ليس في الدين قشور
انتشرت عند كثير من الناس فكرة أن في هذا الدين قشوراً وأن فيه لباً.
مع أن الدين كله لب، ولا يوجد فيه قشور.
وفي هذا الدرس تحذير من تساهل كثير من المسلمين في حلق اللحية، وإسبال الإزار وتذكير بما جاء في ذلك من نصوص شرعية ليس للمسلم إزاءها إلا السمع والطاعة.(117/1)
واجب الامتثال لأمر الله وأمر رسوله
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله! أطيعوا الله وأطيعوا الرسول تسعدوا في الدنيا والآخرة، وتفوزوا فوزاً عظيماً.
واعلموا -عباد الله- أنها لا تتم طاعة الله إلا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32] ويقول رب العالمين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
أمة الإسلام: من هذه الآيات الكريمة يتبين لنا معنى شهادة أن محمداً عبده ورسوله، ما معنى شهادة أن محمداً عبده ورسوله؟
معناها: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بما شرع صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي رسالتُه خُتمت بها الرسالات، وهو الذي بُعث إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، اسمع يا عبد الله! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.(117/2)
حكم إسبال الإزار بطراً
أمة الإسلام: لقد تفشَّت في مجتمعنا صفة محرمة، وهي من كبائر الذنوب، واستحسنها كثير من الناس، ألا وهي الإسبال، ألا وهي جر الثياب والمشالح والسراويل من الرجال.
واسمعوا -يا عباد الله- النهي الشديد من الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً} متفق عليه.
وأيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم! ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم! ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم! -قرأها ثلاث مرات- قال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب} رواه مسلم وفي رواية: {المسبل إزاره}.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {إزارة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه} رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إزاري استرخاءٌ، فقال: يا عبد الله، ارفع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زد، فزدتُ، فما زلتُ أتحراها بعدُ، فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلى أنصاف الساقين} رواه مسلم.
عباد الله: هل بعد هذا البلاغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرٌ للمعاندين الذين اعتادوا أن يسحبوا الثياب؟ هل لهم عذرٌ إذا وقفوا بين يدي الله عزَّ وجلَّ؟ لا والله ليس لهم عذر، فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين.
إن بعض أولئك المعاندين الذين نراهم في المناسبات وهم يجرون ثيابهم عندما يصبون القهوة والشاي، إننا إذا رأيناهم تكاد القلوب أن تتفطر مما نرى من المنكرات التي تجتمع في تلك المناسبات، ولو كان إيماننا قوياً لم نحضر تلك المناسبات وفيها تلك المنكرات، إن حلق اللحية منكر، وإن ترك الشوارب منكر، إن إسبال الثياب منكر، ولكن مع الأسف الشديد! نجلس ونضحك ونتحدث مع القوم، لو هجرناهم حتى يتركوا هذه المحرمات ويرجعوا إلى الله، لكن لم يحصل ذلك عندنا، لم يحصل ذلك الهجر، ولم تحصل تلك المقاطعة.(117/3)
حكم جر الثوب زينة
إن بعض أولئك المعاندين يقولون: لم نجره خيلاء، ولكن زينة، فنقول لهم: ليست الزينة والجمال فيما حرمه الله ورسوله، فاسمعوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} رواه البخاري.
اسمع أيها المعاند، اسمع أيها العاصي، ما حجتك بين يدي الله، وقد سمعت هذا البلاغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} رواه البخاري.
واسمعوا يا عباد الله! قال رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً قالت: إذاً: تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً، لا يزدن} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
والله يا عباد الله! والله يا أمة الإسلام! يا من غفلوا عن تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لقد عظمت المصيبة في زماننا، انعكس الأمر وانتكس، فالمرأة هي التي قصَّرت ثيابها، وكشفت عن قدميها وساقيها، والرجل حل محلها، فأسبل الثياب، وستر القدمين، فلا يظهر منه إلا الوجه وأطراف القدمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
والله لو فكرنا نحن الحاضرون في هذه اللحظة لوجدنا الكثير منا قد أسبل الثياب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
اللهم هذه أحاديث رسولك محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغتُها كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بلغوا عني ولو آية}.
اللهم هذه أحاديث رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، أقرؤها على هذا المنبر، اللهم فاشهد أني قد بينت أن الإسبال محرم، وإن تلطخ به الكثير من المسلمين.
فأسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً، اسمعوا إلى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
فما ظنكم -يا عباد الله- بإنسانٍ يقف أمام الخياط ويأخذ مقاسه، ويوصيه أن يجعل الثوب أو الإزار أو المشلح طويلاً، ولقد قلت لبعض الناس: يا أخي! ارفع ثوبك فلا تجره، فيقول: أريد الستر، مع الأسف الشديد إن كان يريد الستر فهو امرأة؛ لأن الستر هو للمرأة، أما عورة الرجل فمن السرة إلى الركبة، وأما المرأة فهي كلها عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة، فمن قال: أريد الستر، فهو يتشبه بالنساء، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء.
اللهم وفقنا إلى ما تحبه وترضاه, وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم اجعلنا ممن يتواصون بالحق، اللهم اجعلنا ممن يتناصحون لله وفي الله، إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه ما دمتم في وقت الإمكان، استغفروه وتوبوا إليه ما دمتم في وقت الإمكان، فإن الله غفور رحيم.(117/4)
الحذر من شؤم المعاصي
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ وأطيعوه.
عباد الله: احذروا أسباب سخط الله، وتيقظوا من هذه الغفلة.
نعم.
لقد غفل الكثير من الناس، ونسوا الله عزَّ وجلَّ، حتى آل بهم الأمر إلى ارتكاب المحرمات، وصار بعضهم يفعل ذلك جهاراً دون حياءٍ ولا مبالاة، كل ذلك أسبابه البُعد عن الله عزَّ وجلَّ، وعما يقرب إلى الله تعالى.
فمن غفل عن الله ونسيه، فإن الله جلَّ وعلا ينساه جزاءً وفاقاً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
نعم.
لقد انهمك الكثير في هذه الأزمنة بالدنيا حتى ألهته عن العمل للدار الآخرة، فغفل عن مصالح نفسه، فصار عبداً للدنيا والهوى، فلا يسعى بما يخلص به نفسه من عقبات أمامه، نسي الموت بما فيه من الغُصَص والسكرات، ونسي القبر وظلمته، ونسي سؤال منكر ونكير.
نعم.
-يا عباد الله- أي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها، ونسي أسباب سعادتها وفلاحها في حياتها الأبدية؟!
فتذكر -يا عبد الله- أين المصير يوم القيامة؟ هل أنت من أهل الجنة فهنيئاً لك، أم أنت من أهل النار فيا ويلك من النار؟
إذا كنت تذكر ذلك حقاً، فلماذا هذا التهاون بالله جلَّ وعلا؟! ولماذا هذا الابتعاد عن نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
لماذا هذا التهاون بالصلاة، التي من تركها متعمداً فقد كفر؟!
لماذا هذا التهاون بأداء الزكاة، التي هي قرينة الصلاة؟!
لماذا هذا التهاون بارتكاب المخدرات والمسكرات التي نقلتك عن حيز الآدميين إلى التشبه بالمجانين والحيوانات؟!
لماذا هذا الانهماك في جريمتي الزنا واللواط؟!
لماذا تسمع الأغاني وهي بريد الزنا وتنبت النفاق بالقلب كما ينبت الماء البقل، وهي رُقية الزنا؟! ومع ذلك إن مِت من غير توبة، يُصب في أذنك الآنِك يوم القيامة، وهو الرصاص المذاب.
ثم لماذا هذا التجرؤ على حلق اللحية، التي ميزك الله بها عن النساء؟! وحلقها تشبه باليهود والنصارى والمجوس، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أيها الغافل: يا من ضيع عمره عند الأفلام والتمثيليات ومع المجلات! تذكر يوم العرض الأكبر على الله، إذا أعطيت الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدت فيه تلك الأوقات التي قتلتها في غير طاعة الله، في الليل والنهار.
يا من أسبل الثياب وتهاون بأمر الله! استعد ليوم القيامة.(117/5)
الاستعداد لليوم العظيم
يا من غفل عن ذلك اليوم العظيم! ستراه عياناً {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:18 - 20] تذكر ذلك اليوم يا عبد الله، يوم القيامة، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38] {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40].
تذكر يوم القيامة الذي سوف تقف به شاخص البصر، حافي القدم، عاري الجسم {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:25 - 26].
نعم.
الملك يومئذٍ الحق للرحمن، الذي قال وقوله الحق: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
ثم يأمر الله جلَّ وعلا إسرافيل فينفخ في الصور نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض، -إلا من شاء الله- حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد إله الأولين والآخرين -الحي الذي لا يموت أبداً- بالديمومة والبقاء، وهو القائل جلت قدرته: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ثم تذكر -يا عبد الله- قول الله جلَّ وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه، فيقول جلَّ وعلا: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
ثم يحيي ربنا جلَّ وعلا إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، نفخة البعث التي قال الله فيها: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
تذكر -يا عبد الله- إذا قمت من قبرك، تنفض التراب من رأسك يا عبد الله.
والله لو رسخ الإيمان في قلوبنا لما تجرأنا على هذه المحرمات، ولما عصينا جبار السماوات والأرض، ولما تعدينا الحدود، ولكن لك ميعاد {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الآمنين يوم الفزع الأكبر {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] يومٌ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُحشر الناس يوم القيامة حُفاة، عراة، غُرْلا قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض}.
فيا عباد الله: استعدوا لذلك اليوم، استعدوا ليوم القيامة، استعدوا ليومٍ يُنفخ في الصور، فتأتون أفواجاً، وتُحضرون بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، ردنا إليك رداً كريماً، اللهم ردنا إليك رداً كريماًَ، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين.
اللهم أصلح ولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم ارزق ولاة أمور المسلمين جلساء صالحين، وبطانة صالحة، وأبعد عنهم بطانة السوء.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(117/6)
ما أعد الله لأهل الجنة
لقد أعدَّ الله لعباده في الجنة كما قال: {ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} وما جعل الله هذا النعيم إلا لأناس ذكر صفاتهم في كتابه وعلى لسان نبيه، وقد أعطى الله لأدنى أهل الجنة منزلاً أكثر من ملك الدنيا بعشر مرات؛ فكيف بمن هم في أعالي الدرجات؟! ولكن هل من مشمر لها.(118/1)
حال أهل الجنة في الجنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجل ولا تغتروا بما في هذه الحياة الدنيا من الزخارف البراقة والسراب اللامع، فإن كل هذه الحياة الدنيا وما فيها مآلها للزوال والخراب؛ ولكن استعدوا لدار لا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبانها، ولا تبلى ثيابهم، ولا ينقطع نعيمها، واسمعوا إلى المولى جلَّ وعلا وهو يحثكم إليها في القرآن العظيم، ويقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
ويقال لأهل الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:46 - 48].
ويُقال لأهل الجنة: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] مَن هُم الذين يقال لهم هذا يا عباد الله؟ يقال للذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين، اسمعوا وصفهم: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:69 - 73].
ثم هم في مقام أمين من الحوادث وغيرها، في أمان من تغير الزمان وتقلبات الحياة، في جنات وعيون، ولهم فيها من اللباس: السندس، والإستبرق، متنعمين مع الزوجات من الحور العين، الراضيات المرضيات، الطاهرات من الحيض والنفاس، النظيفات من البصاق والمخاط، اسمعوا يا عباد الله! {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] يا ألله نسألك من فضلك، الله أكبر! يا عباد الله! أين النفوس التي تشتاق إلى هذا؟ نفوسنا في غفلة، قلوبنا ميتة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:51 - 57].
عباد الله: بادروا إلى الجنة وما أعد الله فيها لعباده الصالحين، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.
ولكن قبل هذه الآية، آيات تبين أعمالهم، يقول جلَّ وعلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ماذا يعملون يا رب العالمين؟ يلعبون البَلُوْت والكِنْكَان؟ يغيرون من فيلم إلى فيلم، ومن تمثيلية إلى تمثيلية؟ فإذا جاء وعد الله الذي لا يخلف وعده, وجاء النزول الإلهي إذا هم كالجيف الميتة في فُرشهم، الآن بعضهم إلى الآن في فراشه بعد سهرة الليل، وتمر عليهم صلاة الفجر، والظهر، والعصر وهو نائم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} هؤلاء عباد الله، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ماذا يعملون؟ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] الفرق شاسع وبعيد، فهؤلاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، خائفين من الله، طامعين لما عند الله، ونحن نسهر ليلة الجمعة وليلة الخميس.
ليلة الخميس: الليلة التي تُعْرض فيها الأعمال على الله، وإذا بفلان وعلان يلعبون القمار والميسر، البَلُوْت والكِنْكَان، ويتشاتمون فيما بينهم، هذا يشتم والدَي هذا، وذاك يشتم والدَي الآخر، إنا لله وإنا إليه راجعون، تُعرَض الأعمال على الله، وهم يمارسون تلك اللعب.
وليلة الجمعة: التي تقوم فيها الساعة المستجابة، يمارسون فيها تلك الألعاب، فإذا جاءت أوقات الفضائل، فإذا هم كالجيف والعياذ بالله قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] اللهم اجعلنا منهم، يا عباد الله! نسأل الله أن يجعلنا منهم.(118/2)
صفات أهل الجنة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشدِّ كوكب دري في السماء ضوءه، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأَلُوَّة، أزواجهم الحور العين} لا إله إلا الله! نسأل الله من فضله، نسأل الله أن يقوي عزائمنا وهممنا لنقضي حياتنا بالأعمال الصالحة، يقول: {أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء} متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: {آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم فيها المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مخ ساقيهما من وراء اللحم من الحُسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا}.
عباد الله: لقد جاء الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبي الله موسى عليه السلام سأل الله عزَّ وجلَّ: {ما أدنى أهل الجنة منزلة؟} موسى يسأل الله: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ {يقول الله جلَّ وعلا: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهلُ الجنة الجنة، فيُقال له: ادخل الجنة، فيقول: أيا رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيتُ ربي، فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله, ومثله -أربع مرات- ويقول في الخامسة: رضيتُ ربِّ، فيقول: هذا لك، وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسُك، ولذت عينك، فيقول: رضيتُ ربِّ، قال موسى عليه السلام: ربِّ، فأعلاهم منزلة؟ قال الله جلَّ وعلا: أولئك الذين غرستُ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، ولم ترَ عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر} حديث صحيح رواه الإمام مسلم.
وجعل الله عزَّ وجلَّ زوجات أهل الجنة عُرُباً أتراباً، والعُرُب: هي المرأة المتوددة إلى زوجها باللطافة، ولين الكلام، ومع ذلك فهن على سن واحد، ولا تباغض ولا تحاسد في الجنة، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعيُن، وفوق ذلك: أنهم فيها خالدون؛ لا يبغون عنها حولاً، ولا هم منها مُخرجون، ينادي منادٍ: {إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا أبداً}.
وفوق ذلك يا عباد الله: أن الله أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبداً، وفوق ذلك كله: ما يحصل لهم من التلذذ برؤية رب العالمين إذا كشف الحجاب الذي بينه وبينهم، فهم يرونه عياناً بأبصارهم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم -اسمعوا يا عباد الله- ألا تُغْلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا} ما هما هاتان الصلاتان، هما: صلاة الصبح، وصلاة العصر.
عباد الله: إن سألتم عن أهل هذه الجنات، وساكني تلك الغرفات، فهم الذين وصفهم الله في كتابه الكريم -نسأل الله أن يجعلنا منهم- قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما صرفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(118/3)
من نعيم أهل الجنة
الحمد لله الذي صرف هِمَّة أوليائه عن الركون إلى دار الغرور، فاغتموا بقاءهم في الدنيا بالأعمال الصالحة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والكرامات، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ وتقربوا إلى المولى بفعل الطاعات؛ تنالوا عنده رفيع الدرجات، فقد سمعتم في وصف الجنة ما لذَّ وطاب، وقد ورد في الحديث المتفق على صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين} أيها المسلمون! رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، من هم هؤلاء الرجال؟ أهم الذين أنشبوا أنيابهم في الدنيا، وانجرفوا في سيلها المغرق؟!
أم هم الذين يبيعون دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل؟!
أم هم الذين يخدعون ويغشون في المعاملات؟
أم هم الذين عاشوا على انتهاك الحُرُمات، واقتراف الكبائر، مثل أكل الربا، وارتكاب الزنا، واللواط، وشرب الخمور، واللعب بالقمار والميسر؟!
كلا والله يا عباد الله! إنهم رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وحُق لهم أن يسمَّوا رجالاً؛ لأنهم بخلاف المجرمين العُصاة المنحرفين، الذين يجرون أذيالهم وراء الشهوات، ويبيعون آخرتهم بدنياهم، حتى يوافوا القيامة بالإفلاس والخيبة والخسران، والعياذ بالله من ذلك.
أين أولئك مِن الذين لم تغرهم الدنيا بزخارفها البَرَّاقة، ولم تخدعهم بسرابها؟
أين أولئك الذين أشبعوا رغباتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فهو يقول: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهذا {عمر رضي الله عنه يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى الحصير قد أثر بجنبه الشريف، فيقول وهو يبكي رضي الله عنه: يا رسول الله، الروم وفارس يجلسون على الحرير والديباج وأنت على هذا؟! ثم يرد صلى الله عليه وسلم بالرد المقنع الجميل: إنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فأين الاقتداء يا أمة الإسلام؟! أين الاقتداء يا عباد الله؟! لقد جرفت المدنية الزائفة الكثير، حتى ألجأهم الأمر إلى ارتكاب الديون، فيأتون بالفُرش والأثاث من بلاد بعيدة، كل ذلك يعود على التفاخر والتكاثر، والانهماك في الترف الذي هو السبب في نسيان الآخرة، ونسيان يوم القيامة.
عباد الله: {الكيِّس: مَن دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: مَن أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني}.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أيقظنا مِن سِنَةِ الغفلة.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ثم يأمرك المولى جلَّ وعلا فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً يا رب العالمين، وسائر بلاد المسلمين عامة.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ارفع عنا البلاء، والوباء، والغلاء، والربا، والأمراض والأسقام، وعن جميع المسلمين أجمعين يا رب العالمين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا بلاء، ولا غرق، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(118/4)
ما أعد الله لأهل النار
النار حرها شديد، وقعرها بعيد، وأمدها بعيد، وهولها منكر، وهي من أعظم المواعظ وأكبر الزواجر عن الصغائر والكبائر، ذكر الله بها عباده، وأوصى خلقه سلفاً وخلفاً باتقائها، وهذه خطبة تنبيك عن النار وأحوال أهل النار علك تتعظ، والذكرى تنفع المؤمنين.(119/1)
ما أعده الله للكفار في النار
الحمد لله ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، المنتقم ممن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كل خير مزيد، فسبحان من قسم خلقه قسمين، وجعلهم فريقين، فمنهم شقي ومنهم وسعيد، أحمده وهو أهل للحمد والثناء والتمجيد، وأشكره ونعمه بالشكر تدوم وتزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا كفؤ ولا عدلَ ولا ضدَّ ولا نديد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى التوحيد، والساعي بالنصح للقريب والبعيد، المحذر للعصارة من نار تلظى بدوام الوقيد، المبشر للمؤمنين بدار لا ينفذ نعيمها ولا يبيد.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً.
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ وأطيعوه، احذروا أسباب سخطه واجتنبوا معاصيه، لقد سمعتم في الجمعة الماضية الجنة، وما أعد الله فيها لأوليائه المتقين.
اعلموا يا عباد الله: أن الله خلق الخلق ليعرفوه، وأوجدهم ليعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه، ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
عباد الله: لقد كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم، والضريع والْحَميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مِمَّا فيها من العظائم والأهوال.
عباد الله: إن لجنهم سبعة أبواب، ذكرها الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43 - 44].
ثم يا عباد الله! تلك الأبواب مغلقة عليهم، قال الله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] وقال جل وعلا: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] أي: أن تلك الأبواب مطبقة عليهم، فلا يُفتح لهم باب، ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها رَوح إلى آخر الأبد.
وللنار شدة في حرها وزمهريرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً؛ فنفسني، فأذن لها في نفسين، نفسٌ في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر من سمومها، وأشد من تجدون من البرد من زمهريرها}.
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ناركم هذه التي يوقدُ ابنُ آدم جزءٌ واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم} قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: {إنها فُضِّلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها}.
ثم أهل النار فيها يا عباد الله: يُذاقون أليم العذاب وشدته، يقول تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21]-نسأل الله العفو والعافية والنجاة من النار- وفي الآية الأخرى يقول: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22].
عباد الله: اتقوا النار؛ فإن حرها شديد، وقد فُضِّلت على نار الدنيا كلها بتسع وستين جزءاً، يصلاها المجرمون، قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] لماذا؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:56] ثم يرتفع بهم اللهب حتى يصلوا إلى أعلاها، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها.
وكم قعر جنهم؟ قعره سبعون خريفاً {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].(119/2)
لا يستجاب لأهل النار
عذابهم دائم {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] يتكرر عليهم، فلا يستريحون، ويسألون الخلاص منه ولو ساعة فلا يُجابون، يقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] وتقول الملائكة لهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].
فلا يُستجاب لأهل النار، لأنهم لم يستجيبوا لرسل الله حينما دعوهم إلى الله، فكان الجزاء من جنس العمل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيرد الله عليهم على وجه الإذلال والإهانة: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فحينئذٍ ييأسون من كل خير، ويعلمون أنهم فيها خالدون، فيزدادون بؤساً على بؤسهم، وحسرة إلى حسرتهم {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:65 - 66] في تلك اللحظات: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فعند ذلك لا ينفع الندم، حينما يساقون إلى نار {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقولون للملائكة الزبانية إذا سحبوهم: ألا ترحموننا؟ فيقولون لهم: لم يرحمكم أرحم الراحمين، ونحن نرحمكم؟(119/3)
تشوق النار لأصحابها
نارٌ إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، تتقطع منها القلوب {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8] يقول ابن عباس: [[إذا رأت النار من يُراد به دخول النار تشهق كما تشهق البغلة للشعير]] تكاد تتقطع من شدة الغيظ والغضب على أهلها، فهي نار حانقة غضبى على أهلها، وهم في جوفها، فما ظنكم أن تفعل بهم؟!
عباد الله: اتقوا النار، احذروا أن تكونوا من أهل النار، ولقد بين الله لكم صفات أهل النار، وصفات أهل الجنة جملة وتفصيلاً؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165].
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، يا عزيز يا غفار، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، وانفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أٌقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(119/4)
من أوصاف النار وأهلها
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله بمنِّه وكرمه أن يجعلنا من أهل الجنة، وألا يجعلنا من أهل النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نسأله أن يتوفانا عليها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى الأمانة، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واحذروا الأعمال الخبيثة، واحذروا المعاصي والسيئات؛ فإنها حطب جهنم، جهنم التي حذركم الله منها في كتابه الكريم، وحذركم منها رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عزَّ وجلَّ يقول: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أنذرتُكم النار، أنذرتُكم النار، أنذرتُكم النار}.
إنها نار محرقة، كلما نضجت جلودهم فيها بدلهم الله جلوداً غيرها، إنها دار البوار، دار البؤس، دار الشقاء والعذاب الشديد، دار من تعدى الحدود، وارتكب المحرمات، دارٌ لا يسكنها إلا الأشرار من خلق الله الذين عصوا رُسُله، ولم يمتثلوا أمره ونهيه.
إنها النار يا عباد الله! قد جمع أوصافها عالم من علماء المسلمين، فقال:
النار منزل أهل الكفر كلهم طباقها سبعةٌ مُسْوَدَّةُ الحُفرِ
جهنم ولظى من بعدها حطمه ثم السعير وكل الهول في سقرِ
وتحت ذاك جحيمٌ ثم هاويةٌُ تهوي بهم أبداً في حرِّ مستعِرِ
فيها غلاظ شداد من ملائكةٍ قلوبهم شدةً أقسى من الحجرِ
لهم مقامع للتعذيب مُرْصدةٌ وكل كسرٍ لديهم غيرُ مُنْجَبِرِ
سوادءُ مظلمةٌ شعثاءُ موحشةٌ دهماءُ محرقةٌ لواحةُ البشرِ
فيها العقارب والحيات قد جُمعتْ جلودُهم كالبغال الدُّهْمِ والحُمُرِ
لها إذا ما غلت فورٌ يقلبهم ما بين مرتفعٍ منها ومنحدرِ
عباد الله: يروي لنا البزار رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه من حديث طويل قال فيه: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم على وادٍ فسمع صوتاً، فقال: يا جبريل، ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب! ائتني بأهلي وبما وعدَتني فقد كَثُرَت سلاسلي، وأغلالي، وسعيري، وحميمي، وغَسَّاقي، وغِسْلِيني، وقد بَعُد قعري، واشتد حري، ائتني ما وعدتني، قال: لك كل مشركٍِ ومشركة، وخبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب}.(119/5)
صور من أحوال من يخشون الله عند ذكر النار
عباد الله: يروي لنا عبد الرحمن بن مصعب: [[أن هناك رجلاً كان على شط الفرات، فسمع تالياً يتلو قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74] فلما تلاها، وسمعها هذا الرجل تمايل، فلما قال التالي: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] سقط هذا المستمع في الماء، فمات رحمه الله]] يخافون من ذكر النار.
عن لقمان الحنفي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب ينادي في جوف الليل، لا شابٌّ ينادي عند الشوط الأول والأخير، وعند البَلُوْت والكِنْكَان، وعند المخدرات والمسكرات، مثل أكثر شبابنا، إلى الله المستغاث شبابٌ ذهبوا مع الشيطان والهوى، أكثر شبابنا يؤسَف لهم يا أمة الإسلام! المساجد منهم خالية، وأصواتهم مرتفعة باللعنات والشتمات في أوقات الأسحار والإجابات، يشتم بعضهم بعضاً، يشربون المسكرات، يتبادلون المخدرات، لعبهم ولهوهم الميسر والقمار، البَلُوْت والكِنْكَان، كأنهم لم يُخلقوا إلا عبثاً، وكأنهم متروكون هَمَلاً، إلى الله نشكو أحوال كثير من الشباب، فهذا {شاب يمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينادي في جوف الليل: واغوثاه من النار، واغوثاه من النار، واغوثاه من النار قضى ليله في هذه الكلمة، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا شاب، لقد أبكيتَ البارحة ملأً من الملائكة كثيراً} الله أكبر! الله أكبر!
إخواني: اعتبروا من هذه الأحوال بسلفكم الصالح، فإنَّهم كانوا يَخافون من النار.
وأنتم يا عباد الله: أما تشفقون من النار؟! أما تشفقون من نار جهنم وما فيها من العذاب والأنكال؟! أما تحذرون سلاسلها والأغلال؟!
واعجباً! لمن يقرع سمعَه ذكرُ السعير، وهو من عذابها بالله غير مستجير.
فيا من تتعدون الحدود، يا من تعصون الملك العلام، أفيكم جلد على نار وقودها الناس والحجارة، أم قد رضيتم لأنفسكم بهذه الخسارة؟
فيا ويلاً لمن كانت النار له دار.
اللهم يا رب الأرباب! ويا مسبب الأسباب! ويا أرحم الراحمين! نسألك أن تعيذنا من الْهَلَكات، ومن دار السعير والدركات، وتباعد بيننا وبين ما فيها من الأغلال واللفحات، وأن تجعلنا مِمَّن يُكرم في روضات الجنات.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك وجودك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم إن أحوال الشباب تُرثى يا حي يا قيوم، اللهم إن أحوال الشباب تُمْرِض، وتضيق لها الصدور، ويَندى لها الجبين، فنشكو إليك يا من تُشكى إليه الأمور، يا من لا تخفى عليه سرائر ما في الصدرو، نشكو إليك أحوالنا يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك جميعاً.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وأغث بلادنا بالقطر النافع يا رحمن، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سَحَّاً غدقاً، نافعاً غير ضار، اللهم نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رَحْمَة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له، يا سميع الدعاء! إنك حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجمع قلوبنا جميعاً على الحق يا رب العالمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة، يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(119/6)
متى اليقظة؟
لقد انتشرت المعاصي في المجتمع الإسلامي، وأصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وذلك بسبب ضعف الدين وقوة الباطل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمداهنة في دين الله عز وجل، والإقبال على الدنيا والزهد في الآخرة؛ حتى تأخرنا عن الفضائل، وسرنا إلى الهلاك، بل لم نهتم حتى بتربية أبنائنا وتوجيه أهلينا وذوينا فهل من عودة إلى دين الله؟!(120/1)
الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله القوي العظيم، الرقيب الشهيد، يدبر خلقه كما يشاء بحكمته، فهو الفعال لما يريد، أحكم ما شرع، وأتقن ما صنع، فهو الولي الحميد، حد لعباده حدوداً، ونظم لهم تنظيماً وقال: {وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فصار الناس على أقسام: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر:32] {إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، هو الملك الواحد القهار، فلا ضد له ولا نديد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائم بأمر الله، الناصح لعباد الله على الرشد والتسديد.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واصغوا أسماعكم إلى نداء رب العالمين، حيث يقول بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
ويقول جَلَّ مِن قائلٍ عليماً: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
ويقول جلَّ وعلا: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25].
أمة الإسلام: لا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، لا تغرنكم الأموال وكثرتها، ولا تغرنكم الزخارف والأماني الخدّاعة، لا يغرنكم رغد العيش ونظارة الدنيا وزهرتها، لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان، ولا يغرنكم إمهاله لكم مع تقصيركم في الواجب، وتماديكم بالعصيان.
إن اغتراركم بهذا من الأماني الباطلة، والآمال الكاذبة هو كما قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(120/2)
أسباب انتشار المعاصي في المجتمع الإسلامي
أمة الإسلام: لقد انتشرت المعاصي في مجتمع الأمة الإسلامية، وأصبح ما كان منكراً بالأمس معروفاً اليوم، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، تعاملوا بالربا، ومنعوا الزكاة، وأضاع البعض الحياء، وانتهكوا الحُرمات، وصاروا كالبهائم يطلبون متاع الدنيا وإن أضاعوا الدين، صدوا عن سبيل الله، واتبعوا سبل الكافرين، زُين لهم سوء أعمالهم، فظنوا ذلك تحرراً وتقدماً وتطوراً، وما علموا أن ذلك هو الرق تحت قيود الهوى، والتأخر عن الفضائل إلى الوراء، والتدهور إلى الهاوية والردى.
أيها المسلمون: إن أسباب هذا التدهور يرجع إلى أمرين:
أحدهما: ضعف الدين في النفوس، وقوة الداعي إلى الباطل.
ثانيهما: ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمداهنة في دين الله عزَّ وجلَّ.
يا أمة الإسلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إن حماية الدين وعزته لا تكون ولا تحصل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم يا أمة الإسلام! الأمر بما أمر الله به ورسوله، والنهي عمَّا نهى الله عنه ورسوله، وذلك بقصد النصيحة لله، ولعباد الله وبقصد الدعوة والإرشاد.
أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على هذه الأمة الإسلامية التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله؛ إن استقامت على دين الله عزَّ وجلَّ، ومصداق ذلك في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دستور للأمة، حيث يقول وقوله الحق: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] ثم نهاكم فقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ثم توعدهم فقال: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
أمة الإسلام: إنكم إن قمتم بهذا الدين كما أمركم الله؛ كنتم خير أمة أخرجت للناس، وإن تركتم ذلك كنتم من شرار الأمم، إنه لا نسب بين الله وبين عباده، ولكن من اتقاه فهو الكريم، وأكرم الناس عند الله أتقاهم له.(120/3)
إنكار المنكر ووسائله
أيها المسلمون: لعلكم تتفكرون في هذه الكلمات، ولعلها تدخل في صميم قلوبكم: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على فئة معينة من الناس، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الناس جميعاً، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
والبعض من الناس يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بفئة من الناس، وهذا ظن فاسد، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، رسولكم الذي ترككم على المحجة البيضاء قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
فقوله: {من رأى منكم منكراً} عامٌ لكل من رأى المنكر، يجب أن يغيره بيده، بالضرب أو غيره.
فإن لم يستطع فبلسانه، بالكلام والنصح والإرشاد، أو الكلام مع ولاة الأمور إن لم ينفع الكلام مع صاحب المنكر، وكل واحد منا يستطيع أن يتكلم مع المسئولين في منع المنكر، ويجب على المسئولين إذا بلغهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الإصلاح، وأن يجتمعوا على ذلك، لينالوا الفوز والفلاح.
أمة الإسلام: إن الواجب علينا جميعاً أن نترك الدعة والسكون، وأن نقوم لله مخلصين له الدين، ونبدأ أولاً: بأنفسنا وأهلينا، وأولادنا، ومن تحت أيدينا، ومن جاورنا، وكذلك الزملاء والأصدقاء، ينبغي علينا جميعاً أن نكون دعاة خير، ندعو إلى الله عزَّ وجلَّ على بصيرة، فتكون الهمة إخراج الناس من ظلمات الجهل والمعاصي إلى نور الحق والهدى.
أيها الناس: إن من المؤسف المروِّع أن نرى مجتمعنا الإسلامي أمة محمد صلى الله عليه وسلم هكذا، شعوباً متفككة متفرقة، مضيعين لأمر الله، لا يغارون لدين الله، ولا يخافون من وباله، لا يتفقد الرجل أهله وولده، ولا ينظر في جيرانه، ولو كان الرجل عنده غيرة ويتفقد أهله؛ ما ترك البعض من الناس زوجته وبناته مع السائق، وكم نكرر هذه العبارة مرات تلو المرات؛ ولكن اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة.
اللهم اشف مرض قلوبنا.
عباد الله: إن القلوب مريضة إلا ما رحم الله.
تجد بعض الناس يترك أهله مع السائق الأجنبي، وهو ليس لهن بمحرم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وترى الرجل من الناس عاقلاً، ذا حزمٍ وجدٍ، ولكن -مع الأسف الشديد- إذا نظرتَ في بيته، وجدت رجالاً ليسوا لأهله بمحارم، هذا طباخ، وهذا سائق، وهذا خادم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم إذا نظرتَ أيضاً، وإذا هذه خادمة عند شبان ليسوا لها بمحرم، فأين الغيرة يا أمة الإسلام، ثم إذا أصبنا بمصيبة عضضنا على البنان، ولم نفكر أننا ارتكبنا ذنوباً، ولم نفكر أننا عصينا الله سبحانه وتعالى.
فمتى نستيقظ يا عباد الله؟! لعل في هذه المواعظ التي تَطْرُقُ آذاننا ليلاً ونهاراً، وتَقُضُّ مضاجعنا، لعلها تكون لنا عبرة، فنحمي محارمنا، ونأمر أولادنا وأهلينا بطاعة الله، فكم من أناس يخرجون من البيوت إلى المساجد وأولادهم لا يصلون معهم في المساجد! فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
عباد الله: تداركوا الأمر وتوبوا إلى الله، ارجعوا إلى الله، لعلكم تسمعون المواعظ ليلاً ونهاراً، لعلكم تسمعون ما يحيط بكم يميناً وشمالاً، فخذوا حذركم، توبوا إلى الله، ارجعوا إلى الله قبل أن يحل بكم ما حل بالمجاورين، يقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] هذا كلام الله.
وأيضاً اسمعوا ماذا يقول الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
اللهم ألهمنا رشدنا، وهيئ لنا الخير، واجمع كلمتنا على الحق، اللهم اجمع كلمتنا على الحق يا رب العالمين.
اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم رب محمد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، اغفر لنا ذنوبنا، وأذهب غيظ قلوبنا، وأجرنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(120/4)
الحث على تربية الأبناء
{الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى قال تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
عباد الله: إن عليكم مسئولية كبرى، وفي أعناقكم أمانة عظمى، ستسألون عنها يوم يبعث الأولين والآخرين.
إن الله سائل كل راع عما استرعاه، ألا وهم أولادكم، وفلذات أكبادكم، فاتقوا الله فيهم، ووجهوهم إلى الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، فإن هؤلاء الأولاد سيكونون في المستقبل رجالاً، فإذا تربوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ، وتعودوا الأخلاق الحسنة والفاضلة التي ترفع شأنهم، وتُعلي مقامهم، وحصَّلوا من العلوم النافعة ما ينفعون به أنفسهم، وينفعون به عباد الله، كانوا أساساً مكيناً لنهضة الأمة ورقيها.
وإن اعتادوا سافل الأخلاق وهجروا العلوم الشرعية، وما يعين عليها كانوا ضرراً على أنفسهم وعلى الأمة.
إذاً: فالتربية أمرٌ عظيم، وكبير القيمة، فالطفل أمانة عند والدَيه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، خالية من كل نقش وصورة، فهو على فطرته التي فطره الله عليها، ينتظر ما يُلقى فيه من خيرٍ وشر، فإن عوّده أبواه الخير، وعلماه العلوم النافعة التي تدله على الدين الإسلامي وتحببه إليه، وترغبه فيه، وفي آدابه قولاً وعملاً واعتقاداً؛ فسوف ينشأ على ذلك، ويسعد في الدنيا والآخرة، ويشاركه في الثواب أبواه، وكل مؤدبٍ ومعلمٍ علمه الخير، أما إذا نشأ في أحضان المربية، وأحضان الخادمة، فسوف ينشأ على عكس ذلك، على الشرور والفساد، فإن الطفل إذا أُهمل وتُرك بلا عناية شقي وهلك، وكان على والديه ما يستحقون من الإثم.
يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه}.
لذلك أجمع العقلاء على أن الإنسان بحاجة إلى التربية، فإنه يولد صغيراً مجرداً عن كل المميزات، قابلاً لكل نقش، مستعداً لكل ما يُلقى إليه من تعليم وتثقيف يُحاط به.
ألا فلنحذر أنفسنا وأولادنا من الثقافة الغربية.
الحذر الحذر من الغزو الفكري، الذي يتسرب عن طريق التمثيليات، والأفلام، والمجلات السافلة الساقطة، والقصص الغرامية التي تثير الغريزة، وتسقط العفاف والشرف، وتقتل النخوة والغيرة والحمية، وتدعو إلى التقليد الأعمى، وإلى الميوعة والانحطاط، كيف لا، وهي مسلَّحة ومعدَّة للقضاء على الأخلاق، والعقيدة، بل للقضاء على الآداب، وعلى الدين لا سمح الله.
أمة الإسلام: عباد الله! الله الله في أولادكم، اتقوا الله في أولادكم، وتذكروا ساعة الوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، تذكروا السؤال، تذكروا النقاش بين يدي الله في ذلك اليوم العظيم، يوم أن تنزل الشمس مقدار ميل، ويوم أن يذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً ثم يفيض على الناس، تذكروا ذلك اليوم العظيم الذي سوف تسألون فيه عن أولادكم، وعن نسائكم، فاتقوا الله، وأعدوا للسؤال جواباً.
اللهم اهدنا، اللهم اهدنا جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا جميعاً ما تبغضه وتأباه.
اللهم اجعلنا متحابين فيك، متناصحين فيك، إنك على كل شيء قدير.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد أن تعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، يا رب العالمين!
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع عنهم عافيتك ويدك.
اللهم مزقهم كل ممزق.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا.
اللهم استر عوراتنا، اللهم استر عوراتنا، اللهم استر عوراتنا.
اللهم آمن روعاتنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم آمن روعاتنا.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم قطعه إرْباً إرْباً، اللهم قطعه إرْباً إرْباً، اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(120/5)
محمد رسول الله
منَّ الله عز وجل على الأمة بأن بعث لها رسولاً من أنفسهم عزيزاً عليه عنتهم، بالمؤمنين رءوف رحيم، وقد حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على إقامة توحيد الله في الأرض وإخلاص العبادة له، وهي دعوة كل الرسل، ومن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على التوحيد أن سد كل سبب يفضي إلى تعظيم غير الله من انحناء أو تصاوير أو غيرها، وعظّم كلمة (لا إله إلا الله) حق تعظيمها.(121/1)
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى.
أمة الإسلام: اشكروا الله على ما مَنَّ به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آيات الله بينات، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، رسولاً أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدور إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدور.
يقول الله جل وعلا: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] ويقول الله جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:1 - 2].
أيها المسلمون! لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم والناس يتخبطون في الجهالات، ففتح لهم أبواب العلم في معرفة الله تعالى، وما يستحقه من الأسماء والصفات، وماله من الأفعال والحقوق، وفتح لهم أبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16].
لقد فتح الله لعباده ببعثه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أبواب العلم في عبادة الله تعالى، وفتح لهم أبواب السير إلى الله تعالى، وفتح لهم أبواب العلم في السعي في مناكب الأرض، وابتغاء الرزق الحلال بوجهه المشروع، فما من شيء يحتاج الناس إلى معرفته من أمور الدين والدنيا إلا بين لهم ما يحتاجون إليه، حتى صاروا على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب.
لقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم والناس منغمسون في شتى أنواع الشرك فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد المسيح بن مريم، ومنهم من يعبد العزير، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الحجارة، حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضاً، أخذ منها أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت القدر وينصب الرابع إلهاً يعبده من دون الله! الله أكبر يا لها من عقول أسخفها!
فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ينقذهم من هذه الهوة الساحقة؛ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقق التوحيد لرب العالمين تحقيقاً بالغاً، وذلك بأن تكون العبادة لله وحده، يتحقق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبة والتعظيم، فيكون العبد مخلصاً لله في قصده ومحبته وتعظيمه، وظاهرة وباطنة، لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى، والوصول إلى دار كرامته، ويسير على ذلك النهج مستدلاً بقول الحق جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وممتثلين لقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] ومستجيبين لله حيث ناداهم بقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34].
هكذا جاء كتاب الله تعالى يحث على التوحيد والإخلاص، ثم تلته سنة المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد وإخلاصه، وتخليصه من كل شائبة، وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه، حتى إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت.
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده} فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما، وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل، واتخاذ الند لله عز وجل إشراك به.
وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف الرجل بغير الله، وجعل ذلك من الشرك بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}.
وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل، فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف: والنبي، أو وحياة النبي، أو والكعبة، أو والأمانة، أو وحياتك، أو وحياة فلان بل يحلف بالله وحده أو ليصمت.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له؟ فقال: لا.
فمنع صلى الله عليه وسلم من الانحناء عند التسليم.
انتبهوا يا أمة الإسلام! يا من إذا لقيتم إخوانكم انحنيتم لهم! انتبهوا لذلك يا من تدعون الإسلام! فإن ذلك قد حرمه الإسلام، فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوع، والخضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين، فهو سبحانه وحده الذي يُركع ويُسجد له، وكان قبل الإسلام السجود عند التحية جائزاً في بعض الشرائع السابقة، ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم منعت من السجود لغير الله، وحرمته إلا لله تعالى وحده.
وفي الحديث: {أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم -أي: زعماؤهم- وذلك قبل أن يسلموا، فلما رجع معاذ رضي الله عنه سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ ما هذا؟! فقال معاذ رضي الله عنه: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله -أي: أحق من أساقفتهم بالسجود- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} وذلك لعظم حقه عليها.(121/2)
حرص النبي صلى الله عليه على سد ذرائع الشرك
لقد بلغ من سد النبي صلى الله عليه وسلم ذرائع الشرك ووسائله ألا يترك في بيته صورة شيء يعبد من دون الله تعالى، أو يعظم تعظيم عبادة، ففي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: {لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه}.
والتصاليب: هي الصلبان التي يتخذها النصارى شعاراً لدينهم، ويزعم النصارى أن المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام صلب عليها بعد أن قتل، وقد نفى الله ذلك كله، فقال في القرآن مكذباً من زعموا أنهم قتلوه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:157 - 158].
فكان النصارى يقدسون الصليب ويضعونه فوق محاريبهم، ويتقلدونه في أعناقهم، فكان من هدي رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم إزالة كل ما فيه تصاليب؛ حماية لجناب التوحيد، وإبعاداً عن مشابهة غير المسلمين ولقد كانت بلادنا هذه المملكة الواسعة الأرجاء المترامية الأطراف -ولله الحمد والمنِّة- من أعظم البلاد الإسلامية محافظة على توحيد الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بما مَنَّ الله عليها من علماء منيبين وولاة منفذين، وصارت عند أعداء الإسلام قلعة الإسلام، فغزوها من كل جانب بكل شكل من أشكال الغزو، حتى كثرت الفتن فيها، وصارت صور الصلبان على بعض الألعاب للأطفال، بل وعلى الفرش لتكون نصب أعين المسلمين صبيانهم وكبارهم، وفي أفلام التلفاز إذا جاء النصارى يمثلون فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فخذوا حذركم يا أمة الإسلام! واحذروا من أولئك الخدم والخادمات والسائقين الذين جاءوا بأوثانهم معهم ليضلوكم وأنتم لا تشعرون وإنما أقصد بذلك الوثنيين الذين يعبدون الأصنام من دون الله -مع الأسف الشديد- وملئوا بيوت المسلمين، وقدمهم المسلمون فاللهم أنقذنا من ظلمات الجاهلية يا رب العالمين، اللهم تداركنا بواسع رحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعد للأمة الإسلامية دينها وقها شر أعدائها، اللهم أيقظ قلوب المسلمين من الغفلة عما يراد لهم يا رب العالمين إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(121/3)
عظم كلمة لا إله إلا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، وأسأله بمنِّه وكرمه أن يثبتنا عليهما، وأن يحينا مسلمين ويتوفانا مسلمين، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وحققوا توحيدكم، واستمسكوا بالعروة الوثقى (لا إله إلا الله) يقول صلى الله عليه وسلم: {ما قالها عبدٌ مخلص إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر} وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى! قل لا إله إلا الله، قال: يا رب! كل عبادك يقولون ذلك، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهنَّ لا إله إلا الله} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو عل كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه} وقال صلى الله عليه وسلم: {من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة؛ حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر} رواه البخاري ومسلم.
فعلينا جميعاً أن نسارع في كنوز الأعمال الصالحات {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
وصلوا وسلموا على رسول الله الناصح الأمين، الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، صلوا على فرط أمته على الحوض، صاحب اللواء المحمود والحوض المورود، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، امتثالاً لقولك يا ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد صلاة وتسليماً مدى الدنيا حتى انقضائها إلى يوم القيامة يا رب العالمين، على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وارض اللهم عن صحابته وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنّا كنا مِنَ الظَّالِمِينَ! نفوض أمورنا إليك يا رب العالمين، نستغيث بك يا مغيث الملهوفين! ويا مجيب دعوة الداعين! ويا أرحم الراحمين: أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم لا تبقي منهم أحداً، اللهم اقطع دابرهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلا وارزقنا وإياهم اجتنابه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم إنا خلق من خلقك، فقراء إليك، ضعفاء بين يديك، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، ولا ملجأ لنا منك إلا إليك، نسألك أن تغيثنا يا مغيث المستغيثين، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء لا ملجأ لنا منك إلا إليك، أنت ملاذنا ومفرنا وملجؤنا، أنت الذي خلقتنا وتكفلت بأرزاقنا فلا تكلنا إلى أحد من خلقك سواك يا رب العالمين اللهم أغثنا، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم غيثاً تُغيث به البلاد والعباد، وتحيي به البلاد، وتجعله متاعاً للحاضر والباد اللهم أنزل علينا من بركات السماء يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه علىنعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(121/4)
مداخل الشيطان
لقد سلط الله تعالى على الإنسان في هذه الحياة الدنيا عدواً لدوداً؛ ليميز بينهم، ألا وهو الشيطان الرجيم، فمن أطاعه وتبعه في حزبه دخل في اللعنة الحالة به، ومن عصاه فاز بنعيم الله، ونجا من عذابه، فالواجب على المسلم في الحياة أن يكابد عدوه بطاعة الله عز وجل، وأخذ الحذر من الشيطان وأتباعه، والحذر من تلبيسه وإغوائه ومداخله والاعتصام بالله منه.(122/1)
مداخل الشيطان
الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب, وفتح لهم من خزائن رحمته وجوده كل باب, أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب, وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب, هدى المؤمنين بفضله ورحمته, وأضل المعرضين بعدله وحكمته، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, المبعوث بأجل العبادات وأكمل الآداب، صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه, لقد قدمت لكم نبذة يسيره عن عداوة الشيطان في الدرس الماضي وفي هذه الدرس أبين نبذة يسيرة عن مداخل الشيطان.(122/2)
الحسد
فمن مداخله الحسد الذي أخرج به إبليس من الجنة, لعدم السجود للأبوين, وورد في الأثر عن رسول الهدى ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} أو قال: {كما تأكل النار العشب} رواه أبو داود.
عباد الله: احذروا الحسد فإنه خلق إبليس, وهو من مداخل الشيطان, ويقول صلى الله عليه وسلم فيه: {لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً, ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث} متفق عليه.(122/3)
الحرص
ومن مداخل الشيطان الحرص, فمتى كان العبد حريصاً على شيء أعماه حرصه وأصمه, وغطى نور بصيرته التي يعرف بها, فعند ذلك يوصله الحرص إلى شهواته, وإن كان منكراً أو فاحشاًَ, كل ذلك طاعة للشيطان.(122/4)
الغضب
وكذلك من مداخل الشيطان الغضب والحدة, فإن الغضب غول العقل, وإذا ضعف جند العقل هجم الشيطان, ولعب بالإنسان كما يلعب الصبيان بالكرة, ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد منه وصية قال له صلى الله عليه وسلم: {لا تغضب، فردد مراراً: قال أوصني يا رسول الله؟ وفي كل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: لا تغضب} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب}.
فاحذروا الغضب يا عباد الله! فإنه نار يشعلها الشيطان في قلب الإنسان, وإن الإنسان إذا غضب ربما قضى على نفسه أو على أولاده بسبب غضبه, وكذلك يحمله الغضب أحياناً على إطلاق لسانه بالقذف، والغيبة والنميمة، والبهت والاستهزاء والسخرية، والشتم والسب والطلاق وسائر أنواع المعاصي.
والغضب مضاره كثيرة، فليحذر المسلم منه؛ لأنه مدخل من مداخل الشيطان, احذروا الغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله, فعند ذلك يجب الغضب لله عز وجل, كما هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(122/5)
الشِبع
ومن مداخل الشيطان الشبع، فإنه يقوي الشهوة ويشغل عن الطاعة, أرأيتم الصائم كيف يكون عنده من الأخلاق والآداب حال الصيام؛ لأنه حصل عنده االصيام الذي يضيق على الشيطان مجراه؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, فالحذر يا عباد الله من الشبع, وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إياكم والبطنة! فإنها تذهب الفطنة وتثقل عن الصلاة]].
والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام, ولهذا جاء في بعض الآثار: [[ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم]] وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه} ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل, وإذا أغفل القلب عن الذكر ساعةً واحدة جثم عليه الشيطان، ووعده ومنّاه وشهاه, وهام به في كل واد, فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات, وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت, نعم يا عباد الله، فاحذروا الشبع.(122/6)
الطمع في الناس
ومن مداخل الشيطان الطمع في الناس, فإن من طمع في شخص بالغ بالثناء عليه بما ليس فيه, وداهنه، ولم يأمره بالمعروف ولم ينهه عن المنكر, وبذلك حقت على بني إسرائيل اللعنة قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معصية لله ولرسوله، وما ترك قومٌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أصيبوا بالذل والهوان, وتسلط الأعداء.(122/7)
العجلة وحب المال
ومن مداخل الشيطان العجلة وترك التثبت، وقد روي في الأثر: [[العجلة من الشيطان, والتأني من الله تعالى]].
ومن مداخل الشيطان حب المال، ومتى تمكن القلب من حب المال أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه, وأخرجه إلى البخل, وخوفه الفقر, فمنع الحقوق اللازمة، كما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
عباد الله: هذا طرف يسير من مداخل الشيطان, وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقع التهم؛ لئلا يساء به الظن.
عباد الله: سدوا على الشيطان الأبواب التي يدخل منها, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه, قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء, وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله ولم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء} رواه مسلم.
ومن مداخل الشيطان: سماع الأذنين إلى الحرام, فإن الأذنين تزنيان بالاستماع.
ومن مداخل الشيطان نظر العينين إلى الحرام, فإن زنا العينين النظر.
ومن مداخل الشيطان البطش باليدين في الحرام.
ومن مداخل الشيطان الرجلان إذا سارا إلى الحرام, فاحفظوا ذلك يا عباد الله, وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه, وجنبنا وإياكم ما يبغضه ويأباه، وجعلنا الله وإياكم هداة مهتدين.
وصلى الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واستغفروا الله يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(122/8)
الأذكار تعصم الإنسان من الشيطان
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله!.
خذوا حذركم من هذا العدو اللدود, خذوا حذركم من عدوكم الأكبر, خذوا حذركم من الشيطان الرجيم الذي حذركم الله عداوته في كتابه العزيز الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] وحذركم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمركم أن تستعينوا بالله عليه بكثرة ذكره تعالى, فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير في يوم مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة, وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي, ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه} متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله -أي: إذا أراد أن يجامع أهله- قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا, فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من قال إذا خرج من بيته: باسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: كفيت وهديت ووقيت, وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي} وقال أبو هريرة رضي الله عنه: {ولاّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان أن أحتفظ بها، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته, فقال: دعني فإني فقير وعليّ عيال ولا أعود, فذكر الحديث وقال: فقال له في الثالثة مثلما قال في الأولى ثم قال له: أعلمك كلمات ينفعك الله بهن: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها, فإنه لا يزال عليك من الله حافظ, ولا يقربك شيطان حتى تصبح, فخلى سبيله, فأصبح أبو هريرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله, فقال: صدقك وهو كذوب, أتدري من تخاطب يا أبا هريرة؟ قال: لا, قال: ذلك الشيطان}.
وأنا سأقرأ آية الكرسي، ولعل بعض الإخوان الذين لم يحفظوها أن يحفظوها قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].
اللهم احفظنا بحفظك، وارعنا برعايتك, واكلأنا بعيناتك, واحرسنا بعينك التي لا تنام.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وبإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين, اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك يا رب العالمين, اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, اللهم وأصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم أصلح أولادنا ونساءنا, اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, أكثروا من ذكر الله يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم فإنه وعد الشاكرين بالمزيد, وصلوا على رسول الله.(122/9)
مع سورة الانفطار
سورة (الانفطار) تصور أهوال يوم القيامة، وفيها عتاب للإنسان الغافل وتذكرة له بأصله وهو التراب.
أما من يقول: إن أصل الإنسان هو القرد فقد كفر بالله.
وفي السورة أيضاً توبيخ للكفار، وبيان للإنسان أن عليه حفظة يكتبون عمله، وأن هناك يوماً للحساب والجزاء لا شك فيه.(123/1)
صورة العالم يوم القيامة كما في سورة الانفطار
الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء, وهو القادر على كل شيء, وهو وحده لا شريك له, المتصرف في جميع مخلوقاته, يفعل ما يشاء ويختار, لا معقب لحكمه, أحمده سبحانه وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله: تدبروا القرآن العظيم, قفوا عند عجائبه, وحركوا قلوبكم بمواعظه, ابكوا عند تلاوته فإن لم تبكوا فتباكوا فإنها من صفات العارفين, وكيف لا يبكي المؤمن وهو يعرف أن هذا القرآن هو كلام الله الذي لو أنزله الله على صُمِّ الجبال لتصدعت وخشعت من خشية الله عز وجل, هيبة وإجلالاً وتعظيماً لله عز وجل.
عباد الله: أمة الإسلام! أمة القرآن! يا خير أمة أخرجت للناس!
كفى بالقرآن واعظاً وزاجراً لمن كان له عقل يتدبر، أو أصغى للموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ويعتبر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحيم الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4] نعم -يا عباد الله- إذا حصل هذا الحادث العظيم في يوم خطير وهو يوم القيامة: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] أي: تشققت بأمر الله عز وجل لنزول الملائكة, قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان:25] في ذلك اليوم العظيم لمن الملك؟ الله عز وجل يقرر ذلك ويقول: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26] ذلك اليوم العظيم يوم القيامة.
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار:2] أي: النجوم تساقطت وتناثرت، وتبدلت بعد الضياء كدوراً, وزالت عن أماكنها وبروجها.
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] أي: فتح بعضها على بعض, فاختلط عذبها بمالحها, وأصبحت بحراً واحداً بقدرة العزيز الجبار.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: نبش ما فيها من الموتى قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:41 - 44].
في ذلك اليوم العظيم يأمر الله ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية! والأوصال المتقطعة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء, في ذلك اليوم العظيم الذي قال الله فيه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] أي: علمت كل نفس في ذلك الموقف العظيم وفي ذلك اليوم الرهيب ما أسلفت من خير وشر, قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] لماذا؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37].(123/2)
تذكير سورة الانفطار لمن غفل عن نعمة ربه
انتقلت سورة الانفطار في مواعظها إلى مواعظ أخرى وهي لتذكير الإنسان الغافل الجاهل، الذي جحد نعمة ربه وكفرها, حيث أوجده رب العالمين من العدم, وجعله سوياً سالم الأعضاء يسمع ويعقل ويبصر وجعله معتدل القامة منتصباً في أحسن شكل وهيئة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6].
لقد خلق الله جلَّ وعلا الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه ونعمه، وفضله على كثير من المخلوقات, وجعله إنساناً سميعاً بصيراً ذا عقل وفهم، وميزه عن غيره من الحيوانات.
ثم نأتي ونبين نُبذة من خلق آدم عليه السلام, لما أراد الله جلت قدرته أن يخلق آدم أخذ من الأرض قبضة من التراب, ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون, ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالاً كالفخار, ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصوريها, وأظهرها في أحسن أشكال, وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها, وهيأ كل جزء منها لما يراد منه, وقدره لما خلق له على أبلغ الوجوه, والملائكة تراها ولا تعرف ما يراد منها؛ لأنهم لا يعلمون الغيب, إنما الغيب لله عز وجل, وإبليس يطوف بها ويقول: "لأمر ما خُلِقَتْ" فلما تكامل تصوريها وتشكيلها وصارت جسداً مصغراً مشكلاً كأنه ينطق إلا أنه لا روح فيه ولا حياة, طينة مُنجدل أرسل إليه روحه جلَّ وعلا، ونفخ فيه نفخة وقال له: كن فانقلب ذلك الطين لحماً ودماً وعظاماً وعروقاً وسمعاً وبصراً وشماً ولمساً وحركة وكلاماً, لا إله إلا الله المتفرد بالخلق والإيجاد.
ولما وصلت الروح أنف أبينا آدم عطس عليه السلام, فأول شيء بدأ به من الكلام أن قال: الحمد لله رب العالمين, فقال له الرب جلت قدرته: يرحمك الله يا آدم, فاستوى جالساً أجمل شيء وأحسنه منظراً, وأتمه خلقاً وأبدعه صورة, فقال الرب تبارك وتعالى لجميع ملائكته: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]-الله أكبر يا بن آدم! كرمك الله عز وجل، أسجد الملائكة لأبيك آدم- فبادر الملائكة الكرام بالسجود تعظيماً وطاعة لأمر الواحد المعبود, إلا إبليس الخبيث أبى واستكبر، حسد آدم، ولأجل آدم أخرج وطرد من ملكوت السماء، وصار شيطاناً رجيماً مريداً لعنه الله, طرده الله من رحمته فصار قواداً لكل شر, خبيثاً يدعو الناس إلى جهنم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً لا يفتر لحظة, ولكن خذوا حذركم يا عباد الله.
فهذا أبوكم آدم الذي قال له الله: إنك في الجنة لا تظمأ ولا تضحى، ولا تجوع ولا تعرى, ولكن أتاه الخبيث ووسوس إليه وأخرجه من الجنة, نهاه الله عن الشجرة ولكن أغواه الشيطان حتى أكل منها, فلما عصى ربه وأكل من الشجرة هو وزوجته أخرجه الله من الجنة.
ولكن رحمة أرحم الراحمين تداركت آدم، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] ما هي الكلمات؟ {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فتاب الله على أبينا آدم؛ فلله الحمد والمنِّة, وسوف يرجع إلى الجنة مكرماً معززاً، وسوف ترجع ذريته إلى الجنة بما ابتلاهم الله في هذه الحياة الدنيا من الأعمال الصالحة, فمن أطاع الله وأطاع المرسلين فسوف يرجع إلى الجنة معززاً مكرماً، ومن عصى وتعدى الحدود فسوف يتبع إبليس الرجيم الذي عصى الله في أن يسجد لآدم.
هذا خلق آدم من تراب, ومن رحمة أرحم الراحمين اشتق له صورة هي مثله في الحسن والجمال، ليسكن إليها وتقر نفسه بها، وهي حواء أم البشر, ثم أخرج الله من بينهما ما لا يحصى عدده من الرجال والنساء, فهذا خلقك يا أيها الإنسان، في أحسن تقويم خلقك الله جل وعلا, وفي أجمل صورة وفي أحسن شكل وهيئة, فتباً لأصحاب النظريات الذين يدعون أن الإنسان كان قرداً, ومع الأسف الشديد بعض الوعاظ يقول: هم القرود, لا, هم أناس خلقهم الله من بني آدم ولكنهم بقولهم هذا كفروا وجحدوا نعمة الله تعالى, يقولون: إن الإنسان كان قرداً وتطور حتى صار إنسانا, فبقولهم هذا كفروا بالله الذي خلقهم وفضلهم على كثير من مخلوقاته.
ومع الأسف الشديد ليست مرة ولا مرتين ولا ثلاث يقف أمامي بعض الشباب ويقول: هل صحيح أن الإنسان كان قرداً؟! من أين أخذت هذا؟ فيقول: من المعلم يقول: إن الإنسان كان قرداً فتطور فصار إنساناً, بئس أولئك المعلمين الذين يعلمون هذه النظريات, لقد خانوا الأمانة وخانوا الله ورسوله، وكفروا نعمة خلقهم وإيجادهم, أناس مكرمون معززون مفضلون على كثير من المخلوقات.
فحذار يا شباب الإسلام من تلك النظريات الخبيثة, الله الله بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(123/3)
سورة الانفطار وتوبيخ الكفار
نرجع إلى سورة الانفطار وفيها توبيخ لمن جحد وكفر وكذب بيوم الدين، يوم الحساب والجزاء قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:9 - 11] عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم، ويراقبونكم في تصرفاتكم، ويسجلون عليكم في صحائفكم ما يصدر منكم من خير وشر لتجزوا به يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] , وقال تعالى في سورة (ق): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18].(123/4)
السورة تبين انقسام الخلق يوم القيامة
بين الله في سورة الانفطار انقسام الخلق يوم القيامة إلى أبرار وفجار وذكر مآل كلٍّ من الفريقين فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] من هم الأبرار؟ هم الذين آمنوا واتقوا ربهم في الدنيا وتقربوا إليه بطاعته وطاعة رسله عليهم أفضل الصلاة والسلام, فإنهم في بهجة وسرور لا يوصف, يتنعمون في رياض الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم قال الله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] والفجار هم الذين عصوا ربهم في الدنيا وتعدوا الحدود وانحرفوا عن الطريق المستقيم، فإنهم في نار محرقة وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم, قال تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار:15] أي: يدخلونها ويقاسون حرها في ذلك اليوم، يوم الدين الذي كانوا به يكذبون.
وهذا أيضاً فيه هدم لنظريات أولئك الخبثاء الذين يريد بعض الناس أن يطلع على كتبهم وعلى مذاهبهم الخبيثة الهدامة، المذهب الشيوعي الدُّهري الذي ينكر وجود الرب جلًّ وعلا، وينكر الجنة والنار، والجزاء والحساب, ولكن الله جلَّ وعلا يقرر ذلك بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:17] تعظيماً لهذا اليوم, وأي شيء هو في شدته وهوله أشد من ذلك اليوم؟ {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18] قرر ذلك تعظيماً لشأنه, وتهويلاً لأمره, ثم قال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] هو ذلك اليوم الرهيب، الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء ولا يدفع عنه ضراً.
عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واستعدوا لما أمامكم، فإن خير الزاد لذلك اليوم هو تقوى الله عز وجل, واحذروا ثم احذروا من المذاهب الهدامة، والعقائد الفاشلة الباطلة، التي يروجها أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم, واجعلنا من أهل القرآن العظيم, الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(123/5)
سورة الانفطار تصور القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين عن رب العالمين, عليه من الله أفضل الصلاة والسلام, وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، وتقربوا إلى الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: ورد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت} فأمر القيامة عظيم, وخطرها جسيم، قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين الملوك؟} متفق عليه, وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرأضين بالأخرى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟} رواه مسلم.
وربنا جلَّ وعلا يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فإذا قام الناس من قبورهم لرب العالمين نودوا: هلمّوا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24].
في ذلك اليوم خشعت الخلائق، وخضعت الرقاب وذلت للواحد القهار, تراهم يستجيبون مسارعين إلى المنادي لا يعاندون ولا يميلون؛ قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:111 - 112] وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال والإخلاص.
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يهدينا إلى أحسن الأعمال والأخلاق وأحبها إليه, وأن يجنبنا أبغض الأعمال والأخلاق إليه, اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] رسول الله الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور, رسول الله الذي جاء بها بيضاء نقية, ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, نعوذ بالله من الزيغ, ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا, صلوا على رسول الله القائل: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت إلى إبراهيم وعلى إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, اللهم ارض عن جميع أصحاب رسولك أجمعين وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن جميع أصحاب رسولك ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
إخواني: احذروا وحذِّروا أولادكم من معلمي السوء الذين ينشرون الشر والفساد, أسأل الله بمنه وكرمه وإحسانه وجوده ولطفه وبره في من أتى إلى هذه البلاد أو بلاد المسلمين عموماً ليفسد الشباب والشابات، أو يدخل عليهم المذاهب الهدامة؛ أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر, اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك, اللهم اجعله غذاءً للسباع في البر, وغذاء للحوت في البحار, اللهم زلزل به الأرض من تحت قدمه, قبل أن يدخل هذه البلاد أو بلاد المسلمين عموماً يا رب العالمين.
والله ثم والله في عام (91هـ) يدرسنا مدرس -ولا حاجة في ذكر جنسيته- التقويم, ثم استدرج في الكلام وقال: وهذا الذي قتل فيه المسيح عيسى بن مريم -قاتله الله- فقام طالب من أردى الطلاب في المعرفة فقال: كذبت يا أستاذ، عيسى بن مريم ما قتله بل رفعه الله إليه, الحق يعلو ولا يعلى, شباب نشأوا على العقيدة الإسلامية, أسأل الله أن يثبتهم عليها, وأن يرد كيد الأشرار في نحورهم, اللهم إنا نجعلك في نحور الأشرار, اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم, ونعوذ بك من شرورهم, إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح ولاة أمورنا, وولاة أمور المسلمين أجمعين, في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم أحينا مسلمين, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, ولا مغيّرين ولا مبدلين.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتوفنا وأنت راضٍ عنا، واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وذرياتنا وزوجاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين والمسلمات في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين, يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تستجاب الدعوات بإذن الله.(123/6)
مع سورة (ق)
لقد عالج الله سبحانه وتعالى كثيراً من القضايا في سور من كتابه العزيز، فمن هذه السور سورة (ق) التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرءوها على المنبر في يوم الجمعة، فإن هذه السورة تعالج أصول العقيدة الإسلامية والوحدانية، ومسألة البعث والنشور، وما هي عاقبة المكذبين بشرع الله، وما حل بهم من العذاب.
وإن المتأمل بعين البصيرة والمتدبر في هذه السورة يجدها رهيبة شديدة الوقع على الحس فهي بما فيها وما دلت عليه تهز القلوب هزاً وترج النفوس رجاً وتزيد من روعة الإعجاب بالقرآن الكريم.(124/1)
وقفات مع سورة (ق)
الحمد لله الذي قال وقوله الحق: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] أحمده سبحانه وأشكره، الذي جعل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, فصل في سورة (ق) من العبر والمواعظ والوعد والوعيد ما يدل على كمال قدرته ووحدانيته, فله الحكمة البالغة والحجة الدامغة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق على الإطلاق وأتقاهم لله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(124/2)
القضايا التي تعالجها سورة (ق)
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه, واستمعوا إلى سورة ق, فهي السورة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر يوم الجمعة، فإن هذه السورة تعالج أصول العقيدة الإسلامية والوحدانية والرسالة والبعث والنشور, إن هذه السورة رهيبة شديدة, شديدة الوقع على الحس, فهي بما فيها وما دلت عليه تهز القلب هزاً, وترج النفس رجاً, وتزيد فيها روعة الإعجاب, ورعشة الخوف.
ابتدأت هذه السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها الكفار وتعجبوا منها غاية العجب, وهي قضية الحياة بعد الموت, والبعث بعد الفناء, ولكن هذه السورة لفتت أنظار المشركين المنكرين للبعث إلى قدرة الله العظيمة المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور من السماء والأرض, والماء والنبات, والثمر والطلع, والنخيل والزرع, وكل هذه براهين قاطعة دالة على قدرة العلي الكبير.
ثم انتقلت سورة (ق) تخبر عن المكذبين بالرسل من الأمم السابقة, وما حلَّ بهم من الكوارث والمصائب وأنواع العذاب, وفي هذا تحذير لمن بعدهم أن يحل بهم ما حل بالسابقين, ثم بينت سورة (ق) خلق الإنسان وما وكل به من الملائكة عن اليمين وعن الشمال, ثم بينت نهاية الأجل وما يحصل فيه وما يحصل عنده من سكرات الموت, ثم هول الحشر, وهول الحساب, ثم ما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب من أهوال وشدائد تنتهي بإلقائه في الجحيم, وبينت ما أعد الله للمتقين من النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول، وذلك جزاء من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب, فهم يلاقون بالتحية والسلام، يقال لهم: ادخلوا الجنة بسلام من العذاب والهموم والأكدار, ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له؛ لأنه لا موت في الجنة ولا فناء, ومع ذلك لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم, وتلذ به أعينهم, ولهم كذلك مزيد على ذلك وهو النظر إلى وجه الله الكريم.
واختتمت السورة الكريمة بالإخبار عن صيحة الحق, وهي الصيحة التي يخرج الناس بها من القبور كأنهم جراد منتشر, ويساقون للحساب والجزاء, لا يخفى على الله منهم أحد, فيجازى كل واحد بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(124/3)
نص سورة (ق)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:1 - 45].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم, وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(124/4)
فضل عشر ذي الحجة
الحمد لله مشرف الأيام بعضها على بعض, ومصرف الأحكام بالإبرام والنقض, وموقظ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ, أحمده وأشكره على ما أولانا من الإنعام والإحسان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى واستقبلوا عشر ذي الحجة بالأعمال الصالحة, فإنهن الأيام المعلومات والمخصوصات بالتعظيم في محكم الآيات, وقد بيَّن فضلها وشرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله, إلا رجل خرج بماله ونفسه ولم يرجع من ذلك بشيء} وفي رواية أيضاً: {أفضل أيام الدنيا الأيام العشر، قالوا يا رسول! الله: ولا مثلهن في سبيل الله، قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عفر وجهه بالتراب}.
