورده إلى المسلمين وأفاءه عليهم، فإن المال مال الله يعطيه سبحانه وتعالى لمن يشاء، وهو يبتلي العباد بهذا المال وبغيره من أمور الدنيا ليمتحنهم فيها، فنزع الله عز وجل ذلك المال من الكفار وأفاءه على المسلمين، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينفقه في الوجوه التي أمره عز وجل أن ينفقه فيها، فكانت هذه الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مبينة لمن يعيد الله سبحانه وتعالى هذا المال إليه، لمن يفيء الله عز وجل الأمر إليه، ولذلك نرى فيها تبشيراً لمن شابههم في صفتهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) نرى فيها تبشيراً بأن يفيء الله سبحانه وتعالى على من تشبه بهؤلاء الصحابة مثل ما أفاء عليهم، وأن ينصرهم كما نصرهم، وأن يؤيد من كان على طريقتهم كما أيدهم، وإن كنا بالتأكيد نجزم بأن أحداً لا يلحق بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فهم سادة الأمة، وهم أساس البناء، والذين تحملوا فترات الإحراق، والتي كانوا فيها يمثلون الإسلام على وجه الأرض كلها، كان أحدهم ربما يكون سبع الإسلام، أو ثمنه مدة من الزمن؛ فكان الواحد منهم يمثل جزءاً كبيراً من الدين رضي الله تعالى عنهم.
نحن نعلم فضل الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، ونعلم فضل حبهم ومتابعتهم، وأن أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ثم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وكذلك يشهدون بالفضل لأهل بيعة العقبة رضي الله تعالى عنهم، ويعرفون فضل {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، وأصح الأقوال في هذا الفتح: أنه صلح الحديبية، فمن أسلم وهاجر وجاهد ونصر الدين قبل صلح الحديبية أعظم درجة من الذي أسلم وهاجر ونصر الدين بعد صلح الحديبية الذي سماه الله فتحاً.
ويعتقد أهل السنة: أن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ويعتقدون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إن شاء الله).
وهم يعرفون فضل المهاجرين، ويقدمونهم على الأنصار كما قدمهم ربهم سبحانه وتعالى في كل المواطن التي ذكر فيها المهاجرين والأنصار، فهم أساس البناء الذي تحمل فترات الشدة، التي كان الإسلام فيها مضطهداً في الأرض كلها، فرضي الله تعالى عنهم.(28/3)
تحمل عنا الفقر والهجرة من أجل الله عز وجل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10].
أول وصف وصف الله عز وجل، من يستحقون الفيء: أن يكونوا من الفقراء المهاجرين، فقال: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) فالفقراء المهاجرون رضي الله تعالى عنهم تحملوا في سبيل الله سبحانه وتعالى الفقر، فقد كانوا قبل ذلك فيهم من له المال والعشيرة والوجاهة والوطن والدار والتجارة الرابحة، ثم تركوا ذلك لله سبحانه وتعالى، وتحملوا أن ينتقلوا إلى دار غريبة عليهم، صارت بعد ذلك أحب إليهم؛ لأنهم تركوا من أجلها وطنهم وأرضهم وديارهم وأهليهم.
فالله سبحانه وتعالى ذكر تضحيتهم في سبيله عز وجل، وتحملهم مشاق قلة المال، والبعد عن الوطن، والأهل والعشيرة، ولا شك أن الإنسان يكون مستريحاً أكثر في المسكن الذي يرتضيه، والذي نشأ فيه، وفي البلد الذي يحب أن يعيش فيه، خصوصاً إذا كان أحب بلاد الله إلى الله، وجعله الله عز وجل محبوباً إلى قلوب عباده المؤمنين، وهي: مكة المكرمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).
فلينظر كل منا إلى هذا الأمر، واستعداده للتضحية من أجله، فهؤلاء تحملوا الفقر في سبيل الله عز وجل، والغربة عن المساكن التي تركوها لله عز وجل وجهاداً في سبيله، كما قال سبحانه وتعالى في وجوب تقديم حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].(28/4)
سبب تحمل الجوع والفقر
كان المهاجرون رضي الله عنهم، ممن قدم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الثمانية: الآباء والأبناء، والعشيرة والأهل والأزواج، والأموال المكتسبة، والتجارة التي يخشى كسادها، والمساكن المرضية، كل هذا ضحوا به في سبيل الله عز وجل، وكان فقرهم الذي حصل لهم إنما كان بعدما كانوا فيه من سعة من المال والرزق، وما كانوا فيه من المنزلة؛ فإن قريشاً كانت لها المنزلة الرفيعة عند العرب جميعاً، وكانوا رضوان الله عليهم بما صنعوا يمثلون قدوة في التحمل والصبر والثبات على الدين رغم المشاق، وكان من شأنهم ما ذكره أهل السير والحديث، من جوعهم؟ وزهدهم في الدنيا؟ وصلابة تحملهم للمشاق في سبيل الله؟ يحكي ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بجماعة من أصحابه يعودون سعد بن عبادة رضي الله عنه، وليس عليهم نعال ولا خفاف ولا عمائم ولا قلانس إلا الأزر رضي الله تعالى عنهم! خرجوا حفاة ليس معهم نعل ولا خف، ولا قلنسوة ولا عمامة، رضي الله تعالى عنهم، ليس معهم إلا الأزر.
وكذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أميراً على سرية فيها ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وماذا كان زادهم الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ زودهم بجراب من تمر، نصيب كل واحداً منهم في اليوم تمرة، نام واحداً منهم عن تمرته فما استطاع أن ينهض؛ لأنه كان عاجزاً عن النهوض؛ حتى شهد له أصحابه عند الأمير أبي عبيدة بأنه لم يأخذ تمرته، فلما شهدوا له بذلك قيل له: تعال خذ تمرتك، فانطلق لكي يأخذ التمرة رضي الله عنه، كأنما أفاق من الغشيان والإغماء الذي أصابه، كانوا يمصون التمرة والنواة ويجعلون عليه من الماء حتى نفد هذا الجراب من التمر، وجاعوا جوعاً شديداً، حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فأكلوه في البداية متأولين أنهم مضطرون لأجل الجهاد، حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن هذا رزق ساقه الله إليهم، وأكل من لحمه؛ لأنه من صيد البحر الذي أحل الله عز وجل ميتته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه حجرين من الجوع، وكان الصحابة يعصبون على بطونهم حجراً حجراً رضي الله تعالى عنهم.(28/5)
إنفاق الأموال في سبيل الله
أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فمنهم من أنفق ماله كله كـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت لهم الله ورسوله، لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمنَّ الناس علي في نفسه وماله أبو بكر) رضي الله عنه، ويقول: (وكل أحد كافأناه بها إلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يجزيه الله بها يوم القيامة) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر أصحابه بأنه لا يخشى عليهم الفقر، مع أنهم كانوا في شدة الحاجة فيصبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم).
خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقال: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر، فالتقطت بردة فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، قال: ما أصبح كل واحد منا إلا أميراً على مصر من هذه الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً.
رضي الله تعالى عنهم.
انظر كيف كان حالهم؟ ليس لهم طعام إلا ورق الشجر، وتحملوا هذا فعلاً في سبيل الله، وصبروا على الفقر، ولذا يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، رضي الله تعالى عنهم وفي الحديث: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، ربما الواحد منا الآن لا يستطيع أن يتحمل مخالفة عادته في الأكل والشرب أو المنام، انظر ماذا يصنع الناس في الحج وهو لا جهاد فيه ولا شوكة، وأن ينام الإنسان جزءاً من ليلة في مزدلفة مثلاً على غير فراش بالعراء شيء يسير، وتجد أكثر الناس يتركون المنزل ولا يتحملون إلا ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو ساعتين على الأكثر، وقلة هي من تحتمل ذلك إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وكذلك المبيت بمنى مثلاً، فالناس لا يتحملون مخالفة العادة في الأكل والشرب؛ التي تعودوا عليها، فهل نحن فعلاً مستعدون للتضحية بالأموال والأنفس والثمرات، فضلاً عن تحمل الخوف؟!(28/6)
تحمل الصحابة الجوع والخوف وصور جوعهم
قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، إن ذكر الخوف ينبئنا بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شعور ضروري يلازمهم باستمرار الحياة المعتادة، وتحملهم لهذا الشعور في سبيل الله من أعظم ما يثيب الله سبحانه وتعالى عليه.
أكثر الناس من أجل الشعور بالأمان مستعد لأن يضحي بالتزامه وبطاعته لله، وبعمله من أجل الإسلام، بل ربما يضحي بعمله بالإسلام لكي يكون آمناً مطمئناً مع أن هناك خوف أشد، فالمؤمن إنما يسعى للأمان الحقيقي يوم الفزع الأكبر، والله عز وجل ذكر وقوف المؤمنين المطمئن فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]، وقال عز وجل: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، وهذه كلها مشاق، تحملها المهاجرون رضي الله عنهم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد).
ويرخج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من بيوتهم من الجوع، فيجدهم أبا الهيثم بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه؛ لكي يأكلوا عنده وليس عندهم شيء.
النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل فيقول: إني مجهود، أي: أصابني الجهد من شدة الفقر والحاجة، فيرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيوت نسائه واحدة واحدة، وتسع نسوة للنبي عليه الصلاة والسلام كل واحدة منهن تقول: والله ما عندي إلا ماء -ليس في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ماء- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذه الليلة يرحمه الله، فيقول رجل من الأنصار: أنا، رضي الله تعالى عنه، ويذكر أن هذا هو سبب نزول قوله سبحانه: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ))، فانطلق هذا الرجل بهذا الضيف لامرأته وقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، رضي الله تعالى عنهما وعن أولادهما، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، ثم قومي فأطفئي السراج، وأشعريه أنا نأكل، ونبيت ليلتنا طاويين، ففعلت رضي الله تعالى عنها، وهذا والله من الأمر العجيب، أنها تقدم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فقط على نفسها بل حتى على أولادها، والأب والأم يمكنهم أن يقدموا الضيف على أنفسهم، لكن أن يقدم على قوت الصبية من أجل أن يطعم المسكين الفقير المجهود الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو العجب، وانظر إلى ما كان عليه الحال عندهم من الشدة.
وأبو هريرة رضي الله عنه يقسم أنه يسأل عمر رضي الله عنه عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويسأل أبا بكر عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يلحق به، ويجد إناء من لبن أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (ادع لي أهل الصفة)، فيقول: كنت أنا أولى بهذه الشربة لكي أتقوى بها، والآن إذا دعوت أهل الصفة أمرني أن أسقيهم فكنت آخرهم شرباً فما عساني أن يدركني شيء من هذا اللبن.
لكن يبارك الله عز وجل في هذا اللبن، حتى يشرب منه سبعون من أهل الصفة، وأبو هريرة رضي الله عنه آخرهم كما توقع، لكنه شرب حتى قال للنبي عليه الصلاة والسلام: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً رضي الله تعالى عنه، وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أن شرب الفضلة، ظل يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اشرب اشرب اشرب، حتى قال: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً.
انظر كيف كانت حياتهم رضي الله تعالى عنهم، وكيف كان تحملهم للفقر في سبيل الله عز وجل.
فهذا الأمر، وهو تحمل المشاق والمصاعب هل عندنا استعداد لأن نتحمل من المصاعب مثلهم؟! نسأل أنفسنا هذا السؤال، ونزن أنفسنا فيما يتعلق بهذه الصفة.(28/7)
مفهوم الهجرة وفضلها
لا تظن أن الهجرة فقط هي الانتقال من دار الحرب إلى دار الإسلام، فالمهاجرون هاجروا الهجرة العظيمة السابقة التي فازوا بها بشهادة من رب العباد في كتابه عز وجل، فسماهم المهاجرين.
لكن هناك معنىً أوسع للهجرة بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم فعلاً تركوا الوطن والأهل والتجارة لله سبحانه وتعالى، وباعوا ذلك لله عز وجل وربح بيعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ صهيب: (ربح البيع أبا يحيى) فعندما دلهم -أي: كفار قريش- على ماله ليأخذوه ويتركوه يهاجر في سبيل الله عز وجل.
فعندما هاجر المهاجرون تركوا كل ما استراحوا إليه من الأهل والمسكن والأموال والتجارة، والعمل المناسب، وانتقلوا إلى دار غريبة عليهم، وكل هذا هجرة في سبيل الله عز وجل، فهل لنا نصيب من الهجرة؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فكل عادة، تعودت عليها، واسترحت إليها، لكن فيها معصية لله عز وجل، فإذا هجرتها، فأنت مهاجر إلى الله، والمهاجر: من هجر السوء، يعني: أن تترك ما نهاك الله عز وجل عنه وإن كنت محتاجاً إليه، كعادة من العادات، بل للمسلمين اليوم نصيب كبير جداً من أن يكونوا من المهاجرين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم في صحيحه.
فالعبادة في وقت الفتن هجرة، وما أكثر الفتن من الصد عن سبيل الله، والإعراض عن دينه، وترك الالتزام به، ومن الفتن عدم العمل بدين الله تعالى في كل مجالات الحياة وحصر العمل في الأسرة، ثم يقولون: نعبد الله في أنفسنا، مع أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فليس من العبادة أن تبقى في دارك تاركاً لكل المنكرات تتفشى، وتذهب إلى عملك ساكتاً عنه، ثم تلاقي الناس ولا تنكر، وإنما تصلي ما عليك من ركعات وكفى، ليست هذه هي العبادة المقصودة، وإنما العبادة: أن تمتثل طاعة الله، وأن تترك ما حرمه عز وجل، لتكون مهاجراً، وفي الحديث: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) وذلك لأن الوقت وقت فتن، فتشتد فيه الأمور، ويصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولذلك يكون مهاجراً.(28/8)
حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله
انظر إلى العادات التي تعودت عليها، وانظر ماذا يخالف شرع الله عز وجل منها، وما يعيقك عن لذيذ العلم والعمل، ثم اهجره، واهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه؛ لكي ينطلق قلبك إلى الله عز وجل، وذلك أن الهجرة هي هجرة إلى الله وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكون بالقلب كما تكون بالبدن، عندما يشرع بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، لكن الهجرة بالقلب فرض في كل حين.
الهجرة إلى الله: أن تهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه، فتهجر التوكل على غيره إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه سبحانه وتعالى، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه سبحانه، وهكذا في كل عبادة من العبادات تهجر ما نهاك الله عنه إلى ما يحبه سبحانه وتعالى ويرضاه.
وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكما يقول ابن القيم رحمه الله: هي سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان وحادثة من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فخذ كل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذفها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي، وإلا فعده من أهل الريب والظلمات.
فهذه الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهاجر إليه بالفعل عندما تشتد الفتن، وتكثر العقائد الفاسدة، والعبادات الباطلة والبدع فيها، ويترك الناس العبادة الصحيحة، وربما تركوا العبادة بأسرها، فصارت الصلوات مهجورة، والزكاة لا تؤدى، والصيام الواجب يجهر فإفطاره، ويقل الحج، بل تعثر خطوات من يريده، ونحو ذلك، فإذا حدث ذلك، فأداء العبادة في هذا الوقت أعظم.
وكذلك تكون الهجرة بالقلوب، وأحوال الأخلاق، عندما تتغير القلوب والأخلاق، ويكون الالتزام بالسنة في هذا المقام هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فللمسلمين نصيب في الهجرة في كل وقت، وليست مقصورة على انتقال البدن الذي به يكون الإنسان مبتعداً عن رؤية أهل الكفر والفساد والظلم، مع إقرارنا أن رؤيتهم ومعاشرتهم من أسباب شقاء الإنسان، ومن أسباب العذاب إلا أن يكون داعياً إلى الله، فيعاشرهم بشرع الله لأجل الدين، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.(28/9)
تحمل الإخراج من بين الأهل والمال والولد
قال عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] فتحمل هؤلاء المهاجرون ألم الإخراج، ومعلوم: أنه لأن تخرج بنفسك أهون من أن تخرج.
فإخراج الإنسان من داره أمر شديد على النفس، وذلك يجعل كثيراً من الناس يتركون الالتزام، والإنسان الذي تحمل ذلك الخطر، أو ذلك الفعل ولو للحظات قوي العزيمة والدين، وقد يخرج الإنسان من داره يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو شهرين أو أكثر ظلماً وعدواناً بغير حق إلا أن يقول: ربنا الله.
وكذا أن يخرج من ماله، فيفسد عليه ماله، وتفسد تجارته، أو يمنع من ممارستها، أو ممارسة عمله الذي يتكسب منه ما يحتاجه، إن ذلك أمر شديد على النفس، وخصوصاً من كانت أموره متأثرة كالمهاجرين رضي الله تعالى عنهم قبل هجرتهم، وقبل التزامهم بدين الله سبحانه وتعالى، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
فتحمل هذا الإخراج من الديار والأموال هو من أعظم الصفات الجاذبة لتأييد الله سبحانه وتعالى ونصرته، وأن يعوضهم الله عز وجل خيراً مما فاتهم، فما كانوا يتصورون أبداً أن يطأوا بلاد الكفار التي بجوارهم، بل صار كل واحد منهم أميراً على مصر من الأمصار، قال الله عز وجل عن بني قريظة: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:26 - 27]، فحصون اليهود في المدينة ما كان العرب قبل الإسلام يطئونها أبداً، وما كانوا يسمحون لهم بالدخول، ولا كان يفكر المسلمون بأنهم سوف يدخلونها أبداً، كما قال عز وجل: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2] ثم كانت العاقبة أن أفاء الله عليهم أموال بني النضير وبني قريظة ومكن لهم جزيرة العرب كلها؛ لأنهم تحملوا في سبيل الله عز وجل ألم الإخراج من الديار والأموال، وضحوا بذلك في سبيله سبحانه وتعالى.
هذه الصفة أي: الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء لا بد أن تكون موجودة في هذا الجيل، وأن يتحمل الإنسان أنواع المشاق بما فيها ألم الإخراج والخوف في سبيل الله عز وجل.(28/10)
الإخلاص لله لنيل رضوانه
قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8] فلا يبتغون شيئاً من الدنيا، ولابد من وجود الإخلاص في كل عمل، وأن يبتغي الإنسان وجه الله عز وجل، ولا يريد جزاءً ولا شكورا، ً كما قال عز وجل عن المؤمنين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].
فقوله: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) أي: يبتغون الفضل والثواب والجنة والرضوان، وهو من أعلى ما يطلبه المؤمن؛ لأنه ذاق في هذه الدنيا حب الله عز وجل، وعرف أن رضاه عز وجل هو أعظم شيء يعطاه الإنسان، فهذا ذاق أثر الطاعة؛ فإن الإيمان: هو أثر من آثار رضاه سبحانه وتعالى عن العبد، ولذلك عندما يذوق الإنسان حلاوته يعلم بالفعل أن رضوان الله من أعظم ما يطلب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أكبر من الجنة فعلاً، نعني بذلك: أكبر من الثواب الحسي في الجنة، فرضوان الله هو الذي جعل الجنة دار الأبرار، والرضا الأعظم هو الرضا الذي لا سخط بعده، كما يقول الله عز وجل لأهل الجنة -كما ثبت في الحديث الصحيح-: (تريدون شيئاً أزدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من هذا، ألم تبيض وجوهنا؟ وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ فيقول: بلى أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
فهذا الرضوان الذي يبتغيه المؤمن، ويريد أن يرضي الله سبحانه وتعالى بكل طاعة، إلى أن يصبح الشخص مرضياً عنه، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، حتى يكون محبوباً عند الله عز وجل، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
إذاً: فهناك مرحلة أخرى، فهو يحب منه قبل هذا كله فعل كل عمل صالح، لكن إذا واظب على النوافل بعد الفرائض، وصل إلى أن يكون محبوباً بذاته عند الله؛ لذا يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ به ليعيذنه، وهذا من علامات قبول العبد عند الله، وكل هذا جزء من الرضا، وإلا فالرضا الأعظم: هو الذي لا سخط بعده، وهو إنما يكون يوم القيامة، وبرضاه دخلوا الجنة، ولكن رضا أتم، وهذا أعظم ما يمكن أن يوجد، إن نصيب العبد من الله عز وجل هو أعظم ما يسعد الإنسان، وأعظم ما يجد به السعادة في الجنة أن ينظر إلى وجهه، وأن يستشعر رضوان الله، وأن يعلم بكلام الله أن الله أحل عليه رضوانه.
كما قال سبحانه: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) هذا الذي يحرك في الإنسان كل الدوافع الحسنة والطيبة للإخلاص، وربما يعاني الواحد منا من منازعات الرياء والشهرة والسمعة ومدح الناس له، وفي ذلك أعظم ما ينقله نقلة سريعة إلى الإخلاص، فيبتغي ما ذكر الله، ويفكر كثيراً في الثواب والفضل من الله، ويفكر في رضوانه، وعندئذٍ سوف يصغر العالم كله في قلبه، وعند ذلك يسهل عليه الإخلاص، ويتيسر عليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل في كل عمل؛ لأنه وضع نصب عينيه رضوان الله، وعلم أنه يعامل الله عز وجل، ووضع نصب عينيه الوصول إلى أن يحبه الله، ويريد رضوانه، وثوابه في جنته، وهذا الذي يمحو من قلبه هذه الدنيا فتصغر جداً، فلا يمكن أبداً بعد ذلك أن يعمل من أجل مدح مادح، أو يفر من ذم ذام، أو أن يبتغي شيئاً من حطام الدنيا من رياسة، أو مال، أو شهوة، نسأل الله العافية، وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح، ونعوذ بالله أن نشرك به شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلمه.(28/11)
نصرة الله ورسوله شرط النصر على الأعداء
قال الله تعالى: ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، نصرة الله هي نصرة دينه، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرته حياً، ونصرته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته نصرة سنته، نصرة دينه وطريقته ومنهاجه عليه الصلاة والسلام، وذلك يقتضي تعلماً لهذا المنهج، وكذا لنصرة الدين لا بد أن تتعلم الدين لتعلم ما الذي تنصر، ولا يكفي أن تكون عاملاً بالدين فقط، بل لابد لكي تكون عالماً بالدين عاملاً من أجله.(28/12)
دور المسلم في نصرة دينه
لا يكفي أن تقف موقف المتفرج المشجع، وأنت ترى الصراع الشديد في كل مكان أعداء للإسلام، خصوصاً من قبل اليهود فإنك تجدهم من وراء كل مكر بالإسلام وأهله، وكل أنواع الكفار تجد تعاونهم مع اليهود من أجل كيد المسلمين في المشارق والمغارب، والله، وهذا الكيد لا يمكنك أن تقف فيه وقفة المتفرج، وتقول: ماذا يعنيني! أنا أريد أن أكون ملتزماً في نفسي.
بل لا بد أن تنصر الله بنصرة الدين، وتنصر رسوله صلى الله عليه وسلم بنصرة سنته.
فإن قلت: ماذا أصنع؟ فنحن لا نستطيع أن نصنع للمسلمين شيئاً ولا نستطيع أن ننصر المسلمين المستضعفين في الأرض التي اغتصبها العدو فماذا نعمل؟ لا، بل أنت تستطيع الكثير، وذلك أن نصرة الدين ليست مختصة فقط بأرض معركة مع الكفار، فنصرة الدين تكون في كل موطن يحدث فيه منازعة، حتى في داخل نفسك، بين نفسك الأمارة بالسوء والشيطان من جهة، وبين أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، واعظ الله في قلب كل مؤمن: يعظك بأن تلتزم بدينه وأوامره، ويجعلك في صراع داخلي، ولذلك يسمى هذا النوع: جهاداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله).
نعم، يجاهد الإنسان نفسه وهذا درجة من درجة الجهاد، بل يبنى عليه الجهاد الأصل، وهو الذي يفتح الباب له، فلا بد أن تنصر الله أولاً في نفسك بأن تتعلم الدين، وتترك هذا الكسل والتواني والتأخر والتخلف عن معرفة هذا الدين.
وكذلك تنصره بالعمل به، وبالدعوة إليه وبالصبر عليه في كل معاملة تعامل الناس فيها، لم تقصر أمر النصر على أنك تمسك سلاحاً فقط؟ إن نصرة الدين تكون في كل معاملات تعامل الناس فيها وتجد الدين مبعداً عن الحياة، فانصر الدين بإحيائها، وأنت كل يوم ترى من المنكرات ما تراه، فلا بد أن تنصر الله بأن تنصر هذا الدين في نفوس من حولك من الناس، وتنكر هذا المنكر، كما قال سبحانه: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) فبقدر نصرة الدين بقدر ما تنصر أنت.
لماذا نعجز عن تغيير الواقع الذي يعيشه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما نحب من إعلاء الدين وإظهاره وانتصاره على الكفرة؟ لأننا فرطنا في نصرة الدين، فوعد الله لا يخلف، ولو أننا نصرنا الدين في كل موطن نجد فيه معركة بين الالتزام بالدين وبين أعداء الالتزام، لجاء النصر من السماء؛ هأنتذا ترى الشبهات والشهوات في كل وقت، فلو نصرنا الدين فسيفتح الله لنا من أبواب القدرة ما لا نقدر عليه الآن، وما نعجز عنه الآن، فنحن ما زلنا عاجزين؛ لأننا لم نصعد خطوات السلم كما ينبغي.
كثير منا لم يصعد السلم ورأى الباب مغلقاً، فقال: لا أستطيع، فالباب مغلق، ولن أصعد درجة السلم، لماذا لا ينفتح الباب؟ لأنك لم تصعد درجة السلم، ولو صعدت درجة السلم، وحاولت فتح الباب فسوف ينفتح، فمن عمل بما قدر عليه رزقه الله القدرة على ما لا يقدر عليه.
كثير من الناس يظن أنه يكلف ما لا يطيق، كلف مثلاً بأن يكسر صخرة؛ فيظن أنه بلا معول يكسرها؛ فينطح رأسه فيها، ويقول: أنا أصنع ما أقدر عليه، لا، ليس هذا الذي تقدر عليه؛ ولست مأموراً بأن تدني رأسك فتكسرها، لكي تقول: إنك تنصر الدين.