فيا عباد الله: استقبلوها بالعمل الصالح, فهي الأيام التي أقسم الله بها في محكم الآيات، هي أيام إجابة الدعوات ومضاعفة الحسنات، فاعمروها وقوموا فيها بطاعة الله اقتداءً بنبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام, بإظهار التكبير والتهليل والتحميد في كل مكان.
روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهم كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
عباد الله: ارفعوا بالتكبير أصواتكم.
أيها المسلمون أحيوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم, واتبعوا صحبه الكرام في هذا النهج القويم.
واعلموا أنه يحرم على من أراد أن يضحي أو يُضحى عنه إذا دخلت العشر أن يأخذ شيئاً من شعره, ولا أظفاره, ولا بشرته حتى يضحي, وقد ورد بذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن سقط من شعره أو بشرته أو أظفاره شيئاً من غير قصد فلا حرج عليه, ولا بأس أن تمتشط المرأة برفق وسهولة.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: الزموا طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم وانهجوا نهجه، وإياكم والابتداع! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
عباد الله: احذروا من الابتداع؛ حتى لا ترد عليكم أعمالكم.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى علي صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد, وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين وثبت مهتديهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجمع قلوبهم على الحق، اللهم وحد صفوفهم، اللهم وحد صفوفهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى, يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! ويا أجود الأجودين! لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(124/5)
معاول هدم الإسلام
الإسلام يكاد له ليلاً ونهاراً من قبل أعداء الله، فهم يعملون ويسهرون من أجل هدم هذا الدين.
والشيخ في هذه الخطبة تحدث عن نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأفاض في شرح الناقض الخاص بعدم تكفير المشركين أو الشك في كفرهم، وذكر العقيدة الصحيحة في ذلك،
وحث على التمسك بالكتاب والسنة، لأن بهما نحذر من أعدائنا ونرضي ربنا.(125/1)
التمسك بالسنة سبيل النجاة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، فبين لنا طريق الرشد وبرهانه, وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعهم الذين ساروا على هذا الدين القويم, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: أمة الإسلام أمة التوحيد ارفعوا رءوسكم لما خلقتم له, إنكم خلقتكم لأمر عظيم وهو القيام بما جاء به الرسل الكرام, ثم اعلموا أنه لا ينفع قول بلا عمل ولا ينفع عمل بلا إخلاص, ولا ينفع إخلاص بلا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء, قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {يصلحون ما أفسد الناس من سنتي} ففي هذا الحديث خبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، أنه لا بد من وجود الفساد في هذه الأمة, وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي بهرت العقول؛ لأن ذلك وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وكم أخبر صلى الله عليه وسلم من أخبار وقعت كفلق الصبح، يقول صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجال معم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات, رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}.
أمة الإسلام: تعلمون ما وقع فيه غالب الناس من الجهل بآثار الرسالة المحمدية, وعدم العلم لما خلقوا له, فحصل الفساد في الاعتقادات والأعمال, وحصل الانحراف عن السنة، وحاد الكثير عن الصراط المستقيم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: {خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله وقال: هذه السبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قول الحق جلَّ وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]}.
عباد الله: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، وقد بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وكشف الله به الغمة، وقال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}.(125/2)
نواقض الإسلام العشرة
أمة الإسلام: لقد ذكرت في خطبة الجمعة الماضية بعض نواقض الإسلام، ووعدتكم أن أذكرها كاملة, فإليكموها بتمامها.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه ونور ضريحه, ورفع درجته في عليين, ورحمه رحمة واسعة: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة:
1/ الشرك في عبادة الله تعالى قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
2/ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم؛ كَفَر إجماعاً.
أي: إذا صدرت منه هذه الأمور فهو كافر بإجماع العلماء.
3/ من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
4/ من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه, أو أن حكم غيره أحسن من حكمه, كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.
5/ من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, ولو عمل به كفر.
6/ من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم, أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
7/ السحر، ومنه الصرف والعطف, فمن فعله أو رضي به كفر, والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
8/ مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين, والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
9/ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
قال الشيخ صالح البليهي رحمه الله، في كتابه عقيدة المسلمين: هذا الاعتقاد موجود عند بعض الصوفية , فبعض زعماء الصوفية يعتقد أنه لا يحتاج إلى الرسول, وإنما يأخذ عن الله, وبعضهم يعتقد أنه قد سقطت عنه التكاليف وليس بعد هذا الكفر كفر, وليس بعد هذا الغرور غرور يا من خُدع بـ الصوفية.
10/ الإعراض عن دين الله, لا يتعلمه ولا يعمل به, والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22].
ثم يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجادِّ والخائف، إلا المكره, وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.(125/3)
شرح الناقض الثالث
قال الشيخ صالح البليهي رحمه الله تعليقا ًعلى الناقض الثالث من نواقض الإسلام، وهو قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "من لم يكفر الكافرين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر" قال الشيخ صالح البليهي رحمه الله: ومن ذلك: محبتهم ومناصرتهم وموالاتهم والرضا عنهم، واستحسان ما هم عليه, كل ذلك ردة عن الإسلام, بل الواجب بغضهم وعداوتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] اسمع يا من يناديه رب العزة والجلال بالإيمان قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] هذه هي المصيبة التي وقع فيها أكثر الناس من حيث لا يشعرون.(125/4)
حكم تهنئة المشركين بأعيادهم
وذكر الشيخ حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام}.
فيا ليت شعري لو قام فينا رسول الله ورأى بعض المسلمين يهنئ اليهود والنصارى بأعياد ميلادهم, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا رسول الهدى هذا رسول الإسلام هذا رسول ختم الله به جميع الأديان ونسخ الله بدينه جميع الأديان يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام, وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه} متفق عليه فلطفك ورحمتك يا ربنا!
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور, بنور العلم يا رب العالمين, اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
وبعض المسلمين الآن يحصل منهم معانقة لليهود والنصارى، وتهنئة لهم بأعيادهم، بل والجلوس والضحك معهم, فإنا لله وإنا إليه راجعون!(125/5)
حكم استخدام الكفار في المكاتب والبيوت
يقول الشيخ صالح البليهي رحمه الله: " أما استخدام الكافر في المكاتب والبيوت وجعل منهم سائقين وطباخين ومربين ومربيات في البيوت، ومخالطتهم والثقة بهم فلا شك في تحريم ذلك؛ لما يترتب عليه من الأضرار والمفاسد العقائدية والأخلاقية والسياسية, والبعض من المسلمين تساهلوا في ذلك، والعاقبة شرٌ ومحنةٌ وبلاء فالله تعالى عليم وعظيم وحكيم، قد قطع الصلة بين المسلم والكافر، وحذر ونهى عن محبة الكفار وعن موالاتهم والركون إليهم واعتماداً على نصوص القرآن والسنة صرح كثير من علماء الإسلام بأن موالاة الكافرين ردة عن الإسلام " إلخ
فالحذر الحذر يا شباب الإسلام خاصة, والحذر الحذر يا أمة الإسلام عامة والآن نسمع من المسلمين من يهنئهم بعيد ميلادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(125/6)
اتباع الكتاب والسنة
الحمد لله الذي حذر المؤمنين من تولي الكفرة, في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الواحد القهار الذي بيده أزمّة الأمور يغني ويفقر, يعطي ويمنع, لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين, ونصح الأمة وتركها على البيضاء ليلها كنهارها, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل, وتمسكوا بالكتاب والسنة، وطبقوهما علماً وعملاً واعتقاداً, ولا تبغوا لهما بديلاً, ولقد أثنى الله تعالى على الذين يتمسكون بكتابه الذي يقودهم إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, كما هو مكتوب فيه فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] أي: يعتصمون به ويأتمرون بأوامره، وتركون زواجره.(125/7)
حث النبي صلى الله عليه وسلم على التمسك بسنته
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التمسك بسنته فيما رواه عنه العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: {وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب, فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً} صدق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم, لقد ظهرت أمورٌ كثيرة من البدع والمحدثات والخرافات والخزعبلات، فإلى الله نشكو, ونسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
يقول صلى الله عليه وسلم: {فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} هذا حديث صحيح, وفيه الحث على التمسك بالسنة المطهرة.(125/8)
التمسك بالكتاب والسنة نجاة من كيد الأعداء
أمة الإسلام: إن من تمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نجا من غوائل أعداء الإسلام، الذين يحاولون القضاء على الإسلام بكل ما يستطيعون من قوة, ولقد أخبر الله عنهم في محكم البيان، فقال جلَّ من قائل عليماً: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
أمة الإسلام: لقد حاول أعداء الإسلام أن يقضوا على هذا الدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم في عهد خلفائه الراشدين, ثم في العصور التالية لهم، وإلى وقتنا هذا وهم يحاولون القضاء على الإسلام، فقد هاجموا الإسلام بالعنف والصراع المسلح تارة, وبالمكر والخداع تارة, وبالخطط الهدامة تارة, وليست هذه المحاولة من أعداء المسلمين من صنف واحد, ولكن من سائر أصناف الأعداء, من المشركين واليهود والنصارى والشيوعيين، وسائر الكفرة والمنافقين والملحدين قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] واسمعوا إلى هذا التحذر من المولى جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] إذاً من نتبع؟ {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150].
لا شك -يا عباد الله- أن أعداء الإسلام يريدون القضاء على الإسلام؛ لأن الإسلام هو الذي أطاح بعروشهم من أول ما شع نوره, وفرقهم في الأرض وتركهم مذبذبين, وهو الذي يرعبهم ويخيفهم، ولا تعجبوا -يا إخوة الإسلام- من تصريح أعداء الإسلام, ولكن نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى هذا الدين القويم.(125/9)
التمكين في الأرض للمتمسكين بدين الله
اسمعوا -يا عباد الله- إلى هذا الوعد الرباني لمن تمسك بدين الإسلام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106] وأي بلاغ أكبر من هذا البلاغ يا أمة الإسلام؟ فعلينا أن نرجع إلى دين الإسلام، وأن نتمسك بدين الإسلام نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله, نحب في الله ونبغض في الله.
وصلوا وسلموا على رسول الله، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: اطلبوا العلم, ارجعوا إلى التوحيد, ارجعوا إلى عقيدة السلف الصالح قبل أن تهووا في هوة ساحقة, وتخسروا دينكم وعقيدتكم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, اللهم ارزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحا ورزقاً حلالاً طيباً.
اللهم أعزنا بالإسلام, اللهم انصرنا ولا تنصر علينا, اللهم كن لنا ولا تكن علينا, اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا, اللهم انصرنا على من بغى علينا, اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره.(125/10)
أعداء الله يستهينون بأسماء الله
أمة الإسلام: أين الغيرة؟ أما رأيتم اسم الجلالة وقد كتب تحت النعال؟! أين الغيرة يا أمة الإسلام؟ أين الدموع التي لا تنقطع؟ هذه أقل دسائس أعداء الإسلام, كتبوا اسم الجلالة (الله) تحت الحذاء، وهذا والله لو صادف قلوباً واعية وقلوباً حية لا نقطع الدمع، وجاء الدم بعد الدمع غيرة على هذا, ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون! ومع ذلك نقوم على ساق وقدم ونقول: هم أهل الصدق وهم أهل الإخلاص وهم أهل الأمانة وقد كتبوا اسم الجلالة على حفائظ الأطفال! وعلى سراويل الأطفال! وتحت الحذاء! فأين الغيرة يا أمة الإسلام؟ أين الحب في الله والبغض في الله يا أمة الإسلام؟ فماذا نقول؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! لَمَا قَلَّ قدر (لا إله إلا الله) في قلوبنا ذهبت الغيرة فصرنا نرى وكأننا لم نرَ.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, اللهم اشف مرض قلوبنا, اللهم طهر قلوبنا من النفاق, وأعمالنا من الرياء, وألسنتنا من الكذب, وأعيننا من الخيانة.
اللهم ارزقنا الحب فيك, والبغض فيك, اللهم اجعلنا من المتحابين في جلالك يا رب العالمين, اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, ووفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه اللهم إن أعداء الإسلام تطاولوا على اسمك وكتبوه تحت الحذاء, وهم لا يعجزونك, اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر, اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين, اللهم إنهم لا يعجزونك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم زلزل بهم الأرض من تحت أقدامهم إنك على كل شيء قدير اللهم احفظ أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة عين لنا.
اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين, وهب المسيئين منّا للمحسنين, اللهم واغفر لجميع موتى المسلمين, الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك, اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد, اللهم لا تفتنا بعدهم.
إلهنا وسيدنا ومولانا تلاطمت أمواج الفتن ولا مخرج لنا منها إلا بك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إن أعداء الإسلام نزلوا في أحضاننا ودخلوا في بيوت بعضنا, وجعلهم البعض خدماً كسائقين عصوا رسولك حيث قال: {لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك!
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله: صلوا على رسول الله وأكثروا من ذكر الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(125/11)
مفتاح للشرور!!
إن صاحب العقل السليم لا يقبل لنفسه أن يأتي المشين من الأعمال، فبينها وبين العقل السليم تنافر، ومن جنى على عقله بالإذهاب المؤقت لهذا العقل بتناول المسكر، فقد ارتضى لنفسه كل الخبائث، وفتح باباً للشر لا صلاح له إلا بإغلاقه.
والشيخ في حديثه هنا ينتقل بنا من مخاطر المعاصي عموماً إلى خطورة الجناية على العقل، ومخاطر الإدمان واستحلال الخمر، وضرورة توبة المدمن أو المستحل لهذه الآفة.
وقد تناول في آخر كلامه بعض الأضرار الأخروية لمن مات من هؤلاء ولم يتب.(126/1)
من أضرار المعاصي
الحمد لله الذي أباح لنا جميع الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث والمضرات، أباح لنا الطيبات تفضلاً منه ومنةً، لا إله إلا هو ولا رب لنا سواه، وحرَّم علينا المضرات عنايةً منه ووقاية، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا راحم للعباد سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخرج أمته من الظلمات إلى النور، بشرهم بالحق ودعاهم إلى توحيد رب العباد، ونهاهم عن الباطل والشرك وكل ما يؤول بهم إلى النار، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون بالله! اتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك، وتمتعوا بما أحل الله لكم من الطيبات، واشكروه عليها بالقيام بطاعته، فإن الشكر سببٌ للمزيد، واسمعوا إلى الرءوف الرحيم وهو يحثكم على الأكل من الطيبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
أيها المسلمون! إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نوراً وهدىً، فيه آيات بينات، وسبل واضحات، من اتخذه إماماً وقائداً سعد في دنياه، وفاز في أخراه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ومن ترك العمل بالقرآن، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلَّ في دنياه وشقي في أخراه {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].
أيها المسلمون: إن هذا العمى المذكور في الآية -الكريمة سببه اجتراح السيئات وفعل المنكرات، فإن المعاصي توجد في القلب ظلمةً حقيقيةً يشعر بها العاصي إن كان له ضمير كما يشعر بظلمة الليل البهيم، وتزداد هذه الظلمة حتى تظهر في العينين، ثم تعلو وتكون سواداً في الوجه، وذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
أيها المسلمون: إن المعصية سببٌ لهوان العبد على الله جلَّ وعلا، وسببٌ لسقوطه من عين الله، وإذا هان العبد على ربه، لم يجد من يكرمه؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] ويقول جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
نعم! لقد كرم الله عز وجل بني آدم بكرامات كثيرة، وفي مقدمة هذه الكرامات العقل.(126/2)
عواقب إدمان الخمر والمخدرات
إن العقل نعمة كبرى، وقد يجني البعض من بني آدم على هذا العقل، ويزيل هذا العقل بما حرَّم الله عليه، وذلك بتعاطي المسكرات والمخدرات من خمورٍ وغيرها -نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة- وهذه المسكرات من الخمور -وغيرها- توعد الله فاعلها بالخزي في الدنيا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] لأن الخمر أمُّ الخبائث، ورأس الخطايا، ودليل إلى النار، وسبب لغضب الجبار، فهي التي تيسر للعبد سُبلَ الفساد، وتجعله يشتري الجنون بدل الرشاد، يشتري الجنون بماله الذي تعب فيه، ويبيع كنزاً ثميناً، بل يجني عليه أكبر جناية ألا وهو العقل، الذي ركَّبه الله فيه، ولكن صدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
عباد الله: أخبروا السِّكير، أخبروا صاحب المخدرات والمسكرات؛ أنه خاسرٌ لشرفه، أخبروا السِّكير أن مروءته ساقطة، أخبروا صاحب المخدرات والمسكرات أنه مرذولٌ بين المجتمعات.
عباد الله: أخبروا صاحب المخدرات عن نفسه، ماذا يحصل له حال سكره؟! لو يرى نفسه وهو يمشي مثل البهيمة التي تقاد لتذبح، بل البهيمة تميز بين الحفر، فتبتعد عنها، أما السِّكير فهو في حالة يُرثى لها، لو رأى الناس وهم يضحكون عليه كما يضحكون على القردة، السِّكير لو رأى أهله وهم في حالة ذُعرٍ وخوف عندما يشرب المسكرات ويصول في بيته كالثور الهائج.
ولو رأى نفسه حين يرى نفسه، وهو يُقذِّر على ثيابه، ويبول كما يفعل الطفل الصغير.
قولوا يا عباد الله! لصاحب المخدرات والمسكرات: أين عقلك وقد وضعت من وراء قضبان الحديد، تتمنى أن تجتمع مع أبيك وأمك، تتمنى أن تجتمع مع إخوانك وأصدقائك، وقد وضعت وراء القضبان، حرمت لذة الاجتماع مع الوالدين، ومن الذي جنى عليك إلا أنت الذي جنيت على نفسك، أين كرامتك حين يراك من كان يظن أنك من المكرمين؟!
أيها السِّكير! تذكر وأنت تستعمل المسكرات والمخدرات أن الله مُطَّلعٌ عليك، فأين الخوف من رب العالمين؟!
أين الخوف من الذي أطعمك وسقاك وغذَّاك بنعمته، وأعطاك الصحة والعافية؟!
بل من أين لك الجواب إذا سُئِلت عن هذه الأموال التي تنفقها في المخدرات والمسكرات؟!
أيها السِّكير! فكِّر في العواقب، فإن كنت تاجراً فلا تأمن الإفلاس، فإن الله قد توَّعد شاربها بالفقر والجنون والفضيحة بين الناس، وإن كنت -أيها السِّكير موظفاً، فستكون عاقبة أمرك التشريد والطرد من الأعمال، مع ما تصاب به من الأمراض الفتَّاكة، هذا في الدنيا قبل الممات.
ثم إن كثيراً من أهل المخدرات والمسكرات قد جُلبت لهم سوء الخاتمة عند سكرات الموت، وعند خروج الروح، فيا لها من خسارة عندما يخرج من الدنيا، ولم يقل: لا إله إلا الله!! فكم من سكِّير عربيد عند الاحتضار قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: ناولوني الكأس! ناولوني الكأس! وخرجت روحه وهو ينادي يريد الكأس! ثم في البرزخ يأتيه هذا العمل الخبيث، ثم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يجاء بشارب الخمر مسود الوجه، خارج لسانه على صدره، يستقذره كل من يراه، فيصار به إلى جهنم وبئس المصير.
فيا أيها السِّكير! تب إلى الله ما دمت في زمن الإمكان.
عباد الله: قولوا لهم يتوبوا إلى الله ما داموا في زمن الإمكان، ويقلعوا عما هم فيه ما داموا في زمن الإمكان.
عباد الله: قولوا للسِّكير: ويلك لقد جاهرت بالمنكرات، وأذهبت عقلك بالمسكرات، وارتكبت بسببها المحرمات.
هل تصدقوا -يا عباد الله- أن شاباً لما شرب الخمر، عمل بأمه جريمة الزنا، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا لها من مصيبة لا تقدر بمصائب الدنيا بأسرها!! يركب أمه ويفعل بها الزنا؛ لما شرب المسكر يا عباد الله! إنا لله وإنا إليه راجعون.
إن السِّكير إذا وضع كأس الخمر على فيه، يقول الإيمان للكأس: انتظر حتى أخرج من القلب، وحل أنت فيه، فإنه لا يجتمع الخمر والإيمان معاً في قلب المؤمن، هكذا ورد في الأثر يا عباد الله.(126/3)
حكم الخمر وخطر استحلالها
أيها المسلمون: لقد أجمع علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، في قديم الزمان وحديثه، على أن الخمر حرام إجماعاً قطعياً لا ريب فيه، فمن قال: إن الخمر حلال، ولو سمَّاها بغير اسمها، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وأقر بتحريمها ترك وإلا قتل كافراً مرتداً، لا يُغسَّل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإنما يُرمى بثيابه في حفرةٍ بعيدةٍ، لئلا يتأذى المسلمون برائحته، وأقاربه بمشاهدته.
أيها الإخوة في الله! إن شارب الخمر إذا قُتِلَ وهو جاحد لتحريمها، فإنه لا يُدعى له بالرحمة ولا بالنجاة من النار، لأنه كافر في نار جهنم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:64 - 66].
نعم أيها المسلمون! إن من اعتقد أن الخمر حلال، فهو كافر مضاد لله، مكذبٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم، خارج عن إجماع المسلمين، أما من شرب الخمر وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام، ولكن سوَّلت له نفسه فشربها، فهو عاصٍ لله، فاسقٌ عن طاعته، مستحقٌ للعقوبة، وعقوبته في الدنيا أن يجلد ردعاً له ولغيره، فإذا تكرر من الشارب شربه وهو يعاقب ولا يرتدع، فقال ابن حزم رحمه الله: "يقتل في الرابعة" وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يقتل بالرابعة عند الحاجة إذا لم ينته الناس بدون القتل".
فاتقوا الله أيها المسلمون! واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون، فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصفها رب العزة والجلال بأنها: رجسٌ من عمل الشيطان، وقرنها بالميسر والأزلام وعبادة الأوثان، وقال صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الخمر مفتاح كل شر، وجماع كل إثم.
إن شاربها يفقد عقله، ويلتحق بالمجانين، إنه ربما يقتل نفسه وهو لا يشعر، وربما يزني بأمه وأخته، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(126/4)
ضرورة توبة المدمن
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، والله الله بالتحذير من جميع الذنوب والسيئات عموماً، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.
عباد الله! لقد سمعتم -فيما تقدم- آيات وأحاديث تبين تحريم المسكرات والمخدرات بأنواعها، وأنها من كبائر الذنوب، ومن أعظم الجرائم التي انتشرت في المجتمعات.
عباد الله: اعلموا وبلغوا أن الله قد توعد من أدمن على المسكرات والمخدرات ومات ولم يتب توعده الله بأليم العذاب في النار، كيف لا يا عباد الله! وهي أم الخبائث ورأس الخطايا!! ومفتاح الشرور، ودليلٌ إلى النار، وسببٌ لغضب الجبار جلَّ وعلا!
عباد الله: قولوا لأهل المخدرات والمسكرات: اتقوا الله، وفكروا في الموت وسكراته، والقبر وظلماته، قولوا لهم: قفوا مع أنفسكم قليلاً؛ فحاسبوها.
يا نفس! ذهب الصبا وولى، وجاء المشيب، وقد انقضى العمر في اللهو، فهل ترجعين؟!
يا نفس إن كان قد غرك الشباب، فالعمر ينتهي كلمح البصر.
وإن كان غرك المال، فما أنت من قارون أغنى وقد خسف الله به وبداره الأرض.
يا نفس! إن كان غرك نضرة الوجه، فالدود ينتظرك في القبر وسوف يشبع من لحم الخدود، وتتمزق الأعضاء وتنتخر العظام، ثم لا تدري إلا وأنت تسمعين الصيحة، لتقومي بين يدي رب العالمين.
ثم تنظر إلى ما قدمت يداك يوم يعضُّ الظَّالم على يديه نادماً على ما جناه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].
فاتقوا الله عباد الله! وبلغوا أهل المسكرات والمخدرات التحذيرات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل مسكرٍ خمر، وكل خمرٍ حرام} ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من شرب الخمر في الدنيا ومات ولم يتب منها وهو مدمنٌ لها، لم يشربها في الآخرة} ويقول أيضاً: {إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه الله من طينة الخبال، قيل: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار}.
وأيضاً يروى من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمنٌ بسحر، ولا قاطع رحم، ومن مات وهو يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة وهو ماءٌ يجري من فروج المومسات- يعني: الزانيات- يؤذي أهل النار ريح فروجهن}.
ويروى عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول: [[اجتنبوا الخمر فإنها أمُّ الخبائث]] إنه كان رجلٌ ممن كان قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فدخل معها، فطفقت تغلق الأبواب حتى أفضى إلى امرأة عندها غلام وراوية خمر، فقالت: إني -والله- ما دعوتك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تقتل الغلام هذا، أو تشرب هذه الخمر، فاستسهل أمر الخمر، فشرب الخمر، فلما شرب الخمر، قال: زيدوني، فلم يزل يقل: زيدوني حتى وقع على المرأة، وفعل بها الزنا، وقتل الغلام، قتل نفساً بغير حق، فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً، إلا أوشك أحدهما أن يخرج الآخر.
اللهم اعصمنا من جميع المنكرات، اللهم اعصمنا من جميع المنكرات، اللهم اعصمنا من جميع المنكرات، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: صلوا على رسول الله، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.(126/5)
من آيات الله
على المسلم أن يتفكر في مخلوقات الله، فكم في السموات من مخلوقات ومجرات! وكم في الأرض من المخلوقات العجيبة التي تدل على قدرة الله تعالى! ولو تفكر الإنسان في خلقه لعلم أن أعماله التي عملها طول حياته لا تساوي نعمة البصر التي خلقها الله فيه.
ومن آيات الله تعالى إحياء الموتى، وقد ورد في القرآن الآيات الكثيرة التي ذكر فيها إحياء الله للموتى في هذه الدنيا، والمتدبر لآيات الله يعلم حقيقة ذلك.(127/1)
مراحل خلق الإنسان
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، الداعي إلى الله بإذنه على بصيرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المؤمنون بالله حقاً! اتقوا الله تعالى وتفكروا في آياته الدالة على كمال قدرته؛ لتزدادوا بذلك تعظيماً لله تعالى وعبادة، فلقد خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما بما في ذلك: الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار، خلق تلك المخلوقات في ستة أيام على أكمل وجه وأتمَّ نظام، ولو شاء لخلقها في لحظة واحدة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].
ولكنه تعالى خلقها في ستة أيام؛ لحكمة اقتضت ذلك: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] ولقد خلق الله الإنسان من سلالة من طين، خلق منها: أبونا آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، من منيٍّ يمنى، قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6 - 7] ثم تستقر تلك النطفة في قرار مكين لا يعتريه شمس ولا حر ولا هواء ولا برد، يطوره الله تعالى في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الغشاء، أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، فإذا تمت هذه الأيام وهي أربعة أشهر -وفي بعض الروايات: وعشراً- أرسل الله تعالى إليه الملك الموكل بالأجنة؛ فنفخ فيه الروح، فأصبح إنساناً بعد أن كان جماداً: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].(127/2)
عيسى ومعجزات نبوته
ولقد أرى الله عباده من آيات قدرته ما يكون آيةً للموقنين، وعبرةً للمعتبرين، لقد خلق الله تعالى عيسى بن مريم من أم بلا أب، وأقدره على النطق في المهد، فتكلم بكلام من أفصح كلام البشر وأبينه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:30 - 33] فما أبلغ هذا الكلام وما أفصحه من صبي في المهد.
ولقد أخبر الله عن عيسى أنه يخلق من الطين كهيئة الطير -بإذن الله تعالى- فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى، وأخبر أنه يبرئ الأكمه -وهو الذي يولد مطموس العين- ويبرئ الأبرص بإذن الله تعالى، وأخبر أنه يحي الموتى، يقف على القبر ويقول: قم بإذن الله، فيخرج من قبره بإذن الله تعالى.(127/3)
بعض قصص إحياء الله للموتى
ولقد قص الله تعالى علينا في القرآن في محكم البيان خمس حوادث، كلها تتضمن إحياء الموتى في هذه الدنيا.(127/4)
بني إسرائيل وموسى عليه السلام
فأولها: قصة بني إسرائيل حين قالوا لنبيهم موسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم بعثهم الله تعالى من بعد موتهم، وفي هذا يقول الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56].(127/5)
قتيل بني إسرائيل وأمر الله بذبح البقرة
القصة الثانية: في شأن القتيل من بني إسرائيل لما قتله ابن عمه؛ لأجل أخذ ماله، فاتهموا به قبيلة أخرى، لأن القاتل قتله، ثم سحبه وجعله في قبيلة أخرى حتى تتهم في قتله، وخاصموا تلك القبيلة وهي لم تقتله، إلى من رجعوا؟
رجعوا إلى موسى -عليه السلام- فأمرهم موسى بوحي من الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل بجزء منها، أخذوا لحمة من البقرة بعد التعنت والمراجعات وما كادوا يفعلون، أخذوا ذلك الجزء وضربوا الميت بهذا الجزء من البقرة؛ فأحياه الله تعالى القادر على كل شيء، فلما أحياه الله أخبر أن قاتله هو ابن عمه، فتلكم من آيات الله العظام لمن تدبر القرآن وعرف معانيه.(127/6)
القرية التي أماتها الله ثم أحياها
القصة الثالثة: في قوم نزل في ديارهم وباء، فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذراً من الموت، هاربين من أمر الله تعالى، فأراهم الله تعالى أنه لا مفر من قدرته، فأماتهم ليعلم العباد قوة سلطانه ونفوذ قدرته، ثم أحياهم ليستكملوا آجالهم، وفي ذلك تعليم لهذه الأمة حتى لا تتطير ولا تفر من أقدار الله، بل تصبر وتحتسب الأجر من الله.(127/7)
الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه
القصة الرابعة: في رجل مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وتهدم بناؤها، ويبست أشجارها، فاستبعد هذا الرجل أن تعود كما كانت عليه من العمران والسكان، فأراه الله تعالى آية في نفسه تدل على قدرة الله تعالى، فأماته الله مائة سنة، وكان معه حمار وطعام وشراب، فمات الحمار، وتمزقت أوصاله، ولاحت عظامه، وبقي الطعام والشراب لم يتغير واحد منهما بنقص ولا بتغير طعم ولا لون ولا رائحة، مكث مدة مائة سنة والشمس تصهره والرياح تتعاقب عليه، بعد هذه المدة مائة سنة بعث الله تعالى ذلك الرجل، وأراه طعامه وشرابه لم يتغير مع طول هذه المدة، وأراه الحمار، فنظر إلى عظامه المتفرقة في الأرض يركب بعضها بعضاً، كل عظم في محله ويكسوه الله تعالى لحماً، وفي هذا يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
تلك من أنباء الغيب، تلك من أنباء رب العالمين، قصها في هذا القرآن العظيم على سيد البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لتزداد الأمة المحمدية إيماناً بالله العظيم، الذي له القدرة التامة على كل شيء.(127/8)
إبراهيم عليه السلام حين سأل الله أن يريه كيف يحي الموتى
القصة الخامسة: في إبراهيم عليه السلام حين سأل الله عز وجل أن يريه كيف يحي الموتى، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير فيقطِّعهن ويخلطهن بلحمهن وعظمهن، ثم يفرقها على الجبال التي حوله، ويجعل على كل جبل جزءاً من هذه الطيور التي اختلط لحمها بعظمها، ثم يناديهن، ففعل إبراهيم عليه السلام فناداهن، فعند ذلك التأمت تلك الأجزاء المتفرقة على الجبال بعضها على بعض، وأتين إلى إبراهيم مشياً لا طيراناً.
وفي هذا يقول رب العالمين جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
أمة الإسلام: هذه نماذج من إحياء الله تعالى للموتى في الدنيا، وهي تدل على البعث والنشور يوم القيامة، وما أهون ذلك على الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] فسبحانه من إله عليم قادر! زجرة واحدة يخرج بها الناس أحياءً من قبورهم ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً لا يتخلف منهم أحدٌ في مثل لمح البصر أو أقرب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك، اللهم ارزقنا الرجوع إلى القرآن العظيم لِنَحكُم به، ونُحكِّمه، ولنرى ما فيه من العجائب مخلوقاتك، اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك، وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك وما قدَّرته من قضائك، اللهم اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(127/9)
الحث على قراءة القرآن وتدبره
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:14 - 15] فسبحانه من إله خلق فسوى، وقدَّر فهدى، له الحمد في السماوات والأرض وله الكبرياء والعظمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات التي بهرت العقول، ودلت على نبوته وصدق رسالته، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين لم يترددوا في تصديقه واتباعه، اللهم ارحمنا رحمة توقظ بها قلوبنا حتى نسلك سبيلهم يا رب العالمين.
أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وتدبروا آيات القرآن العظيم، التي فيها من الأخبار ما يملأ القلوب من الإيمان والتصديق وزيادة المعرفة بالله العظيم، ولا تشغلوا أنفسكم بما يضركم في الآخرة والأولى، فإن الإكباب على المجلات والجرائد والقصص المختلقة، إنما هي دسائس من أعداء الإسلام وأعوان الشيطان؛ ليصدوكم بها عن تلاوة كتاب الله وذكره والتفكر في مخلوقاته، وعن التفكر في آيات الله الدالة على وحدانيته وصمدانيته وإلهيته وربوبيته.
فالرجوع الرجوع -يا عباد الله- إلى الدستور العظيم، الرجوع إلى المنهج القويم، الرجوع إلى الينبوع الصافي وإلى حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، وكتاب الله العظيم الذي من حكم به عدل، ومن تمسك به نجا، ومن دعا به فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم، ومن تركه تكبراً وتجبراً قصمه الله العزيز الحكيم.
في تلاوة القرآن الأجر العظيم، من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بها عشر حسنات، فيا له من خير فضيل! لو كانت القلوب تعقل فهو أصدق الكلام وأفصح البيان، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، عليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، اللهم صلِّ وسلم على قدوتنا ونبينا محمد، اللهم صلِّ وسلم على خير عبادك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم ارزقنا التمسك بكتابك والرجوع إليه وتحكيمه في القليل والكثير يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم رد المسلمين إلى مجدهم القويم يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، ووفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم اكفنا شر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم اكفنا شرهم بما تشاء إنك على ذلك قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(127/10)
مواعظ قرآنية
إن كتاب الله سبحانه وتعالى لم ينزل لأن يتخذ زينة في البيوت والرفوف، وإنما أنزله الله لقراءته والتعبد بتلاوته وتدبره، ففيه مواعظ وعبر لهذه الأمة.
وفي هذا الدرس بعض المواعظ من أخبار الأمم السابقة وما أنزل الله بها من عذاب ونكال، وحذر من مصاحبة أهل الشر والفساد؛ حتى لا يصاب الإنسان بسخط الله ومقته عليه.(128/1)
التحذير من الفواحش والمنكرات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وابتعدوا عن المعاصي ظاهرها وباطنها.
وأذكركم وأقول لكم: أكثروا من الحمد والثناء على الله جلَّ وعلا الذي جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، فلا تدنسوا أنفسكم بالذنوب والمعاصي، اشكروا الله تعالى على أكبر نعمة أنعم بها عليكم، وهي نعمة الإسلام والإيمان.
أيها الإخوة في الله! لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشريعة سمحة سهلة، فيها الخير والصلاح والسعادة والفلاح لمن تمسك بها، وقام بها خير قيام.
أيها الإخوة في الله! كلنا نسمع ما في كتاب الله، والبعض يقرأ القرآن -ولله الحمد والمنة- فعلينا أن نقف عند مواعظه ونحرك بها القلوب.
عباد الله: إذا تدبرنا كلام الله جلَّ وعلا وجدنا أنه يذكر لنا ما حصل للأمم مع الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله إليهم.
فنوحٌ عليه السلام: أرسله الله إلى قومه، وهم يعبدون الأصنام والأوثان، فدعاهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً (950 عاماً) يدعوهم إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، فأبوا عليه، فأغرقهم الله سبحانه وتعالى.(128/2)
اللواط وعقاب الله لمن قارفه
وهذا لوط عليه السلام بعثه الله إلى قومه، وهم قومٌ عُثاة، قومٌ أشر خلق الله، يدعوهم إلى التوحيد، ويحذرهم من فعل فاحشة لم يسبقهم إليها أحدٌ من العالمين، فاحشة شنيعة، ألا وهي جريمة قوم لوط، إنها الجريمة القبيحة التي تلبس بها كثير من الناس في هذا الزمان، إنها إتيان الذكور دون الإناث، فعلتها أمة لوط التي لم تُسبق لمثل هذه الفعلة، وهذه الجريمة الفظيعة، وكانوا يفعلونها علناً في نواديهم، ويذرون ما خلق الله لهم من أزواج، ولا يبالون بمن يمقتهم ويعتب عليهم، ولا يبالون بمن يشنع، وقد حذرهم لوط عليه السلام من فعل هذه الفاحشة، وكان الجواب من أولئك الكفرة: {أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] يقولون هذا ومقصودهم السخرية والتهكم بلوط عليه السلام، فلما أنذرهم بأس الله ونقمته لم يلتفتوا إلى ذلك، ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيه، وتماروا به.
وقد أرسل الله عزَّ وجلَّ إلى لوط عليه السلام ملائكة بصفة حسنة، جبريل وميكائيل وإسرافيل في صور شباب مُرد حِسان، محنة من الله واختباراً لقوم لوط، فأضافهم لوط عليه السلام وهو خائف عليهم من قومه، ولكن زوجة السوء، العجوز الشريرة بعثت إلى قومها، فأعلمتهم بأضياف لوط عليه السلام، فأقبلوا يُهرعون إليه من كل مكان، يريدون أولئك الشباب المُرد الحِِسان، وأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب -وذلك عشية- ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71] أي: نساءهم {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] أي: ليس لنا فيهن إِِرَب (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) [هود:79].
فلما اشتد الحال، وأبوا إلا الدخول على لوط عليه السلام خرج عليهم جبريل عليه السلام، فضرب أعينهم بطرف جناحه، فانطمست أعينهم، يُقال: إنها غارت من وجوههم، ويُقال: إنه لم تبقَ لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطاً عليه السلام إلى الصباح، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37].
أما لوط فقد جاءته الملائكة تأمره بالخروج من بين أظهر أولئك؛ لأن العذاب قد حان نزوله بهم، فخرج لوط عليه السلام ومن معه آخر الليل، فنجا مما أصاب قومه، ولم يؤمن بلوط عليه السلام من قومه أحد، ولا رجل واحد حتى امرأته أصابها ما أصابهم، فخرج هو وبناته من بين أظهرهم سالماً، عند ذلك حل بهم بأس الله جلَّ وعلا، وحق عليهم العذاب، وهو أن الله جلَّ وعلا أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع ديارهم بجناحه، ثم رفعها إلى عنان السماء، حتى سمعت الملائكة صياح الديكة، ونباح الكلاب، ثم قلبها عليهم، وأتبعهم حجارة من سجيل منضود، فتلكم هي قرية سدوم التي أصابها ما أصابها، من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيعٍ، مسلكه مستمرٌ إلى اليوم، وهو المعروف بـ البحر الميت، الذي لا يعيش فيه شيء، قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:73 - 75] لماذا فعل الله بهم ذلك يا عباد الله؟
لأنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، يرتكبون الجريمة الشنعاء، الذكر يركب الذكر، استغنوا بذلك عن النساء وعما أحل الله لهم، أي جريمة أقبح من هذه الجريمة؟!
ثم أتدرون لماذا ذكر الله لنا أخبارهم في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ذكرهم الله لنا لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كل الحذر مما كانوا عليه من سوء الحال، وقبح الفعال.
حقاً يا عباد الله! إن هذه الجريمة التي عملها قوم لوط جريمة بشعة؛ لما فيها من مخالفة العقل والدين، وما فيها من خطر ومرض وشر مستطير، وخزيٍ وعار.
إنه في الحقيقة فعل تترفع عنه طباع الكلاب والبغال والحُُمُر، إنه ركوب الذكر على الذكر، إنها جريمة قوم لوط، ما ظهرت في أمة إلا ذلت وأخزيت وسُلب عزها، وإذا أراد الله جلَّ وعلا إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار.
فانتبهوا يا عباد الله وتناصحوا، واحذروا من هذه الجريمة البشعة، فقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير، والله جلَّ وعلا قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] لما ذكر عقوبة قوم لوط ذكر الله أن عقوبتهم ليست ببعيد ممن يفعل هذه الجريمة البشعة، هذه الجريمة الخبيثة، وهي ركوب الذكر على الذكر، يقول صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به} الله أكبر يا عباد الله! إنها جريمة بشعة؛ لذلك أكثر الصحابة اتفق رأيهم على تحريق اللوطي؛ لأنه جرثومة خبيثة مفسد في الأرض؛ ولذلك -يا عباد الله- يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[اللوطي إذا مات من غير توبة، فإنه يُمسخ في قبره خنزيراً]] والعياذ بالله، ثم يوم القيامة عندما يبعث الخلائق، عندما يقوم الناس لرب العالمين، ناهيك به من عار على وجه هذا اللوطي، الذي عمل جريمة اللواط، يُعرف بها يوم القيامة، عندما يُسحب إلى النار، ومن تاب تاب الله عليه.(128/3)
التحذير من الزنا ودواعيه
ثم احذروا يا عباد الله -أيضاً- من جريمة أخرى، وهي جريمة الزنا، وهي التي قرنها الله جلَّ وعلا بالشرك، وقتل النفس في محكم البيان.
جريمة الزنا حذرنا الله منها في محكم البيان، فهي في غاية من القُبح والفُحش، وهي عمل إجرامي خطير، وجرثومة فتاكة، ووباء شره مستطير، ما حل في أمة من الأمم إلا دهورها وأرداها إلى الحضيض.
نعم.
إنها جريمة الزنا، عارٌ في الدنيا، وعذاب في البرزخ، جريمة الزنا عذاب في النار في الآخرة، يقول الله تعالى في محكم البيان عن شناعة هذه الجريمة: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
عباد الله: لنتساءل: ما الذي يدعو إلى الوقوع في جريمة الزنا؟!
إن من أسباب ودواعي الزنا:
تبرج النساء بالأسواق وخروجهن متعطرات.
ومن دواعي الزنا: اختلاط الرجال بالنساء بدون محرم، واسمعوا إلى هذا الأثر الذي ورد في بعض الأخبار: الزناة معلقون بفروجهم في النار، يُضربون بسياط من حديد، فإذا استغاثوا من الضرب نادتهم الزبانية: أين كان هذا الصوت وأنت تضحك، وتفرح وتمرح ولا تراقب الله، ولا تستحي من الله.
عباد الله: الشريعة الإسلامية جاءت بأحكام صارمة على الزناة، وصدرت الأحكام الربانية على من ارتكب هذه الجرمية، وهي: إن كان بكراً ولم يتزوج فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُغرب عن البلد، سواء بذلك الذكر أم الأنثى، وإن كان محصناً وإن كان قد طلق زوجته فإنه يُرجم بالحجارة حتى يموت، وكذلك المرأة إذا كانت ثيباً، وارتكبت جريمة الزنا فإنها تُرجم بالحجارة حتى تموت.
من دواعي الزنا وهي كثيرة: مشاهدة الأفلام الخليعة، التي يوجد فيها النساء العاريات.
ومن دواعي الزنا: استماع الأغاني الماجنات.
ومن دواعي الزنا: قراءة القصص الغرامية، وقراءة المجلات السخيفة، التي تحمل صور النساء العاريات.(128/4)
انتشار الذنوب والمعاصي وغزو أعداء الله للمسلمين
عباد الله: كم نسمع ما يحصل في هذه الأزمان، بل في هذه الأيام من أسباب الذنوب والمعاصي! فالكثير من الناس ابتعد عن تعاليم الإسلام، وآدابه وأخلاقه وأصبح يتلقى البدع والمحدثات، التي غُزي بها أهل الإسلام، مِن قِبَل أعدائهم، وأصبح بعض الناس يقلد الكفرة، حتى إن البعض من المسلمين -مع الأسف الشديد والحزن المرير- أصبح ينكر ويتنكر لدينه.
أقول: إن البعض من المسلمين أصبح الآن يتنكر لدينه، وصار يسمي الدين الإسلامي رجعية وتزمتاً، وحتى آل الأمر بهم إلى محبة الكفار، وتفضيلهم على المسلمين، وهذا خطرٌ عظيم، وبعض من يدعي الإسلام لا يعترف بأركان الإسلام، إنما هو مسلم بالهوية -مع الأسف الشديد- كم نكرر هذه في الجُمع والأعياد؛ ولكن اللهم اشف مرض قلوبنا.
نعم.
يا أمة الإسلام! إن الكثير من المسلمين الآن يدعي الإسلام بالهوية، فكم تركوا الصلاة؟! وكم منعوا الزكاة؟! وكم أفطروا في رمضان؟! وكم استهزءوا بالركن الخامس من أركان الإسلام، وهو الحج إلى بيت الله الحرام، ومع ذلك هم يدعون الإسلام، ويُحسبون في عداد الإسلام والمسلمين.
ومن الخطر الذي اجترف كثيراً من المسلمين، وهذه والله هي المصيبة العُظمى التي ما حل بالمسلمين أشد منها في هذه الأزمان المتأخرة، سواء صدرت من كبار السن أم من الشباب، وهو السفر إلى خارج البلاد، إلى بلاد الكفار، إلى بلاد الحرية والإباحية والهمجية، فمجرد ما يجلس بعض قرناء السوء مع بعض، فيشرحوا لهم تلك الأوضاع الخبيثة، وتلك السبل المتيسرة، من ارتكاب الزنا، واللواط، وشرب الخمور، وقضاء الوقت في المسارح، ثم يستميلونهم بتلك الأحاديث المسمومة، حتى إن بعضهم ينهمك في كثير من المعاصي والذنوب، ثم يرجع وقد حمل لبلاده من الأفكار الهدامة، والأمراض الاجتماعية، الحسية والمعنوية الكثير الكثير، هذا مع ما أضاع من الأموال، بل قد تجد بعض الذين فُتنوا بالسفر إلى الخارج، يحاربون الأخلاق الفاضلة, والآداب السامية، لماذا؟
الجواب يا أمة الإسلام: لأنهم عاشروا أناساً لا يبالون بأوامر الله، فتجد بعضهم انهمك في المسكرات، والمخدرات، وبعضهم ينتهك الأعراض، ويُقدم على الزنا، وبدون خوف من الله، الذي أوجده من العدم إلى الوجود، وأمده بالنعم، ومنحه القوة والصحة والعافية، ومع ذلك فرب العزة والجلال مطلع عليه، لا تخفى عليه منهم خافية، ثم يرجع من السفر بأفكار هدامة، وصور خليعة، صورٌ بشعة، صورٌ يستحي أن ينظر إليها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان مع الأسف الشديد.
أمة الإسلام! ثم يأتي وقد استمع إلى الصراعات، وانطبعت في فكره افتراءات من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، شنعوا عليه هذا الدين، وبغَّضوا إليه هذا الدين الإسلامي، وسموه تعقداً وتجمداً وتزمتاً، ثم يأتي وقد حمل تلك الأفكار، التي أملاها عليه أعداء الإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأُحَذِّر الذين يسافرون إلى خارج البلاد ليرتكبوا جرائم الزنا أن لهم أمَّهات، ولهم أخوات، ولهم خالات وعمات وبنات، وإن كانوا متزوجين فلهم زوجات، فليحذروا إذا ركبوا الطائرة أن يقترفوا تلك المحرمات فإنهم يخلفهم أناس أقرب منهم في بلادهم ليفسدوا في نسائهم، فليأخذوا لذلك حذراً.
وليتقوا الله عزَّ وجلَّ، وليتوبوا إلى الله قبل أن يقفوا يوم القيامة بين يدي جبار الأرض والسماوات، ثم يسألهم عن ذلك كله.
اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم إنا نسألك حسن الختام.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:21 - 22].
اللهم إن نعوذ بك من الشيطان، وأعوانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(128/5)
مضار مجالسة أهل السوء والفساد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: احرصوا على مجالسة الصالحين وأهل الخير؛ فإنها تثمر في الدنيا والآخرة.
واحذروا من مجالسة أهل السوء والفساد؛ فإن لها مضار في الدنيا والآخرة، نعم في الآخرة عندما تتقطع الصلات والأنساب، وتتلاشى المَوَدَّات وتذهب، قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
نعم.
هكذا يحصل يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يتبرأ الرؤساء من الأتباع الذين اتبعوهم على الباطل في الدنيا، يتبرأون منهم حينما يرون العذاب، وتنقطع بينهم الروابط، وتزول المودات، وكذلك الأتباع، يتمنون لو أن لهم رجعة إلى الدنيا؛ ليتبرأوا من هؤلاء الذين أضلوهم السبيل، وكما أن الله أراهم شدة العذاب، كذلك يريهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة، وحسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم، وصدق الله حيث أخبر عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] وهم يتأسفون على تضييع العمر في المعاصي، وعلى تضييع أوقات الصلاة، فقد عصوا جبار الأرض والسماوات، ثم يا للمصيبة، ويا للأسف على الغيرة التي ذهبت من الكثير من الناس، حتى جلبوا السائقين والخدم والخادمات والمربيات، وأدخلوهم في البيوت، وتركوا لهم الحبل على الغارب مع النساء، فصاروا لهن مثل المحارم، حتى ذهبت الغيرة من بعض الناس، وصاروا لا يبالون بأعراضهم، ولا يحافظون على شرفهم، فتلاشت الأخلاق، وحصل الفساد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومع المعاصي التي هدمت كثيراً من البيوت: إدخال الأفلام الخبيثة، والتمثيليات الهابطة، والأغاني الماجنة إلى البيوت، حتى هوت بالأخلاق والآداب إلى الحضيض، وقتلت الحياء من الذكور والإناث، ومن جراء ذلك حصلت أمور لا نعرفها سابقاً، منها: مغازلة النساء، ومعاكسة النساء، وكثرة التبرج والسفور، وهذا والله أمر يُنذر بوخامة العاقبة إن استمر الحال على ذلك.
مع ما انتشر أيضاً من المخدرات والمسكرات التي هي عار وشنار في الدنيا والآخرة، فكم أزهقت من أرواح بريئة؟! وكم أذهبت من أخلاق وعقول وأهانت أهلها، وأدت بهم إلى الحضيض حتى صاروا من الأرذال؛ بما سببوا على أنفسهم وعلى عقولهم وأعراضهم وشرفهم، وعلى أموالهم بسبب هذه المخدرات والمسكرات! وكم أضاعوا من أُسر! وخسروا من أوقات، وسوف يُسألون عنها يوم القيامة، ولا تسأل عما يحصل لهم عند الموت، إن جاءهم الأجل على غير توبة، وأيضاً إن ماتوا على غير توبة فإن الله توعدهم أن يسقيهم من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا، فمات وهو يدمنها لم يشربها في الآخرة} رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
شارب الخمر يتجرع إلى أن يترك الصلاة والصوم ويظلم ويفسق، ويستمر في الغواية، ويُرخي العنان لنفسه في سبيل الغواية، فتكثر ذنوبه، وتقل حسناته.
شارب الخمر ربما يرتكب المحارم؛ لأنه فقد العقل الذي ميزه الله به، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم مع الأسف الشديد ما يحصل في كثير من بلدان الإسلام والمسلمين من أكل الربا، ومن التعامل به، وكذلك أكل الأموال بالباطل، مثل الرشوة، والغش في البيع والشراء والمعاملات، والخداع، والسرقة، ولعب القمار والميسر, وكل ذلك حرام، ثم أتبع بذلك بيع الدخان، إلى غير ذلك من الملاهي وغيرها، ثم إذا ألمَّت بالمسلمين ملمة، ورفعوا أكفهم إلى الله، وإذا بالأكف قد تناولت الحرام، والبطون امتلأت من الحرام، ثم يُقال: أنَّى يُستجاب لذلك؟!
أما إذا رجعنا إلى الله، وتبنا إلى الله، وأكلنا الحلال، فإنا إذا رفعنا أكفنا إلى الله، وتضرعنا إلى الله فإن الله يستجيب الدعاء، ويدفع البلاء، ويقبل الصدقات، ويغفر الزلات.
اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
عباد الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما يريد، نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا علي يا عظيم، يا حليم يا عليم، لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الإجلال والإكرام، اللهم عليك بالظلمة وأعوان الظلمة، اللهم عليك بالظلمة وأعوان الظلمة اللهم عليك بالظلمة وأعوان الظلمة، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم الشيوخ والأطفال والنساء.
اللهم اشدد وطأتك على الظلمة، وأعوان الظلمة، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا مغيث المستغيثين، يا أرحم الراحمين، يا ناصر المستضعفين، لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك يا أرحم الراحمين.
عباد الله! صلوا على رسول الله.(128/6)
موصلات الجنة
إن الله جلَّ وعلا قد وصف الجنة بأعلى وأجمل وأحسن وصف؛ حتى يشمر لها المشمرون، ووصف أهلها المشمرين بأوصاف حميدة، حتى يتصف بها من أراد الفوز بالجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، وقد بين الشيخ حفظه الله في هذه الرسالة أوصاف أهل الجنة الموصلة إليها من الكتاب والسنة.(129/1)
أوصاف أهل الجنة في القرآن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
لقد سمعتم في الجمعة الماضية ما حل بالأمم المكذبة لرسل الله عزَّ وجلَّ حيث أنْزَل بهم النقمات، وحلَّت بهم العقوبات ونزلت بهم، ومزقهم الله كل ممزق، فتلكم ديارهم عامرة، وآثارهم موجودة؛ ولكن الله عزَّ وجلَّ دمَّرهم تدميراً، لما عصوا رسل الله عزَّ وجلَّ، ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فختم الله به الأنبياء والمرسلين، وأنزل معه الكتاب المبين.
أيها المسلمون: لقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل معه القرآن العظيم.
أيها الأمة: أمة الإسلام، لقد استخلفكم الله من بعد تلك الأمم التي بادت وانقرضت وهلكت بعقوبة الله عزَّ وجلَّ، ثم بعث إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فمدحكم الله في القرآن، حيث قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].
أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم، الذي فيه حَثٌ لكم إلى المبادرة والمسارعة إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ والابتعاد عما يُغضب الله حتى لا يحل بكم ما حل بالأمم الماضية، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135].
فهذه أوصاف أهل الجنة الذين أطاعوا الله عزَّ وجلَّ:(129/2)
الوصف الأول: (المتقون)
المتقون، الذين ذكر الله وصفهم في أول سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:3 - 5] ثم ختم لهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
المتقون: وهم الذين اتقوا ربهم جل وعلا، باتخاذ الوقاية من عذابه بفعل ما أمرهم به، وطاعةً له ورجاءً لثوابه جل وعلا، وترك ما نهاهم عنه، طاعةً له، وخوفاً من عقابه، أولئك هم المتقون.(129/3)
الوصف الثاني: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاء)
الوصف الثاني من أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134] فهم ينفقون ما أمروا بإنفاقه على الوجه المطلوب منهم: من الزكاة، والصدقات، والنفقات على من لهم حق عليهم، والنفقات في الجهاد، وغيره من سبل الخير، يبادرون بأداء الزكاة، يتصدقون، ولا يريدون من أحد جزاءً ولا شكوراً، ينفقون ذلك في السراء والضراء، لا تحملهم السراء والرخاء على حب المال، والشح فيه، طمعاً في زيادته، ولا تحملهم الشدة والضراء على إمساك المال خوفاً من الحاجة إليه، بخلاف الذين يقولون: لا ننفق؛ فإننا نخشى أن يقل الرصيد، وأن ينقص ما عندنا من الرصيد، أسأل الله العفو والعافية.
اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا.(129/4)
الوصف الثالث: (الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)
الوصف الثالث للمتقين، الذين هم من أهل الجنة: {الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] وهم الحابسون لغضبهم إذا غضبوا، فلا يعتدون، ولا يحقدون على غيرهم بسببه.(129/5)
الوصف الرابع: (الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)
الوصف الرابع من أوصاف المتقين وهم أهل الجنة: {الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] يعفون عمن ظلمهم واعتدى عليهم، فلا ينتقمون لأنفسهم مع قدرتهم على ذلك.
وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] إشارة إلى أن العفو لا يُمدح إلا إذا كان من الإحسان، وذلك بأن يقع موقعه، ويكون إصلاحاً، فأما العفو الذي تزداد به جريمة المعتدي، فليس بمحمودٍ، ولا مأجور عليه.(129/6)
الوصف الخامس: (الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)
الوصف الخامس من أوصاف المتقين، الذين هم أهل الجنة: {الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] ماذا يعملون إذا فعلوا فاحشة؟
هل يأتون بالصور من دول الخارج؛ حتى يفضحوا أنفسهم بعدما سترهم الله؟!
يأتون بصورهم، وهم سكارى، وهم عُراة، مع الزواني، ومع الذين يفعلون اللواط -والعياذ بالله- يأتون بصورهم، وهم يخرون صرعى في مسارح العار والشنار، في بلاد الكفر -نسأل الله العفو والعافية- لا.
ليس أولئك، إن المتقين غير أولئك، اسمعوا وصف المتقين: {الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].
ما هي الفاحشة؟
الفاحشة: ما يُستفحَش من الذنوب، وهي الكبائر، كقتل النفس المحرمة بغير حق، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، والزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر.
وما هو ظلم النفس؟
أما ظلم النفس فهو أعم، فيشمل الكبائر والصغائر.
فهم إذا فعلوا شيئاً من ذلك ذكروا عظمة من عصوه، فخافوا من عقابه، وذكروا مغفرته ورحمته، فسعوا في أسباب ذلك، فاستغفروا لذنوبهم، بطلب سترها، والتجاوز عن العقوبة عليها، وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] إشارة إلى أنهم لا يطلبون المغفرة من غير الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه لا يغفر الذنوب سواه.(129/7)
الوصف السادس: (لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
الوصف السادس من أوصاف المتقين، أوصاف أهل الجنة: {لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] أي: لم يستمروا على فعل الذنب وهم يعلمون أنه ذنب، ويعلمون عظمة من عصوه، ويعلمون قرب مغفرته، بل يبادرون إلى الإقلاع عنه, والتوبة منه، فالإصرار على الذنوب مع هذا العلم يجعل الصغائر كبائر، ويتدرج بالفاعل إلى أمور خطيرة صعبة.
نسأل الله أن يرزقنا توبة نصوحاً.(129/8)
الوصف السابع: (الْمُؤْمِنُوْنَ)
ومن أوصاف أهل الجنة المتقين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُوْنَ} [المؤمنون:1] أي: أنهم الذين آمنوا بالله، وبكل ما يجب الإيمان به، من ملائكة الله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، آمنوا بذلك إيماناً يستلزم القبول والإذعان والانقياد بالقبول والعمل.(129/9)
الوصف الثامن: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
ومن أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] حاضرة قلوبهم، ساكنة جوارحهم، يستحضرون أنهم قائمون في صلاتهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ، يخاطبونه بكلامه، ويتقربون إليه بذكره، ويلجئون إليه بدعائه، فهم خاشعون بظواهرهم وبواطنهم.
أما الذين يعبثون في الصلاة فتكثر حركاتهم، وربما يخرج المفاتيح من الجيب، وربما يخرج الآلة الحاسبة، ويحسب وهو في الصلاة، فأولئك أبدانهم في المساجد، وقلوبهم في المزابل، تهيم في أودية الدنيا، ليس لهم من أوصاف المتقين حق، المتقون اسمعوا أوصافهم: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].(129/10)
الوصف التاسع: (الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
ومن أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] أي: أنهم معرضون عن اللغو؛ لقوة عزيمتهم، وشدة حزمهم، لا يمضون أوقاتهم الثمينة إلا فيما فيه فائدة، فكما حافظوا على صلواتهم بالخشوع، فإنهم حافظوا على أوقاتهم عن الضياع.(129/11)
الوصف العاشر: (الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)
ومن أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6] فهم حافظون لفروجهم.
فهؤلاء أهل الجنة، حافظون لفروجهم {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] فهم حافظون لفروجهم عن الزنا، واللواط، لما فيهما من معصية الله والانحطاط الخلقي والاجتماعي، ولعل حفظ الفرج يشمل ما هو أعم من ذلك، فيشمل حفظه عن العادة السرية، التي انهمك فيها الكثير من الناس، نسأل الله العفو والعافية، ونسأل الله أن يفرج للمكروبين الذين صعبت عليهم طرق الزواج، نسأل الله أن يفرج لنا ولهم من كل كربة، إنه على كل شيء قدير.
فيا من لم تتزوج راقب الله عزَّ وجلَّ، واتقِ الله يجعل لك مخرجاً، لا تذهب هذا الجوهر، لا تخرج هذا المني بالعادة السرية، فإنك مسئول عن فعلك هذا يوم القيامة يا عبد الله! ولكن عليك بتقوى الله عزَّ وجلَّ، والمبادرة إلى طاعة الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ما أجمل التقوى! فإن الله عزَّ وجلَّ يذلل بها الصعاب، ويُسهل بها العسير، فيا أيها الشاب! راقب الله في السر والعلانية، واتق الله في السر والعلانية، واسأل الله أن يفرج لك كل كربة، فإن الله قريب {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] فتب إلى الله أيها الشاب من هذه العادة القبيحة، وخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء} لكن -مع الأسف الشديد- بعض الشباب يذهب إلى الأشياء التي يماري فيها أبناء الجنس، من شراء السيارة الفاخرة، وشراء الأزياء التي لا تنفعه في الحياة، إنما الحياة تعبر بغيرها، إنما الحياة تصلح من دون تلك الأشياء التي ابتلي بها كثير من الشباب، يصرف الدراهم الكثيرة، ثم إذا قيل له: تزوج، قال: المهور غالية، وهو يصرف أكثر من المهر -والعياذ بالله- إما بشراء سيارة فاخرة، أو بالذهاب إلى خارج البلاد؛ ليفسد في أرض الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نعم.
حفظ الفروج، يشمل ما هو أعم من ذلك، فيشمل -كما قلتُ لكم- العادة السرية، فينبغي للإنسان أن يحفظ نفسه عن هذه العادة، وعن النظر إلى المحرمات من النساء، والمُرْدان، والأفلام، والمجلات التي فيها الصور العارية، وغيرها.
وأيضاً ينبغي للإنسان أن يتقي الله عزَّ وجلَّ، ولا يتعدى، فإنه ملوم على فعل ذلك التعدي، إلا على الزوجة، والمملوكة لما في ذلك من الحاجة إليه، لدفع مقتضى الطبيعة، وتحصيل النسل، وغيره من المصالح.(129/12)
الوصف الحادي عشر: (الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
ومن أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8] أي: أنهم قائمون برعاية الأمانات والعهد فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الخلق، ويدخل في ذلك الوفاء بالعقود، والشروط المباحة فيها.(129/13)
الوصف الثاني عشر: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)
ومن أوصاف أهل الجنة: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] فهم على صلواتهم يحافظون، يلازمون على حفظها من الضياع والتفريط، وذلك بأدائها في وقتها على الوجه الأكمل، بشروطها، وأركانها، وواجباتها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافاً كثيرة في القرآن العظيم لأهل الجنة، سوى ما نقلناه هنا، ذكر ذلك سبحانه وتعالى ليتصف به من أراد الوصول إلى الجنة.(129/14)
أوصاف أهل الجنة في السنة النبوية
وفي الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء كثير، فقد قال الناصح الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل اللهُ له به طريقاً إلى الجنة} رواه مسلم.
أجل يا عباد الله! كل منا ينبغي أن يسلك الطريق الموصل إلى الجنة، فالبعض من الناس لا يُحسن قراءة الفاتحة، ولا يُحسن قراءة التشهد في الصلاة، ولا يُحسن الغُسل من الجنابة، ولا يحسن الوضوء، ألا يسلك الطريق إلى العلماء ليسألهم عن ذلك حتى يسهل الله لهم طريقاً إلى الجنة؟! نعم يا عباد الله.(129/15)
المحافظة على الصلاة في جماعة وترديد الأذان
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات -اسمع يا من تصلي في بيتك بجوار المرأة، اسمع يا من ضيعت هذا الفضل العظيم! - قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة} رواه مسلم.
اسمعوا يا أمة الإسلام! هذا الحديث! يقول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتِّحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء} رواه مسلم وغيره.
واسمع يا عبد الله! قال صلى الله عليه وسلم: {إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة} رواه مسلم.
اسمع يا عبد الله! فضل الله عظيم: {ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة} رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من قال حين يسمع النداء -أي: الأذان- اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلَّت له شفاعتي يوم القيامة} رواه مسلم.(129/16)
بناء المساجد
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة}.
اسمعوا أيها الأثرياء! اسمعوا أيها الأغنياء! يا من تبخلون بالأموال! يقول صلى الله عليه وسلم: {مَن بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة} بعض الأثرياء وبعض الأغنياء إذا أتته الورقة وفيها ذكر المسجد بدأ يتحكَّك ويلتفت يميناً وشمالاً، حتى لا ينفق مالاً يُبنى له به بيت في الجنة -مع الأسف الشديد- ولكن لو قيل: إن فيه دعاية، بادر وكتب المعروض، حتى يخرج صاحب الدعاية باسمه أولاً.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {مَن بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة} رواه البخاري ومسلم.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة} أخبروا الذين يضيعون الصلاة، أخبروا الذين يفرطون في الصلوات، أعلموهم بهذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة} رواه الإمام أحمد، وأبو داوُد، والنسائي.
وعن ثوبان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الله به الجنة، فقال له صلى الله عليه وسلم: {عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة} رواه مسلم.(129/17)
المحافظة على نوافل الصلوات
اسمعوا يا عباد الله! اسمعوا يا أمة الإسلام! اسمعوا إلى هذا الفضل العظيم، وبادروا يا عباد الله! يقول الناصح الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنة} رواه مسلم.
وفصلها بعض العلماء فقال: (12) ركعة:
- أربع ركعات قبل الظهر.
- ركعتان بعد الظهر.
- ركعتان بعد المغرب.
- ركعتان بعد العشاء.
- ركعتان قبل صلاة الصبح.
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت} رواه الإمام أحمد، والترمذي، وصححه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم} رواه البخاري ومسلم.
اسمعوا يا من تهملون الأعمال الصالحة، اسمعوا يا من تضيعون العمر في غير طاعة الله، يقول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} رواه البخاري ومسلم.(129/18)
تربية البنات طريق إلى الجنة
اسمعوا يا من تكرهون البنات.
اسمعوا يا من لا تحبون البنات.
يقول صلى الله عليه وسلم: {من كان له ثلاث بنات، يؤويهن، ويرحمهن، ويكفلهن، وجبت له الجنة البتة -فضل عظيم- يؤويهن، ويرحمهن ويكفلهن، وجبت له الجنة البتة قالوا: يا رسول الله، فإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين قال: فرأى بعضُ القوم أن لو قالوا: وواحدة؟} رواه الإمام أحمد.
ولكن يا عبد الله! إن كنت تريد الجنة بإحسانك إلى هذه البنات، فاتق الله عزَّ وجلَّ وراقب الله فيهن، لا تدع لهن الحبل على الغارب، لا يخرجن إلى الأسواق متبرجات متعطرات، فاتنات مفتونات، لا تدخل عليهن آلات اللهو، لا تجعل لهن سائقاً يجوب بهن الأسواق، اتق الله في هؤلاء البنات، إن كنت تريد أن تكون في الجنة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي بشيء من هذه البنات، كن له ستراً من النار}.
و {سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله، وحسن الخلق} رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال} رواه مسلم في حديث طويل.
أيها الإخوة في الله: فهذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين شيئاً كثيراً من أعمال أهل الجنة، لمن أراد الوصول إليها.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن ييسر لنا ولكم سلوكها، وأن يثبتنا عليها، إنه جواد كريم.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(129/19)
جزاء آخر من يدخل الجنة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: بادروا بالأعمال الصالحة لعلكم تنجون من عقاب الله وأليم عذابه.
عباد الله: اسمعوا إلى ما في هذا الحديث الصحيح من العجائب يا عباد الله! فإن فيه حثاً على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلوك الصراط المستقيم.
عن الزهري رحمه الله قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وعطاء بن يزيد الليثي رحمهما الله، أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبرهما أن الناس قالوا: {يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون بالشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك، يُحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، تبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم، فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، يقول صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحدٌ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم، اللهم سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟
قالوا: نعم، قال: إنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يَعلم قدر عِظَمِها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثم ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيُصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، مقبلٌ بوجهه قِبل النار، فيقول: يا رب، اصرف وجهي عن النار، قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيقول: هل عسيتَ إن فُعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك فيُعطي ما يشاء من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة، رأى بهجتها، وسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم قال: يا رب، قدمني عند باب الجنة -الله أكبر- قال: يا رب، قدمني عند باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألا تسأل غير الذي كنت سألتَ، فيقول: يا رب، لا أكون أشقى خلقك، فيقول: فما عسيتَ إن أُعطيت ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسأل غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها، ورأى زهرتها وما فيها من الزهرة والنضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله له أن يسكت، ويقول: يا رب، أدخلني الجنة، فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! ما أغدرك! أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيتَ، فيقول: يا رب، لا تجعلني أشقى خلقك، ويضحك الله عزَّ وجلَّ منه، ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تَمَنَّ، فيتمنى، حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله عزَّ وجلَّ: من كذا وكذا؟ أقْبَل، حتى إذا انتهت الأماني قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه} رواه البخاري وفي رواية لـ مسلم: {لك مثل ملك عشرة ملوك من ملوك الدنيا} هذا آخر من يدخل الجنة يا عباد الله.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
اللهم اجعلنا من أمة محمد، الذين يدخلون الجنة، بغير حساب ولا عذاب.
اللهم أدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا على الصراط من الناجين، ولا تجعلنا في النار مكردسين، يا رب العالمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
عباد الله: إن الله يأمركم أن تصلوا على رسول الله، فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وفي مقدمتهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أذل الشرك والمشركين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين.
اللهم أيدهم بتأييدك.
اللهم انصرهم بنصرك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد.
اللهم يا قريب مجيب لمن دعاك، يا من قلت وقولك الحق: ادعوني استجب لكم، استجب لنا دعاءنا، يا أرحم الراحمين.
لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، أنت مغيث اللهفات، ومفرج الكربات، ومحيل الشدائد والبليات، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء.
اللهم أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(129/20)
موعظة عامة
إن المجتمع الفاسد هو المجتمع الذي يتمادى فيه المفسدون بطغيانهم، وهو الذي تنتكس فيه الأوضاع؛ حيث يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فانتشار الفساد في المجتمع يدل على عدم الغيرة الإيمانية، ولذلك كان من أهم صفات المجتمع الراشد السعيد أنه شديد الغيرة الإيمانية؛ فهو يسعى لإزالة الفساد واقتلاعه؛ لأن الفساد هو السبب الرئيسي في حلول النقم وزوال النعم وحصول المصائب.(130/1)
استشراء الفساد في المجتمع
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته، ووعد الصالحين بجنته ومستقر رحمته، وتوعد العصاة بدار نقمته وزوال نعمته، وهو الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.
أحمده سبحانه وأسأله أن ينظمنا في سلك عباده الصالحين، وأن يجعلنا من حزبه المفلحين، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحجة البالغة على خلقه بلا نزاع، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل.
أمة الإسلام: كان المسلمون إذا سمعوا لآيات الله القرآنية، أو للأحاديث النبوية قالوا: سمعنا وأطعنا لما فيها من الأوامر، وانتهينا لما فيها من النواهي، سمعوا وأطاعوا وأقلعوا عن الخطيئة ولم يصروا على ما فعلوا من المخالفات الشرعية.
أما في هذه الأزمنة المتأخرة، فكم نسمع من الآيات والأحاديث! ولكن ران على القلوب الران، واستحوذت عليها الغفلة، واستحسنت الفسوق والعصيان، فأقبلت على الفساد وأعرضت عن تعاليم الملك الديان.
أيها المسلمون: إذا نظرنا بدقة إلى ما نحن عليه الآن من فساد الأخلاق، ومجاهرة الفساق بالاتصاف بالنفاق، رأينا بوناً شاسعاً بين المسلمين وبين تعاليم الكتاب والسنة: {استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً محمَّراً وجهه يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح الليلة من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش إحدى زوجاته رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال نعم: إذا كثر الخبث}.
أجل يا أمة الإسلام! إن المجتمع الذي يستقيم أفراده ويهتدي بنور الدين ويعمل بشعائر الإسلام، ويتحلى بالأخلاق القويمة هو المجتمع الرفيع الراشد السعيد، هو المجتمع الذي كتب الله له العزة، ووعده بالخلافة في الأرض لصلاحهم؛ كما هي سنة الله في الذين خلوا من قبل، فإن الصالحين يعم الله بصلاحهم ويقطع بهم دابر الفساد، لما يقومون به من الدعوة إلى الله وإظهار دينه.(130/2)
علامة المجتمع الفاشل
وعلى العكس -يا عباد الله! - من هذا المجتمع السعيد، مجتمع الفشل، وهو المجتمع الذي يتمادى فيه المفسدون بطغيانهم وإفسادهم، هو المجتمع الذي تنتكس فيه الأوضاع؛ فيصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، حتى إنهم في بعض المجتمعات المنهارة، والمجتمعات المنحطة، يسمون المتدين والمتمسك بدينه رجعياً متطرفاً.
ويسمون المتحلل من الدين، والمتحلل من الخلق القويم، يسمونه منطلقاً، ويسمون فعله انطلاقة وحرية، ألا بئست الانطلاقة، ألا بئست الحرية؛ يشربون الخمور؛ أم الخبائث ومفتاح كل شر، ويسمونها المشروبات الروحية، فبئس ما يصنعون!
ينادون المرأة المتحشمة المتمسكة بدينها، ويسمونها المعقدة المقيدة بالأغلال، ويريدونها أن تخطو الخطوة السريعة، وما هي الخطوة السريعة؟ وما أدراك ما الخطوة السريعة؟! هي أن تخرج في ميدان العمل، لتزاحم الرجال وتضرب إليتها إلية الرجال، ويلتمس كتفها بكتف الرجال، وتصافح الرجال في مجتمعاتهم، تخرج سافرة متعطرة متبرجة، عليها اللباس القصير، إنها دعوة إلى الجاهلية الأولى التي حاربها الإسلام، وقضى عليها.
إن من علامة فشل المجتمعات ظهور المنكرات وإعلانها؛ فإن امتلاء الأسواق والحوانيت والبيوت من الصور ذوات الأرواح، يعلن بعدم الغيرة الإيمانية، وبعدم الإحساس، وبعدم قبول ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم به، إنه رسول الله، إنه الناصح الأمين، إنه الرءوف الرحيم بأمته، حذرنا أتم التحذير، بقوله: {لعنة الله على المصورين} ويقول: {أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم} ويقول: {من صوَّر صورة كُلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ} ويقول أيضا: {يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان أزرقان يقول: وُكِلتُ بكل مصور وبكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، ثم يلتف عليهم ثم يقذفهم في النار} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إن في تلك الأحاديث لعبرة لمن أراد أن يعتبر، وموعظة لمن كان في قلبه إيمان؛ إن التهاون بين الناس في أمر التصوير دليل على عدم الوازع الإيماني بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نهوا عن ذلك قالوا: إنما التصوير بالآلة، فيقال لهم: إن الوعيد الذي جاء يصدق على صاحب الآلة؛ لأنه هو المحرك لها والمتصرف فيها كيف يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وفي الأثر: {إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده} أجل، إن ظهور الخلاعات والصور القذرة التي ترسمها الأفلام السينمائية على الشاشة، وينظر إليها الرجال والنساء، وكأنها شيء مألوف، إن فيها الدمار والشر والعار، والفساد والسم الزعاف فهل من مدكر؟!
إن ما في الصحف والمجلات الرخيصة باسم القصة وتحت ستار الترفيه، فيه من استعمار الأفكار وانحطاط الأخلاق ما لا يحصره العبد.
وإن الشباب حين يقرءونها يتلقون منها دروساً في الإباحية والسقوط، وكل خبائث الغرب وأقذاره، فكل ذلك تقليداً لأعداء الإسلام، وتقليداً لأعداء الأخلاق، وتقليداً لأعداء الفضيلة، واندفاعاً وراء التيارات الهدامة، التي بزعمهم أنها مدنية، وما هي في الواقع إلا سلسلة من الإجرام؛ تجر على البلاد والعباد المصائب والدمار، تذكروا ما حدث في بلدة الأصنام في الجزائر، تذكروا ما حدث لمجاوريكم في اليمن، تذكروا ما حدث لـ أفغانستان؛ من الزلازل، إنها آيات يذكر الله بها العباد فهل من مستعتب؟!
أمة الإسلام: إن الذي نسمعه عنهم لداعٍ لنا إلى الانتزاع من المعاصي، وإلى البعد عن العذاب، إن البلاد المجاورة وهي تدور رحى الحرب عليها، والزلازل وانتهاك الأعراض، والقتل والسلب والعياذ بالله، فكل هذه الحوادث أسبابها الذنوب والمعاصي، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {وما ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
لقد حدث زلزال في المدينة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخطب وتوعدهم بقوله: [[لئن حدث ثانية لا أساكنكم فيها أبداً]] الله أكبر، هؤلاء عباد الله الذين يخافون من عذاب الله ومن نقمته ومن سطوته لما تزلزلت ضرب الأرض وقال رضي الله عنه: [[لئن حدث ثانية لا أساكنكم فيها أبداً]] وما ذاك إلا لتخوف أمير المؤمنين من الذنوب وما تجره من ويلات ومحن ومصائب، فما نزل ضر وبلاء وشدة إلا بسبب الذنوب وتنوع أساليب المعاصي، ولا شك أن العبد كلما أحدث ذنباً أحدث الله له عقوبة تتنوع وتتشكل حسب عظم الذنب وضخامة الجرم.
فاتقوا الله -عباد الله- وهلموا لتجديد توبة نصوحة، هلموا لنسأل الله العفو والغفران، إنه كان غفاراً، ولنبكِ يا عباد الله! الزموا بدموع الندم على ما فرطنا وما قصرنا فيه من حقوق الله، لنبادر بالتوبة النصوح إلى الله عَزَّ وَجَلّ، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(130/3)
صفات المجتمع الراشد
الحمد لله يهدي إلى الحق ومنهاج السداد، أحمده سبحانه شرع لعباده الأمر بالمعروف لإقامة الحجة ودرء الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وضَّح المعالم لطريق الرشاد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن المجتمع الصالح الراشد المسدد هو المجتمع الذي يتعاون أفراده على الخير، وتتظافر جهودهم لدفع الشر ونفي الخبث والأخذ على يد الظالم، وذلك ما ينطبق تمام الانطباق على المجتمع الإسلامي الصالح فهو الذي وصف الله واقعه بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
فأوضح الله سبحانه عوامل الصلاح والرشاد؛ وهو الأخذ في سبل الطاعة وفي تطبيقها، وفي مقدمتها أداء الفرائض، ومن أهمها: الصلاة الصلاة يا أمة الإسلام! الصلاة يا عباد الله! وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأسس الصحيحة التي وصفها الإسلام، وأمر بها وشجع عليها بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
فعلينا -أمة الإسلام- جميعاً مسئولية عُظْمى حمَّلها، رسول الهدى كل فرد في الأمة حسب إمكانياته، ففي القيام بها سلامة المجتمع، والإبقاء عليه.
فاتقوا الله -عباد الله! - ولتتظافر منكم الجهود، ولتصح العزائم للأخذ في سبل الإصلاح، والقضاء على الفساد في مهده: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، اللهم اجعلنا هداة مهتدين.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول سيد البشرية: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، واخذل من أراد للإسلام خذلاناً وأهله، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم ارزقه الجلساء الصالحين الناصحين؛ الذين يدلونه على الخير ويأمرونه به ويحثونه عليه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أئمة وولاة المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وفقنا وإياهم جميعاًً للحكم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم، اللهم ارفع عنا وعن جميع المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم رب محمد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام اغفر لنا ذنوبنا، وأذهب غيظ قلوبنا، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]} رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] اللهم إن نسألك توبة نصوحاً، تطهر بها قلوبنا وتمحص بها ذنوبنا إنك سميع الدعاء، مجيب لمن دعاك يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(130/4)
نعم الله ومحاسن الإسلام
الإسلام له محاسن ومزايا لا يمكن حصرها في محاضرة أو خطبة، وربما لا يستطيع الإنسان بعقله الضعيف حصرها، فقد قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
وهنا تحدث الشيخ عن أهم ما يدعو إليه الإسلام ويحث عليه، كالتوحيد، والأخلاق الحسنة، والعلم بنوعيه الديني والدنيوي، وكل شيء ينفع الإنسان، وتكلم عن أعداء الشريعة الذين ينكرون الخالق سبحانه وتعالى، وحث المؤمنين على التمسك بدينهم.(131/1)
محاسن الإسلام وفضائله
الحمد لله الذي تفرد بالجلال والعظمة والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر بعض ما أولاه من الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تبارك وتعالى.
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] نعم -يا عباد الله- لقد أكمل الله هذا الدين بالنصر والإظهار على جميع الأديان، بل نسخت به جميع الأديان، فنصر الله عبده ورسوله محمداً وخذل أهل الشرك خذلاناً عظيماً بعدما كانوا حريصين على صد المؤمنين عن دينهم طامعين في ذلك، فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره؛ يئسوا كل اليأس من المؤمنين أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشونهم وانهزموا أمام الحق وضعفوا، وما ذاك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وأتم جل وعلا على عباده نعمته بالهداية والتوفيق، والعز والتأييد والتمكين في الأرض، ورضي الإسلام لنا ديناً، اختاره لنا من بين الأديان، فهو الدين عند الله لا غير، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
عباد الله: لقد نظر أصحاب الأفكار البريئة السليمة في أحكام الإسلام نظر القانع فاعتنقوه، وتأملوا في حكمه الجليلة فأحبوه، وملكت قلوبهم مبادئه الحكيمة فعظموه، واسمع إلى هذا العبارة يا أخي المسلم حقاً: وكلما كان المرء سليم العقل، نير البصيرة، مستقيم الفكر، اشتد تعلقه بهذا الدين؛ لما فيه من جميل المحاسن وجميل الفضائل، بل كله محاسن وكله فضائل.(131/2)
الإسلام يدعو إلى التوحيد بأنواعه
جاء الدين الإسلامي بعقائد التوحيد التي يرتاح لها العقل السليم، ويقرها الطبع المستقيم، يدعو إلى اعتقاد أن للعالم إلهاً واحداً لا شريك له، أولاً لا ابتداء له، وآخراً لا انتهاء له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى:11] له القدرة التامة والإرادة المطلقة، والعليم المحيط، يلزم الخلق الخضوع له والانقياد والعمل بما يرضيه.
وذلك لامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وعدم تعدي الحدود، وذلك بسلوك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فأوضح السبل وأنارها، ونصب الأدلة والبراهين في الأنفس والآفاق، وحث العقول على النظر والاستدلال لتصل بالبراهين إلى معرفته وتعظيمه والقيام بحقوقه، فتراه تارة يلفت نظرك إلى أنه لا يمكن أن توجد نفسك، ولا أن توجد من دون موجد، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ويقول جل وعلا: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
أما كون الإنسان موجداً لنفسه فهذا أمر ما ادعاه الخلق، وأما وجود الإنسان هكذا من غير موجد فأمر ينكره منطق الفطرة، ابتداءً ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل.
وإذا كان هذان الغرضان باطلان؛ فإنه لا يبقى إلا الحقيقة التي يقولها القرآن الكريم وهي: أن الخلق خلقه الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، هذه دلائل على خلق الإنسان.
وتارة يلفت تبارك وتعالى النظر إلى السماوات والأرض، فهل هم خلقوها؟ فإنها لن تخلق نفسها كما أنهم لم يخلقوا أنفسهم.
وتارة يفتح أمام العقل والبصر صحيفة السماء وما حوت من شمس مشرقة، وقمر منير، ونجم مضيء، فيقول تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4].
ثم يلفت النظر إلى الأرض وما فيها من أشجار متنوعة، وما فيها من جبال وقفار وسهول، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] فتشاهد عدة أشجار بعضها بجوار بعض في قطعة واحدة وتسقى بماء واحد، وقد جعل الله لكل شجرة جذوراً تمتص بها من الأرض ما يناسبها من الغذاء الذي به قوامها وحياتها، ثم بعد ذلك تنفتح تلك الأشجار المتجاورة كل واحدة منها عن ثمرة تخالف الأخرى في اللون والطعم والرائحة، ألا يدل هذا على وجود صانع حكيم؟! ألا يدل ذلك على وجود قادر مقتدر؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة:248] أي: لدلالة وعلامة لمن آمن بالله العظيم الذي غلبت قدرته على كل شيء.
ومرة يلفت النظر إلى ما ينزله من السماء من الماء الذي به قوام الحياة، ولو شاء لجعله أجاجاً لا نفع فيه.
ومرة يتحدث عن وحدانيته وعن انفراده بالملك والتدبير وحده لا شريك له في ملكه، كما أنه هو المتصرف في خلقه يحكم فيهم ما يشاء ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، لا يحتاج إلى هيئة أمم متحدة، ولا يحتاج إلى مؤتمرات كاذبة قال تعالى: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] إلى غير ذلك من الأدلة.(131/3)
الإسلام يشرع العبادات التي تهذب النفوس
من رحمة الله بعباده المؤمنين: شرع لهم من العبادات ما يهذب بها النفوس ويصفيها، وينظم العلاقات ويقويها، ويجمع القلوب ويزكيها، فلا شك ولا ريب أن كل علم نافع ديني أو دنيوي أو سياسي قد دل عليه القرآن دلالة لا شك فيها، فمتى بهذه الدلالة؟
إذا استغنينا عن هيئة الأمم المتحدة، أو عن الدولتين الصغيرتين أمريكا والاتحاد السوفيتي، نعم.
إذا استغنينا عن تلك الدول الخبيثة العقائد التي لا تريد الإسلام ولا تريد أهله أن يبقوا على الأرض طرفة عين، فكيف يحق لنا أن نستعين بهم يا أمة الإسلام؟! كيف يحق لنا أن ننظر إليهم إلا بعين الاستزراء والاستسخار لا شك في هذا.(131/4)
الإسلام يدعو إلى العلم
أمة الإسلام: لا شك ولا ريب أن كل علم نافع ديني أو دنيوي أو سياسي قد دل عليه القرآن دلالة لا شك فيها، فليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول، وإنما في شريعة الإسلام ما تشهد العقول السليمة الزكية بصدقه ونفعه، بل في شريعة الإسلام ما تشهد العقول السليمة الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه.(131/5)
الإسلام عدل كله
وكذلك أوامر الإسلام كلها عدل لا حيف فيها ولا ظلم، فما أمر بشيء إلا وهو خير صالح أو راجح، وما نهى عن شيء إلا وهو شر خالص أو ما تزيد مفسدته على مصلحته.
كلما تدبر العاقل اللبيب الإسلام وأحكامه قوي إيمانه وإخلاصه، وعندما يتأمل ما يدعو إليه هذا الدين يجده يدعو إلى مكارم الأخلاق، والصدق والعفاف، والعدل وحفظ العهود، وأداء الأمانات، والإحسان إلى الأيتام والأرامل والمساكين، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، كما يدعو إلى تحصيل التمتع بلذائذ الحياة -الحلال- التي أحلها الله من الطيبات، أحل ذلك التمتع بقصد واعتدال قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31].
كما أن الإسلام يدعو إلى البر والتقوى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، وينهى عن الظلم والإثم والعدوان، فهو دين كامل لا يحتاج إلى قوانين وضعية، ولا يحتاج إلى أفكار منحرفة، دين كامل لا يأمر إلا بما يعود على العالم بالسعادة والفلاح، ولا ينهى إلا عما يجلب الشقاء والمضرة للعباد.
تباً ثم تباً لأعداء الشريعة الإسلامية الذين يظنون بالشريعة ظن السوء، عليهم دائرة السوء واللعنة، يؤلهون الطبيعة وينسبون إليها النظم الوضيعة، ويزعمون أن هذا الوجود خلق نفسه وكون أجزاءه العليا والسفلى، وينكرون وجود الله عز وجل، فليس العجب من هلاكهم، والله ثم والله ليس العجب من هلاكهم؛ ولكن العجب والأسف على من احتذى حذوهم من الذين يدعون الإسلام!!
ينكرون وجود الله عز وجل الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، فياله من جحود عنيد آثم! ووالله ثم والله لن تأتي الصدف بهذه المخلوقات في الأرض والسماوات، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن تكون هذه العوالم أوجدت نفسها! بل أوجدها الله، يا أمة الإسلام! يا أهل العقول السلمية! يا أهل الفطر المستقيمة! لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن تكون هذه العوالم أوجدت نفسها! بل أوجدها الله الذي رفع السماء بغير عمد نراه، وبسط الأرض على تيار الماء، فلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولا نعبد إلا إياه ولو كره الشيوعيون، ولو كره الملحدون، ولو كره اليهود والنصارى والمبشرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونور قلوبنا بنور الإيمان، اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان، وأرحنا من شرور أنفسنا والشيطان، ووفقنا لطاعتك وجنبنا الكفر والفسوق والعصيان، والحكم بغير ما أنزلت يا رب العالمين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(131/6)
كونوا من الغرباء
الحمد لله الكريم الجواد، اللطيف بالعباد، الذي من اعتز به رأس وساد، ومن تمسك بكتابه أيده وحماه من الأضداد، ومن عض بنواجذه على سنة نبيه نصره وإن قل الأعوان والأجناس، نحمده ونستعينه ونسأله التوفيق لاتباع الكتاب والسنة، ونسأله أن يقينا من البدع المدلهمة السوداء، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن ارتكاب المعاصي والفساد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله ربنا بالحق بشيراً ونذيراً، وما مات حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ليس فيها لبسٌ ولا اشتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا أتبع الناس لسنته في اليقظة والرقاد وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله فإن تقواه نعم العدة ليوم المعاد، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإن التمسك بهما أعظم الجهاد لا سيما عند كثرة الأهواء وظهور الفساد، فقد ورد في الحديث: {المتمسك بدينه في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة} و {المتمسك بدينه كالقابض على الجمر} وذلك لقلة الأعوان وكثرة الأضداد، في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء}
أمة الإسلام: كونوا من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس.
أيها المسلمون: أي غربة أشد من أن أكثر المسلمين الذين يدعون الإسلام لا يعرفون قراءة القرآن، وبالأخص لا يعرفون قراءة فاتحة الكتاب التي هي أم القرآن وهي السبع المثاني، ولا يعرفون ما يجب عليهم من أمور الدين كالقراءة في الصلاة وغيرها، أليس ذلك يا أمة الإسلام من البعد عن التعاليم التي رسمها الإسلام؟
أمة الإسلام: أليس ذلك كله من البعد عن التعاليم التي رسمها الإسلام وجاء بها القرآن؟ حتى الذين يتعلمون لا يهتمون بالقرآن كما يهتمون بالمواد الدراسية الأخرى -وللأسف الشديد- دستورنا القرآن الكريم وصراطنا المستقيم لا يعد من المواد الرسمية في بعض الدول العربية التي تدَّعي الإسلام، كما يهتمون بالمواد الأخرى التي أدخلها أعداء الإسلام للمسلمين حتى انحرف الأكثرون عن تعاليم الإسلام، وصاروا يحاربون التعاليم الإسلامية ولا يبالون بها، فماذا نقول؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبنا الله ونعم الوكيل!
اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ومن شذَّ عن جماعة المسلمين شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وفي مقدمتهم خلفاؤه الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأيقظنا من غفلتنا حتى نتبع نهجهم يا رب العالمين، اللهم أيقظنا من غفلتنا حتى نسلك سبيلهم يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم انصرنا بالإسلام، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم من آذى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم مزق أعداء الإسلام وأعداء المسلمين تمزيقاً، اللهم مزقهم تمزيقاً، اللهم أدر عليهم دائرة السواء، واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم وأصلح أولادنا ونساءنا، اللهم وأصلح أولادنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن ومضلات الفتن، اللهم ارفع عنا مضلات الفتن، اللهم طهر بلادنا من مضلات الفتن التي دخلت علينا بالشر والفساد يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(131/7)
نعيم القبر وعذابه
إن كل الناس -وإن طالت حياة بعضهم- قادمون على الله جل وعلا، فلينظر كل واحد منهم ماذا قدم من عمل ينجيه من عذاب الله عز وجل، وخير دافع لذلك بأن يتذكر الإنسان قدومه على الله من ساعة الاحتضار إلى أن يقف بين يدي الله عز وجل، وقد بين الشيخ حفظه الله في هذا الدرس مرحلة من مراحل الانتقال إلى الله، وهي مرحلة القبر، وذكر ما يقع للمؤمن والكافر فيه.(132/1)
تذكر اليوم الآخر
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة؛ ليبلو العباد أيهم أحسن عملاً، فقسمهم إلى قسمين: فمنهم شاكر، ومنهم كفور.
أحمده وأشكره، وأسأله أن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله عزَّ وجلَّ {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
عباد الله: هل تعلمون ما هو ذلك اليوم؟ هو والله يوم القيامة، يوم الطامة الكبرى، يوم الصاخة، يوم تشقق السماء بالغمام، يوم تفتح السماء فتكون أبواباً، فينزل من كل سماء ملائكتها، ينزلون ليحيطوا بأهل الموقف، في ذلك اليوم الذي يتجلى فيه الرب لفصل القضاء بين الخلائق.
عباد الله: إذا تحققنا من ذلك وآمنا به، علمنا حق اليقين أن هذه الحياة الدنيا لا بد لها من الزوال، وأنها دار ممر وعبور إلى الآخرة، وأن أهلها سوف ينتقلون منها إلى ما قدموه من الأعمال.
فتذكروا عباد الله! تذكروا حالتكم عند حلول الآجال، ومفارقة الأوطان والأهل والعيال والجيران.
تذكروا حينما تشاهدون الآخرة وهي أمامكم، وأنتم مقبلون إليها، وأنتم منتقلون إليها، وأنتم مدبرون عن الدنيا.(132/2)
حالة الاحتضار
تذكروا حالة الاحتضار، تذكروا نزول ملك الموت.(132/3)
خروج روح المؤمن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة مِن فِيِّ السقاء، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، فيجعلوها في ذلك الكفن, وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون على مَلَأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة، فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحوا له، فيُفتح له، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، إلى السماء السابعة، فيقول الله عزَّ وجلَّ: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيُجلسانه، فيقولان له: ما دينك؟ ومن ربك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنتُ به وصدقتُه، فينادي منادٍ أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح في قبره مدَّ البصر، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، ويقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي}.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، يا أرحم الراحمين.(132/4)
خروج روح الكافر
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأما الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، ويقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتَفَرَّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على مَلََأٍِ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيُستفتح لها، فلا يُفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ثم يقول الله عزَّ وجلَّ اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى مع الشياطين، فتُطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
فتُعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في القبر حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءُك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة}.(132/5)
أقسام الناس في قبورهم
عباد الله: هذا الذي يحصل بعد الموت في القبر.
فقسم من الناس، توفاهم الملائكة طيبين، يقولون: سلام عليكم {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
وقسم من الناس توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50].
أمة الإسلام: تذكروا إذا حُملتم إلى القبور، فانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال والقصور، فارقتم الفلل، فارقتم الفرش، فارقتم الكنبات، جليسكم فيها الأعمال، موسَّدون التراب، مفترشون التراب، قد صُفت عليكم اللبنات، فإما خيرٌ تسرون به إلى يوم القيامة، وإما شرٌ تجدون به الحسرة والندامة.
ثم تذكروا إذا {نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] فإذا نحن قيام من القبور، ننفض التراب من رءوسنا، حفاة، عراة، غُرْلاً، في {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] في يوم يُجمع فيه الأولون والآخِرون في صعيد واحد، في ذلك اليوم، يوم التغابن، ووالله يوم التغابن، ليس التغابن -يا عباد الله- في نيل عرض من الدنيا، أو توسيع الفلل وارتفاع القصور، فإنما {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] تزدهر قليلاً، ثم تزول سريعاً.
فتنافسوا -أيها المسلمون- في أعمال الآخرة، لتدركوا الأجر العظيم في يوم القيامة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، اللهم هوِّن علينا سكرات الموت، واجعل القبر لنا بعد منازل الدنيا أفسح المنازل، وآمِن خوفَنا يوم الفزع الأكبر، واجعلنا ممن يأخذ كتابه بيمينه يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أٌقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه ثم توبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(132/6)
أقسام الناس يوم القيامة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ حق تقاته, واستعدوا لما أمامكم يوم العرض الأكبر على الله، حينما ينقسم الناس إلى قسمين: سعداء، وأشقياء.
فأما السعداء: ففي روضات الجنات، لهم فيها ما تشتهي أنفسهم، ولهم فيها ما يدَّعون، لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأما الأشقياء: فمآلهم إلى النار، لهم فيها زفير وشهيق، يُطعمون الزقوم، ويُسقون فيها ماءً حميماً، يقطع الأمعاء والأوصال، ولا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرحم لهم بكاء، ولا يزدادون من طول مكثهم فيها إلا عذاباً.
فالحذر الحذر يا عباد الله، الحذر الحذر يا عباد الله من جميع المعاصي, ومن مُضلات الفتن، ومن اتباع الشهوات، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن عليكم، وتأهبوا للعرض الأكبر على رب العالمين.
واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على رسول الله كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، من اليهود والنصارى والشيوعيين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم عافيتك ويدك، اللهم مزقهم كل ممزق.
اللهم انصر المجاهدين من المسلمين في برك وبحرك.
اللهم أيدهم بنصرك، اللهم أيدهم بنصرك.
اللهم ثبت أقدامهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، يا رب العالمين.
اللهم أصلح إمام المسلمين، وارزقه الجلساء الصالحين الناصحين، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، وحكم بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم أقر أعيننا بصلاحهم، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم، وجنبنا وإياهم مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(132/7)
نواقض الإسلام
نواقض الإسلام كثيرة ومتعددة، وقد يأتي المسلم بناقض أو أكثر وهو لا يعلم، فليس الإسلام مجرد دعوى بلا حقيقة، بل هو وحدة كاملة لا تتجزأ، وفي هذه المادة بيان لبعض نواقض الإسلام التي ينبغي للعبد أن يحترز منها ويجتنبها.(133/1)
خطورة الردة عن الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا أن نكون له موحدين عابدين مخلصين، وأنزل القرآن على عبده ليكون هدىً للمتقين، وتنبيهاً للغافلين، وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفي الله وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ودعا إلى التوحيد أساس الإسلام.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
عباد الله: إن دين الله واحد وطريقه واضح مستقيم، وإن الضلالة طرق متشعبة، ومتاهات كثيرة فاسمعوا وأطيعوا.
هذا ربكم يدعوكم في محكم البيان ويقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ثم ينهاكم جل وعلا عن طرق الضلال فيقول: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
أمة الإسلام: الحذر كل الحذر من سبل الضلال، فإن كل سبيل من سبل الضلال عليه شيطان يدعو إليه، فالسالك على طريق الحق تعترضه صوارف عن المضي في طريقه إلى طرق الضلال، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، فهو يحتاج إلى علم بالطريق المستقيم وعلم بتلك الطُرق المضلة، ويحتاج إلى صبر وثبات على الحق.(133/2)
أشكال الردة عن الإسلام
أيها المسلمون: انتبهوا على ما يلقى عليكم وارعوا الأسماع، عباد الله! إن الارتداد عن دين الإسلام والعياذ بالله إلى الكفر تارة يكون بترك الإسلام بالكلية إلى ملة من ملل الكفر، وتارة يكون بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام مع بقاء التسمي بالإسلام، وأداء شعائره، فيكون محسوباً من جملة المسلمين وهو ليس منهم، وهذا أمر خطير وموقف دقيق يحتاج إلى بصيرة نافذة، يحصل بها الفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال.
إذ كثير ما يلتبس هذا الموقف على كثير من الناس؛ بسبب جهله بنواقض الإسلام وأسباب كثيرة، فيظن أن من أدى شيئاً من شعائر الإسلام صار مسلماً ولو ارتكب شيئاً من المكفرات، وهذا الظن الفاسد إنما نشأ بالجهل بحقيقة الإسلام وما يناقضه، وهذا واقع مؤلم يعيشه كثير من الناس في عصرنا هذا، ممن لا يميزون بين الحق والباطل والهدى والضلال؛ فصاروا يطلقون مسمى الإسلام على من يؤدي بعض شعائر الإسلام، ولو ارتكب ألف ناقض نسأل الله العافية! نعم.
لو ارتكب ألف ناقض يسمونه مسلماً! ولم يعلموا أن من ادعى الإسلام ومارس بعض العبادات، ثم ارتكب شيئاً من نواقضه فهو بمثابة من يتوضأ ثم يحدث فهل بقي لوضوئه أثر؟!(133/3)
الإسلام ليس مجرد دعوى بلا حقيقة
أيها المسلمون! إن الإسلام ليس مجرد دعوى بلا حقيقة، ولا جمع بين المتناقضات.
إن الإسلام دين الحق والصدق، إن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله.
إن الإسلام وِحْدَةٌ كاملة لا تتجزأ، لا بد من القيام بشعائره وحقوقه، وتجنب نواقضه.
إن الإسلام دين ودولة، عبادة وحكم وعمل، دعوة وجهاد.
وبالجملة إن الإسلام يحكم جميع التصرفات والتحركات الصادرة من معتنقيه.
عباد الله! إنه لا يكون المرء مسلماً بمجرد الانتساب إلى الإسلام مع البقاء على ما يناقضه من الأمور القصرية، كما أنه لا يكفي مدح الإسلام والثناء عليه من غير تمسك بأهدابه وعمل بأحكامه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
فاليوم المنتسبون إلى الإسلام كثير، ولكن المسلمين منهم بالمعنى الصحيح قليل، واليوم نسمع كثيراً ونقرأ كثيراً من مدح الإسلام، ولكن إذا رجعنا إلى مجال التطبيق والعمل؛ وجدنا الشقة بعيدة بين حقيقة الإسلام وبين كثير ممن يمدحونه ويثنون عليه، هل نفع أبو طالب مدحه للإسلام؟!
هل نفع أبو طالب ثناءه للإسلام؟!
بل مات مشركاً كافراً في النار والعياذ بالله.
هل نفع الأعشى مدحه للإسلام؟!
بل مات على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
أيها المسلمون! إنه لمن الظلم الواضح والضلال المبين أن نطلق اسم الإسلام على من لا يستحقه، لمجرد أنه يدعيه أو يمدحه أو يثني عليه، وهو بعيد عنه بأفعاله وتصرفاته، كما أنه من الظلم الواضح والضلال المبين أن نصف بالإسلام من هو مرتكب لما يناقضه من أنواع الردة، لمجرد أنه يصوم أو يصلي أو يمارس شيئاً من شعائر الإسلام، وهذا منا إما نتيجة جهل بحقيقة الإسلام، أو اتباع للهوى، وكلا الأمرين خطير وقبيح.(133/4)
أسباب الردة عن الإسلام
أيها المسلمون: إن نواقض الإسلام كثيرة وأسباب الردة متعددة، لكننا نذكر منها ما يكون كفيل الوقوع في مجتمع المسلمين اليوم، نذكره لنكون على بينة منه، لنحذره فمنها:(133/5)
الشرك بالله
الشرك في عبادة الله، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5].
مثلما يفعل اليوم في بعض البلاد الإسلامية عند القبور؛ من التقرب إلى الموتى بطلب الحاجات منهم، وصرف النذور لهم، والذبح لأضرحتهم، والذبح للجن لطلب شفاء المريض، وهذا باطل اليوم، والذي يذهب إلى البلاد المجاورة يرى هذا أعياناً، وقد يتسرب إلينا من بعض الخدم والخادمات، والسائقين الكفرة، فقد عثر على كثير منهم ومعهم صور وتماثيل يعبدونها من دون الله في بلاد المسلمين، بل في بيوت المسلمين، وبين أظهر المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أنواع الشرك ما يفعل عندنا ويمارسه الذي يذهبون إلى المشعوذين والدجالين؛ لطلب العلاج، فيأمرونهم بالذبح للجن، فينفذون ذلك من غير مبالاة، وليعلموا ثم ليعلموا إذا كانوا لا يعلمون: أن الذبح لغير الله شرك أكبر وصاحبه مخلد في نار جهنم، إذا مات قبل أن يتوب، ومن تاب تاب الله عليه.(133/6)
الاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام
أيها المسلمون: احذروا من الردة عن الإسلام وأنتم لا تشعرون، فمن استهزأ بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كالذي يستهزأ بإعفاء اللحى، أو بالسواك، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالجهاد أو غير ذلك، فقد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، قال الله تعالى مكفراً للمنافقين الذين صاروا منافقين بسبب استهزائهم بآيات بالله وبآياته ورسوله وبصحابته الكرام، قال الله تعالى عنهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].(133/7)
الحكم بغير ما أنزل الله
ومن أنواع الردة عن الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله، فمن حكم بغير ما أنزل الله وهو يرى أنه أحسن من حكم الله ورسوله وأصلح للناس، أو يرى أنه مخير بين أن يحكم بما أنزل الله، أو يحكم بغيره من القوانين، فهو كافر مرتد عن الإسلام قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وسواء حكَّم القانون في كل شيء أو حكمه في بعض القضايا، ما دام أنه يرى أن ذلك أصلح للمجتمع، أو أنه أمر جائز؛ فهو كافر بالله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم.
وكذلك الذي يطلب التحاكم إلى غير شرع الله منافق، ومرتد والعياذ بالله، فهذا خطر داهم المسلمين اليوم، فإن كثيراً من الحكام نبذوا كتاب الله، واستبدلوه بقوانين استوردوها من الغرب وحكموا بها بين الناس، فيجب على المسلمين أن يعرفوا حكم الله في هؤلاء، ويحكموا به عليهم، ولا يرضوا بفعلهم، قال تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60].
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه، وأحيينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم رد حكام المسلمين إلى الشريعة الإسلامية، اللهم وفقهم لتطبيق الشريعة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(133/8)
ترك الصلاة
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأمرنا بالتمسك بهذا الدين والثبات عليه إلى الممات، وحذرنا من التخلي عنه، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! ومن نواقض الإسلام أيضاً ترك الصلاة يا أمة الإسلام! ومن ترك الصلاة جاحداً لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن ترك الصلاة وهو يقر بوجوبها لكن تركها من باب الكسل فهذا يؤمر بها، ويدعى إليها فإن أبى أن يصلي واستمر على تركها، فهو كافر على الصحيح من أقوال العلماء، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فدلت الآيتان على أن من لم يقم الصلاة لا يخلى سبيله، بل يقتل وليس هو من إخواننا؛ لأنه كافر، قال الله عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] فأخبر أن من جملة الأسباب التي دخلوا بها النار هو ترك الصلاة، وأخبر أنه لا تنفعه شفاعة الشافعين، فدل على أنهم كفار.
وقال صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} أي: العهد الذي بيننا وبين الكفار الصلاة، فدل الحديث على أن الصلاة هي الفارقة بين الكافر والمسلم، فمن لم يصل فليس بمسلم رضي أم سخط.
وقال صلى الله عليه وسلم: {بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة} وهذه نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تدل على كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، ولو كان يدعي الإسلام، ولو كان يقيم مع المسلمين.
وقد كثر اليوم ترك الصلاة وعدم المبالاة بها، مع العلم أن تاركها لا حظ له في الإسلام، بل يستتاب فإن تاب وأقام الصلاة وإلا قتل مرتداً لا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه، بل يصادر ماله لبيت مال المسلمين، وكذلك يجب أن يفرق بينه وبين زوجته المسلمة؛ لأن المسلمة لا تحل لكافر، قال الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
فلا يجوز أن يزوج من مسلمة، ولا يجوز أن تبقى معه مسلمة في عصمته، والآن ما أكثر الذين في حوزتهم نساء مسلمات وهم لا يعترفون بالصلاة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون! لو أن حكم الله نفذ في هؤلاء الذين يتركون الصلاة وطهرت منهم بلاد المسلمين، وبيوت المسلمين لارتدع الناس عن هذه الجريمة، ولم يجد هذا المجرم مكاناً له في مجتمع المسلمين، لكن حينما أغلق المسلمون أعينهم عن هؤلاء، وتركوهم يساكنونهم في بيوتهم، ويتزوجون من نسائهم، صارت جريمتهم من الأمور المعتادة التي لا تستنكر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم لا تصيبنا باللعنة كما أصابت بني إسرائيل لما سكتوا عن المنكرات ورضوا بها، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبنا ما أصابهم.(133/9)
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
أيها المسلمون: لقد كثرت نواقض الإسلام وانتشرت في كثير من البلاد الإسلامية والمجتمعات الإسلامية، منها اعتناق المبادئ الهدامة كـ الشيوعية والاشتراكية والقوميات المناهضة للإسلام، وانتشرت عملية التبشير بالدعوة إلى النصرانية والماسونية اليهودية، فمن استحسن شيئاً من هذه المبادئ، أو أحبها أو دافع عنها أو أعان أهلها على المسلمين؛ فقد ارتد عن دين الإسلام ولحق بالكفار.
فالحذر يا أمة الإسلام! الله الله!! الزموا ثغور الإسلام، فكل منكم على ثغر من ثغور الإسلام فالحذر أن يؤتى الإسلام من قبله، ولنكن على بصيرة من ديننا وبينة من أمرنا؛ لنعرف ما هو الإسلام، وما هي نواقض الإسلام، لنحب في الله لنبغض في الله، لنأمر بالمعروف، لننهى عن المنكر حتى نحذر منها ومن أهلها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم بصرنا بالإسلام، وثبتنا على الإسلام إلى يوم نلقاك، واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أيها المسلمون: أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم اجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، اللهم أدر دائرة السوء على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم خذ أعداء الإسلام وأعداء المسلمين أخذ عزيز مقتدر، اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين الذين يصدون عن سبيلك ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.
اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمر المسلمين أجمعين، اللهم وفقهم وأعنهم على تطبيق الشريعة الإسلامية، اللهم وفقهم وأعنهم على تطبيق الشريعة الإسلامية يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا، اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، نسألك بأسمائك الحسنى أن ترفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العلمين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ,
وقال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(133/10)
هنيئاً لهم
إن الله سبحانه وتعالى حين أنزل هذا الدين على نبيه صلى الله عليه وسلم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، جعل الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أوامر ونواهي اختباراً وابتلاءً للناس، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، ولذلك فاز المؤمنون بطاعة ربهم ورضوانه سبحانه وتعالى وتلهفوا بالشوق إلى ما وعدهم ربهم سبحانه.
ولذلك بين الشيخ في هذا الدرس ما وعد الله به المؤمنين، ومن هم المؤمنون، وما هي صفاتهم، وذكر حال الفريق الآخر المقابل لهم، وما وعدوا به من الوعيد في الدنيا والآخرة، ثم ختم الدرس بتذكر الآخرة واليوم الآخر.(134/1)
ما وعد الله به المؤمنين
الحمد لله، الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله، كم تمر على أسماعنا، وكم نقرأ في آيات الكتاب المبين من قول المولى جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحج:14].
وأيضاً نقرأ ونسمع: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24].
عباد الله: اسمعوا إلى هذه الوعود الطيبة من الكريم المنان؛ ولكن لمن هي يا عباد الله؟ هي لمن آمن بالله وعمل الصالحات، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بفروض الدين كاملة بإخلاص لله رب العالمين، ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اسمعوا إلى ما وعدهم الله به:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وأيضاً: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277].(134/2)
صفات المؤمنين المستحقين للوعد
وأيضاً اسمعوا إلى صفاتهم أيها الإخوة في الله:
قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
أيضاً لهم صفات يا عباد الله، اسمعوا هذه الصفات، أسأل الله أن يجعلنا ممن يتصف بها إنه على كل شيء قدير:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
واسمعوا إلى صفاتهم:
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68].
ولهم صفات أخرى:
قال الله عنها: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
ولهم صفات أخرى:
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
ولهم صفات أخرى:
قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:7 - 8].
إنها صفات طيبة؛ لذلك جزاهم علام الغيوب بما يستحقون من الدرجات العُلا في جنات النعيم.
هنيئاً لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، واستقام على طاعة الله.
هنيئاً له يوم أن يُبعث من قبره، وقد أُعدت له النجائب، واستقبل بالتحف والإكرام.
هنيئاً لهم عندما يُعطَون كتبهم بأيمانهم.
هنيئاً لهم يوم أن تُثََقل موازينهم يوم الحساب.
هنيئاً لهم يوم أن يتجاوزوا الصراط.
هنيئاً لهم يوم أن يردوا على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فيشربون شربة هنيئة مريئة لا يظمئون بعدها أبداً.
هنيئاً لمن أدخله الله الجنة، ونعمه بما فيها من النعيم المقيم، فهو آمن {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:10 - 16].
هنيئاً لهم {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56].
هنيئاً لهم، يفجرون الأنهار، ويَجنون الثمار، {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15].
هنيئاً لهم {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23] قد أمنوا من المخاوف، وسلموا من الأحزان والهموم والغموم والأنكاد، {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر:48].
هنيئاً لهم في الجنة، أمنوا من الموت، وكُتب لهم الخلود في دار سليمة أبد الآباد، عندهم الحور في دار الحبور، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ لأنهم قاموا بخدمة المولى، فرضي عنهم وأرضاهم يوم لقائه.
فيا من يحب أن يُتبع بهم، يا من يحب أن يصحبهم، عليك بطاعة الله، استقم على طاعة الله.(134/3)
حال من أعرض عن الله وجزاؤه
يا من أعرض عن طاعة الله، وابتعد عما يقربه من الله، كيف حالك إذا قدمت على الله يوم القيامة؟!
كيف حال الذين أعرضوا عن ذكر الله يوم الوعيد، الذين قال الله فيهم: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]؟!
كيف حال الذين يتركون الصلاة، ويضيعونها، كيف حالهم يوم القيامة إذا أدخلوا سقر؟! {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [المدثر:27]! إنها نار جهنم!!
كيف حال الذين يأكلون الربا، ويتعاملون بالربا، ويحتالون على الناس؟! كيف حالهم عندما يقومون من القبور كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم يُسحبون إلى نار جهنم؟!
كيف حال الذين يرتكبون جريمة الزنا يوم القيامة؟! كيف حالهم يوم الحسرة والندامة؟!
كيف حال الذين يرتكبون جريمة اللواط؟! كيف حالهم وهم في القبور قد مُسخوا خنازير، ثم يوم القيامة تشتعل بهم النار؟!
كيف حال الذين انهمكوا في المسكرات والمخدرات؟! كيف حالهم يوم القيامة، يوم يُسقون من طينة الخبال؟! وما أدراك ما طينة الخبال! إنها عصارة أهل النار!!
كيف حال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً؟! كيف حالهم يوم يقوم الناس لرب العالمين، وقد تحقق فيهم: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]؟!
كيف حال الذين يمشون بالنميمة، ويغتابون الناس، يوم يُؤخذ من حسناتهم لمن اغتابوا؟!
كيف حال الذين يأكلون الحرام، ويشربون الحرام، ويلبسون الحرام، ويتعاملون بالغش والخداع والمكر والخيانة والكذب؟! كيف حالهم يوم العرض الأكبر على الله؟!(134/4)
دعوة إلى التوبة إلى الله
فيا عبد الله: يا من يريد النجاة يوم الوعيد! بادر بالتوبة إلى الله، بادر بالتوبة إلى الله، قبل أن يتحقق فيك قول الله جل وعلا: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56 - 58]! ففي ذلك اليوم لا يُجاب لهم مطلب، ولا يُسمع لهم كلام، كما أخبر الله في محكم البيان: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28] قال الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
عباد الله! في يوم القيامة تظهر السرائر وتنكشف أمام العالمين، قال الله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:2 - 4].
إن يوم القيامة أمره عظيم، وخطره جسيم، في ذلك اليوم العظيم يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! وينادي رب العزة والجلال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ففي ذلك اليوم لا تسأل عما يحدث من الدمار الكوني، فالأرض تُزَلزل وتُبَدل، والسماء تُشَقق بالغمام وتمور موراً، والشمس تُكَور، والقمر يُخْسَف به، والنجوم تَنْكَدر، وينقطع عِقْدُها، ويذهب ضوءُها، والبحار تُفَجر وتُسَجر، والوحوش تُحْشَر، والنفوس تُزَوج، والجحيم تُسَعر، والجنة تُزْلَف، والخلائق قد جُمِعوا في صعيد واحد، ينفذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، اجتمعوا ليوم الفصل.
يومٌ تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الوِلْدان
عباد الله: علينا أن نستعد لذلك اليوم، علينا أن نبادر بطاعة الله، ونستقيم على ما يحبه الله ويرضاه.
اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم إنا نسألك حسن الختام، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من هؤلاء الصنف.
يوم يجيء المتقون لربهم وفداً على نُجُبٍ من العِقْيانِ
ولا تجعلنا من المجرمين.
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشانِ
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم(134/5)
يوم القيامة وما فيه من أهوال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عزَّ وجلَّ حق تقاته.
عباد الله! تذكروا دائماً يوم القيامة لعل القلوب أن تلين وتَرْعَوِي، وترجع وتنيب إلى الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله! تذكروا يوم يأتي كل واحد منا منفرداً بأحزانه وهمومه وغمومه، فالقلب خائف، والبصر خاشع.
ثم تذكروا عندما تقبل الوحوش منكسة رءوسها.
ثم تذكروا هذه الشمس التي تشرق وتضيء العالم عندما تكور، والقمر عندما يخسف به، والنجوم عندما تتناثر وتنكدر، والسماء عندما تتشقق بالغمام، وعندما تتفتح مثل الأبواب، لينزل من كل سماء ملائكتها؛ ليحيطوا بأهل الموقف.
ثم نتذكر يا عباد الله عندما تدنى الشمس على رءوس العباد، وانضاف إلى حرها كثرة الأنفاس، وازدحام الأجسام، وقد ذهب العرق منهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم فاض عليهم، فمنهم من يبلغ منه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وانضاف إلى ذلك العطش وطول القيام، فلا نوم ولا راحة.
عباد الله! تذكروا عندما يتبرأ منكم الصاحب والقريب، والولد والوالد والأخ، وتقطعت الصلات والأنساب؛ لما في ذلك من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
يُروى {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها فنعس فتذكرت الآخرة، فبكت فسال دمعها على خد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ما يبكيك؟ فقالت: يا رسول الله! ذكرتُ الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن، فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه: إذا وُضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط}.
عباد الله! تذكروا تلك المواقف العظيمة وأنتم وقوف في ذلك العالم، وقد تغير عليكم سماؤه وأرضه، واجتمعتم بالأولين والآخرين على صعيد واحد، الله أكبر يا عباد الله! إنه يوم عظيم، قال فيه بعض العلماء:
مَثِّل لنفسك أيها المغرورُ يوم القيامة والسماء تمورُ
قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رأس العباد تفورُ
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسيرُ
وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما لها مغرورُ
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدورُ
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسيرُ
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمورُ
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهورُ
اللهم ارحمنا بواسع رحمتك، اللهم ارحم وقوفنا يوم العرض الأكبر يا حي يا قيوم، اللهم ارحم عرضنا عليك يوم العرض الأكبر يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا ممن يُعطى كتابه باليمين، اللهم اجعلنا ممن يُعطى كتابه باليمين، اللهم آمن خوفنا يوم الفزع يوم الدين يا رب العالمين.
عباد الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، صلوا عليه وسلموا تسليماً، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين، وكثر الأنين.
اللهم ارحمنا إذا حُملنا إلى القبور، ووضعنا في تلك اللحود، وصُفَّت علينا اللبنات، وحُثي علينا التراب، وتخلينا بها وحدنا، اللهم آنس وحشتنا في القبور، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وارحم غربتنا فيها، وآمن فزعنا يوم الحشر والنشور.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين الذين يفسدون في الأرض ولا يُصلحون.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هُداة مهتدين.
اللهم واجمعنا ووالدِينا ووالدِي والدِينا وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، في جنات الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة، يا رب العالمين.
عباد الله! استيقظوا من رقدتكم، أفيقوا من غفلتكم، أكثروا من ذكر الله، أقبلوا على الله؛ فإن أمامكم القيامة تحتاج إلى زاد واحد، وهو التقوى يا عباد الله، اتقوا الله يا عباد الله، ارجعوا إلى الله، والله ثم والله إنها أمور يؤسف لها عندما نرى المساجد بعد رمضان! كيف انهزمت تلك الصفوف؟! أين ذهبت تلك الصفوف يا عباد الله؟! ألا يراقبون الله؟! ألا يخافون الله الذي أمدهم بالنعم، الذي أمدهم بالصحة والعافية، ورزقهم وأوجدهم؟! ألا يتقون الله؟! ذكروهم يا عباد الله، ذكروهم وقولوا لهم: إن أمامكم هادم اللذات، سوف يهجم عليكم على غرة، ثم تُنقلون إلى القبور، وفي يوم من الأيام تُعرضون على جبار الأرض والسماوات، فكيف حالكم وقد أضعتم فرائض الله؟! فاستعدوا لذلك اليوم يا عباد الله، إنه يوم يشيب منه الوليد، وتضع الحوامل حملها، ويفر الولد من والده, والوالد من ولده، والزوجة من زوجها، والزوج من زوجته، والابن من أمه، والأم من ابنها، إنه يوم عظيم.
اللهم وفقنا للاستعداد لذلك اليوم، اللهم وفقنا للاستعداد لذلك اليوم.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.(134/6)
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد بعث الله رسوله عليه الصلاة والسلام على فترة من الرسل، فكان أول ما بدئ به الرؤيا الصالحة، ثم نزل عليه الوحي وهو في غار حراء يتعبد فيه، ثم أمره الله تعالى بتبليغ الدين، فلقي من قريش أشد الأذية والتكذيب، فجعل يعرض دعوته على القبائل، حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فاستقر فيها حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فاختاره الله إليه في الرفيق الأعلى، فتوفي صلى الله عليه وسلم وهو قرير العين على أمته.(135/1)
البُشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، واشكروه على بعثة هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، وهداكم به من الضلالة، وأخرجكم به من الجهل إلى العلم، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الظلم إلى العدل، إنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بشرت به الأنبياء، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6].(135/2)
نزول الوحي والأمر بالدعوة
أمة الإسلام: لقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، بعثه الله على رأس الأربعين من عمره {فأول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بـ غار حراء فيتحنَّث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود إلى ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثل تلك الليالي؛ حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ -أي لست بقارئ، لأنه أميٌ صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب- قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة وأخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنَّك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن عمها، وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب بالعبرانية، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي، ثم أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]}.(135/3)
مبادرة أبي بكر بالإسلام
قام صلى الله عليه وسلم، بأمر ربه تبارك وتعالى مبشراً ومنذراً، وكان أول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان صديقاً لرسول الله قبل النبوة، فلما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، بادر إلى التصديق، بادر أبو بكر إلى التصديق بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال: [[بأبي وأمي أهل الصدق أنت يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله]] وصار أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه من الدعاة إلى الإسلام حينئذٍ، فأسلم على يديه عثمان والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.(135/4)
مكايد قريش ضد الدعوة
مكث نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً حتى نزل قول الحق تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فصدع بأمر الله تعالى، وجهر بدعوته، فجعل المشركون يسخرون منه، ويستهزئون به ويؤذونه بالقول وبالفعل، وكان أبو طالب يحوطه ويحميه، وتوفي أبو طالب، وتوفيت زوجته خديجة رضي الله عنها، ولقي من المشركين أشد المضايقة، والاستهزاء والسخرية، وكان من أشد الناس له إيذاءً وسخريةً عمه أبو لهب وزوجته اللذان قال الله فيهما: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] واشتد أذى قريش بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بهم من الدناءة والرذالة أن ألقوا عليه فرث الناقة وسلاها، وهو ساجد يتعبد لله بجوار بيته الحرام، ولم يقدر أحدٌ على رفعه عنه، فلم يزل ساجداً حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها، فألقته عن ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم.(135/5)
عرض الدعوة والإذن بالهجرة إلى المدينة
ولما رأى الاستهانة وكثرة الأذى له ولأصحابه، أمر بعضهم بالهجرة إلى الحبشة، وخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، وقابل رؤساءهم وعرض عليهم الإسلام، ورد عليه أهل الطائف رداً قبيحاً، وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه، ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم، ورجع عنهم ومدَّ يد الافتقار إلى العزيز الحكيم، إلى الواحد القهار، إلى ربَّ العزة والجلال، وتضرع إلى الله، أن ينصره وينصر الإسلام، فقيَّض الله له الأنصار، فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعوا منه نساءهم وأبناءهم، عند ذلك وفي ذلك الحين أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، وخلَّف على فراشه علياً رضي الله عنه وأرضاه، ليخرج إلى الهجرة، وقد عزمت قريش وعقدوا في دار الندوة، على أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً وليترصدوا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى يقتلوه قتلةً واحدةً، ويتفرق دمه بين القبائل، فجمعوا أمرهم، ولكن الله أبطل كيدهم، فترصدوا له عند بابه ليفتكوا به إذا خرج، فخرج من بيته يذر على رءوسهم التراب وهو يتلو هذه الآية: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] وخرج رسول الله، ولما خرج وانتبهوا من عماهم ومن نومتهم التي أعماهم الله فيها، نظروا في البيت فإذا فيه علي رضي الله عنه وأرضاه، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج سالماً من شرهم، فخرج هو وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، في شهر ربيع أول , وقد اختفيا في غار ثور ثلاثة أيام، والمشركون يطلبونهم من كل وجه، حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيقول أبو بكر {يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} الله أكبر.(135/6)
استقبال أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى المدينة بحفظ الله ورعايته، بعد أن خرجوا من الغار سالمين، فلما سمع الأنصار رضي الله عنهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلوا يخرجون كل يومٍ إلى حرة المدينة ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النور في إشراقته، فاجتمعوا إلى رسول الله وهم يرددون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
أو كما قالوا رضي الله عنهم في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطين به متقلدين سيوفهم، وخرج النساء والصبيان وكل واحدٍ يأخذ بزمام ناقته يريد أن ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {دعوها فإنها مأمورة} حتى إذا أتت محل مسجده اليوم، وهو المسجد النبوي الشريف، فعندما وصلت ذلك المكان المبارك بركت فيه، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بني المسجد وبنُيت مساكنه.(135/7)
التمكين للدين وموت الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم لما استقر وأذن الله له بقتال الأعداء، وكان في المدينة ثلاث فرقٍ من اليهود، فقاتلهم رسول الله وأجلاهم عن المدينة وطهَّر المدينة منهم صلى الله عليه وسلم، وقاتل الأعداء أعداء الدين من قريش وغيرهم الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فأظهره الله عليهم، وأيده بنصره وبالمؤمنين، ولما أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على المؤمنين، أراد الله أن يختاره إلى جواره في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فابتدأ به المرض في آخر شهر صفر وأول ربيع أول، وخرج إلى الناس عاصباً رأسه، وصعد المنبر، فتشهد وحمد الله وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في غزوة بدر وأحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إن عبداً من عباد الله خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله فلما قال صلى الله عليه وسلم تلك المقالة؛ فهمها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فبكى، وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر} ثم قال: {إن أَمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام ومودته، ثم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس} ولما كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول اختاره الله لجواره، فلما نزل به الموت، جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح به وجهه ويقول: {لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات} ثم شخص بصره نحو السماء وكان يوصي في تلك الحالة الحرجة في آخر أنفاسٍ يلفظها من الدنيا، وهو يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} ثم شخص بصره نحو السماء، وقال: {اللهم في الرفيق الأعلى} فتوفي صلى الله عليه وسلم، وخرجت روحه الشريفة، واضطرب الناس عند ذلك حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: [[أما بعد: فمن كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حيٌ لا يموت ثم قرأ قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]]] فاشتدَّ بكاء الناس، وعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فغسِّل وكفُن صلى الله عليه وسلم في ثيابه، ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها ليلة الأربعاء، صلوات الله وسلامه عليه.
مات وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً وأبداً وسرمداً إلى أن نلقاه على الحوض.
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجمعنا به في دار كرامتك مع المؤمنين والصديقين والشهداء في جنات الفردوس الأعلى.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أمة محمد، أمة الإجابة، القابلة للحق الناهجة على الصراط المستقيم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(135/8)
الآيات والمعجزات المؤيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أيد رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، والآيات البينات، واختصه بالفضائل الكثيرة والكرامات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع المخلوقات، المبعوث رحمةً للعالمين، وقدوة للسالكين إلى رب العالمين، إلى رب الأرض والسماوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(135/9)
معجزة القرآن الكريم
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعرفوا ما أيَّد الله به نبيكم صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات، فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وأبلغ ما أوتيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم، اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين، واشتمل على الفصاحة والبلاغة التي عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين.(135/10)
السنة ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن أعظم ما خلَّف وورَّث لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنته المطهرة، فإن مات رسول الله، فإن سنته حية وباقية إلى يوم القيامة؛ المشتملة على سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه، فكان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأشجعهم في الجهاد، وأصبرهم عند اللقاء وعند الدعوة إلى الله، وأحسنهم مجالسة، وألطفهم مكالمة، وألينهم جانباً، وأبلغهم في جميع صفات الكمال، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، تمسكوا به واقتدوا به يا عباد الله! وعضوا عليه بالنواجذ.
وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، الزموا جماعة المسلمين، وإياكم والتفرق، إياكم والانحطاط.
أمة الإسلام: إن الله عز وجل يأمركم أن تُصلُّوا على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدَّته، اللهم اجزه عن أمة الإسلام خير ما جزيت به نبياً عن أمته، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا؛ وجميع ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم قيِّض لولاة أمور المسلمين جلساء صالحين ناصحين؛ يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين، ولا مبدلين، اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا، وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، في جناتك؛ جنات الفردوس الأعلى، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين! اللهم ارفع عن الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(135/11)
يسروا الزواج
الزواج أصبح اليوم من الأمور المتعسرة عند الشباب، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث ودعا إلى المسارعة إلى الزواج.
والله قد وعد -ووعده الحق- بأن من كان فقيراً وتزوج يريد العفاف، فالله جل وعلا سيغنيه من فضله.
ومن القصص العجيبة: قصة عمر بن الخطاب عندما كان يبحث لابنته عن زوج، وسعيد بن المسيب يزوج ابنته لأحد طلابه الفقراء رغم أنه قد طلبها ابن السلطان.
وينبغي لكل متزوج أن يتجنب الشائعة وأن يبتدئ حياته الأسرية بطاعة الله لا بمعصيته.(136/1)
دعوة إلى المسارعة بالزواج
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الشأن العظيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، واعلموا -يا أمة الإسلام- أن الله جلَّت قدرته ما أنزل القرآن إلا لتعملوا بمحكمه، وتؤمنوا بمتشابهه، وتقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] ففي القرآن كل دلالة على الخير، وكل تحذير من الشر، وإنما تحصل الدلالة على الخير للمؤمنين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
أمة الإسلام! في كتاب الله آية كريمة تعالج مشكلة اجتماعية تكلم عنها العلماء، وأطنب في ذكرها الخطباء، وعاتبني فيها بعض الناس، يقول: إنك لا تتعرض لها، فما هي؟
هي الواقع المرير الذي يعيشه كل ذكر وأنثى محروم من الزواج، تلك هي مشكلة: (الزواج) فهو أمر فطري تدعو إليه الطباع والغرائز، وتترتب عليه عمارة الكون، وقد كان من الواجب أن يصبح أمره ميسراً ليكون باستطاعة كل فرد أن يقدم عليه مهما كان وضعه غنياً أو فقيراً، أميراً أو صعلوكاً، امتثالاً لأمر الله جلَّ وعلا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
ففي الآية الكريمة ندب وحث على تزويج الأيامى، والأيامى: جمع أيم، وهي: المرأة لا زوج لها، والرجل لا زوج له.
وكذلك في هذه الآية الكريمة الوعد الصادق من رب العالمين الذي لا يخلف الميعاد، الوعد بالغنى والخير لمن يتزوج ليريد العفاف.
أيضاً في الآية الكريمة قطع لحجة الذين يقولون: لا نتزوج حتى نحصل على ما يكفل الحياة السعيدة، فهذا ادعاء باطل، فإن الحياة وما فيها من الأرزاق بيد الحي القيوم القادر على كل شيء، وقد أخبرنا نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه: {لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها} فعليك -أيها المسلم- أن تفعل الأسباب، وتستعين بالله -جلَّ وعلا- في طلب الرزق، وتعلم حق اليقين! أن رزق الله لا يأتي به حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ثم ليعلم الماديون -أهل الطمع والجشع- أن الرازق والمعطي هو الله وحده لا شريك له، فإنه قادر أن يغني فقيراً ويفقر غنياً.
فهذا رد على أهل النظرة الخاطئة الذين يقولون: لا نزوج فقيراً يزيده الزواج فقراً لفقره، هذا إذا اجتمع (مجلس الوزراء الداخلي) الأم والأب وبعض الأقارب الذين يريدون أن يمتصوا هذا المهر -مهر هذه الفتاة- ثم يجتمع هذا المجلس على أمر خطير كلٌ يدلي برأيه، هذا يقول: فقير، وهذا يقول: خضيري، وهذا يقول: قبيلي، وهذا يقول: طويل، وهذا يقول: عريض، وهذا يقول: اشترطوا عليه التلفاز، وهذا يقول: اشترطوا عليه الفيديو، وهذا يقول: اشترطوا عليه محلاً واسعاً، ولا نرضى المطرقة ولا نرضى الزرادية.
مع الأسف الشديد من المطرقة؟
هو الأب الذي قضى حياته ليرى هذا الابن سعيداً في هذه الحياة، يكد ليله ونهاره ليجمع له لقمة العيش، ومن هي الزرادية -أو كما يقولون: الكولة-؟
هي: الأم المسكينة التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وضمته في حجرها وجعلته له سريراً، لا تتلذذ بالنوم ما دام هذا الابن صاحياً يتململ، فهي كأنها تحس بهذا الملل، ثم بعد ذلك يشترط هذا المجلس -الذي لا بارك الله فيه- يجتمع فيه الأم والأب وبعض القرابة، ويقولون: لا نريد الشاكوش ولا نريد الكولة.
الله أكبر! أين المسلمون؟ أين الإسلام؟ من هؤلاء الذين يعينون على قطع الأرحام، وعلى قطع الصلة بين القرابة، وعلى عقوق الوالدين؟
إنها مصيبة عظمى يا عباد الله! متى نتخلص من هذا؟ نتخلص من هذا إذا قطعنا المسلسلات الخبيثة التي تحارب الأم والأب، وتحارب تعدد الزوجات، إذا قطعنا هذه المسلسلات التي جرأت الأطفال على السرقة، وعلمتهم شرب الدخان، وعلمتهم ترك الصلاة، وعلمتهم العقوق، ورفع الأصوات على الوالدين، إذا قطعنا هذه المسلسلات ورجعنا إلى رب العالمين؛ فإننا سوف نعرف رشدنا.
أمة الإسلام: إن الزواج أصبح في هذه الأزمنة المتأخرة مشكلة معضلة، وليس هذا عن قلة الفتيات، ولكن عن وجود ما ذكرت لكم من هذه الأمور القاطعة، ومن هذه الأمور التي تعوق الشاب أن يقدم ليحصل على فتاة يعف بها نفسه، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء}.(136/2)
يُسر الزواج عند السلف وعسره في زماننا
عباد الله: لا تنظروا إلى هذه النظرة الخاطئة التي تقول: لا نزوج فقيراً يزيده الزواج فقراً لفقره، بل يجب عليك إذا كنت غنياً قد أمدك الله بالمال أن تبحث لهذه الفتاة عن زوجٍ تقيٍ ديّنٍ أمينٍ عفيفٍ تزوجه هذه البنت، حتى إذا جاءك الأجل مت وأنت قرير العين مرتاحاً.(136/3)
مبادرة عمر بن الخطاب إلى تزويج حفصة
يا عبد الله: هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك، جعل يبحث لـ حفصة بنته، عرضها على عثمان، وعرضها على أبي بكر رضي الله عنهما، ويسر الله لها خير الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم.(136/4)
سعيد بن المسيب يزوج ابنته لأحد طلابه
سعيد بن المسيب سيد التابعين -رحمه الله تعالى- لما انقطع عنه طالب من طلاب العلم، فسأله عن انقطاعه؟
فقال: كنت أمرض زوجتي وتوفيت، فقال: هل تريد أن أزوجك ابنتي؟
فجعل يُفكِّر في أن ابن السلطان طلبها منه فمنعه عنها، وما منعه عنها يريد الدنيا ولا الطمع، ولكنه يريد الدين والعفة، فقال: هل تريد أن أزوجك ابنتي؟
فقبل هذا الطالب، وتأخر ثلاثة أيام يهيئ لهذه البنت المكان، وما درى إلا وسعيد بن المسيب يطرق عليه الباب، وقال: السلام عليكم! قال: من بالباب؟ قال: سعيد، فجعل يفكر من سعيد؟ لأن سعيداً كان من المسجد إلى بيته أربعين سنة، من سعيد؟
قال: سعيد بن المسيب، وفتح الباب، وأدخل عليه زوجته، ودعا له.
الله أكبر يا عباد الله! ليس عيباً أن تبحث لابنتك أو أختك إن كانت يتيمة وكانت في حجرك، ليس عيباً أن تبحث لها عن زوج تقي! نعم.
إنما العيب أن تأتي بالسائق يذهب بها إلى المدرسة وإلى المستشفى وحدها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك أشد النهي، هذا هو العيب -يا عبد الله- إن كنت تعرف العار والعيب.
نعم! تزوج -يا عبد الله- لا يغرك الذين يقولون: لا تتزوج حتى تهيئ البيت السعيد، وحتى تجمع المادة!! لا.
بل تزوج والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقك وتكفَّل برزقك، يقول جلَّ وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].(136/5)
قصص لمن حرم الزواج
يا عبد الله: بادر بزواج هذه الفتاة، حتى تحظى بالأجر العظيم.
يقول لي بعض المشايخ الثقات: زار رجلٌ أختاً له بالمستشفى، وقد تقدم بها السن ولم تتزوج، ولما أراد أن يزورها في آخر لحظة، قالت: اقترب مني يا أخي! فلما اقترب منها، قالت: حرمك الله الجنة كما حرمتني من الزواج، وفاضت روحها، فجعل يطرق الأبواب ماذا يعمل؟ أفتوني أفتوني؟ ولكن هيهات هيهات! فات الأوان يا عبد الله!
ورجل أراد أن يكوي امرأة فيها مرض الجنب، فلما اقترب منها وإذا هي متقدمة في السن، قال: ارفعي ثديك إن كنت ترضعين ولدك، قالت: يا شيخ! أنا لم أتزوج إلى الآن، وحرم الله من حرمني من الزواج من الجنة.
هكذا تدعي عليكم البنات والأخوات وأنتم لا تدرون يا مساكين! أنت أصبحت حياتك أنه إذا ظهر راتبها ذهبت لتأتي به من البنك، وما تدري ماذا تقول لك؟ لعلها تدعو عليك بكل درهم من هذه الدراهم دعوة، وأنت لا تدري يا مسكين!
نعم والله، ما أديت حق الله فيها إذا كنت ربيتها وأدَّبتها فابحث عن زوج لها، لا تأخذ ما صرفته عليها.
بعض الناس يقول: لماذا لا نأخذ من الراتب؟! نأخذ من راتبها وإذا استمتعنا خمس سنوات أو ست سنوات نزوجها، ثم يأتي إنسان يخطبها وقد صارت في السن متقدمة، فهل يقدم صاحب سن العشرين على أم الأربعين؟ لا والله.
إلا إذا كان فيه نقص أو عيب ورده الناس فإنه عند ذلك يفرح ويتزوج بهذه.
وإن كان البعض يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج من خديجة وهي في الأربعين من عمرها وهو صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره نقول: صحيح.
ولكن هل يوجد في زماننا هذا؟
لا يوجد.
تقول المرأة: أريد شاباً وقد تقدمت في السن، وإذا جاء رجل يريد أن يخطب ومعه امرأة، قالوا: لا نريد التعدد، لماذا؟ لأننا سمعنا في فلم أذيع في التلفاز أنه يحارب التعدد وأنه يجلب للزوج الجنون -مع الأسف الشديد- فقاتل الله أعداء الإسلام وأعداء المسلمين كما غزونا فكرياً، قاتلهم الله ثم قاتلهم الله.(136/6)
تعسير الزواج سبب للفتن
عباد الله: اتقوا الله عز وجل، يقول أبو بكر رضي الله عنه: [[أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى]] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[التمسوا الغنى في النكاح]] ويقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة حقٌ على الله عونهم، ومنهم: الناكح يريد العفاف}.
وهذه: {امرأة أهدت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها صلى الله عليه وسلم، وكان عنده رجل جالس، قال: زوجنيها يا رسول الله! قال: هل عندك شيء؟ قال: لا.