لابد أن تأخذ بالأسباب التي توصل إلى كسر هذه العوائق والانتصار عليها، واصعد السلم ولن يبق إلا فتح الباب؛ لأن الله وعد بذلك فقال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)).
لماذا لا نجد هذا الأمر موجوداً؟ لأجل التقصير الذي وقع في نصرة الدين، وفي نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(28/13)
نصرة الصحابة لرسول الله يوم أحد
كيف نصر الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نصروه أعظم النصر.
انظر إلى حال طلحة بن عبيد الله في غزوة أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسبعة من الأنصار رضي الله عنهم، فيرهقهم المشركون ويدركونهم، ويصعدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون قتله عليه الصلاة والسلام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عنا ويكون رفيقي في الجنة)، فينتبه طلحة فيقول له: اجلس، فينتبه رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله تعالى عنه، ويطلب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبهوا لهم، فينتبه السبعة من الأنصار واحداً تلو الآخر رضي الله تعالى عنهم، فيقتلون كلهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق طلحة رضي الله عنه يرد المشركين؛ فقاتل كقتال السبعة رضي الله تعالى عنه، حتى رد المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمشركون ما زالوا طامعين في أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه جعلهم ييأسوا من أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجرح جرحاً عظيماً، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) رضي الله تعالى عنه، يعني: استوجب الجنة، وقى النبي صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت يده رضي الله عنه، وهذا أمر عجيب الشأن، ففطرة الإنسان أنه إذا داهمه شيء يهرب منه، ولكنه لشدة حبه للنبي صلى الله عليه وسلم تحركت يديه إلى اتجاه السيف؛ ليقي النبي صلى الله عليه وسلم، وشلت يده رضي الله تعالى عنه، وظل يقاتل طلحة رضي الله عنه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن يوم أحد قال: ذاك يوم كله لـ طلحة رضي الله تعالى عنه.
حتى نساء الصحابة رضي الله عنهن كان لهن دور في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فـ نسيبة رضي الله تعالى عنها عندما رأت أن خطراً يداهم الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت تقاتل بالسيف رضي الله تعالى عنها، دفاعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهكذا كان دفاعهم عن دينه وسنته عليه الصلاة والسلام ضد الردة، وضد مانعي الزكاة، وضد المبتدعين من الخوارج وغيرهم، وقفوا هذه المواقف التي حفظ الله بها الإسلام نقياً صافياً، ووصل إلينا كما أنزله الله، يسهل على كل من أراد أن يعرفه أن يصل إليه بفضل نصرة الصحابة رضي الله عنهم لدين الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نصرهم الله عدوهم، قال سبحانه: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)).(28/14)
مفهوم النصرة لله ولرسوله
قال الله تعالى: ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، نصرة الله عز وجل لابد أن تكون صفة أساسية في كل مسلم في كل موطن، وإذا فعلنا ما نقدر عليه فتح الله لنا أبواب ما نعجز عنه، وأعطانا من القوة والقدرة ما لا نستطيعه الآن، كما أن من عمل بما علم رزقه الله علم ما لا يعلم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
وعندما يشتبه على الإنسان أمراً من الأمور أهو من الحق أم من الباطل؟ من السنة أم من البدعة؟ من المصلحة أم من المفسدة؟ ولا يستطيع الوصول إلى أمر، فليتعبد الله عز وجل وليفعل ما أمره الله به، وليتق الله سبحانه وتعالى فيما يعلم، فيرزقه الله عز وجل علم ما لم يعلم.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن اتقى الله رزقه الله علم ما لم يعلم، ومن اتقى الله وعمل بما قدر عليه فتح الله عز وجل له أبواب ما لا يقدر عليه.
وكثير من الناس يريد أن يصعد السلم مرة واحدة، أو أن يكسر الصخرة فينكسر رأسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلا بد أن نفهم هذه القضية جيداً، وأن نعمل ما استطعنا في نصرة الدين وإظهاره، وإعلاء كلمة الله في كل موطن نكون فيه، وإذا رأينا صراعاً بين الحق والباطل فعلينا أن ننصر الحق ابتداء من داخل أنفسنا، وفي بيوتنا وجيراننا، وكل مكان نكون فيه، فالواحد منا يعامل كل يوم عشرات من الناس، وربما يجد انهزاماً أمام أعداء الدين، وقبولاً للباطل، وإعراضاً عن الحق، فأين نصرتك للدين في هذا المقام؟(28/15)
صور من صدق نصرة الصحابة لدينهم
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: الصادقون مع الله عز وجل في القول والعمل، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
يقول أنس رضي الله عنه: غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، لئن أشهدني الله مشهداً غيره ليرين الله ما أصنع -أبى أن يقول غيرها، أبى أن يقول سوف أقاتل أشد القتال- فعندما كانت وقعة أحد وانكشف المسلمون وفر منهم من فر، قال رضي الله تعالى عنه: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمون لما وقع منهم من الفرار والمعصية التي تاب الله عز وجل عليهم منها بعدها، إلا أنه يعتذر عنهم حباً لهم، وشفقة عليهم، ويبرأ من المشركين، ثم انطلق رضي الله عنه فوجد سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، سيد الأنصار رضي الله عنه، فيقول سعد حاكياً للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أنساً قال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد.
رضي الله عنه، رزقه الله أن شم بالفعل رائحة الجنة، -وواهاً: كلمة استحسان للرائحة، أي: ما أعظم هذه الرائحة- وانطلق ليقترب منها، قال سعد: فو الله يا رسول! ما استطعت ما صنع، أي: لم يستطع سعد أن يصنع ما صنع أنس رضي الله عنه، مع أن سعداً والذي عندما مات بكى عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الحرير قال: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).
سعد بن معاذ يقول: والله ما استطعت ما صنع، ثم وجد به -أي: بأنس- بضعاً وسبعين جرحاً، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح رضي الله عنه، فما عرفته أخته إلا ببنانه، يعني: جرح رضي الله عنه قبل الجرح القاتل بضعاً وسبعين جرحاً، وإنما أوقفه الجرح الأخير، وظل رغم بضعاً وسبعين جرحاً مستمراً في القتال رضي الله تعالى عنه.
وكذا جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وجد به ما بين بضعٍ وثلاثين جرحاً، ما فيها شيء في ظهره أبداً رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه رضي الله تعالى عنه، حتى لا تسقط راية المسلمين، ثم أبدله الله جناحين في الجنة يطير بهما.
صدق مع الله عز وجل فما تردد ولا تأخر أبداً رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عندهم صدق مع الله عز وجل.
فـ أنس بن النضر ما عرفته أخته إلا ببنانه، قال أنس: فكنا نرى أن الله أنزل فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
وانظر الزبير رضي الله تعالى عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وحده إلى بني قريظة في غزوة الخندق، لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف خبر بني قريظة من الغدر ونقض العهد وخطرهم، فانتدبه رضي الله عنه، فيخرج الزبير في سرية وحده، ويذهب ويرجع رضي الله تعالى عنه.
قالوا له في غزوة اليرموك: اشدد على العدو فنشد معك، فقال: لا تستطيعون، قالوا: اشدد فنشد معك، فشد رضي الله تعالى عنه، فخرق جيش الروم إلى أن خرج من الناحية الأخرى، ولم يجد أحداً يرجع معه، لم يستمر المسلمون معه رضي الله تعالى عنه، فجيش الروم كان أكثر من مائة ألف في غزوة اليرموك، وخرق الجيش كله، ثم رجع فخرق الجيش كله مرة أخرى إلى أن وصل إلى المسلمين، حتى يقول عروة وكان صغيراً: كنت أدخل أصبعي في جراح الزبير رضي الله عنه ألعب فيها، منها ما كان يوم أحد، ومنها ما كان يوم اليرموك.
قال الله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: صدقوا مع الله عز وجل في القول والعمل، والإنسان كلما صدق في القول كلما يسر الله له الصدق في العلم، وكلما كان صادقاً فيما عاهد الله عز وجل عليه، كلما استمر وثبت على الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).(28/16)
فضل المهاجرين والأنصار
قال الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، صفات المهاجرين والأنصار عندما تتأملها تجد أنها مشتركة فيما بين الفريقين، لكن نصيب المهاجرين في هذه الصفات أتم، ونصيب الأنصار في صفاتهم أتم، ولكل منهم نصيب في ذلك.
فالمهاجرون قد وقوا شح أنفسهم، وأحبوا الأنصار في الله عز وجل، وإن كان نصيب الأنصار في هذه الصفات أتم، كما أن نصيب المهاجرين في تحمل المشاق وآلام الإخراج، ونقص الأموال، والإخلاص، والصدق أتم رضي الله تعالى عنهم، لكن الصفات كلها موجودة بينهما.
فصفة الأنصار التي ينبغي أن يتحلى بها أهل الإيمان، ليكونوا من ذلك الجيل الذي يريد أن ينتصر؛ ذلك النصر المنشود، صفة الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم: أنهم يحبون من هاجر إليهم.(28/17)
سكن الإيمان في قلوب الأنصار
قال عز وجل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا)) أي: سكنوا الدار، وهذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها).
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام، وأنه كما بدأ غريباً يطارده كل أهل الأرض، فأوى إلى المدينة، والناس يعتبرونه حية، واتهموه بالباطل وأرادوا قتله بأي طريقة، وكذلك في آخر الزمان سوف يعود الدين غريباً كما بدأ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يأرز إلى المدينة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يأرز ما بين المسجدين، كما تأرز الحية إلى جحرها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قوله سبحانه: ((تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) أي: سكنوا الإيمان، وهل الإيمان يسكن؟! شبه الإيمان كأنه دار سكنوها، لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، فإذاً الإيمان سكن هذا في هذا المكان، بمعنى: استقر واطمأن فيه، واستراح فيه، فهذه شهادة لهم بالإيمان رضي الله تعالى عنهم، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.
فقوله: ((تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود والله أعلى وأعلم بقوله: ((مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم واستقر رضي الله تعالى عنهم، على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة، بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.(28/18)
حب الأنصار للمهاجرين
قال الله عز وجل: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)): هذه صفة الأنصار، أي: حب من هاجر إليهم في الله، وكلهم كان يحب بعضهم بعضاً.
والحب في الله، والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، وهي الصفة الأساسية التي قام عليها المجتمع المسلم الأول، وبها يجد الإنسان حلاوة الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
ووصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)).
وكما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
فصفة الحب في الله لا بد أن توجد بيننا، وأن يكون لنا منها أوفر نصيب، فإذا وجدت بيننا زالت وحشة الغربة التي يشعر بها كل ملتزم، يشعر بها عندما يكون وسط من لا يلتزم بطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
صفة الحب في الله تخفف أعباء وثقل وآلام المتاعب التي يتعرض لها المسلم حين يكون بعيداً وحيداً مطارداً، فإذا وجد من يحبه في الله هان عليه الأمر، وسهل عليه أن يثبت على الدين، ولذلك لا بد أن تتقوى العلاقات فيما بيننا، وأن نصدق في تحصيل صفة الحب في الله عز وجل، وذلك بأن نستحضر الأعمال الصالحة التي من أجلها نحب أهل الإيمان، وأن نتحاب في الله سبحانه وتعالى؛ حتى نذوق حلاوة الإيمان، التي تخفف عنا مرارة وآلام المخاض الذي يكون قبل شروق الشمس وظهور الدين، فهناك متاعب وآلام تزول أو تخف جداً بحيث لا يشعر الإنسان بها حين يجد من يحبه في الله.(28/19)
حقيقة الحب في الله والبغض في الله
الحب في الله والبغض فيه يكون بأن يبغض الإنسان أعداء الله عز وجل، لا يبغضهم إلا لأجل الله سبحانه، لأعمالهم القبيحة وصفاتهم المنكرة، لشركهم وكفرهم ونفاقهم، هذا الذي يجد الإنسان به الإيمان، فيتثبت في قلبه.
إذا وجدت هذه الصفة في المجتمع المسلم فيما بيننا؛ فإن ذلك من النعيم الذي يجده الإنسان كجزء مشابه من نعيم أهل الجنة، فإن رفقة الصالحين وحبهم في الله من نعيم أهل الجنة الذي ينعم به الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، ولو لم يكن لهذه الصفة المنزلة العظيمة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (اللهم مع الرفيق الأعلى)، انظر ماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم؟ يريد الرفيق الأعلى.
خليل الله إبراهيم يقول: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ولا شك أن الصالحين دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون إبراهيم في المنزلة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يطلب هذه الرفقة، وإبراهيم يطلب هذا اللحاق، فكيف بالمفضول واحتياجه وسعادته برفقة الفاضل؟! إذا كان الفاضل أمر بأن يصبر نفسه مع من يدعو الله بالغداة والعشي، يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
وإذا كان الفاضل مأموراً بأن يرافق المفضول، فأي نصيب للمفضول إذاً من صحبة الفاضل ومرافقته، ومن الشعور بالسعادة لوجود المحبة في الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبينهم؟! واستشعر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب عبر الزمان، وهو والله من أعظم ما تتحرك له قلوب المؤمنين، يقول عليه الصلاة والسلام: (وددت أن لو قد رأينا إخواننا، فقالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ود أن يرى كل مسلم من أمته عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعلنا من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان يستشعر الحب في الله وليس فقط لأصحابه الذين كانوا معه، بل عبر الزمان، ومع تفاوت الأزمنة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لهم أن يراهم، فما ينبغي أن نكون نحن عليه من مودة: هو أن نرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نكون معه.
وهذا الحب في الله: هو الأساس الذي بني عليه المجتمع المسلم.(28/20)
فضل الإيثار واجتناب الشح
قال الله تعالى: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، أي: لا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرون، أولاً: من الأموال، وثانياً: من الفضل والتقريب في الذكر؛ فإنه سبحانه ذكر المهاجرين أولاً، فلما جاءت أموال بني النضير أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، يعوضهم بها عما أصابهم في أموالهم، وعما ضحوا به في سبيل الله عز وجل، فما حسدهم الأنصار، وما وجدوا في قلوبهم غلاً لهم لأنهم أوثروا بهذا المال أولاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها فاصبروا حتى تروني على الحوض) فهم لم يحسدوا المهاجرين على الفضل الذي فضلهم الله به، كذكر الله ذكر المهاجرين دائماً أولاً فقال هنا: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) ثم قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:117].
والمهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك سلمت صدورهم، فلم يكن فيها حسد ولا حقد.
رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)، فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته ماء، قد علق نعليه في يده، ودخل فسلم، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع نفس الرجل على نفس الصفة، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ذلك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد العباد من الصحابة، الذي كان يختم القرآن كل ليلة، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختم القرآن في كل سبع)، وظل كل سبع ليالي يختم القرآن في قيام الليل، ويصوم يوماً ويفطر يوماً.
ذهب عبد الله إلى هذا الرجل وقال: إنه قد كان بيني وبين أبي شيئاً، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن أبيت عندك فافعل.
فقال: نعم، وعرض في الكلام، وهو يعني: أنه ما من أحد إلا ويكون بينه وبين أبيه شيء، وهو أقسم الآن أن لا يدخل؛ لأجل أن يؤويه الأنصاري، فآواه الأنصاري، فلم يرَ منه كثير صوم ولا صلاة، غير أنه كان إذا تعار من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل حتى يقوم، فلما مضت الثلاث قال عبد الله بن عمرو: كدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت في الثلاث المرات، فأردت أن أرى عملك فأقتدي بك، فقال: يا ابن أخي! ما هو إلا ما رأيت، ثم لما انصرف عبد الله رده فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيت وليس في صدري حقد ولا غش ولا حسد لمسلم، فقال: هي التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق.
وذلك أن أكثر الناس لا يطيقون أن لا يكون في قلوبهم حسد ولا غش للمسلمين، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم ليس في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون كالحسد عليهم، فليس عندهم ذلك مما أوتي المهاجرون في الدنيا أو في الآخرة.
قال الله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، الصحابي الجليل وامرأته رضي الله عنهما آثرا على أنفسهما، قوله: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، أي: ولو كان بهم حاجة، وهذه أعلى قدراً من التي قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] فقد يكون الإنسان محباً للطعام، ولكنه ليس مضطراً إليه، فإذا أطعم منه كان مؤمناً، يعني: لو أن رجلاً عنده أكل يحبه في البيت، وهو شبعان، فإذا أنفق منه كان مؤمناً، وهذان باتا طاويين رضي الله تعالى عنهما، وبات صبيانهما جياعاً؛ لكي يطعموا الفقير المسكين ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أطلعه الله على فعلهما: (لقد عجب ربكما من صنيعكما بضيفكما الليلة) يعني: أتاه الوحي بما صنعا، مع أنهما كانا في بيت مظلم، ولم يتركا السراج موقداً؛ حتى لا يرى الضيف قلة الطعام، ويراهما لا يأكلان فقد يترك الطعام وهو يتوق إليه، فأطفأا السراج؛ لكي يأكل براحته رضي الله تعالى عنهم.
وفي بعض الروايات أنها أم سليم وزوجها أبو طلحة رضي الله تعالى عنهما، وهي جديرة بأن تكون كذلك، فلها منزلتها العظيمة.
قال تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)): وقد وقاهم الله شح أنفسهم.
والشح: هو التطلع إلى ما في أيدي الناس، ومن وقي شح نفسه فلم يسرق، ولم يزنِ، وليس فقط في المال، فالبخل مذموم، والشح أشد، فالشح أن تتطلع إلى ما في أيدي الناس، والبخل: أن تمنع ما في يدك وما يلزمك، ومنه ما هو محرم: وهو منع الواجب، ومنه ما هو مكروه: وهو منع المستحب.
فالشح ليس فقط أن تأخذ ما بيدك وتمنعه ولكن تريد أن تمنع ما في أيدي الناس، ولهذا كان الزنا من عدم وقاية الشح؛ لأن عنده شيء حلال، فلماذا تطلع إلى الحرام؟ أو ليس عنده زوجة أو أمة؟ لكن حرم الله عليه ذلك الفرج، فإذا به يتطلع إلى ما يحل لغيره ولا يحل له، فهذا لم يوق شح نفسه.
والذي ينظر إلى العورة المكشوفة ويتلذذ بها لم يوق شح نفسه، ألا يكفيه أن ينظر إلى ما أحل الله؟ وكونه ينظر إلى ما حرم الله فهذا لم يوق شح نفسه؛ لأنه تطلع إلى ما في أيدي الناس، وإلى ما حرمه الله عليه، وجعله لغيره، نسأل الله العافية، وكان عبد الرحمن رضي الله عنه يطوف البيت، لا يزيد على أن يقول في دعائه: اللهم قني شح نفسي.
وسأله بعض التابعين عن ذلك فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن.
فالسارق لم يوق شح نفسه، والغاصب لم يوق شح نفسه، والذي يخاصم بالباطل لم يوق شح نفسه، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).(28/21)
الترضي والدعاء للصحابة الأبرار وحكم من طعن فيهم
ذكر الله المؤمنين من أهل السنة والجماعة من بعد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فقال: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، فكل مسلم من أهل السنة سليم القلب واللسان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في هذه الآية: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) فهذه سلامة الألسنة، أي: يدعون لهم، ويستغفرون، كما قالت عائشة في الرد على الرافضة الشيعة الجناة المجرمين: أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم.
فإن قيل: لماذا نرى هؤلاء الرافضة الشيعة من أخبث طوائف البدع؟ ف
الجواب
لأنه لا يتصور منهم خير طالما بقوا على سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لهم، وهم دائماً أعوان أعداء الإسلام، فإذا ظلوا على هذه الصفة فلا يظنن أحد أن منهم من سوف يجاهد، أو ينصر الله به الدين، كما يظن ذلك المغرورون الذين لا يعرفون ميزان العقيدة لوزن الناس.
فلا بد أن نكون سليمي الألسنة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندعوا لهم، ونقول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) ونشهد لهم بالسبق، أي: أنهم سبقونا بالإيمان، ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)) هذه سلامة القلوب، فسلامة الألسنة والقلوب، شرط أساسي لكي يكون الإنسان من التابعين لهؤلاء السابقين بإحسان، وهذا الذي يجعله الله سبحانه وتعالى به أهلاً لنيل رحمته ورأفته، قال الله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).
استدل الإمام مالك رحمه الله بهذه الآية على أن الرافضي: الذي يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نصيب له في الفيء، وهو استدلال حسن جميل؛ لأنه طالما لم يكن مستغفراً لهم، غير سليم القلب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس له نصيب، لأنه ليس من أهل هذه الآية.
نسأل الله أن يلحقنا بهؤلاء راضياً عنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتبعين لهم بإحسان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.(28/22)
علامات على طريق النصر
طريق النصر أوله ابتلاء وشدة، وكلما اشتد الكرب وزاد الخطب قرب الفرج، واقترب موعد النصر.
ومن أعظم أسباب النصر أن ننصر الله بالعمل بشرعه، ودعوة الناس إلى سبيله، فليدع كل مسلم بين أبناء جنسه وطبقته، وخطوة خطوة ولبنة لبنة حتى يرتفع البناء، وتدنو ساعة النصر والتمكين.(29/1)
قرب النصر عند اشتداد البلاء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
جعل الله سبحانه وتعالى أشد لحظات البلاء آخرها، وأشد ظلمة الليل قبل الفجر، وكمال البشرى لأهل الإيمان عند ازدياد المحنة.
كان يعقوب صلى الله عليه وسلم في بلاء، فقد ابنه الحبيب يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو أفضل وأحب أبنائه إليه، وازداد الأمر بلاءً بأن فقد ابنه الآخر الذي يليه في المحبة، ثم فقد كبيرهم كذلك لما ابتعد عنه، ففقد ثلاثة من أولاده، فلما بلغه حبس بنيامين وعدم رجوع الثالث، قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]، فلما زاد البلاء عليه استبشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يفرج ذلك الكرب.
واشتد البلاء على بني إسرائيل بعد أن قامت الحجة على فرعون، حيث هُزم سحرته، ثم آمنوا واهتدوا، وقتلهم فرعون، ولم يتغير شيء من موازين القوة المادية، فزاد فرعون في بطشه وتهديده وإرهابه، والملأ السادة والكبراء من قومه يحثونه على مزيد من البطش في بني إسرائيل، كما قال الله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:127 - 129]، وعسى من الله عز وجل واجبة، وإذا جاءت على ألسنة رسله فهي من عنده سبحانه وتعالى.
فلكما ازداد البلاء، واشتد الكرب، قرب الفرج -بإذن الله تبارك وتعالى- ولذلك قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وفي هذه السورة أيضاً تجد قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] أي: من إيمان قومهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:87] وعلى القراءة الأخرى: ((حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا)) أي: أيقن الرسل أن أقوامهم قد كذبتهم تكذيباً لا إيمان بعده.
فقال عز وجل: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وهذه سنة الله.
وسورة يوسف نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -قبل الهجرة، وبعد زيادة الأذى- تبشر بقرب الفرج، رغم أن الأذى قد وصل إلى شخصه عليه الصلاة والسلام بعد موت أبي طالب، خديجة، حتى خططوا لقتله أو سجنه أو إيثاقه، وكل ذلك كان مقدمة قبل الفرج، وقبل النصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى.
والآن البلاء بأمة الإسلام قد ازداد، واجتمع عليها الأعداء، وتكالبت عليها الأمم؛ وذلك لكي تكتمل في قلوب المؤمنين عبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وينقطع التعلق بالأسباب الحسية، والواجب هو الأخذ بالأسباب الغيبية التي لا يراها الناس أسباباً، ولكنها عند أهل الإيمان أسباب، والأخذ بهذه الأسباب هو الأمر الواجب، ومن هذه الأسباب ما أمر به موسى قومه بقوله: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))، ففيها أعظم ملك الله سبحانه وتعالى، وأن أمره هو النافذ، وأن الغيب كله له، عندها تتغير الموازين المادية في لحظة، بـ (كن فيكون)، بقدرته سبحانه وتعالى.
ويأتي النصر عندما يظن الأعداء أن الأمر قد انتهى، وعندما يقول كثير من أهل الإيمان: متى نصر الله؟ استبطاءً للنصر، واستعجالاً للفرج من عند الله سبحانه وتعالى.(29/2)
وجوب تحسس أسباب الخير والبحث عنها
لا بد أن نتحسس أسباب الخير، كما قال يعقوب لبنيه: ((يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ))، فلا بد أن نتحسس أسباب الخير، وأن نستعين بالله ونصبر، ونوقن بوعد الله سبحانه وتعالى، كما أمر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام في السورة التي بين له فضلها، وشيبته هي وأخواتها، فقال الله عز وجل فيها -أي: في سورة هود عليه السلام-: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121 - 123].
فقوله سبحانه: ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) أي: اعملوا كل ما في إمكانكم، وكيدوا بكل قدرتكم، وها هي الأمم الآن قد اجتمعت على كيد أهل الإسلام.
كانت الرسل تقول لأقوامهم: اجتمعوا على كيدنا كما قال هود: {كِيْدُونِي جَمِيْعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] أي: لا تؤخروا كيدكم، بل أنفذوه الآن! ما هذا الأمر العجيب! أيأمرونهم بهذا الأمر؟! أيريدون أن يكيدوا بهم؟! لا، إنما يأمرونهم بذلك استهانة بهم، واستهزاء بكيدهم، واستخفافاً به، لا يعبأون به، ولأجل أنهم موقنون بفشل هذا الكيد يقولون: أنفذوه الآن! أي: ولن تستطيعوا، اعملوا ما في إمكانكم، اعملوا كل ما يمكنكم أن تفعلوه من الكيد، ولذلك قال: ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) استهانة بهم، وتقيناً بوعد الله.
من أين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة؟ يصل إلى هذه الدرجة من الاستهانة بقوة العدو الكبيرة جداً في موازين أهل الدنيا بكمال اليقين، والتوكل على الله سبحانه وتعالى.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّا عَامِلُونَ)) أي: على طريقتنا، وأيضاً على تمكننا، وهذا هو الواجب، أي: أن نتحسس أسباب الخير، ونأخذ بما نقدر عليه من الأسباب؛ لأن الأسباب الظاهرة المادية فيما يبدو لملايين المسلمين منعدمة، وليس بأيديهم أن يصنعوا شيئاً.