قال: التمس ولو خاتماً من حديد قال: ولا خاتماً من حديد -فزوجه بتلك المرأة بأي شيء يا عباد الله؟! - فقال له: تعلمها ما معك من القرآن وهذا مهرها}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير} أي فتنة أكبر من هذه يا عباد الله؟
ففي هذا التوجيه القيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنذار والتحذير من واقعنا المرير الذي وقع فيه الكثير من الناس، من التأخر في الزواج، ومن المتاجرة في الفتيات، والمباهات في المغالات في المهور، حتى أثقل كاهل الشباب، وتقاعسوا عن الزواج، وصار البعض من الشباب -اسمعوا هذه الفتنة، وهذا الشر الكبير، وهذا الفساد الكبير الذي خافه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يفكر إلا أن يحصل على قليل من النقود، فيذهب خارج البلاد ليقضي وطره في تلك البلدان التي فيها الإباحية والزنا واللواط، وفيها مسارح العار والشر المستطير، ثم يرجع حاملاً معه كل فتنة وشر وهلم جرا.
فلو تعاون الشباب وأولياء أمور الفتيات لكان ما ينفق في الفساد خارج البلاد فيه كفاية، أما إذا دام الوضع هكذا الفتيات يحجر عليهن في البيوت، الأب يشترط ألا يزوجها حتى يأخذ قسطاً من راتبها، وهي في البيت، تمر عليها السنون تلو السنين، والشباب يتقلب على جمر نيران الشهوات، أتعبوا السيارات بالتفحيط، وأذهبوا أخلاقهم بما لا يرضي الله ولا رسوله، كل هذا من نار الشهوات التي ثارت في قلوبهم، وأنتم تعلمون ما فتح الله علينا من الدنيا، ومن هذه المأكولات التي تهيج الشباب، والتي تأجج نار الشهوة في الشباب، هذه المأكولات التي لم تمر على أسلافنا من قبل، ولمَّا كان أسلافنا -آباؤنا وأجدادنا- حياتهم دائماً تعب وهم يشتغلون، وطعامهم قليل، لا تراهم يفكرون في الفساد، ترى الرجل منهم يفرح بالساعة التي يرتاح فيها، أما نحن لما كثرت عندنا المأكولات والمشتهيات والفراغ والماديات صار الكثير من الشباب لا يهمه إلا ممارسة الفساد، كيف لا وهو يعيش بين أشرطة الفيديو والسينما والصور الخليعات والمجلات الماجنة؟
التي طالما تمناها أعداء الإسلام لإفساد المجتمع المسلم، والتي يميتون بها القيم والآداب الإسلامية.
هذه المسلسلات يحبذون بها حلق اللحية، يحبذون بها الخنفسة، يحبذون بها التختم بالذهب، وتعليق السلاسل في العنق وغيرها من العادات الآثمة التي تشن حربها على الآداب الإسلامية، وعلى الأخلاق الفاضلة، فمتى نستيقظ يا عباد الله؟! ومتى نرجع؟!
ومتى نفكر أن أعداء الإسلام وأعداء المسلمين هم لنا أعداء، بما ينشرون وما يبثون وما يرسلون؟
متى نستيقظ يا عباد الله؟!
نستيقظ إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلنا حلقاً نتذاكر فيها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالح، فإلى ذلك -يا عباد الله- والمسابقة المسابقة.
هداني الله وإياكم سواء السبيل، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياكم ما يبغضه ويأباه، إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(136/7)
البحث عن الزوجة الصالحة
الحمد لله، أحمده سبحانه وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير} ويقول صلى الله عليه وسلم: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} ذات الدين! لا تطلب التلفاز والسينما والفيديو والخادمة.
يا عبد الله! تشترط عليك بعض النساء إذا أردت أن تتزوجها، تقول: في بداية الأمر خادمة، أين نجعل الخادمة؟ في البيت، وأين أنتِ؟ تذهبين إلى العمل، ثم يبقى الزوج مع الخادمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
فعلينا -يا عباد الله- أن نتنبه لهذه النقاط التي أتانا الشيطان منها ونحن لا ندري.
أوضح صلى الله عليه وسلم في الحديثين السابقين أن الذي يراعى فيه هو جانب الدين، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} وقوله صلى الله عليه وسلم: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة} المرأة الصالحة التي تعينك على طاعة الله، تحفظك إذا غبت عنها، وتدوم عشرتها؛ لأنها إذا ذكرت وعد الله ووعيده ازدادت حباً لزوجها الدَّين المتمسك بدين الله، أما غير ذات الدين؛ فإنك تسمع منها كلاماً لا يرضي الله ولا رسوله، نسأل الله عز وجل أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، إنه على كل شيء قدير.(136/8)
حرمة التبذير في الأعراس
عباد الله: هناك مصيبة عظمى يرتكبها بعض الناس، وهي ما يوجد من الولائم التي تشبه الكثير من الناس فيها بالشياطين؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] ما هو الداعي -يا عبد الله- إلى أن تستأجر هذا الفندق لليلة الزواج؟ هل فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل فعل هذا أبو بكر الصديق؟ هل فعل ذلك عمر بن الخطاب؟ هل فعل ذلك عثمان بن عفان؟ هل فعل ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ لا.
ثم لا.
ثم لا.
إذاً: لأي شيء نرجع؟ نرجع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور} اسمعوا يا عباد الله! الخطاب لكل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول له صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحدثات الأمور، فالذي يقع الآن كله -والله- من محدثات الأمور، ومن البدع التي يحاربها الإسلام.
أيها المسلمون: إن أكثر الناس اليوم تشبهوا بالشياطين، وأسرفوا والله لا يحب المسرفين، فما هو الداعي أيها المسلم لعمل تلك الولائم الهائلة الضارة بالمتزوج؟ هل تعلمون من هو المستفيد من هذه الولائم؟
الجواب
هي الحفر في البر والقفار، وذلك واقع، أكثر الناس اليوم يسرفون ويبذرون ثم يحملونها لإلقائها في تلك الحفر، وربما وضعت في المزابل مع حفائظ الأطفال، هذا واقع المسلمين الآن، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
هل تدري -يا عبد الله- أن لك إخواناً يتمنون كسرة الخبز، يتمون التمرة التي طالما تمنوها وأنت تجعلها في القمائم مع الزبائل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
عباد الله: عاقبة التبذير والبذخ وخيمة وأليمة، ألا فلنتق الله عز وجل، ولنقتصد قبل أن يحل بنا ما حل بالمجاورين من زوال تلك النعم حتى صاروا بعد الشبع جياعاً، ورجعوا إلى ما كانوا يرمونه في براميل النظافة، رجعوا يأكلونه ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأكلوا أشياء لا نذكرها، فكلكم تسمعون عنها وتقرءون في المجلات وغيرها {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعمة، وتحول العافية، وفجاءة النقمة، اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوما، وارزقنا التطبيق لما نسمع يا رب العالمين، اللهم ارزقنا التطبيق لما نسمع، فلعلنا نسمع في الأسبوع القادم -إن شاء الله- أن تكثر مناسبات الزواج، كل أب نصوح يبحث لابنته عن زوج صالح، فأسأل الله أن يحقق ذلك إنه على كل شيء قدير.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، امتثالاً لأمر رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى علي صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أيقظنا من رقداتنا حتى نحذوا حذوا سلفنا الصالح يا رب العالمين، وما ذلك على الله بعزيز، إنما علينا أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد جاءني شاب يقول: أنا من زمن التاسعة في العمر، وأنا أستمع الأغاني حتى بلغت الثامنة عشر من عمري، وجعلت أستمع إلى أغانٍِ شيطانية أجنبية، حتى يقول: لا أعرف معناها، يقول: فصار يداخلني إذا سمعتها مثل القشعريرة حتى أني أبكي من سماع الغناء، أين هذا البكاء من سماع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ولكن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} فاتق الله أيها الأب! خاف الله وراقبه! فإغضابهم في الدنيا أهون من أن يغضبوا عليك أمام رب العالمين، كيف بك إذا تعلق بك الابن، وتعلقت بك البنت، وتعلقت بك الزوجة، يقولون: يا ربنا! ظلمنا رب البيت، يا ربنا! ظلمنا هذا، والابن والبنت والزوجة تقول: ظلمنا، فيقول: يا رب! ما ظلمت، كيف أظلمهم وهو الليل والنهار يكد عليهم ليجد لهم لقمة العيش؟
فيقولون: لا.
ولكنه رآنا على المنكر فلم ينهنا، ولم يأمرنا بالمعروف، فأعدوا لهذا السؤال جواباً، للجواب صواباً.
فكروا يا عباد الله! اعمروا بيوتكم بطاعة الله، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، فإن الله جاعلٌ من صلاتكم في بيوتكم خيراً} ما هذا الخير؟ هو الاقتداء، يقتدي بك أهلك وأولادك، ولكن إذا كان البعض لا يصلي -والعياذ بالله- بعض الشباب الآن يقول: آباؤنا لا يصلون، فإنا لله وإنا إليه راجعون! بعض الأبناء يبكي لماذا تبكي أيها الابن؟ فيقول: أبي إذا رآني أصوم الإثنين والخميس يضربني، ويقول: افطر، حتى لا تكون موسوساً ولا مجنوناً.
مع الأسف الشديد! أنت المجنون الذي تحارب هذه الفطرة، وهذا الخير الكثير، والله لو كانت الهداية تُشترى لاشتريناها ببعض طعامنا، ولكنها بيد الله عز وجل.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم ثبتهم على قول الحق يا رب العالمين، وأجرنا -جميعاً- يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك على كل شئ قدير، اللهم أصلح أحوال المسلمين يا رب العالمين! اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم قيظ لهم الجلساء الصالحين الناصحين، الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا يا رب العالمين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، وأشغلوا أنفسكم بذكر الله تحيا قلوبكم وتقربكم من الله، واشغلوها بالحمد والشكر والثناء على الله، فإن بالشكر تدوم النعم، وبكفرها تزول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(136/9)
يوم الحشر
إن يوم القيامة يوم تقلب فيه القلوب والأبصار، فيه من الشدة والأهوال ما الله به عليم، فهلا تفكرنا في وصف رب العالمين لأهوال هذا اليوم العظيم، وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا اليوم الشديد فتعال بنا أخي الحبيب لنتأمل في هذا اليوم الرهيب في غضون هذه المادة.(137/1)
أهوال يوم القيامة
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، يوم يجمعهم يوم القيامة يوم القارعة يوم تزلزل الأرض زلزالها يوم الحاقة يوم الواقعة، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، أحمدك اللهم وأشكرك، وأسألك أن تظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، القائل: {يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، وتفكروا في يوم النفخ في الصور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70].(137/2)
النفخ في الصور
يصرح القرآن -كلام رب العالمين- بما سوف يكون يوم القيامة, وبما يحصل يوم القيامة، وقيل: ذلك مقدمات، وهن قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وهذه هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم -الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً- بالديمومة والبقاء، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ثم يقول جل وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل, ويأمره أن ينفخ في الصور، وهي النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] الله أكبر! ترانا قياماً ننظر وننفض التراب من رءوسنا أحياءً بعدما كنا عظاماً ورفاتاً, صرنا أحياءً ننظر إلى أهوال يوم القيامة، وما يكون فيها من الأمور العظام، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:1 - 13]-نسأل الله من فضله- {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:13 - 14].
كل هذه الأهوال سوف تحصل في ذلك اليوم الرهيب, الذي تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع فيه الحامل حملها، وتشيب فيه الولدان الصغار، الوليد الصغير الذي لم ينبت له شعر يشيب في ذلك اليوم العظيم، قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].(137/3)
حال المؤمن والكافر يوم العرض على الله
لكن حَانَ وقت الامتحان، وقت العرض الأكبر على الله الذي لا تخفى عليه خافية: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فجاء لفصل القضاء، مجيئاً يليق بعظمته وجلاله ليقضي بين العباد: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة:18] حفاةً عراةً غرلاً بهماً: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ففي هذه اللحظة -عند العرض على عالم السر والنجوى- يتبين الرابح من الخاسر، والناجح من الراسب قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ} [الحاقة:19] رافعاً للكتاب بيمينه: {فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
أسأل الله الكريم من فضله.
يا عباد الله: هل نتفكر في كلام رب العالمين؟! قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ما الذي أسلفوه في الأيام الخالية؟!
هل هو التفريط والتضييع أم طاعة الملك العلام؟!
بل طاعة الله المطلع على السرائر والنجوى، المطلع على ما تخفيه الضمائر، فيا لها من سعادة أبدية، ويا له من فرح شديد بهذه النتيجة التي لا تحصل إلا لمن قام بالواجبات وأتى بالحسنات وعمل الصالحات، وخرج من الدنيا وقد حصل على حسن السيرة والسلوك مع الله؛ لأن الله يعلم السر والنجوى، ففي الدنيا تمشي -وإن كنت فاسقاً- إن كان لك واسطة تعطى حسن السيرة والسلوك، وإن كنت مؤذياً لعباد الله، وإن كنت ظالماً ومفسداً، فإنك تعطى حسن السيرة والسلوك في الدنيا، أما عند الذي يعلم السِّر والنجوى، فإنه لا يعطيك هذا السلوك إلا بعد الامتحان، بعد الطاعة وعمل الصالحات، فقد ورد في الأثر: يعطى المؤمن جوازاً على الصراط، بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان أدخلوه جنة عاليةً قطوفها دانيةً.
الله أكبر يا عباد الله! يعطى المؤمن جوازاً على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنةً عاليةً, قطوفها دانيةً، فهنيئاً، ثم هنيئاً لمن كانت هذه عاقبته يوم يلقى الله، ويا خسارة ويا خيبة من رسب في ذلك العرض الأكبر وأعطي كتابه بشماله! فهو يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27] يقول ذلك وهو يتحسر وإن كان في الدنيا صاحب أموال، أو صاحب جاه، أو أعطي حسن سيرة وسلوك بواسطة الواسطة, فكل ذلك لا يجزي عمن عصى الله، فهو ينادي: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] عند ذلك وبعد أن اطّلع على النتيجة التي استحق بها الإهانة والإبعاد، أمر الله عز وجل الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر، فتنقله، فتغله بالأغلال في عنقه، ثم تسحبه إلى جهنم، فتصليه ناراً حامية وبئس المصير.
وقد ورد في بعض الآثار: أنه إذا قال الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه، فهذا جزاء من عصى الله وتعدَّى الحدود، ولم يقم بحق الله عليه من طاعته وامتثال أوامره والإتيان بعبادته، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] لا يوجد بين الله وبين عباده واسطة، ولا نسب, من أطاعه دخل الجنة، بل أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالنذارة والبشارة، فمن أطاعه أدخله الله الجنة، ومن عصاه أدخله النار، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
اللهم توفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين يا رب العالمين!
أقول قولي هذا وأسال الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يأخذ كتابه باليمين، وأن يدخلنا جنة النعيم إنه على كل شيءٍ قدير، وأسأله بمنه وكرمه أن يتوب علينا توبةً نصوحاً، وأن يغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها, صغيرها وكبيرها, أولها وآخرها، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(137/4)
وقفة مع حديث: (أنا سيد الناس يوم القيامة)
الحمد لله أمره بين الكاف والنون، أي: إذا قال للشيء: كن؛ فيكون, يأمر إسرافيل بنفخ الصور، فإذا هم قيامٌ من الأجداث إلى ربهم ينسلون، أحمد الله الذي لا إله إلا هو, يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشكره على نعمه، وأسأله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في ملكه، ولا في عبادته، ولا في ربوبيته، ولا ند ولا ظهير، ولا معين لله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن أمامكم القيامة وما فيها من الأهوال والأمور الفظيعة، يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، فتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون} يا ليتنا نتفكر في ذلك اليوم، لو تفكرنا في ذلك اليوم؛ لاستيقظنا من رقدتنا، وانتبهنا من غفلاتنا، واقتصدنا في قتل أوقاتنا، يقول صلى الله عليه وسلم: {وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما أنتم فيه إلى ما بلغكم؟ ألا ترون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، ويأتونه، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة, ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيت، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام، فيقول مثلما قال آدم: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقول مثلما قال نوح: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى ويقول مثلما قال إبراهيم: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقول مثلما قال موسى: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم}.
أمة الإسلام: لنحمد الله الذي جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لنحمد الله ولنشكر الله ولنثني على الله، ولنقوم بالواجبات طاعةً لله وشكراً لله, الذي جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولنطيع محمد صلى الله عليه وسلم.
{اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ثم ينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي تحت العرش، ويقع ساجداً لرب العالمين، ثم يفتح الله عليه من المحامد وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطى، واشفع تشفع, فأرفع رأسي وأقول: أمتي يا ربِ أمتي يا ربِ}.
الله أكبر! لا إله إلا الله! يقول أبو هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله}.
{فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى} متفق عليه.(137/5)
الحث على اغتنام الأوقات والمسارعة في الخيرات
فيا عباد الله: اغتنموا الأوقات بصالح الأعمال، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، وسارعوا إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، لا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها دارٌ وصفها الله في كتابه أنها دار غرور، دار متاع قليل، ولعب ولهو وممر وطريق إلى الآخرة، وكما هو الواقع -يا أمة الإسلام- فإن الدنيا دار مملوءة بالأكدار والمصائب والآلام والأحزان، دارٌ ما أضحكت إلا وأبكت، ولا سرت إلا وأساءت، دار نهاية، قوة ساكنها إلى الضعف، ونهاية شبابه إلى الهرم، ونهاية حياته إلى الموت، انظروا إلى أهل الملايين هل يدفن معهم شيء في قبورهم إلا ما قدموه من صالح الأعمال.
عباد الله: سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، واتقوا الله جل وعلا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل هجوم هادم اللذات، ومفرق الجماعات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:102] ما أكثر ما نسمع هذه الآيات في أغلب فرائض الصلوات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ما هو ذلك الغد؟! هو يوم القيامة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] ثم ينهانا جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] ثم فصل جل وعلا كلا الفريقين: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] فلو أنه ما يأتيك من الفوز إلا أنك تنجو من نار حامية, من نار وقودها الناس والحجارة لكفى.
أمة الإسلام: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذ في النار.
عباد الله: إن الله يأمركم أن تصلوا على من هو بأمته رحيم فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} ويقول: {أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلتها فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وقدوتنا وإمامنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى جميع الأصحاب والآل، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، واجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين المفسدين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين نأمر بالمعروف ونأتيه، وننهى عن المنكر ونجتنبه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا، اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين.
اللهم املأ قلوبنا من محبتك، ومن خشيتك، ومن معرفتك، ومن الأنس بقربك، واملأها حكمةً وعلماً يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك حبك, وحب من يحبك, وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة, إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، نسألك بأنا نشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ، ولا غرقٍ، اللهم سقيا نافعةً تحيي بها البلاد وتسقي بها العباد، وتجعلها بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم أحي بلدك الميت, اللهم انشر رحمتك على العباد يا من خزائنه ملأى، ويا من يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ، ولا غرقٍ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ سلم على نبينا محمد.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(137/6)
يوم الفرقان
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيراً لقريش قادمة من الشام بقيادة أبي سفيان، فخرج هو وأصحابه للتعرض لها، فعلم بذلك أبو سفيان، فأرسل إلى قريش يعلمهم الخبر، فخرجت قريش بألف مقاتل، وأراد الله أن يجمع بين الفريقين في معركة يعز الله فيها جنده، ويذل فيها جند الشيطان؛ فالتقى الجمعان على غير ميعاد، وأيد الله رسوله بنصر من عنده، وهزم الأحزاب وحده.(138/1)
غزوة بدر الكبرى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المتقين، أحمده سبحانه وأشكره، الذي أيّد رسوله والمؤمنين بنصره المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبلغ عن ربه البلاغ المبين، والذي جاهد في الله حق جهاده, اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، الذين فتحوا الفتوحات، ومصَّروا الأمصار، حتى انتشر دين الإسلام في كل مكان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: هذا شهر رمضان المبارك، إنه مبارك لما فيه من الخيرات، وهو الذي وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(138/2)
سبب غزوة بدر
وسببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَلَغه أن عِيْراً لقريش أقبلت من الشام بقيادة أبي سفيان، وفيها أموال عظيمة لقريش، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهره حاضراً بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالاً بليغاً، أي: لم يأخذ لها الأُهبة؛ لأنه لم يرد بذلك قتالاً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزميلاه يعتقبون بعيراً، قال علي رضي الله عنه وكانت عُقبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {نحن نمشي عنك يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتما أقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما} واستخلف على المدينة، وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بـ الروحاء ردَّ أبا لُبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، الشاب الذي مات شهيداً في غزوة أحد، ودفع الراية إلى علي رضي الله عنه، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وسار صلى الله عليه وسلم، فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمر الجهني، وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير.(138/3)
خروج قريش لاستنقاذ القافلة
وأما أبو سفيان: فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً بقريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوا عيرهم من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخ أهل مكة، فنهضوا مسرعين، ولم يتخلف من أشرافهم أحد، سوى أبي لهب، فإنه عوَّض عنه رجلاً كان له عليه دين، وحشدوا فيما حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش، إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد، وخرجوا من ديارهم، كما قال الله تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] أقبلوا بحَدِّهم وحديدهم، جاءوا على حَرْدٍ قادرين، على حمية وغضب وحنَق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه رضي الله عنهم، لِمَا يريدون مِن أخْذ عيرهم، وقتْل مَن فيها.(138/4)
استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج للمعركة
ولَمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش، استشار الصحابة رضي الله عنهم، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ، فقال: [[يا رسول الله! كأنك تعرِّض بنا]] وكان في البيعة إنما بايعهم على أن يحموه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم صلى الله عليه وسلم ليعلم ما عندهم، فقال سعد رضي الله عنه: [[لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئتَ، وحِل حيث شئت، وصِلْ حبل من شئتَ، واقطع حبل من شئتَ، وخذ من أموالنا ما شئتَ، واعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركتَ، وما أمرتَ فيه من أمر فأمرنا تبع لأمركَ، فوالله، لئن سرت بنا حتى تبلغ البِرْكَ من غمدان، لنَسِيْرَنَّ معك، ووالله لئن استعرضتَ بنا هذا البحر، خضناه معكَ]].
وقال أيضاً المقداد رضي الله عنه -وهو من المهاجرين-: [[لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك]] فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُر بما سمع من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال صلى الله عليه وسلم: {سيروا، وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيتُ مصارع القوم} فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر.(138/5)
نجاة القافلة وإصرار قريش على القتال
أما أبو سفيان فلحق بساحل البحر ونجا بالعير، ولما رأى أنه قد نجا كتب إلى قريش: "أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم"، فأتاهم الخبر وهم بـ الجحفة، فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل لعنه الله: والله لن نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، ونشرب الخمور، وتغني على رءوسنا القينات، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك -الحمد الله الذي رد كيده في نحره، وجعله من أذل الناس- فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع، فعصوه، فرجع هو وبنو زُهْرة، فلم يشهدوا بدراً، فلم يشهد بدراً زُهْرِيٌُّ، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأي الأخنس، وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل برأيه الأعمى الفاسد، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع، فسار المشركون سراعاً يريدون الماء.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وسعداً والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقَدِموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألَهُما أصحابُه: من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فكره ذلك أصحابه رضي الله عنهم، وودوا لو كانا لعير أبي سفيان، ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال لهما: {أخبراني، أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب، فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ -أي: كم يذبحون من الذبائح؟ - فقالا: يوماً عشراً -عشراً من الْجَزور- ويوماً تسعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بفراسته- القوم ما بين تسعمائة إلى الألف}.(138/6)
تأييد الله المؤمنين بإنزال المطر
وفي ذلك اليوم أنزل الله عزَّ وجلَّ مطراً، فكان على المشركين وابلاً شديداً، منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهّرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطَّأ به الأرض، وصلَّب به الرمل، وثبَّت به الأقدام، ومهَّد به المنزل، وربط به على قلوبهم، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الماء؛ وذلك بمشاورة بعض الصحابة رضي الله عنهم، فنزلوا عليه شطر الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، وبُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه على تل يُشرف على المعركة، ومشى في مواضع المعركة، وجعل يشير بيده: {هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى}.(138/7)
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه وتأييد الله المؤمنين بالملائكة
فلما دنا المشركون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر، فاستقبل نبي الله القبلة.
ثم مدّ يديه إلى القوي العزيز العلي العظيم، وجعل يهتف بربه: {اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض} فما زال يهتف بربه مادَّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرده على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: [[يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك]] فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] فأمدَّه الله بالملائكة، واستنصر المسلمون بالله، واستغاثوا بالله، وأخلصوا لله، وتضرعوا لله، فأوحى الله إلى ملائكته: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] فنَعَس رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، وأخذ القوم النعاس، في حال الحرب، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فقال: {أبشر يا أبا بكر! هذا جبريل على ثناياه النقع -أي: على ثناياه الغبار- يقاتل في سبيل الله} وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.(138/8)
الرسول صلى الله عليه وسلم يحث على القتال والصبر والثبات
ولما دنا العدو، وتواجه القوم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً، فوعظهم وذكَّرهم، بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظفر العاجل، وثواب الله الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، فقام عمير بن الحمام رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم.
قال: بخٍ بخٍ يا رسول الله! قال: ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها, قال: فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال رضي الله عنه: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قُتل} فكان أول قتيل في غزوة بدر.
ثم حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وذلك بإيحاء من الله- ملء كفه من الحصباء، فرمى بها وجوه القوم، وقال: {شاهت الوجوه} فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينيه، ومنخريه، وفمه، واشتغلوا بالتراب في أعينهم، وشُغل المسلمون بقتلهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في شأن هذه الرمية، على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] , وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم.
وانتهت المعركة، وقد أعز الله جنده، وانهزم المشركون وتساقطوا بأيدي المسلمين، منهم سبعون صريعاً، ومنهم سبعون أسيراً.(138/9)
أحداث ما بعد معركة بدر(138/10)
مصرع أبي جهل
ولما بردت الحرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ينظر لنا ما صنع أبو جهل} فانطلق ابن مسعود رضي الله عنه، ووجده قد ضربه ابنا عفراء، شابان تعاونا على أبي جهل، فضرباه بسيفيهما رضي الله عنهما شابان لم يستعدا من شهر شعبان بالمكياج، والثياب الضيقة، والشعور الطويلة، حتى يتعرضا لنساء المسلمين في الأسواق التجارية في رمضان، في شهر الله المبارك- شابان أتيا على أبي جهل بسيفيهما، فضرباه، فخرَّ صريعاً على الأرض، لم يكونا مثل شبابنا الذين استعارهم بعض التجار ليكونوا في مقدمة المحلات ليغروا بهم النساء، ليسحبوا بهم النساء مع الأسف الشديد, والحزن المرير، والموت الفتاك، الذي قضى على الغَيرة وعلى الحياء، فإنا لله وإنا إليه راجعون! والله إن بعض التجار يستأجر بعض الشباب، ويختار الشباب الجرد المرد الحِسان، وإذا لم يجد في هذه البلاد استقدم من البلاد الأخرى، حتى يجتلب بهم النساء، ويجعلهم في مقدمة المحلات، فما هو العذر -يا عبد الله- للذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعطي النساء ضحكة وابتسامة وكلاماً، ويقول: هذه هدية، وهذا لكِ دَين مؤخر، حتى يتعرف على المرأة ويجتذب المرأة بأسلوبه الخبيث، بأسلوبه الخاطئ، الذي أسأل الله جلت قدرته أن يهديهم ويبعدهم عن نساء المسلمين، أو يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إنه على كل شيء قدير.
ثم لا ننسى أن أهل المحلات الذين يصفون تلك الملابس حتى تعلو رأس المرأة، ثم تكون المرأة خلف تلك الصفوف من الملابس، ويحادثها ويمازحها، ويلمِّسُها، ويقبلها، وولي أمرها جالس في السيارة، أو مع السائق، والسائق معه طفل يحمله، والمرأة داخل المحل، يخاطبها صاحب المحل، يلمِّسُها، ويقبلها، والولي جالس في السيارة، أو مع زملائه، يلعب البَلُوْت، والكِنْكان، أو مع الخادمة في بيته، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!.
يا أمة الإسلام! أين الغَيرة؟!
أين الغَيرة يا أمة الإسلام؟!
هل دفنتم الغيرة؟!
هل ذبحتم الغَيرة؟!
أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن يأتينا أبناء فارس والروم فيغزونا ويقتلونا بسلاحهم الفتاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
نعم، ابنا عفراء، هما اللذَان قتلا أبا جهل، فخرَّ فرعون هذه الأمة صريعاً، وأتى إليه ابن مسعود رضي الله عنه، وهو لا يزال في رمق من الحياة، وأخذ ابن مسعود بلحيته - ابن مسعود الذي يقول فيه رسول الله، وهو دقيق الساقين: {إنهما لأثقل من أحد في الميزان} - يأتي فيعلو صدر أبي جهل، ويمسك بلحيته، ويحز رأسه بالسكين، ويأتي به، ويضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: [[الله أكبر! الله أكبر! الحمد لله الذي صدق وعده, ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده]] فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {انطلق، أرنِيِه} فانطلقنا، فأريته إياه، فقال: {هذا فرعون هذه الأمة، الحمد لله}.(138/11)
وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً القتلى
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: {بئس عشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس} يقصد: الأنصار رضي الله عنهم، ثم أمر بصناديد قريش، أمر بالصرعى، أمر بالقتلى الذين قُتلوا في سبيل الشيطان، فسُحبوا إلى قليب من قُلُب بدر، فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم، فقال: {يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا فلان! ويا فلان! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيَّفوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب} ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثاً، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً والعرصة: هي البقعة الواسعة بغير بناء.(138/12)
رجوع الرسول إلى المدينة
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم مؤيَّداً منصوراً، قرير العين بنصر الله له، ومعه الأسرى والمغانم، فلما كان بـ الصفراء، قسّم الغنائم، وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة؛ لأنه كان يؤذي المسلمين، ثم لَمَّا نزل بـ عرق الضبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط؛ لأنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤذي المؤمنين، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيَّداً مظفراً منصوراً، قد خافه كل عدو له بـ المدينة وحولها.(138/13)
مصير أسرى بدر
وأما الأسرى: فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة فيهم، وكان سعد بن معاذ قد ساءه أمرهم، وقال: [[كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين، وكان الإثخان في الحرب أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال]] وقال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: [[أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل -أي: أخيه- فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان -يقصد: قريباً لـ عمر - فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها]] وقال أبو بكر رضي الله عنه: [[هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية, فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام]] فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفدية، فكان أكثرهم يفتدي بالمال من أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم، ومنهم من افتدى بتعليم صبيان أهل المدينة الكتابة والقراءة، ومنهم من كان فداؤه إطلاق أسير عند قريش من المسلمين، ومنهم من قتله النبي صلى الله عليه وسلم لشدة أذيته للمسلمين، ومنهم مَن مَنَّ عليه بدون فداء للمصلحة.
هذه غزوة بدر يا أمة الإسلام! انتصرت فيها فئة قليلة على فئة كثيرة {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران:13] انتصرت الفئة القليلة؛ لأنها قائمة بدين الله، تقاتل لإعلاء كلمة الله, لا للوطنية، ولا للشعبية، ولا للعروبة، ولا ولا؛ تقاتل لإعلاء كلمة الله، لم تستعن بأحد من الأجانب، إنما استعانت بالله الحي القيوم، فنصرهم الله على أعدائهم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، يا حي يا قيوم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(138/14)
فضل العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(138/15)
تحري ليلة القدر في العشر الأواخر
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واغتنموا مواسم الخيرات، واستغلوها بما يقربكم من الله تعالى، فهذا شهر رمضان، قد ذهب منه الثلثان، ولم يبق منه إلا الثلث، فتداركوا ما بقي منه بصالح الأعمال، بقي منه العشر الحسان، التي ترجى فيها ليلة القدر، التي قال الله فيها: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] قال بعض العلماء رحمهم الله: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها.
ألف شهر -يا عباد الله- ثلاثة وثمانون عاماً، وأربعة أشهر، فالعمل في هذه الليلة لمن وفقه الله خير من العمل في ثلاثة وثمانين عاماًَ وأربعة أشهر.
في الحديث الصحيح: {تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان} ولن تظفر -يا عبد الله- بهذه الليلة إلا إذا قُمتَ ليالي العشر كلها، فقد أخفى الله جل وعلا علمها على العباد رحمة بهم؛ ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة، بالصلاة، والذكر، والدعاء، فيزدادوا تقرباً إلى الله تعالى وثواباً، وأخفى الله ليلة القدر في ليالي العشر اختباراً للعباد، ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها ممن كان كسلاناً متهاوناً، يقول صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
عباد الله: اغتنموا هذه الأوقات الفضائل.(138/16)
سنة الاعتكاف في العشر الأواخر
عباد الله: اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدَّ المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها}.
فمنها: الاعتكاف: فإنه كان يداوم عليه في العشر الأواخر حتى توفاه الله تعالى، يطلب فيها ليلة القدر، وكان يحتجز حصيراً يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم ولهذا ذهب إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المعتكف لا يُستحب له مخالطة الناس، ولا حتى لتعليم عِلم، بل الأفضل له الانفراد بنفسه، والتخلي بمناجاة ربه، وذكره، ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد؛ لئلا يترك به الجمعة والجماعات؛ فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهي عنها، لذلك [[سئل ابن عباس، ترجمان القرآن، وحبر هذه الأمة عن رجل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد الجمعة والجماعة، فقال: هو في النار، ثم سأله السائل بعد شهر، فقال: هو في النار]].
أمة الإسلام: عليكم بالخلوة المشروعة لهذه الأمة، وهو الاعتكاف في المساجد، خصوصاً في شهر رمضان، وبالأخص في العشر الأواخر منه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله، وعكف بقلبه وقالِبه على ربه، وما يقربه منه، فما بقي له همٌ سوى الله، وما يرضيه عنه؛ فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الاعتكاف يأمر بخباء، فيُضرب له في المسجد، يخلو فيه بربه عزَّ وجلَّ، فإذا صلى الفجر دخله، وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده، وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان الضرورية، وكان يُخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة، فترجله وتغسله، وهو في المسجد، وهي حائض، وكان بعض أزواجه تزوره وهو في معتكفه، فإذا قامت لتذهب قام معها يوصلها، وذلك ليلاً، ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف، لا بقبلة، ولا بغيرها، كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف ووجهه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكَف موضع عِشْرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، وربما أتى بعضهم بتلفاز، وربما بعضهم أخذ الجريدة اليومية، فهذا لونٌ، والاعتكاف النبوي لون آخر.
لله در القائمين بليلهم يدعون رباً للقليل شكورا
قوم أقاموا للإله نفوسهم فكسا وجوههم الوسيمة نورا
تركوا النعيم وطلقوا لذاتهم زهداً فعوضهم بذاك سرورا
قاموا يناجون الحبيب بأدمُعٍ تجري فتحكي لؤلؤاً منثورا
ستروا وجوههم بأستار الدجى ليلاً فأضحت في النهار بدورا
وإذا بدا ليل سَمِعْتَ أنينَهم وشَهِدْتَ وَجْداً منهمُ وزفيرا
يخافون من النار ويرجون من الله الجنة.
تعبوا قليلاً في رضا محبوبهم فأراحهم يوم المعاد كثيرا
الله أكبر! هؤلاء الرجال، ما عرفوا التمثيليات، ولا الأفلام، ولا البَلُوْت، ولا الكِنْكَان.
مع الأسف الشديد كيف يقضي بعض الناس أوقاتهم في ليالي رمضان؟!
النساء: في التبرج.
وكبار السن: قد عكفوا على البَلُوْت، والكِنْكَان، إلا من رحم ربك, والشباب: عكفوا على الكرة وغيرها, والأطفال: لا تسمع لهم إلا الصيحات في الشتائم واللعنات مع الأسف الشديد.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور, اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا، وأيقد في قلوبنا نار الغيرة ومحبتك، يا رب العالمين؛ حتى نعرف قدر هذه الأشهر المفضلة، ونرجع إليك يا ربنا.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، الذي ترككم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوا عليه وسلموا تسليماً، فقد أمركم بذلك رب العزة والجلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك، وكرمك، وإحسانك، يا رب العالمين.
اللهم يا واحدٌ أحد، يا فردُ يا صمد، يا حيُّ يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا عليُّ يا عظيم، يا حليمُ يا عليم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والزيغ والفساد.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، يذل فيه أهل الخنافس، وأهل المغازلة، الذين آذوا الناس في أعراضهم، وفي بناتهم، وزوجاتهم، وفي بيوتهم بهواتفهم.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والزيغ والفساد والعناد، يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه, اللهم اجعلنا وإياهم ممن يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه.
اللهم قَوِّ دعائم الأمر بالمعروف، اللهم قَوِّ دعائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, اللهم من وقف أمام أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فخذه -يا رب- أخذ عزيز مقتدر، وأرح منه البلاد والعباد، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، والتبرج والسفور، وجميع الفتن التي ظهرت في أسواقنا، وفي بيوتنا، وفي قلوبنا، يا رب العالمين.
اللهم رب محمد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام اغفر لنا ذنوبنا، وأذهب غيظ قلوبنا، وأجرنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: أكثروا من ذكر الله عزَّ وجلَّ، اذكرو الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وأكثروا من سؤال الله الجنة، وتعوذوا بالله من النار، وأكثروا من الاستغفار.
اللهم تُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم, اللهم صلَِّ على نبينا محمد.(138/17)
استقبال شهر رمضان [1]
شهر رمضان شهر التوبة والغفران، تضاعف فيه الحسنات، وتغفر فيه السيئات، وترتفع فيه الدرجات وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، فينبغي الاستعداد له بما يحبه الله ويرضاه.(139/1)
فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غرة وجه العام، وأجزل فيه الفضائل والإنعام، وشرف أوقاته على سائر الأوقات، وفضل أيامه على سائر الأيام، وخصه على سائر الشهور بمزيد من الفضل والإكرام، وعمر نهاره بالصيام، ونوَّر ليله بالقيام، أحمده وأشكره على إحسانه العام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُتفرد بالكمال والتمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تَهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(139/2)
اختصاصه بالصيام ونزول القرآن فيه ومضاعفة الحسنات
فيا عباد الله! أمة الإسلام! يطل عليكم بعد أيام قليلة شهر كريم، وموسم عظيم، خصه الله تعالى على سائر الشهور بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه القرآن العظيم، والذكر الحكيم، وفرض صيامه على أمة الإسلام، شكراً على هذا الإنعام والفضل العميم، جعل صيامه أحد مباني الإسلام التي لا يقوم على غيرها ولا يستقيم.
وسن لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم قيامه، وهو شهر الخيرات والبركات، شهر إجابة الدعوات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات، شهر الإفاضات والنفحات، شهر إعتاق الرقاب الموبقات، شهرٌ لا يُعدل به سواه من الأوقات.
الحسنة فيه بألف حسنةٍ فيما سواه، والفريضة فيه تعدل سبعين فريضة لمن تقبل منه مولاه.
فيا ذوي العقول السليمة، والهمم العالية، والمطالب الرفيعة السامية، اغتنموا أوقات شهر رمضان بالجد قبل فواتها، واعزموا على هجر البطالات.(139/3)
فضل من صامه وقامه لله
عباد الله! استقبلوا شهر رمضان بنية واحتساب، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فيما صح عن أنه قال: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}.
أمة الإسلام! لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: {قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب الجحيم, وتُغَل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم}.
ذُكر في بعض الآثار: أن لله تعالى موضعاً حول العرش يسمى: حظيرة القدس، وهو من نور، وفيه ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عزَّ وجلَّ يعبدون الله لا يفترون ساعة، فإذا كانت ليالي رمضان استأذنوا ربهم عزَّ وجلَّ أن ينزلوا إلى الأرض، ويحضروا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم صلاة التروايح، فكل من مسهم أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، لما سمع عمر رضي الله عنه ذلك قال: [[نحن أحق بهذا الفضل والأجر]] فجمع الناس على صلاة التراويح رضي الله عنه وأرضاه.(139/4)
شهر رمضان موسم خير
نعم يا عباد الله! إن شهر رمضان الذي اختاره الله عزَّ وجلَّ زمناً لنزول القرآن، وانطلاقة الإيمان، وفرق فيه يوم بدر بين الحق والباطل، وانتقلت فيه الأمة من أمة حيرى متلطخة بأدران الوثنية، إلى أمة مستنيرة مهتدية بنور الإيمان، تتلقى تعاليمها من السماء بواسطة الوحي إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، لا تدين إلا لله الواحد القهار وحده لا شريك له، وحينئذٍ ومنذ أن وُجد هذا الشهر، ونزل فيه القرآن في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر، وبركاته تتوالى على المسلمين، فلقد حصل فيه يوم الفرقان، يوم بد ر، يوم غزوة بدر الكبرى، التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، حصل في رمضان فتح مكة، الذي دخل الناس بعده في دين الله أفواجاً، فكما كان موسماً وزمناً لتلكم الفضائل والعبادات والوقائع الإسلامية، فهو لا يزال ولن يزال موسم إفضال وإنعام، موسم تحولٍ من غفلة وصدود إلى انتباه وإقبال على الله، موسم تحولٍ من رذيلة إلى فضيلة، موسم تحولٍ من تمادٍ وانهماك في الماديات، إلى تحليق في سماء الروحيات.
وحري بهذه الأشياء أن توجد من نفس صاحبها نفساً روحية تحلق به في الدنيا مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, وفي الآخرة مع الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70].
فاتقوا الله أيها المسلمون! واشكروه على ما منَّ به عليكم من إدراك هذا الشهر الكريم، والموسم العظيم، وتلقوه بنية صادقة، وعزم على الرشد، ورغب واستبشار، تلقوه بنفوس متهيئة لاستقباله بالتوبة الصادقة النصوح، والتطهير الشامل الكامل، بالعزم على فعل الفضائل، ومجانبة الرذائل.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، الملك المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام.
أهل علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ووفقنا للصيام والقيام يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(139/5)
الاستعداد لرمضان
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(139/6)
الاستعداد لرمضان بالتهيؤ للطاعة لا للمآكل والملاهي
فيا عباد الله! اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله! قد اقتربت أيام شهر رمضان المبارك الذي يستعد له الجميع.
فالمسلمون المؤمنون الصادقون يتأهبون لزيادة صلتهم بالله، عن طريق الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وسائر القربات إلى الله، فمن قام بهذه الأعمال بإخلاص نية لله عزَّ وجلَّ محتسباً الأجر، فقد تاجر مع الله، وسوف يربح غداً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما الذين يستعدون لشهر رمضان باللهو والسهر والمتعة، ويعدونه شهر مجون وخلاعة، وشهر تنوع للمأكولات والمشروبات، فهؤلاء قد أسرتهم شهواتهم، وقيدتهم الذنوب والمعاصي، فلم يزدادوا بهذا الشهر المبارك إلا بُعداً عن الله عزَّ وجلَّ.
أمة الإسلام! إن العبودية الصادقة لله عزَّ وجلَّ تعني أن يشعر المرء بالحب والذل والخضوع لله سبحانه وبحمده، وبهذا الحب والخضوع والذل، يخلِّص الإنسانُ نفسَه لخالقه جل وعلا، فيلتزم بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ولا يمكن أن يأتي عملاً يُفقِد عبادتَه لله، أو يحبط عمله الصالح الذي يبتغي به وجه الله سبحانه وبحمده؛ لذلك فإن المسلم الصادق ينتهز فرصة شهر رمضان ليجدد إسلامه، ويستوثق الإيمان، ويقوم بطاعة الله عزَّ وجلَّ.
أمة الإسلام! لنحي شهر رمضان بقلوب مملوءة بالإيمان والحب، فنقول: أهلاً بك يا شهر رمضان، أهلاً بك يا شهر الصيام والقيام، أهلاً بك يا شهر تلاوة القرآن, أهلاً بك يا شهر عمارة المحراب، أهلاً بك يا شهر الرحمة، أهلاً بك يا شهر المغفرة، أهلاً بك يا شهر العتق من النيران.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! إنه لا يخفى على الجميع ما أُصِبْنا به من موت إمام المسلمين خالد بن عبد العزيز، فلا يسعنا إلا أن نصبر ونسلِّم للقضاء والقدر، ونقول كما أمرنا الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
اللهم اجعل الولاية في عقبه خير ولاية، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، وأكرم نُزُله, ووسع مُدخله، وغسِّله بالماء والثلج والبرد، واجزه عن المسلمين خير الجزاء؛ لما قام به من جُهد وأداه من واجب.
اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره، اللهم أصلح ولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، والجلساء الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، الذين يذكرونهم ما نسُوا، ويعينونهم إذا ذَكَروا، يعينونهم على الخير ويحذرونهم من الشر.
اللهم وفقنا وإياهم لفعل الخيرات وترك المنكرات، والتمسك بالكتاب والسنة يا رب العالمين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، ولا تجعلنا وإياهم ضالين ولا مضلين.
اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولوالدِي والدِينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(139/7)
استقبال شهر رمضان [2]
صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، وينبغي للصائم أن يحفظ صومه عما يجرحه، وأن يعمره بالطاعة، وأن يجتنب المعاصي والذنوب، فإن الحكمة من الصوم أن يغرس الصائم في نفسه خلق التقوى، ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.(140/1)
الحث على الصلاة
الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وأنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين هديه حجاب، أحمده وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بأجل العبادات وأكمل الآداب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(140/2)
الحفاظ على الصلاة وفي جماعة
فيا عباد الله! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وراعوا آداب الصيام، وحافظوا عليها، وقوموا بما أوجب الله عليكم من العبادات القولية والفعلية، التي من أهمها وآكدها الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام، والتي هي بمنزلة الرأس من الجسد، حافظوا عليها، وقوموا بأركانها وواجباتها وشروطها، أدوها في أوقاتها، في بيوت الله مع جماعة المسلمين فإن ذلك من التقوى، التي من أجلها شُرع الصيام، وفرض على الأمة، وإضاعة الصلاة منافٍ للتقوى، وموجب للعقوبة.
مع الأسف الشديد أن من الصائمين من يتهاون بصلاة الجماعة مع وجوبها عليه، وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالصلاة مع الجماعة في حال القتال والخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن أولى وآكد.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخص له صلى الله عليه وسلم، فلما ولى دعاه وقال: {هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب} رواه مسلم.
فلم يُرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الجماعة مع أنه رجل أعمى وليس له قائد.
أمة الإسلام! هناك مكبرات للصوت، وإذاعة تنقل الأذان، فلقد عظُمَت الحجة علينا يا أمة الإسلام.(140/3)
من آثار ترك الجماعة
عباد الله! إن تارك الجماعة مع إضاعته الواجب قد حَرم نفسه خيراً كثيراً، فإن صلاة الجماعة مضاعفة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة}.
تارك الجماعة تفوته مصالح اجتماعية، منها:
غرس المحبة والألفة.
تعليم الجاهل.
مساعدة المحتاج.
تارك الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما -أي: من الأجر- لأتوهما ولو حبواً}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
نعم يا أمة الإسلام! وعيد شديد من رسول الله، فيا ليت رسول الله يرى في رمضان تلك الصفوف المتراصة، ثم بعد رمضان تختفي كأن لم تكن أتت إلى المساجد، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وبئس القوم من لا يعرفون الله إلا في رمضان.(140/4)
آداب واجبة على الصائم
عباد الله: من الآداب الواجبة على الصائم:(140/5)
آداب مأمور بفعلها
أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله ورسوله، من الأقوال والأفعال، فيجتنب الكذب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّاباً} متفق عليه.
كذلك يجب على المسلم أن يجتنب الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، سواءٌ كان فيه ما تقول أم لم يكن، ولقد نهى الله عنها ورسوله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدروهم، فقال: {من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم}.
كذلك يجب على المسلم أن يجتنب النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس بطريق الإفساد، ويكفي فيه وعيداً أن النمام لا يدخل الجنة.
كذلك يجب على المسلم أن يجتنب الغش في جميع معاملاته، فإن الغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ نبينا صلى الله عليه وسلم، من فاعل الغش فقال: {من غشنا فليس منا}
والغش خديعة، وخيانة، وضياع للأمانة، وفقد للثقة بين الناس، وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام، لا يزيد صاحبه إلا بُعداً من الله.(140/6)
آداب تتعلق بأمور يجب تركها
عباد الله! أمة الإسلام! أمة لا إله إلا الله! يا من كنتم خير أمة أخرجت للناس! اجتنبوا المعازف بجميع أنواعها، واحذروا من سماعها، فإنها تنبت في القلب النفاق، وهي بريد إلى الزنا، وتزداد تحريماً وإثماًَ إذا اقترنت بأصوات مثيرة وأغانٍ شريرة، تدعو إلى الشر والفساد، يقول ربنا جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] الآية.
صح عن ابن مسعود، وعن كثير من العلماء، أن هذه الآية نزلت في الغناء والمزامير.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، في معرض التحذير من المعازف، وقَرَنَها بالزنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف} رواه البخاري.
فالحِرَ: هو الفرج، والمراد به الزنا.
فمعنى يستحلون: أي يفعلونها فعل المستحل لها بدون مبالاة، وقد وقع هذا في هذا الزمان المظلم، فكان من الناس من يستعمل هذه المعازف، وهذه الأغاني والأفلام، والتمثيليات كأنها شيء حلال، اعتاض كثير من الناس بالأغاني والمعازف وعن ذكر الله، وعن مهام دينهم، وعن مهام دنياهم، وأصبح الكثير من الناس يستمعون لها أكثر من استماعهم للقرآن والأحاديث، وكلام العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فاحذروا أمة الإسلام، احذروا أيها المسلمون، احذروا نواقض الصوم ونواقصه، وصونوه عن قول الزور، والعمل به، وليكن عليكم وقار وسكينة، وليكن يوم صومكم ويوم فطركم سواء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(140/7)
التحذير من المعاصي في رمضان
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(140/8)
جريمة الإفطار من غير عذر
فيا عباد الله! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، اتقوا رب العالمين، اتقوا المطلع على السرائر وما تخفيه الصدور، واحذروا من الإفطار في نهار رمضان من غير عذر شرعي، احذروا فالله عزَّ وجلَّ يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه.
أمة الإسلام! يقول الإمام الذهبي رحمه الله: تقرر عند المؤمنين أن من ترك صوم رمضان بلا مرض، فهو أشر من الزاني، وأشر من مدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه؛ لأنه ترك ركناً من أركان الإسلام، ويظنون به الزندقة والانحلال.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أُسس الإسلام، من ترك واحدةً منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان} قال الذهبي: صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر له، وإن صامه}.
فيا أمة الإسلام! أجيبوا داعي الله إن كنتم مؤمنين، وادخلوا دار الصوم راشدين، واحرصوا على شعائر الدين، واحذروا من البدع في الدين، واحذروا أن تكونوا من المستهترين، الذين فسدت قلوبهم، وضلت عقولهم، وساءت أخلاقهم، فأفطروا في رمضان من غير عذر شرعي، وأعرضوا عن الرحمن، وهدموا من الإسلام الأركان، وأحلهم دار البوار {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:29].
اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاًَ لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل.
اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين لإعلاء كلمتك يا رب العالمين، اللهم انصرهم بنصرك، اللهم ثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا، وولاة أمورنا، وأرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ولوالدِينا ولوالد والدِينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(140/9)
اللواط [1]
لقد نكل الله تعالى بقوم لوط وسامهم في الدنيا سوء العذاب جزاء اقترافهم أقبح الجرائم وأشنعها بعد الإشراك بالله، ألا وهي جريمة اللواط، تلك الجريمة التي يقشعر من ذكرها الجلد، ويندى لها الجبين، وتنبو عنها الأسماع، وتنفر الطباع.
ولقد كان حكم الشريعة الإسلامية في مرتكبي هذه الجريمة أن يقتل الفاعل والمفعول به.(141/1)
فاحشة قوم لوط
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأنعم به من دينٍ! أحل الله به الحلال وحرم الحرام، أباح الطيبات وندب إليها، وحرم الخبائث ونهى عنها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل على عبده الكتاب المبين، فيه البشارة والنذارة، والوعد والوعيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: جاء في القرآن الكريم ذكر أمة من الأمم لها فعلٌ وخيمٌ لم تسبق إلى مثله، إن تلك الأمة جاءت بعارٍ شنيع فعُيرت بذلك الفعل الوخيم، وعذبت به عذاباً سُطِّر خبره في كتاب الله عز وجل؛ ليكون تحذيراً للأمة الإسلامية؛ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أدراك ما تلك الأمة التي فعلت تلك الجريمة الشنعاء، التي يقشعر من ذكر جريمتها الجلد، ويندى لها الجبين؟
إنهم قوم لوط؛ الذين أخبر الله عنهم في كتابه المبين حيث قال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80] فهي فاحشةٌ عظيمةٌ ووخيمةٌ، كيف لا؟! والله يذكرها في مواضعٍ من كتابه بذكر وتصريح فتشمئز منها القلوب، وتنفر عنها الطباع أشد نفرة، ألا وهو إتيان الرجل رجلاً مثله! فيقول الله جلَّ وعلا: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81] والإسراف هو: مجاوزة الحد، ثم وصف الله جل وعلا تلك الأمة بوصفين في غاية القبح، فقال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74] وسماهم مفسدين، وسماهم ظالمين، والآيات فيهم في كتاب الله كثيرة معلومة.
عباد الله! إنه ليس في المعاصي مفسدةٌ أعظم من مفسدة اللواط، فهي كبيرةٌ عظيمةٌ وفاحشةٌ شنعاء، وهي التي تلي مفسدة الكفر، ولم يبتلِ الله بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين، فلهذا عاقبهم الله عقوبة لم يعاقب بها أمةً غيرهم.(141/2)
عقاب الله لقوم لوط
أيها المسلمون: لقد جمع الله على قوم لوط أنواعاً من العقوبات منها: الإهلاك، وقلب ديارهم وخسفها بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، وطمس أعينهم، وعذبهم وجعل عذابهم مستمراً، فنكل بهم نكالاً لم ينكله أمةً سواهم، وما ذاك إلا لعظيم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عُملت عليها، وتهرب الملائكة من أقطار والسماوات والأرض إذا شاهدوها؛ خشية نزول العذاب على أهلها، فيصيبهم معهم، وتعج الأرض إلى ربها، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها لشناعة هذه الجريمة.(141/3)
عقوبة من عمل عمل قوم لوط في الإسلام
ثم إن شريعة الإسلام جاءت بأرقى الآداب وأسمى الأخلاق، ونحمد الله الذي اختار لنا الإسلام ديناً، واختار لنا محمداً رسولاً، واختار لنا القرآن دستوراً، ولما كانت تلك الجريمة تتنافى مع الأخلاق والآداب، وتغضب الجبار جل وعلا، جاء فيها وعيدٌ شديدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به} وسئل ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية، قال: يرجم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط} وفي الحديث: {إذا كثرت اللوطية؛ رفع الله يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا}.
وروى الطبراني والبيهقي: {أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخطه، قلت: يا رسول الله! من هم؟ قال: المتشبهون من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، والذي يأتي البهيمة، واللوطي}.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن اللوطي إذا مات من غير توبة، مسخ في قبره خنزيراً]] لذلك حرّم كثيرٌ من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيتٍ ودكان، وما ذاك إلا لخوف الوقوع في هذه الفاحشة العظمى.
وورد في الحديث القدسي: {النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس من تركه مخافتي؛ أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه} ولما كانت الخلوة بالأمرد من الأسباب الداعية إلى الوصول إلى تلك الجريمة الشنعاء؛ حرمه العلماء، وهذا سفيان الثوري رحمة الله عليه لما دخل عليه في الحمام صبي حسن الوجه، قال: أخرجوه عني فإني أرى مع كل امرأةٍ شيطاناً، ومع كل صبي بضعة عشر شيطاناً.
فهؤلاء هم أرباب القلوب الحية، الخائفون أن تزل قدمٌ بعد ثبوتها.
أيها المسلمون: إن جريمة اللواط جريمة شنعاء وفاحشةٌ عظيمةٌ، ولذلك اختلف في كيفية قتل هذا المجرم الذي عَمِلَ عَمَل قوم لوط، فروي عن الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه أحرق رجلاً يعمل عمل قوم لوط بعدما استشار من اجتمع عنده من الصحابة رضوان الله عليهم، وكذلك أحرق بالنار من عمل عمل قوم لوط ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهشام بن الوليد، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[يرمى من أعلى شاهقٍ في البلد منكساً، ثم يتبع بالحجارة]].(141/4)
حكم توبة اللوطي
ومن تاب تاب الله عليه، وقد استقرت حكمة أحكم الحاكمين وأعدل العادلين أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد ضمن الله تعالى لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبِّدل سيئاته حسنات، وهذا حكمٌ عامٌ لكل تائب من الذنب إذا أقلع وتاب إلى الله، وعزم على عدم العودة إلى الذنوب، فإن الله يتوب عليه، والله يقول وهو أصدق القائلين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] ويقول الرب الرحيم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70 - 71].
فهذا رب العالمين يحث المسرفين على التوبة، ويدعو العصاة إلى أن يطرقوا باب الكريم الرحيم التواب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} [الزمر:53] ارجعوا إلى الله، وتوبوا وأنيبوا إليه ما دمتم في وقت الإمكان قبل أن ينزل هادم اللذات ومفرق الجماعات، فتقول نفس: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
اللهم ارزقنا توبةً نصوحاً تطهر بها قلوبنا وتمحي بها ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(141/5)
ضرورة التحذير من عمل قوم لوط
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، المحذر من سخطه وعصيانه، الناصح لأمته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، وخذوا على أيدي سفهائكم وأطروهم على الحق أطراً، وحذروهم من فاحشة اللواط، وحذروهم من الجريمة الشنعاء التي تشمئز منها القلوب، وتقشعر منها الجلود، وأعلموهم أن أهلها ومتعاطيها على خطرٍ عظيمٍ من عذاب الله عز وجل العاجل والآجل؛ كما أخبر الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: مطبوق: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
قال قتادة وعكرمة رحمهما الله: يعني ظالمي هذه الأمة، وما هذا العذاب من ظالمي هذه الأمة ببعيد.
فهؤلاء قوم لوط ما أجار الله منهم ظالماً، بل جعلهم آيةً للعالمين، وموعظةً للمتقين، وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، وجعل ديارهم في طريق السالكين، وأمر جبريل عليه السلام فأدخل جناحه تحت منازلهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها وأمطرت عليهم حجارةٌ من سجيل، وكانت تلك القرى فيما ذكر أربع قرى، وقيل: خمس فيها أربعمائة ألف، وما يعجز الله من شيء، فقلبها عليهم وما يتبعها من الضواحي فنسأل الله العفو والعافية.
ويروى في الحديث: {لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا أدبار النساء، وتصيب طوائف من هذه الأمة حجارةٌ من ربك} فلما عتوا وتمردوا واستمروا على العمل الخبيث، أخذهم أمر الله وهم نائمون، وجاءهم بأسهم وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما يكسبون.
تقلبوا على تلك اللذات طويلاً، فأصبحوا بها يعذبون، ورتعوا مرتعاً وخيماً، فأعقبهم عذاباً أليماً، فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم، وبكوا على ما أسلفوه، فجرت دموع الدم، ويقال لهم وهم إلى العذاب يسحبون: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24] {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فاتقوا الله -عباد الله-: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، وخذوا على أيدي السفهاء وذودوهم عن مراكع الهلكة، فإنكم عنهم مسئولون أمام الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وصلوا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله؛ امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً؛ صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على من بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اقمع أهل الشر والفساد والعناد الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم اقمعهم، اللهم اكبتهم، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، وما يئوون إليه من الفساد واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين! اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين!
اللهم جنبنا وإياهم جميع المنكرات، وجميع الفواحش ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين!
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين -يا رب العالمين- غير ضالين، ولا مضلين، ولا مفتونين، ولا مغيرين، ولا مبدلين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط، والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوفٌ رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(141/6)
اللواط [2]
إن اللواط من أخطر الفواحش على الفرد والمجتمع؛ لأنها محاربة لله بالمعاصي وخلع لجلباب الحياء والمروءة، وتخل عن صفات أهل الرجولة والشهامة، وتحل بصفات البهائم، ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجريمة الشنيعة، وأجمع العلماء على تحريمها وكل أمر ووسيلة تؤدي إليها، وقد ذكر الله في القرآن قصة قوم لوط وما جمع عليهم من أنواع العذاب، وماذاك إلا لشناعة هذه الجريمة وقبحها.(142/1)
التحذير من اللواط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وانتهوا عما نُهيتم عنه لعلكم تفلحون.
عباد الله: تكلمنا في الجمعة الماضية عن الشق الأول من الفواحش القبيحة وهي فاحشة الزنا ذلك المرض الخلقي الخبيث، وحديثنا في هذا المقام عن الشق الثاني وهي جريمة اللواط.
عباد الله: إن اللواط يعتبر من أخطر الفواحش على الفرد والمجتمع، تلك الفاحشة النكراء والمصيبة العظمى التي تسلب الرجولة سلباً، وما أقرب اللواط من القاذورات والأوساخ!! وما أبعده عن الرجولة والذوق السليم!!
إن هذا الفعل المشين يعبر عن الفوضى الخلقية في أوسع حدودها، وعن الهمجية في أبشع مظاهرها.
عباد الله: من عمل عمل قوم لوط، فقد حارب الله تعالى بالمعاصي، وخلع جلباب الحياء والمروءة، وتخلّى عن شعائر وصفات أهل الشهامة والرجولة، وتحلّى بصفات البهائم، بل إن البهائم أفضل منه، فلا نجد حيواناً ينكح ذكراً مثله، نعم.
فالحيوان مفطورٌ على النفور من هذا العمل الدنيء، وناهيك برذيلة تعف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة عاقل رشيد؟! فيكون أسفل من الحيوان همة، وأنتن من الجيفة، فمن كان هذه حاله، فهو من أكثر الناس خزياً وذلاًً، فبعداً له وسحقاً.
روى ابن حبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله من عَِملَ عَمَل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط} وروى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا كثر اللوطية، رفع الله عز وجل يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا}.
وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى رجلاً، أو امرأةً في دبرها}.
هذا واللوطية في هذه الأمة على أصناف ثلاثة:
صنف ينظرون.
وصنف يصافحون.
وصنف يعملون ذلك العمل الخبيث.
فاتق الله يا عبد الله! واحذر أن تكون واقعاً في أحد هذه الأصناف، فتهلك من حيث لا تشعر، واحفظ جوارحك عن الحرام.(142/2)
التحذير من مخالطة المردان
هذا وقد أجمع العلماء على تحريم النظر بشهوة إلى الشباب المردان والنساء الأجنبيات، عملاً بقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ولهذا بالغ الصالحون في الإعراض عن الشباب المردان وعن النظر إليهم وعن مخالطتهم ومجالستهم، قال الحسن بن ذكوان رحمه الله: لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور العذارى، وهم أشد فتنةً من النساء، وقال بعض التابعين: [[ما أنا بأخوف على الشاب الصالح من سبعٍ ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه]] ومعنى كلامه رحمه الله: قد لا أخاف على الشاب الصالح من السباع الضارية بقدر ما أخاف عليه من الشباب الصغار، خوفاً من الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
وتحرم الخلوة بالشاب الأمرد في نحو بيتٍ، أو دكان، أو نحو ذلك كالمرأة، بل من المردان من يفوق النساء بحسنه، فالفتنة به أعظم، ولأنه يتيسر في حقه من طرق الريبة والشر ما لا يتيسر في حق المرأة، لاضطرار المخالطة، فهو بالتحريم أولى.
وأقوال السلف في التنفير عنهم، والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر، فقد نهوا عن مجالستهم ومصاحبتهم، ولو كان الرجل صالحاً.
قال بعض التابعين: [[إذ رأيتم الرجل يحب النظر إلى الأمرد، فاتهموه في دينه]] وقال سفيان الثوري: [[إني أرى مع كل امرأةٍ شيطاناً، ومع كل صبيٍ بضعة عشر شيطاناً]] وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله ومعه صبيٌ حسن الوجه، فقال له: من هذا منك؟ فقال الرجل: هو ابن أختي.
قال: لا تأتي به إلينا مرة أخرى، ولا تمش معه في طريق، لئلا يظن بك من لا يعرفك ويعرفه سوءاً.
وقال هشام بن عبد الملك رحمه الله: لولا أن الله تعالى ذكر فعل قوم لوطٍ في القرآن ما صدقت أن ذكراً يركب ذكراً.
فيا من هو واقعٌ في هذا الداء الخطير، إن حبك لهذا الشيء يدل على فساد طبعك وهبوط ذوقك، وإنك بهذا قد أغضبت ربك ونشرت الرذيلة في مجتمعك، وفقدت رجولتك، وإن متعاطي هذا الفعل الذميم لا يوثق به أن يخلو ولو ببهيمة.(142/3)
قبح اللواط في الشرع والفطرة
وقد اختلف رجلان في قبح اللواط، هل هو قبيحٌ من جهة الشرع فقط أو الطبع فقط، أو أن قبحه من الناحيتين الشرعية والفطرية، فحكَّما بينهما رجلاً لم تتدنس نفسه بهذا المنكر، وارتضيا أن يكون حكمه فاصلاً بينهما.
اسمع يا من ابتليت بهذا الداء الدفين، الذي يحصد الرجولة حصداً إلى ما قال هذا الرجل الحكيم، إن كان لك قلبٌ يعي، أو أذنان تسمع بهما.
قال: شيء أفر منه في الطريق إذا رأيته، فكيف أدخل عليه في وكره؟(142/4)
أضرار اللواط وعقوبة أهله
وأن مما يسببه هذا الفعل المشين: الانحطاط الخلقي، والتأثير على أعضاء التناسل، والإصابة بالأمراض الرهيبة التي تنتقل عن طريق التلوث بالمواد البرازية، ولهذا كانت عقوبة متعاطيه شديدة؛ لعظم المعصية، قال صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به} ولهذا أجمعت الأمة على قتل الفاعل والمفعول به إذا كان راضياً سواء أكانا محصنين، أو غير محصنين، وإنما اختلفوا في كيفية قتلهما، فمنهم من رأى إحراقهما، ومنهم من رأى ضربهما بالسيف، ومنهم من رأى إيقاعهما من أعلى مكان في البلد، ثم يتبعان بالحجارة كما فعل الله بقوم لوطٍ الظالمين، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83].
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا وقلوب المسلمين عامة من أدران الذنوب والمعاصي، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(142/5)
قصة قوم لوط وعقاب الله لهم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اعلموا أنه كان فيمن مضى قبلكم من الأمم أمة كاملة بشبابها وشيبها أصيبت بهذا الداء الخطير -المعروف باللواط- حتى أصبح يُمارس في مجتمعاتهم وأنديتهم، وهم أول من سن هذا العمل القبيح على وجه البسيطة الذي يسمى في الوقت الحاضر بالشذوذ الجنسي، ولقد استشرى الشذوذ بينهم، واشتهروا بهذا العمل الخبيث حتى إنه لم ينج منهم ضيفٌ، أو غريب، أو عابر سبيل، فأرسل الله إليهم نبيه لوطاً عليه السلام، يدعوهم إلى الطهر والعفاف، ويحذرهم من شؤم المعصية وسوء العاقبة، فلم يصغوا، بل صموا آذانهم، وسخروا منه، وأجابوه إجابة كل مجتمع جاهلي يسمي الفضيلة رجعية، ويسمي الاحتشام تأخراً، ويسمي الالتزام بالإسلام تعصباً، ويسمي الدعارة فناً، ولم يعبئوا بنصح لوط عليه الصلاة والسلام، بل لجوا في طغيانهم يعمهون: {قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29].
فأرسل الله تعالى ملائكته لإنزال العذاب بهم، فجاءوا إلى نبي الله لوطٍ عليه السلام في صورة ضيوف من البشر، وجاء أهل المدينة يستبشرون وأرادوا الفاحشة منهم، فقال لهم نبي الله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] ويريد بذلك نساء القرية بالزواج الحلال، قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:79 - 81] لأنها كانت كافرة وتخبر القوم بمن أتى إلى لوط، ثم قال الله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:81 - 83] أي: من هذه الأمة إذا فعلوا فعلهم، فأهلكهم الله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35].
ولقد ذكر الله تعالى عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سورٍ من القرآن، وجمع عليهم من العذاب مالم يجمعه على قوم قبلهم، جمع بين عمى الأبصار، وخسف الديار، والقذف بالأحجار، ودخول النار، وقال محذراً لمن عمل عملهم، وصفاً لما حل بهم من العذاب الشديد: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] فتذهب اللذات وتبقى الحسرات، وتفنى الشهوة وتبقى الحسرة.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الخزي والعار
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذةٍ من بعدها النار
هذا وفي نفس الطريق الذي أدى بقوم لوطٍ إلى الهواية يتبعهم الغرب ومن سار على نهجهم اليوم بحضاراتهم المادية الجنسية حذو النعل بالنعل، وقد يعجب الإنسان ويتساءل: لِِمَ لَمْ تجرِ عليهم سنة الله في قوم لوط؟ وهو سؤال ينم عن صفة العجلة في الإنسان، قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] وإذا أردت معرفة الإجابة، فتدبر قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر:21].
هذا وصلوا على النبي المصطفى، -نبيٍ ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه- امتثالاً لأمر ربكم حيث يقول جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين!
اللهم أصلح ووفق ولاة أمور المسلمين، وارزقهم المستشارين الأمناء الناصحين، اللهم أصلح أولاد المسلمين، وجنبهم جلساء السوء من الفجرة والفاسقين، اللهم اجعلنا من الذي إذا أحسنوا؛ استبشروا، وإذا أساءوا؛ استغفروا، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا؛ لنكونن من الخاسرين.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، وفرج كرب المحزونين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضى المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(142/6)
التعجيل بالتوبة [1]
من أعظم الواجبات التي تتوقف صحة إيمان المسلم عليها: الإيمان باليوم الآخر، وعليه تتوقف سعادته أو شقاؤه، فعلى المسلم أن يستعد لذلك اليوم بالإيمان الصادق والعمل الصالح والمسارعة بالخيرات قبل أن يفجأه الموت؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، فهو في نعيم أو عذاب إلى أن ينفخ في الصور وتعرض الخلائق يوم العرض الأكبر للحساب والعقاب، فإما إلى جنة عرضها السماوات والأرض أو إلى نار وقودها الناس والحجارة.(143/1)
الإيمان باليوم الآخر
الحمد لله الذي أوضح سبل هدايته لأرباب ولايته وأدنج، وحرك أهل عبادته إلى التوبة النصوح وأزعج، وأدى بدائع قدرته في محكم صنعته وأخرج، وينزل إلى السماء الدنيا، فينادي العباد: أين الذي بالمناجاة والاستغفار يلهج؟ ليجيب الدعوات، ويغفر الزلات، ويعطي المسئولات، وهو أهل الكرم والسماح، الذي لا يخيب من رجاه، ولا يطرد من عصاه إذا تاب مما جناه وأناب، هو المعروف بالربوبية المتفرد بحقيقة الوحدانية، فسبحانه من إله مطلع على الضمائر يعلم ما تكن وما تعلن! أحمده على ما يسر لعباده من الأمور، وأشكره وأثني عليه بما صرف من المكروه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والصلاح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: إنه لا يتم إيمان المسلم إلا بعد أن يؤمن باليوم الآخر، وهو يوم القيامة، سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره} واليوم الآخر هو يوم القيامة.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:9 - 10].
أمة الإسلام: حقٌ على كل إمام، أو واعظ، أو مرشد أن يبين للأمة الإسلامية خطر يوم القيامة، لأن البعض من الأمة الإسلامية كاد أن يغفل عن يوم القيامة، والبعض منهم كاد أن ينكر يوم القيامة، نعوذ بالله، عياذاً بالله من سوء الخاتمة.
عباد الله: حقاً إن أمر القيامة عظيم، وشأنها جسيم، وموعدها قريب، فإن من مات قامت قيامته، وانتقلت روحه إلى الجنة أو إلى النار، ونال جسمه في قبره نعيمٌ أو عذاب، فالقبر إما روضةٌ من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
تذكر -يا أخي المسلم- إذا أهل عليك إخوانك المسلمون التراب، إذا صفوا عليك اللبنات، وأهلوا عليك التراب، وتركوك وحيداً فريداً في قبرك، فنعيم القبر أو عذابه حقٌ ثابتٌ للبدن والروح، ثابتٌ في الكتاب والسنة، وبإجماع الأمة، وهو من الإيمان بالغيب الذي لا ينكره إلا ملحد معاند، وقد استعاذ نبينا صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر، وأمرنا بالاستعاذة في كل صلاة بعد التشهد.(143/2)
أهوال القيامة
إذا تمت المدة المقدرة لهذا العالم، وتمت مدتهم في قبورهم، أمر الله جل وعلا إسرافيل بنفخ الصور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] أي: ماتوا إلا من شاء الله، ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل بنفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر كيف حالنا إذا قمنا ننفض التراب عن رءوسنا؟ {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً فرادى كما خلقوا أول مرة، ليس معهم شيء سوى أعمالهم من حسنات أو سيئات.
إنه يوم القيامة، يوم يقرع القلوب هوله، يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3] فسرها الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5] الجبال التي تضرب بالديناميت فيعجز عنها البشر أن يدكوها إلا بعد زمن طويل، وإذا قامت القيامة، صارت كالعهن المنفوش، وتدنو الشمس من رءوس الخلائق، ويشتد الحر، ويعظم الهول، في يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، في يوم القيامة تبرز الخلائق لله الواحد القهار، والملائكة محيطةٌ بهم صفاً صفاً.(143/3)
انقطاع الصلات والعلائق
إنه يوم عظيم يتناسى فيه الحبيب حبيبه وتنقطع الأنساب، ويتبرأ الأنساب، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يوم القيامة يومٌ يشيب فيه الولدان لشدة هوله، يوم القيامة يوم تضع الحوامل فيه حملها، يوم تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، إنه يوم ما أطوله حيث يقدر بخمسين ألف سنة! {كَلاَّ إِذَا دُكَّت الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23] يتأسف على عمره الذي أمضاه في الحياة الدنيا، يتذكر وأنى له الذكرى؟!
إنه يوم عظيم يجاء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك يجرونها، لها تغيظ وزفير، في ذلك اليوم العظيم يحاسب الله عز وجل الخلائق ويجزي كلاً بعمله {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] من أين له ذلك اليوم أن يرد المظالم؟! فأعطوا الناس حقوقهم؛ لأن في يوم القيامة يفرح أهل الحقوق بحقوقهم ذلك اليوم، وفي ذلك اليوم العظيم يعطى كل إنسان نتيجة، وهم متفاوتون في ذلك الموقف العظيم منهم المسرور الفرح، ومنهم المغموم الترح.(143/4)
حال أهل النعيم
أما المؤمنون، فتبيّض وجوههم وتثقل موازينهم بالحسنات، ويردون حوض نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، الحوض الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً، يمرون على الصراط على حسب أعمالهم في السرعة وعدمها، قال الله تعالى {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] يا الله من فضلك! وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فتتلقاهم خزنتها يسلمون عليهم، ويهنئونهم بسلامة الوصول إلى دار النعيم والسلامة من عذاب الجحيم، يهنئونهم بما في الجنة من الخلود الأبدي في ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، من نعيم القلوب والأرواح والأبدان، وتمام ذلك أن يحل عليهم الرب جل جلاله رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ويقال لهم: إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً.
ولهم نعيمٌ أجل من ذلك وأعلى، وهو التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع خطابه والابتهاج برضاه، عند ذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].(143/5)
حال أهل الجحيم
أمة الإسلام: يا من تريدون النجاة من النار! وتزحزحون عنها، وتدخلون الجنة عليكم بالعمل الصالح، الله الله جدوا بالمسابقة إلى طاعة الله، فإن طريق الجنة يسير على من يسره الله عليه، هو الإيمان الصادق بالله، والعمل الصالح، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وامتثال الأوامر وتطبيقها، ليس الإشارة بالصدر كما يقول بعض الجهال: التقوى هاهنا، صحيح التقوى هاهنا ولكن كل إناء بما فيه ينضح، إذا كانت التقوى في القلب، وإذا كان القلب فيه تقوى وإيمان، فإن الإيمان ينضح على الجوارح، بالإيمان الصادق، والعمل الصالح، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، والتوبة النصوح من جميع الذنوب في جميع الأوقات، والإنابة إلى الله تعالى في كل وقت وحين، وكثرة ذكره ودعائه واستغفاره حتى تنجوا من مأوى الكفار والمجرمين والمشركين والعصاة والملحدين، فإنهم يخرجون من قبورهم قلقين فزعين مرعوبين خائفين يحملون أوزارهم على ظهورهم، ألا ساء ما يزرون، فيحاسبهم الله على ما أسلفوا من الجرائم، ويخزيهم بين الخلائق، فتسوّد وجوههم، وتخف موازينهم من الحسنات، ويعطون كتب أعمالهم بشمائلهم، ويساقون إلى جهنم جياعاً عطاشاً، قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] هل ينكرون: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72] ويقول الله لهم أيضاً بعدما يسألونه بعد حين طويل: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ففي ذلك الحين يأخذون في الزفير والشهيق، وييأسون من كل خير، ومن كل فرج وراحة، ويتيقنون الخلود الدائم والعذاب الأبدي المستمر.
ما أشد شقاءهم يا عباد الله! وما أعظم عناءهم! ينوع عليهم العذاب، ينوعون بالسعير المحرق لظهورهم وبطونهم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] وتارةً بالزمهرير الذي بلغ من برده أن يهري اللحوم، ويكسر العظام، وتارةً يعذبون بالعطش والجوع المفزع، ثم يسقون ويطعمون بالغسلين والزقوم والضريع، ومع ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
بسم الله الرحمن الرحيم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1 - 7] الفرق البين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:8 - 16].
اللهم نجنا من النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار! اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه من صالح الأعمال يا رب العالمين! وجنبنا ما تبغضه وتأباه من سيئ الأعمال يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(143/6)
العرض للحساب في القيامة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشكره، وأسأله المزيد من فضله العميم، وأعوذ به من نار الجحيم، وأسأله من فضله جنات النعيم إنه على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه المسارعين إلى الخيرات، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، فقد حذركم من أليم عقابه، وتوعد العاصين بالنار، فاحذروا عباد الله النار! احذروا يا عباد الله النار! فإنه لا صبر لكم عليها، ولا مهرب لكم عنها ولا فرار، ولن ينجيكم منها إلا تقوى الله عز وجل، لن ينجيكم من النار إلا تقوى الله عز وجل، لن ينجيكم من النار إلا تقوى الله عز وجل والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: بينما الناس في كرب القيامة وأهوالها إذْ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأطلت عليهم نارٌ ذات لهب، وسمعوا لها تغيظاً وزفيراً من شدة الغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وعاين الظالمون سوء المنقلب، وخرج المنادي قائلاً: أين فلان بن فلان المسوف نفسه بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبتدرونه بمقامع من حديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وما فيه من الزمهرير والصديد، فعياذاً بالله من النار، وما فيها من العذاب.(143/7)
التحذير من النار
روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} وري عن سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، حتى لو أن رجلاً في أقصى السوق لسمعه، وسمع أهل السوق صوته وهو على المنبر حتى وقعت خميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه}.
رواه الإمام أحمد.
اعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض الله عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات الأرض يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يستجاب له.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على الكافرين الذين يعدون العدة على دينك وعلى أمة الإسلام، اللهم حاربهم بعدلك وقوتك يا رب العالمين! اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، فأنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم أصلح إمام المسلمين، وأئمة جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، واجعلهم قرة أعين لوالديهم يا رب العالمين! اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك، اللهم انصر بهم دينك يا رب العالمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم حبب إلينا الإيمان جميعاً وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين! {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، واسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اللهم أرسل السماء علينا مدراراً، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ، ولا غرق، اللهم أغث عبادك، اللهم أغث عبادك، اللهم احيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(143/8)
التعجيل بالتوبة [2]
لقد توعَّد الله تعالى المعرضين عن التوبة والإنابة إليه بالعذاب الأليم؛ وأمر عباده بالمبادرة بالتوبة قبل حلول الأجل ونزول الموت.
والتوبة النصوح هي: الندم المثمر بالإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة إليه.(144/1)
المبادرة بالتوبة قبل حلول الأجل
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، أحمده وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أقوم الناس طاعةً بفعل المأمور وترك المحظور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل ما دمتم في وقت الإمهال، وبادروا بالتوبة النصوح قبل حلول الآجال، قبل إسبال الحجاب وطي الكتاب على ما فيه، بادروا قبل طلوع الشمس من المغرب، فإنها آية من أكبر الآيات الدالة على قيام الساعة، فبادروا بالتوبة -يا عباد الله- امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] رب العالمين يناديكم يا عباد الله! أرحم الراحمين يناديكم باسم الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
ما هي التوبة النصوح؟
هي: توبة صادقة جازمة، تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب، وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات، فإن العبد إذا تاب وأقبل على الله، وندم على ما فات، فإن الله وعده بقبول توبته، فقال وقوله الحق: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ} [الشورى:25] سبحان الله العظيم! لا إله إلا الله {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25].
ومهما عملت أيها العبد من الذنوب والخطايا، ثم تبت منها، فإن الله يغفرها ولا يبالي، فاسمع قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فبادر يا أخيّ! بادر استجابةً لله عز وجل، بادر بالتوبة والإنابة، فإن الله يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] فالمصيبة إذا حلَّ العذاب يا أمة الإسلام! {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] ثم يحثنا ربنا جل وعلا باتباع أحسن ما أنزل إلينا، فإننا إذا تمسكنا بالكتاب والسنة، وسرنا على نهجهما، فإن في ذلك الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، وأما إذا أعرضنا وابتعدنا عن الكتاب والسنة؛ فلا تأمنوا العذاب أن يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون، وذلك مصداق قول الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55].
فعند نزول العذاب، يبدأ الإنسان يتحسر ويندم في حين لا ينفع الندم، ويقول فيما أخبر الله عنه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56 - 58] قال الله تعالى رداً عليها: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59].(144/2)
شدة هول يوم القيامة
حين ينفخ في الصور، يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً بلا نعال، وعراةً بلا ثياب، وغرلاً بلا ختان.
حدَّث نبينا صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً؛ ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض، أجل -يا عباد الله- إن الأمر أشد من أن ينظر الرجال إلى النساء، أو النساء إلى الرجال، إن الأمر عظيم، إن الأمر أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها والابن عن أبيه، يقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101] تنقطع العلاقات، تنقطع المعارف، لا يعرف أحدٌ أحداً، الأبصار شاخصةٌ للحي القيوم، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] هنالك القلوب واجفة، والأبصار خاشعة، هنالك تنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فيأخذ المؤمن كتابه باليمين، ويأخذ الكافر كتابه بالشمال أو من وراء ظهره {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} [الحاقة:19] فرحاً مسروراً {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] فزت، ونجحت، أخذت العلاوة، أخذت المرتبة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} [الحاقة:25] حزناً وغماً {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] ويدعو ثبوراً في ذلك اليوم العظيم، وفي ذلك اليوم العظيم توضع الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد من خيرٍ وشرٍ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] ويقول الحق جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].(144/3)
الناس يسألون الشفاعة في المحشر
في ذلك اليوم العظيم يموج الناس بعضهم ببعض، ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى عليهم السلام، وكلهم يقدم عذراً، ثم يأتون إلى عيسى على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، فيقول عيسى: لست لها، ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه -نحمدك الله ونشكرك الذي جعلتنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وأوردنا حوض نبيك محمد يا رب العالمين.
ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتون العبد المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول مفتخراً بنعمة الله: {أنا لها، أنا لها} فيستأذن من ربه عز وجل، ويخر له ساجداً، ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبله، ويدعه الله ما شاء أن يدعه، ثم يقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسَلْ تعط.(144/4)
قضاء الله بين عباده
في ذلك اليوم العظيم ينزل الله جل جلاله للقضاء بين عباده، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر إنه ليومٌ عظيمٌ يا عباد الله! ينزل فيه الله جل جلاله للقضاء بين عباده ومحاسبتهم، فيخلو بعبده المؤمن وحده، ويضع عليه ستره، ويكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيخبره بما عمل من ذنوبه، حتى يقر ويعترف، فيظهر الله عليه فضله، فيقول: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.
فتب أيها المسلم! تب -يا أخي المسلم- حتى يتوب الله عليك، ويبدلك الله بها مغفرةً وحسنات.
تب ما دمت في وقت الإمهال.
تب ما دمت في ميدان الأعمال الصالحة، وأكثِر من الأعمال الصالحات، فأنت الآن في الدنيا في دار العمل، وأما غداً يوم القيامة فحساب وجزاء.(144/5)
دنو الشمس من الخلائق
يوم القيامة تدنو الشمس من الخلق حتى لا تكون قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
يا عباد الله: المسابقة المسابقة فأنتم في دار الأعمال! أوصيكم ونفسي بتقوى الله.(144/6)
حال الناس على الصراط
وفي ذلك اليوم العظيم يوضع الصراط على متن جهنم؛ أدق من الشعرة وأحد من السيف، وترسل الأمانة والرحم، فيقومان على جانبي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر الناس على الصراط على قدر أعمالهم، ليس على قدر تجارتهم، ليس على قدر شجاعتهم في المبايعات والمشتريات، ليس على قدر شجاعتهم في الكذب والخيانة والحيل، إنما على قدر أعمالهم الصالحة، تجري بهم أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر يزحف على الصراط زحفاً، ومنهم من ينتكس في جهنم، ومنهم من هو بين ذلك، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: {يا رب! سلم سلم}.
لقد جاءكم نبيكم بها بيضاء نقية يا أمة الإسلام! فالحذر الحذر أن تلقوا ربكم على معاصيه! الحذر الحذر أن تلقوا ربكم على ما يغضبه! الحذر الحذر من معاصي الله! نبيكم على الصراط قائمٌ يقول: {يا رب! سلم سلم} فاتقوا الله -يا عباد الله- وخذوا لهذا اليوم عدته، فإنه مصيركم لا محالة، وموعدكم لا ريب ولا شك فيه، وإنه على عظمه وشدته وهوله ليكوننَّ يسيراً على المؤمنين المتقين، فآمنوا بالله واتقوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم إنا نسألك حسن الختام، اللهم أخرج أرواحنا على كلمة لا إله إلا الله، اللهم أخرجنا من الدنيا على الإسلام والإيمان، اللهم نور لنا في قبورنا، واجعلها لنا روضة من رياض الجنة، اللهم يسر حسابنا، ويمن كتابنا، واجعلنا ممن يمر على الصراط كالبرق الخاطف بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأسال الله بمنه وكرمه ألا يجعل قولي هذا عليَّ حجة، اللهم لا تجعل عليَّ قولي هذا حجة، اللهم اجعلنا ممن تعلم وعمل يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن تعلم وعمل بما عمل، ونفعه عمله يوم لقائك يا رب العالمين، ولا تجعل في أعمالنا رياءً، ولا سمعةً، ولا بطراً، ولا عجباً يا رب العالمين، وأسأله أن يغفر لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.(144/7)
انقسام الناس يوم القيامة إلى فريقين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن جميع ما ذكر سوف يحصل يوم القيامة.
سوف ينقسم الناس إلى قسمين: أشقياء وسعداء، فأما الأشقياء ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، وأما السعداء ففي الجنة لهم فيها ما تشتهي أنفسهم، ولهم فيها ما يشتهون، فالكيس يا عباد الله، والفطن، والحذِر من دان نفسه، أي: حاسبها على الدقيق والجليل، وعلى الكثير والقليل، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وجنبنا المنكرات.
اعلموا -يا عباد الله- أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وأطيعوا ربكم فيما أمركم به حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، الله أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، الله اشف مرض قلوبنا يا رب العالمين، اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، اللهم سلِّم قلوبنا وأعمالنا يا رب العالمين.
اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على الكافرين يا رب العالمين، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك ومزقهم كل ممزق، واجعلهم غنيمةً للمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين يا رب العالمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اقذف في قلوبنا وقلوبهم الإيمان يا رب العالمين، اللهم حبب الإيمان إلينا جميعاً، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين، واجعلنا هداةً مهتدين، واغفر اللهم لنا في هذه الساعة أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ، ولا غرقٍ، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، سحاً، غدقاً، طبقاً، عاماً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغثنا غيثاً تغيث البلاد به، وتحيي به البلاد يا رب العالمين، واجعله يا رب متاعاً للحاضر والباد إنك على كل شيء قدير، اللهم أحيي بلدك الميت وانشر رحمتك على العباد.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(144/8)
الحب في الله والبغض في الله [1]
الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، ولقد ركز الشيخ في هذه المادة على الحب في الله، وذكر طرفاً من الأحاديث التي ترغب في الحب في الله؛ مبيناً أنه لا يكمل إيمان العبد إلا بإيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة ذاكراً علامات محبته صلى الله عليه وسلم، ثم ختم هذه المادة ببيان أن الحب في الله سبب للمغفرة.(145/1)
أوثق عرى الإيمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله الله بشيراً ونذيراً, وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه على نهجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل, وأحبوا أهل طاعة الله, وأبغضوا من عصى الله, ولو كان أقرب قريب, فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان, يقول ربكم جلَّ وعلا: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] اللهم اجعلنا منهم, اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين يا رب العالمين!(145/2)
أحاديث ترغب في الحب في الله
أيها المسلمون: الحب في الله رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره في أحاديث متعددة إليكم طرفاً منها، قوله صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه} يا عبد الله! إذا أحببت في الله يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, يوم تنزل الشمس مقدار ميل على رءوس الخلائق, يوم يلجم الناس بالعرق إلجاماً.
أحب في الله؛ يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, روي عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وعلى قربهم من الله.
فقام رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله؟! صفهم لنا يا رسول الله؟ فسر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال هذا الإعرابي فقال صلى الله عليه وسلم: هم ناس من أفناء الناس وموازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا, يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها, فيجعل وجوههم نوراً وثناياهم نوراً, يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون, وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون}.
الحب في الله عباد الله! الحب في الله يا أمة الإسلام! ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار} رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية للبخاري ومسلم: {ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب في الله ويبغض في الله} ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} رواه مسلم.
فهذه أحاديث صحيحة فيها الخير الكثير لمن أحب في الله.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يخبر أن ربنا جلَّ وعلا أرصد ملكاً من ملائكة السماء لعبد من عباده يخبره أنه يحبه, بأي شيء حصل ذلك؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً -مدرجته أي: طريقه- فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أخاً لي في هذه القرية -أخ له يحبه في الله- قال: هل لك عليه من نعمة تردها؟ قال: لا.
غير أني أحبه في الله, فقال الملك: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه} رواه مسلم.
عن أبي مسلم رحمه الله قال: قلت لـ معاذ رضي الله عنه: [[والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك, قال: فبأي شيء؟ قلت: لله, قال: فجذب حبوتي ثم قال: أبشر إن كنت صادقاً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء} قال أبو مسلم: ولقيت الصحابي الجليل الثاني عبادة بن الصامت رضي الله عنه فحدثته بحديث معاذ فقال عبادة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن ربه تبارك وتعالى: {حقت محبتي على المتحابين فيَّ, وحقت محبتي على المتناصحين فيَّ, وحقت محبتي على المتباذلين فيَّ, هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء والصديقون}]].
ثم يقول أنس رضي الله عنه: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {متى الساعة يا رسول الله؟ قال: وما أعددت لها, قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله, قال: أنت مع من أحببت.
قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت.
قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم, وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم, بحبي إياهم} رواه مسلم.
عباد الله! إن في هذا الحديث بشارة عظيمة سارة لمن أحب الله ورسوله وأحب صحابته وأحب عباد الله المؤمنين واقتدى بهم.(145/3)
حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلاماته
عباد الله! الحق وقول الفصل أنه لا يتم ولا يكمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة والتكريم على سائر خلق الله، في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} رواه البخاري.
ومن علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم:
إيثار رضاه صلى الله عليه وسلم, والعمل بشريعته, ونصر سنته, والتأسي به في شمائله وسيرته الكريمة المنيرة, وتنحصر في: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر.
أما من ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤثر العمل بشريعته فتلك دعوى باطلة، وعملة مزيفة، وتبجح كاذب؛ لأن صاحبها لم يكن حجة على صحة دعواه، وحقيقة ما ادعاه, والله جلَّ وعلا يقول: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم تقبل طاعته, ومن أطاع الرسول ولم يطع الله لم تقبل طاعته, بل {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59].
تلكم المحبة في الله يا عباد الله! اسمعوا إلى من أحب في الله وأبغض في الله يقول الله فيهم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] الذين اجتمعوا في الدنيا على غير محبة الله تنقلب محبتهم يوم القيامة عداوة، إلا المتقين الذين تحابوا في الله يقول الله لهم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] ماذا تقول لهم يا ربنا؟ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].
اللهم وفقنا لمحبتك, ومحبة رسولك وأوليائك, وعبادك الصالحين, اللهم اجعلنا متحابين فيك, نحب بحبك من أحبك، ونعادي أعداءك إنك على كل شيء قدير, اللهم انفعنا بالقرآن العظيم, وبما صرفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(145/4)
الحب في الله سبب للمغفرة
الحمد لله الذي منّ علينا بالإيمان والإسلام, وتفضل علينا ببيان الشرائع والأحكام, وأحلَّ الحلال وحرّم الحرام, ووعد من أطاعه بالثواب في دار السلام، وتوعد من عصاه بالعقاب في دار الهوان والانتقام, نحمده على ما أفضى علينا من الإنعام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وتمسكوا بأوثق العرى وهو الإسلام, وبشرائعه الحسان, وصفوا قلوبكم من الغش، والخداع والخيانة، والتباغض والتحاسد, واحرصوا على باب الإسلام, واحمدوا ربكم على نعمة الإسلام.
اسمعوا إلى الصحابي الجليل وهو يروي لكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً إذا سمعته القلوب اشتاقت إلى الحب في الله, عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق من الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف, وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر}.
وقال أبو عمرو الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد قال: [[لقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر, قال عبدة: فقلت له: هذا يسير, فقال: لا تقل ذلك فإن الله يقول:
{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]]].
عباد الله! اعلموا أن أحسن الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة, ومن شذَّ شذَّ في النار.
صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أسألك بأنا نشهد أنك أنت الأحد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: أن تعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك عليهم يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, وأئمة وولاة المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين, اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الغني ونحن الفقراء, يا ربنا! يا الله! ارحم ضعفنا, وأسق بلدنا, وأحيي بلدنا الميت يا رب العالمين, وجميع بلدان المسلمين، اللهم أغثنا, اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق إنك على كل شيء قدير، أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين, وأجود الأجودين, فضائلك ملأى، ويداك مبسوطتان تنفق كيف تشاء لا إله إلا أنت سبحانك.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين, اللهم اسقنا, اللهم أحيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد, يا من له الدنيا والآخرة, اللهم لك الحمد وإليك المشتكى, وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها, واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(145/5)
الحب في الله والبغض في الله [2]
إن المتحابين في الله لهم المنازل العظيمة يوم القيامة، فهم في ظل الله على منابر من نور، يحبهم الله سبحانه وتعالى ويحشرون معاً، يغبطهم النبيون والشهداء، وقبل هذا قد وجدوا طعم الإيمان في دنياهم.
وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن ذلك ويبين أنه لا يتم إيمان العبد حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، ثم ختم المادة ببيان أن من أسباب المحبة إفشاء السلام، ومن أسباب المغفرة المصافحة.(146/1)
فضائل وآثار المتحابين في الله
الحمد لله الدائم بلا زوال، القائم بعميم الفضل والنوال، والمتصرف في عباده باختلاف الأحوال، المتوحد بالعظمة والجلال، والمنفرد بالقدم والبقاء والزمان، المتعالي عن الأسباب والأمثال، لا إله إلا هو الكبير المتعال.
أحمده حمداً يحفظ النعم عن الزوال، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له شهادةً تبلغ نهاية الآمال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل وهو لا ينطق عن الهوى: {ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الهادي من الضلال، والداعي لأشرف الخلال، المرشد إلى صالح الأعمال، والمحذر من الجحيم، والمبشر بالنعيم المقيم الذي ليس له زوال.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: عليكم بتقوى الله؛ فإن بها تنال الدرجات، وتزكو الأعمال، فمن ذلك الحب في الله والبغض في الله فهو أوثق عرى الإيمان، يا لها من كلمة قد نسيناها! قد اندثرت على مدى الزمان، وعلى طول الأعوام: الحب في الله والبغض في الله.(146/2)
المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول ليس للصحابة بل لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يجعلنا من أمة الإجابة الذين أجابوا رسول الله وسمعوا لما قال، يقول صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وعلى قربهم من الله -الله أكبر! هؤلاء الناس من الآدميين، هؤلاء الناس من البشر يخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقام رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وعلى قربهم من الله؟! صفهم لنا يا رسول الله؟ فسر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: هم ناس من أفناء الناس وموازع القبائل لم تصل بينهم أرحامٌ متقاربة إنما تحابوا في الله وتصافوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها فيجعل وجوههم نوراً وثناياهم نوراً يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
الله أكبر! بثمن بسيط نالوا تلك المنازل، بالحب في الله والبغض في الله.(146/3)
المتحابون في الله يجدون طعم الإيمان
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بِهِنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، أن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} رواه البخاري ومسلم.
وروى البخاري ومسلم أيضاً: {ثلاثٌُ من كُنَّ فيه وجد بِهنَّ حلاوة الإيمان وطعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب في الله ويبغض في الله}.(146/4)
المتحابون في الله يظلهم الله في ظله يوم القيامة
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟} ليس للمساهمات، ولا للأموال الطائلة، يقول يوم القيامة في ذلك الموقف الرهيب، في ذلك الموقف العظيم الذي يشيب فيه المولود، وتضع الحوامل حملها.
{أين المتحابون بجلالي؟} الله أكبر! اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أتبعنا بالمتحابين فيك يا رب العالمين، إنها كلمة لها مقام يا عباد الله!
يقول ربنا جلَّ وعلا: {أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} حديث صحيح يرويه الإمام مسلم.(146/5)
المتحابون في الله يحبهم الله
عباد الله: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر هذا الخبر أن ربنا جلَّ وعلا أرصد ملكاً من ملائكته لعبدٍ من عباده يخبره أنه يحبه، بأي شيء حصل ذلك يا عباد الله؟!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله على مدرجته -يعني: على طريقه- ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أخاً لي في هذه القرية -زيارة لله، حباً لله، تباذلاً لله- قال: هل لك عليه من نعمة؟ تردها}
هل شاركك في المساهمة؟ هل ضرب لك سهماً؟ هل أدخل لك مالاً في البنوك الربوية؟ {قال: لا.
غير أني أحبه في الله}.
الله أكبر! يذهب إلى قرية أخرى لأنه يحبه في الله، وماذا قال له الملك؟
{قال له: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه}.
من فوق سبع سموات يعلم الضمائر وما تخفي الصدور، علام الغيوب يعلم ما في القلوب، يرسل ملكاً من الملائكة لعبدٍ من عباده يخبره أنه يحبه؛ وبسبب أنه يحب أخاً له في الله ويزوره في الله.
الله أكبر!(146/6)
المتحابون في الله يغبطهم النبيون والشهداء
عن أبي مسلم رحمه الله؛ وهو تابعيٌ من التابعين قال قلت: لـ معاذ؛ الصحابي الجليل رضي الله عنه: [[والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك، قال: فبأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذبني بحبوتي ثم قال: أبشر إن كنت صادقاً فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء}.
يقول أبو مسلم التابعي رحمه الله -لأنهم حريصون على حب الخير وعلى البحث عن الخير- ثم لقيت عبادة بن الصامت؛ صحابي جليل فحدثته بحديث معاذ، فقال عبادة رضي الله عنه: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن ربه تبارك وتعالى: {حقت محبتي على المتحابين فيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فيَّ -هم على أي شيء يا عبادة! كما أخبرك رسول الله؟ - هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقين والشهداء}]].
لا إله إلا الله! اللهم أغث قلوبنا بالإيمان.(146/7)
المتحابون في الله يحشرون معاً
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {متى الساعة يا رسول الله؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت.
قال أنس رضي الله عنه: ما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت.
قال أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم} رواه مسلم.
عباد الله: إن في هذا الحديث بشارة عظيمة سارة لمن أحب الله ورسوله وأحب صحابة رسول الله ومن تبعهم بإحسان واقتدى بهم.(146/8)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولوازمها
عباد الله! الحق والقول الفصل أنه لا يتم ولا يكمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة والتكريم على سائر خلق الله.
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ومن الناس أجمعين}.(146/9)
علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم
كيف يدلنا على محبة رسول الله؟ كيف نستدل على محبة رسول الله؟ هل بلفظ: (صلى الله عليه وسلم)؟ لا تكفي هذه، بل من علامات محبته صلى الله عليه وسلم: إيثار رضاه، والعمل بشريعته، والنصر لسنته المطهرة، والتأسي به في شمائله وسيرته الكريمة المباركة النيرة، وتنحصر في: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، هكذا يحصل حب الرسول صلى الله عليه وسلم، أما المحبة السطحية، أما المحبة التقليدية، أما المحبة العلة الزائفة، فتلك دعوة باطلة، وعلة لا تروج، وتبجح كاذب؛ لأن صاحبها يترجم الحجة على صحة دعواه وحقيقة ما ادعاه.
والله يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12].
كذلك يقول في المتحابين في جلاله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:67 - 68] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] يقال لهم يوم القيامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].
اللهم وفقنا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم اقشع عنها غيوم الغفلة يا رب العالمين، اللهم أيقظنا من سِنَةِ الغفلة، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه في الدنيا والآخرة.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(146/10)
إفشاء السلام سبب للمحبة
الحمد لله الذي منَّ علينا بالإيمان والإسلام، ونسأله أن يكون صدقاً من عميق وصميم قلوبنا، نسأل الله أن يجعلنا مؤمنين حقاً، ونسأله أن يتفضل علينا بالمنِّة وبالهداية والتوفيق والسداد والحب في الله والبغض في الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وقد دلكم رسول الله على شيء إذا فعلتموه تحاببتم فقال -وهو لا ينطق عن الهوى-: {ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم}.
أفشوا السلام بينكم يا عباد الله! سلموا على من عرفتم ومن لم تعرفوا، وتمسكوا بأوثق عرى الإيمان وهو الإسلام وبشرائعه الحسان، وصفو قلوبكم من الغش والخداع، والخيانة والتباغض والتحاسد، واحرصوا على آداب الإسلام، واحمدوا الله على مِنِّة الإسلام واسألوه الثبات عليها.(146/11)
المصافحة سبب للمغفرة
يروي لنا سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده -يعني: إذا صافحه وسلم عليه- تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر}.
ويقول أبو عمرو الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد قال: [[لقيته فأخذ بيدي -يعني صافحني- فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر، قال عبدة رحمه الله: فقلت له: هذا يسير، قال: لا تقل ذلك فإن الله يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]]].
عباد الله: اعلموا أن أحسن الحديث كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله.
وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم املئ قلوبنا من محبتك ومن خشيتك ومن معرفتك ومن الأنس بقربك واملأها حكمةً وعلماً.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك.
اللهم اجعلنا من المتحابين فيك، ومن المتواصلين فيك، ومن المتناصحين فيك يا رب العالمين.
اللهم ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم واشدد وطأتك عليهم، وارفع يدك عنهم، ومزقهم كل ممزق، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(146/12)
تحقيق الإيمان
إن الإيمان بالله ورسوله هو الأصل القويم الذي يرفع صاحبه من العذاب يوم القيامة، ويوجب خلوده في دار النعيم، لكن لابد على العبد أن يحقق الإيمان في هذه الحياة، ويعرف علامات الإيمان الصحيح ويطبقها حتى يرتقي إلى هذه الدرجة.
وقد تناول هذا الدرس بيان الإيمان الصحيح والإيمان الباطل والفاسد ونتائجهما، وكيف يكون تحقيق الإيمان في هذه الحياة.(147/1)
الإيمان الصحيح عقيدة راسخة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! حققوا إيمانكم بالله.
أمة الإسلام: إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب ورسخ فيه، وصدقته الأعمال بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
إن كل واحد يستطيع أن يقول: أنا مسلم، بل يرتقي إلى أعلى ويقول: أنا مؤمن، كل واحد يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
المنافقون -وهم في الدرك الأسفل من النار- يذكرون الله المنافقون يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نشهد أنك لرسول الله المنافقون يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنهم لمنهم وما هم منهم، ولكن كل هذه الشهادات والأيمان لم تنفعهم فهم في الدرك الأسفل من النار، تحت كل مشرك ودهري ويهودي ونصراني؛ لأن هذه الشهادات والأيمان لم تصدر عن يقين وإيمان, ولا عن قبول وإذعان، فقد أخبر بذلك علام الغيوب، فقال وقوله الحق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فالإيمان عقيدة راسخة قبل كل شيء، تنتج قولاً سديداً وعملاً صالحاً الإيمان عقيدة راسخة تنتج الحب لله ولرسوله، والإخلاص في توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: إن الإيمان جد وعمل, ومثابرة ومصابرة, وحبس للنفس على ما تكره من طاعة الله، ومنع لها عما تحب من معصية الله.(147/2)
علامات الإيمان الصحيح
أيها المسلمون: إن للإيمان علامات كثيرة ذكرها الله في كتابه, وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4] وقول الحق جل وعلا: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
أمة الإسلام: يا من نزل القرآن ليهذبهم! من منا إذا ذكر الله وجل قلبه خوفاً من الله وتعظيماً له؟
من منا إذا تليت عليهم آيات ربهم زادتهم إيماناً واستبشروا بها ويجدون في نفوسهم من حلاوة التصديق بها والامتثال لأحكامها؟
من منا قام بتحقيق التوكل على الله والاعتماد عليه وعدم التعلق بالمخلوقين؟
من منا إذا قام إلى الصلاة أقامها على الوجه المطلوب, بالمحافظة عليها وإتقانها؟
من منا قام بالإنفاق مما رزقه الله من بذل زكاة وسد حاجة المعوزين؟(147/3)
حال المسلمين عند ضياع الإيمان
عباد الله: لابد أن نفكر في حال المسلمين، إننا إذا فكرنا في حال المسلمين اليوم -لا في هذه الجزيرة فحسب, ولكن في جميع البلاد الإسلامية- نجد مسلمين بلا إسلام، ومؤمنين بلا إيمان، إلا أن يشاء الله إسلام بالهوية ونكران لحق الله علانية، إننا نجد في الأمة الإسلامية تقصيراً في الإيمان واليقين، ونجد تقصيراً في الأخلاق الفاضلة وحمايتها، ونجد تقصيراً في الأعمال؛ لأننا نجد بعض الناس -ولا سيما بعض من عاش فترة من الزمن في بلاد الكفر، ونهل وشرب وورد من صديد أفكارهم الملوثة وثقافتهم المزيفة- نجد في هؤلاء من في قلوبهم شك وريبٌ فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب نجدهم -والعياذ بالله- في شك من وجود الملائكة، ووجود الجن، وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.(147/4)
شك بعض الناس في وجود الله تعالى
إن بعض المسلمين في شك من وجود الله جل وعلا, سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً سبحان الله! يشك في وجود خالقه ولا يشك في وجود نفسه! إن كل من يشك في وجود الله يجب أن يشك في وجود نفسه أولاً؛ لأنه لم يخلقه أحد سوى الله عز وجل.
إنه يوجد من المسلمين اليوم من إذا ذكر الله عنده لم يتحرك قلبه أبداً، ولا كأن شيئاً ذكر عنده، فضلاً عن أن يقول لك: يا موسوس! أو يا متزمت! أو يا متجمد! وفضلاً عن أن يوجل قلبه.
ويوجد من المسلمين اليوم من إذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إيماناً بل يزدادون رجساً إلى رجسهم، فيسخرون بآيات الله وبقارئ القرآن، ويستكبرون عن أحكام الله.(147/5)
عدم التوكل على الله تعالى
ويوجد من المسلمين اليوم من لا يتوكلون على الله تعالى، وإنما يعتمدون على الأسباب المادية المحضة اعتماداً كلياً، ولهذا تجدهم لا يسيرون في طلب رزقهم على شريعة الله؛ ظناً منهم أن الأخذ بالطرق الشرعية يضيق موارد الرزق، فلذلك تجدهم يسعون لتحصيل الرزق بكل وسيلة حلالاً كانت أم حراماً.
ويوجد من المسلمين من اعتمدوا على أعداء الله وأعداء الإسلام وأعداء الشريعة في أمنهم وسلامتهم، حتى علا الأمر بهم إلى أن أطاعوهم في بعض الأمور المخالفة لشريعة الله تعالى، وتجد أن هؤلاء الذين أطاعوا الأعداء في بعض الأمور المخالفة للشريعة؛ إنما سلكوا هذا المسلك المنحرف لضعف توكلهم على الله وقوة اعتمادهم على غيره.(147/6)
تصييع الصلاة ومنع الزكاة
ونجد من المسلمين اليوم -وهم كثير من أولاد المسلمين، نسأل الله أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً- من لا يقيمون الصلاة ولا يحافظون عليها، فلا يصلون مع الجماعة، ولا يأتون بشروطها وأركانها وواجباتها، فلا يبالون بالطهارة أتقنوها أم فرطوا فيها، ولا يصلون في الوقت المحدد للصلاة، ولا يطمئنون في القيام والقعود والركوع والسجود فنجد أن من الناس الذين قالوا إنهم مسلمون من لا يصلي، بل من يسخر ويستهزئ بمن يصلي.
ونجد من المسلمين من هو جماعٌ للأموال مناع لحقها، لا ينفق مما رزقه الله فلا زكاة ولا صدقة ولا أعمال بر، ومع ذلك تجد الكثير من هؤلاء يبذلون أموالهم فيما لا ينفعهم, بل فيما حرم الله عليهم أحياناً.
إن المسلمين اليوم في حالة يرثى لها؛ من تضييع لفرائض الله، وتعد لحدود الله, وتهاون في شريعة الله, ونسيان لذكر الله, وأمن من مكر الله, واعتلاء بما خلق لهم، وغفلة عما خلقوا له؛ ولهذا سُلط عليهم أعداؤهم, فأذلوهم واستهانوا بهم وتلاعبوا بهم سياسياً واقتصادياً، حتى صاروا: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا، وفي انتظار فريضة من فرائضك التي مننت بفرضها علينا، نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا منان! يا بديع السماوات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! نسألك أن تحبب إلينا الإيمان وإلى أهلينا وأولادنا، وأن تزينه في قلوبنا وترسخه فيها، وأن تكره إلينا وإلى أهلينا وأولادنا الكفر والفسوق والعصيان وتباعدها عنا، وأن تهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشداً.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(147/7)
دعوة إلى تقوية الإيمان والتمسك بالكتاب والسنة
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وكل ميسر لما خلق له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين، ونصح للأمة وتركها على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل, وتدرعوا بسلاح الإيمان، وتقوّوا بالقوة الربانية قوّوا إيمانكم بالقرب من الله بطاعته، وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أنكم خلقتم في هذه الحياة للابتلاء والامتحان، واعلموا أنكم سوف تقفون بين يدي الله، وسوف تعرضون عليه ويسألكم عن أعمالكم دقيقها وجليلها، فأعدوا للسؤال جواباً إذا وقفتم بين يدي الله حفاة عراة غرلاً في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار تمسكوا بكتاب الله، واهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحذروا من أعداء الإسلام وأعداء الشريعة، وأهل البدع والمحدثات.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعطفك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أحيي شجرة الإيمان في قلوبنا، اللهم أسقها من غيثك يا رب العالمين، اللهم إن قلوبنا مريضة فاشفها يا رب العالمين، اللهم إن قلوبنا أمرضتها الشبهات والشهوات فاشفها يا رب العالمين، اللهم أخرجها من ظلمات الجهل يا حي يا قيوم، اللهم املأ قلوبنا من محبتك وخشيتك، واملأها من معرفتك، والأنس بك والقرب منك، وحبب إليها طاعتك وطاعة رسولك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك, وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك يا رب العالمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا, وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك.
اللهم بك نجول وبك نصول وبك نقاتل، اللهم إنا نجعلك في نحور أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم رد كيدهم عليهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا سميع الدعاء.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أوقد نار الغيرة في قلوبهم لمحارمك ولدينك ولنصرة كتابك ولنصرة رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم أقر أعين والديهم بصلاحهم يا رب العالمين، اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يا رب العالمين، اللهم انصر بهم دينك يا حي يا قيوم، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
اللهم أغثنا ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، ربنا لا تؤاخذنا بسوء أفعالنا، ربنا لا تؤاخذنا بما صدر من ذنوبنا، فإن رحمتك وسعت كل شيء، ومغفرتك أوسع من ذنوبنا، لا إله إلا أنت سبحانك لا رب لنا سواك، ولا إله لنا غيرك يا ملاذنا! يا ملجأنا! يا مغيث اللهفات! يا مجيب الدعوات! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، عاماً مجللاً طبقاً عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق، اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(147/8)
حق المسلم على المسلم
إن دين الإسلام الحنيف جاء إلى هذه الأمة بحفظ حقوقها، وتعزيز كرامتها، وعدم تهميش أفرادها، فأعطى كل ذي حق حقه، وقد تناول حقاً عظيماً وهو حق المسلم على المسلم جملةً وتفصيلاً كما وردت فيه الأحاديث.(148/1)
رابطة الأخوة الإيمانية
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، وشبههم بالبنيان، وشرع لهم من الأسباب ما تقوم به تلك الأخوة وتستمر على مدى الزمان، أحمده وأشكره، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من المؤمنين حقاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث إلى جميع الإنس والجن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
أيها الإخوة في الله! إن دين الإسلام الميسر الحنيف الذي عنى بمصالح البشر ومتطلبات معاشهم ومعادهم قد أوجب على بعضهم البعض حقوقاً، فبالأخذ بهذه الحقوق والتأدب بها يسود بين المؤمنين الوئام والتآخي والتعافي والتشاد؛ استجابةً لنداء الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فهذه الأخوة والرابطة الدينية أقوى من كل رابطة وصلة، فحققوها بالتحاب بينكم والتآلف، ومحبة الخير بعضكم لبعض، وبالتعاون على الخير، وبفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه، وترك الأسباب التي تضعف ذلك وتنقصه، فالأمة لا تكون أمة ولا يجتمع لها قوة حتى تكون كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} ويقول صلى الله عليه وسلم: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربة، فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة} وفي رواية: {من يسر على معسرٍ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.
كذلك -يا عباد الله- {مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} هكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
الله أكبر ولا إله إلا الله! إعلان هام من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.(148/2)
الحقوق الإسلامية
يقول صلى الله عليه وسلم: {حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس} متفقٌ عليه.(148/3)
من حقوق الإسلام: رد السلام
لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برد السلام؛ لما في السلام من الألفة وحصول المحبة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله وأبلغ، فقال: {والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم} رواه مسلم فإذا لقي بعضكم بعضاً، فليسلم عليه، وخيركم الذي يبدأ بالسلام.
أمة الإسلام! سلموا على من عرفتم ومن لم تعرفوا، ولا يكن السلام للمعرفة، بل السلام على جميع المسلمين.(148/4)
من حقوق الإسلام: عيادة المريض
وكذلك من حق المسلم على أخيه المسلم: عيادته إذا مرض، له في هذه الزيارة خيرٌ كثير، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع قيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: جناها} وأيضاً ورد: {ما من مسلمٍ يعود مسلماً غدوةً إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة}.
ألا يا عباد الله! فحافظوا على هذه الحسنات وأخلصوا لله النية في جميع الأعمال.(148/5)
من حقوق الإسلام: اتباع الجنازة
كذلك من حق المسلم على أخيه المسلم: اتباع الجنازة، ومن المؤسف جداً، ومن المحزن كثيراً! أن الكثير لا يهتم بهذا الحق لأخيه المسلم، إلا إذا كان ذا جاهٍ أو سلطانٍ أو مال؛ فإننا نرى المقبرة تمتلئ بالكثير من الناس، تمتلئ بالكابرس والمرسديس والسيارات المتنوعة كل ذلك إذا كان الميت صاحب جاهٍ أو سلطانٍ؛ فإننا نرى المقبرة تمتلئ بالكثير من الناس، هل هذا لله أم لطلب الدنيا يا عباد الله؟ أما إذا لم يكن ذا جاهٍ ولا سلطان ولا مال، فإنه لا يؤبه له، ولا تتبع جنازته، وهذا مما يتنافى مع الآداب الإسلامية، ومع الوصية النبوية لحق المسلم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: اتبعوا الكبار والأغنياء والملوك، ولا تلتفتوا إلى بقية المسلمين؟! لا.
وحاشاه أن يقول ذلك صلى الله عليه وسلم، بل قال: {حق المسلم على المسلم} سواء كان ملكاً أم مملوكاً، وسواء كان فقيراً أم غنياً، فلننتبه لذلك، ولنحذر من شرور أنفسنا الأمارة بالسوء.
أمة الإسلام! إنه من المؤسف جداً أن نرى الفقير لا يتبعه إلا اثنان أو ثلاثة، ثم يكون عليهم عالةً في الدفن يا عباد الله! أين التعاون؟ أين التراحم؟ أين التلاطف؟ أين الأخوة الإسلامية يا عباد الله؟
عباد الله! إن في الصلاة على الجنازة واتباعها أجرٌ عظيم، وفضلٌ جزيل، لا يتخلى عنه إلا من حرم نفسه الأجر، يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: {من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها، فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، فله قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟ قال: مثل الجبلين العظيمين} متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من اتبع جنازة مسلمٍ إيماناً واحتساباً- لا يكون فخراً ولا رياءً ولا سمعةً ولا أشراً ولا بطراً- وكان معه حتى يُصلى عليه ويفرغ من دفنها، فإنه يرجعُ من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثلُ: أحد.
ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تُدفن، فإنه يرجعُ بقيراط} متفق عليه.
أمة الإسلام! لماذا نضيع هذه الفرائض؟ لماذا نضيع هذه الحسنات؟ كل ذلك اتباعاً ورغبةً لشهوات النفس.(148/6)
من حقوق الإسلام: تشميت العاطس
كذلك من حق المسلم على أخيه المسلم: تشميته إذا عطس فحمد الله، أما إذا لم يحمد الله، فلا تشمته، إذا عطس فحمد الله، فإنه يُقال له: يرحمك الله، ويقول العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم.
عباد الله! هذه بعض الحقوق للمسلم على أخيه المسلم، فعليكم بالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103].
اللهم ارزقنا التمسك والاهتداء بما يرضيك، اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(148/7)
الإسلام يدعو إلى الاعتصام والتآخي في الله
الحمد لله الذي أتم علينا نعمة الإسلام، وأكمل لنا الدين وشرعه الحكيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وتعانوا على البر والتقوى، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فمن واجب المسلم على أخيه المسلم أن يكف أذاه عنه، ولا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه، ولا يضاره، ولا يشق عليه، فليعينه ويرد عليه السلام، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطش فحمد الله، وينصره في مواطن الظلم {انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً} إن كان مظلوماً فانصره، وإن كان ظالماً فاحجزه واردعه عن الظلم، وانصح لأخيك المسلم إذا استنصح منك، نفِّس عنه كرب الدنيا، ويسر عليه عند إعساره.
هذه نماذج مما جاء للمسلم على أخيه المسلم من حقوقٍ جاء الإسلام بها؛ ليرفع بها أهل الإسلام من حياة التقاطع والتدابر والتناحر إلى حياة أفضل، إلى حياة الترابط والتآخي في الله، إلى حياة التناصح والتعامل من أجل الله، ليصبحوا بهذا جسداً واحداً، وقلباً واحداً، ينبض بروح الإيمان والمحبة لعباد الله.
عباد الله! صلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إلى تعاليم الإسلام، اللهم وفقنا لتعاليم الإسلام، اللهم اهدنا إلى الطرق الموصلة إلى سبل السلام، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرهم بنصرك المبين، اللهم انصرهم بنصرك المبين، اللهم انصرهم يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، واخذل من خذل الإسلام وأهله، اللهم أدر دائرة السوء على أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم دمرهم تدميراً يا رب العالمين، اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمين، إنك القادر على ذلك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أصلح أولادنا ونسائنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وعن جميع إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا.
اللهم اجعلنا إخوةً متحابين فيك، متراحمين فيك، متعاطفين فيك، اللهم اجعل في قلوبنا الألفة والإيمان يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(148/8)
مكانة الصلاة في الإسلام
الصلاة من أعظم أركان الإسلام، وهي سبب الفوز والفلاح، وتركها سبب للخزي والدمار والشنار في الدنيا والآخرة؛ والصلاة جماعة في المسجد من علامات المؤمنين، والتهاون بها من علامة المنافقين، وأما تارك الصلاة بالكلية فهو كافر خارج من الملة، وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين.(149/1)
المحافظة على الصلاة سبب الفلاح
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، والصلة القوية بين جلالته المقدسة وبين عباده المؤمنين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله المعبود، الذي له الركوع والسجود.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، أفضل المصلين، وإمام الخاشعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين كانوا على صلواتهم يُحافظون، ويُسارعون إلى الخيرات وهم لها سابقون، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعليهم أجمعين، وألحقنا بالصالحين يا رب العالمين.
عباد الله! يا من يؤمنون بكتاب الله حق الإيمان! يا من يؤمنون بالقرآن وما فيه من الحِكَم والأحكام! إنه في كثيرٍ من سوره يأمركم بإقامة الصلاة للمحافظة على الخشوع فيها، وتارةً يأمر بالترغيب والوعد بالفردوس لمن في قلوبهم شوقٌ إلى الصلاة، قال ربكم جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].(149/2)
ترك الصلاة سبب لدخول النار
أمة الإسلام! يأتي القرآن تارة بالتهديد والتخويف الذي ترتعد منه الفرائص، وتندك منه الجبال الصم لو خوطبت به كما في قوله جلَّ وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] ما هو الغي يا عباد الله؟ ما هو الغي يا أمة الإسلام؟ ما هو الغي يا من يراد منكم أن تتدبروا القرآن؟
الغي: هو وادٍ في جهنم، وفيما ذكر عن أهل النار إذا سئلوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].(149/3)
القرآن يأمر بالحفاظ على الصلوات
وتارةً يأمر القرآن بالقول المطلق، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ولا غرابة -يا عباد الله- أن يقف القرآن الكريم من الصلاة هذا الموقف، وكذلك ينادي بالمحافظة على الصلوات، ويصدع بذكرها الخطباء والوعاظ؛ لأن الصلاة أعظم ركنٍ من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وعمود الإسلام الذي لا يقوم إلا عليه، فمن أقام الصلاة أقام دينه، ومن هدم الصلاة هدم دينه، وقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله في صلاتكم لا تضيعوها، فلا دين بعد ضياع الصلاة، لأن الصلاة آخر ما يفقد من الدين.(149/4)
التكاسل عن أداء الصلاة من صفات المنافقين
أمة الإسلام! ابتعدوا عن صفات الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، فإنهم وُعِدُوا بوعيد شديد وهو الدرك الأسفل من النار.
عباد الله! لا تُأخروا الصلاة عن أوقاتها، لا تزوجوا المسلمة من تارك الصلاة، ولا تورثوا تارك الصلاة من أقاربه المسلمين ولا يدفن تارك الصلاة في مقابر المسلمين، ولا يصلى على جنازته، لأنه كافر بإجماع علماء الإسلام والمسلمين.
عباد الله! حافظوا على صلاتكم وتناصحوا بها، وهي آخر ما أوصاكم بها نبيكم عليه الصلاة والسلام، وجديرٌ بكل مؤمن أن يحافظ على وصية أبي القاسم صلى الله عليه وسلم يقول وهو يلفظ آخر أنفاسه: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم}.(149/5)
الأدلة على وجوب الصلاة في الجماعة
عباد الله! أدوا الصلاة جماعة في المساجد، فالقرآن يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] لا تغتروا بمن عميت بصائرهم، وتحجرت قلوبهم، واشتد الران على قلوبهم، فأصبحت أنفسهم الأمارة بالسوء تُزين لهم أن يُصلوا في البيوت كأنهم لم يسمعوا أو يؤمنوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه همَّ بإحراق المتخلفين عن الصلاة في المساجد، فلقد همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق المتخلفين عن الصلاة في المساجد، ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من نساءٍ وصبيان لم تجب عليهم الصلاة.
يا عباد الله! لقد مرَّ على أسماعكم خبر الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {إني رجلٌ أعمى، وإن المدينة كثيرة الهوامِّ والسباع، وليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، وأخيراً قال له صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: لا أجد لك رخصة}.
عباد الله! لقد حانت الصلاة والمعركة حاميةٌ بين المسلمين والمشركين، فقام وصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمنعه من ذلك القتال في سبيل الله، قام وصلاها هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، البعض تجاه العدو، والبعض يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الرسول وصحابته رضي الله عنهم أجمعين ذووا الفهم السليم، والذوق الصحيح، والإدراك الجاد، قاموا إلى الصلاة ولم يجدوا رخصة في تلك الساعة الحرجة في مقابلة الأعداء، فما عذر المتخلف لغير عذرٍ شرعي؟
عباد الله! إن الاجتماع للصلاة في المساجد شعيرةً إسلاميةً بها يتعارف المسلمون، وبها يفقد المريض فيُعاد، ويعرف المنافق فيحذره المسلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(149/6)
حكم تارك الصلاة
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأشكره، وبه أستعين على أمور الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو خير معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وأدوا الصلاة في أوقاتها المفروضة التي أوضحها الشارع الحكيم.
واعلموا -يا عباد الله- أن تأخير الصلاة عن وقتها كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وترك الصلاة بالكلية كفرٌ محض مخرجٌ عن الدين الإسلامي، واعلموا وتيقنوا حق اليقين أن تارك الصلاة كافر لا يجوز للمسلم أن يزوجه من ابنته المسلمة، وإذا مات لا يرث ولا يورث ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا تجوز مؤاكلة تارك الصلاة، ولا مجالسته، ولا مصاحبته ما دام تاركاً للصلاة، يُستتاب تارك الصلاة لفعلها ثلاثة أيام، فإن تاب وأقام الصلاة وإلا قُتِلَ حداً بالسيف كافراً مرتداً، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
أيها المسلمون! يا من نزل على نبيكم قوله تعالى آمراً لكم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].
إن السكوت عن تارك الصلاة لا يسمح به الإسلام، وإنما نتج ذلك من نقص الإيمان وعدم المبالاة بأداء هذا الركن العظيم الذي هو آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، كيف يليق بالمسلمين أن يهملوا هذا الركن العظيم، وذلك بعدم التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فلذلك يوجد كثيرٌ من أهل المحلات في محلاتهم لا يشهدون الصلاة مع المسلمين، وكذلك بعض الموظفين في دوائرهم، وبعض العمال في أعمالهم، وكذلك في النوادي والملاعب، فإنا لله وإنا إليه راجعون! كذلك يوجد الكثير من المجاورين للمساجد لا يصلون مع المسلمين إلا القليل.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا {آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة} فإنا لله وإنا إليه راجعون!
إن ترك الصلاة والتجول في الشوارع في أوقات الصلاة معاندة لله رب العالمين.
أيها المسلمون! إن خلو المساجد من كثيرٍ من الشباب يحزن القلوب، ويندي الجبين، ويحز بالنفس! يرجع ذلك لمصلحة أعداء الإسلام الذين يحاولون ليل نهار إبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف، وعن تعاليمه السامية، وعن أخلاقه الفاضلة الباعثة للنصر والتمكين.(149/7)
نداء للشباب بالمحافظة على الصلاة
فيا شباب الإسلام! يا من تملئون النوادي والملاعب! يا من تملئون المدارس! الله الله بدينكم، الله الله بالمحافظة على كرامتكم وأخلاقكم وآدابكم التي جاء بها القرآن العظيم لا تضيعوها، فإن العالم بأسره يتطلع إليكم تطلع الظمآن، وينظر إليكم بعين الاقتداء، لأنكم في بلد الإسلام وفي مهبط الوحيين ومنبع الرسالة.
حاربوا -يا شباب الإسلام- كل خلق يتنافى مع تعاليم الإسلام، وقوموا لله حق القيام، قوموا لله قانتين، حافظوا على الصلة العظيمة، والمنحة الكريمة التي منحكم الله إياها وفرضها عليكم ألا وهي الصلوات الخمس، قوموا بها بأركانها وخشوعها وسننها وواجباتها حتى تفلحوا وتحوزوا الفردوس الأعلى.
وصلوا على رسول الله كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي قال وهو لا ينطق عن الهوى: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إلى تعاليم الإسلام، وارزقنا التمسك بدين الإسلام.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين يا رب العالمين.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين من الشيوعيين واليهود والنصارى المبشرين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم أدر عليهم دائرة السوء يا رب العالمين، اللهم مزق شملهم وشتته يا رب العالمين، اللهم أدر عليهم دائرة السوء.
اللهم وأصلح أئمتنا وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم نصرةً لدينك، وحرباً على أعدائك، وسلماً لأوليائك يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوفٌ رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(149/8)
الحذر من السرعة الجنونية والتوبة إلى الله
من الأمور المعلومة شرعاً تحريم إلقاء النفس إلى التهلكة وتعريضها للتلف، وإن من أنواع إلقاء النفس إلى التهلكة قيادة السيارة بسرعة مفضية للهلكة، وهو وإن لم يؤد إلى حادث مؤسف فإنه من أذية المسلمين المحرمة شرعاً، ومن الأمور الموجبة للعن من قبلهم، فهي أشد من التبرز في طرقات الناس بلا شك، وقد كثرت في الآونة الأخيرة الحوادث المؤسفة؛ وذلك نتيجة للترف وضعف الوازع الديني في النفوس.(150/1)
أدلة تحريم إلقاء النفس في التهلكة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه الكثيرة التي لا تحصون لها عدداً.
عباد الله: إن من نعم الله تعالى التي أنعم بها علينا، ومنحنا إياها وسائل النقل بجميع أنواعها، فإنها نعمة لمن استعملها في مرافق حياته المباحة، وإن الله قد حرم على المرء أن يعرض نفسه للهلاك ومن أدلة ذلك ما يلي:
الدليل الأول: عباد الله: لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحقن الدماء والمحافظة عليها، قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:30].
عباد الله: تلكم الآية الكريمة تنذركم ألا تقتلوا أنفسكم؛ لأن الله كان بكم رحيماً، فإن قتلتم أنفسكم عدواناً وظلما فسوف يصليكم ناراً وكان ذلك على الله يسيراً.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً}.
الدليلين الثالث والرابع: وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم، قال رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم: {من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة} وروى البخاري ومسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان فيمن كان قبلكم رجل كان به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة فهو في النار}.
ففي هذه الآية السالفة والأحاديث الصحيحة، تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(150/2)
تحريم السرعة المفضية للموت
لقد قرر بعض العلماء وفقهم الله لما يحبه ويرضاه: أن سائق السيارة إذا كان لا يعرف القيادة وقاد السيارة بدون معرفة، ثم حصل له حادث، ثم مات فقد تعرض لإتلاف نفسه، زد على ذلك إذا كان معه مجموعة فإنه يزاد عليه في العذاب؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب الواقية وهي معرفة القيادة.
فمع الأسف الشديد مجرد ما يخرج الرجل في نفوذه، يقول لصاحب المعرض: وجه لي السيارة، ثم يمشي بها من دون معرفة نسأل الله العفو والعافية، فهذا داخلٌ تحت الوعيد الشديد الذي مر آنفاً بالأحاديث الصحيحة والآية الكريمة.
وقرر أيضاً بعض العلماء رحمهم الله: أن السائق إذا تعدى السرعة التي تمكنه من التصرف بالسيارة أثناء الحادث ومات فهو داخل تحت الوعيد الشديد؛ إلا من فعل الأسباب: الرفق، ومعرفة القيادة، وعدم السرعة التي تهدد حياته وحياة البشر جميعاً.(150/3)
انتشار الحوادث المرورية وأسبابها
فكم نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا من الحوادث التي تقشعر منها الجلود، ويندى لها جبين كل رحوم، وكم تُحدِّث: أصبح أولاد فلان أيتام، وأصبحت نساؤه أرامل، وكم نسمع: لقد ذهب فلان وأهله وأولاده ضحية حادث، فهل ارتدع البعض من الناس عند سماع هذه الأخبار؟ كلا والله، فإنهم في غيهم يعمهون، وعلى السرعة الجنونية مستمرون، نتيجة ذلك وحاصله نقص الإيمان، وعدم احترام الأرواح البريئة، وقسوة القلوب التي أثرت عليها عوامل الشر والفساد من أكل الحرام، واستعمال المخدرات التي فشت وانتشرت، نسأل الله أن يقطع دابر من يستوردها، وأن يجعله فريسة لسباع البر قبل أن يدخل بها بلاد المسلمين.
يا عباد الله: احذروا من السرعة، احذروا يا من تعرضون أنفسكم وأهليكم وأولادكم للخطر وأنتم لا تشعرون! احذروا أن تقعوا في وعيد الله، في هذه الآية الكريمة التي يقول فيها: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} لكن إذا اعتديتم وتجرأتم وتعديتم الحدود وحصل منكم بعض الأسباب التي جنيتم بها على أنفسكم من قتل أو غيره فعند ذلك سقطت حرمتكم من عين الله عز وجل، وحل بكم هذا الوعيد {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.(150/4)
النهي عن إيذاء المؤمنين
أمة الإسلام عباد الله! من رحمة الله جل وعلا أنه ينهى عن إيذاء المؤمنين، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] وما أكثر الأذى اليوم! إلى الله نشكو، ما أكثر الأذى اليوم في شوارع المسلمين العامة والخاصة! وهو ما يحصل من البعض من الإزعاج، سواء كان من السرعة، أو التفحيط، أو مغازلة النساء، أو معاكسة الفتيات، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا نهاية قصدنا، ولا إلى النار مصيرنا، ولا تسلط علينا سفهاءنا، اللهم لا تسلط علنيا من لا يرحمنا من السفهاء وغيرهم يا رب العالمين.
بقي شيءٌ أختم به الكلام، وهو أنه ينبغي للمسلمين جميعاً أن يكونوا يداً واحدة متعاونين على البر والتقوى، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء ويأطرونهم على الحق أطراً، ولا يتركون لهم الحبل على الغارب، كونوا عباد الله إخواناً متناصحين ومتحدي الصف والكلمة، ولا يخذلنكم الشيطان عن ذلك إنه لكم عدو مبين.
اللهم وفقنا جميعاً وأئمتنا وولاة أمورنا للقيام بما يرضيك يا رب العالمين، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا يا أرحم الراحمين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(150/5)
التوبة النصوح
الحمد لله الذي فتح باب التوبة للمذنبين، وكتب الرحمة لعباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله أن لا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر الميامين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: استجيبوا لنداء الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8].
عباد الله: إن الله يدعوكم إلى التوبة النصوح، وقد فتح باب الرحمة والتوبة للمؤمنين على مصراعيه، وجعله أوسع الأبواب، ليعلموا أن لهم رباً عظيما يتضاءل بالتوبة أمام رحمته وعفوه كل ذنب.(150/6)
حقيقة التوبة النصوح
عباد الله إن التوبة النصوح الصحيحة التي يكفر الله بها السيئات ويدخل بها الجنات هي الإقلاع عن الذنوب جميعها؛ الصغائر منها والكبائر، ويندم على ما مضى منها، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل، ويرد المظالم، ويتحلل من أهلها قبل يوم القيامة.(150/7)
من التوبة الكف عن إيذاء المؤمنين
عباد الله: توبوا إلى ربكم وأسلموا له واعملوا صالحاً ينجيكم من عذابه يوم القارعة، يوم الطامة والزلزلة، يوم الحسرة والندامة، فلا تكونوا غافلين عن الموت هاذم اللذات، ولا تنسوا سكرات الموت وأهواله، فهنيئاً لمن تيقظ وتاب وأناب وعمل صالحاً! وتباً لمن غفل وأسرف على نفسه، وسوَّف بالتوبة ووافته المنية على إصراره، وعلى إيذاء عباد الله وإزعاجهم بملاحقة النساء، والتفحيط في شوارعهم العامة والخاصة، ويا لها من فتنة عمياء وتقليد أحمق! اللهم اهدِ ضال المسلمين.
عباد الله: أولادكم أمانة في أعناقكم، ونحن مسئولون عنهم أمام الله يوم القيامة.
عباد الله: لينظر كل منا منقلبه ما دام في زمن الإمهال، وليتعرف إلى الله عز وجل، وليتفكر في منتهاه ما دام الأمر ممكناً، قبل {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
عباد الله: إن على الإنسان أن يعمل سراً وجهراً بطاعة الله جل وعلا، ويذكر ربه وما أحاطه به من النعم، وما له عليه من حقوق، ويذكر ضعفه وموته وما في القيامة من أهوال وماذا عمل، يذكر ذلك استعداداً لذلك اليوم العظيم المروع، فيستحضر تقصيره، ويتذكر تفريطه، وما يدري ما يفعل به.
فيا أخي المسلم: إن المعاصي تمحق بركة العمر والرزق والعلم، والطاعة والتوبة واجبة في كل وقت امتثالاً لأمر الله ورسوله بها، فهيا إلى التوبة يا عباد الله!، فالحياة مرة، فإذا انتهت فلا كرة ولا رجوع، هيا إلى التوبة من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خلال، فقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب، والمسوف بالتوبة بين خطرين عظيمين؛ إما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو، وإما أن يعاجله المرض وهاذم اللذات فجأة فلا يجد مهلة لتدارك ما فات.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم أصلحنا جميعاً، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا جميعاً هداة مهتدين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا واللواط، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(150/8)
الحث على الأمر بالمعروف
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أفراد هذه الأمة، إذ أنه ركن من أركان هذا الدين، ولا يقوم دين الإسلام إلا به، ومن رحمة الله لهذه الأمة الإسلامية أن بين لها ما يضرها وما ينفعها.
وفي هذا الدرس بين الشيخ أهمية الأمر بالمعروف وفضله ومنزلته من الدين، وذكر عاقبة تركه وإهماله.(151/1)
المؤمن لا يغتر بالدنيا ولا يأمن مكر الله
الحمد لله القوي العظيم، الرقيب الشديد، يدبر خلقه كما يشاء بحكمته، فهو الفعال لما يريد، أحسن ما شرع، وأتقن ما صنع فهو الولي الحميد، حد لعباده حدوداً, ونظم لهم تنظيماً، وقال لهم: {وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فصار الناس على أقسام: فمنهم ظالم لنفسه, ومنهم مقتصد, ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وهو الملك القهار فلا ضد له ولا نديد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائم بأمر الله، الناصح لعباد الله على الرشد والتسديد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وافضوا أسماعكم إلى نداء رب العالمين, حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] ويقول جل وعلا: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] ويقول جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
أمة الإسلام: لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، لا تغرنكم الأموال وكثرتها، ولا تغرنكم الزخارف والأماني الخداعة، ولا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها، ولا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان، ولا يغرنكم إمهاله لكم مع تقصيركم في الواجب وتماديكم بالعصيان، إن اغتراركم بهذا من الأماني الباطلة والآمال الكاذبة {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(151/2)
أسباب تدهور الأمة الإسلامية
أمة الإسلام: لقد انتشرت المعاصي في مجتمع الأمة الإسلامية، وأصبح ما كان منكراً بالأمس معروفاً اليوم، أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات وتعاملوا بالربا ومنعوا الزكاة، ابتعدوا عن الحياة، انتهكوا الحرمات، صاروا كالبهائم يطلبون متاع الدنيا وإن أضاعوا الدين، صدوا عن سبيل الله واتبعوا سبل الكافرين، زين لهم سوء أعمالهم فظنوا ذلك تحرراً وتقدماً وتطوراً، وما علموا أن ذلك هو الرق تحت قيود الهوى، والتأخر عن الفضائل إلى الوراء، والتدهور إلى الهواية والردى.
أيها المسلمون! إن أسباب هذا التدهور ترجع إلى أمرين:
الأول: ضعف الدين في النفوس, وقوة الداعي إلى الباطل.
الثاني: ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمداهنة في دين الله عز وجل.
يا أمة الإسلام: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إن حماية الدين، وإن عزّ هذا الدين لا تكون ولا تحصل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم يا أمة الإسلام، الأمر بما أمر الله به ورسوله، والنهي عما نهى الله عنه ورسوله، وذلك بقصد النصيحة لله ولعباد الله، بقصد الدعوة والإرشاد.(151/3)
فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها المسلمون! إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على هذه الأمة الإسلامية التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله إن استقامت على دين الله عز وجل، ومصداق ذلك في كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول وقوله الحق: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] ثم النهي عن ألا تقع هذه الأمة بما وقع بها من سبقها من الأمم قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
أمة الإسلام: إنكم إن قمتم بهذا الذي أمركم الله به كنتم خير أمة أخرجت للناس، وإن تركتم ذلك كنتم من شرار الأمم، إنه لا نسب بين الله وبين عباده، ولكن من اتقاه فهو الكريم عنده جل وعلا، أكرم الناس عند الله أتقاهم لله.
أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على فئة معينة من الناس، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الناس جميعاً كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل تعلم الفئة التي أسند إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن في بيتك من المنكرات الضارة في دينك وفي دنياك؟
هل تعلم أن عندك في بيتك أولاد لا يعرفون الإسلام؟
هل تعلم أن في بيتك نساء لا يعرفن الله طرفة عين؟
كل ذلك وُكِلَ أمره إليك {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف واجب على الناس جميعاً كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} البعض من الناس يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بفئة معينة من الناس وهذا ظن فاسد, فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: {من رأى منكم منكراً} وهذا عام لكل من رأى المنكر يجب أن يغير بيده: بالضرب أو غيره، فإن لم يستطع فبلسانه: بالكلام والنصح والإرشاد، أو الكلام مع ولاة الأمور إن لم ينفع الكلام مع ذلك الذي يعمل المنكر.
وكل واحد منا يستطيع أن يتكلم مع المسئولين في منع المنكر، ويجب على المسئولين إذا بلغهم الأمر أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الإصلاح, وأن يجتمعوا على ذلك لينالوا الفوز والفلاح، إن علينا جميعاً أن نترك الدعة والسكون وأن نقوم لله مخلصين له الدين، وأولاً نبدأ بأنفسنا وأهلينا وأولادنا ومن تحت أيدينا، نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر.(151/4)
عاقبة الفساد في الأرض وانتشار المعاصي
أيها المسلمون: إن من المؤسف المروع أن ترى مجتمعنا الإسلامي، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تراها هكذا شعوباً متفككة ومتفرقة، مضيعين لأمر الله، لا يغارون لدين الله، ولا يتفقد الرجل أهله وولده لا ينظر في جيرانه، بل تراه يرى المعاصي فيهم ولا ينهاهم عنها، ويرى التقصير في الواجب فلا يتداركه، وهذا -أيها المسلمون- ينذر بالخطر الجسيم والعذاب الأليم لا سيّما مع كثرة النعم والانغماس في الترف.
نعم يا أمة الإسلام! إن النعم تدر علينا ليل نهار, ونحن نتمادى في المعاصي، نقصر في طاعة الله، وهذا -والله- ينذر بالخطر الجسيم والعذاب الأليم لا سيما مع كثرة النعم, والانغماس في الترف, يقول سبحانه وتعالى محذراً في القرآن العظيم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].
قول بليغ يفهمه كل إنسان {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] ويقول جل وعلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
اللهم ألهمنا رشدنا, وهيئ لنا الخير واجمع كلمتنا على الحق يا رب العالمين، اللهم أبرم لأمتنا الإسلامية أمراً يؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(151/5)
عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله أمر بطاعته وطاعة رسوله, ورتب على ذلك أجراً عظيماً، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله, ورتب على من ارتكب ذلك أن يعاقبه بما يستحق من العقوبة في الدنيا والآخرة.
أحمده وأشكره الذي لم يتركنا هملاً ولم يخلقنا عبثاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق على الإطلاق في الدعوة والإرشاد والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا لله عز وجل، اتقوا الله عز وجل، اتقوا الله عز وجل، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حافظوا على حدود الله، تمسكوا بالأخلاق القيمة والآداب الجميلة، قوموا بأوامر الله وانتهوا عن ما نهاكم عنه، واتحدوا ولا تتفرقوا، واعلموا أن الأمة لا يمكن أن تكون أمة قوية مرموقة حتى تتحد في أهدافها وأعمالها، ولا يمكنها ذلك حتى تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون على دين واحد في العقيدة والقول والعمل، وتنهج صراطاً مستقيماً، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، أما إذا لم تقم بذلك فإنها تتفكك وتنفصم عراها، يكون لكل واحد هدف ولكل واحد طريق وعمل؛ عند ذلك يتفرقون أحزاباً وشيعاً، يتيهون في متاهات الضلال، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: إذا لم تقم الأمة بأمر الله وتسعى في إصلاح المجتمع بالالتزام بدين الله فمن الذي يقوم ويسعى بذلك؟
وإذا لم نتكاتف على منع الشر والفساد فكلنا هالك، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو أكيله -أي: يأكل معه- فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب ببعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصو وكانوا يعتدون} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده, لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض, ثم يلعنكم كما لعنهم} فاتقوا الله عباد الله وكونوا على حذر فإن الله يغار.
لما فتح المسلمون جزيرة قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرُئي أبو الدرداء رضي الله عنه -وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- يبكي فقيل له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمر الله، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، صاروا إلى الأسر، صاروا إلى القتل والهوان.
فاتقوا الله يا عباد الله، واعتبروا يا أولي الأبصار، اعتبروا يا أولي الألباب واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأكرم وأنعم بهم من رجالٍ قاموا بأمر الله, ونهجوا الطريق المستقيم, رضي الله عنهم وعن جميع أصحاب رسوله أجمعين، وعنا معهم بفضله وكرمه وإحسانه، وإن كنا مقصرين إنه أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعد للمسلمين كرامتهم وعزتهم يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمة وولاة أمور المسلمين ووفقهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا حي يا قيوم، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، اللهم مزق شملهم، وشتت جمعهم، واقطع دابرهم، واجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط, وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، اللهم أرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، الله أغثنا، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكرو على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(151/6)
التبرج والسفور
جاء الدين الإسلامي بسد كل السبل المفضية إلى الوقوع في الإثم والفاحشة، ولما كان التبرج والسفور من أسباب انتشار الفاحشة ومن ثم عقاب الله؛ نهى الله المؤمنات عن ذلك، وأمرهن بلزوم البيوت، وإخفاء المفاتن ومواضع الزينة، وعدم تليين الكلام، وعدم الاختلاط بالرجال.
وأمر الله الرجال والنساء جميعاً بغض البصر ولزوم مراقبة الله في السر والعلن.(152/1)
ظاهرة التبرج والسفور
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعم, ورضي لنا الإسلام ديناً, نحمدك اللهم ونشكرك ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك, قلت وقولك الحق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك أدى الأمانة وبلِّغ الرسالة ونصح الأمة.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وتمسكوا بدين الإسلام، وطبقوا دين الإسلام كما أراد الله ظاهراً وباطناً, واحذروا مضلات الفتن، وحاربوا البدع والعادات القبيحة, التي جاء الإسلام ليقضي عليها ويزيلها.
أمة الإسلام: إنه لا يخفى على كل من له معرفة ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهنَّ, وعدم التحجب من الرجال, وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة.(152/2)
السفور من أسباب عقوبة الله
إن من أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات ما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش, وارتكاب الجرائم, وقلة الحياء, وعموم الفساد.
وقد صح أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه} أي منكر أكبر من مطالبة المنحطين ومتأخري الأفكار بإخراج المرأة من دائرة الحشمة والعفة إلى مزاحمة الرجال في المكاتب والمؤسسات, وقيادة السيارة وغيرها, التي ليست من شئون المرأة ولم تندب إليها، بل وظيفة المرأة أن تكون ربة بيت قائمة بواجبها نحو الزوج والأولاد, متمسكة بآداب الإسلام, ممتثلة لأوامر الله بالتحجب, ولزوم البيوت, والحذر من التبرج والخضوع بالقول للرجال؛ صيانةً لهذه المرأة عن الفساد، وتحذيراً لها من أسباب الفتنة.(152/3)
أدلة تحريم التبرج والسفور
يقول ربنا جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:32 - 33].
ففي هذه الآيات ينهى ربنا جل وعلا نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين, وهن من خير النساء وأطهرهن على الإطلاق, ينهاهن عن الخضوع بالقول عند الرجال، وهن من خير النساء ينهاهن عن تليين الكلام وترقيقه, لئلا يطمع الذي في قلبه مرض شهوة الزنا, ويظن أنهن يوافقنه على ذلك.
ويأمر جل وعلا بلزومهن البيوت وينهاهن عن تبرج الجاهلية, وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراعين والساقين ونحو ذلك من الزينة؛ لما في ذلك من الفساد العظيم, والفتنة الكبيرة, وتحريك قلوب الرجال حتى أودت بالشباب إلى الجنون, حتى صاروا يفحطون في الشوارع بدون عقول, إن الجنون فنون!
إن تفحيط الشباب وظهورهم بهذا المظهر إنما هو من جنون القرن العشرين, وما ظهر فيه من الفتن؛ بما في ذلك من الشر المستطير الذي حصل من تبرج النساء؛ لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
إذا كان الله سبحانه وتعالى يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن فغيرهنَّ أولى بالتحذير والإنكار, والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن.
ففي هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن يقول ربكم جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لأي شيء ذلك يا ربنا؟ {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] ففي هذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال, وتسترهن من الرجال, وهذا واضح من كلام رب العالمين، أن التحجب أطهر لقلوب الرجال وقلوب النساء، وأبعد في الوقوع عن الفاحشة وأسبابها.(152/4)
دعاة السفور ودعاويهم
ويشير ربنا سبحانه وبحمده في الآيات إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة, وأن التحجب طهارة وسلامة.(152/5)
التمسك بالعادات والتقاليد
إن الذين يكابرون ويعاندون ويردون أحكام الشريعة ويقولون: إنا لا نترك العادات والتقاليد, فيهم شبه من المشركين الذين قالوا: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فالإسلام يأتي ليحارب تلك البدع، وليحارب ذلك التخلف، وليحارب عادات الجاهلية, وهم يقولون: إننا لا نترك العادات والتقاليد، وقلوبنا نظيفة، تلك حجة المعاندين الذين لم يذوقوا طعم الإيمان, ولم يرتووا من أحكام هذه الشريعة السمحة, وإنما ارتووا من المجلات والجرائد الخليعة التي تريد أن تخرجهم من دائرة الإسلام, وتدخلهم في دين بيجن وشركاؤه من أعوان الظلمة والكفار.
فهذه الآيات والأحكام ليست خاصة بزوجات نبينا صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة في زوجاته وبناته ونساء المؤمنين، بقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] والجلابيب: جمع جلباب؛ وهو: ما تضعه المرأة على رأسها في التحجب والتستر به، وبه أمر الله سبحانه وتعالى جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك, حتى يعرفن بالعفة فلا يؤذين أحداً ولا يؤذيهن أحد.
ويقول ربنا جل وعلا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] ففي هذه الآيات يخبر تعالى أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً, لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن, إذا كن غير متبرجات بزينة, فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها, وغير ذلك من زينتها وأن عليها جناحاً في ذلك ولو كانت عجوزاً؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة؛ ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة, ولو كانت عجوزاً, فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر.
عباد الله: لا يخفى ما وقع فيه الناس اليوم من التوسع في التبرج, وإبداء المحاسن، فالواجب سد الذرائع وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد وظهور الفواحش, وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم}.(152/6)
ادعاء طهارة القلوب
ومن أعظم أسباب الفساد والمعاندة ما يفعله بعض الناس من الاختلاط بدون محرم, وبدون حجاب, ويقولون: هذه عاداتنا وتقاليدنا والقلوب نظيفة, نقول لهم: أنتم أنظف قلوباً من قلوب الصحابة؟! هذا سؤال لهم، هل هم أنظف قلوباً أم الصحابة رضي الله عنهم؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمن الصحابة الذين هم خير القرون: {لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون زوجاً أو ذو محرم} كل هذه المقالات في عهد الصحابة رضي الله عنه الذين هم خير القرون وأنظف قلوباً من قلوبنا, ويا ليت قلوبنا تزن من قلوبهم ولو مثقال ذرة.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج وإظهار المحاسن والتشبه بأعداء الإسلام, واعلموا أن السكوت على هذه المنكرات مشاركة لهن في الإثم, وتعرض لغضب الله, وعموم عقابه, عافنا الله وإياكم وجميع المسلمين من ذلك.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(152/7)
أسباب توقي الفتن
الحمد لله كما أمر, وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, على رغم أنف من جحد به وكفر, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاء بها نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول ربكم جل وعلا في محكم التنزيل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31] فيأمر فيها سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار, وحفظ الفروج, وما ذلك إلا لعظيم فاحشة الزنا, وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين؛ ولأن إطلاق البصر من وسائل مرض القلب, ووقوع الفاحشة, وغض البصر من أسباب السلامة من ذلك وأحفظ للفرج، وأزكى للمؤمن في الدنيا والآخرة.
ويخبر جل وعلا أنه خبير بما يصنعه الناس, وأنه لا يخفى عليه خافية, وفي ذلك تحذير للمؤمنين من ركوب ما حرم الله, والإعراض عما شرعه الله له, وتذكير له بأن الله سبحانه وتعالى يراه ويعلم أفعاله الطيبة وغيرها, كما يقول جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
فيا عباد الله: ويا أمة الإسلام! الواجب على المسلم أن يحامي على نسائه وبناته، وعلى أخواته وزوجاته, ولا يغرنه أقوال المنخدعين, وأقوال المنحرفين, وأقوال الضالين: إنه موسوس, إنه منحط, إنه متجمد, يا للأسف الشديد! إنها أقوال قد عدَّها بعض العلماء من نواقض الإسلام التي تدخل صاحبها في الكفر والعياذ بالله.
فالواجب على العبد أن يحذر ربه عز وجل، وأن يستحي منه أن يراه على معصيته، أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه ويقول سبحانه وبحمده: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] فأمر جل وعلا المؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج, كما أمر المؤمنين بذلك؛ صيانة لهن من أسباب الفتنة وتحريض لهن على أسباب العفة والسلامة.
فاحذروا يا عباد الله! احذروا يا أمة الإسلام! احذروا من طلاقة البصر, ومن الخلوة بالنساء, والدخول عليهن بدون محرم؛ لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد, واحذروا من مصافحة المرأة الأجنبية؛ فإنها ليست من المحارم, وفيه وعيد شديد, وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
وصلوا على سيدنا ونبينا محمد كما أمرنا الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى علي صلاة، صلَّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعد للمسلمين مجدهم، اللهم أعد للمسلمين عزتهم، اللهم عزنا بالإسلام, اللهم أذل الشرك والمشركين, ودمّر أعداء الدين, وانصر عبادك الموحدين، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله, واخذل من خذل الإسلام وأهله.
اللهم دمّر اليهود والنصارى والشيوعيين ومن به عداء للإسلام والمسلمين, ومن كان من جلدتهم, وإن كان من جلدتهم, وإن كان ينطق بلهجتهم, اللهم اشدد وطأتك على الكافرين ودمرهم تدميراً يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك الموحدين, واجعل هذا البلد وجميع بلدان المسلمين عامة مطمئنة آمنة يا رب العالمين.
اللهم أرنا الحق حقاًً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واهدنا وإياهم لما فيه الصلاح والخير في الدنيا والآخرة، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا, اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(152/8)
مشاهد القيامة
وعد الله تعالى من أطاعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ووعده بجنة عرضها السماوات والأرض، من دخلها لا يبأس أبداً، فيها من النعيم والإكرام، وذهاب الضغائن والأحقاد، وما تلذ الأنفس وما تشتهيه، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأعظم من ذلك كله رؤية المؤمنين لربهم جلَّ وعلا.(153/1)
وصف نعيم الجنة
الحمد لله، الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً، وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغ لها عوجاً، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقةٍ مخرجاً، وأعقب من ضيق الشدائد وظنك الأوابد لمن توكل عليه فرجاً، وجعل قلوب أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء، فسبحان من أفاض على خلقه النعمة! وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه، وأسبغ على عباده نعمه الظاهرة والباطنة، وسخر لهم البر والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياء والظلال، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره في دار السلام، يدعوهم إلى جواره في دار النعيم واللذة والسرور، يدعوهم إلى جنةً عاليةٍ قطوفها دانية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعامِلين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على العباد أجمعين، داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يدعو الناس إلى الجنة ويحذرهم من النار، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: لقد سمعتم في الخطبة الماضية أوصاف القيامة، وما فيها من الأهوال والشدائد العظيمة والأمور المفزعة التي من شدتها تشيب الولدان، وتضع الحوامل حملها، وتذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت ففي يوم القيامة ينقسم الناس إلى قسمين: قسم إلى النار المحرقة، وقسم إلى الجنة التي لا يخرب بنيانها ولا يهرم شبانها ولا تبلى ثيابهم، ولا ينقطع نعيمهم، في جوار أرحم الراحمين.(153/2)
الحث على المسارعة بالأعمال الصالحة
اسمعوا إلى المولى جل وعلا وهو يحثكم إليها: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136] ويقال لأهل الجنة -اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم-: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:46 - 47] تصوروا ذلك المجلس يا عباد الله! تصوروا ذلك المجلس، وفكروا فيه طويلاً {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:47 - 48] ويقال لأهل الجنة: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] من هم -يا عباد الله- الذين يقال لهم هذا؟ يقال للذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:69 - 73].(153/3)
حال أهل النعيم في الجنة
ثم هم -يا عباد الله- في مقامٍ أمينٍ من الحوادث وغيرها، في أمان من تغير الزمان وتقلبات الحياة، في جنات وعيون لهم فيها من اللباس السندس والإستبرق متنعمين مع الزوجات من الحور العين الراضيات المرضيات الآمنات الطاهرات من الحيض والنفاس والمخاط، اسمعوا يا عباد الله! اسمعوا يا من تشتاقون إلى الجنة! {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] نسألك اللهم من فضلك.
اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:51 - 52] اللهم إنا نسألك من فضلك، الله أكبر -يا عباد الله- تذوقوا طعم الجنة قبل أن تدخلوا الجنة، يقول ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخرة.
تذوقوا طعم الجنة.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان:51 - 56] سكرات الموت سلموا منها، سلموا من الموت الذي هو أشد من الضرب بالسيوف والقرض بالمقاريض {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] لأن أهل الدنيا وإن كانوا في القصور والفلل والعمارات، فإنهم سوف يذوقون الموت، أما أهل الجنة، فإنهم لا يذوقون الموت، تكفيهم الموتة الأولى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] ومع ذلك {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:56 - 57] إي وربي إنه لهو الفوز العظيم في جنة النعيم!
عباد الله: بادروا إلى الجنة وما أعد الله فيها لعباده الصالحين، يقول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} ويقول رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم: {أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكبٌ دريٌ في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتفلون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين، على خلق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء} متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: {آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم فيها المسك، ولكل واحدٌ منهم زوجتان يُرى مخ ساقيهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجلٍ واحد يسبحون الله بكرةً وعشياً}.(153/4)
آخر أهل الجنة دخولاً إليها
عباد الله: لقد جاء الخبر الصحيح عن الصادق المصدوق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم {أن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربي! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكِ من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت ربي، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت ربي، قال موسى عليه السلام: ربي أعلاهم منزلة؟ -يسأل عن أعلى أهل الجنة منزلة- قال الله: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عينٌ، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر}.
حديث صحيح، رواه مسلم.
وجعل الله عز وجل زوجات أهل الجنة عُرباً أتراباً، والعرب هي: المرأة المتوددة إلى زوجها باللطافة ولين الكلام، ومع ذلك هنَّ على سن واحد، ولا تباغض، ولا تحاسد في الجنة، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفوق ذلك أنهم فيها خالدون لا يبغون عنها حولاً، ولا هم عنها مخرجون، ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وفوق ذلك أن الله أحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً.(153/5)
أعظم النعيم في الجنة رؤية الله جل جلاله
وفوق ذلك كله ما يحصل لهم من التلذذ برؤية ربهم عز وجل إذا كشف الحجاب الذي بينه وبينهم، فهم يرونه عياناً بأبصارهم كما أخبر بذلك الصادق المصدوق رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروبها فافعلوا} وهي صلاة الصبح وصلاة العصر.
عباد الله: إن سألتم عن صفات أهل هذه الجنات وساكني تلك الغرفات، فهم الذين وصفهم الله بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(153/6)
شدة كرب الموقف يوم القيامة
الحمد لله أمره بين الكاف والنون وإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، يأمر إسرافيل بنفخ الصور فإذا هم قيام من الأجداث إلى ربهم ينسلون، أحمد الله الذي لا إله إلا هو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشكره على نعمه وأسأله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا ظهير ولا معين له {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:(153/7)
الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم في أرض المحشر
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن أمامكم القيامة وما فيها من الأهوال والأمور الفظيعة، يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مما ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس} تصوروا هذا الموقف يا عباد الله! فكروا في هذا الموقف، أطيلوا النظر طويلاً في هذا الموقف مثلما تطيلون النظر في المخطط إذا سلمكم إياه المهندس، أطيلوا النظر بهذا الموقف العظيم مثلما تطيلون النظر في الصك هل نقص القاضي أم زاد من مساحة الأرض، أطيلوا النظر في هذا الموقف، فالأمر عظيم أشد من مخطط المهندس، أشد من الصك الذي يسلمك إياه القاضي.
يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، ونحن معهم وقوف، وتدنو منهم الشمس، ويبلغ الناس من الهمِّ والكرب ما لا يطيقون، فلا يحتملون، فيقول الناس وهم يموجون بعضهم على بعض، الأقدام متزاحمة، والأرض بهم متضايقة: {ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم! فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه، ويقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وقد نهاني عن أكل الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، ويقول نوح مثلما قال آدم: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم ويقول مثلما قال نوح: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى ويقول مثلما قال إبراهيم، يقول: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى ويقول مثلما قال موسى: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون محمداً، فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنطلق فآتي تحت العرش، فأخر ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفعْ تشفعْ، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا ربِ! أمتي يا ربِ، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى} متفق عليه.
اللهم أدخلنا من تلك الأبواب، اللهم أدخلنا من تلك الأبواب، اللهم لا تحرمنا من شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اسقنا من حوضه شربةً هنيئةً مريئةً لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] صلوا على رسول الله وأكثروا من الصلاة عليه، قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم افتح مسامع قلوبنا لقبول الحق يا رب العالمين! اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(153/8)
تعرف على الله في الرخاء
إن المتأمل في الكون وما أودع الله تعالى فيه من آيات باهرات تسير في نظام دقيق ومسار منسق يزداد إيماناً إلى إيمانه، ويقيناً إلى يقينه، ويقوده ذلك إلى التعرف على الله خالق تلك الآيات الكونية العظيمة.
ومن تعرف على الله في الرخاء والتجأ إليه في حالة الأمن؛ كان الله معه في حالة الشدة والخوف.(154/1)
التفكر في آيات الله سبيل معرفة الله
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسلك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: تعرفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة.
عباد الله: تفكروا في آيات الله عز وجل، فإنها تدلكم على وحدانية الله تعالى، وتدلكم على كمال ربوبيته، وتدلكم على أن الله وحده هو الذي يتصرف في ملكه، ولا يشاركه أحدٌ لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111].(154/2)
التفكر في السماء وما فيها
عباد الله: تفكروا في آيات الله، انظروا إلى السماء في حسنها وارتفاعها وجمالها، فإن فيها دلالة عظيمة على قدرة الباري جل وعلا، قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وقد قامت بقدرة الباري جل وعلا: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ويقول جل وعلا: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29] فلا إله إلا الله، له القدرة التامة على كل شيء.(154/3)
التفكر في الأرض وما عليها
ثم انظروا -يا عباد الله- إلى الأرض التي مهدها الله لكم، وجعل فيها سبلاً، ثم أرساها بالجبال؛ لتكون مستقرة لا تميد ولا تتحرك إلا بإذن الله تعالى، ثم هي ميسرة، فكل العباد يمشون عليها، ويزرعون فيها، ويطلبون المعايش بأنواعها على هذه الأرض التي قال الله تعالى فيها: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:30 - 32] ما ظنكم -يا عباد الله- لو أن الأرض تميد بأهلها وتنكفئ وتنقلب بهم هل يرتاحون عليها؟ لا.
ورب العزة والجلال؛ ولكن قال جل وعلا: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:32 - 33] ويقول أيضاً: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7].
ثم انظروا إلى الأرض يا عباد الله! قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] كل هذه الأصناف {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد:4] ثم انظروا إلى النبات وإلى الثمرة، تجدونها مختلفة الأرض واحدة، والماء واحد، ولكن النبات باختلافه تختلف هذه الثمار بقدرة من؟! بقدرة الله الذي لا إله إلا هو، فمن تأمل ذلك -يا عباد الله- وعقل وتدبر؛ علم كمال قدرة الباري جل وعلا.
ومن آياته ما بث في الأرض من المخلوقات الكثيرة على اختلاف أشكالها وألوانها ولغاتها، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم:20].
ولما خلق الله الخلق، خلق لكل شكل ما يناسبه من الزوجات، أما بنو آدم فخلق الله لهم زوجات من أشكالهم ومن أنفسهم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].(154/4)
التفكر في رزق المخلوقات
ثم تفكروا في هذه المخلوقات الكثيرة المنتشرة، هل هي ترزق أنفسها أم لها ربٌ يرزقها؟ بل لها رب يرزقها فإن الله وحده لا شريك له هو الذي تكفل بأرزاق العباد، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
من الذي هدى النملة حتى تدخر قوت الصيف للشتاء إلا الله؟ ومن الذي هداها إذا دخل عليها الماء أن تنشر طعامها على بيتها حتى ينشف، ثم تدخله إلى بيتها مرة أخرى من الذي هداها إلا الله؟ اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا.(154/5)
التفكر في خلق الملائكة
وكما خلق الله جل وعلا في الأرض من أصناف الخلق، فقد خلق في السماء ملائكة لا يحصيهم إلا هو سبحانه, فما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائمٌ لله تعالى، أو راكع أو ساجد، ثم يوم القيامة يقولون كلهم: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ويطوف في البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
ومن الملائكة حملة العرش، ومنهم الروح الأمين جبريل عليه السلام الموكل بالوحي، له ستمائة جناح، ومنهم ميكائيل الموكل بالقطر، ومنهم إسرافيل الموكل بنفخ الصور، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومنهم ملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، ومنهم الحفظة، ومنهم زبانية جهنم، ومنهم الملائكة الذين يستقبلون المؤمنين في الجنة، وملك الأرواح الذي ينفخ الروح في الأرحام، يرسله الله إذا بلغ الجنين أربعة أشهر وعشراً لينفخ فيه الروح وغيرهم كثير لا يعلمهم إلا الله.(154/6)
التفكر في آيتي الليل والنهار
عباد الله: تفكروا في هاتين الآيتين العظيمتين: الليل والنهار، فالليل جعله الله للراحة، والنهار لطلب المعاش، وابتغاؤكم من فضله، يقول رب العزة والجلال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71 - 73].(154/7)
التفكر في الشمس والقمر والكواكب والنجوم
ومن آيات الله تعالى وتقدس: الشمس والقمر حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى، يجريان بسير منتظم لا تغير فيه ولا انحراف، ولا فساد، ولا اختلاف, حتى يأذن الله تعالى بخراب هذا العالم، ثم تلف وتكور وتجمع، ثم تلقى في النار، يقول الله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9] ثم يلفان ويلقيان في النار.
عباد الله: تفكروا في آيات الله العظيمة، تفكروا في هذه الآيات العظيمة التي تجري بنظامٍ سيّرها الله فيه، يقول المولى جل وعلا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40].
ثم تفكروا -يا عباد الله- في هذه الكواكب والنجوم التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، فمنها السيارات، ومنها الثوابت، ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة، ومنها المتفارقات التي تجتمع أحياناً وتفترق أحياناً، تسير بأمر الله تعالى وتدبيره، خلقها الله زينةً للسماء ورجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يهتدى بها في ظلمات البر والبحر والكون كله من آيات الله جملةً وتفصيلاً، هو الذي خلقه، وهو المدبر له وحده لا شريك له، وهذه بعض آيات الله، فمن آمن بها وصدق؛ فليبشر بثواب الله، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].(154/8)
التفكر في أنفسنا
عباد الله: تفكروا أيضاً في هذا الخلق البديع في خلق أنفسكم؛ كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فالله جلت قدرته هو الخالق لكل مخلوق الله جل وعلا هو الموجد لكل موجود الله جل وعلا هو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن مساكين ضعاف الإيمان، مساكين الذين ضاعت عندهم العقيدة ولم يعترفوا بالله، نسأل الله العفو والعافية، الله جل وعلا يقول: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16] ويقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر:62].
فيا عباد الله: تعرفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، تقربوا إلى الله بطاعته وعلينا أن نجدد إيماننا بالله سبحانه وتعالى، ونلتجئ إليه نوحده ونؤمن به، ونعلم أن الله هو الواحد الأحد الفرد الصمد, الحي القيوم, الذي لا يموت أبداً.
اللهم ارزقنا إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا، اللهم إنا نسألك اليقين والعافية، اللهم إنا نسألك اليقين والعافية، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
عباد الله: استغفروا ربكم، فإنه غفور رحيم.(154/9)
من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على البيضاء ليلها كنهارها، وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله: لقد سمعتم من آيات الله الكبرى ومخلوقاته العظمى التي تدل على وحدانيته، وعلى قدرته التامة على كل شيء، وأنه وحده لا شريك له في ملكه، ولا ند، ولا ظهير، ولا وزير، ولا صاحبة، ولا ولد, قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] هو الله جلت قدرته: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] فيا ويل من أعرض عن الله! ويا ويل من غفل عن الله! ويا ويل من ابتعد عن الله!
الله جل وعلا له ما سكن في الليل والنهار, وهو السميع العليم هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير هو الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم.
عباد الله: تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، وتقربوا إليه بطاعته فهو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلّت لجبروته الصعاب، ولانت بقدرته الشدائد الصلاب رب الأرباب، ومسبب الأسباب.
عباد الله: تعرفوا إلى الله، فهو الذي تعنو له القلوب والوجوه، وتصمد له الخلائق أجمعين كيف يعبد غير الله؟! وكيف يستعان بغير الله؟! وكيف يتوسل بغير الله وذلك كله لله جل وعلا؟! فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك كافر.
عباد الله: احذروا من البدع، واحذروا من مضلات الفتن، والتزموا عقيدة التوحيد، عقيدة أهل السنة والجماعة، واعلموا علم اليقين أن الله هو مالك الملك، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، هو الذي بيده النفع والضر, وبيده أزمَّة الأمور، فالتجئوا إلى الله عباد الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك} اسمع يا صاحب السراج! اسمع يا من ادخرت الطعام! اسمع يا مسكين! يا من ضعف عنده اليقين! {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف}.
اللهم اهدنا ووفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا، اللهم إنا نسألك اليقين والعافية.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم أسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم لا تحرمنا من شفاعته يا أرحم الراحمين.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم تداركنا بواسع رحمتك، واختم بالصالحات أعمالنا يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع عنهم عافيتك ويدك، ومزقهم كل ممزق يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار في مشارق الأرض ومغاربها، يقودونهم قيادة حميدة، ويدلونهم إلى كل خير، ويحذرونهم من كل شر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، وأجرنا يا مولانا جميعاً من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوفنا وأنت راض عنا يا كريم، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع إخواننا المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم واقض الدين عن المدينين من المسلمين، بلطفك يا كريم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(154/10)
من كمال الشريعة الإسلامية
إن الله سبحانه وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم المرسلين، وجعل هذا الدين الذي أرسل به آخر الأديان وناسخها، وجعله صالحاً لكل زمان ومكان وعصر، وجعله كاملاً لا يحتاج الناس إلى غيره من الأديان والأفكار.(155/1)
حال الجاهلية إبان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشكره على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
فيا عباد الله! أمة الإسلام! اتقوا الله عز وجل، ولا يخفى عليكم أن الله عز وجل بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى البشرية جمعاء، بعثه رحمةً منه وإحساناً، ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.
أيها المسلمون! لقد كانت العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء، وشقاءٍ ما بعده شقاء، يعبدون الأصنام ويئدون البنات، ويسفكون الدماء بأدنى سببٍ وبلا سبب، كانوا في ضيق من العيش، وفي نكدٍ وجهدٍ من الحياة، يعيشون عيشة الوحوش ومع الوحوش، يتحاكمون إلى الكهان والطواغيت، فلما جاء الله بهذا الإسلام، وجاء بهذا النبي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، أخرجهم من ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، ومن ظلمة الجهل والطيش إلى نور العلم والحلم، ومن ظلمة الجور والبغي إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمة التفرق والاختلاف إلى نور الاتفاق والوئام، ومن ظلمة الأنانية والاستبداد إلى نور التواضع والتشاور، ومن ظلمة الفقر والجهل إلى نور الغنى والرخاء، بل أخرجهم من ظلمة الموت إلى الحياة السعيدة، أكمل الله به الدين، وأتم به مكارم الأخلاق؛ لأنه يأمر بعبادة الله الواحد القهار الذي أمره الله به لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يأمر ببر الوالدين، وبصلة الأرحام، ويأمر بالإحسان إلى الفقراء والمحتاجين، وبالتحاكم فيما بيننا وفيما تنازعنا فيه إلى الله ورسوله.
ما من خير إلا ودل الأمة عليه، ولا شر إلا وحذر أمته منه، أخبر بما كان وما يكون إلى يوم بعث الأبدان من القبور، رسم للأمة طريق السعادة في الدنيا والآخرة في سياستها الشرعية التي يعجز كل أحدٍ أن يأتي بناحيةٍ من نواحيها، فرسم للأمة طريق السياسة مع الأعداء، وبيَّن لأمة الإسلام كيف يقاتلون أعداء الإسلام، وبيَّن لهم كيف يعاملون أعداء الإسلام، وبيَّن لهم الطرق من الحرب وغيرها من السلم ووجوبه، ومن المعاهدات والصلح وحفظ العهود.
لقد أوجب عليهم الاستعداد بكل قوة لردع الأعداء وإرهابهم بالآلات الحربية، كالطائرات والدبابات والصواريخ وغيرها، ومما يوحد ويزيد المسلمين قوة أمره لهم أن يأخذوا كل نهضتهم، وقبل أن يأخذوا تلك القوة المذكورة عليهم أن يأخذوا القوة المخرقة للأعداء.
ما هو يا أمة الإسلام ذلك السلاح الفتاك بالأعداء؟ ما هو يا عباد الله؟ هو الإيمان بالله الحي القيوم.(155/2)
كمال الشريعة في حقوق الراعي والرعية
أيها المسلمون! لقد بينت الشريعة في الإسلام ما للإمام من الحقوق على رعيته، يقول ربنا جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ويقول سيد البشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {اسمع وأطع لمن ولاه الله أمرك} وقال صلى الله عليه وسلم: {اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي}.
كما بينت الشريعة الإسلامية ما للرعية على ولي الأمر من الحقوق في قوله جلَّ وعلا: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولي أمراً من أمور أمتي فرفق بهم فارفق به، ومن ولي أمراً من أمور أمتي فشق عليهم فاشقق عليه} صلواتك اللهم وسلامك على رسولك النبي الأمي الرحيم بأمته، هذا دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولي أمراً من أمور أمتي فرفق بهم فارفق به، ومن ولي أمراً من أمور أمتي فشق عليهم فاشقق عليه}
وأمرت الشريعة الإسلامية بمشاورة أولي الرأي، بل جعلت الشريعة مكانة الشورى بين الصلاة والزكاة للاهتمام بالشورى وعظم شأنها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38].
كما بينت الشريعة الاستجابة لله ولرسوله وأولي الأمر، ونهت عن الإخلاد إلى الكسل والعجز والدعة والراحة.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا سببٌ للذل، بل أمرهم أن يكونوا أقوياء أشداء أعزاء، لا تلين قناتهم لأحد سوى رب العالمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.(155/3)
كمال الشريعة في الزراعة والصناعة والتجارة
وكذلك أمرت الشريعة بالضرب في الأرض لطلب الكسب والتجارة من غير إفراط باتباع شهوات الدنيا، فأمرت الشريعة بحرث الأرض للمعاش، وحثت على ممارسة الزراعة، وشجَّعت أهلها بما لهم من البركة والأجر العظيم، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، فيأكل منه طيرٌ أو دابة أو إنسان إلا كان له في ذلك صدقة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمرت الشريعة الإسلامية بالصناعة مع العمل الصالح، وجاءت الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود وردع الفساد، ولطالما تمنَّت ذلك الدول الصغيرة التي تدَّعي أنها كبيرة ولكن بحقدهم وحسدهم وعتوهم حرمهم الله ذلك.
أمة الإسلام! لقد جاءت الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود وردع المفسدين وردهم عن فسادهم، من قتل القاتل، وقطع يد السارق، وحد الزنا والقذف وحد المسكر.
وبالجملة! فقد رسمت الشريعة الإسلامية أحكاماً لكلٍ من الزراعة والصناعة والتجارة، وأوجبت حفظ الحقوق، وأمرت بالكتابة والإشهاد، وحرمت كتمان الشهادة أشد تحريم، وما ذلك يا عباد الله! إلا لحماية الأموال، وسلامة الصدور عن التقاطع أو التباغض.
كما نهت الشريعة الإسلامية عن الغش والخداع في المعاملات {من غشنا، فليس منا} وحرمت الربا بأنواعه، وبيع البعض على بيع البعض، وحرمت النجش وبيع الغرر، كل هذا حفظاً للحقوق، وحرصاً على الضوابط بين المسلمين.
أين المسلمين من هذه الأنظمة؟! أين المسلمين من هذه الأنظمة؟! أين المسلمين من هذه الأنظمة؟! من الغش والخداع في المعاملات، من أكل الربا، من الغش بأنواعه، من بيع البعض على بيع بعض، من التدليس، من الغرر، من النجش.(155/4)
كمال الشريعة في شئون الأسرة والأقارب والأرحام
أمة الإسلام! أين المسلمين من هذه الأنظمة؟
لقد أوضحت الشريعة الإسلامية كيف يكون الاقتصاد وكيف يصرف المال، ونهت عن التبذير والتقتير، وأمرت بالقوام بينهما.
كما نظمت الشريعة الإسلامية شئون الأسرة الواحدة عموماً، وبيَّنت حقوق الوالد وما عليه، وحقوق الأولاد وما عليهم، وحقوق جميع الأقارب وذوي الأرحام كلٌ بحسبه، ولم يمر بالإنسان طورٌ من أطوار حياته من حين وضعه إلى إدبار وفاته، بل إلى ما بعد ذلك إلا وبينته الشريعة تبييناً واضحاً كاملاً، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فلله ما أعظم هذه الشريعة وأجلها وأسماها وأكملها! وكلما ازداد المرء معرفةً بها، ازداد لها احتراماً وتعظيماً وتوقيراً.(155/5)
إعراض المسلمين عن تعاليم الإسلام
وإنه لمن العجب!! إعراض كثير من أبناء المسلمين في هذه الأزمنة عن تعاليم هذه الشريعة السامية، الشريعة الكاملة، واستبدالها أو شركها بقوانين وضعية، إن ظاهرة التناقض واضحة الجور، فاسدة المعنى، يجري عليها تغييراً وتبديلاً كلما حكم بذلك ماركس رئيس الاتحاد السوفيتي، كلما بدا له رأي تغيرت هذه القوانين الشرعية تبديلاً بحسب آباء من اخترعها، وهكذا دواليك ما بقيت هذه النظم المستمدة من نحاسة ماركس وأعوانه الشيوعيين، ومن نحاسة الأفكار الخبيثة وذبالة الأذهان.
أما الشريعة الإسلامية فهي صالحةٌ لكل زمان ومكان، مضى عليها أربعة عشر قرناً وهي في تمامها في ثوبها الجديد، وحفظها لكافة الحقوق بجميع الطبقات، وأهدأ الناس حالاً، وأنعمهم بالاً، وأقرهم عيشاً، أتمهم تمسكاً بهذه الشريعة الإسلامية، سواء من الأفراد، أم من الشعوب، أم من الحكومات، وهذا شيء يعرفه كل واحد إذا كان عاقلاً منصفاً، وإن لم يكن من أهلها؛ كما شهد بذلك المستشرقون من أعداء الإسلام فهم يفضلون الإسلام ويشهدون له بالكمال، وإنه فوق كل نظام.(155/6)
شمولية الإسلام لكل زمان ومكان
لا شك أن الدين الصحيح الكفيل بكل ما يحتاجه البشر على وجهٍ صحيح يكفل لهم المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، إنه لدينٌ كامل، إنه دين الإسلام، دين الفطرة السليمة، دين الرقي الحقيقي، دين العدالة بأسمى معانيها، دين العدالة والحرية، دين المدنية بمعناها الصحيح، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح.
دين الإسلام؛ دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف ولم يقتصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شمل جميع منافع العباد ومصالحهم على مر السنين وتعاقب الدهور إلى أن تقوم الساعة، ولكن يا للأسف! ويا للخيبة! إن أبناء هذا الدين جهلوا قدره، وجهلوا حقيقته، بل إن كثيراً من أبناء المسلمين عَاْدَوْا دينهم الحنيف وأصبحوا يكبون عليه بمعاولهم ليهدموه وليفرقوا أهله، ويفضلون أهل الغرب على المسلمين؛ ظناً منهم -بعقولهم وآمالهم الفاسدة- أن الدين هو الذي أخرَّهم، وهيهات هيهات! أن يكون الدين الإسلامي هو الذي أخرهم، بل الذي أخرهم هو دين ماركس -دين الشيوعية - ودعايات بني صهيون من اليهودية وغيرها، أما الإسلام فهو دين الكمال، دين العزة والشرف، فهم لما أعرضوا عن دين الإسلام، وأخلدوا إلى الكسل، وقنعوا بالجهل؛ أصبحوا في حيرة من أمرهم.
إنهم لو عرفوا دين الإسلام وطبقوا تعاليمه، لوصلوا فوق ما وصل إليه غيرهم من التقدم والصناعات، ولكنهم تركوا دينهم، وتركوا النعيم، وأهملوا العناية بهذا الدين القويم، فوالله ثم والله لو أن أهل الإسلام قاموا بما يجب عليهم، لحازوا شرف الدنيا والآخرة.(155/7)
واجب العلماء وولاة الأمر
أمة الإسلام! إنه لمن الواجب على أهل الإسلام وخصوصاً: العلماء وولاة الأمور أن يبثوا الدعوة للإسلام، وينشروا محاسنه لينُشِئوا عليه أبناء الإسلام، وليرغبوا فيه، ويرشدوا الأمة لأحكامه وحكمه كما فعل أوائلهم من الأماجد، فإن الصحابة قاموا رضوان الله عليهم قاموا بالدعوة لرب العالمين، فبينوا للأمم محاسن الإسلام وسماحته، وشرحوا الإسلام شرحاً واضحاً وافياً، بذلك امتد سلطان الأمة الإسلامية، واتسعت مملكتهم، وأخضعوا من سواهم لتعاليم الإسلام.
اللهم أعد لنا عزتنا وكرامتنا، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ويقول جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، واجعلنا مسلمين لك مؤمنين في أعمالنا وأقوالنا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(155/8)
وجوب الجهاد في سبيل الله والدعوة والاعتصام
الحمد لله مغيث اللهفان، ومفرج الشدائد والكربات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بدين الله حق قيام، وجاهدوا في الله حق جهاده، اللهم وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد
فيا عباد الله! لقد أوجب الله على المؤمنين الجهاد في سبيله، والاعتصام بدينه الذي هو حبله المتين، وأوجب عليهم الدعوة إلى ذلك، وأوجب عليهم العصمة والاجتماع والتعاون على البر والتقوى والخير والاستعانة بالله في جميع أمورهم، وعلى قوة التوكل عليه، وعلى القيام بالمستطاع مما يقدر عليه من الدين والتقوى، وعلى تعلم ما يحتاجون إليه سوى أمور دينهم ودنياهم من العلوم والفنون النافعة التي يحصل بها قيام الدين والأمة، والتمكن على القوة المعنوية والشجاعة الإيمانية، وحثهم على فعل الأسباب المقوية للإيمان كلها، وحثهم على الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبمجادلة المبطلين الضالين بالتي هي أحسن، وحثهم على الجهاد في الله حق جهاده، فهذه الأوامر الإلهية في القرآن في مواضع متعددة وكلها داخلةٌ في الجهاد في سبيل الله؛ ولكن -للأسف الشديد- لقد تغيرت الأحوال، ولو خرج فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم ورأى التشتت والاختلاط وكثرة الأحداث، ورأى ما يقع المسلمون فيه من التغير والانحطاط والابتعاد عن الصراط القويم الذي رسمه للأمة، لقال: بئس ما خلفتموني من بعدي، وما له لا يقول ذلك! ونحن نعد بالملايين وقد تداعت علينا الأمم، وأصبحنا لقمةً للطامعين، نحب الحياة ونكره الموت، ونحن في عداد الميتين، فمعذرةً من الله حالة المسلمين اليوم! حالةٌ تبكي لها القلوب، وتتفكك لها الأكباد، ويذوب منها الجماد، كيف لا يكون ذلك وقد أذلهم الرجوع إلى الدول الكافرة في حل مشاكلهم، وهيهات، ثم هيهات، ثم هيهات!! أن يحل أعداء الإسلام والمسلمين مشاكل المسلمين، بل هم والله فرحون مستبشرون بما يحصل بين المسلمين من التفرق والشتات وسوء المعاملات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فإلى متى هذا الرقاد يا أمة الإسلام؟!
تذكروا بيت المقدس ومن ساكنه الآن؟
أليست شرذمةٌ قليلةٌ!! قتلة الأنبياء، ملعونة في كتاب الله، أليسوا اليهود؟
تذكروا إخوانكم في أفغانستان وهم يقاتلون الشيوعية الحمراء.
تذكروا إخوانكم في أفريقيا وقد فشا فيهم التبشير بـ النصرانية.
تذكروا إخوانكم في حماه في سوريا العربية والصواريخ والدبابات والقنابل تحرق النساء والذرية، ويا للأسف الشديد أين المسلمين؟ أين الصرخة الصادقة؟
يا أمة الإسلام! يا شباب الإسلام! الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، الله الله بالتعاون فيما بيننا على البر والتقوى والقيام بما يرضي عز وجل.
أيها المسلمون! صلوا على نبيكم كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] صلوا على من قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاُ، اللهم قوَّم ما اعوج من أخلاقنا، واهدنا صراطك المستقيم، اللهم اجعلنا من المتراحمين، واجعلنا من المتحابين، واجعلنا من المتوادين فيك يا رب العالمين.
أمة الإسلام! اسألوا الله عز وجل أن يثبتكم على الإسلام فنحن في زمان كثرت فيه الفتن.
نسأل الله الثبات على الإسلام، اللهم ثبتنا على الإسلام، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين يا رب العالمين!
اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار، ولا تولِّ عليهم الأشرار، اللهم اجعل ولاية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(155/9)
لئن شكرتم لأزيدنكم
إن الله جل وعلا ابتلى الناس بالخير والشر، وبالنعم المتجددة على عباده؛ ليختبرهم في ذلك، وينظر من يطيعه ويشكر ممن يعصيه ويستخدم هذه النعم في معاصي الله عز وجل.
وقد تطرق الشيخ في هذا الدرس إلى أهمية شكر نعمة الله وعدم مقابلتها بكفران النعم والتبذير وغير ذلك من المعاصي.(156/1)
الابتلاء بالخير والشر واقع لكل الناس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واشكروه على هذه النعم المتوالية، واسألوه من فضله المزيد، فإن خزائنه مَلْئَى، لا تَغُضُّها النفقات.
عباد الله! إن الله عليم بعباده، قد يبتليهم بالفقر والحاجات، امتحاناً واختباراً لهم، هل يصبروا؟ فأما المؤمنون بالله، فإنهم لا يزيدهم ذلك إلا صبراً، ولجوء إلى الله عزَّ وجلَّ كما أخبر الله سبحانه وتعالى في محكم البيان فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
كما قد يبتليهم رب العزة والجلال بالنعم وسعة الأرزاق، كما هو واقعنا اليوم ليختبر إيمانهم، هل يشكروا؟ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].(156/2)
حال المؤمن مع السراء والضراء
وأيضاً: يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال المؤمن، فيقول صلى الله عليه وسلم: {عجباً لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله خير! إنْ أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإنْ أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن} اللهم اجعلنا من المؤمنين.
عباد الله: أيها المسلمون! إن الشكر عند تجدد النعم هو مظهرٌ لتقدير النعمة، واعتراف بعظيم المنة.
ولقد كان القدوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عند تجدد النعم، واندفاع النقم، يخر ساجداً لله رب العالمين، يخر ساجداً شكراً لله، كما روى ذلك عنه أبو بكرة رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره أو بُشر به خر ساجداً شكراً لله تعالى}.
وأكَّد الله سبحانه وبحمده الوعد بالجزاء الظافر للشاكرين على شكرهم.
كما توعد الجاحدين لنعمه بشديد العذاب على جحودهم، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
أيها المسلمون: إن العاقبة الحميدة في كل ذلك للمتقين، الذين تكون أعمالهم وفق ما شرع الله، كالصبر، والاحتساب في حال الفقر والحاجة، وشكر الله عزَّ وجلَّ على النعم، واندفاع النقم.
أيها الإخوة في الله: من الاقتصاد الذي أُمِر به المؤمن، أن يصرف المال مصارفه في المآكل والمشارب من غير تقتير على النفس والأهل، ولا إسراف في تضييع المال من غير حاجة، وقد نهى الله عن ذلك كله، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].(156/3)
ذم الإسراف
ونهانا ربنا عزَّ وجلَّ عن إضاعة المال، فقال جل وعلا: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] ففي هذه الآية الكريمة ينهى الله تعالى عن إعطاء الأموال للسفهاء؛ لأنهم يصرفونها في غير مصاريفها.
ونَهى الله تعالى عن الإسراف، وأخبر أنه لا يحب المسرفين، كما قال تعالى في محكم البيان: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
ما هو الإسراف؟
الإسراف: هو الزيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة، والتبذير في غير وجهه، وقد ابتلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب والمباني، حتى إن البعض قد لحقته الديون بسبب مجاراته للآخرين في التبذير والإسراف، وقد ذم الله المبذرين ووصفهم بأبشع وصف يا عباد الله فقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27].
وهو ما يحصل الآن مع الأسف الشديد من أهل الولائم وحفلات الأعراس، فلا يكتفون بقدر الحاجة، بل اعتادوا البذخ والتبذير، ثم إذا انتهى الناس من الأكل ألقوا باقي الطعام في الزبالة والطريق الممتهنة، والبعض من أهل البيوت العادية غير أهل الولائم اعتادوا إذا أخذوا حاجتهم من الطعام ألقوا الباقي مع الزبالة وحفائظ الأطفال، فيجتمع في الزبالة: الطعام والخبز، وأشياء -لا حول ولا قوة إلا بالله- لا ينبغي أن تكون مع هذه النِّعم.
أيها المسلمون: إن هذا والله من كفر النعمة، وسبب تحولها وزوالها، فالعاقل من يزن الأمور بميزان الحاجة، وإذا فضل عنده شيء عن الحاجة بحث عمَّن هو في حاجته، وإذا تعذر ذلك وضعه في مكان بعيد عن الامتهان، لتأكله الدواب، ويسلم من الامتهان.
أيها الإخوة في الله: هذا الواجب على المسلم، أن يحرص على اجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون حكيماً في تصرفاته، مبتغياً في ذلك وجه الله، شاكراً لنعمه، حذراً من التهاون بها، ومن صرفها في غير مصارفها.
أيها الإخوة في الله: ثم نسمع من بعض الناس، أنهم يفتخرون بذلك، أن فلاناً ذبح مائة ذبيحة، ومعها جزور، وفلاناً ذبح أقل، وفلان ذبح أكثر، هذه من المباهاة، وهذا التبذير يصرفهم ويجعلهم من إخوان الشياطين والعياذ بالله.(156/4)
الشكر إنما يكون بالعمل
عباد الله: لقد أخبر الله جل وعلا أن الشكر يكون بالعمل، لا بمجرد القول، قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
فالشكر لله يكون بالقلب، واللسان، والعمل بالجوراح، فمن شكر الله قولاً وعملاً، زاده من فضله، وأحسن له العاقبة.
ومن كفر بنعم الله ولم يصرفها في مصارفها، فهو على خطر عظيم، وقد توعده الله بالعذاب الشديد.
فلنتساءل -يا عباد الله- هل من شكر نعم الله أن نضرب الخيام في البر، ونسهر على الأغاني والمزامير، ومع الأفلام والتمثيليات؟!
هل من شكر النعمة أن نضيع الجُمَعة والجماعات في تلك المخيمات؟! ألم نسمع بالعقوبات التي تتوالى؟!
عباد الله: السعيد من وُعظ بغيره، هل هذا من شكر النعمة أن نستأجر الفندق بالأموال الطائلة على حساب ليلة الزفاف وإخوان لنا يبيتون جياعاً؟!
هل هذا من شكر النعمة يا عباد الله والأيتام يرضخون تحت اليُتم والحاجة يا عباد الله! والبعض من الناس يبذر أمواله في الفنادق على حساب ليلة؟! فماذا نقول يا أمة الإسلام؟! نقول:
إذا كنتَ في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعمْ
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقمْ
يا عباد الله: ما هذا البذخ، وما هذا التباهي في المهور وغيرها؟! فإلى الله نشكو، إلى الله نشكو!
كم نسمع صيحات الأيتام؟! وكم نسمع صيحات الأرامل، وذوي الحاجات؟! ومع هذا لا نتعظ، ونبذر الأموال في أشياء ليس لها قيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله: علينا أن نقابل هذه النعم بشكر الله عزَّ وجلَّ، ثم أحذر الذين في تلك المخيمات، تمر عليهم الجُمَع والجُمُعات ولا يحضرونها مع الجماعة.
يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ترك ثلاث جُمع متواليات طبع الله على قلبه} نعوذ بالله.
عباد الله! علينا أن نقابل هذه النعم بشكر الله عزَّ وجلَّ، ونحمد الله عليها، فإننا إذا حمدنا الله وشكرناه زادنا من ذلك، وإن كفرنا النعمة فقد سمعتم وعيد ذلك في كتاب الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(156/5)
الوصية بتربية البنات وتعليمهن الدين
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي بلغ البلاغ المبين، ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واعلموا أن من البر العطف على البنات حال الصغر، حتى يجعل الله لهن سبيلاًَ، إما زواجاً، وإما نهاية أجل، يقول نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كنَّ له ستراً من النار}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من كان له ثلاث بنات يأويهن ويرحمهن ويكفلهن ويزوجهن، وجبت له الجنة ألبتة قيل: يا رسول الله! وإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين} قال راوي الحديث: [[فرأى بعض القوم أن لو قالوا: واحدة]].
أمة الإسلام: إنه فضل عظيم، وأجر كبير؛ لكن لمن يحصل هذا الأجر، وهذا الفضل العظيم؟
يحصل لمن رباهن تربية إسلامية، وعلمهن علوم الدين، وأحاطهن بالنصيحة، ولم يدخل عليهن السائق، ولا الخادم، ولا الفيديو، ولا الأغاني، ولا التمثيليات الخليعة، ولا الأغاني الماجنة التي تعلم البنات الحب والغرام، ومغازلة الرجال.
يحصل هذا الأجر العظيم والثواب الكبير؛ لمن حافظ على تلك البنات من الخروج إلى الأسواق متبرجات، فاتنات مفتونات.
يحصل هذا الأجر العظيم، والثواب الكثير لمن نفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {من أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه}.
أما الذين صاروا يتاجرون بالفتيات، ويعرضوهن للبيع فلن يفلحوا، وسوف يكون ذلك الحطام الذي يأخذونه وبالاً عليهم في العاجل والآجل، وليعلم أولئك أن أكثر النساء بركة أيسرهن مؤونة.
أيها الآباء: علينا جميعاً أن نتعاون على البر والتقوى، ونأخذ بالأثر: {زوجوهن وأعينوهم عليهن} ولنَخْتَار الأزواج الصالحين، لأولئك الفتيات؛ فإنهن أمانة في أعناق الآباء.
فيجب على الآباء أن يختاروا لهن الأزواج الصالحين، الذين هم عوناً على طاعة الله.
أمة الإسلام: الآباء في ذلك يختلفون:
من الآباء: من يساوم على ابنته، ويحدها بمائة وخمسين ألف ريال، مع ما يتبعها من الشبكة وغيرها للأم والإخوة والأعمام والأخوال.
ومن الآباء: من يقول: نعم.
أزوجكها؛ لكن دعني أستلم راتبها من البنك.
ومن الآباء: من يقول: لا أزوجها؛ لأنها صغيرة، وهي دائماً تتصل على العلماء وتكاتب العلماء، وتقول: بلغت من العمر ثلاثين سنة، ووالدي لم يزوجني، وإذا أتى خاطب يقول: هي صغيرة.
ومن الآباء: من شارك رأيه رأي النساء، فإذا جاءه الخاطب جلس مع النساء، وعقد معهن المشورة، ثم يقول لهؤلاء النساء: أتانا خاطب، فتبدأ المشورة من الأم، إلى الأقارب، فيقولون له: إن هذا الذي أتى يخطب ابنتك مطوع له لحية، وليس في بيته فيديو، ولا تلفاز، وثوبه قصير، إذا زوجته حبس حرية البنت، فلا يدعها تخرج إلى الأسواق، ويمكن أنه فقير؛ لأنهم لما علموا أنه ليس في بيته آلات لهو صار في أعينهم فقيراً؛ ولكنه بإذن الله عند الله شريف، أسأل الله أن يثبتنا على طاعته, وأن يجيرنا من مضلات الفتن.
أيها الإخوة في الله: ذلكم -يا عباد الله- ما يقع في هذا الزمان، ثم يأت الأب ويعتذر من هذا الزوج الكفؤ؛ لأن مجلس المشورة لم ينعقد على قبوله، فيعتذر لهذا الزوج الكفؤ؛ لأنهم شهدوا له أنه رجل مستقيم، وهم لا يريدون الرجل المستقيم مع الأسف الشديد، وهذا بإذن الله سوف يكون قليلاً في المجتمع؛ لأن من الناس من يحب الخير لنفسه ولبناته.
فأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يوفق كل فتاة متمسكة، لزوج صالح يعينها على طاعة الله، وإلا فكم من امرأة صالحة لما تزوجها شرير من سائر الناس، الذي أغرى الأب والأم، أفسد البنت، أفسد عليها دينها وأخلاقها وآدابها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الآباء: إنها والله أمانة عظيمة في أعناقكم سوف تسألون عنها يوم القيامة، اللهم إني بلغتهم أحاديث رسولك، وآياتك في كتابك، فرسولك صلى الله عليه وسلم يقول: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته}.
ورسولك يقول: {من أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير}.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارضِ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.(156/6)
التحذير من ترك الصلاة
الصلاة هي عماد الدين والركن الركين بعد لا إله إلا الله، وهي الدليل على الإيمان، ومن ضيعها ضيعه الله، ومن حافظ عليها لا يضيع أبداً، ولا يجهل مسلم منزلتها ومكانتها وقد فرط فيها كثير من الناس إما بالتضييع الكامل وإما بالتأخير وإما بأدائها في البيت، وقد هم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بإحراق من يتخلفون عنها.(157/1)
منزلة الصلاة في الإسلام وحكم تاركها
الحمد لله الذي أعز بالإسلام من تمسك به، وأذل وخذل من ابتغى غير الإسلام ديناً، أحمدك اللهم وأشكرك، بنيت هذا الدين على أركان وأسس متينة، ومن أهمها بعد التوحيد الصلاة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبلغ عن ربه دين الإسلام، وما مات حتى أكمل الله به الرسالة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وتمسكوا بأهداف دينكم القويم الحنيف، دينكم دين السماحة والسهولة.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام التي تأخذ بيد المسلم المنقاد لله رب العالمين فتوصله إلى الغاية الحميدة، ويأمن بها من العثرة، ويأمن بها من الفزع في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فيأمن المسلم بهذه الصلاة حين يخاف الناس، ثم هذه الصلاة تكون له برهاناً على إيمانه، وصدقاً على إسلامه، وفي النهاية تكون له الصلاة نجاة من النار، وما ذاك -يا عباد الله- إلا لعظم منزلة الصلاة من الدين القويم؛ لأن الصلاة عمود الإسلام.
أمة الإسلام: الصلاة هي الصلة الوثيقة بين العبد وبين خالقه وموجده جل وعلا، فإذا قطع تلك الصلة ونسي الله وتركها قطع الله عنه عونه ووكله إلى نفسه ونسيه الله، عند ذلك يتولاه الشيطان ويكون من حزب الشيطان، أولئك حزب الشيطان وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
فإذا تولاه الشيطان تقاذفته المحن، وتسلطت عليه البلايا، وهيهات أن يفلح عبد تخلى عنه رب العالمين، وهيهات أن يفلح عبد تولاه الشيطان الرجيم، وهيهات وهيهات أن يفلح عبد أعرض عنه أرحم الراحمين وتولاه شيطان رجيم مطرود عن رحمة الله.
إنه صار بترك الصلاة كافراً والعياذ بالله، وبرئت منه ذمة الله.
ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة، وأكثر من ذكرها في القرآن الكريم وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها، وأمر بأدائها مع الجماعة في بيوت الله وحذر من التهاون بها والتكاسل عنها، وأن ذلك من صفات المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ومآلهم إلى الدرك الأسفل من النار، فهم يصلون ويذكرون الله لكنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ويذكرون الله لكنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وبدون رغبة، فمآلهم إلى الدرك الأسفل من النار.
عباد الله: لقد أمركم الله بالمحافظة على الصلاة في كتابه الكريم، فقال وقوله الحق: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
عباد الله: إن الذي يتخلف عن أدائها مع الجماعة بدون عذر شرعي يكون عاصياً لله، مرتكباً كبيرة من كبائر الذنوب، وتوعده الله بويل في جهنم؛ وهو وادٍ لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره، وهذا لمن تهاون بالصلاة.(157/2)
وقفات مع صلاة الجماعة
عباد الله: صلوا مع الجماعة في بيوت الله امتثالاً لأمر الله تعالى حيث قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهذه الآية نصٌ في وجوب الصلاة مع الجماعة، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله جل وعلا: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية.(157/3)
وجوب صلاة الجماعة في الجهاد
ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلاة في جماعة في حال الحرب، فأوجبها رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، فكيف بحال السلم؟! فكيف بحال الأمان؟! فكيف بحال الطمأنينة؟! فكيف بحال رغد العيش؟! فكيف بحالٍ والشوارع منارة؟! لا حجة لأحدٍ أبداً.
أجل -يا عباد الله- لو كان أحدٌ يُسامح بترك الصلاة في جماعة لكان المصافُّون للعدو والمهددون بهجوم العدو؛ أولى بأن يسمح لهم بترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك عُلم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا ينبغي لأحدٍ يدعي الإسلام ويدعي الإيمان أن يتخلف عن الصلاة في الجماعة امتثالاً لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما رحمهم الله في بيان وجوب الصلاة مع الجماعة، حيث يقول أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
أمة الإسلام: عجباً لمن عرف الدليل وحاد عن الجادة! عجباً لمن يسمع قال الله وقال رسوله، ويقول: أنا آخذ بقول فلان وفلان وعلان! لو فكر هذا المسكين المعاند لمن أمر أن يتبع، هل أمر أن يتبع ويقتدي بفلان وفلان، أو أمر أن يقتدي ويتبع بمن جاء بالهدى والنور الذي جاء بالشرع الحكيم والذي يهدي إلى صراط الله المستقيم، الذي قال الله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] إنه الشرع القويم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: متى ظهر الحق واتضحت أدلته، لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان وفلان.
أمة الإسلام: متى ظهر الحق واتضحت أدلته فإنه لا يجوز لأحد أن يحيد عنه لقول أحد كائناً من كان؛ لأن الله عز وجلَّ يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].(157/4)
حكم صلاة الجماعة للأعمى
عباد الله: الأدلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في وجوب الصلاة في جماعة وإقامتها في بيوت الله كثيرة:
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال: {يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: نعم.
فلما ولى دعاه صلى الله عليه وسلم وقال له: هل تسمع النداء؟ -هل تسمع الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله الله، أشهد أن محمداً رسول الله، هل تسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ - قال: نعم، قال: فأجب}.
أمة الإسلام: ما أكثر من يسمع الأذان ويضع الغطاء على رأسه، ما أكثر من يسمع الأذان وينام ويهنأ تحت المكيف عصياناً لله ولرسوله، متى يجد غب ذلك؟ يجد غب ذلك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
عباد الله: إن مكبرات الصوت حجة عليكم، إنها ليست تسمع فحسب بل هي تهز البيوت، ولكن -مع الأسف الشديد- أكثر المجاورين لبيوت الله لا يحضرون الصلوات، اللهم اهدهم بهداك، أو أزلهم عن مجاورة بيوتك المطهرة، فإنهم -ولا حول ولا قوة إلا بك- لا يحضرون الصلاة، يسمعون الأذان والإقامة ويسمعون الصلاة تقام ولا يحضرون الصلوات مع الجماعة في المساجد، إنها المصيبة العظمى يا عباد الله! إنه الخطر الكبير الذي يشعر أن الكثير من المسلمين قد تخلوا عن دينهم الحنيف!
نعم يا عباد الله! إنه الخطر الجسيم الذي يشعر أن الكثير من المسلمين ابتعدوا عن أهم موقف يقف به العبد بين يدي رب العالمين، إنها المصيبة العظمى، إنه الإعلان من كثير من المسلمين بترك عمود الإسلام، ومع الأسف الشديد إنهم إذا تركوا عمود الإسلام وتركوا الصلاة فإنهم كفار مرتدون لا يصلى على جنائزهم ولا تتبع، ولا يعاد مرضاهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ولا يغسلون إذا ماتوا، والله ثم والله لو أتي بجار من جيران المسجد وأخبرنا أنه لا يصلي فلن نصلي عليه، بل نتركه يخزيه الله في الدنيا قبل الآخرة.
نعم -يا عباد الله- نقولها بصراحة: لو أتي بأحدٍ من جيران المسجد الذين لا يشهدون الصلاة، وجاء شهود على تركه للصلاة فلا نصلي عليه؛ ليخزيه الله في الدنيا قبل الآخرة، ألا فليتقوا الله، ألا فليخافوا الله عز وجلَّ قبل أن يأتيهم أمر الله وهم غافلون، إنا لله وإنا إليه راجعون!(157/5)
مشكلة تخلف الأبناء عن صلاة الجماعة
يا عباد الله: إنها مصيبة عظمى، وأكبر من تلك المصيبة، الذين يأتون إلى المسجد ويتركون أولادهم في الشوارع يلعبون، أو في فرشهم نائمون، لم يبذلوا الأسباب فلم يوقظوهم، من أين لهم حجة إذا وقفوا بين يدي رب العالمين، وما هي حجتهم إذا وقفوا بين يدي رب العالمين؟ ألا يفعلون الأسباب؟ ألا يوقظون أولادهم؟ حتى ولو يتأخرون عن الصف الأول، إنما أنت مطالب بهذه الأمانة في عنقك، ولست مطالباً في أن تكون في الصف الأول، بل أنت مطالب بهذه الأمانة في عنقك أن تأتي به إلى المسجد فيصلي.
وهذه -يا عباد الله- مصيبة عظمى سوف نسأل عنها يوم القيامة، ولنبحث ما هو السبب الذي جعل الأبناء يبتعدون عن المساجد، ما هو السبب يا عباد الله؟ لنفكر في ذلك، ولنبحث عن ذلك لعلنا نعالج هذا المرض الخطير الذي قضى على كثير من الشباب فصاروا لا يعرفون بيوت الله طرفة عين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
عباد الله: البعض من الناس إذا دعي إلى هذا الصلوات تكلم بكلماتٍ تشمئز منها القلوب، سواء كان مجاوراً أو غير مجاور، سواء كان من الجيران أو غير الجيران، إذا دعي إلى هذه الصلوات الخمس تكلم بكلمات تشمئز منها القلوب المؤمنة، ولكن لا تيئس يا أخي المسلم، ادع جارك ونبهه إلى الصلاة لعلك تبرأ من تبعته يوم القيامة، إنه في الدنيا يتكلم عليك، ولا تدري غداً لعل الله يأخذه وترتاح منه أو يهديه ويكون في صفك في المساجد.
أما في الآخرة فإنه يتعلق في رقبتك يوم القيامة، ويقول: يا رب! جاري ظلمني، فتقول: والله ما ظلمته بحق يا رب العالمين، فيقول: بلى إنه رآني على المعاصي فلم ينهني، ولم يأمرني بطاعة الله.
فالخلاص الخلاص يا عباد الله، الخلاص ما دمت في وقت الإمكان، فالبعض من الناس -ويخشى أن يكونوا من الذين يعلمون أولادنا- يسمون الصلاة رجعية مع الأسف الشديد، وهم يعلمون أبناءنا، لا رد الله رجعتهم إذا سافروا إن كان قصدهم الفساد وتثبيط أولادنا عن دين الإسلام، فهم يسمون الصلاة رجعية، ويسمون من يصلي رجعياً، ويرمونه بالجمود، فحسبنا الله ونعم الوكيل! وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.
لقد أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو من أجلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال رضي الله عنه: [[لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق عُلم نفاقه أو مريض.
ثم يقول: وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة]] وقال: [[إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى: الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه]] وقال أيضاً: [[من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم]].
ثم يخبرنا بهذا الفضل ويقول: {ما من رجل يتطهر فيمس الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة}.
عباد الله: إن الواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر والمبادرة إليه والتواصي به، إنها الصلاة يا عباد الله!
اللهم وفقنا لما فيه رضاك وإصلاح أمر ديننا ودنيانا، وأعذنا من مشابهة الكفار والمنافقين إنك جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(157/6)
أهمية الصلاة
الحمد لله القائل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله معلم الخير والهدى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل.
أمة الإسلام: اعلموا أن شأن الصلاة عظيم، وقد بلغ من عناية الإسلام بأمر الصلاة أن أمر بإقامتها في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب، ولم يرخص في تركها للمريض، فقال صلى الله عليه وسلم للمريض: {صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} يسرٌ وسهولة، هكذا دين الإسلام؛ دين الكرامة والعزة، دين المفخرة العظمى لأهل الإسلام الذين تمسكوا به وأقاموه وقاموا بواجباته على نور من الله وبرهان، وعلى رأس ذلك وفي مقدمته الصلاة التي هي الركن العظيم من أركان الإسلام ومبانيه التي لا يقوم إلا عليها، فمتى حافظ عليها العبد فإنها تهديه بنورها إلى الطريق السوي، ويبدو أثر ذلك في سلوكه واتجاهه نحو الخير وبعده عن الإثم والرذيلة.
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن العبد إذا صلى فأحسن الصلاة صعدت ولها نور، فإذا انتهت إلى أبواب السماء فتحت أبواب السماء لها وتشفع لصاحبها وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا أساء في صلاته فلم يُتمَّ ركوعها ولا سجودها ولا حدودها -إنما جاء مكرهاً ليس مطيعاً، إنما جاء مدبراً غير مقبلٍ، إنما جاء اتباعاً للعادة لا عبادة- صعدت ولها ظلمة فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فإذا انتهت إلى أبواب السماء غلقت دونها، ثم لُفَّت كما يلَفُّ الثوب الخلق فيُضرب بها وجهه} نسأل الله العفو والعافية.
فاتقوا الله -عباد الله- وأقيموا فرائض الله وفي طليعتها الصلاة.