ليس العلاج عباد الله! تلك التصرفات اليائسة، ونسميها يأساً؛ لأنها بالفعل ليست على الطريق، كمثل إنسان أصابه بلاء شديد وكرب وغيظ من عدوه، ومن شدة الغيظ وهو لا يستطيع أن ينال منه شيئاً، قام إلى الحائط الذي أمامه وضرب رأسه فيه، فنزف الدم، فشعر بنوع من الراحة، وأنه قد فعل شيئاً حتى لا يكون سلبياً! كما قد يحلو للبعض أن يفعل، لا يستطيع أن ينزل علم اليهود من فوق بلاد المسلمين، ولا يستطيع أن ينال منهم شيئاً، فيأتي بقماش يرسم عليها علمهم، ثم يدكها برجله، ويحرقها بناره، وهو الذي صنعها! تصرفات عجيبة، مثل المخدرات فعلاً، أي: كأن يخدر الإنسان ويشعر بأنه قد أدى ما عليه؛ لأنه يوهمه أنه صنع شيئاً، مثلما تصور الهزائم الثقيلة جداً على أنها نصر هائل، فيخرج بعد أن استجاب للعدو بكل ما يطلب منه رافعاً علمه، فهذا ليس انتصاراً عربياً.
فهذه الهزيمة العجيبة ليست نصراً، والنصر في نظرنا الآن هو: أن يبقى فلان حياً، وأن يفرض حصار حول كنيسة، حينها نكون قد انتصرنا انتصاراً تاماً، وحققنا كل ما نريد.
كما أن النصر ليس كمن يكتب وثيقة بالدم: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين! كما يفعل ذلك بعض الشباب.
كلها تصرفات يائسة بالفعل!(29/3)
خطر مرض اليأس والاستكانة
هناك جملة تصورات يائسة مثل: اسكتي أيتها الشعوب! فقد حان وقت المهدي، وسوف يظهر خلال سنوات معدودة، ومن قبل كانوا يقولون: قبل أربع سنين، فلم تنفع، وبقيت كذبة، والناس كلهم نسوا مثل هذا الكلام، ثم قالوا بأن المسيح الدجال سيظهر في ربيع سنة (1998م) ثم قالوا: معركة هرمجدون ستحصل خلال عقدين أو ثلاثة، لكي تستكين الشعوب، وتشعر بأن النصر سيأتيهم من فوق، من دون عمل أي شيء.
إذاً: فليس هناك عمل يطلب من الأمة، لا، بل لا بد أن نعمل كما أمر ربنا بقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] يعني: سنستمر على طريقتنا وعلى تمكننا، ولو خالفنا الطريقة، وابتدعنا في دين الله عز وجل، أو عملنا المعاصي، أو وقعنا فيما هو أفظع من ذلك من الشرك، أو الاستكانة لما يريده العدو.
والاستكانة معناها: الخضوع لما يريده العدو ويطلبه من العقائد الفاسدة، وترك العبادة الواجبة، والاتصاف بالأخلاق الذمية المفسدة، وترك العمل من أجل دين الله عز وجل، وإذا وصل الناس إلى هذا الحد من اعتقاد الفساد، والباطل -والعياذ بالله- مثل موالاة الكفار أو صداقتهم، فلن أكون متعجباً إذا وجدت بعد شهور قليلة من يذمون أعداء الله من اليهود والنصارى أعظم الذم ويضعون أيديهم في أيديهم، ويقبلونهم معلنين الصداقة والوئام والمحبة والسلام، وقد فعلوا.
إن الذين قتلوا من المسلمين في سنة (1967م) هل يبلغون خمسة آلاف، أو عشرة آلاف؟ قتل مائة ألف جندي مصري في تلك السنة، وقتل أضعاف كثيرة منهم بعد ذلك، ونسي الناس ذلك، وقالوا: السلام لا بد منه، وانتهت الحروب، وليس هذا ببعيد من نفس الأشخاص الذين يتكلمون بهذه الكلمات.
ولذلك نقول: الاستكانة هي أن نقبل بالعقائد الفاسدة، وأن نقول للناس: العداوة زالت، حتى وجد من المنتسبين إلى الإسلام وإلى القضية يقولون: إن الخلاف بيننا وبينهم ليس خلافاً دينياً، وليس صراعاً دينياً! هذه هي الاستكانة الحقيقة، وأنت لو قتلت نفسك لأجل مثل هذه العقائد، فلن تكون على طريقة أهل الإسلام التي هدفها إعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار هذا الدين في كل بقعة من بقاع الأرض، ومن أهمها -بلا شك- البقاع المشرفة المقدسة التي ظهر عليها الإسلام، وعظمها وبارك الله عز وجل فيها وحولها.
المقصود: أن من أخطر الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة والمغلوبة: مرض اليأس الذي يدفع إلى تصرفات جاهلة، كما يقول البعض: لابد أن أعمل أي شيء، حتى لو كان هذا الشيء في غير الطريق، وهو يظن أنه حينها يعمل شيئاً، أو ينتظر الوهم، ويحدد لنفسه تواريخ، ويقول: سيأتي النصر من السماء من غير أسباب! لا، لا بد أن نعمل، ونتحسس أسباب الخير، فلا بد من عمل لكن على الطريق الصحيح؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] أي: إنا عاملون على طريقتنا أو على تمكننا، وكلا التفسيرين متلازمين.
إذاً: فلا بد من الأمرين.
وحقيقة التوكل الذي أدى إلى الاستهانة بقوة العدو، وعدم الاهتمام بها، واعتقاد أن هذه القوة تمكين من الله سبحانه وتعالى لهم، وامتحان لنا، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:88 - 89]، إذاً: فماذا نصنع؟ ندعوا الله، فموسى عليه السلام لم يستكثر أن فرعون معه ما معه، فقال الله على لسانه: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)) لأن هناك قلوباً خفيفة، يراد أن يركم بعضها فوق بعض، ولم يقع ذلك إلا بوجود المضلين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ)) [الأنعام:112 - 113] أي: لتميل إلى زخرف هذا القول الباطل، {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113].
استحضر أن الله هو الذي يدبر الأمر وليس تخطيط الأعداء، استحضر أن الله هو العزيز الذي لا يضاد، وأنه هو الذي يملي لهم لمتانة كيده، كما قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، وقال: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]، فالله يمهلهم ولا يهملهم عز وجل، كما في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) هكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، ويجب أن نستحضر أن هناك حكمة من الله عز وجل في أن تميل إلى الباطل قلوب غير المؤمنين من الكفرة والمنافقين الذين لا يريدون الآخرة؛ لترضى بهذا الباطل، ليقترفوا ويفعلوا الأفعال الإجرامية، وإذا حان الوقت، فهذا فعل الله عز وجل وله ما أراد من أفعال سبحانه.(29/4)
بلاء الاستكانة أمام مبادئ الأعداء
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] لماذا قدر الله ذلك؟ الجواب في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37] ولنفقه هذه المعاني جيداً، ونسلك طريق التوكل والاتباع فعلينا بما في قوله تعالى: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ))، إن طريق تحقيق مزيد من العبودية ليس طريق المخدرات الفكرية، أو العقلية، أو الميئسة، أو تصرفات جاهلة لا تصنع شيئاً، ونتصور أنها حققت أكبر النصر، وإنما هي استكانة للعدو، وفي الوقت نفسه نظن أنها تجعله يعاني أعظم العذاب.
إن كثيراً من المسلمين يقبل ما يريده اليهود والنصارى وغيرهم ممن يواليهم على دينهم، فإن كان يتصور أنه يحاربهم أشد الحروب، فهذا وهم كبير، وهذا في الحقيقة بطولة زائفة، تصنع من ورق مقوى صنع في بلاد الأعداء، مثل: بطولة كمال أتاتورك، يوم فتح أزمير؛ حتى خاطبه أحمد شوقي بقوله: يا خالد الترك! جدد خالد العرب شبهه بـ خالد بن الوليد، لما فتح أزمير بعد أزمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، واحتلال الحلفاء لإسلام بولي عاصمة الخلافة، ولكن جاء المخلص المنقذ، والبطل الزائف المصنوع في بلاد الأعداء، وانسحبوا من أمامه في أزمير واستمر في فتوحاته، إلى أن فتح أنقره، وإسلام بولي مرة ثانية، سلموها له؛ ليفعل ما لا يقدرون عليه من أذية المسلمين وحرب الإسلام، ويفعل ما هو أشد فتكاً بالمسلمين، ليعلن إنهاء الخلافة، ويعلنها علمانية صرفة، ليعلن تحريم الشريعة، لا مجرد إباحة مخالفة الشريعة، لا، بل يعلن تحريم الشريعة، وتجريم من يطالب بتطبيقها، وسن قوانين عجيبة بعد أن انتصر، والأمة أرغمت على قبول ذلك، فسن قانون: أن من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية يعاقب بالسجن ثمان سنوات، ومن يطالب بذلك ويعمل عملاً جماعياً من خلال منظمة يعاقب بالسجن مدى الحياة، وحارب بكل ما أمكنه من قوة لتغريب تركيا بالكلية حتى أنه غير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، وحرم الطربوش والعمامة، وألزم الناس بالقبعة، أما معركة القبعة هذه فقد قتل فيها من قتل، وحرم الحجاب تماماً، فلا يمكن أن تدخل امرأة محجبة إلى أي مكان رسمي، أمور عجيبة!! حرم حتى تحفيظ الناس أولادهم القرآن، زيادة على ما يقرره هو وزبانيته، ومن يخالف ذلك يعاقب بالسجن ثلاث سنوات.
فلا تسأل عما يمكن أن يكون وقع في تلك البلاد من تدمير لتلك الأجيال التي توجد الآن هناك، نشأت منذ أكثر من ثمانين سنة في ذلك الوسط، وتربت على ذلك وترعرعت عليه، فبالفعل فعلوا ما لم يفعله الأعداء، نسأل الله العافية.
المقصود: أننا لا نريد أن نترك العمل الواجب إلى تصرفات جاهلة من الأوهام ونحوها، ونقبل بهذه البطولة الزائفة غير الحقيقية، ولذلك نقول: من الاستكانة أن تقبل مبادئ الأعداء، وهم يريدون أن يفقدوا المسلمين ولاءهم لهذا الدين، وبراءتهم من الشرك.
وأعداء الدين يقولون عن الموحدين أنهم يقولون: إنهم هم المؤمنون فقط، والذين لهم الجنة، وكل من خالفهم فهو كافر، ولا بد أن يعادى، فلا بد إذاً أن تحذفوا هذه الآيات من القرآن، إنهم يصرحون بذلك، ويوافقهم عليه المستفيدون منهم دنيوياً، وإن كانوا يزعمون أنهم قاوموهم كل المقاومة.
فهم ينادون: لا بد أن نعيد النظر في الخطاب الديني هكذا يقولون، ولن يقولوا: لا لمثل هذه الدعوات، بل يزيدون: احذفوا آيات من القرآن، وهذا قد لا يستطيعون الجهر به، فهو عليهم صعب، لكن يقولون: افهموا الآية فهماً صحيحاً، وكأن الأعداء فهموها على ما هي عليه، فهم يقولون: ليس المقصود منها أن تعادوا الكفار أو تتبرءوا منهم، بل المؤمن هو كل من آمن بوجود الله، فاليهود والنصارى مؤمنون، وكذلك كل من آمن بوجود الله، بالإضافة للمؤمنين طبعاً، بل هؤلاء المتطرفون كفرة، الإرهابيون ليسوا مسلمين، فلا بد أن يكفر بهم، وأما الآخرون فهم المؤمنون، هكذا يزعمون، وإلا فأخبروني عمن ينادي سكان المعمورة على اختلاف أديانهم بصيام يوم عالمي من أجل نصرة فلسطين، أليست هذه استكانة رغم أنها في صورة مقاومة؟! فمن تخاطب يا عبد الله؟! وكيف تقول للكفرة: صوموا على اختلاف أديانكم؟ هل تريد من الهندوسي أن يصوم؟ اطلب منه أولاً أن يزيل الكفر الأول، لكن تراهم يقولون: يصوم النصارى والمسلمون معهم، وكل واحد يصوم بطريقته، وينادي بعدها ويقول: هؤلاء هم المؤمنون الأحرار، ما هذا البلاء؟ إنه بلاء فعلاً، واستكانة ومرض، ويأس في الحقيقة رغم أنه يزعم أنه لم ييئس لكن الحقيقة أنها تصرفات يائسة لا تقبل بحال من الأحوال، فهذا هو الذي يريده العدو، إنه يريد أن تفقد هويتك.
الذين يقولون: نحن لابد أن نغير الخطاب الديني؛ من أجل أن ننزع من الناس الولاء والبراء، الذي فيه فرق بين الإسلام والكفر، وسنفسر لهم الآيات على غير ما فهمه الأعداء قبل الأصدقاء، فهم الأعداء بحق، وقالوا للناس: يجب أن تراجعوا المناهج، وبعض الآيات في المصحف يردونها، لكن نحن لا نقبل هذا ونقول: إن هناك آية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51].
أخبرني بعض الإخوة أن بعض مشايخ السوء قال له الكفار: أنتم تكفروننا، بدليل آية عندكم في القرآن تقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، ونحن نقول هكذا، قال له: لا، هذه لم تنزل فيكم أنتم، بل نزلت في النصارى أيام النبي صلى الله عليه وسلم -والعياذ بالله- استكانة فعلاً، هذا تكذيب لكلام الله عز وجل، أي: تكذيب للقرآن.(29/5)
وجوب العمل للدين على الطريق الصحيح
هذا البلاء العظيم الذي ينزل إنما هو مزيد من المصائب على أمة الإسلام، لذلك نقول: لا بد من ترك الآية بينة: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121].
إذاً: عندما نعمل كل ما في إمكاننا، فنريد أن تكون الطاقة الموجودة لدى شباب المسلمين ورجالهم ونسائهم طاقة متجهة للتغيير الحقيقي لواقعنا؛ حتى يغير الله عز وجل علينا، {إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فلن يكون هناك انفجار غير محسوب، وأضرب لذلك مثلاً: لو أن حلة فيها بخار، وفيها ماء، والغطاء مقفول عليها بإحكام، وأشعل عليها النار إلى أن رفع البخار الغطاء، فوقع على يد الرجل الذي أشعل عليها، فهذا انفجار غير محسوب، وغير مطلوب، لكن الآلة البخارية فيها منفذ لخروج البخار وتوجيهه باتجاه معين، من أجل أن يحرك العجلة، وتتقدم هذه القاطرة، وهذا هو المطلوب، فالطاقة هذه ماذا نعمل بها؟ نحن نعلم أنه يوجد كرب شديد بسبب ما يقع بالمسلمين في المشارق والمغارب، لكن نحن لم نفكر لماذا يحصل لهم هذا؟ حصل بهم هذا بسبب تقصير طويل المدى، وبسبب بعد طويل عن الإسلام، وكثرة الخبث، كما في الحديث: (أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث) طبيعة الدعوة إلى الله، وطبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقاب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) ومعنى: تبايعتم بالعينة أي: بالربا، وإن سمي بغير اسمه، ففيه تحايل على الربا، أما اليوم فهو رباً لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وإن سماه جهلاء السوء بغير اسمه لكي يضلوا الناس عن ذلك.
إن أموال المسلمين في أيدي أعدائهم من البنوك الشرقية والغربية -والغربية كلها بنوك تابعة لليهود في النهاية- مصادر دخل المسلمين وادخارهم كلها في أيديهم، نسأل الله العافية.
التبايع بالعينة هو نوع من التحايل على الربا، كمن يبيع حاجة بالتقسيط، ويشتريها البائع من المشتري مرة أخرى نقداً بساعتها، حتى لو وجد ثالث لكي يحرك البضاعة فهو مثلهما على الراجح من أقوال العلماء؛ لأن التبايع بالعينة غرضه المال، لكن لا يجد من يسلفه، فيأخذ السلعة التي يشتريها بالتقسيط بمائة وعشرين، ثم يبيعها لآخر بمائة، فهو أخذ بمائة وباع بمائة وعشرين، وهذا ربا في الحقيقة، ولكن الغرض المقصود أنه سماها بيعاً لكنه محرم، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة.
قوله: (ورضيتم بالزرع) الزرع مع أنه من أشرف المهن كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة)، ومع ذلك فالتبايع بالعينة، والرضا بالزرع، أي: الرضا بالدنيا والاكتفاء بها، وبهذه المكاسب، والرضا بالتجارة والأموال التي نخشى كسادها، حتى تكون هي أكبر الهم ومبلغ العلم -نعوذ بالله من ذلك- عندما تصبح الدنيا هي كل ما نريد، فسيسلط الله علينا ذلاً لا ينزعه حتى نرجع لديننا.(29/6)
عوامل الخروج من المحنة
الطاقة التي عندنا نريد أن نوجهها توجيهاً سليماً، نريد أن نسير في طريق الدين والإسلام؛ وعند ذلك ننتصر؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121] قال: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود:122].
إذاً: فالوقت لصالحنا ما دمنا نسير على الطريق، ولم نبتعد عنه؛ فلن نقصر فيما في إمكاننا.
وهناك أمور إذا صنعت وقمنا بها خرجنا من المحنة: الأمر الأول: أن نوقن أن ما بأيدي أعدائنا لا يساوي شيئاً، ويمكن أن يزول في لحظة، وأن قوتهم ضعف، وعزهم ذل، وغناهم فقر، فنشهد بذلك، ونشهد أن الأمر لله، والغيب لله، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن نعمل على طريقتنا، ولا ننحرف يميناً ولا شمالاً، بل على نفس طريق الأنبياء والرسل، وطريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام، حتى نكون من الفرقة الناجية، وأصحاب العقيدة الصحيحة، والأخلاق السليمة، والمعاملة بالحلال وتجنب الحرام، الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والقيام بالإيمان والإسلام والإحسان، فنعمل لذلك ونطبقه في أنفسنا.
تخيلوا ذلك في مكاتبنا الخاصة، ثم تخيلوه بعد ذلك في مساجد المسلمين، ثم تخيلوه في كل بيت، لو أن الإخوة معنا ثم الناس في المساجد، ثم في كل بيت من البيوت يكون لهم في كل يوم درس في كتاب تفسير ميسر مثل: أيسر التفاسير، أو مختصر تفسير ابن كثير، وكل يوم تقرأ بضع آيات، وتتعلم معاني الكلمات، وما فيها من حياة القلوب، ومعاني الإيمان، ثم نطبق ذلك في حياتنا، وكذا كل يوم ربع ساعة آخر النهار في كتاب شرح مسلم، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيقرءون الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويطبقونها في حياتهم، تخيلوا لو أن كل الملتزمين صنعوا هذا فضلاً عن بقية الناس في المساجد، وفرضاً لو أن كل البيوت عملت هكذا، ما هو التغير المنتظر في حياة الناس؟ بالتأكيد أن التغيير سيكون جذرياً؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد كلام الله عز وجل ينير لنا الطريق في الظلمات، لكن كثيراً من الناس يمكن أن يمكث أربع ساعات في مشاهدة مسرحية، أو نشيد، أو أغان، أما أن يصبروا في سبيل الدين فلا.
المصيبة أن الناس تريد أن تزيل الأزمة بمزيد من الأزمة، مثلاً عام (1967م) عملوا على إزالة آثار العدوان بأن قامت كوكب الشرق تغني في البلاد العربية، وتقوم بعمل حفلات من أجل أن تزيل آثار العدوان، وأغاني عبد الحليم حافظ الحماسية القوية، التي في هذا الوقت يقوم الفنانون بعمل أغاني مثلها!! إذاً: فلنستقبل مزيداً من البلاء، وبعض الإسلاميين يسمونها إسلامية! وهذا بلاء فعلاً والله، نسأل الله العفو العافية.
القدس عندما احتلت كان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله تعالى لديهما رغبة في نشر السنة، ومقاومة الفكر الرافضي الباطني، ونشروا كتب السنة في كل مكان، فالناس تعودوا أن يقرءوا البخاري، وغالباً لم يكن هناك فهم وإدراك جيد، مع أن الشروح موجودة، ثم نصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
كان نور الدين محمود رحمه الله تعالى يأتي المحدث قبل المعركة، فيقول له: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، فقبل أن يبدأ المعركة يريد أن يسمع الحديث في مثل هذا الموطن ويطبقه، فحدثه أن الرسول خرج متقلداً سيفه، فقال: ما أنا على السنة، فتقلد السيف وأمر كل جنده بأن يتقلدوا سيوفهم؛ لأنه سمع الحديث وطبقه بعد ذلك، ثم أصبح الأمر سنة ماضية.
المقصود: أن الناس تتعلم المعاني من أجل أن تطبقها، وكان الغرض استخدام السنة في مقاومة البدعة؛ لأن مجرد سماع حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الناس يتغيرون، لو أخذنا مثلاً كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونظرنا في مسائله، ونحاول أن نستعين بمن يشرح لنا ما صعب علينا من كلامه، فما هو التغير في العقيدة الذي سيحصل للأمة؟ السلوك والأخلاق، والعبادات سوف تتغير في واقع حياة المسلمين تغيراً كبيراً جداً إلى الأحسن، وهذا الذي لا بد أن يقع، ولن يقع حتى يقام الجهاد، والجهاد لا يقام بالإعلانات، ولا هو مجرد فتح أبوابه، وإذا كانت البيئة مهزومة فتقول: افتحوا أبواب الجهاد، ولا يوجد ميدان أصلاً، البيت يريد أولاً البناء، وأن يوضع له أساس قوي، عندها تفتح أبواب الجهاد، وستفتح في مواعيدها بإذن الله تبارك وتعالى.
ولذلك نقول: الجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو فعلاً ذروة كذلك، لكن كيف يكون قائماً؟ سنام البعير الذي له قوائم؛ وبقية بدنه أيضاً سليم، هذا الذي لا بد منه، ولابد أن يتوفر هذا في الذي يريد أن يجاهد، ولا بد أن يسير على الطريق، وينتظر عند ذلك، ولكن عندما يكون هناك انتظار بغير ((إِنَّا عَامِلُونَ)) بغير توكل على الله، فيكون انتظار في صالح العدو، وهو انتظار يائس، وليس هذا هو المطلوب من الأمة في هذا المقام، قال عز وجل: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود:121 - 123] الأمر إذاً مهم جداً.
إن سورتي هود ويوسف نزلتا على النبي عليه الصلاة والسلام في الأوقات الشديدة جداً، عندما بدأ التخطيط والكيد من أهل الكفر يفكر كيف يقضي على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للقضاء على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يقولون: النصر بعد سنة، أو سنتين، أو خمس، أو ست، أو عشر! لا يجوز أن نحدد، فلا ندري متى يكون ذلك، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود:123] وإنما عليك أن تستمر في العمل، وتنتظر ما يغير الله عز وجل من أحوالنا، بالعمل بما نقدر عليه يفتح الله لنا أبواب ما لا نقدر عليه، والعمل بما نعلم يعلمنا الله عز وجل بسببه ما لا نعلم، وحينها تجد أن الأمور قد وضحت، إن قيل: ماذا نعمل؟ أو لماذا الدنيا مظلمة؟ لأننا لم نسر كما ينبغي، كما قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، ولذلك عندما يكون الشخص في حيرة من أمره يصلي صلاة الاستخارة، ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
ثم يدعو بالدعاء المأثور.
فنعمل بما نعرفه، وربنا يفتح لنا أبواب ما لا نعرفه، إذا عملنا بتقوى الله جعل الله لنا نوراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] فرقان نفرق به بين الحق والباطل، حتى تعمل وتعلم أولاً ما هو الصح؛ كشخص وكأمة وكطائفة مؤمنة، لأنه أحياناً قد يقوم الإنسان بعمل شيء وليس هذا هو الوقت المناسب له، فيترتب على ذلك تأخر طويل المدى؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع المسلمين من أعمال في أول الأمر؛ ثم بعد ذلك فعلها صلى الله عليه وسلم، فقد استأذنه أهل العقبة -أصحاب بيعة العقبة- أن يميلوا على أهل الوادي من المشركين، فقال: (إني لم أؤمر بقتالهم).
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله لماذا شرع الله عز وجل أولاً كف الأيدي في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] قال: شرع الله ذلك؛ لأن المسلمين لو قاتلوا الكفار حينئذ لاستؤصلوا، ولأبيدوا، وكما قال الإمام الجويني: إذا نزل ملك عظيم الشوكة انتصر لبلاد الإسلام لم يتسارع إليه الآحاد؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لأهينوا ولاصطدموا، والاصطدام معناه الإهانة.
فالمقصود: عندما يكون المرء لا يعلم ماذا يصنع يلجأ لربه، ولو كان لا يستطيع أن يعمل كل شيء فيعمل بقدر طاقته كما قال سبحانه: ((إِنَّا عَامِلُونَ)) إذاً: يعمل ما هو قادر عليه، فأنت تقدر أن تصلي فصل، وتقدر أن تتعلم فتعلم، وتقدر ان تدعو إلى الله فأدع إليه.
إذاً: أتمنى من كل أحد منكم أن يخرج من هنا فيطبق ما قلناه، وكل يوم يتعلم آية، أو آيتين أو ثلاثة، ويفهم معناها، وأن يكون له في كل يوم وقتاً لتعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع التطبيق، ونشر هذا الكلام في المسلمين، فلو نشرنا هذا الكلام في المسلمين، وتعلموا السنة، فلن يقدر أن يخدعهم أحد أو يميل بهم يميناً أو شمالاً، ولما أن نتعلم التوحيد بطريقة مبسطة، بالآية بالحديث، مثل كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لو عرفنا الآيات الدالة على صفات الرب سبحانه وتعالى، وعلى سائر أمور الاعتقاد الواجبة، وتنشر هذه الأمور في المسلمين، وكذا الأخلاق الواجبة، ونتعلم كلام النبي عليه الصلاة والسلام في ما يلزمنا في الآداب والأخلاق وأعمال القلوب الواجبة، فسيحصل تغير بإذن الله تبارك وتعالى.(29/7)
أثر الدعوة بين شرائح المجتمع المختلفة
يجب أن نسعى بالدعوة إلى الله كل منا في مجال وجوده، وفي مجال اختلاطه بالناس؛ ونحن نختلط بلا شك بعشرات المنكرات كل يوم.
أروي لكم قصة عشتها أنا فعلاً وما كنت أتصورها: خرجت في يوم ما من خطبة الجمعة فوجدت بعض الأولاد بجوار المسجد على بعد مترين أو ثلاثة يلعبون بالنرد وأصوات الموسيقى مرتفعة إلى جانب ذلك كله، وكان الناس في الخطبة متضايقون جداً مما يحدث، وأنا حز في نفسي أن لا أقول لهم أي شيء، فذهبت إليهم ونصحتهم بأن يستغلوا أوقاتهم في أمور هي خير من النرد والأغاني، فوجدت أنهم يحفظون شبهات حول اللعب بالنرد، وينكرون حرمته، وبعد نقاش تركتهم وذهبت، ثم سمعت أحدهم يقول: ارفع هذا الشيء عنا، فحمدت الله تعالى على ذلك، حتى ولو لم يقتنعوا المهم أني أفسدت عليهم شيئاً من هذا الحرام الذي وقعوا فيه.
إذاً: فالناس عندها استعداد لتقبل الخير؛ حتى ولو للحظة، ويمكن أنهم أقفلوه حياءً من الذي أمرهم، والحياء من الإيمان.
وهناك من يتكلف أن لا يرد كلام أحد، خصوصاً إذا كان هناك فارق في العمر، فيقولون عنه: رجل من أصول القرن الماضي، فلو أن الشباب تقدموا لأمثالهم وكلموهم لأثروا فيهم، ودائماً الشباب يؤثرون على بعضهم، ونجد أن أولادنا يحبون أصحابهم أكثر من آبائهم وأمهاتهم، هذا أمر لا شك فيه؛ لأنه يرى أن أمه وأباه لا يفهمون الدنيا، وهم من زمن آخر، فمن الذي سيكلمه إلا صديقه.
فأيها الشاب! لو وجدت فكرة منكرة تنافي الفطرة سيعملونها نحذرهم منها، وكذلك لو وجدت فكرة صالحة قد يعملونها فحفزهم لعملها والتحلي بها؛ لأنك قريب منهم، وعندك نفس احتياجاتهم وشهواتهم.
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لو طبقت من جميع الملتزمين بكل مستويات اختلاطهم، ولم تقتصر على مجرد خطبة أو درس في المسجد، أو ندوة أو محاضرة، وإنما تكون كلمة الحق في كل مكان نصل إليه، ولا نخجل منها، ولا نستحيي، فأهل الباطل لا يستحون، وكما ذكرت الطبقات المختلفة مؤثرة على بعضها أكثر من تأثير البعيد عنها، الشباب يؤثرون في الشباب، والبنات يؤثرن في البنات، وكل أهل ملة عندهم فهم معين يؤثر بعضهم في بعض أكثر مما لو حدثهم آخر.
فلو أن طبيباً نصح الأطباء، سيختلف الأمر عما لو نصحهم صاحب أي مهنة أخرى، فلو نصحهم نجار مثلاً لقالوا له: أنت لا تفهم أي شيء عنا، ولا تعلم ما نحن فيه، لكن لو كان الناصح من بينهم وقال لهم مثلاً: عليكم أن تتقوا الله، وتغضوا أبصاركم عن عورات المرضى، ولا تستهينوا بالعورات مثلاً، فذلك يختلف عما لو كان من غير مجالهم، فكل واحد في مجاله، الشاب في مدرسته وجامعته، والعامل والموظف في عمله، والجار مع جاره، والمرأة مع صديقتها وجارتها، لو حدث ذلك لتغير واقع الناس، ولكنا فعلاً سائرين على الطريق، بما نقدر عليه، ولن نقول للناس: افعلوا ما لا طاقة لكم به، ولا نقول: افعلوا أي شيء، ولو كان على غير الطريق، فلا بد أن نسير؛ ولكن على الطريق.(29/8)
تاريخ وقوع النصر
متى يقع التغيير؟ قال الله تعالى: ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فلا نجعل التاريخ محدداً، أو نجعل نهاية الدنيا كلها خلال خمسمائة سنة بعد ألف وثمانمائة، أو ألف وأربعمائة، أو هذا هو القرن الذي ستنتهي فيه الدنيا، هذه خزعبلات، دعوكم منها عباد الله! ولابد أن نعلم أن القريب ربما يكون بعد ألف سنة، والله عز وجل أنزل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1] من ألف وأربعمائة سنة؛ لأن ألف وأربعمائة سنة وزيادة شيء يسير بالنسبة لله سبحانه، فلا تظنوا أن هناك تاريخاً محدداً لذلك.
قال تعالى: ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ)) فليس للنبي صلى الله عليه وسلم أمر، كما قال عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ثم قال: ((وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ))، وهذا كقوله: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا))، وكقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فهذه قضية عظيمة ومهمة، ثم قال سبحانه: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) فمراقبة الله سبحانه وتعالى، وإخلاص النية له عز وجل، لو علم الله الرغبة في نصرة دينه، واتباع كتاب الله عز وجل من طائفة منا، ليس حتى من جميعنا، لتغير الواقع الذي نعيشه بإذن الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه، ومظهر كلمته سبحانه وتعالى، ومعليها في الأرض كلها ولو كره الكافرون.
وهذا اعتقاد راسخ لا بد أن نوقن به؛ ولكن لابد أن نكون لبنات في البناء، وخطوات على الطريق، وأساس يوضع؛ ليرتفع عليه البناء على قواعد مدفونة تحت الأرض، لا على ظاهرها، لئلا يسقط مع أبسط هزة البناء.
فلابد أن نكون نحن لبنات في البناء، وأساس له، وسيظهر قطعاً بإذن الله، وبلا شك أن المهدي من أبناء أحد أفراد هذه الأمة، ونحن لا نعرف متى مواعيده، لكن هو غير موجود هذا الوقت جزماً، لكن سيكون من أبناء أهل الإسلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا الذين يجاهدون الدجال، والذين يفتتحون قسطنطينية ورومية، سيكونون من أبناء المسلمين اليوم بإذن الله تبارك وتعالى، فمن الذي علمهم؟ من الذي رباهم؟ إلا نحن، فلننظر كيف تربيتنا لأبنائنا ولأمتنا.
إن كنا نريد أن نكون على الطريق بإذن الله تبارك وتعالى؛ فلنكن نحن الذين ربيناهم، أو ربينا الذين يربونهم، ونجتهد في ذلك، ويمكن أن نكون نحن، والله أعلم، فالأحوال تتغير في لحظة، والموازين الدنيوية سرعان ما تتبدل في أسرع من لمح البصر، قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] يقول سبحانه للشيء: كن فيكون، ولا يحتاج الأمر إلى تسمية أو تكرار، فبإذن الله تبارك وتعالى تنقلب الموازين على أعداء الله عز وجل من حيث لا يشعرون، لكن لا ندري متى، فنعمل الواجب علينا، وما شاءه الله كان.(29/9)
غزوة أحد
يجد المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحكم والفوائد والعبر، والدروس المهمة الشيء الكثير، مما يحتاجه المسلم في حياته، سيما في مثل زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وبدأ أناس يستوردون حلولاً لقضاياهم ومشاكلهم من الغرب الكافر، ولو تأملوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أشكل عليهم مشكل، ولما احتاروا في أمرهم.(30/1)
السيرة النبوية ضياء للمسلم يسير عليه في حياته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن من أعظم ما يحتاج إليه المؤمن في سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وتحتاج إليه الجماعة المؤمنة والطائفة المسلمة فيما تواجهه من صعوبات وعقبات وتحديات في سعيها لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في الأرض، هو دراسة سير الأنبياء وسننهم، وخاصة سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، واستيعاب وإدراك المواقف الإيمانية والعبر والعظات التي جعلها الله عز وجل في سيرته صلى الله عليه وسلم، وكيف واجه المواقف المختلفة التي نوّع الله عز وجل أقسامها بين شدة ورخاء، وبين عسر ويسر، وبين استضعاف وتمكين، وبين قوة وضعف في الظاهر، وستجد أنها تستوعب الأقسام المحتملة التي يواجهها أهل الإيمان في صراعهم مع أهل الباطل عبر العصور، وهم يحتاجون في كل موقف إلى تلمس النور من منبعه ومصدره الذي أفاضه الله عز وجل على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكيف كانت مواقفه عليه الصلاة والسلام في كل حال.(30/2)
حاجة المسلم للاستفادة من دروس غزوة أحد
سنذكر مختصراً من الوقائع المختلفة من سيرته صلى الله عليه وسلم من كتاب الرحيق المختوم، ونتبع ذلك بتناول هذا الموقف من كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن الغزوات الكبرى والمواقف العظيمة جعلها الله مبينة في كتابه أحسن بيان، وقد تناولتها سور القرآن المختلفة، وبين ربنا سبحانه وتعالى العبر والعظات والسنن التي يحتاج إليها أهل الإيمان دائماً في كل أمورهم، وقد ذكر الله عز وجل غزوة أحد، وهي من أعظم الغزوات أهمية، ودروسها من أعظم الدروس أهمية في حياة المؤمن والطائفة المؤمنة في سيرها إلى الله عز وجل.
ذكر الله هذه الغزوة في سورة آل عمران، وبينه أحسن بيان، ليس لمجرد ذكر الوقائع أو تفاصيل الغزوة، وإنما لبيان حقائق الإيمان المتعلقة بالمواقف المختلفة التي حصلت للمؤمنين، وحصلت لأعدائهم من الكافرين، والآيات من سورة آل عمران تتناول هذه القصة بالبيان والتفصيل، وسنذكرها مقترنة بتفسيرها إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:121 - 132].(30/3)
سبب غزوة أحد
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد، وعن الحسن البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب، رواه ابن جرير، وهو غريب لا يعول عليه.
وصدق في ذلك؛ لأنه لا وجه للقول بأن هذه الآية المراد بها يوم الأحزاب، ولو كان الأمر كذلك لذكرت في سورة الأحزاب، والقصة معلومة أنها في سياق غزوة أحد.
قال: وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة، قال قتادة: لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم، وكان سببها: أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان، فلما رجع قفلهم -يعني: العائدين- إلى مكة قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لـ أبي سفيان: أرصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، يعني: أنهم أنفقوا في عزوة أحد أموال القافلة التي نجت، والتي كانت سبباً لحصول غزوة بدر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج كي يأخذ هذه القافلة، فقدر الله نجاة القافلة ووقوع وقعة بدر مع جيش المشركين، فجعلوا هذه الأموال لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:36 - 37]، وقد كان.(30/4)
قوام جيش المشركين واستشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
قال ابن كثير رحمه الله: فجمعوا الجموع والأحابيش، والأحابيش هم: من حول قريش، يعني: من أنفسهم وممن حولهم، وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له: مالك بن عمرو.
يعني: صلى عليه صلاة الجنازة، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس: أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة، فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة، وألا يخرجوا منها، قال: فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورمتهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا عن القتال رجعوا خائبين، وكان هذا رأياً سديداً من جهة الخطة العسكرية، وهي أن المسلمين أمكن بالمدينة، فهم متمكنون فيها، فلو بقي المشركون خارج المدينة في الصحراء أقاموا بشر محبس، أي: كانوا محبوسين في شر مكان؛ لا طعام ولا شراب ولا مسكن، وقد يبقون مدة طويلة خارج المدينة، قال: وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، والنساء والصبيان من فوقهم، أي: رموهم بالحجارة، يعني: سيحكم الخناق على كفار قريش في أزقة المدينة وطرقاتها، قال: وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم.(30/5)
الشوق للجهاد والتضحية في سبيل الله
أشاروا بذلك لأنهم كانوا متشوقين لبذل النفوس في سبيل الله عز وجل، ورغم أن هذا لم يكن بالرأي الأصوب من جهة الخطة العسكرية إلا أن المسألة مسألة اجتهادية، ونلحظ من هذا فائدة عظيمة، وهي: قضية استعداد المسلمين للبذل والتضحية في سبيل الله، وشوقهم وحبهم للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن الذين فاتتهم غزوة بدر حزنوا على ما فاتهم من الخير، وهكذا المؤمن دائماً إذا فاته شيء من الخير يحزن عليه، كما ذكر الله عز وجل ذلك عن الذين عجزوا عن الخروج في غزوة تبوك فقال: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
وهذا بخلاف المنافقين؛ فإنهم يفرحون بتخلفهم عن الخير، وعن بذل النفوس والأموال في سبيل الله عز وجل، كما قال عز وجل عنهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
ومن هذا نستفيد فائدة مهمة جداً، وهي: رغم خطأ هذا الرأي من الناحية العسكرية إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يقبل هذا الرأي منهم، وأن يمضي عليه، ومن سياق القصة الطويل في سورة آل عمران نجد أنه صلى الله عليه وسلم لم يعاتب أحداً اختار الخروج بدلاً من البقاء.
فالمسألة مسألة اجتهادية، وهم اجتهدوا في أي الأمور أصلح: هل يخرجون لقتال المشركين خارج المدينة أم يبقون في الداخل؟ وكان الرأي الأصوب من جهة الخطة العسكرية البقاء في المدينة، ومع ذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد ورأى أن أكثر أصحابه يريدون الخروج فخرج؛ مراعاة لما في قلوبهم من أنواع الخيرات، فقلوبهم محبة للجهاد في سبيل الله ومستعدة للبذل والتضحية.
وقد عاتب الله عز وجل من قصر منهم، لكن لم يذكر عتاباً قط على أن هذا كان خطأً من الجهة العسكرية، فلم يذكر سبحانه وتعالى على هذا عتاباً قط، على رغم أنه ما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وأن البقاء في المدينة خير لهم، إنما كان العتاب على المعصية بعد ذلك وعلى مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى إرادة الدنيا وعدم إرادة الآخرة.(30/6)
فقه التعامل مع الآراء
وهنا فائدة عظيمة الأهمية، وهي: أننا إذا اخترنا رأياً معيناً فيما نواجه من وقائع، وكان هذا الرأي من الجهة الواقعية غير موفق، أو كان غيره أولى منه، لكن كانت النية في اختيار هذا الرأي خالصة، وكانت إرادة وجه الله عز وجل وإرادة نصرة دينه وإرادة البذل في سبيله سبحانه وتعالى هي الحاصلة، فلا يعاتب صاحب هذا الرأي، حتى وإن حدث ابتلاء، أو حدثت محنة، بل قد يحدث قتل، وقد تكون هناك شهادة للبعض، وجرح للبعض الآخر، كما وقع في غزوة أحد، ولكن من أين أتي الناس في غزوة أحد؟ هل أتوا من قبل أنهم اختاروا هذا الرأي الذي كان غيره أولى منه، أم أنهم أتوا من قبل النيات ومن قبل الإرادات، ومن قبل مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلهذا نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاتب الذين أشاروا عليه بالخروج للقتال خارج المدينة، ولم يقل: أنتم السبب، وأنتم الذين جعلتمونا نخرج إلى المشركين، وكان الأولى أن نجلس، لم يعاتب على ذلك، وإنما عوتب الذين تركوا أماكنهم من الرماة، وعوتب من أرادوا الدنيا كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وعوتب من ظنوا بالله ظن الجاهلية، وعوتبوا على ما وقع في قلوب بعضهم ساعة الفرار وساعة الانسحاب غير المأمور به من الوقعة، وأيضاً ذُم المنافقون على نفاقهم.
فهذا الأمر هو الذي ينبغي أن نستعمله دائماً فيما نواجهه من وقائع وأمور، ولا نشغل أنفسنا كثيراً بأن هذا الرأي كان خطأً وأنه كان سبب المشكلة؛ لأن سبب المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في كل مواقفنا مع من يخالفنا، ومع أعداء الإسلام، -لو دققت- تجد أن سببها ما ينبع من داخلنا ومن أعمالنا ومن أحوال قلوبنا، وهذا هو الذي نبهنا عليه القرآن، وتأمل الآية التالية مباشرة وهي: ((إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)).
هذا الذي كان عليه العتاب، ومن ثم يجب معرفة كيف ينجو الإنسان أو تنجو الطائفة المؤمنة من هذا المرض الخطير: وهو الفشل، والتخاذل والابتعاد عن طريق الخير والحق، وترك مواجهة أعداء الله سبحانه وتعالى، هذا هو الخطر العظيم، فكيف يعالج؟ يعالج بالتوكل على الله عز وجل كما سيأتي بيانه.(30/7)
عزم النبي صلى الله عليه وسلم على المواجهة خارج المدينة
قال ابن كثير رحمه الله: وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهدوا بدراً بالخروج إليهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته، واللامة: آلة الحرب، كالدرع، والرمح، والسيف، والبيضة، والمغفر، وسائر أدوات الحرب، فلبس النبي صلى الله عليه وسلم أداة الحرب، وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إن شئت أن نمكث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له).
وهذا فيه أمر مهم، وهو: عدم التردد؛ لأن كثرة التردد في الأمور يؤدي إلى زعزعة الهمم والعزائم، وعدم استمرارها واستقرارها، وخصوصاً من القادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قائد أمته عليه الصلاة والسلام، ولو تردد وقبل أن يرجع وأخذ هذا الرأي ثم رجع مرة أخرى لكان ذلك فتاً في عضد أتباعه من المؤمنين، ولكن لا يعني هذا أن الإنسان لا يرجع عن الرأي الذي يراه خطأً أو غير سديد، بل عليه أن يرجع إلى الحق، ولكن في الأمور الاجتهادية الأمر فيها واسع.
لكن التردد فيها قد يكون خطيراً إذا كان يؤدي إلى الفت في عضد الأمة.(30/8)
خيانة المنافقين
قال: فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، فلما كان بالشوط -ما بين المدينة وبين جبل أحد- رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.
وهذا من عجيب شأن المنافقين، فهذا المنافق يعلم أنه قد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج، ثم قرر النبي صلى الله عليه وسلم الخروج وخرج معه، ثم تراجع ليفت في عضد المسلمين، وهذا خبث ومكر ودهاء من المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، فإنه رجع بثلث الجيش.
وهذا دليل على أن عبد الله بن أبي له وزن عند كثير من الأنصار في ذلك الوقت؛ لأنه كان مطاعاً مقدماً، كاد أن يصبح ملكاً على المدينة قبل ثلاث سنوات فقط من هذه الوقعة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وكادوا أن يتوجوه بالعصابة ويجعلوه ملكاً على المدينة، فكانت له منزلة، فرجع من الألف تقريباً ثلاثمائة وقليل، رجعوا مع عبد الله بن أبي، ولم يكن كلهم منافقون النفاق الأكبر، ولكن استجاب كثير منهم لقول عبد الله بن أبي، وهذا دليل على خطر النفاق.
فطائفة المنافقين تفت في عضد الطائفة المؤمنة، وتوهن عزائمها، وتوهمها بأنها معها ثم تتراجع في مرحلة المواجهة، وفي ساعات الخطر، ويزعمون أنهم لا يرون قتالاً، كما قال عز وجل حاكياً عنهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167]، لكن نحن لا نراكم تقاتلون اليوم أحداً، ولا يوجد حرب اليوم، فإذاً: لماذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا جاء ثلاثة آلاف من المشركين؟ هل يرجعون بدون قتال؟ والرسول قد خرج بالفئة، لكن هذا من خبث المنافقين، ومن محاولة التلبيس على المسلمين؛ ولذلك ذمهم الله على هذه الوقعة، كما سيأتي في سياق السورة.(30/9)
خطر المعصية، وأهمية الأخذ بالأسباب
قال: واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي -والعدوة هي جانب الوادي- وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: (لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال)، وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، من الأنصار، وعدد الرماة يومئذٍ خمسون رجلاً، فقال لهم: (انضحوا الخيل عنا، انضحوهم بالنبل) يعني: ارموهم بالنبل، وارموا خيلهم إذا هجموا علينا، وهو عليه الصلاة والسلام في ظهر أحد، والمشركون أمامه، والرماة على الجبل، وقد أمرهم أن يرموا خيل المشركين بالنبال، فقال: (انضحوا الخيل عنا، ولا نؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم وإن كانت النوبة لنا أو علينا)، أي: إن كانت الغلبة لنا أو علينا الزموا مكانكم فلا دخل لكم بالقتال، وإنما مهمتكم الأساسية هي رمي المشركين بالنبال، واحذروا أن نؤتى من قبلكم؛ لأنه لو التف جيش المشركين من هذا المكان من عند جبل الرماة، ونزلوا على المسلمين من علو فسيتحكمون في المسلمين وتكون الدولة لهم، فكان المطلوب من الرماة أن يمنعوا المشركين من الرقي إلى هذا المكان فيؤتى المسلمون من قبلهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم)، أي: لا نريد إنقاذاً منكم، ولا تتدخلوا في القتال، حتى لو رأيتم المسلمين تتخطفهم الطير فلا تبرحوا مكانكم، وهذا فيه مبالغة في لزوم المكان، وتأكيد على عدم الفرار.
قال: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، أي: جمع بين لبس درعين وليس درعاً واحداً، وهذا فيه الأخذ بالأسباب، وأنه لا ينافي التوكل على الله عز وجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعصمه الله من الناس ظاهر بين درعين، وهذا فيه أنه كان يأخذ بالأسباب، ويتخذ وقاية يتقي بها العدو، وهذه سنة الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسنة الصالحين، وأهل السنة ليس عندهم ترك الأخذ بالأسباب زاعمين أن التوكل على الله يكفيهم، بل يأخذون بالأسباب مع كونهم متوكلين على الله عز وجل، فهم يتوكلون على الله بقلوبهم، ويأخذون بالأسباب بجوارحهم.
فظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء لـ مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من قريش، ومصعب رضي الله تعالى عنه أحد فضلاء المسلمين، ويكفي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- يقول: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فرضي الله تعالى عنهما، وقتل ولم يقطف من ثمرته شيئاً، ولم ينل شيئاً من أجره في الدنيا، بل أجره كله يُدخر عند الله عز وجل، وإعطاء مصعب اللواء فيه إشارة عظيمة، ولطيفة دقيقة، وهي أن مصعباً رضي الله عنه كان سفير الإسلام إلى المدينة، وهو الذي دخل على يديه أكثر أهل المدينة في الإسلام، وأكثر الأنصار إنما أسلموا على يديه رضي الله تعالى عنه، وهو الذي نشر الإسلام في المدينة، لذا كان هو الذي يحمل اللواء في هذه الموقعة، ومعلوم أن أكثر الجنود كانوا من الأنصار، فكان في هذا تكريم عظيم لـ مصعب رضي الله تعالى عنه، ثم في بقائه ثابتاً على اللواء حتى استشهد رضي الله تعالى عنه وليس له من الدنيا شيء، زيادة تكريم له، فهذا فيه إشارة إلى ما له عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.(30/10)
أهمية التربية الصالحة
قال: وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذٍ، وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق، وكان بعد هذا اليوم بقريب من سنتين، وكان فيمن أرجأهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ولم يجز إلا الذين كانوا أشداء على القتال، فالرسول صلى الله عليه وسلم الذين وجدهم قد نازلوا أو قد بلغوا وعندهم القدرة على القتال أجازهم في الجيش.
وهذا فيه دليل على أن الصحابة كانوا يربون أبناءهم على حب الجهاد في سبيل الله عز وجل وعلى التضحية والبذل، كانوا يربونهم على ذلك وهم صبيان يناهزون البلوغ، وأعمارهم ما بين إحدى عشرة أو اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة، فالذي عمره ثلاث عشرة يعني أنه في عمر من هو في الصف الثاني الإعدادي في هذا الزمان، ومع هذا كانوا يحرصون على أن يكونوا في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازهم النبي عليه الصلاة والسلام للقتال، وبعضهم كان عمره أربع عشرة وبعضهم خمس عشرة سنة، وأياً ما كان سنهم فإن البذل والتضحية في مثل هذا نادر، لكنه متصور من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، الذين اختارهم الله عز وجل على الأمم، فالعبرة كانت في ذلك ليست بالسن ولكن بإطاقة القتال.
قال: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس، قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار.
وهذا فيه فائدة مهمة جداً، وهي: أننا ذكرنا أن مصعباً من بني عبد الدار، كان هو حامل لواء المسلمين، وحامل لواء المشركين كان من بني عبد الدار أيضاً، فهنا فائدة مهمة وهي: أن العرب كانت الرابطة التي تربط المجتمع عندهم هي رابطة القبلية، ورابطة العائلة، والأسرة الواحدة، لكن الإسلام فرق بينهم، فليس هناك عبرة بالأنساب طالما اختلفت العقيدة، وطالما اختلفت الملة والدين، فلا عبرة بما هو أدنى من ذلك، فكان عندهم من أقوى الروابط رابطة العائلة والأسرة، فهذا بطن من بطون قريش، وليس قبيلة كبيرة، وهكذا من الروابط وحدة المنشأ ووحدة الوطن ووحدة القومية، ووحدة اللغة، فالأسرة الواحدة كلها موجودة، وحامل لواء المسلمين مصعب من بني عبد الدار، وحاملوا لواء المشركين كانوا تسعة متتابعين، أو جملة متتابعة من بني عبد الدار، فرابطة العقيدة وآصرة الدين هي الآصرة التي يؤسس عليها المجتمع المسلم، وتبنى عليها الطائفة المؤمنة، دون نظر إلى الروابط الأخرى، ولو وجدت الروابط الأخرى فهذا آكد، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يقاتل الرجل تحت راية قومه؛ ليكون مع القريبين من قبيلته؛ لأن هذا أقوى له، وهم أعلم ببعضهم، ويستطيعون التعامل مع بعضهم بطريقة أنسب، فأهل الرابطة الواحدة أعرف بطباع بعضهم من غيرهم، وهم أعلم بما يحبه قومهم وما لا يحبونه، فهذا أمر مطلوب ولا مانع منه.