الصلاة -يا عباد الله- لا يُشغلنكم عنها، أو يحملكم على التهاون بأدائها في وقتها أي شاغل من وظيفة، أو رئاسة أو ندوة؛ أو بيع أو شراء؛ أو حرفة أو لهو، فإن في ترك فريضة رب العالمين غبنٌ يا له من غبن! ويا لها من خسارة! ومروا أبناءكم بالصلاة وحثوهم عليها ما داموا في السابعة، واضربوهم إذا تركوها وهم أبناء عشر سنين، هكذا حثكم الناصح الأمين.
وصلَّوا على رسول الله امتثالاً لأمر رب العالمين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين وإن زعموا أنهم معلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين وإن زعموا أنهم أساتذة محضرون، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم أبدل الإسلام والمسلمين بخيرٍ منهم يا رب العالمين، اللهم أبدل أولاد المسلمين إناثاً وذكوراً بمعلمين يعلمونهم الخير ويهدونهم الصراط المستقيم يا رب العالمين.
اللهم من أتى إلى هذه البلاد ليعلم أولادنا الشر والفساد ويدعي أن الإسلام رجعية وأن الصلاة رجعية فاجعل منيَّتُه في طريقه، واجعله فريسة لسباع البر يا رب العالمين، اللهم أغرقه في البر، اللهم اخسف به الأرض من تحته يا رب العالمين، ومن أتى لينشر التعاليم الإسلامية ويدل أولادنا على الخير فاجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وارزقه من حيث لا يحتسب، ويسر أمره حيثما كان يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا جميعاً الحق حقاً وارزقنا اتباعه واجبلنا على اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجبلنا على اجتنابه يا رب العالمين.
اللهم احمِ بلادنا من مضلات الفتن وجميع بلدان المسلمين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(157/7)
حياة عمر بن الخطاب
الناظر في حياة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وفي سيرته الراشدة وحياته الطيبة منذ إسلامه واعتناقه هذا الدين بصدق واعتزاز وما كان له من دور كبير في امتناع المسلمين وقوة شوكتهم، وجعلهم يظهرون بعض شعائرهم؛ يرى العجب العجاب، ولقد تحول عمر رضي الله عنه من أعدى أعداء الإسلام إلى ذاك البطل الذي يذود عن حماه، ويحارب من أجله.
لقد اتصف عمر بن الخطاب بسمات عظيمة، منها الشدة في دين الله مع تواضع جم، وحينما تولى الخلافة كان مثالاً للخليفة العادل المهتم بأمور رعيته، ولقد استمر عطاؤه وخيره وتضحيته إلى استشهاده على يد أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله.(158/1)
عمر بن الخطاب وقصة إسلامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله: إن المسلم الحقيقي إذا تصفح سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، بادرت عيناه باهمال الدموع والترحم عليهم؛ لأنهم بذلوا جهدهم لله وبالله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لهم منهج الفضائل والمعروف، والصدق والعفة، والكرم والإحسان، والقناعة وعلو الهمة، والنزاهة والشجاعة، والتقى والتواضع، فصاروا رضي الله عنهم أسبق الناس إليها، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
أمة الإسلام: لقد سمعتم في خطبة الجمعة الماضية شيئاً يسيراً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي لو وزن إيمانه بإيمان هذه الأمة لرجح بها، وهو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن بجواره في حجرة عائشة رضي الله عنهما.
وتولى بعده الخلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أداركم ما عمر يا عباد الله! هو الذي كان قبل أن يسلم أعدى الأعداء للإسلام وأهل الإسلام، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أن ينصر الله الإسلام بأحد العمرين: عمرو بن هشام أبو جهل أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسبقت السعادة ولله الحمد والمنة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وباء أبو جهل بالخيبة والخسران واللعنة ومأواه النار.
ففي يوم من الأيام خرج عمر بن الخطاب متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، قال: أين تذهب يا بن الخطاب، فقال: أريد أن أقتل محمداً.
قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة إذا قتلت محمداً؟
فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي كنت عليه.
فقال: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أختك وختنك -أي: زوج أختك- قد تركا دينك الذي أنت عليه.
فمشى عمر ذامراً، حتى أتاهما وعندهما رجلٌ من المهاجرين يقال له: خباب بن الأرت رضي الله عنه، فسمع خباب حس عمر فتوارى، فدخل على أخته وزوجها، فقال لهما: ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم؟ وكانوا يقرءون سورة طه، يقرءوهم إياها خباب.
فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا، قال: فلعلكم قد صبوتما؟ فقال له زوج أخته: أرأيت يا عمر! إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على زوج أخته فوطأه وطأً شديداً، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده -أي: لطمها- فقالت وهي غضبى: يا عمر! إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فعندما رأى عمر رضي الله عنه الدم في وجه أخته، رق لها، وبدأت الرحمة في قلبه، فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي عندكم، فأقرأه وكان عمر يكتب، فقالت أخته: إنك رجسٌ ولا يمسه إلا المطهرون، فاغتسل وتوضأ، قال: فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ من قوله تعالى من سورة طه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:1 - 8].
فقرأها عمر إلى قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وعندما قرأ عمر هذا القرآن، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، وكان عمر في أول جاهليته وهو متلبس بأنجاسه وأدران شركه، فعندما قرأ عمر هذا القرآن بدأت الروح الإيمانية تدب في جسم عمر، وكم يقرأ القرآن! وكم يتلى القرآن! وكم يسمع القرآن! قلوب كثير من المسلمين غافلة، وعن هديه متباعدة، فهذا عمر جاهلي مشرك لا يعرف الإسلام عندما سمع تلك الآيات القرآنية التي أنزلها رب العزة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أنزلها شفاءً لما في الصدور، قرأها عمر بدأت الروح الإيمانية تدب في جسم عمر، وبدأت غيوم الجاهلية تنقشع عن قلب عمر.
فقال: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر، خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر! فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس، فإنه قال: {اللهم أعز الإسلام بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام} أي: أبو جهل، وسبقت السعادة لـ عمر بن الخطاب.(158/2)
إعلان عمر لإسلامه
قالوا له: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر متوشحاً بسيفه حتى أتى الدار، قال: وعلى باب الدار حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلحة رضي الله عنهما وأناس من الصحابة، فلما رأى حمزة وجل القوم، أي: خوفهم من عمر، قال حمزة: نعم فهذا عمر فإن يرد الله بـ عمر خيراً يسلم، ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وإن يرد الله غير ذلك يكن قتله علينا هيناً.
قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل الدار يوحى إليه، فقال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل السيف وقال: {أما أنت بمنته يا عمر! حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بغيرك؟} فقال عمر: [[يا رسول الله! جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله]] قال: فكبر رسول الله، ونحن نكبر ثم نكبر: الله أكبر! الله أكبر! خرج مقاتلاً لرسول الله، ثم لم يمضِ هنيهة من الوقت، إلا وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.(158/3)
أثر إسلام عمر على المسلمين
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم، ولما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان رجلاً ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر رضي الله عنه، فلما أسلم عمر قاتل قريشاً حتى وصل إلى الكعبة وصلى وراء المقام]] وصلى معه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قال: يا رسول الله! ألسنا على حق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال: لنخرج.
فخرج عمر رضي الله عنه، وجعل يعلن إسلامه بكل مجلس كان يعلن به الكفر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب]] وقال ابن مسعود أيضا: [[إن إسلام عمر كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وإمارته كانت رحمة]].(158/4)
أثر عمر على الخلافة
وبعد أن هاجر رضي الله عنه، وتولى الخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فتح الفتوحات، ومصر الأمصار، ودون الدواوين، وجاهد في الله حق جهاده، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا، وهو أول من دعي: أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ الهجري، الذي يحاول أعداء الإسلام الآن أن يحلوا محله التاريخ الميلادي، ميلاد عيسى بن مريم، تاريخ النصارى، ليحلوا محل التاريخ الهجري الذي أول من كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ}.
اكتبوا التاريخ الإسلامي، اكتبوا التاريخ الهجري يا عباد الله! وابتعدوا عن مشابهة اليهود والنصارى.
عمر بن الخطاب الذي أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، فإن صلاة التراويح صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركها خشية أن تفترض على الأمة، رحمة بأمته صلى الله عليه وسلم، وأحيا تلك السنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجمع الناس على صلاة التراويح في رمضان.
عمر بن الخطاب أول من عس بـ المدينة، كان متواضعاً في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه وهو أمير المؤمنين، ويركب الحمار، وكان قليل الضحك، لا يمازح أحداً، وكان نقش خاتمه كفى بالموت واعظاً يا عمر.
عمر بن الخطاب التي خصاله لا تعد ولا تحصى، إنما ذلك يسير من كثير، وإنما ذلك فيض من غيض لمن تنفعه الذكرى، ولمن أراد أن يرجع إلى سير الصحابة والخلفاء وسلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين، فليرجع إلى تلك السير، وليتروى منها وليقتدي بهم، فإنهم الرجال الذين امتدحهم الله بالقرآن.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، واجعلنا هداة مهتدين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(158/5)
ما كان عليه عمر من الصفات
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر الميامين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه وانهجوا نهج السلف الصالح تبلغوا ما بلغوا من العزة والكرامة والرفعة في الدنيا والآخرة.(158/6)
تواضع عمر
يقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: خرج عمر رضي الله عنه ليلة في سواد الليل، فدخل بيتاً فلما أصبحتُ ذهبتُ إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، الله أكبر! ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
إنه التواضع يا أمة الإسلام!(158/7)
تفقد عمر للرعية
قال أسلم رحمه الله: خرجت ليلة مع عمر إلى حرة، وأقام حتى إذا كنا بصرار إذا بنار، فقال: يا أسلم! هاهنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم، فإذا امرأة مع صبيان لها وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، أي: يصيحون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! قالت: وعليك السلام، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع، فقال: وأي شيء على النار، قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر!
فبكى عمر رضي الله عنه، ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وجراباً من شحم، وقال: يا أسلم! احمله على ظهري، فقلت: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين! فقال: أنت تحمل أوزاري يوم القيامة؟!
فحمله عمر على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقى عن ظهره الدقيق، وأخرج من الدقيق فرماه بالقدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر عمر بن الخطاب الخليفة الراشد، الفاروق أفضل الأمة بعد رسولها وبعد أبي بكر رضي الله عنه، جعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، ثم أنزلها عن النار، وقال: ائتني بصحفة، فأوتي بها، فافرغ فيها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا والمرأة تدعو له، وهي لا تعرفه، فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، الله أكبر! يا لك من خليفة! أحنُ من الآباء والأمهات، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصى لهم بنفقة، وانصرف ثم أقبل على أسلم، فقال: يا أسلم! الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
تلكم القليل من فعال عمر بن الخطاب، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني رأيت قصراً في الجنة من ذهب أحمر، فقلت: لمن هذا؟ قيل: لشاب من قريش} إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي يقول: يا ويح أم عمر إن لم يغفر الله لـ عمر! الله أكبر! إنه عمر رضي الله عنه.
أمة الإسلام: لولا الإطالة لبسطنا الكلام، ولكن إشارة بسيطة، ومن أراد أن يتروى من أخبار أولئك السلف الصالح، فليرجع إلى السير والتواريخ التي سطر فيها أولئك الرجال ملخص تلك الأعمال الطيبة عن الرجال، إنهم الرجال ثم الرجال ثم الرجال.(158/8)
وفاة عمر رضي الله عنه
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين، ونزل بـ الأبطح دعا الله عز وجل وشكى إليه أنه قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي صلى الله عليه وسلم.
في صحيح الأخبار أنه كان يقول: [[اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] فاستجاب الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين، الشهادة في المدينة.
ففي يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ضربه أبو لؤلؤة المجوسي الأصل، وهو قائم يصلي الصبح رضي الله عنه، عمر بن الخطاب قائم يصلي الصبح بالناس يؤم المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه المجوسي بخنجر ذات طرفين ثلاث ضربات، وقيل ست ضربات، إحداهن تحت سرته فقطعت الصفاق، فخر من قامته رضي الله عنه، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع المجوسي لعنه الله، رجع بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فألقى عليه رجلاً من المسلمين بردة، فلما رأى أنه قد تمكن منه المسلمون نحر نفسه لعنه الله.
وبعد ذلك حمل عمر رضي الله عنه إلى منزله والدم يسيل من جرحه وذلك قبل طلوع الشمس، فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق ويقول: [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو؟ فقالوا له: هو أبو لؤلؤة المجوسي، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي إلا على يد رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة، ومات رضي الله عنه، ومات عمر بن الخطاب، مات الخليفة الراشد، مات الذي ملأ أقطار الدنيا بالعدل، مات الخليفة الزاهد، مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفن يوم الأحد بالحجرة النبوية، إلى جانب الصديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: هذه نبذة يسيرة عن أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، اللهم وفقنا للاقتداء بهم والتأسي بأحوالهم والتخلق بأخلاقهم.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أمة الإسلام: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
أمة الإسلام: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم قيِّض لهم القرناء الصالحين، اللهم وفقهم للجلساء الصالحين الناصحين، الذين يعينونهم إذا ذكروا ويذكرونهم إذا نسوا يا رب العالمين!
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(158/9)
ماذا بعد الموت!
على المرء المسلم أن يعلم أنه عبد راجع إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتزود من الصالحات؛ لأنه ليس هناك بعد الموت من دار إلا الجنة والنار.
وقد تطرق شيخنا في هذه الرسالة إلى وصف ماذا سيكون بعد الموت من حشر وأهوال عظام، وجنة ونار تلظى وغير ذلك من الأوصاف.(159/1)
أنذرتكم النار
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:131 - 132] اتقوا النار بطاعة الله، وبامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بامتثال أوامر الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه.
عباد الله: اتقوا النار فإنها دار البوار، والبؤس والشقاء والخزي والعار، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، دارٌ ساكنها شرار خلق الله تعالى من الشياطين وأتباعهم.
لعل البعض يقول: لماذا هذا المسكين يكرر ذكر الجنة والنار؟ فأقول: يا عبد الله: إن النار هي سجن لمن عصى الله، والجنة رحمة لمن أطاع الله، فلننظر في أعمالنا يا عبد الله، هل تتجدد أعمالنا باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه؟! لا، والله.
بل نحن في انحطاط وابتعاد عن أوامر الله واجتناب نواهيه، لماذا؟ لأننا لا نزداد طاعة بعد طاعة على تجدد نعم الله علينا، نعم الله تدر علينا ليل نهار ولكن مع الأسف الشديد نقابلها بالمعاصي والنكران للجميل.(159/2)
وجوب شكر النعم قبل أن يحل عذاب الله
يا عبد الله: إن كان قلبك مؤمناً بالله ومصدقاً، فإذا سمع ذكر جهنم، يلين ويرعوي ويرجع إلى الله عز وجل، والنار موعد الشيطان الذي عصى وتكبر وطغى، ولكنه سوف يجتذب معه آخرين اتبعوا سنة الشيطان فعصوا الله وعصوا رسوله فموعدهم جهنم، يقول الله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85] النار: السجن الذي توعد الله بها العصاة، دار فرعون وهامان، دار قارون وأبي بن خلف وغيرهم من بغاة الخلق وفجارهم، دار المنافقين وأحزابهم وإخوانهم، هؤلاء هم سكان جهنم، كفار فجرة وطغاة ظلمة، ومنافقون خونة، ولكن سار على نهجهم الأكثرون الآن، فالذي لا يصلي كافر، والمتخلف عن الصلاة والثقيلة عليه منافق {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً} نعم.
ما أكثر الصفوف في غير الفجر والعشاء!
أين هم في الفجر يا عباد الله؟! أين هم في الفجر يا عباد الله؟! أكرر ذلك؛ لأني أخاف أن تزول عنا هذه النعم؛ ولأن ترك الصلاة كفر والعياذ بالله، وتارك الصلاة توعده الله بسقر، وما أدراك ما سقر! طبقة من طباق جهنم.
أما المتخلف عن الصلاة والذي يعتذر بالوظيفة يقول: إذا أتيت من العمل متأخراً وأذان العصر قد حان فأنا أريد أن آكل وأشرب، والصلاة سأقضيها بعد الفراغ، هذا إذا كان حريصاً أما الذي لم يكن حريصاً فإنه إذا أكل وشرب نام وترك صلاة العصر والمغرب حتى العشاء.
فيا عباد الله! إن هذه النعم سوف نحاسب عليها، ونخشى أن ينزل علينا من الله غضب ونحن غافلون، يقول بعض السلف: إذا رأيت الله يدر على عبده النعم وهو يعصيه فاعلم أن ذلك استدراج.
نعم -يا عباد الله- والعقاب لا يخص بل يعم، يقول صلى الله عليه وسلم لما سألته إحدى زوجاته قالت: {يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم.
إذا كثر الخبث}
إذاً الخبث بأي شيء يغير يا عباد الله؟! يغير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم نغير ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر فلا نأمن عقاب الله.(159/3)
وصف النار في السنة
نعم.
ما أشد عقاب الله! أشده جهنم وما أدراك ما جهنم! فإنها في أسفل السافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين، فهي دار عقاب لأعداء الله فأبعدت عن رحمة الله وعن دار أولياء الله، أما هي فيؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، أما حرها فهو شديد، وأما قعرها فبعيد، ولقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {ناركم هذه -ما يوقد ابن آدم- جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم} الله أكبر يا عباد الله! {ناركم هذه -ما يوقد ابن آدم- جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم} قال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله! إنها لكافية.
يعنون نار الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: {إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها}.
وسمع الصحابة رضي الله عنهم صوت وجبة - أي: شيء سقط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً -سبعين سنة- فالآن حين انتهى إلى قعرها} رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقال لليهود والنصارى: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربنا فاسقنا.
فيشار إليهم: ألا تردون، فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً؛ فيتساقطون في النار} قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:86].(159/4)
وصف النار في القرآن
عباد الله! يقول بعض العلماء: ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعاً، واحترقت أجوافهم عطشاً، ثم سحبوا إلى النار وهم يطمعون في الشراب فلا يجدون إلا النار يُلقون فيها! {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7] يقول ابن عباس رضي الله عنه: تفور: [[أي لها شهيق مثل شهيق البغلة إذا رأت الشعير]].
هذه نار جهنم، إذا أقبلوا بالعصاة إليها يسحبونهم الزبانية {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7] تفور فوراناً تقلبهم كما تقلب الحبة في المقلى، نار قد ملأها الله غيظاً وحنقاً عليهم {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] انظروا يا عباد الله! جهنم غاضبة لغضب الله عز وجل، تكاد تميز من الغيظ على عصاة الله، يلقون فيها أفواجاً أفواجاً، يقابلون بالتقريع والتوبيخ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] هل ينكرون؟! لا.
{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِير} [الملك:9] فماذا عملتم؟ {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] يقولون ذلك لأنبياء الله ورسله، ثم يعودون باللوم على أنفسهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك:10 - 11] يعترفون في جهنم، ولكن هل يفيدهم هذا الاعتراف؟! لا والله لا يفيدهم {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] هذا ما يقابلون به عند دخولهم النار، توبيخ وتقريع وإهانة وتنديم فتنقطع قلوبهم أسفاً، وتذوب أكبادهم كمداً وحزناً، ولكن لا ينفعهم ذلك.
فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم، وما أشد عقابهم، يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يقول الله جل وعلا: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] ولئن سألتم عن طعام أهل النار وشرابهم ما هو؟ فهو الزقوم.
وما هو الزقوم؟ الزقوم: شجر خبيث، مر الطعم، نتن الريح، كريه المنظر، يتزقمونه تزقماً لكراهته وقبحه، ولكن يلجئون إلى ذلك لشدة جوعهم فلا يسمنهم ولا يغني من جوع، في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم} قطرة من قطرة الزقوم الذي يشربونه في نار جهنم!
فإذا ملئوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث الذي لا يسمن ولا يغني من جوع التهبت أكبادهم عطشاً، فلا يهيئ لهم الشراب وإنهم ليستغيثون ولكن بماذا يغاثون؟ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29].
ما هو المهل يا عباد الله؟ المهل: هو الرصاص المذاب يشوي الوجوه من شدة حره وبئس الشراب كما قال الله جل وعلا {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29] يشربونها على كره واضطرار شرب الهيم وهي: الإبل العطاش التي لا تروى من الماء.
فإذا سقط في أجوافهم ماذا يعمل؟! يقطع أمعاءهم فهو كالمهل في حرارته وكالصديد في نتنه وخبثه! قال الله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15] أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة!
يا عباد الله! ما هذه المواعظ التي تتلى علينا ولكن أين القلوب؟ هل ماتت القلوب يا عباد الله؟! لا نرانا نزداد في طاعة الله أبداً ولا حول ولا قوة إلا بالله! وكالعادة نأتي إلى المساجد ونخرج، ولا حول ولا قوة إلا بالله! اسمعوا يا عباد الله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17] {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] إنا لله وإنا إليه راجعون! ويل لمن كانت جهنم مسكنه يا عباد الله!
ثم إن سألتم عن لباسهم؛ فهو لباس الشر والعار {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ما بالكم بجسم مسيرته ثلاثة أيام، وضرسه مثل جبل أحد!! هذه أجسام أهل النار، ثم تقطع لهم هذه الثياب {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] على قدر أبدانهم، ولا تقيهم حر جهنم بل تزيدها حرارة واشتعالاً، ولئن سألتم عن المدة فعذابهم مستمر دائم يقول الله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] أبلسوا من رحمة الله، نسأل الله العفو والعافية!
ثم تلك الجلود كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب الأليم، وكل ما خبت تلك النار زادها الله سعيراً، يرتفع بهم اللهب إلى أعلى جهنم ثم يعودون إلى قعرها {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20] ثم يطلبون الراحة من جهنم، ثم يقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] فلا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ، ثم تقول لهم الملائكة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:50] هل يكذبون؟ لا.
ويقولون: بلى.
قد جاءتنا رسل ربنا، والقرآن، والسنة، والمرشدون والواعظون؛ ولكن ما لقلب بميت إيلام قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] جاءت الرسل بالأدلة الواضحات فيقولون: بلى.
فتقول لهم الملائكة: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] فلا يستجاب لهم، ولا يسمع لهم دعاء لأنهم لم يستجيبوا للرُسل حين دعوهم إلى الله وإلى عبادته في الدنيا، فإذا لم يجابوا وهم يتعاوون ويصطرخون ويدعون بالويل والثبور تمنوا الموت حينئذٍ فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يطلبون الموت راحة لهم مما هم فيه من العذاب، فيرد عليهم خازن النار: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
ثم يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
لقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {أن أهون النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل -أي القدر- ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بأنعم أهل الدنيا -الذي كان يأكل ويشرب وينام مثل البهائم- من أهل النار فيصبغ في النار صبغة -أي: يغمس فيها- ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب} الله أكبر! نسي المأكل والمشرب والمنام والغفلة، أجل -يا عباد الله- إنه نسي كل نعيم مر به في الدنيا وقد غمس في النار غمسة واحدة فكيف به وهو مخلد فيها أبداً.
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:168 - 169] ويقول ربنا جل وعلا: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] متى هذه الأخبار؟ هل تقال لنا يوم القيامة؟ لا.
هذه موجودة في القرآن الآن، في رمضان نقرأ القرآن من أوله إلى آخره، ونسمع هذه الإنذارات، وتقرأ في فرائض الصلوات هذه الإنذارات {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23].
وأيضاً يقول رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الأحزاب:64 - 65] لا يجدون واسطة يخلصهم من الحجرة أو من السجن، يدخل في الليل ويخرج في النهار لا.
{لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الأحزاب:65] متى ذلك؟ {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] يا رب! يا رحمن! رحمتك يا كريم! النار يا عباد الله! اهربوا من النار، اهربوا من النار إن كانت لكم قلوب واعية {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] ماذا يقولون؟ {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] ثم قالوا: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68].
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام نجنا من النار، اللهم أيقظنا من غفلاتنا، اللهم أيقظنا من رقداتنا، اللهم صحنا من سكراتنا سكرات الدنيا حتى نستيقظ لما أمامنا يا رب العلمين.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا صالح الأعمال التي ترضيك يا رب العالمين وتخلصنا بها من النار إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
اللهم ارحمنا، فإنه لا طاقة لنا بجهنم يا رب العالمين، اللهم لا تجعل إلى النار مصيرنا، اللهم إنا نعوذ بك من نار جهنم فإنه لا طاقة لنا بنار جهنم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا من هو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، يا من هو أرحم بنا من أنفسنا، لا تجعل إلى النار مصيرنا، اللهم لا تجعل إلى النار مصيرنا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.(159/5)
دعوة إلى محاسبة النفس قبل الفوات
الحمد لله الذي حذرنا من النار في محكم التنزيل فقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين وأفضل المرسلين، المبلغ عن ربه شرعه المبين، والناصح لأمته حيث يقول: {أنذرتكم النار! أنذرتكم النار! أنذرتكم النار!}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدىً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين العباد ويميز فيه بين المطيعين والعصاة، فالمطيعين سوف يساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والعصاة سوف يسحبون إلى النار وبئس المصير، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء الآجال، ثم تندمون حينئذٍ ولات حين مندم، فبادروا بالتوبة النصوح.
عباد الله: تزودوا من الأعمال الصالحات فإنكم غداً يوم القيامة سوف توقفون بين يدي الله ثم تسألون عن أعمالكم وتحاسبون عليها، ثم تجزون عليها الجزاء الأوفى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وصلوا على رسول الله، صلوا على الناصح الأمين الذي ترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، صلوا عليه امتثالاً لأمر رب العالمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم اشف أمراض قلوبنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، نأمر بالمعروف ونفعله وننهى عن المنكر ونجتنبه، اللهم أصلحنا وأصلح بنا، اللهم أصلح أولاد المسلمين أجمعين ذكورهم وإناثهم يا رب العالمين، اللهم أقر عيون والديهم بصلاحهم يا رب العالمين، اللهم رد شاردهم، وثبت مهتديهم، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين، وأستغفر الله العلي العظيم.(159/6)
لا تأمنوا
إن العبد المؤمن في هذه الحياة الدنيا لا يأمن مكر الله وعقابه وسخطه حتى يضع أول قدم في الجنة، والعبد الفاجر والملحد يتمادى في المعاصي والذنوب، ولا يذكر أن هناك حساباً وعذاباً، ولا يخاف من مكر الله جل وعلا.(160/1)
موت القلوب وغفلتها
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يزل بصفات الكمال متصفاً، وبآثار ربوبيته وآلائه إلى عباده متعرفاً، أحمده وأشكره، ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: لقد استولت على القلوب الغفلة؛ حتى أمرضتها، بل أماتت بعض القلوب، فأصبحت لا تخشع عند ذكر الله ولا تلين ولا تعتبر فيما يحدث في هذا الكون من العبر والمحن، فإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
عباد الله: ألا نعتبر بهذه الرياح التي تهب؟ فإنها تكون على بعض الناس نقمة، وتكون لبعضهم رحمة.
ألا نعتبر بهذه الأمطار التي تنزل من السماء بقدرة الله عزَّ وجلَّ؟ فإنها تكون على بعض الناس نقمة، ولبعضهم رحمة من الله تعالى.
هل نعتبر بذلك يا عباد الله أم نقول: فيضانات، وغيرها من التعبيرات التي أماتت القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
هل نعتبر بكسوف الشمس وبخسوف القمر؟ إن الشمس لا تَكْسِف عبثاً، ولا القمر يخسف عبثاً، بل سوف يأتي يوم ينخسف القمر والشمس فلا يريا بعد ذلك اليوم.
يا عباد الله: كل ذلك فيه عبرة لمن يعتبر، كنا إذا رأينا الأموات قبل سنين أصابنا الرعب، وانصرفت هِمَمُنا عن الأكل والشرب؛ لما نرى من هذه الجثث الهامدة التي ارتحلت عن الدنيا وانتقلت.
لما كانت القلوب واعية تعتبر وتبصر، كنا إذا رأينا الميت، هلَّت العيون بالدمع، وشعُر القلب بالحزن، وجعل البعض يقول، بل كلنا: نسترجع، ونحوقل، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الآن لما قست القلوب، بل مات بعضها، صار البعض من الناس يأخذ تلك الأعضاء -الرأس، والأيدي، والأرجل من ناحية في تلك الحوادث التي تقع كل حين بعد حين- ولا تلين القلوب، ولا تعتبر، ونخرج الأموات من سلة الثلاجة في المستشفى، ولا نعتبر بذلك يا عباد الله، لماذا؟
لأن القلوب مرضت وغفلت وابتعدت عن الله عزَّ وجلَّ، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي.
عباد الله: كيف لا تحزن القلوب ولا تدمع العيون إذا رأت تلك الجثث الهامدة، بينما كانت في صحة متمتعة، فرحة بقوتها وشبابها، لا يخطر لها الضعف على قلب، ولا الموت على بال إذ هجم عليها المرض، وجاء الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرح، والكدر محل الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا أهل ولا أولاد ولا مال ولا آلات لهو من أغانٍ وغيرها مما كان يفكر فيه ويرغبه في أيام الصحة والفراغ.
ثم بعد تلك الصحة والفرح ينزل به هادم اللذات، ثم يكون جثة هامدة، يفقد القوى، ويفقد الصحة، ولا يستأنس بأحد: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
نعم.
ألا تخشع القلوب، ألا تَهْمُل العيون بالدمع وهي ترى إنساناً قد استفحل به المرض، ولم يعد الطبيب والدواء يفيد به؟ ترى ذلك عند قرب الموت، يستشعر الندم على ما مضى وفات من التفريط والإهمال، وقد نزل به ملك الموت وتغير اللون وغارت العينان ومال العنق والأنف، وذهب الحُسن والجمال، وخَرُس اللسان، وصار لا ينطق بالكلام، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، إنها جثة هامدة.
كيف لا تخشع القلوب ولا تدمع العيون ونحن نرى تلك الجثث يا عباد الله؟! صار يقلب بصره في من حوله من الأولاد والأهل والأقارب؟ ألا ترحمه يا عبد الله! وهو يقلب بصره فيمن حوله من الأهل والأولاد، وهم كذلك ينظرون ما يقاسيه من كرب السياط، وشدة السكرات؟ ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85].
ويقول أيضاً: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:26 - 27] ائتونا بالطبيب، ائتوا بالأطباء جميعاً، احملوه إلى بلد غير بلده، ابحثوا عن الأطباء {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ويقول تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:27 - 30].
ألا تخشع القلوب يا عباد الله؟ ألا تَهْمُل العيون بالدمع من هذا المنظر الفظيع، من إنسان يعالج سكرات الموت، ثم لا يزال يعالج سكرات الموت وشدائده حتى يتتابع النَّفَس، ويختل نبض القلب، ويتعطل السمع والبصر، ويحلُّ الأجل، وينفذ القضاء، وتفيض الروح إلى السماء، خرجت الروح إلى السماء من ذلك الجسد، ثم صار جثة هامدة، وجيفة بين أهله وعشيرته.
قبل أن تخرج روحه يعاني مما حصل منه في حياته، إن كان مرابياً محارباً لله ولرسوله، يعاني من ذلك، ويقول: يا ويلتاه يا ويلتاه مما أمامي من الحساب والعذاب الشديد، يا ويلتاه من عناء تلك الأموال التي جمعتُها من الربا.
إن كان غاشاً، إن كان مخادعاً، إن كان حلاَّفاً فإنه يقول كذلك، نسأل الله العفو والعافية.
إن كان من الذين أدخل على أهله الملاهي، فهو يتوجع في حال موته، يريد أن يقول لأهله: أخرجوا هذه الملاهي التي فتنتكم بها عن بيتي؛ ولكنهم لا يفقهون ذلك، ثم يموت، ويكون وزره مثل أوزارهم، باستعمالهم تلك الملاهي، والعياذ بالله.(160/2)
لابد أن نعد للسؤال جواباً
يا عبد الله: أعد للسؤال جواباً أمام رب العالمين، أنت أدخلتَ الفيديو وما فيه، أفسدتَ النساء، أفسدتَ أخلاق النساء، جعلتهن في محل دعارة وهن في بيت حصين، تذكر -يا عبد الله- أن بيتك بوجود الفيديو صار بيت دعارة، صار بيت زنا وأنت لا تدري؛ ولكن هل تدري متى تدري؟ تدري إذا نزل بك هادم اللذات، وصرتَ تقلب بصرك في نواحي البيت.
تريد أن تقول: أخرجوا الفيديو، أخرجوا الفيديو، أخرجوا الفيديو؛ ولكن هيهات لك من مجيب! هيهات لك أن تنطق، وقد نزل بك هادم اللذات! تريد أن تقول: أخرجوا الخادمة، أخرجوا الخادمة التي جئتُ بها، وجعلتُها بين الشباب في بيتي، يعتقبون عليها طول الليالي يزنون بها؛ ولكن لا تستطيع أن تقول ذلك.
تريد أن تقول: أخرجوا الطباخ، أخرجوا السائق من بيتي، الذي ربما زنا بزوجتك وبالبنات؛ ولكن لا تستطيع أن تقول ذلك.
فمتى يا عباد الله؟ متى نستيقظ هل إذا حل بنا هادم اللذات؟
نعم.
لا يفيدك الكلام يا عبد الله! إذا لم تأخذ الأُهْبَة وتستعد له قبل أن ينزل بك، ثم بعد ذلك صرتَ جيفة هامدة، بين الأهل والعشيرة، قد استوحشوا من جانبك، بعدما كانوا يتواعدون للجلوس معك، صاروا يقولون: ائتونا بغاسل يغسله حتى ندفنه بالتراب، وتباعدوا من جنبك، ومات اسمك فلان بن فلان، الذي كانوا يعرفونك به، كما مات شخصك الذي كانوا يأنسون به، وأصبحوا وقد خيم الحزن عليهم، وضاقوا به ذرعاً.
فأسرعوا إلى المغسل، وقد جاءوا بالمغسل يا عبد الله، وجردك من الثياب، وصار يقلبك عرياناً، وقد كنت تستحي من قبل أن تُرى عورتُك.
ثم أدرجك بالأكفان، وحنطك بالحنوط، واحتملك الرجال على أكتافهم سراعاً، ثم صلوا عليك صلاة لا ركوع لها ولا سجود.
ثم حملوك على أكتافهم إلى مثواك قبل الأخير، إلى قصرك الذي عمرته، إن كنتَ عمرته بالأعمال الصالحة، فهنيئاً لك قصراً مشيداً وسيعاً فسيحاً، وإن كنت عمرته بالأعمال السيئة، فيا ويلك من حفرة ضيقة مظلمة موحشة.
ثم تذكر يا عبد الله! إذا صفوا عليك اللبنات، وأهلوا عليك التراب، وقَفَّوا من عندك، وأنت تسمع قرع نعالهم، وقد جاءك منكر ونكير.
تذكر ما هو الجواب يا عبد الله! تذكر إذا جاءك منكر ونكير، هل تجيب، وتقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد؟ أم تقول: هاه هاه لا أدري، ولا يستويان!
فإن كان الجواب الأول: يقال لك: أبشر، فهذا منزلك من النار قد أبدلك الله به منزلاً من الجنة، ويأتيك عملك الصالح شاب حسن الثياب، طيب الريح.
وإن كان الجواب الثاني: هاه هاه لا أدري، فيقال لك: انظر إلى مقعدك من الجنة قد أبدلك الله به مقعداً من النار، ويأتيك عملك السيء الخبيث.
فيا عباد الله! علينا جميعاً أن نستعد لهذا الموت الفاجع، والخطب الفادح؛ فإنه يأتي على غرة، وبدون سابق إنذار، فاعتبروا بمن اخترمتهم المنية من الشيوخ، والكهول، والشباب، والأطفال، والملوك، والمملوك، والغني، والفقير، كلهم يموتون، قال الله فيهم: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] وقال تعالى: {قل إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
فاستعدوا يا عباد الله! وتوبوا إلى الله، جددوا توبة نصوحاً {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(160/3)
معنى شهادة أن محمداً عبد الله ورسوله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: استعدوا لهادم اللذات، استعدوا للموت؛ فإنه يأتي على غرة، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، واعلموا أن بطاعة الله ورسوله الفلاح والسعادة والأجر في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
ويقول جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32].
ويقول جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
عباد الله: في هذه الآيات الكريمة يتبين لنا معنى شهادة: أن محمداً عبده ورسوله، وهي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرعه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالتُه خاتمة الرسالات، وهو الذي بُعث إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.(160/4)
من طاعة النبي اجتناب المحرمات والمعاصي
أجَل يا عباد الله! أجَل يا أمة الإسلام! كم نسمع من التحذير من ارتكاب جريمة الربا، وأنها محاربة لله ولرسوله؟!
كم نسمع من جريمة الزنا وأنها تجر الويلات والدمار، وأنها تخرب البلاد العامرات؟!
كم نسمع من جريمة اللواط، وأنها عارٌ مستطير، قد حلَّت بأمم عيَّرهم الله في القرآن, وأنزل بهم عقوبة لم يعاقب بها مثلهم أمة من الأمم؟!
كم نسمع من الغش، والخداع والحلف الكاذبة، التي عمَّت المسلمين إلا من شاء الله؟!
كم نرى ونسمع من الذين يحلقون لحاهم، ويعتذرون بأعذار واهية ليس لهم بها حُجة ولا مخرج من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن حلق اللحية حرام يا عباد الله! إن حلق اللحية حرام شاءوا أم أبوا.
إخوتي في الله: ويقترن مع حلق اللحية أمر عظيم وجريمة كبيرة تفشت بين الناس ولم يعتبروها جريمة، إلا من جعل الله في قلبه إيماناً، أتدرون ما هي يا عباد الله؟! هي الإسبال، جر الثياب والمشالح والسراويل من الرجال، واسمعوا يا عباد الله النهي الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، اسمع يا من تخشى أن تموت وأنت على تلك الحال، فتب إلى الله عزَّ وجلَّ ولن يقع عليك هذا الوعيد الأكيد وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً} حديث متفق عليه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاًَ: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم} ثم يكرر صلى الله عليه وسلم ويقول: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم} ثم يكرر الثالثة صلى الله عليه وسلم ويقول: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟! قال: المُسْبِل، والمنَّان، والمنفق سلعتَه بالحلف الكاذب} رواه: مسلم.
يا عبد الله: اسمع -أيضاً- من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه} حديث صحيح رواه أبو داود.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: {يا عبد الله، ارفع إزارك فرفعتُه، ثم قال: زد فزدتُ، فما زلتُ أتحراها بعدُ، فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين} رواه: مسلم.
عبد الله! هل بعد هذا البلاغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر للمعاندين الذين اعتادوا أن يسحبوا الثياب؟ هل لهم عذر إذا وقفوا بين يدي الله عزَّ وجلَّ؟ لا.
إن البعض من المعاندين يقولون: لم نجره خيلاء ولكن زينة، فنقول لهم: ليست الزينة ولا الجمال فيما حرم الله ورسوله، مثل الذين إذا قيل لهم اتركوا اللحية، قالوا: (النظافة من الإيمان) والله إنها لمقالة شنعاء، كذبوا بها على الله ورسوله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] يقولون: (النظافة من الإيمان) مع الأسف أصبح تغيير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان؟ بل أنت ناقص الإيمان عندما غيرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البعض من الناس إذا قيل له: لا تجر الثوب، قال: أنا لا أجره خيلاء ولا بطراً؛ ولكن أجره زينة، فنقول له قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} حديث صحيح رواه البخاري.
واسمعوا يا عباد الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من جر ثوبة خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بذيولهن، قال: يرخين شبراً قالت: إذاً: تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعاً ولا يزدن} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
عباد الله: لقد عَظُمَت المصيبة، وكلنا نرى في هذا الزمان الذي انعكس الأمر فيه وانتكس، فالمرأة هي التي قصرت ثيابها، وكشفت عن مفاتنها، والرجل حل محلها، فأسبل الثياب، وستر القدمين، فلا يظهر منه إلا الوجه، وأطراف القدمين، فما نقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(160/5)
عاقبة من عصى النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
هل لديك طاقة يا عبد الله بجهنم؟! {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
فما ظنكم يا عباد الله بأناس يرون أولادهم يجرون الثياب وهم يصبون لهم القهوة، ويقدمون لهم الطعام، ولا يغيرون هذا المنكر العظيم؟!
ما ظنك ببعض الآباء وأولاده يقفون أمام الخياط ليأخذ مقاساتهم والولد ويوصيه أن يجعل الثوب أو الإزار طويلاً يلامس الأرض، ولا ينكر عليه هذا؟! فهذا -والله يا إخواني- من عدم الغيرة الإيمانية، ومن عدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا حول ولا قوة إلا بالله! أسأل الله أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن يغيثها بالإيمان، وأسأل الله أن يشفي مرض قلوبنا، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله: صلوا وسلموا على الناصح الأمين، امتثالاً لأمر الله ربكم، حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم انصر المجاهدين من المسلمين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، يا رب العالمين.
اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم اجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا، يا رب العالمين.
اللهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار.
اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم, واجمعنا والمسلمين في جنات النعيم.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(160/6)
من أسباب دخول النار
إن النار دار قد خص أهلها بالإبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد، وبدلت وضاءة وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لذلك كله كان لا بد من معرفة أسباب دخولها حتى يحذر منها.(161/1)
وصف النار
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته, أيها المؤمنون الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ويؤمنون بالقدر خيره وشره، ويؤمنون بالنعيم والعذاب, ويؤمنون بالجنة والنار, نعم -أيها المؤمنون بالله حقاً- إن القرآن دائماً في وعده ووعيده، دائماً يكرر: يا أيها الذين آمنوا، ينادي باسم الإيمان, فعليك أيها المؤمن أن تصغي لها سمعك, فإن بعد هذا النداء الجليل إما خيراً تدعى إليه, وإما شراً تحذر منه.
أجل -يا عباد الله- لقد وصف الله سبحانه وتعالى نار جهنم، ووصف أهلها وأحوالهم وأعمالهم في القرآن العظيم, ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال بعض العلماء في وصف النار: "إنها دار قد خص أهلها بالإبعاد, وحرموا لذة المنى والإسعاد, بدلت وضاءة وجوههم بالسواد, وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد, عليها ملائكة غلاظ شداد, لو رأيتهم في الحميم يسرحون وعلى الزمهرير يطرحون، وحزنهم دائم فما يفرحون, مقامهم محتوم فما يبرحون, أبد الآباد في نار جهنم، عليها ملائكة غلاظ شداد, توبيخهم أعظم من العذاب, تأسفهم أقوى من المصاب, يبكون على تضييع أوقات الشباب, وكلما جاء البكاء زاد, هذه جهنم عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الجبار! يا محنتهم لعظيم البوائق! يا فضيحتهم بين الخلائق على رءوس الأشهاد! أين كسبهم للحطام؟! أين سعيهم في الآثام؟! كأنه كان أضغاث أحلام، ثم أُحرقت تلك الأجسام، وكلما أُحرقت تعاد في جهنم عليها ملائكة غلاظ شداد".
نعم -يا عباد الله- هل على هذه النار نستطيع أن نصبر؟! هل على جهنم نستطيع أن نصبر؟! أم هل على هذه النار جلد؟ يا عباد الله: الأجسام رقيقة وضعيفة.
عباد الله: لنرجع إلى القرآن، ثم لنسمع قول المولى جلَّ وعلا، لنسمع قول الحق تبارك وتعالى الذي لا مرية فيه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(161/2)
الأسباب التي توجب دخول النار
عباد الله: إن الله عز وجل لما أخبرنا عن النار في القرآن العظيم, وحذرنا منها أخبرنا بالأعمال التي توصل إليها، حتى لا يكون لأحد على الله حجة يوم القيامة, وكذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.(161/3)
من أسباب دخول النار: الشرك بالله
فأما النوع الأول الذي يدخل النار ويخلد فيها: الشرك بالله, بأن يجعل لله شريكاً في الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات, فمن اعتقد أن مع الله خالقاً مشاركاً، ولو كان يعتقد انفراد الله بالخلق, أو اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يعبد أو عبد مع الله غيره، فصرف شيئاً من أنواع العبادة إليه, أو اعتقد أن لأحد من العلم والقدرة والعظمة ونحوها مثل ما لله عز وجل، فقد أشرك بالله شركاً أكبر واستحق الخلود في نار جهنم، قال الله عز وجلَّ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
اسمعوا يا من تأتون إلى الكهان والعراف والسحرة والمنجمين, اسمعوا هذا الوعيد الشديد: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ليسمع الذين يعتقدون أن الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة وغيرهم أن لهم قدرة على الأشياء، أو أنهم يعلمون الغيب، فإن علمهم هذا باطل, إذا استغاثوا بهم، أو استعانوا بهم، أو طافوا بأضرحتهم, أو توسلوا بهم, فإن عملهم هذا باطل, وليسمعوا إلى هذا الوعيد: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
إذاً هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد, الحي القيوم, الذي لا يستعان إلا به, ولا يستغاث إلا به, ولا يدعى إلا هو, ولا يقضي الحاجات إلا الله, ولا يفرج الكربات إلا الله, لا إله إلا الله ولا رب سواه.
اسمع يا من غره أولئك المشعوذون, أولئك أهل الخزعبلات, أولئك أهل الخرافات الذين يقولون: إذا نزلت منزلاً جديداً فأتِ بالذبيحة واذبحها عند الباب تكون لك تقرباً إلى الجن, ويندرءُ بك شر الجن, فهذا شرك -يا عباد الله- لأنه ذبح لغير الله, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن ذلك ويقول: {لعن الله من ذبح لغير الله} لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من ذبح لغير الله، فهل بعد هذا البيان بيان؟!(161/4)
من أسباب دخول النار: الكفر بأركان الإيمان
أمة الإسلام: النوع الثاني من الكفر الذي يدخل النار: الكفر بالله عز وجلَّ أو بملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أو قضاء الله وقدره, فمن أنكر شيئاً من ذلك تكذيباً أو جحداً أو شكاً فيه فهو كافر مخلد في النار, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:150 - 151].(161/5)
من أسباب دخول النار: إنكار ركن من أركان الإسلام
النوع الثالث: من أنكر شيئاً من أركان الإسلام الخمسة, فمن أنكر توحيد الله أو الشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة, أو عمومها لجميع الناس, أو أنكر فريضة الصلوات الخمس, أو أنكر فريضة الزكاة, أو أنكر صوم رمضان, أو أنكر الحج, فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله, وإجماع المسلمين، وكذلك كل من أنكر تحريم الشرك، أو قتل النفس التي حرم الله، أو أنكر تحريم الزنا، أو أنكر تحريم اللواط، أو أنكر تحريم الخمر، أو غيرها مما تحرمه الشريعة الإسلامية وهو ظاهر صريح في كتاب الله، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, من أنكر ذلك أو أحل شيئاً مما حرمه الله فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(161/6)
من أسباب دخول النار: الاستهزاء بالله أو بدينه أو برسوله صلى الله عليه وسلم
النوع الرابع: الاستهزاء بالله سبحانه وتعالى، أو بدينه أو برسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى مصرحاً بكفر من فعل ذلك في كتابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وهذه هي المصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من الناس في هذا الزمان.
الاستهزاء هو: السخرية، وهو من أعمال المنافقين الذين وعدهم الله هذا الوعيد، فاسمعوا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].(161/7)
من أسباب دخول النار: سب الله تعالى
والنوع الخامس: هو سب الله تعالى, ومن يجترئ أن يسب الله؟! ومن يجترئ أن يسب الله الخالق الرازق المدبر؟! ومن يجترئ أن يسب رب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء؟! ولكن بعض الناس يتجرأ على الله الذي خلقه من نطفة من ماء مهين، فيسب الله تعالى أو يسب الدين أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا هو القدح والعيب, وذكرهم بما يقتضي الاستخفاف والانتقاص، كاللعن والتقبيح ونحو ذلك، فمن فعل ذلك فهو كافر, وقد توعده الله بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].(161/8)
من أسباب دخول النار: الحكم بغير ما أنزل الله
والنوع السادس: الحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أنه أقرب إلى الحق وأصلح للخلق, فمن حكم بغير ما أنزل الله معتقداً ذلك فهو كافر, لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].(161/9)
من أسباب دخول النار: النفاق
والنوع السابع: هو النفاق -نعوذ بالله من النفاق- وهو أن يكون كافراً بقلبه, ويظهر للناس أنه مسلم، وهذه هي المصيبة العظمى, كافر بقلبه، ويظهر للناس أنه مسلم، وإما بقوله أو بفعله، وهذا صنف أعظم كفراً من الكفار, ولذلك كانت عقوبة أصحابه أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار؛ وذلك لأن كفرهم جامع بين الكفر والخداع والاستهزاء بالله وآياته ورسوله، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] ماذا يفعلون؟! {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [لبقرة:9 - 10].
وللنفاق علامات كثيرة:-
العلامة الأولى: الشك فيما أنزل الله، وإن كان يظهر للناس أنه مؤمن, ومنها كراهة حكم الله ورسوله.
العلامة الثانية: أن المنافق يكره ظهور الإسلام وانتصار أهله، ويفرح بخذلانهم.
العلامة الثالثة: أن المنافق يحب أن تظهر بين المسلمين الفتنة, ويحب تفريق المسلمين.
العلامة الرابعة: لمز المؤمنين وعيبهم في عباداتهم، مثل الذين يستهزءون بأهل اللحى, هذه مصيبة -أيها الإخوة في الله- الذين يستهزءون بأهل اللحى، يسمونهم موسوسين، يقولون: (يا أبو لحية التيس!) (يا أبو المكنسة!) يا ويلهم مما أمامهم يوم القيامة.
أكرر ذلك ولو حصل لي أن أكرر ذلك بعد كل الفروض من الصلاة لكررت ذلك؛ لأن الأمر عظيم، ووقع فيه الكثير من الناس, حتى إن بعض الناس أصابهم حيرة وشك في دينه، من الذين يرددون هذه العبارات لا كثرهم الله, يستهزءون بأهل اللحى ويسمونهم: موسوسين، أو يستهزءون بالذين يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم, الذين يلبسون الثياب القصيرة، فإنهم يسمونهم: متزمتين رجعيين، ويتسهزءون بالمرأة المتحجبة -مع الأسف الشديد- المتمسكة بدينها فيسمونها: رجعية أو متزمتة, نسأل الله العفو والعافية, إذا لم يتوبوا فيا ويلهم مما أمامهم!
فيا أخي المسلم، ويا أختي المسلمة: الله الله بالتمسك بأهداب الدين الحنيف، ولا يلتفتوا إلى المنافقين أعوان الشياطين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
العلامة الخامسة: ثقل الصلاة والتكاسل عنها, قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فهم يصلون لكن بصفتهم هذه -نسأل الله العافية- فلا يقومون إليها إلا وهم كسالى, ومع ذلك يراءون الناس، جمعوا بين الأعمال الخبيثة وبين الرياء والنفاق وبين التكاسل عن طاعة الله عز وجل.
فتش عن نفسك -يا عبد الله- هل أنت من هؤلاء؟ فبادر إلى الله بالتوبة النصوح واستعن بالله، وبادر إلى طاعة الله عز وجلَّ, وإن لم تكن منهم فاحمد الله عز وجلَّ, يقول نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر} أسأل الله العافية، أجل.
الذين لا يعرفون الصلاة إلا في رمضان, لا يعرفون صلاة الفجر إلا في رمضان, وبعضهم ينزل ويرتحل ما رئي في المسجد أبداً, يا ويلهم مما أمامهم إن ماتوا من غير توبة, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر}.
العلامة السادسة: أذية الله ورسوله والمؤمنين.
العلامة السابعة: أنه إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر.
فهذه طائفة من علامات المنافقين, ذكرناها للتحذير منها, ولتطهير النفس من سلوكها, اللهم إنا نعوذ بك من النفاق, ومن أعمال المنافقين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(161/10)
من أسباب دخول النار: عقوق الوالدين والدياثة وإدمان الخمر
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي نصح الأمة, وتركها على البيضاء وحذرها من الشر وطرقه, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله: اسمعوا أيضاً لعدة أسباب يستحق فاعلها دخول النار -نعوذ بالله من النار- منها عقوق الوالدين, والديوث الذي يقر الخبث في أهله, ومدمن الخمر, فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر الخبث في أهله} رواه الإمام أحمد والنسائي.(161/11)
من أسباب دخول النار: قطيعة الرحم
ومن أسباب دخول النار: قطيعة الرحم قال صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة قاطع} قال سفيان رحمه الله: [[أي: قاطع رحم]] , رواه البخاري ومسلم , وقال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم غفلوا عن القيام بحق الوالدين والأرحام, وقطعوا حبل الوصل، وحجة بعضهم: أن أقاربه لا يصلونه, وهذه الحجة لا تنفع؛ لأنه لو كان لا يصل إلا من وصله, لم تكن صلته لله، وإنما تكون مكافئة.
عباد الله: إذا وصل رحمه وهم يقطعونه فإن له العاقبة الحميدة, وسيعودون فيصلونه, كما وصلهم إن أراد الله بهم خيراً.(161/12)
من أسباب دخول النار: مجموعة من الأسباب التي توجب دخول النار
ومن أسباب دخول النار: أكل الربا وأكل مال اليتامى وشهادة الزور وأكل الرشوة واليمين الغموس.
ومن أسباب دخول النار: القضاء بين الناس بغير علم, أو بجور وميل.
ومن أسباب دخول النار: الغش للرعية, وعدم النصح لهم.
ومن أسباب دخول النار: تصوير ذوات الأرواح من إنسان أو حيوان.
ومن أسباب دخول النار: الكبر والنميمة.
ومن أسباب دخول النار: استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب للرجال والنساء, وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما رجال معهم سياط يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}.
كل ما تقدم من أسباب دخول النار له دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ولولا الإطالة لذكرت ذلك مفصلاً, ومن أراد الدليل فليرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله.
فاحذروا -أيها الإخوة في الله- أسباب دخول النار, واعملوا بالأسباب التي تبعدكم عنها؛ لتفوزوا بدار القرار, واعلموا أن متاع الدنيا قليل؛ لأنها سريعة الزوال, كما أخبر الله في محكم البيان.
وأسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم, وأن يثبتنا على الحق, وأن يحيينا مسلمين, وأن يتوفانا مسلمين, وأن يجعل أعمالنا كلها صالحة, وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم, ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد عليهم وطأتك, وارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق, إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله، الذي لا إله إلا هو، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إنا نستغيثك يا مغيث اللهفات, يا مجيب الدعوات، يا مفرج الكربات, يا محيل الشدائد والبليات، لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الغني ونحن الفقراء، يا علي يا عظيم, يا حليم يا عليم, نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، يا من خزائنه ملأى, لا تنقصها النفقات, يا من يداه مبسوطتان, ينفق كيف يشاء، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق, اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً, سحاً غدقاً, نافعاً غير ضار, اللهم احيي بلدك الميت, اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة, وإليه المآب, لا إله إلا أنت, ولا رب لنا سواك.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(161/13)
وداعاً شهر رمضان
يرحل عنا شهر رمضان، وقد مضت أيامه ولياليه سراعاً كساعة من نهار، خرج منه المجتهدون بوافر الحظ والنصيب، وضيع حسناته المفرطون المحرومون.
ولقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام شهر رمضان عبادات جليلة منها: زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد.(162/1)
شهر رمضان مستودع للأعمال
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومن فضله شرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال ويسرها، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الذنوب والسيئات، أحمده سبحانه على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المعروف بالفضل والإحسان على الدوام.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وتهجد وقام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن على نهجهم استقام، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وفكروا ماذا عملتم في شهر رمضان الذي قارب وأوشك على الارتحال، وسيكون شاهداً لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، لقد كانت أيام هذا الشهر الكريم، معمورة بالصيام والقيام والذكر وقراءة القرآن، فيا أسفاً على تلك الليالي والأيام! لقد مضت سراعاً كساعة من نهار، وأخذ المجتهدون منها بوافر الحظ والنصيب.(162/2)
حال المفرط
أما المفرط المحروم فقد أضاعها وذهبت عليه هباء، يتمنى لو عاد الشهر من أوله ليتلافى ما فرط وأضاع، وهيهات هيهات فكم وعظهم الواعظون، ونصحهم الناصحون، ولكنهم كحمر مستنفرة يفرون ويتهربون، وعن الخيرات يبتعدون، قد ران على قلوبهم الران، وخدعهم والله طول الأمل، وغرهم بالله الغرور.
فتمادوا في المعاصي في مختلف ألوانها وأشكالها، فلو رأيتهم وهم يأخذون الأُهبة والاستعداد للسفر لبلاد الكفر والفساد، ليجدوا جواً مهيأ لهم في فعل المنكرات، من شرب المسكرات، وفعل الزنا واللواط، والجلوس في أماكن تدفعهم إلى ارتكاب أقبح الجرائم والذنوب، من أفلام سينمائية قذرة، تصور الإثم وتدعو إلى الفساد والتحلل عن الأخلاق الفاضلات، ومع الأغاني الخليعة وغيرها من التمثيليات الأثيمة التي تفسد الأخلاق، وتصور الميوعة والانحلال التي يدعو إليها الشيطان وأعوانه من المفسدين في الأرض، ليصدوا بها العباد عن طاعة الله.
عباد الله! يا من صمتم شهر رمضان! وترجون من الله القبول، احذروا المعاصي فإنها برهان واضح على الغفلة، احذروا المعاصي فإنها نكران للجميل، احذروها فإنها كفران لنعمة المنعم العظيم، فمن حق المنعم جل وعلا أن يُشكر ولا يُكفر، وأن يطاع ولا يعصى، ويُحمد ويُعبد، ولا يعصى طرفة عين.(162/3)
المبادرة للعمل الصالح
عباد الله! إنكم تودعون شهر رمضان وقد قارب الارتحال، فهذه آخر جمعة من شهركم الكريم، وهو شاهد عليكم غداً بما أودعتموه وبما أضعتم، فيا ليت شعري هل يرحل حامداً فعلكم، أو ذاماً تضييعكم.
فبادروا عباد الله! بادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة قبل الارتحال إلى القبور، وانهضوا إلى فعل الأسباب الموصلة إلى رحمة الله عز وجل قبل طي الكتاب، وبادروا بالتوبة والاستغفار ما دمتم في زمن الإمكان، قبل إغلاق الباب وإسبال الحجاب، وقبل أن يختم على كل عمل بما فيه من حسن أو قبح.
فهذه أيام الخيرات والبركات، أيام إعتاق الرقاب الموبقات، أيام رمضان ولياليه قد تصرمت وأوشكت على الانتهاء، لقد كانت مواسم لمضاعفة الأجور والغفران.(162/4)
ما يشرع في ختام رمضان
عباد الله! إن الله شرع لكم في ختام شهركم، شرع لكم التكبير عند إكمال العدة من غروب الشمس ليلة العيد إلى وقت صلاة العيد، وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واجهروا بهذا التكبير في المساجد، والبيوت والأسواق، إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكراً له على تمام الصيام.
أمة الإسلام! ما أجمل حال المسلمين! وهم يكبرون الله تعظيماً وإجلالاً في كل مكان، عند انتهاء شهر الصوم، ما أجملهم وهم يملئون الآفاق تكبيراً وتحميداً وتهليلاً! يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
كما شرع لكم صلاة العيد، ويسن الخروج إليها ماشياً إذا لم يشق عليه المشي، ويلبس أحسن الثياب، مع الحذر من المحرم مثل الحرير والذهب، فإنهما حرام على الذكور من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويكثر من ذكر الله ومن دعائه، ويتذكر بذلك الاجتماع اجتماع الناس على صعيد واحد يوم القيامة، في ذلك الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا الصيام والقيام والدعاء، وأن يرزقنا التوبة النصوح إنه على كل شيء قدير فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(162/5)
زكاة الفطر
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله ربي ورب كل شيء ومليكه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل خلق الله على الإطلاق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(162/6)
مقدار زكاة الفطر ونوعها
أيها المسلمون! لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة، نزداد بها إيماننا، وتكمل بها عباداتنا، وتتم بها علينا النعمة، شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر: زكاة الفطر، والتكبير، وصلاة العيد، فأما زكاة الفطر فهو صاع من طعام، صاع من البر أو التمر أو الزبيب أو الإقط أو الرز أو غيرها من قوت البلد.
قال أبو سعيد رضي الله عنه: {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من طعام} وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء؛ فهو أفضل وأعظم أجراً، تطيب بها نفساً، وأخرجوها من أفضل ما تجدون، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب، مع أنه أفضل عند الله وأكثر أجراً، ويجوز أن يوزع الإنسان فطرته على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين فأكثر، وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الملك والمملوك، فأخرجوها عن أنفسكم، وعمن تنفقون عليه من الزوجات والأقارب، ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في بطن أمه، وإن أخرج عنه فهو خير وأفضل.(162/7)
وقت إخراجها
والأفضل في وقت إخراجها: يوم العيد قبل صلاة العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين فقط، ولا تجزئ بعد صلاة العيد، بل تكون بعد صلاة العيد صدقة من الصدقات، ويأثم بتأخيرها، وتدفع إلى الفقراء، ولا يجوز لغني أخذها، ويجوز للفقير أن يوكل شخصاً في قبض ما يدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل، فإنها وصلت إلى يد موكله.(162/8)
حكم إخراجها نقداً
واعلموا يا عباد الله! إنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخرج قيمتها، ولا أخرجها أحد من الخلفاء الراشدين، فمن أخرج القيمة فإنه يكون مخالفاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفاً لهدي خلفائه الراشدين الذين قال فيهم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين}.
وصلوا يا عباد الله! على خير خلق الله محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم فقال قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد البشير النذير، والسراج المنير، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم واحم حوزة الدين، اللهم ودمر اليهود وأعوانهم، والمبشرين والشيوعيين، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا، اللهم اجعلنا وإياهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا رب العالمين، وآتنا اللهم ربنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(162/9)
اتقوا الله واشكروا النعم
إن الواجب على المسلم أن يعتبر ممن قبله من الذين لم يشكروا نعم الله عليهم، مثل قرية سبأ التي أنعم الله عليها بالنعم العديدة، فما شكروا الله وأعرضوا عنه، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وأبدلهم مكان النعمة العذاب والخسران، وهذه هي سنة الله في الذين يكفرون نعمه ولا يشكرونها.
والشكر لا يكون باللسان فقط؛ بل بالأعمال الصالحة المختلفة كالصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأعمال الصالحة.(163/1)
كفران النعم سبب لزوالها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، وتفكروا في هذه النعم التي أمدكم الله بها ومن أهمها وأكبرها نعمة الإسلام، والأمن، والاستقرار والصحة والعافية في الأبدان ونعم رغد العيش، ونعمٌ كثيرةٌ، وصدق الله حيث يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18].
عباد الله: لقد أنعم الله علينا بنعمٍ كثيرةٍ وافرةٍ في هذه البلاد الواسعة الأرجاء، بينما كثيرٌ من الناس في كثيرٍ من الأقطار والأمصار يعانون من المخاوف وعدم الاستقرار، وعدم الأمن، وتهددهم المجاعات، وتطحن عليهم الحروب رحاها؛ ففرقتهم ومزقتهم كل ممزق، فهم ما بين جريح وقتيل، ويتيم وأرملة، ومشلول ومعلول، فلا حول ولا قوة إلا بالله!(163/2)
سبب إهلاك الله لقوم سبأ
عباد الله: إن الله ليس بظلام للعبيد، وليس بينه وبين خلقه نسباً، فتلكم -يا عباد الله- عواقب المعاصي والإجرام وتعدي حدود الله، فإن الله يملي للظالم فإذا أخذه فإنه يأخذه أخذ عزيز مقتدر، واسمعوا إلى القرآن وهو يخبر عن أمة كفرت نعم الله وجحدتها قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15 - 17].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم، وكانوا في نعمةٍ وغبطةٍ في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده تبارك وتعالى، ويعبدوه حق عبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد شذر مذر، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] ولكنهم عافوا هذه النعمة، وسئموها كما سئمت بنو إسرائيل المن والسلوى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19].(163/3)
سنة الله في الذين يكفرون بنعمه
وضرب الله أيضاً مثلاً لعصاة ولكفار آخرين، ومنهم أهل قريش لما كفروا النعمة وبطروها، والمثل لقريش وغيرهم ممن كفروا نعم الله وجحدوها ولم يستعملوها في طاعة الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وأخبر الله عز وجل أنه أرسل إليهم رسولاً منهم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم عتوا وكفروا ولم يطيعوا؛ فعذبهم الله جلا وعلا، وما ربك بظلام للعبيد، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل:113].
نعم يا عباد الله: هذه سنة الله في خلقه، فإن الناس إذا كفروا نعمة الله؛ فإن الله يغار على نعمه؛ فيحل الخوف بدلاً من الأمن؛ وتحل النكبات والكوارث والفقر والجوع والتشريد والجلاء عن الديار، وهلاك الأنفس، وتلاف الأموال، والترويع والإرهاب، والتخريب والاغتيالات، والاختطاف وتفجير القنابل المروعة التي تهدم المباني المشيدة، وتهلك النفوس الكثيرة، وتلحق الأضرار البالغة بالجراحات والتشويه، وما يتبع ذلك من نهب الأموال، وقطع الطرق ونشر المخاوف، كل ذلك يجري إذا كُفرت النعمة، وغير العباد الطاعة بالمعصية، وأغضبوا جبار الأرض والسماوات، فإنه يغار ويسلط ويسلب النعم ويحل النقم، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال الله وهو أصدق القائلين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
عباد الله: اسمعوا إلى ربكم يحذركم في محكم البيان، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، فهل من أذن تسمع؟ وهل من قلبٍ يتعظ؟(163/4)
ظهور بوادر الشرك وكفران النعمة
يا أمة الإسلام: إن الوضع يحزن؛ لقد ظهرت بوادر الشر وكفران النعمة من تضييع الصلاة، انظروا المساجد بعد أن خرج شهر رمضان كيف ودعها الكثير من الناس وهم ينعمون بالصحة والعافية والأمن والاستقرار؟ أجل.
إنهم كفروا هذه النعمة، وقابلوا مسديها بالنكران للجميل.
نعم -يا عباد الله- فكثير من البيوت تمتلئ بالرجال والأولاد الذين لا يشهدون الصلاة في المساجد، ومنهم من يترك الصلاة بالكلية، وهناك بيوت تمتلئ بآلات اللهو والأفلام الخليعة، وترفع فيها أصوات المطربين والمطربات بالأغاني الخليعة والأصوات الفاجرة، وهناك أناس هتكوا ستر الحياء، وذبحوا الشيمة والمروءة، وتساهلوا في أمر نسائهم ومحارمهم، فتركوهن يخرجن للأسواق متبرجات متعطرات، وبعضهم جلبوا إلى بلاد المسلمين قطعاناً من الرجال والنساء الأجانب وأدخلوهم في بيوتهم، وخالطوهم مع عوائلهم باسم خدامين وخدامات، ومربين وسائقين، وأكثرهم كفرة وملاحدة جاءوا لإفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم، وتدمير بيوتهم، وغير ذلك من المنكرات التي حدثت في بلادنا مؤذنةٌ بزوال تلك النعم إن لم نتدارك أمرنا ونقلع عما نحن فيه، ونتآمر بالمعروف، ونتناهى عن المنكر، ونأخذ على أيدي سفهائنا بجدٍ وحزمٍ، ولنستمع إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] وهذه سنة الله في خلقه، إذ هو يقول: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:17].
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ونعوذ بك اللهم من جميع سخطك، اللهم صلِّ على محمد، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(163/5)
انتشار ظاهرة الإسراف
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد النبي الأمين الناصح الذي ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتها، وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، فلقد أنعم الله عليكم بنعمٍ كثيرةٍ، وجاد علينا بخيراتٍ وافرةٍ، غفلنا عنها وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، وأعطانا ربنا جل وعلا النعم الكثيرة الظاهرة والباطنة، والله أوجب علينا الشكر لنعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه كما أخبر سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وليس لله في شكرنا منفعةٌ تعود عليه، ولا في كفر نعمه ضررٌ عليه، إنما تعود منفعة الشكر على الشاكر كما قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
عباد الله: تسمعون ما يحصل في كثيرٍ من المناسبات من البذخ والتبذير والإسراف مما يندى له الجبين، ويقشعر منه الجلد، كل ذلك جرياً وراء العادات، ووراء التقاليد مباهاة ومفاخرة، حتى إن البعض من الناس صارت عنده العادات بمنزلة الفريضة، فبعضهم إذا نزل عليه ضيف ولو كان واحداً قدم له الذبيحة، ثم يأخذ منها بقدر ما يأخذ الضيف، والباقي أين يوضع يا عباد الله؟! لو نذكر هذه العبارة مع البكاء حتى ينفد الدمع ويتبعه الدم؛ ما قدرنا أن نعبر عما يفعله الناس، أين يوضع الباقي يا عباد الله؟!
إن الإنسان يستحي أن يقول: إنه يوضع في محل النفايات مع القاذورات، في محل حتى الكلاب والقطط لا تأكل منه، أليس هذا يا عباد الله من كفر النعمة؟ بلى والله.
ثم بلى والله.
ثم حدثوا يا عباد الله: عن البراري والصحاري، وما يوضع فيها ولا حرج، إن البعض من الإخوان الثقات، قال لي: لقد رأينا (قلاب) وهو يظهر منه حرارة، فتتبعناه، فإذا هو يفرغ طعاماً كثيراً، سبع ذبائح لم يؤخذ منها شيء إلا القليل قدر البيضة، وبعضها لم يؤخذ منها شيء.
ثم زيادة على ذلك ما يدفع من النقود الباهضة للفنادق وغيرها من قصور الأفراح في مناسبات الزواج، وربما كان ذلك كله دينٌ في ذمة الزوج، قد استدانه من تجار حمَّلوه ما لا يطيق (فيا ليت للصقيمة الوليمة) ولو أن إيجارات قصر الأفراح ترد على الزوج ليقضي ما عليه من الدين، واكتفى بشيءٍ يسير يجتمع عليه هو وأقاربه وجيرانه لكان في ذلك كفاية وخير كثير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف: {أولم ولو بشاة} والصحابة في حاجة، وشدة جوع، ويقول له صلى الله عليه وسلم: {أولم ولو بشاة}.
ولكن متى نرعى النعمة يا عباد الله؟ متى نقيد النعمة يا عباد الله ونحن نبذر ونسرف في تلك المناسبات! حتى -يا عباد الله- إذا حل بنا ما حل بالمجاورين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهم بطروا النعمة وكفروها، وأخيراً صاروا يبحثون عنها مع الوحوش ليسدوا رمق الجوع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما هي من الظالمين ببعيد.
اللهم أيقظنا من غفلاتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.(163/6)
شكر النعم
عباد الله: أيدوا النعمة بالشكر، ولا يكفي الشكر باللسان، بل بالقيام بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالمحافظة على الصلوات في بيوت الله، وبأمر الأولاد بالصلاة، وبمناصحة الجيران والزملاء، لنجعل مجتمعاتنا دائماً وأبداً على طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تدوم هذه النعمة؛ ويزيدنا الله من فضله، فإن الله وعد الشاكرين بالمزيد، أما إن كفرنا هذه النعمة، فإنه وعد من كفر النعمة بالانتقام والعذاب الشديد.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها، وأكرمها علينا، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام والمسلمين، واشدد وطأتك على أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وقيض لهم القرناء الصالحين، والجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين، اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداةً مهتدين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، وصلوا على رسول الله!(163/7)
تحريم الربا
كثر في زماننا هذا التعامل بالربا، واقتات منه الأبناء والأولاد، وهو محرم في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدلة واضحة صريحة لا غبار عليها.