ولما أن تكون العقيدة واحدة وأضيفت إليها روابط الأسرة الواحدة أو العائلة الواحدة أو الوطن الواحد، أو القومية الواحدة هذه كلها تصبح جملة روابط مؤكدة لرابطة الإيمان، فلا نأباها ولا ننبذها؛ لأنها مؤكدة للرابطة الأصلية، رابطة العقيدة التي اجتمع عليها المجتمع المسلم، وبنيت عليها الطائفة المؤمنة، لكن عند أن تتعارض معها وتخالفها فلا بد أن تقدم رابطة الإيمان ولا عبرة بما سواها من الروابط.
ولذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم حبال الجاهلية ووصل الأمة بحبل الإسلام؛ وهو حبل واحد، فكل رابطة تعارض أو يراد لها أن تكون بدلاً عن رابطة الدين، والتوحيد، والإيمان فهي رابطة مقطوعة، ولا عبرة بها، وأما إذا كانت مع رابطة الدين فهي تعضدها وتقويها، وينتفع بها في سبيل تحقيق الغايات المحمودة من رابطة الدين ومن طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(30/11)
الاستعداد للقتال والتحذير من الفشل
قال: ثم كان بين الفريقين من الأحداث ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات إن شاء الله تعالى.
قال ابن كثير: ولهذا قال تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ))، أي: تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة وميسرة، وحيث أمرتهم، ((وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))، أي: سميع لما تقولون عليم بضمائركم، وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالاً حاصله: كيف تقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة، وقد قال الله تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)) الآية؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوئهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار.
وهذا السؤال طبعاً أخذه من كلمة (غدوت) والغدوة هي: أول النهار، يقال: غدوة وعشية، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم بوأهم بعد الجمعة يكون قد دخل في المساء، أي: في العشي، ولا يصح أن يقال له: غدوت.
فيقول ابن جرير: إن الغدو كان يوم السبت صباحاً، وكان هذا لأجل خروج النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة، فما بعد الجمعة لا نسميه يوم الجمعة، ولكن نقول: بعد يوم الجمعة، أي: يوم السبت صباحاً.
وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122] الآية.
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122]، الآية.
قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب، وقال سفيان مرة: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لأن فيها عتاباً، وفيها ذكر بني سلمة بنوع من النقص، وهو: الهم بالفشل، قال: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا))، أي: أن الله هو الذي تولى أمرهما، وهو سبحانه وتعالى الذي تولى إصلاحهما، ولذلك كان هذا كرامة لأولياء الله عز وجل، وأن بني حارثة وبني سلمة الذين ثبتهم الله من أوليائه عز وجل؛ لأن الله قال: ((وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)).
قال: وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به، وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة.(30/12)
تنزل النصر رغم الضعف المادي
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] أي: نصركم يوم بدر، وكان يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وحزبه، وهذا مع قلة عدد المسلمين يومئذٍ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ليس فيهم إلا فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، وليس معهم من العُدد جميع ما يحتاجون إليه، بينما كان عدد العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف، وهم في سوابغ الحديد، أي: الحديد السابغ المغطي للبدن، أي: المواضع التي تحفظ من البدن عند القتال، وكانوا لابسين دروعاً وبيضات، فهم في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله.
قال ابن كثير رحمه الله: ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ))، أي: قليل عددكم؛ ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، إلى قوله تعالى: ((غَفُورٌ رَحِيمٌ)).(30/13)
قل كل من عند الله
التقى معسكر الإيمان بمعسكر الكفر في يوم أحد، وشاء الله لحكم جليلة وعظيمة الهزيمة للمسلمين، وكان مرد الهزيمة إلى أعمال القلوب والجوارح، وكان في ذلك خير للمسلمين، حيث ظهر أهل النفاق، وبدت بطولات أهل التوحيد والوفاق، وتمحصت النفوس في هذه الشدة، وعلم المسلمون بأنهم إنما يقاتلون عدوهم بأعمالهم، وأن الذنوب والمعاصي هي سبب في تأخر تغيير هذا الواقع المؤلم، وأن العبرة بالجودة لا بالكثرة.(31/1)
ظن المنافقين بالله عز وجل يوم أحد
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد: فيقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:154 - 160].
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أنواعاً من ظن الجاهلية، ومن عقائد الكفار وأهل البدع والضلال في تفسيره لقوله عز وجل: ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)).
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، وقولهم: ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا))، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، فهم لا يقصدون أن يثبتوا أن الأمر لله، وإلا لما حسن الجواب عليهم بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، وإنما يعنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمع لنصيحتهم ولم يستمع لكلامهم، وأنه لأجل عدم أخذه لرأيهم حدثت الهزيمة.
وقد ذكرنا من قبل أن كثيراً من الناس عند المصائب والهزائم والمحن يكثر من البحث عن الأخطاء الظاهرة، سواء كانت أخطاء عسكرية، أو أخطاء في القرارات، أو أخطاء في طريقة العمل، وينسى أن هذه الأمور في النهاية هي أمور اجتهادية، وليست هي التي ذكر الله عز وجل في سبب الهزيمة، وأن الأمر ليس أنه كان الأصوب عدم الخروج إلى جيش المشركين خارج المدينة، وكان الخطأ هو خروج المسلمين، فالمسلمين انتصروا بفضل الله في أول المعركة وقد خرجوا، فليس الخطأ العسكري في عدم البقاء في المدينة هو السبب في الهزيمة، فهذا لم يذكره الله قط، ولكن هؤلاء لا يعرفون إلا الأمور الظاهرة، لذلك قالوا: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، يعنون أن الرسول لم يسمع كلامهم، فهم لم يقصدوا إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله.
قال ابن القيم: [فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية] إذ نص هذا الكلام، ((الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، اعتقاد الحق، وليس يمكن أن يكون اعتقاد الحق هو مصدر ظن الجاهلية، وإنما ظن الجاهلية مصدره عقيدة الجاهلية وسوء الظن بالله، وعدم الإيمان الصحيح.
يقول ابن القيم: [ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم، فيسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية] ولو كان كذا لكان كذا وكذا، فلو لم نخرج لانتصرنا، ولو لم نخرج لما قتل منا من قتل، فهذا الكلام الباطل الذي يقع فيه كثير من الناس، وينسون أن سبب المصائب والمحن والهزيمة والانكسار هو المعصية والمخالفة لشرع الله، وحتى ولو كان الأمر محتملاً أن يكون خطأ عسكرياً فالله عز وجل يجعل من الأسباب الضعيفة أقوى الأسباب، ويجعل من الخطأ الذي هو أمر اجتهادي -طالما أنه دون معاصي ودون ذنوب- ذلك الخير الكثير.
فالعبرة أن نأخذ بالأسباب ولكن لا نقف عندها، بل نتعمق لنفهم أن هناك ما هو أشد تأثيراً من هذه الأسباب، وهو أعمال القلوب وما يكون عليه حال الجيش في الطاعة والمعصية، وحال الطائفة خصوصاً وحال الأمة عموماً.
فلابد أن نعرف أن هذه من أكبر الأسباب، وليس فقط أن السبب مثلاً أن الأسلحة كانت قديمة، أو أن التخطيط العسكري كان خطأ، أو نحو ذلك مما تبرر به الهزائم دائماً، فأعمال القلوب هي السبب في الهزيمة أو الانتصار، وأنت لو تأملت ما يقع في المعارك ستجد أن قضية التفاوت في القوة المادية ليس هو العامل الرئيسي في الهزيمة أو الانتصار وإنما تجد على أرض المعارك أمراً يختلف تماماً عن الموازين المادية المحضة، فتجد أن أعتى القوى والجيوش ربما قد تعجز أمام أفراد معدودة ومحدودة، وعندما تبدأ أعمال القلوب الفاسدة من الغش، والتعلق بالدنيا، وبيع القضايا، وبيع الأديان والأوطان والشعوب بالمال وبالشهوات، هنا يدخل العبث.
فمرد الأمر في الهزائم إلى أعمال القلوب، فكم من هزيمة وقعت، وأرض احتلت، كان سببها أعمال قلوب طائفة من الأمة، أو جيل من الأمة وقعوا في المعاصي والمنكرات، مما أدى ذلك إلى حصول البلاء ونزوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلذلك قولهم ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) أي: لو كان الرسول وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم شيء قط، وهذه القضية هي قضية أهل النفاق الأكبر والأصغر.
يقول ابن القيم: فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر، الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فهذا أمر عظيم الأهمية في المحن والشدائد، وهو شهود القدر، وهذا هو الذي يدفع القلوب إلى تجاوز المحنة وإلى زيادة الإيمان، رغم شهود التقصير، وليس التقصير هو عدم اتخاذ القرار الصحيح عسكرياً مثلاً، بل التقصير كان في مخالفة الأمر: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152].
إن هذا شهود التقصير مع شهود القدر، وأما شهود التقصير مجرداً عن شهود القدر فإنه يدفع إلى اليأس، وإلى قتل النفس، وإلى قتل المعاني الحميدة التي في النفس، فليس المقصود من لوم النفس وعتابها والسعي في تهذيبها وإصلاحها أن يظل الإنسان يبكتها ويذمها حتى يصل إلى تيئيسها من رحمة الله عز وجل، بل لابد أن يرى الجوانب الإيجابية ويستثمرها، والجوانب السلبية ويعالجها، وليس مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان وأئمة السلف جلد النفس، أي: أن يرى الإنسان نفسه دائماً بأحط المنازل، وأنه الهالك الوحيد، كمن قال مثلاً: إنه ما حاسب نفسه إلا وجد نفسه مرائياً، إلا أن يكون كذلك، لكن أن يرى نفسه على الدوام لم يعمل عملاً صالحاً قط! فليس هذا هو الذي أمر الله عز وجل به، أو يرى أنه لم يخلص لله طرفة عين، فهذا لم يأمر الله به، إلا إذا كان كذلك فنعم، فمثل هذا الإنسان فاسد من الداخل، وهذا يذكر في كثير من كتب التهذيب على أنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه الصالحون، وليس كذلك.
فالله عز وجل وصف المؤمنين بأن قلوبهم وجلة، وأنهم يخافون ألا يكونوا أخلصوا لله، لكن لا ينبغي أن يظن بنفسه دائماً بأنه في أحط المنازل، وأنه أسوأ الموجودين، وأنه هو الهالك الوحيد، فليس هذا هو الأمر المطلوب، كما أنه لا يزكي نفسه أيضاً، ولكن يرجو القبول، ويخشى عدم القبول، ويرى الجوانب الإيجابية -وهي فضل من الله ونعمة- فيزيد منها ويستثمرها، والجوانب السلبية فيعالجها، ويشهد القدر في كل ذلك.
يقول: [فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولابد شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لا، وما جرى عليهم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولابد، سواء كان لهم من الأمر شيء أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين ينفون القدر، والذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يقع] فالقدرية جعلوا الأمر الشرعي والكوني(31/2)
أمراض النفوس تظهر عند المحن والشدائد
هذه الدروس المستفادة من قصة غزوة أحد يستفيد منها المؤمنون في كل زمن وفي كل مكان، فلا تكاد تقع محنة أو هزيمة إلا وتجد هذه الأمراض تظهر من المنافقين وممن عندهم بعض النفاق، وممن ضعف إيمانهم، وممن وقعوا في بعض المعاصي، حتى من أهل الإسلام والإيمان قد تجد عند نزول المحن والشدائد من لا يقوى شهوده للقدر، ومن لا يقع منه التفات إلى الأسباب الباطنة للهزيمة، وستجد من يقول: إنكم لم تسمعوا كلامنا، ولو سمعتم كلامنا لما جرى ما جرى.
ستجد هذه الأمراض موجودة ولكن بدرجات متفاوتة، فهناك من يكذب صراحة بالقدر، وهناك من يضعف شهوده للقدر، ويتعلق بالأسباب المادية دون الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، والتي أدت في الحقيقة إلى الهزيمة والانكسار، نسأل الله العافية.
سوف تجد هذه الأمور موجودة وقائمة في كل هزيمة تقع وتحصل، فلابد أن نستفيد من هذا الواقع، وما أشد حاجتنا في هذه الأوقات إلى الانتفاع بهذه الدروس التي كانت في غزوة أحد، وذلك أن شهود القدر في هذا الموضع مع شهود الأسباب الباطنة أو الأسباب التي هي متعلقة بالأعمال من كونها طاعات ومعاصي من أهم ما يلزمنا في هذا المقام، وتعظيم هذا الشهود حتى يمتلئ قلب الإنسان إيماناً بأن الأمر كله لله، وهذا يدفعه إلى الاستعانة بالله، وكمال التوكل عليه، فإن كمال التوكل على الله، والاستعانة بالله عز وجل تحول كفة الميزان لصالح أهل الإيمان.
فالواقع المرير الذي تعيشه الأمة يؤلم كل من في قلبه شيء من الحياة، وحال المسلمين لن يستمر فلابد أن يتغير، ولن يتغير حتى نتغير تغيراً عميقاً.(31/3)
الطائفة المنصورة هي المعتبرة في التغيير وليس الكثرة
وحتى نعرف أسباب ما حدث لنا وما يحدث لنا، فالإيمان إنما هو للطائفة المؤمنة وهي المعتبرة، وليست العبرة بالكثرة التي مثلها النبي بأنها كغثاء السيل، وإنما العبرة بالطائفة المؤمنة -التي هي الأمة في الحقيقة، وهي الطائفة المنصورة الظاهرة- على حسب أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وعلى حسب شهود معاني الإيمان عند أفراد هذه الطائفة، فإذا كان التغيير قوياً ألان الله لهم كل صعب، وألان لهم الحديد، وإذا كان التغيير سطحياً ظاهرياً ولم يدخل إلى الأعماق لم تنبت أرض القلب التغير المطلوب؛ لأن القلوب بعد لم تتغير، فهي ما زالت ضعيفة، وما زال الإيمان فيها غير راسخ، ومن هنا يأت استمرار الحال على ما هو عليه، وتسلط الأعداء بطرق مختلفة، فلابد أن يكون التغيير من جذور القلب، فإذا كان التغيير بهذا الوصف لتغير به الكون، بل ولأمكن أن تتغير موازين الأرض والسماوت، فلو أن الإنسان استحضر صفات الرب عز وجل وعمل بمقتضاها لتغير فعلاً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فلو أن الإنسان استحضر بقلبه لماذا شرع تكرير الأذكار؟ لعرف أنه شرع من أجل أن يدخل الذكر إلى أعماق القلب، فهو يحتاج إلى مجهود كبير جداً حتى يصل إلى القلب، وخصوصاً عندما تكون العوامل الخارجية صارفة لقلب الإنسان عن الحضور، ولذلك شرع التكرار، والمشكلة أنه يمكن أن يكرر لكن باللسان المجرد، فلا يتأثر ولا يتغير الواقع، فلو تدبر مثل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أو التسبيح أو تلاوة القرآن، من الممكن أن يغير تغييراً جذرياً، لا أقول في الإنسان، بل في الأرض كلها.(31/4)
دعاء الأنبياء يغير وجه الأرض
وانظر إلى دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كيف غيرت وجه الحياة على وجه الأرض؟ بل غيرت الأرض والسماوات، فهذه دعوة نوح عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] فاستوجبت غضب الرب على قوم نوح حتى فتح الله عز وجل أبواب السماء، {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فتغير وجه الحياة على وجه الأرض إلى آلاف السنين بنجاة نوح عليه السلام ومن معه، لذلك نقول: إن شهود معاني الإيمان هي: أن تكون حاضرة في القلب، وحتى يتغير الإنسان فلابد من شهود القدر وشهود التقصير الباطل، وستجد في هذا المقطع من هذه السورة ذكر الأسماء والصفات كثيراً جداً في كل المواطن، ومعاني الإيمان كلها حاضرة لمن يحضر قلبه مع هذه الآيات ولمن ينتفع بها، فإذا كان التغيير من جذور القلب ثقلت الكفة أمام الهباء؛ لأن الكفرة والمنافقين كالهباء، ولا قيمة لهم ولا وزن، ولكن المصيبة الآن أن الكفة الأخرى فيها أيضاً ما يماثل الهباء، فلذلك لا تثقل الكفة، لكن لو أن قلة فقط تتغير التغير المطلوب لتغير موازين الأرض كلها، وموازين الكون بأسرها بإذن الله تبارك وتعالى.
فلذلك كان شهود المعاني التي أرشدنا القرآن إليها والدروس المستفادة من واقعة أحد، لابد أن نستفيد منها، وأن نشهد المعاني الإيمانية التي وردت في كتاب الله عز وجل: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى بقوة شديدة ((إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، وهذا متكرر في مواطن كثيرة قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121 - 123]، فإذا استحضره استصغر كل قوى الباطل، وشعر أنهم يلعبون، {فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12]، لعب لا قيمة له، ولكن الذين آمنوا هم يلعبون أيضاً، فالقضية عند المسلمين اليوم قضية تغيير مظهري فقط، تغيير ليس ضارباً بجذوره في أعماق القلوب، فلم تتغير الأعمال والقلوب والأخلاق كما ينبغي، فما زال التغيير سطحي.
إذاً: لابد من شهود القدر الشهود النافع الذي لا يعني: إهمال الأسباب التي في مقدمتها الأسباب الباطنة التي هي أعمال القلوب، ومتى ما استقر هذا في القلب لابد أن تتحول الموازين بإذن الله تبارك وتعالى، ونسأل الله العافية.(31/5)
سبب تأخر تغيير الواقع
لماذا تطول فترة {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود:122]؟ تطول لأجل أن التغيير المطلوب ليس كالذي وقع للصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا قريباً منه، فالتغيير الذي وقع للصحابة رضي الله عنهم كان في فترة المحنة، ومن يتأمل التاريخ الإسلامي يجد أن فترة المحنة في مكة هي الفترة التي قام عليها الإسلام، فالإيمان في قلوب المهاجرين رضي الله تعالى عنهم كان أعظم مما في قلوب الأنصار رضي الله تعالى عنهم، ولذلك تجد أن من غير وجه الحياة أكثرهم من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، فهم قادة الأمة علماً وعملاً وتربية وسلوكاً، وجهاداً ودعوة، ثم الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لماذا؟ لأنهم تغيروا التغير المطلوب في فترة الشدة، والأنصار واجهوا أيضاً من هذه الأمور مواجهة عظيمة، والصحابة جملة تغيروا التغير الذي هيأهم لأن يسودوا العالم بإذن الله تبارك وتعالى، وكانت غزوة أُحد أَحد نقاط التحول في حياة الصحابة جميعاً رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(31/6)
حكم من هزيمة المسلمين يوم أحد
يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير، وهي: ابتلاء ما في صدورهم، واختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافق ومن في قلبه مرض لابد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه، ثم ذكر حكمة أخرى وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، فقال: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ))، ليبتلي أي: ليختبر عز وجل ما في قلوب المؤمنين من ازدياد الإيمان في فترات المحن؛ لأن نقص الإيمان في فترات المحن أعظم خطراً؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، ففترات المحن من ربنا عز وجل لازدياد الإيمان، فإذا لم يزدد الإيمان فيها فمتى يزداد؟ هل يزداد عندما تفتح الدنيا، وعندما يأتي الرخاء؟! وهذا الأمر لابد أن ننتبه إليه، فإن الدنيا أخاذة يصيد بها الشيطان قلوب كثير من الناس، فإذا لم يكن الإنسان عند الشدائد بعيداً عن الغلو والغفلة فمتى ينتبه؟ أينتبه عندما تفتح عليه الدنيا التي يجري وراءها الأكثر من البشر؟ سوف يزداد غفلة نسأل الله العافية، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يبكي عندما تأتي الفتوحات، ويقول للصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، نسأل الله العافية.
فهذا التمحيص هو لتحصيل زيادة الإيمان، وليبتلي عز وجل ما في قلوب المنافقين من نفاق، ولكي يظهر علناً وتظهر الصفات القبيحة، وتظهر المنكرات من ألسنتهم وأعمالهم ليعرفهم المؤمنون، ولكي لا يكون لهم الدور الذي سوف يكون لهم في المجتمع المسلم القادم، فإنه حين فتحت البلاد كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم يقود أمة ويغير أمة كذلك، ولم يكن للمنافقين دور في ذلك، لأن هذه الفترة كانت فترة انتباه.
حتى أن الله أظهر نفاقهم من خلال أعمالهم وأقوالهم، حتى يحذر المؤمنون على أنفسهم، ولذلك عقبه بقوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)) ثم عقبه بقوله: ((وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)).
يقول ابن القيم: ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وتخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى.(31/7)
خمس خصال تضاد ما أودع في القلب من خير
هذه خمس خصال لنقص الإيمان أو ما يضاده: أولاً: غلبة الطبع؛ وليس كل ما طبع عليه الإنسان طباع سوية، فالله عز وجل قد خلق الخلق من الأرض بأنواعها: منها السهل، ومنها الوعر، فهل أنت على طبعك، أم أنك هذبت بتهذيب الشرع؟ وهل تزكت نفسك، أم أنك ما زلت على غلبة الطباع، وما يغلب على طبعك؟ مثل هذا لابد أن ننظر فيه، غلبة الطبع، ميل النفوس، شهوات النفوس، فإن النفس لا تخلو من الصفات المذمومة قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، والهوى هو: الشهوات والمحرمات، والشهوات موجودة في كل إنسان، فهو مبتلى بها لكي يهذبها، فلو أن رجلاً في طبعه الجرأة، والثاني في طبعه الجبن، هل من في طبعه الجرأة ضبط الجرأة بحيث تصبح متوازنة بعيدة عن التهور، والذي طبعه الجبن، هل تغلب عليه بحيث لا يفر مما وجب عليه، ولو أن رجلاً فيه قلة حياء، وآخر عنده حياء، فلابد أن يغير كل واحد طبعه؛ لأن الناس متفاوتون في الطباع، فمن عنده جرأة غير محمودة لابد أنه يهذبها ويوجهها إلى أن تكون في الحق فقط، ولا ينبغي أن يكون عنده قلة الحياء، والذي عنده حياء غير شرعي يوجهه حتى يصبح حياءاً شرعياً، وتجد إنساناً فيه كرم والثاني فيه بخل، فكل واحد عليه أن يهذب طبعه، فالكريم يجب عليه أن لا ينفق أمواله في سرف، والبخيل يجب أن يعود نفسه على الإخراج في مواضع الإخراج، ولا يمنع الواجب، ويجاهدها لتنفق في المستحب، وهكذا.
فيجب على الإنسان أن يهذب طباعه، فهذه قضية الطبع وقضية الشهوة وميل النفس قضية أخرى، فشهوة الطعام والشراب والجنس وحب المال والوجاهة في الناس موجودة عند كل الناس، لكن يمكن للإنسان أن يوجهها ويتحكم فيها حتى لا تسيطر عليه هذه الرغبات كما هو حال أكثر العالم، فأكثر البشر يتركون أنفسهم على ما هي عليه من الطباع، فلا يفكر في علاج الطباع السيئة ولا يحاول تهذيبها؛ لأن الأخلاق تكتسب، فهي قابلة للتغيير وإلا لما وجد معنى لمدح كمال الخلق ولا لذم سوء الخلق، فلا يمدح صاحب الخلق إلا لأنه استطاع أن يهذب خلقه، وليس المراد أن يقتلعها بالكلية، ولكن يوجهها إلى شيء معين.
ثانياً: ميل النفوس إلى الشهوات، والشهوات ليس المطلوب قلعها بالكلية، حتى لا يبقى عند الإنسان رغبة في الأكل والشرب والنساء والمال، وإنما المطلوب هو تهذيبها، بحيث يكون هو الذي يتحكم في الشهوات وليست الشهوات هي التي تتحكم فيه، وأكثر العالم تتحكم فيهم شهواتهم، ولذلك تجد الشهوات في الشعوب المنحطة والطوائف السافلة هي التي تحركهم، كشهوة المال وشهوة الجنس، ومن أجل طعام أو شراب تباع كل القيم والعياذ بالله، وهذا أمر يحصل حتى ممن ينتسب إلى الدين، فحكمة الابتلاء هي التمحيص من هذه الأمور، من غلبات الطبائع وميل النفوس.
ثالثاً: حكم العادة، وهي من أقوى الأشياء التي لا يستطيع الإنسان تغييرها إلا من رحم الله، فأنت إذا نظرت إلى حياة الناس تجد أنها في نكد وشقاء لا يعلمه إلا الله، وتجد أن الناس في تعب شديد، ومع ذلك تجدهم حريصين على هذه الحياة؛ لأنهم تعودوا عليها، فما هو الذي يجعل الإنسان يشرب السجائر؟ هل هي شهوات النفس؟ لا، فشهوة النفس أن يستنشق هواءً نظيفاً، إذاً هي العادة، فهو تعود أن يشرب السجائر والعياذ بالله، وآخر تعود النظر إلى التلفاز مع أن الدراسات العلمية الغربية تقول: إن التلفاز مضر، ويتعب الأجيال المتتابعة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، لكن الناس تعودوا على النظر إليه، وأيضاً الكرة ترى الناس في حزن شديد إذا أصيب فريقهم بخسارة، فالناس لم يعد ينقصها الحزن فالشقاء كبير، إذاً: فما هو الذي جعلهم يحزنون؟ إنها العادة، لقد تعودوا على هذا، فهل يستطيع الإنسان أن يهذب عادته وأن يتحكم فيها؟ وهل يستطيع أن يترك عادته ويفارقها؟ إن أكثر الناس لا يستطيعون ذلك، ولذلك كان ثواب الهجرة عظيم، وكان الخروج للحج عبادة عظيمة الأثر في نفس المؤمن؛ لأنه يغير كل عاداته، فهو يأكل ويشرب وينام على خلاف عادته، وفي الحج أشياء كثيرة المقصود منها أن يغير الإنسان عادته، ومع ذلك تجد أن نفسه لا تستطيع ذلك، مثل المبيت بالمزدلفة والمبيت بمنى، فيجد فيها مشقة بالغة، مع أن الإنسان تكفيه حاجات يسيرة جداً بإذن الله تبارك وتعالى، وأيضاً الزواج صعب في حياتنا بسبب العادات، مع أن الأصل هو تيسير أمر الزواج، لكن الناس تعودوا على مغالاة المهور وعلى اشتراط أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولذلك تجد بعض الناس ينتحرون بسبب العادات، فأحدهم انتحر لأنه لم يستطع أن يحضر لأولاده دفاتر وكتب وحقائب جديدة للمدرسة! وهذه حقائق موجودة، وآخر انتحر في العيد لأنه لم يستطع أن يشتري لنفسه ولعياله الملابس الجديدة! مع أن المطلوب من الإنسان هو أن يستر عورته، لكنه يريد أكثر من ذلك خشية أن يتكلم عنه الناس، ولأنه أيضاً قد تعود على شيء معين.
رابعاً: تزيين الشيطان، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الأمر، فالخواطر التي تأتي على الإنسان ينبغي للإنسان أن يفكر من أين أتت هذه الخوطر؟ هل أتت من الشيطان أم من النفس الأمارة بالسوء أم من الملك وهذا من فضل الله عز وجل؟ تجد أن أكثرنا لا يفكر في ذلك بسبب مشاغل الحياة، ففترة المحنة تجعل الإنسان ينتبه لتغيير عاداته، ويبتعد عن شهواته، وينتبه لقضية الشيطان، ويفيق من الغفلة، فهو حين يرى الناس يموتون من حوله، فينتهي كل شيء كانوا يبحثون عنه، وينتهي كل شيء كانوا جمعوه، فيبتعد عن الغفلة، ففترات المحن تجد أنه يتغير فيها أشياء كثيرة في لحظات، ويوشك الإنسان أنه يقدم على ما هو أشد من هذه البلايا والمحن، فالناس في الحروب يجدون أهوالاً عظيمة توقض النفوس، فهذا مات أخوه، وهذا يهدم بيته، وهذا فقد أسرته، وهذا فقد ذراعه، فيرون أشياء كثيرة تذكرهم بالأهوال القادمة التي هم مقدمون عليها لا محالة، فتذكرهم الأهوال بسكرات الموت، وبوحشة القبر، وبأهوال البعث، وبموقف الحشر، وبالجنة والنار، فاستيلاء الغفلة يبعد الإنسان عن كل ذلك، ففترات المحن تذكر بهذه الأمور، وبقرب نهاية الحياة، فكل هذه الأمور تجعل القلب يحيا.
قال ابن القيم: فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منها، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك.
فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم على عدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا.
فهذا كلام مفيد عظيم الأهمية، فنعمة الهزيمة تساوي نعمة النصر والظفر، ولو تأملت أحوال الأمة في زماننا لقلت: لو تمكنوا ونصروا لوقع من الفساد أضعاف ما يقع، ولو فتح عليهم من الأرزاق والغنى والسعة والقوة والسلطان والظفر بالأعداء لظهرت نفوس لم تتهذب، ولم تتزك التزكية المطلوبة، ولخرجت أضغان الله أعلم بها، ولوقع من الفتن والفساد ما نحمد الله عز وجل على عدم حصول النصر والتمكين على تلك الهيئة، فله الحمد سبحانه وتعالى على البلية وله الحمد على النعمة؛ لأن هناك إصلاحات واجبة لم تتم، فإذا تمت في الطائفة المنصورة، لأن الأمم كلها لا تتغير، ولا الأرض كلها كذلك، فالصحابة الذين غير الله بهم وجه العالم معدودون، يقول تعالى عن نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] ودائماً عبر العصور {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، لكن الطائفة هذه إذا تغيرت التغير المطلوب، فهي المؤهلة لأن تقود العالم بعد ذلك.
يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، فهم لم يكونوا منافقين، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(31/8)
أقسام الأعمال
يقول ابن القيم: إنه بسبب كسبهم وذنوبهم استزلهم الشيطان حتى تولوا، واستزلهم أي: أوقعهم في الزلل والخطأ، فالأعمال جندك وجند عدوك.
وأعمالك تنقسم إلى قسمين: قسم يعاون العدو، فيكون مدداً للعدو، فيستزلك ويوقعك في الزلل، وقسم يكون مدد لك حسب نوع العمل وحسب قوته وكثرثه؛ لأن المدد إما أن يكون فيه مقاتلون أقوياء، وإما أن يكون فيه مقاتلون ضعفاء، والناس تفرح بالمدد بالقائد الكبير والقوي والمقاتل الشديد، ولا تفرح كثيراً بالمدد الضعيف، فكذلك أعمال القلوب والأبدان والجوارح والأقوال، فكسب الإنسان عبارة عن جند له أو لعدوه.
فالانتباه إلى هذا الأمر، ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)) مهم.(31/9)
من عقوبة المعصية المعصية بعدها
من عقوبة المعصية المعصية بعدها، لماذا نقع في المعاصي والمنكرات؟ لأننا وقعنا في منكرات قبلها ولم نتداركها بتوبة، ولم نسارع إلى الرجوع، فترتب على ذلك أن أوقعنا الشيطان فيما هو أخطر وأشد، ألا وهي الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة، ولكن برحمة الله عز وجل أنه بادر إلى ذكر العفو عنهم سبحانه وتعالى، ((إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، قال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، ولأن اليأس مدخل شيطاني خطير، فكان لابد من ذكر العفو حتى تعافى الطائفة المؤمنة من هذا المرض، ولو لم يذكر الله عز وجل العفو عنهم لأوشك أن يصيبهم اليأس، وهم الذين يعدون إلى المنازل العالية، فكان لابد من ذكر عفوه عز وجل.
يقول ابن القيم: فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، فازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولابد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها.
لذلك قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.
ودون الإمام البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه: باب عمل صالح قبل القتال.
فمن أين تأتي الهزائم؟ من الأعمال.
يقول: فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله؛ لأن فراره منه وهو لا يطيقه غير مذموم، وإنما أذن الله في الفرار من أكثر من الضعف، ولم يأذن في الفرار من الضعف، ووعد إذا كانت الأعمال تامة بأن يغلبوا عشرة أضعافهم، ولذلك البشارة لم تنته في سورة الأنفال، بل هي باقية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:65 - 66]، فالبشارة لم تلغ وإنما هي قائمة، ولكن التكليف هو الذي نسخ، وهو وجوب الثبات للتسعة أضعافهم، فيحرم أن يفر المسلمون من مثليهم، ويجوز أن يفروا من أكثر من ذلك، ولو قويت قلوبهم وأعمالهم لانتصروا على عشرة أضعافهم، وعلى أكثر من ذلك.
السؤال
ما معنى قوله: يشعر ويتعامى؟
الجواب
أي: يجعل نفسه كالأعمى فهو يعلم بأن أعماله هي التي تأتي له بهذه البلايا والمحن، ولكن يقول: أنا أعمل خيراً كثيراً، فلا يريد أن يصلح نفسه ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يتركها ولا يغير من طباعه، ولا يتحكم في شهواته، ولا يغير عاداته ويتحكم فيها، ولا انتبه لوسوسة الشيطان، وإن تذكر أمر الآخرة رأى نفسه من المقربين، وأنه ينافس المهاجرين والأنصار، وأن منزلته الفردوس الأعلى بغير حساب ولا عقاب!! اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا.
قال ابن القيم: فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه -وهو قادر على أن يقف أمامه- إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به.
ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها، وهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا الذي لابد أن تستحضره في مثل هذه المقامات، مع صفات العفو والمغفرة والرحمة وسعة فضله عز وجل حتى تعظم الرغبة، وحتى لا يصل الشيطان بك إلى اليأس، فالحساب الشديد الذي يصل بالإنسان إلى اليأس ليس مأموراً به، بل إن الذي يغفل جانب العفو من الله عز وجل يضر بنفسه أعظم الضرر.(31/10)
هزيمة المسلمين يوم أحد كانت بسبب ذنوبهم
يقول ابن القيم: ثم كرر عليهم سبحانه: أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم، وبسبب أعمالهم، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، يقول: وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية، أي: فيما هو أعم من الهزيمة، بل كل المصائب من مرض وفقر وشدة، وغيرها، قال ابن القيم: فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: أنها بسبب نفسك، ومن الله خلقاً وإيجاداً، {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] أي: خلقاً وإيجاداً، ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) أي: تفضلاً منه عز وجل، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) أي: بسبب كسبك، وبسبب عملك، وهو من الله الذي قدره وأوجده وخلقه، فهي من الله خلقاً وإيجاداً، ومن العبد تسبباً وكسباً.
قال: فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله من بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك وإن كانت من الله خلقاً وإيجاداً، ولذلك لا يوجد تعارض بين ((َمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، والآية التي قبلها: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78].
يقول: فالأول: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) فضله والثاني: {وََمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه، فختم الآية الأولى بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) والآية هي: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] بعد قوله: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب، وأن السبب الباطل من الأعمال، وهذا المشهد وهو شهود أن الله على كل شيء قدير، وشهود ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول وهو: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) ينفي الجبر، والثاني: وهو: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ينفي القول بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]، فذكر مشيئة العبد، وأثبت أنها تابعة لمشيئة الرب.(31/11)
نكتة في قوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير)
يقول ابن القيم: وفي ذكر قدرته ههنا نكتة لطيفة، وهي: أن الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، لما تنزل مصائب أخرى فاعلموا أن الله على كل شيء قدير، فتوبوا إلى الله مما هو من عند أنفسكم من الذنوب وتلجئوا إلى الله القدير على كل شيء.
يقول: فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه، وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعي الديني، لأن الله عز وجل لم يأذن شرعاً أن يقتل المسلمون، فإن سفك دم امرئ مسلم عظيم عند الله عز وجل، فلا يقال: شرع الله للكفار قتل المسلمين؟! فهذا مستحيل، لكن بإذن قدري كوني قدر الله ذلك، كقوله في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102].
ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير، وهي: أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية، فيتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان من حكمة هذا التقدير: تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدى النفاق، وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف، وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما.(31/12)
تعزية الله لنبيه وللمسلمين في شهداء أحد
ثم عزى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأولياءه فيمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه سبحانه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، والفرح أكمل أحوال الرضا، أي: أن لحظة الفرح هذه أعظم سعادة من مجرد الرضا، والرضا أكمل درجات الصبر وأعلاها، فالصبر يجعل الإنسان في ألم ولكن في سكون، وبالرضا يزول الألم، والفرح سعادة ولذة، وهذا هو الذي حدث للشهداء، رغم أن الذي يبدو لنا تقطيع الأعضاء، وبقر البطون، وأكل الأكباد وغير ذلك مما يؤلم كل من ينظر إلى المقتول؛ لكنه إذا كان في سبيل الله فهو فرح ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، استبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة وهي الآية التي قبل هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] فالإنسان إذا أراد أن يخرج من ألم المصيبة فلينظر إلى النعمة، فإن المصائب قد تجعله في هم وغم وضيق، وكرب شديد، فكيف يزول عنه ذلك، وكيف يعالج نفسه من الغم والكرب؟ ينظر إلى نعم الله، وأعظمها نعمة الإسلام، فيرى أن كلما فقده من الدنيا لا يساوي شيئاً، فتزول وتضمحل، وتتلاشى آلام المحن في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة.
يقول: وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فالمطر يبل الثياب، لكن به حياة الناس ومعاشهم، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتوكلوا عليه ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم -أي: جعلهم يسلون عن ألم المصيبة وينسونه- بما أعطاهم مما هو أجل قدراً، وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.(31/13)
الأسئلة(31/14)
حكم دعاء المذاكرة
السؤال
ما حكم دعاء المذاكرة الذي ينتشر بين الناس؟
الجواب
دعاء المذاكرة كونه يسمى دعاء المذاكرة حتى صار عند بعضهم سنة، وهو ليس بسنة بل بدعة، لكن على الإنسان أن يدعو الله أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فالدعاء ينبغي أن يكون في الأمور الدنيوية بالعلم النافع، والاستعاذة من علم لا ينفع، فتسأل الله علماً نافعاً، وتسأل الله عز وجل فهماً وإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، أما المذاكرة والدراسة فيمكن أن تكون خيراً للعبد ويمكن أن تكون شراً، لكن يأخذ بالأسباب ويجتهد ويسأل الله علماً نافعاً.(31/15)
لسنا أنبياء فيستجاب لنا من أول مرة
السؤال
هل يصح أن نقول: نحن لسنا أنبياء ولا مرسلين حتى يستجيب الله دعاءنا من أول مرة؟
الجواب
إن الرسل على مكانتهم لم يدعوا ربهم جل وعلا مرة واحدة فقط، فقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة في غزوة بدر يدعو، وظل طوال الليل في غزوة الأحزاب يدعو، واستنصر وهو في مكة ثلاثة عشر سنة، فقارن إذاً بين الأحوال الإيمانية للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة -ثلاثة عشر سنة بمكة وعشر سنين في المدينة غيروا بها وجه العالم- وبين أحوالنا الإيمانية، يقول أحد الإخوة: لنا ما يزيد عن خمسين سنة ونحن ندعو الله أن ينصر المسلمين في فلسطين وغيرها، ومع ذلك لا يزداد الأمر إلا سوءاً؛ لماذا؟ لأن الأحوال مختلفة، وهل يعني ذلك أن الأمة كلها ليس فيها رجل أو امرأة صالحة؟ لا، فليست العبرة بالواحد، فماذا سيفعل الواحد لو انتصرت الأمة؟ ومن الذي سيتولى المسئولية؟ فحكمة الله تقتضي أن أمة من أجل رجل صالح أو عشرة أو مائة وليس فيها من يتحمل المسئولية بمقتضى الشرع، وإنما هم الفجرة والفسقة الذين يظهرون التزامهم، فتراهم يتولون المسئوليات ويتولون الأمانات ثم يضيعوها، ولن أبرئ الملتزمين، فأنا لا أتكلم عن غير الملتزمين وإنما أتكلم عن الملتزمين وسلوكياتهم وأعمالهم، فلو أن الدنيا التي سببت الفتن بينهم كانت أكبر مما بأيديهم ماذا كانوا سيعلمون؟ الله أعلم.(31/16)
الواقع لا يتغير حتى يتميز المفسدون
السؤال
هل الواقع السيء لن يتغير حتى يخرج المفسدون ويتميزون عن غيرهم من بقية الأمة، ولن يتغير من عند الله إلا بهذا السبب؟
الجواب
لابد أن يأتي من عند الله، لكن بأسباب الناس، فعلينا أن نأخذ بالأسباب.(31/17)
حكم من قال: لابد أن يتغير المجتمع كله حتى يستجيب الله لنا
السؤال
ما رأيكم بمن يقول: إننا وبرغم وجود الصالحين فينا فلن يستجيب الله لنا حتى يكون المجتمع كله بتمامه صغيره وكبيره مجتمع ملائكة؟
الجواب
من الذي قال: إن المجتمع كله يجب أن يكون مجتمع ملائكة؟! فمجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن كله مجتمع ملائكة، فالمجتمع المدني كان فيه منافقون مردوا على النفاق، وكان فيه رءوس النفاق، لكن أغلب الناس كانوا صالحين، وقد وجدت الطائفة المؤهلة للتغيير بعد التغير المطلوب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فينا ولا الصديق أبو بكر ولا الفاروق عمر فكيف المخرج إذاً؟ المخرج هو: أن يكون المجتمع في الطائفة الظاهرة المنصورة حتى يكون أصلح حالاً، لأن الطائفة المنصورة إذا صلحت، أو صلح أغلبها فإن الله سيضع الدنيا في أيديها، لكن الدنيا منزوعة من أيديها رحمة بها من الله عز وجل، وإلا فإن الأمة بكل ما فيها من الغثاء تمتلك من الدنيا الشيء الكثير، فلا يوجد نقود أكثر من نقود الأمة الإسلامية، وأسباب القوة موجودة لديها لكن لأن الأمانات وضعت في غير أهلها، فالطائفة الملتزمة هي الطائفة المنصورة التي عقيدتها وأعمالها وسلوكياتها إذا لم تكن صالحة الصلاح المطلوب فإنه لن يحدث تغيير ولابد من إعادة إصلاحها.(31/18)
حكم من يعمل أعمال الجوارح ويشعر بالفتور في أعمال قلبه ولا يعلم السبب
السؤال
أحياناً أتقرب إلى الله بأعمال القلوب والجوارح، وفي بعض الأحيان أشعر أني مستمر في أعمال الجوارح وأشعر بالفتور في أعمال القلب وأشعر بضعف الإيمان من غير أن أعلم السبب، فما هو السبب؟
الجواب
ابحث عن الخواطر والأحوال، وجاهد أن يكون القلب حاضراً حين تصلي وحين تقرأ القرآن وحين تقول الأذكار {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
وأحوال القلب تتغير وتتقلب دائماً، وقلب الإنسان عموماً بين تقلب مستمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يأتيه ذلك الغيم والفتور عن الذكر، فغيره بالقطع أولى وبدرجة أكبر.(31/19)
حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي
السؤال
من المذنبين من يقول: إنه وقع في الذنب بقدر الله فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذه كلمة حق من المذنبين غير التائبين يراد بها باطل، وذلك أن هذا قدر الله ولكن بسبب من؟ ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فهذا بقدر الله، ولكن السبب من نفسك، لكن لا يكون حجة له على عدم التوبة، ولا يكون له حجة على الشرع.(31/20)
حكم من يريد الزواج وهو مريض ولا يريد العلاج خشية انكشاف عورته
السؤال
شاب في مقتبل العمر يفكر في الزواج، وهو مبتلى ببعض الأمراض ويحتاج إلى جراحة، ولا يريد أن تكشف عورته فما حكمه؟
الجواب
هذا الأمر مما أجازه الشرع، فقد أجاز كشف العورة للضرورة وللحاجة، وننصحه بإجراء الجراحة لعل ذلك يكون خيراً له، وخصوصاً أن المرض الذي ذكره ربما يكون فيه بعض المضار إذا لم يعالج، فأنصحه بالأخذ بالأسباب، والاجتهاد في ستر العورة ما أمكن.(31/21)
حقيقة مثلث برمودا والأطباق الطائرة
السؤال
مثلث برمودا والأطباق الطائرة تحت ضوء الشمس، هل هذا مما شغلنا به العدو أم هو حقيقة فعلاً؟
الجواب
هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر، أما أن المسيح الدجال يدير العالم من مثلث برمودا فمن سخافات الجهلة وأهل البدع والضلال، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسيح الدجال مقيد في إحدى الجزر في البحار قبل الشرق وليس قبل الغرب، وهذه أخبار كلها تأتي من الكفار، ونحن ما سمعنا ذلك من المسلمين ولا رأيناها، ولكنها أخبار تذكر، فلا أثبت ولا أنفي.
أما مسألة أن هناك مخلوقات تأتي من السماء فلا شك أن الكون مليء بالمخلوقات، لكن لا ينبغي الاهتمام ولا الانشغال بها، بأنه يوجد غزو من الفضاء يهدد الكرة الأرضية، فالكرة الأرضية يهددها أعمال بني آدم ومنكراتهم، فهي أعظم خطراً من أي كوكب فضائي، أما أن الكون مليء بالمخلوقات فقد قال الله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فالله عز وجل على كل شيء قدير، ولكن يجب أن أنشغل بالأذكار فأقولها بلساني مع قلبي لا بلساني فقط حتى آخذ أجوراً عظيمة جداً فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلما قال)، وإن كان تحريك اللسان بها من غير حضور القلب فإنه يؤجر، لكن الأجر الموعود به إنما هو لمن قالها باللسان والقلب معاً، غير أن من قالها باللسان حتى ولو كان مجرداً من حضور القلب فهذا أفضل من السكوت.(31/22)
معنى قول الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه
السؤال
ما معنى قول الشيخ الشنقيطي: إن آيات الصفات ليست من المتشابه؟
الجواب
يقصد أنها ليست من المتشابه المجهول المعنى بالكلية، وهذا الإطلاق نفسه غير صحيح، وأما كون آيات الصفات من الذي لا يعلم معناه بالكلية فقول خطأ، فإن آيات الصفات معلومة المعاني، فنحن نعلم معاني: العليم والخبير والقدير والحكيم والسميع والبصير بلا شك، ويعلمها أدنى طفل يعرف لغة العرب، ويدرك معاني الكلمات فضلاً عمن دونه، ويمكن ترجمتها باتفاق العقلاء إلى اللغات الأخرى، ولو كانت مجهولة المعاني لما أمكن ترجمتها.
وأما أنها من المتشابه باعتبار آخر فهذا مما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه، لكن قول الصحابة: إن آيات الصفات من المتشابهة ليس بمعنى ما ذهب إليه المتأخرون، من أنها مجهولة المعاني، وأن لها معاني مجهولة لا ندري عنها شيئاً، وأنها بمنزلة الكلام الأعجمي، فهذا كلام باطل، وهو كلام كثير من المتأخرين وليس هو المقصود، وإنما المقصود -بأن الصفات من المتشابه-: أنها تشتبه على أهل الزيغ والضلال، فيظنون بها غير الحق، ومعنى ثاني لقولهم: إنها مجهولة الكيفية، وهذا حق لا شك فيه؛ لأنها غيب، وذلك مثل: الوعد والوعيد من المتشابه، والجنة والنار من المتشابه، بمعنى أنا لا ندري كيفية ما في الجنة من أنواع النعيم، ولا ندري كيفية ما في النار من العذاب، وإنما نفهم معاني دون أن ندري حقيقية الكيفية، وكل أمور الغيب كذلك.
فـ ابن عباس رضي الله عنه قال: ما بال هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه؟!(31/23)
حكم الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات
السؤال
ما أصل الأحاديث الموضوعة التي يطلق عليها بالإسرائيليات؟
الجواب
السؤال من أصله خطأ، فالأحاديث الموضوعة ليست الإسرائيليات، فبعض الناس يظنون أن الإسرائيليين، أي: اليهود وضعوا في كتبنا أحاديث وهذا من الوهم، فالإسرائيليات هي أخبار بني إسرائيل، والأحاديث الموضوعة هي التي كذبها الكذابون ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينها أهل العلم، وأخبار بني إسرائيل منها ما يصدق وهو ما يوافق الكتاب والسنة، ومنها ما يكذب وهو ما يخالف الكتاب والسنة، ومنها ما يتوقف عنه فلا نجزم بأنها صحيحة أو ضعيفة، وقد عرف بالنقل عن أهل الكتاب: كعب الأحبار وكان ممن أسلم من أهل الكتاب وكعب الأحبار رجل ثقة عالم، وإن كان ينقل أخبار أهل الكتاب، فلا يعني هذا أنه أدخلها بسوء نية، بل كعب الأحبار رجل علم.
وكذلك وهب بن منبه وهو أحد الزهاد والفضلاء، وقد نقل عنهم أخباراً كثيرة، ولكن الأخبار التي رواها عنهم إنما هي من باب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أي: فيما لا يعرف كذبه، والإسرائيليات تحتاج إلى التنقيح؛ لأنه قد يغيب عن المسلم شيء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قد يغفل أن بعض هذه الأخبار مخالف للكتاب أو للسنة الصحيحة فلا ينتبه.
فأخبار بني إسرائيل تعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبل، وما خالفهما رد، وما لا يوافق ولا يخالف نسكت عنه، وأما الأحاديث الموضوعة فمعلومة؛ لأن الكذابين والوضاعين معروفون، وهم الذين نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الإسرائيليات فلا تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تنسب إلى بني إسرائيل، إلى سيدنا موسى وسيدنا عيسى وغيرهم من الأنبياء فالإسرائيليات تروى عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان ينقل الإسرائيليات حيث أنه وجد زاملتين فيها كتب لأهل الكتاب فأخذ بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وليست الإسرائيليات كلها سيئة، بل إن فيها أخباراً موافقة للكتاب والسنة، والكتب التي بين أيديهم الآن لو أن رجلاً قرأها لوجد فيها أموراً توافق ما عندنا نحن المسلمين، وهذا الأمر مما تصح روايته عنهم، فإذا قلنا: إن عبد الله بن عباس، يروي عن كعب فقد وجدت أخبار كثيرة جداً نجزم ونوقن أنها مأخوذة عن أهل الكتاب.(31/24)
حكم من يستشهد بروايات من التاريخ ضعيفة لإثبات قصة التحكيم ومقتل الحسين وفساد الأمويين
السؤال
يستشهد أعداء أهل السنة والجماعة بروايات من كتبنا مثل تاريخ الطبري وتاريخ الحافظ ابن عساكر والكامل لـ ابن الأثير، وكتاب بدائع الفوائد لـ ابن القيم لإثبات صحة ما هم عليه في قضية تحكيم معركة صفين وفساد دولة بني أمية، ورواية مقتل الحسين، فهل معاوية ويزيد من الحكام الظلمة؟ ولماذا يذكر علماؤنا تلك الروايات رغم ضعف سندها، الأمر الذي يجعل أعداء السنة يسيئون لأهل السنة؟
الجواب
أنت اعتمدت كتب التاريخ، وكما قال الإمام أحمد: ثلاث لا أصل لها: السير، والمغازي، والتفسير، فالسير والمغازي كثير منها بلا أسانيد فهي تروى للاستشهاد بها، وهناك أشياء شبه متواترة، فكون الحسين قتل، وكون يزيد هو الذي وجه الجيوش إليه، نحن لا نستطيع أن ننفي ذلك، لأنه أمر مقطوع به ولا يمكن إنكاره، وكونه وقع تحكيم في معركة صفين فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولكن ما هي صفة التحكيم؟ الأخبار الواردة في هذا الأمر أكثرها بلا أسانيد، وما ثبت منها فالصحابة معذورون مجتهدون متأولون فيه، أو مجتهدون مصيبون لهم أجران، وكثير من الأخبار التي فيها طعن على الصحابة رضي الله عنهم لا تثبت، وقد ذكرها أصحابها وذكروا معها السند لكي به يعرف طلاب العلم ضعف أو صحة هذه الأخبار والآثار، فهم قد أدوا ما عليهم بذكر الأسانيد، فالأمر واسع أن يبحث فيه بعد عصرهم، وكما ذكرنا نحن لا نحتج كثيراً بذلك، وليس كلما ذكر في هذه الكتب صحيح، كالكتب المعتمدة فهل قبول الأمة للبخاري ومسلم مثل قبولها لتاريخ الحافظ ابن عساكر؟ لا، وهل قبول الأمة للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة في الجملة كقبولها لتاريخ ابن الأثير؟ قطعاً لا، فهم أتوا بها للدراسة، وهم حين أسندوها قد أدوا ما عليهم.
وأما ما سألت من وجود تحكيم في معركة صفين فلا شك أنه وقع تحكيم، لكن أن عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري فهذا مما لا يجوز أن يقال، وعمرو بن العاص رضي الله عنه أجل من أن يكون طالب دنيا، بل هو اجتهد وأراد رد الأمر إلى أهله، وهذا هو الظاهر من أمر التحكيم، فقد رأوا فيه أن يرد أمر الخلافة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه رأى أن هذا أمر فيه نقض لبيعته من غير دليل ومن غير بينة، ومن غير سبب شرعي يقتضي نقض هذه البيعة التي ثبتت، وهذا هو الصحيح، فأمر التحكيم وقع ليس بالخداع، بل أحالوا الأمر لكبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ والصحيح أنه كان لابد من إلزام الناس ببيعة علي رضي الله عنه، وكان هذا هو الواجب، فـ عمرو بن العاص لم يخدع أبا موسى ولم يأمره معاوية؛ لأن معاوية لم يطلب الإمارة أصلاً في حياة علي، وما طلب الخلافة إلا بعد موت علي، وهذا هو الصحيح.
أما أنه وقع في دولة بني أمية فساد، وخصوصاً بعد عهد معاوية رضي الله تعالى عنه، فلا شك في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى هذا ملكاً عاضاً، وحذر من رأس الستين صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنه وقع فساد، وليست هذه الخلافة الراشدة، بل هو ملك، وأعدل الملوك هو معاوية؛ لأنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أبداً أن يطعن في معاوية، وله رضي الله عنه من الحسنات والفضائل على هذه الأمة ما لا يمكن إنكاره، وما ينجبر معه ما قد يكون وقع منه من اجتهاد أو تقصير أو حتى ذنوب، فهم ليسوا معصومين من الصغائر ولا من الكبائر، ولكن لـ معاوية رضي الله عنه ولـ عمرو بن العاص ولطائفة الصحابة رضي الله عنهم في الجملة؛ من الفضائل والدرجات والأعمال والجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام وتعليم العلم ما يغمر مساويهم إذا كانت لهم مساوئ وثبتت، كيف وهي لم تثبت؟! كيف وما ثبت عنهم كان لهم فيه اجتهاد، فمنهم المجتهد المصيب، ومنهم المجتهد المخطئ المغفور له خطأه المثاب على اجتهاده، فلا يصح أن يذم معاوية رضي الله عنه.
أما يزيد فلا شك في نقصه، ولا شك أنه أتى على أهل الإسلام بأشياء منكرة، وقد سأل الإمام أحمد رحمه الله ابنه: هل تحب يزيد بن معاوية؟ فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وقد فعل بأهل المدينة ما فعل؟ فوقعة الحرة كانت وقعة عظيمة هائلة، وقد قتل فيها صحابة وتابعون وفضلاء، وهو أمر عظيم الخطر، قال عبد الله بن أحمد لأبيه: فهل تلعنه؟ فقال: وهل سمعت أباك يلعن أحداً؟! ونحن عندنا قضية الموازنة وهذا أمر مهم جداً، فقد كان يزيد قائد أول جيش غزا القسطنطينية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وكان هذا في حياة أبيه قبل أن يكون خليفة، فله الفضل في هذا الباب، لكن كونه قد أتى بمنكرات فلا شك في ذلك؛ وكونه ظلم فلا شك أنه قد ظلم، وأعظم ظلم هو قتل الحسين بن علي، ثم وقعة الحرة التي أوقعها بأهل المدينة وانتهك فيها الحرمات، وبعدها مات يزيد بن معاوية، ولكن لا ننسى أن له محاسن في الجهاد في سبيل الله عز وجل والله أعلى وأعلم.
أما معاوية فالطعن فيه ظلم، ومسبته مسبة للصحابة فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي).(31/25)
حكم من يتعامل مع الجن ويستدل أن سليمان عليه السلام تعامل معهم
السؤال
رجل يتعامل مع الجن وعندما تنصحه وتقول له: إن ما تفعله محرم شرعاً يقول: إن سيدنا سليمان كان يفعل ذلك؟
الجواب
هذا كذب، فسيدنا سليمان لم يكن يتعامل مع الجن بمعنى أنه يأخذ منهم ويعطي، بل كانوا مسخرين له، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36 - 37]، فكانوا مسخرين له، وأنت تكذب إذا قلت أن الجن مسخرين لك، وأيضاً هذا مما اختص به سليمان، حيث قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فلو قال: إنه يفعل مثل سليمان فهو مكذب للقرآن؛ لأن القرآن قد نص أن هذا ملك لا ينبغي لغير سليمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمسك بالشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وقال: (ولقد هممت أن أربطه بسارية من سواري المسجد، فتذكرت دعوة أخي سليمان).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يربطه حتى يلعب به الصبيان؛ وذلك لأجل دعوة سليمان، فإذا كان ذلك ليس للنبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون لك! وإن كان يتعامل مع الجن بالأخذ والعطاء فهذا هو الضلال المبين، والخطر الكبير، وهو عندما يستعين بهم فإنه يقدم لهم مقابل هذا من دينه وطاعته وتوحيده، فلابد أن يتوب إلى الله عز وجل، وهناك كتاب مبسط في ذلك وهو كتاب: (معارج القبول) وكذلك (فتح المجيد) ولا شك أن التعامل مع الجن بمعنى إخبارهم عن المغيبات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات هو من أعظم أسباب الشرك والبغي، وننصح بقراءة تفسير ابن كثير، وخاصة آخر سورة الأحقاف، وفي سورة الجن قوله عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6].(31/26)
كيفية إخراج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار
السؤال
كيف تخرج زكاة العروض لمحل أدوات كهربائية أو قطع غيار أجهزة كالثلاجات والغسالات؟
الجواب
يخرج 2.
5% من رأس ماله، وإن لم يتيسر له ذلك جاز على أصح الأقوال أن يخرج زكاة عروض التجارة من التجارة التي يبيعها بقيمتها، فيخرج أدوات كهربائية ويعطيها الفقير خصوصاً إذا كان لا يملك مالاً، والتجارة تبلغ النصاب والفقير يبيعها لمن شاء.(31/27)
حكم من أعطى زكاة الغنم والإبل مذبوحة
السؤال
زكاة الغنم والإبل هل تذبح للفقراء أم تعطى لهم من دون ذبح؟
الجواب
تعطى للفقير دون ذبح، فيأخذها الفقير حية.(31/28)
حكم زكاة الدين
السؤال
له ثلاث وصلات أمانة يستحقها على ثلاث سنوات هل يجب إخراج الزكاة عنها قبل أخذها أم بعد الأخذ؟
الجواب
بعد الأخذ يخرج لما مضى من السنوات، أو كلما أخذ وصلة أخرج زكاة ما مضى من السنوات، ولا يجب الآن وإنما يجب إذا قبضه.
وإذا كان الذي عنده مال معسراً فإنه يبقى ينتظر إلى أن يقضي الله عز وجل عنه.(31/29)
حكم زيارة المرأة لجارها المريض
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تزور جارها المريض مع زوجها؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك إذا أمنت الفتنة؛ لأن عائشة زارت بلالاً رضي الله عنه، وزارت أبا بكر، فإذا أمنت الفتنة جاز أن تزوره، وعليها الحجاب الشرعي الساتر.
وإذا زارته مع زوجها، وبلباسها الشرعي، وأمنت الفتنة فلا حرج عليها وهي مأجورة إن شاء الله.
وقد بوب البخاري: عيادة النساء الرجال، قال: وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد كما في كتاب الطب أو كتاب الأدب من صحيح البخاري.
ويجوز لها أن تسلم عليه بدون مصافحة، فإن المصافحة بين الرجال والنساء الأجانب محرمة.
ولقد زارت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد وزارت عائشة رضي الله عنها بلالاً، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس، والبخاري ذكر هذا في صحيحه، فلماذا يتحرج المسلم مما ورد في الصحيح؟ فنحن نقول: يجوز لكن بالضوابط الشرعية، حتى إذا لم يكن قد فرض الحجاب فإنه لم يرد المنع من الزيارة بعد فرضه، وإنما ورد المنع من التكشف.(31/30)
كذبت قوم لوط بالنذر
جاء قوم لوط بسنن لم يأت بها قوم أو مجتمع قبلهم، وارتكبوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد، وأصروا عليها، وحاولوا إخراج من دعا إلى نبذ هذه الفاحشة من القرية بتهمة التطهر.
فكان جزاؤهم وخيماً وعاقبتهم مزرية، وذلك بأن جعل جبريل بإذن الله عالي القرية سافلها، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل.(32/1)
انتفاء قبول الإيمان مع عدم الإيمان بالرسول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الإيمان بالله عز وجل يستلزم الإيمان بأنبيائه ورسله أجمعين، ولقد جعل الله عز وجل الإيمان بهم شرطاً في قبول الإيمان بالله، فلا يكون مؤمناً بالله من كذب رسولاً من الرسل كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150 - 151].
والإيمان بالرسل يشمل تصديقهم ومحبتهم، والاقتداء بهم، ويشمل معرفة أن دينهم هو الإسلام الذي بعث به كل الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وقد ذكر الله عز وجل قصصهم وسيرهم وقال عز وجل مخاطباً لأمة الإسلام بعد ذكر أنبيائه ورسله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
وهذا يستلزم معرفة طريقهم ومنهجهم في الدعوة إلى الله والصبر والاحتساب، والتربية الإيمانية.(32/2)
النبي لوط ثمرة من ثمرات دعوة إبراهيم
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ربى الأمم من بعده رغم قلة من استجاب له، ومن الذين استجابوا له لوط عليه السلام، ولوط عليه السلام هو أحد ثمار التربية الإيمانية لإبراهيم صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، وذلك أن الأمم وتاريخ الحياة على وجه الأرض لا تحدده الكثرة وإنما يبينه ويحدد معالمه عبر العصور الرجال الذين هم أمم كل واحد منهم أمة، فقد كان إبراهيم أمة كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120].
والأمة الإمام الذي يقتدى به، ولذا قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن إن إبراهيم كان أمة، ظن حاضروه ومجالسوه أنه أخطأ -وهذا بعد موت معاذ - فكرر: إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، فكرروا عليه فكرر، فقال: أتدرون من الأمة؟ إنه الإمام الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع والحنيف لله عز وجل.
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه كان كذلك، فالرجال الأمم هم الذين تتغير بهم وجه الحياة.
كان لوط عليه السلام رجلاً أمة، ومن أجله فقط دمر الله سبحانه وتعالى قومه الذين كذبوه، وفي قصته -وهي امتداد لقصة إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم- من العبر والعظات خصوصاً في هذا الزمان الذي امتلأ بالمنكرات الشبيهة بالتي كان يرتكبها قوم لوط، مما ينبغي أن ننتبه لها وأن نحذر على أنفسنا ونحذر أقوامنا من مشابهة هؤلاء القوم المجرمين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:77 - 83].
يخبر الله عز وجل عن الفرج الذي جاء للوط عليه السلام بعد المحنة الطويلة والغربة الشديدة التي عاناها من قومه حيث دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، فما نال منهم إلا الأذى والتكذيب والاستهزاء والسخرية والأمر بإخراجه هو وأهله؛ لأنهم أناس يتطهرون.(32/3)
قوم لوط يأتون فاحشة لم تعرفها البشرية قبلهم
كان هؤلاء القوم المجرمون كما وصف الله عز وجل يأتون الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين، قال سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:160 - 175].
بين عز وجل أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، ويأتون هذه الفاحشة المعروفة بالشذوذ في زماننا، وهي بلا شك من أفظع الفواحش التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة من يرتكبها ومن تفعل به وهو راض: البتر النهائي من الحياة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) والعياذ بالله.
وهذه الفاحشة لما استمرءوها نتيجة لانحراف أفكارهم وعقيدتهم، وجعلوها مقررة مباحة لديهم كما يحاول كثير من أبناء هذا الزمان ممن ينادي بالحرية والمساواة وغير ذلك من مبادئ الانحطاط التي يريدون تعميمها وهي باطلة قطعاً، ويريدون أن يجعلوها أمراً محللاً، بل قرروا زواج الذكران بعضهم من بعض، وربما كانت بعض كنائسهم ومعابدهم تقبل ذلك وتجعله حجة مقبولة لديهم، ففاقوا ما سبقهم الأولون إذ نسبوا هذه الجريمة إلى الشريعة وإلى الدين، وهذا لم يفعله قوم لوط، إنما فعلوا الفاحشة وما نسبوها إلى الدين وهؤلاء سموها زواجاً والعياذ بالله.
وهذا الذي يريده الأعداء أن يُنشر في أرجاء المسلمين كما انتشر في أوساطهم، وأصبح الذين يفعلونه لهم حقوق مقبولة لديهم والعياذ بالله.
ويصرح قادتهم ورؤسائهم أن غايتهم من حروبهم ومكرهم وتخطيطهم أن يصل الأمر في بلاد المسلمين إلى أن تكون هناك إباحية، وأن يكون كل من يريد أن يمارس الجنس سواء كان يمارسه مع الجنس الآخر أو مع نفس الجنس يتمكن من ذلك، وكُتب ذلك وقيل في خطاباتهم، نعوذ بالله من شرهم! وهذا كله من الحسد لأهل الإسلام.(32/4)
ممارسة قوم لوط للكثير من الجرائم الموجبة لسخط الله
وكان من منكراتهم أيضاً ما ذكر الله عز وجل عنهم أنهم كانوا يأتون الفاحشة وهم يبصرون، وهذا منكر إضافي يفعله كثير من الناس في أرجاء الأرض اليوم أنهم يأتون الفاحشة أمام أعين بعضهم بعضاً، على الرغم من أن كثيراً من الحيوانات تستتر عند هذه الفعلة، وهؤلاء وصل انحطاطهم إلى أسوأ من كثير من البهائم، فصاروا يأتون الفاحشة أمام أعين بعضهم بعضاً كما يفعله المجرمون.
بل في زماننا ما هو أشد إذ صار الناس يفعلون هذه الفواحش أمام العشرات كما هو المعهود في تلك اللقاءات وأمام الآلاف والملايين، حين نشروا هذه النجاسات على وسائل الإفساد في الأفلام وأنواع الأشرطة والصور والمجلات والقنوات الفضائية وغيرها مما ينشر هذه الفواحش أمام الملايين، ففاقوا قوم لوط فيما فعلوا وفيما اجترموا من الكفر والعياذ بالله.
فصاروا يأتون الفاحشة عياناً أمام البشر، وتسجل هذه الجرائم حتى بعد موتهم، فلا تزال صور هؤلاء الكثيرين وأفلامهم بعد موتهم باقية ينشر بها الفساد، والعياذ بالله.
وكذلك ذكر الله عز وجل عنهم أنهم يأتون في ناديهم المنكر، فكانوا في مجتمعاتهم وفي لقاءاتهم يأتون هذه الفواحش والعياذ بالله.
وكذلك كانوا يأتون مقدمات الفواحش والفواحش نفسها في مجتمعاتهم ونواديهم، كما هو الحال في كثير من النوادي والمجتمعات التي يجتمع فيها الشبان والفتيات وإن كان الذكران من قوم لوط يفعلون الفاحشة بعضهم مع بعض إلا أن الفاحشة كلها محرمة، وكلها كبيرة من الكبائر، وفعلها في النوادي والمجتمعات علانية من أفظع المنكرات المستوجبة لعقاب الله للجميع.
وذكر الله عز وجل أنهم كانوا يقطعون السبيل كما قال لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29].
فهم والعياذ بالله كانوا يقطعون السبيل، لأخذ الأموال أو لأخذ الفروج وانتهاك حرمات المارين من الأضياف وغيرهم، وهذا والعياذ بالله أيضاً من أشد أنواع قطع الطريق والمحاربة لله، والإفساد في الأرض، فالذي يختطف صبياً أو امرأة أو غير ذلك ليفعل به الفاحشة ويستعمل في ذلك السلاح ليس حده حد الزنا وإنما حده حد الحرابة والقتل قطعاً كما قال سبحانه وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61].
فإذا كان هذا فيمن يراود الفتيات المسلمات عن أنفسهن فكيف بمن يغتصب النساء ويغتصب الصبيان ويفعل بهم الفواحش؟! وهذا والعياذ بالله أشد من الاعتداء على النفوس بالقتل عند كثير من الأطهار والعقلاء، ولا شك أنه أشد من أخذ الأموال، وهذا الأمر يحتم قتل من فعل هذه الفواحش بقطع الطريق واستعمال السلاح، وانتشار هذا في مجتمع من المجتمعات دليل على قرب هلاكه وخسرانه والعياذ بالله، ولا بد أن يتكاتف أفراد المجتمع كلهم من أجل منع هذه الفواحش وإغاثة من يتعرض لقطع الطريق.
وكل هذه الفواحش كانوا يفعلونها بالإضافة إلى تركهم أزواجهم اللاتي أحلهن الله عز وجل لهم، فتركوا أزواجهم، وقد ذكر غير واحد من السلف: أنه اكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وكانت النساء راضيات بهذه الفواحش لاستقرار مبدأ الحرية الفاجرة الإباحية التي لا تلتزم بشرع عندهم، ولذا هلكت النساء أيضاً رغم أنهن متروكات قال تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:166].
ومع ذلك أهلكن فيمن هلك ولم ينجُ إلا بنات لوط عليه السلام الطاهرات العفيفات، وذلك أن الرضا بالمنكر منكر، والرضا بالكفر كفر والعياذ بالله، والذي يرضى بالباطل مبطل وهو مثل الذي يفعله، فمن غاب عن المعصية ورضيها كان كمن حضرها، ومن حضرها فكرهها وأنكرها كان كمن غاب عنها، فالله سبحانه وتعالى جعل هؤلاء القوم عبرة للأمم عبر العصور، وجعل الله سبحانه وتعالى قصتهم فيها من العبر والعظات.
كذلك رد شرع الله عز وجل كفر مستقل، ولم يذكر الله عز وجل عن قوم لوط في فعلهم السيئات عبادة الأوثان وإن كان يحتمل أن يكونوا يعبدون الأوثان، لكن الله عز وجل لم يذكر ذلك في موضع من مواضع ذكر القصة المتكرر في القرآن الكريم، وإنما ذكر تكذيبهم للوط عليه السلام وهذا قدح في الإيمان بالله كما ذكرنا، وإنما الذي دفعهم إلى التكذيب استمراؤهم لهذه الفاحشة الكبيرة، وأنهم تعودوا عليها، والإنسان لا يقوى أن يعيش دائماً على منكر يشتهيه ونفسه تحدثه بأنه يرتكب أكبر الكبائر؛ فإن هذا الصراع الداخلي دائماً يدفعه إلى أن يترك أحد الأمرين؛ إما أن يترك الفاحشة، وإما أن يترك الإيمان، وقليل من الناس من يحافظ على أصل إيمانه رغم وقوعه في الفواحش وهو مرتكب الكبائر، فالمعاصي بريد الكفر والعياذ بالله، وغالباً ما تؤدي إليه، وسوء الخاتمة متوقع لمن يحافظ على هذه الكبائر التي إن فعلها الإنسان ولم يستحلها ولم يرد شرع الله لم يكن خارجاً من الملة ولكنه على وشك الوقوع، ولذا كان هؤلاء القوم كذلك، وغالباً ما تجر هذه الفواحش وفعلها علانية إلى السخرية من شرع الله سبحانه الذي حرم هذه الأمور، ومن محاولة فرضها على الناس وإلزامهم بقبولها والرضا بها، وهذا واقع مشهود، فتجد أكثر من يرتكب هذه الفواحش من الزنا واللواط وغير ذلك دائماً يستهزئ بالأطهار ويسخر منهم كما قال قوم لوط في جوابهم للوط عليه السلام كما قال عز وجل: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، وهذه والعياذ بالله جريمة جديدة: وهي أن الطهارة أصبحت عندهم تهمة، وهذا حال كثير من الأمم والمجتمعات التي تجرم فعل طاعة الله، وتجرم العفاف والطهر والتستر، ويسنون ما يشاءون من قوانين باطلة يزعمون فيها تحريم ما أمر الله عز وجل به من التستر.
إن الأرض لله قد كتب أنه يرثها عباده الصالحون، فالأرض لأهل الإيمان والصلاح والإسلام لهم أن يحلوا فيها حيث شاءوا ولا يمنعون من مكان؛ لأن الأرض لم يرثها الكفار من أحد وإنما الأرض لله، فكيف يمنع مسلم من أن يعبد الله عز وجل في جزء من أرض الله؟ وعبادة الله شاملة للعبادات والمعاملات، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فهذا من أعظم الباطل، وهؤلاء القوم ينادون بالحرية المطلقة، وحرية الإنسان مع أخيه الإنسان ثابتة في حدود شرع الله عز وجل، ولكن إذا كانت حريته مع شرع الله بأن يفعل وأن يترك الشرع وأن يرده فهذا والعياذ بالله منهج قوم لوط وقوم شعيب الذين قالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يقولون ذلك استهزاء بشعيب، ويرون أن الأموال يفعلون فيها ما يشاءون، وقوم لوط يرون أنهم يفعلون في الفروج ما يشاءون، ويريدون إخراج من يأبى قبول باطلهم، فالقوم الذين في زماننا لهم سلف من هؤلاء المجرمين والعياذ بالله، ولذا عاقبتهم مثل عاقبتهم إن شاء الله، وإن كان قد يصير لهم الأمر سنوات كما قد مد لقوم لوط وهو سبحانه يستدرج المجرمين من حيث لا يعلمون، قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45].
ثم تكون العاقبة بعد ذلك آية من آيات الله، وإن كان كثير من الناس يستعجل ويقول: قد طال المدى وكثر الكفر والفساد والفجور، والله سبحانه وتعالى قدر كلما اقتربت الساعة ازداد الفساد في الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(32/5)
الفرج الإلهي يأتي بصورة ابتلاء
قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال لوط عليه السلام حين جاءه الفرج وما جاءه إلا في صورة ابتلاء، وهذا وحده آية وعظة لأهل الإيمان: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [هود:77]، ما علم لوط أنهم رسل الله الذين أتوا لنصرته وقد كان يدعو الله: (رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30].
وكان يدعو الله زمناً طويلاً ويكرر الدعاء، وما علم أنهم الرسل الذين جاءوا لنصرته، وأنهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك المجرمين الذين سخروا منه واستهزءوا به وعزموا على إخراجه وأهله بتهمة أنهم أناس يتطهرون.
جاءت الرسل في صورة أضياف، وهكذا البلاء يبلغ مداه بالمؤمن في آخر اللحظات قبيل الفرج، وكلما ازدادت ظلمة الليل اقترب الفجر من الطلوع بإذن الله تبارك وتعالى.
والله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ليستخرج منهم أنواع الطاعات، وأنواع العبودية، وهو سبحانه يكره مساءتهم ويقدر سبحانه وتعالى عليهم ذلك لما يترتب على هذا الذي يسوءهم من أنواع الخيرات والمحبوبات لله عز وجل من صبرهم ولجوئهم إلى الله، وتوكلهم عليه واحتسابهم أذى قومهم في سبيله سبحانه وتعالى، والاتعاظ بسيرتهم بعد ذلك، وغير ذلك من أنواع الحكم البديعة البالغة التي قدرها الله من وراء تقدير ما يسوء المؤمنين.
قال تعالى: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ)) رسول كريم من رسل الله يقدر الله عز وجل عليه أن يساء في آخر أيام الابتلاء، ((سِيءَ بِهِمْ)) أي: ساءه مقدم الأضياف، فقد أصروا على أن يضيفهم لوط، ولقد كان قومه قبل ذلك نهوه أن يضيف أحداً من العالمين كما قال عز وجل عنهم: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، قالوا: إن جاء أغراب فاتركهم لنا نضيفهم، وذلك أن الغريب عندهم له رغبة خاصة وميل أشد من الحاضر لديهم الذي يملوه دائماً؛ فإن صاحب الشهوة المحرمة يمل كل ما حوله دائماً ويريد الانتقال والتحول، فلذلك نهوه عن أن يضيف أحداً من العالمين، وأصر هؤلاء الأضياف على أن يضيفهم لوط، وشهد عليهم مرات أنه لا يعلم أخبث من هؤلاء، ومع ذلك فلا بد من أن يضيف هؤلاء وليس عنده قوة ولا عشيرة تمنع هؤلاء وتصد عنهم أذى المؤذين، ولكنه يقبل ويحتاط ويجتهد أن يدخلوا سراً بحيث لا يعلمون حتى لا يصيبهم أذى، والأضياف سائرون معه وهم رسل الله الكرام الذين في قوتهم أن يفتكوا بهؤلاء المجرمين في لحظة وبصيحة كما قد فعلوا بأمر الله عز وجل، ولكن انظر إلى البلاء الذي حل على لوط في آخر أيام دعوته إلى الله عز وجل.(32/6)
شدة بلاء الأنبياء
قال عز وجل: ((وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)) ضاق صدره عن تحمل ذلك، ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، ثلاث جمل كل منها تبين الحالة التي كان عليها رسول الله لوط عليه السلام، وإذا أصابك ما يسوءك من إجرام المجرمين وظلم الظالمين فتذكر حال أنبياء الله عز وجل، وإذا ضاق صدرك بما يقع من الفساد في الأرض والظلم والعدوان والكفر والشرك فتذكر أيضاً حال الأنبياء، وافعل ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو خيرة الله من خلقه محمد عليه الصلاة والسلام، فلقد كان يضيق صدره أحياناً كما قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97 - 99].
فكثرة التسبيح وكثرة السجود وعبادة الله بما تقدر عليه حتى يأتيك الموت هو الذي يجب أن تفعله عندما يضيق الصدر، والله عز وجل قد بين من حال نبيه عليه الصلاة والسلام أنه وصل به الحال أنه باخع نفسه أي: يكاد أن يهلك نفسه صلى الله عليه وسلم.
فانظر إلى الحال الشديد واليوم العصيب الذي مر به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإذا كان الأمر كذلك هان عليك ما ترى وما تجد واتسع صدرك بعد الضيق، والله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والاحتساب كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128].
فبالتقوى والإحسان يكون الله عز وجل مع الطائفة المؤمنة المتقية المحسنة وينصرها، فيزول الضيق بعد حصوله، وإنما قدر الله ما يسوء الأنبياء والمؤمنين ليكونوا أسوة صالحة، فهذه حكمته؛ ولأن هناك أنواعاً من العبودية لا تحصل إلا بوجود الضيق.
((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)) أي: يسرعون، وهو مبني للمجهول فكأنهم يُدفعون دفعاً، وذلك أن المرأة خائنة العقيدة امرأة لوط العجوز التي تقدم علاقات قومها على الدين وعلى الحق، وعلى علاقتها بزوجها، وعلى العفة والطهارة التي يريدها زوجها للمجتمع كله؛ قدمت علاقاتها القومية مع قومها ورضيت بفعلهم، وكان ذلك من آيات الله فيما يتعلق بقضية الولاء والبراء إذ إنها تبرأت من زوجها ووالت قومها فانعدمت العلاقة الزوجية التي بينها وبين زوجها في الأثر، ولم تنج وإنما أصابها ما أصاب قومها، فقد صعدت فوق سطح المنزل وأشارت إلى قومها بالحضور مسرعين، ونادتهم: أنه قد جاء لوطاً عليه السلام أضياف ما رأت أحسن منهم صورة.
دافع لوط عليه السلام عن الأضياف وحاول أن يردهم، وعرض عليهم بناته للزواج، وهذا أصح الأقوال، وبنات لوط عليه السلام هن بناته ولسن بكافرات، ((قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)) أي: من رغبة، ((وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)) ما نريد إلا الرجال.
فلما وقفوا ببابه وهو يدافعهم ويحاول ردهم وهم يحاولون الدخول عنوة على الأضياف لانتهاك حرماتهم فيما يظنون وما يتوهمون لما هم فيه من السكرة، قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام مخبراً عن حال قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] أقسم الله عز وجل بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقسم بما شاء من خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى جعل في خلقه آيات قدرته وعزته، فأقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وبقائه على أن قوم لوط في سكرتهم يضلون ويتحيرون ويترددون، إنه سكر الشهوة والمعصية التي تعمي القلب وتغلقه والعياذ بالله، وتجعله لا يرى.
على الرغم أن هلاكهم بعد ساعات ولكنهم لا يريدون إلا الشهوة المحرمة، وهذه طبيعة الشهوة تجعل الإنسان يلهث وراءها إلى آخر عمره.
قال عز وجل عن لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، استحضر لوط عليه السلام ضعفه وأنه ليس له عشيرة إنما أتى مع إبراهيم مهاجراً إلى هذه القرية، وتزوج منهم ولم يكن له منهم عشيرة، ولم يكن له منهم أقارب ينصرونه؛ وقد عوتب على استحضار هذا المعنى في تلك اللحظة، وذلك أنه كان ينبغي أن يستحضر إيواؤه إلى الله عز وجل الذي هو أعظم وأقوى وأكبر من كل شيء سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
يعني الله عز وجل، فعندها كشف الأضياف حقيقتهم فقالوا: ((يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ))، المنازل الأعلى في كمال التوكل كحال النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة في الغار حين قال له صاحبه أبو بكر: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).
وحال إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار حيث يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وحال موسى حين قال له قومه وأصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].(32/7)
بيان العقوبة التي حلت بقوم لوط
بين الله عز وجل حال لوط عليه السلام عندما ضاق به الحال إلى تلك اللحظة في موضع آخر فقال: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:37] خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمست الأعين وطمست الوجوه، أصبحت بلا أعين ولا أفواه، خرجوا على تلك الحال يتوعدون لوطاً في الغد، يا سبحان الله، على ما هم عليه من العتو والإجرام.
قال عز وجل: ((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)) بإيذاء أو بغير ذلك: ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)) أي: سر بالمؤمنين والمؤمنات من بناتك ليلاً، ((وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)) أي: لا تنظرون إلى ما يقع ويجري، دعوهم لله لينتقم منهم، ((إِلَّا امْرَأَتَكَ)) أي: هذه لا تخرج ولا تسري بها، ((إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)) وذلك دليل على أنها لم تخرج معهم ابتداء، لرضاها بفعلهم وإقرارها بمنكرهم، وكل من رضي بالمنكر ورآه حقاً لمن يفعله فهو مثل فاعله والعياذ بالله.
قال عز وجل: ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)) وهذا على لسان الملائكة يبشرونه بقرب هلاكهم، ((أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ))، وهذه هي الساعات الأخيرة في حياة قوم لوط، فخرج لوط في آخر الليل وانطلق ولم يلتفت ولم تخرج امرأته؛ لأنها كانت من قومه.
قال عز وجل: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) [هود:82] يقال: رفعهم جبريل عليه السلام بطرف جناحه حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وصياح ديوكهم ثم أهوى بهم إلى الأرض، قال عز وجل: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، جعل الله أعلى القرية سافلها، وهوت من السماء إلى الأرض، ثم أتبع ذلك أن أرسل الله عليهم حجارة من سجيل معدة عنده في السماء عز وجل مسومة معلمة، كل رجل وامرأة منهم له حجر معلوم يصيبه لا يخطئه.
{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]: وذلك أن السماء من الشهب وأنواع الحصى وأنواع الحجارة التي تدور في أفلاكها لو أصابت الأرض لأحرقتها بالكلية، فكيف بقرية صغيرة؟ وكيف بذرة في ملك الله؟ والله عز وجل يخبر أن هذه الحجارة ما هي من الظالمين ببعيد، وذلك دليل على أن هذا يمكن أن يقع في الأمم بعد ذلك، وهو حاصل قبيل القيامة فسيكون مسخ وقذف وخسف في هذه الأمة، وفي الذين يفعلون الفواحش ويتخذون المغنيات، ودائماً ما تقترن الفواحش بالغناء والموسيقى.
وأخبر الله عز وجل أنهم أخذتهم صيحة كذلك أهلكتهم بأنواع العقوبة كلها جزاء بما صنعوا، نسأل الله عز وجل أن يعافينا من كل سوء وشر.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم! من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! ربنا! ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم! نجِ المستضعفين من المسلمين في كل مكان.
اللهم! انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم! انصر الدعاة إليك في كل مكان.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم! متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم! إنا نسألك الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم! إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم! إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
أقولي قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(32/8)
كلمة حول الأحداث الأخيرة
إن القوة والضعف، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض لمن الأسباب التي يبتلي الله بها عباده في هذه الحياة؛ لينظر من هو الصادق الذي يقف إلى جانب الحق وإن كان أصحاب الحق ضعفاء، ومن هو الكذاب الذي لا يقف مع الحق إلا إذا كان أهل الحق أقوياء، فإذا مروا بمرحلة الضعف ترك الحق وهرول إلى الباطل، فهو مع القوي وليس مع الحق.
وقلما أفلح رجل بنى مواقفه على موازين البشر وترك موازين رب البشر سبحانه وتعالى، وكم من أناس ظنوا أن أمة الإسلام قد ماتت فوقفوا في صف عدوها ليأخذوا من الغنيمة، فإذا بها تنتفض حيةً قوية تعصف بهم أجمعين، فأمة الإسلام قد تمرض لكنها لا تموت.(33/1)
الابتلاء يكون بالقوة والضعف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فاعلموا عباد الله! أنه لا قوة إلا بالله، وأنه سبحانه وتعالى هو القوي العزيز المتين، فهذه صفته سبحانه وتعالى، وقد جعل من دونه من الخلق يتقلبون بين القوة والضعف، والعدم والوجود، والموت والحياة، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض، فهو سبحانه وتعالى المعز المذل الخافض الرافع مالك الملك، كما قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
فالله سبحانه وتعالى خلق الناس {مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، فلا تحول من حال إلى حال إلا به سبحانه وتعالى، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وليس بأيديهم من أسباب القوة والقدرة إلا ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وما أعطاهم الله إلا من أجل أن يبتليهم، وأول أسباب القوة الحياة، وأوضح أسباب الضعف الموت، وهو عز وجل بيده الموت والحياة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2].
فالله عز وجل فاوت بين العباد قوة وضعفاً، وحياة وموتاً، وفاوت بين الأمم قوة وضعفاً، وإعزازاً وإذلالاً؛ يبتلي عباده بذلك أيهم أحسن عملاً؟ وهو سبحانه وتعالى الذي امتحن بعضهم ببعض {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (قال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)، فالله يبتليه ويبتلي من اتبعه، ويبتلي به الناس حتى يكونوا بين متابع مؤمن مصدق، وبين مخالف كافر مكذب والعياذ بالله.
فالله سبحانه وتعالى جعل أسباب القوة والضعف، وأسباب الإعزاز والإذلال امتحاناً للعباد؛ لينظر كيف يعملون حين تأتي المواقف المختلفة، فتتفاوت قواهم بين تمكين واستضعاف، وتختلف ظروفهم وأحوالهم ليعلم من يطيعه عز وجل على كل حال، فيبني مواقفه من خلال كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يبنيها على مصالح يتوهمها، أو موازين قوى يتخيلها -أو هي فيما يبدو للناس- فيظن أن الأمور بأيديهم، فيبني على ذلك مواقفه، ويتخذ بناء على ذلك تبعيته وولاءه، ولم يدر أنه حين يقدم المصالح الموهومة والقوى المتخيلة على ما أمر الله عز وجل به فإنه خاسر في الاختبار، وفاشل في الامتحان، لقد خسر حين اختار الحزب الخاسر فوالاه، وترك الحزب الغالب فعاداه؛ لأنه لم يكن منتصراً في نظره.(33/2)
موالاة المنافقين للكافرين في كل زمان
إن مواقف أهل الإيمان دائماً نابعة من كتاب الله ومن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وقضية الولاء والتبعية عندهم محسومة لصالح الالتزام بالدين، فلا بد أن يكون الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]، إنه منطق يتكرر في أزمنة وأمكنة مختلفة، إنه منطق أهل الشك والريب والنفاق الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون في موالاة الكفرة رغم ظلمهم وبغيهم واعتدائهم وطغيانهم، فلا يقيمون للحق وزناً، ولا يبنون أمرهم على دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما العدل عندهم وفي مقياسهم هو القوة، وليس هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم الظلم وأكبره وأشده، إذ أن ذلك اعتراض على شرع الله سبحانه وتعالى أن ينسب الإنسان فعله إلى العدل دون رجوع إلى شرع الله، ومن يوافقه على ذلك فهو مثله، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا ريب أن من رأى أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً دون رجوع إلى شرع الله أنه بذلك يكون كافراً والعياذ بالله.
فالعدل هو شرع الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يجب أن يحاكم الناس إليه ويتبع، وأن يلزم الجميع به، سواء كانوا مؤمنين أو كانوا كافرين، فالكل يجب أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالمنافقون يعلمون ظلم هؤلاء الذين حذر الله من مولاتهم من اليهود والنصارى ومع ذلك يتولونهم، فحكم الله أنهم ظالمين مثلهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
فيسارعون فيهم خشية الدوائر كما يزعمون، وغاب عنهم أن القوة والضعف إنما هي ابتلاء من الله عز وجل، وأن القلة والكثرة والتمكين والاستضعاف إنما هي مراحل تمر بها الأمم كما يمر بها الإنسان، فإنه يولد عاجزاً ضعيفاً فقيراً عارياً، ويموت كذلك، ويمر فيما بين هذين الضعفين بقوة وقتية يختبر فيها كيف يعمل، فكذلك الأمم والشعوب تختبر.
فقد قدر الله سبحانه وتعالى على كل الأمم أن تهلك وتبيد إلا هذه الأمة فقد اختصها الله سبحانه وتعالى بفضيلة من عنده وهي أنها لا تموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وأعطى الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ويأخذ ما بأيديهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى تقوم الساعة).
وفي رواية في الصحيح: (حتى يقاتل آخرهم الدجال)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
والمقصود بأمر الله سبحانه وتعالى الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو كان في جوف جبل لدخلت عليه هذه الريح فقبضت روحه، فلا يبقى في الأرض من يقول: الله الله، وقبل هذه الأشراط الكبرى لا ينعدم الحق من هذه الأمة بفضل الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى جعل القوة والضعف ابتلاء وامتحاناً للعباد ولكن المنافقين لم يفقهوا ذلك، فسارعوا في مولاة اليهود والنصارى {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]، فيخشون أن تصيبهم هزيمة فيعدون العدة بالتبعية والموالاة والمناصرة لأهل الكفر والطغيان والظلم والعدوان، قال عز وجل مبشراً عباده المؤمنين ومتوعداً هؤلاء الكفرة والمنافقين: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، و (عسى) من الله عز وجل واجبة، فبقدر تمسك أهل الإيمان بإيمانهم، والتزامهم بكتاب ربهم، وبناء مواقفهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يأتي الفتح من الله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]، وأبهم هذا الأمر الذي من عنده؛ لكي لا يقف فكر المسلمين المؤمنين عند حد، فإن قدرة الله عز وجل لا تحد، فيفعل عز وجل ما يشاء، ويغير الأمور في لحظة واحدة: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:50 - 55].
فالملك والقدرة له سبحانه وتعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] وقال عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:52 - 53]، فيتعجب أهل الإيمان ممن ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه مع أهل الإسلام ضد عدوهم، ثم هو يوالي الكفرة ويعاونهم ويظاهرهم -والعياذ بالله- فيكون منهم، وذلك ينافي معيته للمؤمنين.
فيتعجب أهل الإيمان لتناقض أهل النفاق؛ لأن من كان موالياً للمؤمنين ناصراً للدين لا يمكن بحال من الأحوال أن يقدم آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة أو أزواجاً أو مساكن ترضى أو أموالاً تقترف أو تجارة يخشى كسادها، أو غير ذلك من المصالح الموهومة -التي هي في الحقيقة مضار إذا قدمت على دين الله- على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24].
إذاً: تربصوا وسوف يأتي أمر الله النافذ الذي لا مرد له، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهذا تبشير لأهل الإيمان، ووعيد لأهل الكفر والنفاق والظلم والعدوان، وانتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].(33/3)
الاجتماع بين الإيمان وموالاة الكافرين غير ممكن
تتناقض دعوى الإيمان مع موالاة الكافرين ومظاهرتهم ومناصرتهم، بل هي موجبة -والعياذ بالله- لحبوط العمل، مستوجبة للخسران، مؤدية إلى الردة إن لم تكن هي في ذاتها ردة، قال عز وجل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:53 - 56].
لقد عقب الله سبحانه وتعالى بالتحذير من الردة بعد ذكر مولاة اليهود والنصارى؛ ذلك لأن مولاتهم إما أن تكون ردة، وإما أن تؤدي إليها، وإما أن تكون من أسبابها، فإما أن تكون من الكفر الأصغر والشرك الأصغر الذي يؤدي سريعاً إلى الأكبر والعياذ بالله، وذلك بحسب نوع تلك الموالاة، فمن كان موالياً لهم بحبهم، والرغبة في انتصار باطلهم وشركهم وضلالهم، وحب ظهورهم على أهل الإسلام فإن ذلك مستوجب للكفر، بل لا يمكن أن يصدر من مؤمن أصلاً، فكيف يكون مؤمناً وهو يحب أن يظهر الكفر على الإسلام، وأن يظهر الكفار على المسلمين؟ بل إن كراهية الجهاد في سبيل الله من أوضح علامات النفاق، كما أن حب الجهاد من أوضح علامات الإيمان؛ لأن الله أوجب حبه وحب رسوله وحب الجهاد في سبيله.
وأما من يكره وجوب الجهاد في سبيل الله فإنه من المنافقين كما حكم القرآن عليه، قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:81]، فالمحبة عملٌ قلبي لا يتصور زواله من القلب إلا بزوال الإيمان، فقد يعجز الإنسان أن يكون مجاهداً بنفسه أو ماله ولكنه لا يعجز أن يكون ناصراً للدين بهمته، محباً لظهور الحق، وأما أن يوجد العكس فليس هذا دليل إلا على وجود الكفر المحض والنفاق الأكبر في القلب والعياذ بالله.
وقد عجز أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة ولم يجدوا ما ينفقون، لكن كيف كان حالهم؟ قال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91 - 92].
وأما من يرى البعد عن نصرة الدين غنيمة، فهؤلاء الذين وصف الله بقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:72 - 73]، فالله سبحانه وتعالى جلى لنا أحوال المنافقين لكيلا يلتبس الأمر علينا، ولكيلا يشتبه إيمان بكفر بعد بيان القرآن الذي هو أوضح بيان.
وكذلك إذا كانت موالاة الكفار بالإضافة إلى محبتهم أو بدونها بنصرة الكفار على المسلمين، والمقاتلة معهم ضد أهل الإسلام، فإن ذلك موجب للردة وحبوط الأعمال بالكلية، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
وقد نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا يحبون الإسلام ولكنهم في غزوة بدر خرجوا مع آبائهم كارهين للخروج وليسوا مكرهين؛ لأنه لا إكراه في القتل، فلا يجوز لمسلم أن يكره على قتل مسلم ولا على انتهاك حرمته، قال القرطبي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يصح الإكراه على قتل معصوم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، وأعظم المعصومين حرمة أهل الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن يقول: أنا مكره على قتل أخيه أو قتال المسلمين، بل هو مأمور في قتال الفتنة بين المسلمين بأن يدق سيفه، ويكسر درعه، ولا يقاتل ويلزم بيته، فلو دخل عليه أحد بيته وهو في حال الاعتزال فليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل، ويلقي على رأسه ووجهه ثوباً لئلا يخيفه بريق السيف، ويقول كما قال خير ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29].
فإذا كان هذا في مسلم يريد أن يشاركه في قتال فيه شبهة مع المسلمين، فكيف إذا كان مأموراً بقتال المسلمين لإسلامهم تحت راية كفر معلنة بالكفر، فيظهرون ما كانت تخفي قلوبهم، ويعلنون صراحة كفرهم وحربهم ضد الإسلام، وأنهم يريدون حملات صليبية متتابعة لتجتث هذه الحضارة الإسلامية بزعمهم، ويأبى الله ذلك، فقد أخبرنا بإرادتهم، وبنهاية أمرهم وأمرنا معهم، فقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 33].
فلذلك كان من يقاتل مع الكفار ضد أهل الإسلام والعياذ بالله لا يقبل عذره بالإكراه أو أنه عبد مأمور أو أنه كاره لقتال المسلمين، ولقد نزلت الآيات {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97]، في شبان من أهل مكة خرجوا مع أعدائهم كارهين لا يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم لمن كان يعلمهم؛ لأنهم ليسوا المقصودين في الحقيقة، ولكن كان يضرب أحدهم بالسيف فيقتل، فقد كان كثير من الأنصار أو أكثرهم لا يدري من هؤلاء إنما يسمع أسماءاً ولا يعرف أشخاصاً، وكذلك كان يأتي السهم فيقتل أحدهم، وربما رمي برمح فقتل، فقال بعض المسلمين: استغفروا لإخوانكم فإنهم كانوا كارهين، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
فحكم الله عليهم بجهنم والعياذ بالله، وعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكفار في أحكام الدنيا، فألقاهم مع من قتل من المشركين في قليب بدر، ولم يصل على واحد منهم ولم يستغفر له، ولا دفنه مع شهداء المسلمين، بل دفنه مع الكفار، وخاطب الجميع بقوله: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً)، ومن أسر من هؤلاء كـ العباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب، واستحل منهم هذا المال، ولم يكن خروجهم برضى منهم، ولكنهم كما روي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! إنكم خاصمتم فخصمتم، افد نفسك وابن أخي) وأخذ منه المال رغماً عنه، ولو كان يعامل معاملة المسلم لحرم دمه وماله، فتبين بذلك أن من خرج محارباً للمسلمين تحت راية الكافرين فإنه يكون مرتداً، وعليه كل أحكام المرتد.(33/4)
كيفية معاملة المنافقين في الدنيا
قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:88 - 89]، نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا قد تكلموا بالإسلام وخرجوا في طلب حاجة لهم، وكانوا يظاهرون عدو المسلمين عليهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس علينا منهم بأس؛ لأنهم يظهرون الإسلام، ولكنهم في نفس الوقت يظاهرون عدو المسلمين من قريش، فقال بعض الصحابة: انطلقوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت طائفة: سبحان الله! كيف تقتلون قوماً قد تكلموا بما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم وأموالهم؟! فأنزل الله عز وجل: ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)) أي: كيف تختلفون فيهم؟ فإنه لا يجوز الاختلاف في هؤلاء، ((فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ))، أي: ردهم إلى رجاسة الاعتقاد والكفر والضلال الذي هم عليه، ثم حكم الله عليهم بحكم الكفر مع حكم النفاق، وذلك أن المنافق إذا أظهر نفاقه يختلف عما إذا كتمه، فهو إذا كتم نفاقه يحاسب به في الآخرة، وليس لنا إلا الظاهر من الأعمال والأقوال، وأما إذا أظهر نفاقه بمظاهرة ومعاونة ومناصرة عدو المسلمين عليهم؛ فإنه بذلك أظهر كفره، ولذا قال: ((وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ))، أتريدون أن تحكموا بهداية من أضله الله عز وجل وجعل نهايته العذاب والعياذ بالله؟! {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:88 - 89].
فهم يودون لو ترك المسلمون الإسلام وإن زعموا أنهم لا يريدون ذلك، لكنها الحقيقة، ولولا أنهم يخافون من أن يهيج الملايين من المسلمين لصرحوا بذلك، فهم يريدون أن يترك المسلمون الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون منهم أن يكتفوا بمجرد الاسم دون الحقيقة ودون التطبيق والعمل، ويريدون أن يبقى الإسلام مجرد اسم ينتسب إليه الناس.
والله إن أناساً لم يكن عندهم من الإسلام إلا مجرد الاسم، ومع ذلك قتل منهم مئات الألوف في أقطار متعددة من الأرض، كما وقع في بلاد متعددة في المشارق والمغارب، ووقع ذلك بالأمس القريب في التركستان في الحكم الشيوعي الصيني، ووقع قريباً في البوسنة والهرسك، وفي غير ذلك من المواطن، ولم يكن معهم إلا مجرد الاسم، ولم يكن هناك أدنى فهم للإسلام، بل لم يكن صلاة ولا صيام ولا ترك لزنا ولا ترك لشرب خمر، ولا حتى عقيدة إسلامية، ووالله إن بعض من يخبر عن القوم في تلك البلاد يقول كانوا إذا سئلوا: من نبيكم؟ لم يدروا! بل ربما قال أطفالهم: نبينا عيسى، ولا يدرون عن محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، ومع ذلك فهم مستهدفون؛ لأنهم يعرفون من الإسلام كلمة لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان لا يدرى فيه ما صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكن أقواماً يقولون: وجدنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها).
فانظر إلى هذا الأمر لتعرف حقيقة إرادة الكفار، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89]، وهكذا أيضاً يريد المنافقون أن يكون الناس كلهم في الكفر سواء، فماذا بعد أن بين القرآن ما في قلوبهم؟! وماذا بعد أن بدا ذلك من فلتات ألسنتهم؟! أيمكن بعد ذلك أن يغر مغرور وأن يزعم أنهم لا يريدون حرب الإسلام؟ وأنهم لا يريدون اجتثاث هذا الدين من قلوب أبنائه بل من الأرض كلها؟ لكن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط، قال عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء:89]، فهؤلاء الذين كانوا من أهل مكة لا بد أن يهاجروا إلى المدينة وإلا لم تكن بينكم وبينهم موالاة، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89].
ولذلك نقول: إن مولاة الكفار إما أن تكون ردة كمن يحب كفرهم، ويحب ظهورهم على الإسلام والمسلمين، أو كمن ينصرهم بالقتال معهم، والخروج في صفهم مقاتلاً للمسلمين، وكذلك بأن يطيعهم في الكفر، أو يتابعهم على الشرك؛ فإن الطاعة في الكفر كفر، والطاعة في المعصية معصية، وإن كان يعتقد أن الطاعة في المعصية واجبة لأجل أمر من أمر بها فهو أيضاً من الكفر والعياذ بالله، وأما إذا كانت المتابعة والتشبه والطاعة والنصرة بمثل التجسس ونحو ذلك مثلما فعل حاطب بن أبي بلتعة مع مشركي قريش فلا تكون ردة، ولكنها سبب إلى الضلال، وهي درجة من درجات النفاق، لكن ليس الذي يستوجب الكفر الأكبر والقتل كما ظنه عمر؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقال: دعه يا عمر! فلعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن فعل حاطب فعل محرم، ولكنه لا يستوجب الكفر، فمن الموالاة ما هو كفر بذاته، ومنها ما هو سبيل وطريق ووسيلة إلى الكفر، وهو نفاق أصغر وكفر أصغر، وهو أعظم من الكبائر، فإن الكفر الأصغر والشرك الأصغر والنفاق الأصغر أشد من الكبائر التي هي من جنس الشهوات مثل شرب الخمر والزنا ونحو ذلك من الفواحش، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، فهذه صفات بينة يجب أن تكون في كل مؤمن صادق الإيمان {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفضل علينا بفضله وهو الواسع والعليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.(33/5)