ويرى الشيخ أن هناك صورة من صور الربا يتعامل بها الناس كثيراً اليوم، ويرى أن حقيقتها حيلة، كما تعرض الشيخ لمضار الربا وذكر معظمها.(164/1)
التحذير من الربا في الكتاب والسنة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله القائل في محكم كتابه: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى: {ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(164/2)
التحذير من الربا في القرآن
فيقول الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:130 - 132].
هكذا القرآن جاء محذراً من هذه الجريمة، ومتوعداً من ارتكب هذه الجريمة ألا وهي الربا.(164/3)
التحذير من الربا في السنة النبوية
تأتي السنة -وهي الوحي الثاني- وتحذر تحذيراً بالغاً، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا السبع الموبقات -ونسوق الحديث بتمامه للفائدة- قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات} رواه البخاري ومسلم.
الشاهد من هذا الحديث: (أكل الربا) فأكل الربا من الموبقات المهلكات، ومن كبائر الذنوب.
أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: {الربا ثلاثٌ وسبعون باباً أيسرها مثل: أن ينكح الرجل أمه} لا حول ولا قوة إلا بالله! بئس البطن الذي يجر على مثل هذه الجريمة، يقول صلى الله عليه وسلم في معرض اللعن: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} يعني: في الإثم.
أمة الإسلام: لقد توعد الله جل وعلا آكل الربا بالنار، وآذنه الله بالحرب، ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتب ومات على تلك الحالة وقد قال: {أيما جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به}
ويقول صلى الله عليه وسلم: {درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أنه ربا أشد من ستٍ وثلاثين زنية}.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: {رأيت رجلاً يسبح في نهر دم، وكلما جاء ليخرج من هذا النهر؛ استقبله رجلٌ آخر على شاطئ النهر، وبين يديه حجارة ويرجمه بحجر منها في فيه حتى يرجع حيث كان، فسأل عنه صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي يسبح في هذا النهر من الدم ويلقم الحجارة؟ فقال: إنه كان يأكل الربا}.
أيها المسلمون: إن الربا فساد في المجتمع واستغلال، بني على الشح والطمع، آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً، وذلك علمٌ لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في حديث مرفوع: {إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بلاءً فلا يرفعنه عنهم حتى يرجعوا عن دينهم} ويقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[إذا ظهر الزنا والربا في قرية آذن الله بهلاكها]].
وكما ذكرنا في الحديث السابق أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم، ويلقم الحجارة وتلك الحجارة هي المال الذي جمعه من حرام، فانقلب المال حجارة يلقم بها في البرزخ، فيلقم حجارةً من نار كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(164/4)
صورة من صور الربا
أيها المسلمون: إن للتحايل على الربا صوراً كثيرةً أكثرها شيوعاً ما ظهر في البيوت علانية بين أظهر المسلمين، ومنها: طريقة المداينة التي يستعملها كثيرٌ من الناس وهي: أن يتفق الدائن والمدين أولاً على المعاشرة، يتفق معه على الدراهم يقول: أريد عشرة آلاف العشرة باثني عشر، أو ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، أو غيرها مثلاً، ثم يذهب به إلى صاحب دكان عنده أموال مكدسة سكراً، أو ربطات خام، أو غيرها، فيشتري الداعم شراءً ليس له به غرض سوى الوصول إلى بيع العشرة باثني عشر، أو ثلاثة عشر، أو إلى غير ذلك، والدليل الذي يوضح ذلك أنه شراءٌ صوري أنه لا يكاثر بالثمن، ولا يقلب السلعة، ولا يفككها كما يفعل المشتري حقيقة، وربما اتفق هو والتاجر خفية حتى يصطادون ذلك المسكين، وربما كانت هذه الأموال أفسدها طول الزمن، أو أكلتها الأرض؛ لأنها لم تنقل ولم تقلب، ولم تفكك، بعد هذا الشراء الصوري يبيع الدائن هذه السلعة على المدين المسكين بما اتفقا عليه من الربح، ثم يعود المدين، فيبيعها على صاحب الدكان وهي في محلها، ويخرج من الدكان بدراهم؛ وهذا هو عين التحايل.(164/5)
لماذا كانت هذه الصورة ربا
أيها المسلمون: إن المبايعة بهذا البيع الصوري الذي يعلم الله جل وعلا ويعلم المتعاقدان أنفسهما أنهما لم يريدا حقيقة البيع، وإنما أرادا دراهم بدراهم، فإن هذه المداينة تشتمل على عدة محاذير:
الأول: أنها تحايل على المحرم، وخداعٌ لله ولرسوله، والخداع من صفات المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، ونقول لهذا المتحايل: إن حيلتك لن تغني عنك من الله شيئاً كما لم تغن حيل اليهود عنهم شيئاً.
ثانياً: إن هذه المعاملة توجد القسوة في القلب والتمادي في الباطل.
الثالث: إن في هذه المؤامرة السيئة معصية لله ولرسوله، فقد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حتى تنقل، قال ابن عمر رضي الله عنهما: {كان الناس يبتاعون الطعام جزافاً، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه} رواه البخاري.
يقول بعض الناس: أنا أشتري سيارة، ولم أستطع أن أدفع الثمن كاملاً، فهي تقدر بخمسة عشر ألفاً، ثم آتي لصاحب السيارة، فأقول: بعنيها إلى العام المقبل بثمانية عشر ألفاً، هل هذا ربا؟
نقول: لا.
هذا يسمونه العلماء من المباح؛ لأنه يسمى بيعٌ مؤجل، والزيادة هذه لأجل الأجل، لذلك أباحه بعض العلماء.
نعم -يا أمة الإسلام- علينا أن نتقي الله عز وجل، ونحذر من الوقوع فيما حذر الله ورسوله منه من أجل كسبٍ لا يعود علينا بالخير والبركة، فلنتب إلى ربنا، ولنتق الله عز وجل، ولنعرف الحقيقة في الدنيا قبل العذاب في الآخرة.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم وفقنا لسلوك طريقك المستقيم، وارزقنا الزهد والورع في هذه الدنيا، وجنبنا ما فيه هلاكنا من السحت والطمع، واجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه إنك جوادٌ كريم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(164/6)
مضار الربا
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، والمحذر من مساخطه ونيرانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:(164/7)
الربا يقضي على التراحم ويساعد على البطالة
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واحذروا عقوبة المعاصي في الدنيا والآخرة، ومنها جريمة الربا التي تقضي على المودة والتراحم بين المسلمين، وتؤدي بالأغنياء إلى الكسل وانحرافهم عن الأعمال المشروعة من كسب الحلال، إذ يفضل بعض الأغنياء التعامل بالربا مع راحة البدن، ويفضلون ذلك عن الاشتغال بالزراعة والصناعات أو التجارة ونحوها مما يحتاج إلى تعب البدن وعنائه، ولا شك أن هذا ينشر البطالة، ويقتل روح التنافس بين أصحاب الحرف، ويؤدي إلى نقص الإنتاج وقلة موارد الثروات، وينتهي الأمر إلى الغلاء، أما إذا سد باب الربا فإن الأغنياء يستعملون أموالهم لأعمال نافعة بدلاً من تعطيلها واستعمالها للربا، ولاصطياد الناس.(164/8)
الربا سبب لغضب الله
أمة الإسلام: الإسلام حرم الربا؛ لأنه يساعد على خلق نظام فاسد مخرب، الربا سبب لجلب غضب الله عَزَّ وَجَلّ، ومنها: تسليط الأمراض وبعض الكوارث لمن يتعاملون بالربا، فقد يقضي على حياتهم، ومضار الربا شديدةٌ أليمة وعاقبته وخيمة، والذين يتعاملون بالربا تضطرب نفوسهم وتختل حركاتهم، وتراهم إذا قاموا صاروا يتخبطون كمن أصابه مسٌ من الجنون، لا فرق في هذا بين الدائن والمدين، وإنما أصابهم ذلك لأنهم استحلوا الربا وعدوه كالبيع، وغاب عنهم أن هناك فرقاً عظيماً يجعل البيع حلالاً والربا حراماً، وإليكم التفصيل بكلام الله:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام رب العالمين، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، فعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله في كتابه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وأنعم بأولئك الرجال! اللهم ارض عنهم أجمعين، ووفقنا -يا حي يا قيوم- لاتباعهم والأخذ بطريقهم يا رب العالمين، والأخذ بسلوكهم إلى صراطك المستقيم.
اللهم أعزنا بالإسلام، وارزقنا مناصرة الإسلام وأهله في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمر الشيوعيين واليهود والنصارى المبشرين، اللهم اشدد عليهم وطأتك يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين عليهم في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا نجعلك في نحور أعداء الإسلام والمسلمين، ونعوذ بك من شرورهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة أمور المسلمين وولاتهم في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والربا والوباء والزنا واللواط، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين، واقض الدين عن المدينين، ولا تحوجهم إلى أهل الربا يا رب العالمين، اللهم يسر لنا ولهم اليسرى، وجنبنا وإياهم العسرى.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحدٍ من خلقك يا رب العالمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(164/9)
صلاة الجماعة
إن الصلاة هي الركن الثاني لهذا الدين، وهي صِلَة بين العبد وربه، وهي برهان على إيمانه وصدق إسلامه.
ولقد أوجب الله تعالى على عباده أداء هذه العبادة الجليلة، والشعيرة العظيمة في جماعة، ولم يعذر أحداً في التخلف عنها لا في حال السلم ولا في الحرب.(165/1)
منزلة الصلاة في الإسلام
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، والحمد الله الذي أعزَّ بالإسلام من تمسك به، وذلَّ وخذل من ابتغى غير الإسلام ديناً، أحمده سبحانه وأشكره، بنى هذا الدين على أركان وأسس متينة، ومن أهمها بعد التوحيد: الصلاة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبلِّغ عن ربه دين الإسلام، وما مات حتى أكمل الله به الرسالة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله حق تقاته وتمسكوا بأهداب دينه القويم.
عباد الله! يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي تأخذ بيد المسلم المنقاد لله رب العالمين، فتوصله إلى الغاية الحميدة، ويأمن بها من العثرة، ومن الفزع يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
نعم يأمن المسلم بهذه الصلاة حين يخاف الناس، ثم هي للمسلم برهاناً على إيمانه وصدق إسلامه، وفي النهاية تكون له نجاة من النار، وما ذاك -يا عباد الله- إلا لعظم منزلة الصلاة من الدين القويم، ولأن الصلاة عمود الإسلام.
أمة الإسلام! الصلاة هي الصِّلة الوثيقة بين العبد وبين خالقه وموجده، بينه وبين ربِّ العالمين، فإذا قطع العبد تلك الصلة، ونسي الله وترك الصلاة؛ قطع الله عونه ووكله إلى نفسه، ونسيه الله عند ذلك، فيتولاه الشيطان، ويكون من حزبه، فتقذفه المحن، وتتسلط عليه المصائب، وهيهات أن يُفلح عبدٌ تخلَّى عنه رب العالمين، وتولَّاه الشيطان الرجيم، إنه صار بترك الصلاة كافراً -والعياذ الله- برئت منه ذمة الله.(165/2)
وجوب الصلاة جماعة
ولقد أكثر الله -سبحانه- من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظَّم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها، وأمر بأدائها مع جماعة المسلمين في بيوت الله، وحذَّر من التهاون بها، والتكاسل عنها، وبيَّن أن ذلك من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: {وإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
ومآل المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
ولقد أمر الله بالمحافظة على الصلاة في كتابه الكريم، فقال جلَّ من قائل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
أجل يا عباد الله! إن الذي يتخلف عن أدائها مع الجماعة بدون عذر شرعي يكون عاصياً لله، ومرتكباً كبيرة من كبائر الذنوب، وسوف يَصْلَى وادٍ في جهنم {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].
ويقول جلَّ وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] فهذه الآية نص في وجوب الصلاة في جماعة، ولو كان المقصود: هو إقامتها -فقط- لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية.
ولقد أوجب الله -سبحانه وتعالى- الصلاة في جماعة في حال الحرب فكيف بحال السلم؟!
أجل يا عباد الله! لو كان يُسامح أحدٌ في ترك الصلاة في جماعة لكان المُصَّافون للعدو، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلمَّا لم يقع ذلك؛ عُلِمَ أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا ينبغي لأحدٍ التخلفَ عنها.
وجاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في بيان وجوب الصلاة مع الجماعة، حيث يقول أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم} الحديث.
أمة الإسلام! عجباً لمن عرف الدليل وحاد عن الجادة! عجباً لمن يسمع: قال الله وقال رسوله، ويقول: أنا آخذ بكلام فلان وفلان وعلان! لو فكر هذا المسكين المعاند من أُمِر أن يتبع؟
هل أُمِرَ أن يتبع ويقتدي بفلان وفلان، أو أُمِرَ أن يقتدي ويتبع من جاء بالهدى والنور، الذي جاء بالشرع الحكيم، والذي يهدي إلى صراط الله المستقيم، الذي قال الله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21]؟
إنه الشرع القويم الذي جاء به محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام! متى ظهر الحق واتضحت أدلته؛ فلا يجوز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان وفلان؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].(165/3)
الأدلة على وجوب الصلاة جماعة
عباد الله! إن الأدلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله على وجوب الصلاة في الجماعة، وإقامتها في بيوت الله كثيرة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد؛ فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ -ماذا رد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب}.
أجل -يا عباد الله- إن مكبرات الصوت -أي: الميكرفونات- حجة عليكم؛ إنها ليست تسمع فحسب! بل هي تهزُّ البيوت، ولكن -مع الأسف الشديد والحزن المرير- أكثر المجاورين لبيوت الله لا يحضرون الصلاة مع الجماعة في المساجد، إنها المصيبة العظمى، إنه الخطأ الكبير؛ الذي يشعر أن الكثير من المسلمين تخلوا عن دينهم، إنه الخطر الجسيم الذي يشعر أن الكثير من المسلمين ابتعدوا عن أهم موقف يقف فيه العبد بين يدي رب العالمين، إنه الإعلان -من كثير من المسلمين- بترك عمود الإسلام علانية، وبدون خوف من الواحد القهار، كيف وبعض المتخلفين عن الصلاة يستترون حتى تُقضى تلك الفريضة؟ يختفون في محلاتهم، أو يغلقونها ويقفون أمامها أمثال الشياطين، وبدون خوف من الله الذي يعلم السر وأخفى.(165/4)
استهزاء بعض الناس بالصلاة
وبعضهم قد تكبرَّ على الله، وعلى ما جاءت به الرسل الكرام، حيث إنه إذا دعي إلى هذه الصلوات الخمس تكلم بكلمات تشمئز منها القلوب المؤمنة، إنهم يُسمَّون الصلاة رجعية، ويسمون من يصلي رجعي، ويُرمى بالجمود! لقد أكبروا الفرية، وما ربك بغافل عما يعمله الظالمون.
لقد أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من الصحابة الأجلاء، حيث قال رضي الله عنه: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق عُلِمَ نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة]].
وقال: [[إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المساجد الذي يؤذن فيه]].
وقال أيضاً: [[من سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم -وفي رواية: لكفرتم- وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]].
عباد الله! إن الواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر العظيم، والمبادرة إليه، والتواصي به.
اللهم وفقنا لما فيه رضاك وإصلاح أمر ديننا ودنيانا، اللهم أعذنا من مشابهة الكفار والمنافقين إنك جواد كريم {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم وما صرّفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(165/5)
عناية الإسلام بالأمر بالصلاة
الحمد لله القائل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، مُعلِّم الخير والهدى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بتمام الهدى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
أمة الإسلام! اعلموا أن شأن الصلاة عظيم، وقد بلغ من عناية الإسلام بالأمر بالصلاة بأن تقام في الحضر والسفر، في السلم والحرب، ولم يرخص في تركها للمريض، فقال صلى الله عليه وسلم للمريض: {صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} هذا في حق المريض، ومع الأسف الشديد! فبعض المرضى يدخل أحدهم في المستشفى ويخرج ولم يصلِّ فرضاً واحداً، يقول: أجمعها جميعاً، وهل تدري يا مسكين! هل تخرج معافى أم تخرج جنازة؟ ثم تبقى عليك هذه الفرائض دينٌ عليك تحاسب بها؛ لأنها حقٌ من حقوق الله.(165/6)
عدم سقوط الصلاة بأي حال من الأحوال
الإسلام دين يسر، دين الكرامة والعزة {صلِّ قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} هكذا دين الإسلام يدعو إلى السهولة واليسر، دين يدعو إلى العزة والمفخرة العظمى لأهل الإسلام؛ الذين تمسكوا به وأقاموه، وقاموا بواجباته على نور من الله وبرهان، وعلى رأس ذلك وفي مقدمات الدين الإسلامي: الصلاة التي هي الركن العظيم من أركان الإسلام، ومبانيه الذي لا يقوم إلا عليها، فمتى حافظ عليها العبد فإنها تهديه بنورها إلى الطريق السوي، ويبدو أثر ذلك في سلوكه واتجاهه نحو الخير وبعده عن الإثم والرذيلة.
يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن العبد إذا صلَّى فأحسن الصلاة صعدت ولها نور، وإذا انتهت إلى أبواب السماء فتحت أبواب السماء لها، وتشفع لصاحبها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا أساء في صلاته فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا حدودها صعدت ولها ظلمة، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فإذا انتهت إلى أبواب السماء غلقت دونها، ثم لفت كما يُلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها} أو كما قال.(165/7)
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة
فاتقوا الله -عباد الله- وأقيموا فرائض الله وفي طليعتها: الصلاة، التي كان يُوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر أنفاس الموت.
الصلاة الصلاة يا أمة الإسلام! لا يشغلنَّكم عنها، أو يحملكم على التهاون بأدائها في وقتها أي شاغل؛ من وظيفة أو رئاسة، أو ندوة أو بيع أو شراء، أو حرفة أو لهو أو غير ذلك؛ فإن في ترك فريضة رب العالمين غبناً يا له من غبن! ويا له من خسارة!
مروا أبناءكم بالصلاة وحثوهم عليها وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم إذا تركوها وهم أبناء عشر سنين؛ هكذا حثكم الناصح الأمين.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وهو القائل: {من صلّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمَّر أعداء الدين، الذين يُفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين وأبناء المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، اللهم من أتى ليعلِّم أولاد المسلمين الخير فزده أجراً ومثوبة يا رب العالمين! ومن جاء ليعلم أولاد المسلمين الشر فأخرس لسانه واشدد على قلبه وأهلكه عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم اجعل ما أنزلته لنا معونة على طاعتك، ومتاعاً إلى حين، اللهم اجعل ما أنزلته علينا من الغيث معونة لنا على طاعتك ومتاعاً إلى حين، واجعله يا رب العالمين يا قادر يا كريم، اجعله سُقيا رحمة ولا سقيا عذاب، ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اجعله معونة على طاعتك ولا تجعله استدراجاً إلى معاصيك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(165/8)
الزواج والمهور
الزواج أمر فطري تدعو إليه الطباع والغرائز، وقد حث الإسلام على الزواج وإعفاف النفس كما عالج مشاكله، وحذر من عواقب تعسيره.(166/1)
علاج مشكلة العزوبة
الحمد لله على الإسلام, عظيم السلطان, أحمده سبحانه خلق الخلق من ذكر وأنثى, وجعل في ذلك عمارة الأكوان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ولا نظير ولا أعواناً, وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا آمرنا محمد بن عبد الله القائل عليه من الله أفضل الصلاة والسلام: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله جلت قدرته ما أنزل القرآن إلا ليعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، فإن فيه كل دلالة على الخير وكل تحذير من الشر، وإن يحسن للمؤمنين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].(166/2)
تيسير الزواج
في كتاب الله عز وجل آية تعالج مشكلة اجتماعية، هي في الواقع مشكلة كل فرد من ذكر وأنثى، تلك هي مشكلة الزواج, فهو أمر فطري تدعو إليه الطباع والغرائز, وتترتب عليه أمارة الفوز, وقد كان من الواجب أن يصبح أمر الزواج والنكاح ميسراً؛ ليكون باستطاعة كل فرد أن يقدم عليه مهما كان وضعه، غنياً أو فقيراً، أميراً أو صعلوكاً، يقول الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] في هذه الآية الكريمة حث الله على تزويج الأيامى، والأيامى: جمع أيم وهي: المرأة لا زوج لها, والرجل لا زوج له, وكذلك في الآية الكريمة الوعد الصادر من رب العزة الذي لا يخلف الميعاد، وعد بالغنى والخير لمن يتزوج يريد العفاف، في الآية الكريمة أيضاً قطع لحجة الذين يقولون: لا نتزوج حتى نحصل على ما يكفل الحياة السعيدة.(166/3)
الغنى في النكاح
أمة الإسلام! في هذه الآية من كتاب الله ردٌ على الذين يقولون: لا نتزوج حتى نحصل على ما يكفل الحياة السعيدة, فهذا شعار باطل, فإن الحياة وما فيها من الأرزاق هي للحي القيوم القادر على كل شيء, وقد أخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بأنه {لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها} فعلى الإنسان أن يفعل الأسباب، ويستعين بالله ويجزم في الطلب، ويعلم حق اليقين أن رزق الله لا يأتي به حرص حريص, ولا ترده كراهية كاره, وليعلم الماديون أهل الطمع والجشع أن الرازق والمعطي هو الله وحده لا شريك له, فإنه قادر أن يغني فقيراً ويفقر غنياً, فهذا رد على النظرة الخاطئة، الذين يقولون: لا نزوج فقيراً يزيده الزواج فقراً لفقره, فكم من فقير أصبح بعد زواجه موفور النعمة, قرير العين, يقول أبو بكر رضي الله عنه: [[أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الرباح]]
ويقول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه: [[التمسوا الغنى في النكاح]] ويقول رسول البشرية صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة حق على الله عونهم ومنهم: الناكح يريد العفاف} وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا زوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن.(166/4)
عواقب غلاء المهور
ويقول صلى الله عليه وسلم في توجيهه الصالح لأمته: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} ففي هذا التوجيه القيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الإنذارات والتحذير من واقعنا المرير الذي وقع فيه الكثير من الناس, من المتاجرة بالفتيات, والمباهات في المغالاة في المهور, حتى أثقل كاهل الشباب وتقاعسوا عن الزواج, وصار البعض -هدانا الله وإياهم- من الشباب لا يفكر إلا أن يحصل على قليل من النقود, فيذهب خارج البلاد ليقضي وطره في تلك البلدان التي فتحت أبوابها للشر والعار والفساد, ثم يرجع حاملاً معه كل فتنة وشر, وهلم جراً.
فلو تعاون الشباب وأولياء أمور الفتيات لكان ما ينفق في الفساد خارج البلاد فيه كفاية, أما إذا دام الوضع هكذا، فتيات يحرج عليهن في سوق الطمع والجشع, وهن في بيوت تمر السنون تلو السنين, والشباب يتقلبون على جمر نيران الشهوات من بين تلك المجتمعات التي فشا فيها السفور وقلّ فيها الحياء, وكثر فيها الفساد, وبين أشرطة الفيديو والسينما والصور الخليعات، والمجلة الماجنة التي طالما تمناها أعداء الإسلام؛ لإفساد المجتمع المسلم, والتي يميتون بها القيم والآداب الإسلامية ويحببون فيها معصية الله مثل حلق اللحية والخنفسة، والتختم بالذهب, وتعليق السلاسل في العنق, وغيرها من العادات الآثمة التي تشن حربها على الآداب الإسلامية, والأخلاق الفاضلة, مثل: استعمال المسكرات, وترك الصلاة.
فإذا رجعنا للحق يا أمة الإسلام! فهل من الممكن أن يزوج تارك الصلاة؟ أو من تورمت عيونه من استعمال المخدرات؟ أو ارتكب ما يخل بالشرف والدين والمعاصي؟ فكل هذه أو بعضها تتنافى مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه}
لنرجع إلى ربنا وإلى دينه القويم, لكي نتمسك بأهداف الإسلام ولنعض عليه بالنواجذ, حتى نكون أهل خلق ودين, لنملأ المساجد, ونعبئ فيها الفروض, ونترك سبيل اللحية ونقص الشوارب, ونزيل الخنافس والتواليت, ونرمي بخواتم الذهب طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصحابي لما ظهر له الحق وعرف أنها جمرة من النار في يده، ونقطع السلاسل, ونترفع عن عادات النساء من الميوعة وتضييق الملابس, ولبس الأساور وغيرها, ونجعل لنا حلقات ذكر نتذاكر فيها العلوم النافعة, من القرآن والأحاديث, وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حتى نحذو حذوهم, ونقتدي بهم كما أمرنا الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
فاتقوا الله عباد الله! وكونوا من أولي الألباب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم, وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى إسلامنا، اللهم ردنا إلى ديننا، اللهم ردنا إلى آدابنا، اللهم ردنا إلى أخلاقنا العليا، اللهم ردنا إلى دينك القويم يا رب العالمين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(166/5)
من آداب الزواج
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وعلى أصحابه وسلم تسليمًا كثيراً.
أما بعد:(166/6)
قبول الزوج الصالح واختيار الزوجة الصالحة
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه, إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} ويقول صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولحسبها, ولجمالها, ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك}.
أوضح صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين الجانب الذي يجب مراعاته ويجب تطبيقه في الزواج على كل الجوانب, ألا وهو: الدين, فتدين الزوجين يدفع كلاً منهما للمحافظة على حقوق الآخر التي أوجبها الله عليه, وبذلك تدوم الألفة ويسود الوئام, وتصلح البيوت, ويقول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] ويقول الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].(166/7)
عدم الإسراف
أمة الإسلام! إن أكثر الناس اليوم تشبهوا بالشياطين, ولقد تعدوا حدود الشياطين, وأفسدوا إن الله لا يحب المفسدين؛ فما هو الداعي يا أمة الإسلام! لعمل تلك البدائل الهائلة الضارة بالمتزوج؟ هل تعلمون من الذي يستفيد من هذه الولائم؟ هي الحفر في الملاهي القفار, وذلك واقع أكثر الناس اليوم, يسرفون ويبذرون ثم يحملونها لإلقائها في تلك الحفر, وربما وضعت في المزابل مع القمائم, تلك الأطعمة الفاخرة التي لطالما تمناها إخوان لنا في أطراف البلاد.
تلك الأطعمة الفاخرة التي لطالما تمناها المجاهدون الذين يتمنون قطعة الخبز, ومع ذلك ذبائح ترمى في البر مع القمائم, وربما رميت تلك الذبائح وهو لم يؤخذ منها شيئ، إنما ذلك عاقبة التبذير والإسراف الزائد عن المعقول, ألا فلنتق الله عز وجل, ونقتصد قبل أن نتمنى تلك الأطعمة, وقبل أن نرجع إليها ونأكلها وهي جيفة من البراري, وقبل أن نرجع إلى المزابل ونأكل منها كما أكل منها أجدادنا وأسلافنا.
أمة الإسلام! لنتفكر في العواقب لما انفتحت علينا هذه النعم, هل أدينا شكرها أم كفرنا نعمة الله؟ ألا فلنتق الله ونقتصد قبل أن يحل بنا ما حل بالمجاورين اليوم من زوال تلك النعم, وزوال الأمن والاستقرار, حتى صاروا بعد الشبع جياعاً، ورجعوا إلى ما كانوا يرمونه في براميل الزبالة, نسأل الله العافية والسلامة في الدنيا والآخرة: {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعمة, وتحول العافية, وفُجاءة النقمة يا رب العالمين، صلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول سيد البشرية: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن تابعيهم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أنزل بأعداء الإسلام والمسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا ذا القوة المتين! يا من هو على كل شيء قدير! اللهم وفق أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، نأمر بالمعروف ونعمل به، وننهى عن المنكر ونجتنبه.
اللهم أصلح زوجاتنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، والفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة, وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(166/8)
قصة وعبر
يقول تعالى حاكياً عن الأمم الماضية: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) فالله عز وجل إنما ذكر لنا قصص من قبلنا لتكون لنا عبرة، ومن القصص التي ذكرها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم عليه السلام كيف دعا قومه، وما هو الأذى الذي لقيه منهم، وبماذا ابتلاه الله عز وجل وإلى غيرها من الأحداث التي حصلت له في حال دعوته عليه السلام.(167/1)
دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه
الحمد لله الذي اختص بالتفضيل والتشريف بعض مخلوقاته، وأودع فيها من عجائب حكمه وبدائع مصنوعاته ما شهدت العقول السليمة بأنه من أكبر آياته، خلق فقدر، وملك فدبر، وشرع فيسر، وربك أعلم حيث يجعل رسالاته.
أهَّل من شاء لما شاء من الخيرات، ويسر عليه نيل أسباب الكرامات، وهو أعلم بمواضع اختياره وكراماته.
أحمده سبحانه وأشكره على جزيل إحسانه وعظيم هباته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وكمالاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من جميع برياته.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! إليكم نبذةً يسيرةً عن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي آتاه الله رشده في صغره، وابتعثه الله رسولاً واتخذه خليلاً في كبره، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] وكانت أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام كما أخبر الله عنه بقوله جلَّ وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45] فلما عرض إبراهيم هذا الرشد على والده، وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه، ولا أخذها منه، بل تهدده وتوعده، قال: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46].
فعندها قال له إبراهيم عليه السلام: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترةٌ وغبرةٌ، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا ربِّ إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم! ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذبح ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار} رواه البخاري.(167/2)
محاولة إحراق إبراهيم عليه السلام
كم حصل لإبراهيم من المناظرات مع قومه، ولكن الله نصره وأيده وأظهره على قومه، فقد أنكر على قومه عبادة الأوثان، وحقرها عندهم وصغَّرها وتنقَّصها، فوثب عليه قومه وصارت المخاصمة والمناظرة بينه وبينهم، فلجئوا إلى القوة لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] فكادهم الرب جلَّ جلاله، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70] وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن؛ حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت نذرت أنها إن عوفيت من مرضها لتحملن حطباً لحرق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبةٍ عظيمةٍ، فوضعوا فيها ذلك الحطب وأضرموا فيها النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شررٌ لم يُرَ مثله قط، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجلٌ من الأكراد يقال له هيزل، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدون إبراهيم عليه السلام ويكتفونه في الحبال وهو في كفة المنجنيق، وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فلما ألقوه في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال بعض السلف: [[إنه عرض لإبراهيم جبريل وهو في الهواء، فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ فقال: أما إليك، فلا]] ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ملك المطر قال: [[متى أؤمر، فأرسل المطر لأطفئ النار عن إبراهيم؟]] ولكن رحمة أرحم الراحمين أسرع من كل شيء، إذ قال رب العزة والجلال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[معنى سلاماً: لا تضريه]] وقال بعض المفسرين: لولا أن الله قال: {وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لأذى إبراهيم بردها، وصار إبراهيم في مثل الجوبة حوله نار، وهو في روضة خضراء والناس ينظرون إليه، ولا يقدرون الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم، ونظر إليه والده، ولم يتكلم بكلمة طيبة سوى هذه الكلمة، فقال: نِعم الرب ربك يا إبراهيم، ومكث إبراهيم في ذلك المكان أربعين يوماً، أو خمسين يوماً، ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام: [[ما كانت أياماً وليالي أطيب عيشاً منها، إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل ذلك]].(167/3)
بناء إبراهيم وإسماعيل البيت
بعد هذا هاجر إبراهيم عليه السلام، وسأل الله جلَّ وعلا أن يهب له ولداً، فبشره الله تعالى بغلامٍ حليمٍ وهو: إسماعيل عليه السلام، وهو أول ولدٍ يولد له على ستٍ وثمانين سنة، وتركه هو وأمه في تلك البقعة المباركة حتى شبَّ وترعرع وبلغ السعي، وصار يسعى في مصالحه، وتزوج إسماعيل من جُرهم.
وبعد مدة رجع إبراهيم ووجد إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد.
قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هاهنا، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].(167/4)
امتحان الله لإبراهيم بذبح ابنه
وأراد الله جلَّ وعلا أن يختبر إبراهيم عليه السلام، فرأى في المنام أنه يؤمر بذبح ولده -يعني: إسماعيل- ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وهذا في غاية الابتلاء في أن يذبح هذا الولد الذي جاءه على كبر سنه، ولكن لابد من الامتثال لأمر الله عز وجلَّ.
فسارع إبراهيم إلى طاعة الله عز وجلَّ، ثم عرض ذلك على ولده إسماعيل، ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسراً ويذبحه قهراً: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] الله أكبر يا عباد الله! {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] اسمعوا إلى رد الولد البار، فبادر الغلام الحليم ولده الخليل، فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] اسمع أيها الشاب! اسمع يا من تؤذي الوالدين! يا من لا تباشر بقضاء حوائج الوالدين! وليست حاجتهما منك كحاجة إبراهيم من إسماعيل، اسمع حاجة إبراهيم من إسماعيل: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] اسمع إلى رد الولد: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وهذا الجواب من هذا الابن البار في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: ألقاه على وجهه.
قال بعض المفسرين: أراد أن يذبحه من قفاه، لئلا يشاهده في حال ذبحه، فتأخذه رحمة الوالد بولده، وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقاً بالأرض، وسمى إبراهيم وكبر وتشهد الولد للموت، وجعل إبراهيم يمر السكين على حلق إسماعيل، فلم تقطع شيئاً، فتلك حكمة أحكم الحاكمين، فعند ذلك نودي من الله عز وجلَّ: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107] وعوضه الله بكبشٍ رعى في الجنة أربعين خريفاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
عباد الله! اتقوا الله عز وجلَّ، وبادروا بطاعته، فالله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(167/5)
النحر وأحكام الأضاحي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، واغتنموا أوقاتكم بطاعة الله، ولقد شرع الله لكم في يوم عيد الأضحى عبادتين جليلتين ألا وهما: صلاة العيد والنحر، فإذا قضيتم الصلاة، فانحروا الأضاحي اقتداءً بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنها سنةٌ مؤكدةٌ سنها نبيكم إبراهيم، وتبعه عليها نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فأحيوها وعظموها، فإنها شعائر الله.
عباد الله! البعض من الناس يظن أنها خاصةٌ للموتى، والصحيح أنها للأحياء، ولكن إذا أشرك الحي الميت من أجرها فإن ذلك يصل إلى الميت إلا إذا كانت وصية أوصاها الميت، فإنها تجرى على وصيتها التي أوصى بها الميت.
أيها المسلمون! لقد مكث نبيكم صلى الله عليه وسلم بـ المدينة عشر سنين كان كل عام يضحي بكبشين أملحين سمينين، تطيب بها نفساً -يا عباد الله- واحذروا من الاستخفاف بها مع القدرة.(167/6)
حكم إخراج القيمة بدل الأضحية
أمة الإسلام! إن البعض من الناس يدعي أن إخراج القيمة أفضل من إراقة دمها، وهذا مخالفٌ للشرع، ومصادمٌ لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأضاحي عبادة نتعبد الله بها، وقرباناً نتقرب إلى الله بها، اقتداءً بسنة نبينا وأبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن الله عز وجلَّ أمر إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل ابتلاءً وامتحاناً لإبراهيم بعدما وقع حب إسماعيل في قلب إبراهيم ابتلاه بذبحه؛ ليظهر إيمان إبراهيم وصدقه، فامتثل أمر الله، وقال لابنه عارضاً عليه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فما كان من إسماعيل عليه السلام إلا أن قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
هكذا يتجاوب الابن البار مع أبيه، لا متفكراً، ولا متردداً، فلما استسلما للقضاء المحكوم، وسلَّما أمرهما للحي القيوم، وأضجع الخليل ابنه وفلذة كبده قرباناً لرب العالمين، وتقديماً لمحبة الله، وإرغاماً للنفس والشيطان، أدركته رحمة أرحم الراحمين، فنودي: يا إبراهيم! ما أمرناك بذلك إلا امتحاناً، وقد ظهر صدق ذلك، ففداه الله بكبشٍ من الجنة فداءً لولده إسماعيل.
أمة الإسلام: لقد رغَّب نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السنة وحثَّ عليها، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، تثبت يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً} وفي الحديث الآخر: {ما أنفقت الورق في شيءٍ أفضل من نحيرة في يوم عيد}.(167/7)
بعض أحكام الأضاحي
عباد الله: إن لهذه الأضاحي أحكاماً لابد من بيانها، فمن ذلك: السن المعتبر شرعاً، وهو: خمس سنين للإبل، وسنتان للبقر، وسنةٌ للماعز، وستة أشهر للظأن.
وكذلك تكون الأضحية سليمةً من العيوب المانعة من الإجزاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن العيوب المانعة، فقال: {أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها} وهي المنخسفة عينها، أو الناتئة.
وهذا هو العيب الأول.
العيب الثاني: {المريضة البين مرضها} التي ظهر أثر المرض عليها، في أكلها وشربها ومشيها.
العيب الثالث: {العرجاء البين ضلعها} وهي التي لا تعانق الصحاح في المشي.
العيب الرابع: {العجفاء} وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكذلك إذا وجد فيها هذا العيب، فإنها تكره كراهية، وهي ما قطع أكثر من نصف الإذن والقرن، وكذلك ساقطة الأسنان، فكلما كانت الأضحية كاملة في ذاتها وصفاتها، كان ذلك أفضل، وأيام التشريق ثلاثة، بعد يوم العيد.
ومن كان يحسن الذبح فليذبح بيده؛ اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان لا يحسن الذبح فليحضر عند ذبح أضحيته، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا فاطمة! قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرةٍ من دمها} وكذلك تجب التسمية عند الذبح، فإن نسي فلا حرج في ذلك، وإن تعمد ترك التسمية، فهي ميتةٌ حرامٌ أكلها، ولا بد -يا عباد الله- من إنهار الدم.
والرقبة كلها محل للذبح، ولابد من قطع الوريد والمري ويتمم ذلك بقطع الودجين.
ويستحب عند الذبح حد الشفرة: وهي السكين، وإراحة الذبيحة، ولا تحد الشفرة والذبيحة تنظر، ولا تذبحوها والأخرى تنظر إليها، فكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا يبارك الله لكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].
عباد الله: صلوا على رسول الله؛ امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وحد صفوف المسلمين، اللهم اجمع شملهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم وحد صفوفهم.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين يا أرحم الراحمين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك وعافيتك يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم من أراد أن يؤذي حجاج بيتك الحرام فأنزل عليه بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وأصلح ولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وارزقهم الحكم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، وهب للمسيئين منا للمحسنين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات في جنات النعيم يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(167/8)
دعاة القبور
لقد جاء الإسلام لتحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك والبدع، ومن ضمن ذلك تحريم دعاء غير الله؛ فالنفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، كما نهى وحذر من الغلو في الصالحين من الأموات، وحرم البناء على القبور سداً لباب ذريعة عبادتها من دون الله.(168/1)
تحقيق التوحيد وتخليصه من الشرك والبدع
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده وأشكره، أمر ألا تعبدوا إلا إياه مخلصين له الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله: لقد أرسل الله رسله ليدعوا الناس إلى توحيده، وإخلاص العبادة له سبحانه وبحمده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أمة الإسلام: إذا عرف هذا، فاعلموا أن تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك والبدع مطلوب، والتوحيد هو أساس الدين الصحيح، الذي لا يقوم الدين إلا عليه؛ لأنه لا يصح للعبد إسلام، ولا يقبل منه صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج إذا لم يكن موحداً لله؛ لأن غير الموحد مشرك، والمشرك عمله حابط وذنبه غير مغفور كما أخبر الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
أمة الإسلام! اعلموا أن معنى التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة، والعبادة هي غاية الذل مع الخضوع، والعبادة أنواع كثيرة، منها: الدعاء وهو: سؤال مغفرة الذنوب، وسؤال دخول الجنة، وسؤال النجاة من النار، وشفاء المرضى، ورد الغائب، وتفريج الكربات، وإنزال الغيث، والنصر على الأعداء، والصلاح ونحو ذلك، فكل هذه المطالب عبادة لا تطلب إلا من الله؛ لأنه هو القادر عليها، فمن طلب من المخلوق شيئاً منها فقد عبده من دون الله، وجعله لله نداً وشريكاً؛ لأن الدعاء مخ العبادة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدعاء مخ العبادة} وكما قال ربنا جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ويقول جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].(168/2)
النفع والضر بيد الله
أجل يا أمة الإسلام! أجل يا أمة القرآن! أجل يا أمة لا إله إلا الله! لينتبه الذين غفلوا وأهملوا العقيدة، لينتبه الذين أهملوا عقيدة التوحيد وساروا وراء القبوريين، وراء المخرفين، وراء الغلاة الضالين، صاروا لا يفكرون، ولا يعتبرون ولا يذكرون، هم في جانبٍ والحق في جانب، هم يتوسلون ويتبركون بأصحاب القبور، ويسألونهم ما لا يقدرون عليه، يسألون تلك الجثث الهامدة، يسألون عظاماً صارت رميماً، يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، والله وهو أصدق القائلين يقول: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] الله أكبر! أين المسلمون من القرآن؟ أين هم من آيات الله المحكمات؟ أين هم من الآيات البينات الواضحات؟ إذ هو رب العالمين يخاطبهم في محكم البيان، إن كانوا مسلمين، يقول لهم جل وعلا: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14].
والله لو كانوا يملكون لأنفسهم نفعاً لما ماتوا، ولما صاروا تحت التراب، ولما صاروا عظاماً رفاتاً، ولما لعب بهم دود الأرض؛ فكيف يسألهم المخلوقون؟!
كيف يتوسلون بهم من دون الله؟!
كيف يستغيثون بهم من دون الله؟!(168/3)
أحاديث موضوعة ومكذوبة
لقد تعلق كثير من الجهال بأحاديث موضوعة ومزورة ومكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه فقال: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} يا له من تحذير شديد! فيه من الوعيد الأكيد ما يجعل المسلم في حذر شديد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجل يا أمة الإسلام! إن أهل البدع والخرافات يزورون ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أوردوا أحاديث كثيرة منها قولهم: إنه قال: {إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور} الله أكبر! حاشا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، حاشا أن يقول وهو يقول: {ألظوا بياذا الجلال والإكرام} حاشا أن يقول وهو إذا فزعه أمرٌ رفع رأسه إلى السماء، وقال: يا حي يا قيوم، لماذا لا يستغيث بأبيه آدم؟ لماذا لا يستغيث بنوح؟ لكن حاشا لله أن يكون رسوله بالمنزلة هذه، فهو أصدق القائلين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه قال: {إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور} الله أكبر {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] هذا كذبٌ وزورٌ وباطل، وحديث موضوع لا أصل له.(168/4)
التحذير من الغلو
فالحذر الحذر يا أمة الإسلام! فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو} وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تتخذوا قبري عيداً} لا نقول: لنركب الطائرة، أو السيارة ولنذهب إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إن قلنا هكذا، فنحن قد عصينا الله وعصينا رسوله، لأن الرسول نهانا: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى}.
إذاً: شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم محرم، وهي من الزيارة البدعية المنكرة التي أدخلها الغلاة في دين الإسلام، هاهو صلى الله عليه وسلم يحذرنا ويقول: {إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو} وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم}.
الله أكبر! قد علَّم الأمة دعاء الكرب محمد صلى الله عليه وسلم، رءوف بأمته علمهم ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم، علمهم دعاء الكرب فقال: {إذا أصاب أحدكم الكرب فليقل: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أمة الإسلام: يونس عليه السلام لما أصابه ما أصابه في بطن الحوت، وهو في لجة البحار، ماذا قال؟ هل قال يا أبت يا آدم! يا نوح! يا إبراهيم؟! لا.
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] الله أكبر! هؤلاء العارفون بالله، لما ابتلعه الحوت جعل يصلي في بطن الحوت، في وسط لجج البحار، ينادي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال الله جل وعلا لما أنجاه: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] الذين يلتجئون إلى الله ويتوسلون بأسماء الله العظام، بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، أما أن يأتي يقول عند القبر: يا سيدي! يا سيدتي! إنها سخافة، إنها رداءة عقول.
البهيمة إذا أصابتها الولادة، جعلت ترفع طرفها إلى السماء، تنظر إلى الحي القيوم، وهذا الإنسان الذي أعطي العقل يجلس أمام القبر، يقول: يا سيدي! يا سيدتي! يتمسح بالتراب، تباً لها من عقول كعقول قريش المشركين الجاهلين، قريش أعرف من جهال هذه الأمة؛ لأنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5] ويا ليت مشركي هذه الأمة جعلوها آلهة كآلهة الأولين، إنما جعلوها شركاً كثيراً، جعلوها قبوراً وأضرحة يتوسلون إليها، يأتون إلى القبر ويتمسحون به: يا سيدي فلان! يا سيدتي فلانة! يا لها من عقول!
الله أكبر! هكذا الإسلام يعلمنا، ويحذرنا من علماء الجهل والضلال، من شيوخ الضلال الذين جعلوا عند الأضرحة صناديق يأخذون بها النقود والنذور.(168/5)
أدعية منهي عنها
أمة الإسلام: اعلموا حق اليقين أن من قال: اللهم إني أسألك بحق نبيك، أو قال: بحق قبره المعظم، أو بحق البيت الحرام، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو أسألك بحرمة نبيك، أو بجاهه، أو بحق فلان، أو بجاه فلان، وما شاكل ذلك من الأقوال، فمثل ذلك هذيان وزور، وباطل ومحرم وبدعة في دين الإسلام.
وأما من قال: يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! انصرني، أو يا رسول الله! رد غائبي، أو قال: العادة يا رسول الله! فمثل هذه الألفاظ وما شاكلها محادة لله ولرسوله، وشركٌ وكفرٌ بالله العظيم، ومثل قولهم: يا سيدي! أو يا سيدتي! وهي أسماء القبور في بعض الدول التي تدعي الإسلام -ويا للأسف الشديد- يقفون أمام القبور، ويطوفون حولها، وكأنهم يطوفون حول البيت الحرام، يقولون ألفاظاً ينادون بها أصحاب تلك القبور، وهم جثث هامدة لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، إنما الذي يستفيد من ذلك أعداء الإسلام، الذين أدخلوا البدع على دين الإسلام، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فيا للمصيبة! متى يعرف الناس أن لهم رباً لا يحتاج إلى وسائط؟! وأنه هو القوي، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، هو النافع والضار، هو مجيب الدعوات ومغيث اللهفات.(168/6)
تحريم البناء على القبور
أمة الإسلام: اعملوا أن البناء على القبور محرم في شريعة الإسلام، لأن البناء على القبور وسيلةٌ إلى عبادة صاحب القبر، وسواء كان البناء صغيراً أو كبيراً، مسقفاً أو لم يكن مسقفاً، وسواء كان البناء على صورة معبد، أو مسجد، أو غير ذلك فحرام.
يجب على أمة الإسلام أن يقوموا بحملة صادقة، بإيمانٍ صادقٍ، ويهدموا البناء الذي على القبور، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه {نهى عن تجصيص القبور، وأن يقعد عليها} وأن يبنى عليها، ومن بنى على القبر، فقد استحق لعنة الله، نعم.
من بنى على القبر فقد استحق لعنة الله، لما جاء في الصحيحين -ونحن لا نتكلم إلا بما جاء عن الله وعن رسول الله- صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: {لعن الله اليهود والنصارى -لماذا؟ - اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.
أجل.
في بعض الدول التي تدعي الإسلام لا تجد مسجداً إلا وبجانبه قبر، إذا صلى ذهب إلى القبر، بعدما استقبل وجه الله، بعدما استقبل الحي القيوم، ذهب ليبطل تلك الأعمال، ذهب يتمسح بالقبر الفلاني، وهو بخشوعٍ: يا سيدي فلان! يا سيدتي فلانة!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج}.
أيها المسلم: اتصل بربك بدون واسطة، اتصل به تجده قريباً مجيباً، والله جل وعلا يقول في محكم البيان، يقول المحكم العظيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] وهو جل وعلا يحب من عباده أن يلحوا بالدعاء، وهو يجيب من استغاث به، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
عباد الله: إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(168/7)
الاستمساك بالعروة الوثقى
الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، وأسأل الله أن ينشر هذه النعمة على جميع بلدان المسلمين، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فلا حاجة لنا في مشايخ الضلال، لا حاجة لنا في الغلاة، لا حاجة لنا في الضالين ما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وحققوا توحيدكم، واستمسكوا بالعروة الوثقى (لا إله إلا الله) يقول صلى الله عليه وسلم: {ما قالها عبدٌ مخلصاً إلا فتحت لها أبواب السماء، حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر}.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى! قل لا إله إلا الله، قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله}.
لا إله إلا الله كلمة التوحيد، لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله من حققها وقالها بصدقٍ ويقين، نقلته من الشرك إلى الإسلام، من قالها موقناً بها قلبه، وعمل بما تقتضيه، فتحت له أبواب الجنة.
عباد الله: اعلموا أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ارزقنا التمسك بلا إله إلا الله، اللهم خلص لا إله إلا الله من شوائب الشرك والبدع، لا إله إلا الله، اللهم امتنا على لا إله إلا الله، اللهم ابعثنا على لا إله إلا الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إمام المسلمين، وارزقه الجلساء الصالحين الناصحين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم أقم علم الجهاد، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد والعناد.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، الذين يشككون في الدين ويدخلون البدع والضلالات، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم حِل بينهم وبين ديننا يا رب العالمين، وبينهم وبين عقيدتنا، وبينهم وبين أخلاقنا، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا، اللهم أصلح أولادنا ذكوراً وإناثاً، اللهم أصلح أولادنا ذكوراً وإناثاً، وارزقهم المعلمين الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم المعلمين الناصحين الصالحين، الذين يبينون لهم الحق ويأمرونهم باتباعه، ويبينون لهم الباطل وينهونهم عن اتباعه، إنك على كل شيء قدير، ربا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم اسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ ولا غرقٍ، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(168/8)
أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة.
وقد جاء فضل الصلاة في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما جاء الوعيد الشديد لتاركها أو من تهاون فيها.(169/1)
الحث على المحافظة على الصلوات
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين, {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19] أحمده سبحانه وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(169/2)
فضل المحافظة على الصلوات من القرآن
أيها الناس! اتقوا ربكم الذي سوف يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وسوف يحاسبكم على أعمالكم، وأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة, فحافظوا على الصلاة يا عباد الله, وأدوها كما أمركم الله, وصلوا الصلاة في أوقاتها, بخشوع وخضوع وتذلل وحضور قلبٍ وطمأنينة, امتثالاً لأمر الله القائل جل وعلا حيث مدح المؤمنين الذين يقيمون الصلاة بخشوع وطمأنينة وحضور قلب, ويقومون بما أمرهم الله من شرعه القويم مثل إيتاء الزكاة والصيام والحج وغيرها من الأعمال الصالحة, قال الله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:162] ومن يعلم قدر هذا الأجر؟ لا يعلمه إلا الله جل وعلا, ثم قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:22 - 24].
هكذا يا عباد الله! يجزى عباد الله الذين أطاعوا الله، وصبروا على طاعته في الرخاء والشدة, ثم قال الله تعالى يمدحهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] ماذا يجزيهم الله رب العزة والجلال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] وقال أيضاً يعدهم بكرامة أخرى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35] ثم قال جل وعلا يبين أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
هكذا يا عباد الله! الترغيب في كتاب الله أصدق القائلين وأرحم الراحمين, يعد بهذا الثواب العظيم, وهو الفردوس في جنات النعيم, وهو أعلى منزلٌ في الجنة {إذا سألتم الله فاسألوا الفردوس فإنه أعلى منزلة في الجنة, وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة} هذا المنزل لمن أقام الصلاة, وفي إقامة الصلاة ثواب عظيم فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.(169/3)
فضل المحافظة على الصلوات من السنة
عباد الله! اسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً يبين لنا فضل إقامة الصلاة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عملٍ إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال الأعرابي: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا} فلما ولّى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: {من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} رواه البخاري ومسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الصلوات الخمس: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء, قال: وكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا} الصلوات الخمس التي هي عمود الإسلام, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر} رواه مسلم.
فهل من قلب حاضر يعي؟ هل من أذن تسمع يا عباد الله؟ اسمعوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله} رواه مسلم.
وعن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها -أي: الفجر والعصر-} رواه مسلم , وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلّى الصبح فهو ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه الله على وجهه في نار جهنم} رواه مسلم.
صلاة الفجر يا عباد الله: {من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء؛ يدركه ثم يكبه الله على وجهه في نار جهنم}.(169/4)
وعيد من ترك الصلاة وتهاون فيها
عباد الله! حافظوا على الصلوات وأدوها بأوقاتها كما أمرتم، وقوموا لله قانتين خاشعين مطيعين, واحذروا من ترك الصلاة, احذروا من التهاون بالصلاة, واحذروا من الاستخفاف بحق الصلاة يا عباد الله.
عباد الله! إن ترك الصلاة كفر يخرج من الملة -والعياذ بالله- وكم نسمع هذه العبارة مرات بعد مرات, وكرات بعد كرات, ولكن انطبق على الكثير قول الله جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] مراراً وتكراراً نسمع أن ترك الصلاة كفر يخرج من الملة -والعياذ بالله- وسوف يكون مسكن تارك الصلاة إذا مات على حاله مِصراً سقر، وما أدرك ما سقر، إنها طبقة من طباق جهنم.
أما المتهاون والمتأخر عنها ولا يبالي أصلاها في وقتها أو أخرها عن وقتها فسوف يلقى غياً, وهو وادٍ في جهنم يقول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وأما الذين يصلون ولكن لا يصلون الصلاة إلا بعد خروج وقتها؛ فأولئك موعدهم ويل, وويل: واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، أجارنا الله وإياكم من ذلك.
عباد الله! حافظوا على الصلوات في جميع أوقاتها وأقيموها وصلوا بخشوع وطمأنينة, أدوها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها تحوزوا الأجر العظيم والرضا من رب العالمين، في الحديث يقول: {من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة} أو قال: {وجبت له الجنة أو قال: حرم على النار} ولما سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أحب الأعمال إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: {الصلاة على وقتها}.
وكذلك يروي لنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: {من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون وهامان، وأبي بن خلف} بئس القرناء ثم في نار جهنم والعياذ بالله.
فإن من اشتغل بأمواله وتجارته، ووزارته وولده وملاذه عن الصلاة، فإنه يكون مع هؤلاء قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف.
عباد الله! انقلوا هذه الأحاديث إلى الذين يسهرون على الملاهي, ولعب القمار, يسهرون مع الأغاني والتمثيليات والأفلام, انقلوا لهم هذه الأحاديث, وأخبروهم أن الصلاة أمرها عظيم.
عباد الله! إن من سمع شيئاً؛ فإنه واجب عليه أن يبلغ من لم يسمع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بلغوا عني ولو آية} تسمعون الأحاديث, وتسمعون كلام الله عز وجل في وعيد من تخلف بالصلاة, وفي وعيد من تهاون عن الصلاة، فأنذروا يا عباد الله, وكونوا دعاة إلى الله في السر والعلن, تحوزوا رضا الله عز وجل, فإن الداعي إلى الله له أجرٌ عظيم.
أسأل الله عز وجل أن يغيث قلوبنا بالإيمان, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, واستغفروا ربكم يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(169/5)
الحث على كثرة السجود والخطى إلى المساجد
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين, وجعلها صلة بينه وبين عباده, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله أقيموا الصلاة كما أمرتم, وأدوها في بيوت الله مع الجماعة, عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة} فاستكثروا من السجود يا عباد الله, واستكثروا من الخطى إلى بيوت الله, فإن كل خطوة ترفع بها حسنة, وكل خطوة تحط بها سيئة, عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: {كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال: سلني فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة, قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} رواه مسلم.
فعليكم يا عباد الله! بكثرة السجود والتقرب إلى الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله! أطيعوا الله عز وجل، وأدوا ما أمركم الله به، وبادروا إلى طاعته قبل أن يهجم عليكم هاذم اللذات, ومفرق الجماعات فحينئذٍ لا ينفع الندم.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه, وجنبنا ما تبغضه وتأباه, واجعلنا هداة مهتدين, دعاةً إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
أقول قولي هذا, وأسأل الله عز وجل أن يحيينا مسلمين وأن يتوفانا مسلمين وأن يختم بالصالحات أعمالنا, وأن يجعلنا هداة مهتدين.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل, وأذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء, اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين, واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين, ووحد صفوفهم إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واهدنا واهد لنا واهد بنا, واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات؛ في جنات الفردوس الأعلى إنك على كل شيء قدير.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(169/6)
وصف النار
لقد جاء في القرآن الآيات الكثيرة التي تصف النار وحرها، وشدة غيظها وزفيرها، وشدة حبها للعصاة أن يقذفوا فيها، فهي نار أعدها الله لمن عصاه وخالف أمره؛ نار ملئت بشتى أنواع العذاب، وهي مضاعفة على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، ونار جهنم لها سبعة أبواب، وجميع تلك الأبواب مغلقة على أهلها، فلا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً.(170/1)
الجزاء من جنس العمل
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه لتفوزوا بجنة عرضها السماوات والأرض.
عباد الله: ما أشرف من أكرمه المولى العظيم، وما أسعده من خصه بالتشريف والتعظيم، وما أقرب من أهَّله للفوز والتقديم، فإن عباداً أطاعوه؛ فإنهم يوم القيامة بالربح من الفائزين، فيا حسنهم والولدان بهم يحفون، وبين أيديهم يطوفون، وقد أمنوا مما كانوا يخافون، وبالحور العين في خيام اللؤلؤ يتنعمون، وعلى أسرة الذهب والفضة يتزاورون، وبالوجوه الناضرة يتقابلون، وهم بجوار أرحم الراحمين آمنين من كل بلوى.(170/2)
الرسول يحذر أمته من النار
عباد الله: هذه الجنة، فهل من مشمر لها؟ فالمبادرة المبادرة.
يا عباد الله! فروا من النار، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب ذات يوم، فقال: {أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار} ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه، لاحترق المسجد ومن فيه} رواه أبو يعلى والبزار ويروى أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو أن غرباً من جهنم جعل في وسط الأرض، لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب، ولو أن شرارة من شرر جهنم بالمشرق لوجد حرها من في المغرب} وقال مالك بن دينار: إن الويل وادٍ في جهنم فيه ألوان العذاب، وقال عطاء بن يسار: الويل: وادٍ في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره.
ويل، وقد توعد من تهاون بالصلاة بويل، وهو كما علمتم، الويل: وادٍ في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب فقال: {لا تنسوا العظيمتين، لا تنسوا العظيمتين، لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار، ثم بكى صلى الله عليه وسلم حتى جرى وابل دموعه جانبي لحيته، ثم قال: والذي نفس محمد بيده، لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة، لمشيتم إلى الصعيد ولحثَّيتم على رءوسكم التراب}.(170/3)
العبرة من وصف النار
فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه واحذروا أسباب سخطه واجتنبوا معاصيه، واعلموا -يا عباد الله- أن الله خلق الخلق ليعرفوه، وأوجدهم ليعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه، ويخافوه خوف إجلال وخوف تعظيم، ووصف لهم شدة عذابه، ووصف لهم دار عقابه التي أعدها لمن عصاه؛ ليتقوه بصالح الأعمال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(170/4)
وصف النار وما أعده الله لأعدائه فيها
عباد الله: لقد كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار، وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
عباد الله: إن لجهنم سبعة أبواب ذكرها الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] ثم -يا عباد الله- تلك الأبواب مغلقة على أهلها، قال الله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] يعني: أن تلك الأبواب مطبقة عليهم، فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وللنار شدة في حرها وزمهريرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا ربِ! أكل بعضي بعضاً فنفِّسني، فأذن لها في نفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سمومها، وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ناركم هذه التي توقدون جزءٌ واحدٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، قال الصحابة رضي الله عنهم: والله إن كانت لكافية، قال: إنها فضلت عليها بتسعةٍ وستين جزءاً كلهن مثل حرها}.
ثم فيها -يا عباد الله- يذاقون أليم العذاب وشدته، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] ما هو الحميم يا عباد الله؟ ماءٌ أوقد عليه حتى اشتدت حرارته وصار له غليان: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22] إنها النار يا عباد الله.
عباد الله: اتقوا النار، فإن حرها شديد، قد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعٍ وستين جزءاً، يصلاها المجرمون: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:56] يرتفع بهم اللهب حتى يصل إلى أعلاها، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم به تكذبون، عذابهم دائم: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] يتكرر عليهم فلا يستريحون، ويسألون الخلاص منه ولو ساعة فلا يجابون، يقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] فتقول لهم الملائكة: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50] فلم يستجيبوا لهم؛ لأنهم لم يستجيبوا للرسل حينما دعوهم إلى الله، فكان الجزاء من جنس العمل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيرد الله عليهم على وجه الإذلال والإهانة: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] لا تنقطع أبداً إذا قال لهم الجبار: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فحينئذٍ ييئسون من كل خير، ويعلمون أنهم فيها خالدون، ويزادون بؤساً إلى بؤسهم وحسرةً إلى حسرتهم {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:65 - 66] يقولون ذلك في جهنم: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فعند ذلك لا ينفع الندم حين يساقون إلى نارٍ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] نارٌ إذا رأت أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظاً وزفيراً تتقطع منها القلوب {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8] أي: تكاد تتقطع من شدة الغيظ والغضب على أهلها، فهي نارٌ حالقةٌ غضباء على أهلها وهم في جوفها، فما ظنكم أن تفعل بهم.
فيا عباد الله: اتقوا النار، احذروا أن تكونوا من أهلها، ولقد بين الله لكم صفات أهل النار، وصفات أهل الجنة جملةً وتفصيلاً، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(170/5)
خوف السلف من النار
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وأدى الأمانة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واحذروا الأعمال الخبيثة، واحذروا المعاصي والسيئات؛ فإنها حطب جهنم، جهنم التي حذركم الله منها في كتابه الكريم، وحذركم منها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يقول: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] قرأ هذه الآية عمر بن عبد العزيز رحمه الله، -فما تجاوزها- قرأها في صلاة المغرب، فلما وصلها خنقته العبرة، فما تجاوزها رحمه الله حتى انتقل منها إلى سورة أخرى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] إنها نارٌ محرقةٌ كلما نضجت جلودهم، بدلهم الله جلوداً غيرها، إنها دار البوار، ودار البؤس، والشقاء والعذاب الشديد، دار من تعدى الحدود وارتكب المحرمات، دارٌ لا يسكنها إلا الأشرار من خلق الله؛ الذين عصوا رسله ولم يمتثلوا أمره ونهيه، إنها النار يا عباد الله.
النار منزل أهل الكفر كلهم باقها سبعةٌ مسودة الحفر
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وتحت ذاك جحيمٌ ثم هاويةٌ تهوي بهم أبداً في حر مستَعر
فيها غلاظٌ شدادٌ من ملائكةٍ قلوبهم شدةً أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدةٌ وكل كسرٍ لديهم غير منجبر
سوداء مظلمةٌ شعثاء موحشةٌ دهماء محرقةٌ لوّاحة البشر
فيها العقارب والحيات قد جمعت جلودهم كالبغال الدهم والحمر
لها إذا ما غلت فورٌ يقلبهم ما بين مرتفعٍ منها ومنحدر
عباد الله: يروي لنا البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه من حديث طويل قال فيه: {ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم على وهدٍ، فسمع صوتاً منكراً، فقال: يا جبريل! ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب! ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغسّاقي وغسليني، وقد بعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشركٍ ومشركة، وخبيثٍ وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب} وعن عبد الرحمن بن مصعب: أن رجلاً كان على شط الفرات، فسمع تالياً يتلو القرآن، فلما وصل قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74] تمايل الرجل، فلما قال التالي: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] سقط في الماء، فمات رحمة الله عليه، وعن لقمان الحنفي قال: {أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شابٍ ينادي في جوف الليل: واغوثاه من النار، واغوثاه من النار، واغوثاه من النار، فلما أصبح، قال: يا شاب! لقد أبكيت البارحة ملئاً من الملائكة كثيراً}.
إخواني اعتبروا بهذه الأحوال لسلفكم الصالح، عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يمر بالآية من ورده فتخنقه العبرة، فيعودونه ويحسبون أنه مريض، وهكذا أحوال السلف الذين يحضرون قلوبهم عند تلاوة كتاب الله، فأحضروا قلوبكم -يا عباد الله- عند تلاوة كتاب الله.
عباد الله: أما تشفقون من النار، أما تشفقون من نار جهنم، وما فيها من العذاب والأنكال، أما تحذرون سلاسلها والأغلال، واعجباً لمن يطأ سمعه ذكر السعير، وهو من عذابها بالله غير مستجير، فيا من تتعدّون الحدود! يا من تعصون الملك العلام! أفيكم جلدٌ على النار؟ أفيكم جلدٌ على النار؟ أفيكم جلدٌ على النار؟ نارٌ وقودها الناس والحجارة، أم قد رضيتم لأنفسكم بالخسارة والحرمان، فيا ويلاً لمن كانت النار له دار.
اللهم يا رب الأرباب! ويا مسبب الأسباب! ويا أرحم الراحمين! نسألك أن تعيذنا من النار، اللهم أعذنا من النار، واجعلنا ممن يكرم في روضات الجنات.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدةً، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم افتح مسامع قلوبنا لقبول الحق يا رب العالمين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم قيض لهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على كل خير وتحذرهم من كل شر إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم يا سامع الصوت! ويا سابق الفوت! ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت! ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اهد ضالهم، اللهم رد شاردهم، اللهم ثبت مهتديهم يا رب العالمين، اللهم أجرنا جميعاً من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك على كل شيء قدير.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(170/6)
حافظوا على نسائكم
جاء في الصحيح عن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) فالنساء هن أكبر فتنة يفتن بها الرجال.
وفي هذه المادة تناول فيها الشيخ الحديث عن النساء وما يجب عليهن في الشرع، وما أحدثته النساء اليوم من المنكرات العظيمة.(171/1)
تبرج النساء وسفورهن في الأسواق
الحمد لله الذي علمنا الحكمة والقرآن، فمن عمل بما علم فقد أفلح وأنجح وبلغ المرام، ومن أعرض عن الذكر الحكيم وما فيه من الآيات المحكمات فقد خاب وخسر وباء بالتباب، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حذر أمته من مضلات الفتن، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وراقبوا ربكم في السر والعلانية.
أيها المسلمون: أيها المؤمنون: لا يخفى عليكم ما عمت به البلوى في كثير من البلدان، ومع الأسف الشديد بلدان المسلمين، ما عمت به البلوى من تبرج النساء وسفورهن، وعدم التزامهن بالحجاب من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك يا عباد الله! ويا أمة الإسلام! يا أهل الغيرة والحمية! أن ظهور هذه المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة من أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش، وأعظمها فاحشة الزنا، وارتكاب الجرائم، وقلة الحياء، وعموم الفساد، فاتقوا الله أيها المسلمون! وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر، واحذروا غضب الجبار، ونقمة الله عز وجل الذي إذا غضب فلا مانع لعقوبته ولا راد لقضائه، فقد صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه} وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم.
إذا كثر الخبث} فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
يغضب بعض الأقارب إذا قلت لزوجتك أو لبناتك: الزمن الحجاب والتستر، يغضب لذلك ويقول: هذه عاداتنا عشنا عليها منذ وجود آبائنا.
تباً لهذا الرد الخبيث، هذا مثل رد المشركين الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فمن أراد أن يكون مع الجاهلين المشركين فليلتزم هذا الرد الخبيث فليقولوا: هذه عاداتنا، وهذه تقاليدنا فلا نستطيع تغييرها.(171/2)
وجوب الحشمة والنهي عن الخضوع بالقول
ما جاء الإسلام -يا عبد الله- إلا ليخرجك من ظلمات الجهل إلى نور العلم والإسلام؟ وقد أمر ربكم جل وعلا بتحجب النساء في كتابه المبين، وأمر بلزومهن البيوت، وحذر من التبرج والخضوع بالقول للرجال؛ صيانة لهن عن الفساد وتحذيراً لهن من أسباب الفتنة فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33] ففي هذه الآيات البينات ينهى الله جل وعلا نساء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهن أمهات المؤمنين، وهن من خيرة النساء وأطهرهن، ينهاهن عن الخضوع بالقول للرجال، وما أدراكم ما هو الخضوع بالقول؟ هو تليين الكلام، لو رأيت المرأة يا أخي عند صاحب المجوهرات، أو رأيتها عند صاحب القماش، أو رأيتها في محل تلك الفتن في تلك الأسواق، وهي تمازح الرجل وتضحك معه وتلين له القول، قول والله لن تقوله لك في فراشك، قول لا تخاطبك أيها الحلال الذي أباح الله مخاطبتك لها ومكالمتك وممازحتك لها، لا تخاطبك بهذا الكلام، إنما تخاطب به صاحب الذهب، والمجوهرات، أو صاحب المعرض الذي من طلوع الشمس حتى الساعة الثامنة والنصف وهو يضرب نفسه كالمرأة بالزينة وغيرها.
وإذا دخل شاب إلى السوق؛ ابتدرت هيئة الأمر بالمعروف وأوقفته عند حده، وإن كان له غرض قالت له: لا تدخل السوق فأنت رجل! إذاً صاحب المجوهرات ليس برجل، وليست له شهوة؟!
صاحب القماش أليست له شهوة؟!
إذاً هذا الشاب الذي أُرجع من أول السوق قال له صاحب هيئة الأمر بالمعروف: ارجع، فإن السوق ممنوع من الرجال.
ثم المرأة تدخل وحدها، يقول: اترك امرأتك تدخل وحدها إلى صاحب المجوهرات وصاحب العطورات وهو يطيبها، ويدخل المجول في يدها وتسمع كلاماً يزلزل عرش الرحمن، ورجلها ينتظرها في السيارة خارج السوق، وصاحب المجوهرات يدخل المجول في يدها، ويقول كلاماً تنأى عنه الفضيلة ويندى عن ذكره الجبين أن يذكر.
الله أكبر يا عباد الله! أين الغيرة؟! أين الحمية على المحارم؟! أين الخوف من رب العالمين؟! أين الحفاظ على هذه الأمانة التي قلدكم الله إياها في أعناقكم؟ ولقد ذكر لي رجل ثقة أنه وجد رجلاً من عمال المعارض يعمل بامرأة الفاحشة في الدكان، أجل كيف لا؟! والدكان له طابق علوي وله ملف خلف الدكان يلوذ به إذا أراد أن يعمل الخبث والفساد؟ وزوجها يقول له صاحب الهيئة: اجلس خارج السوق ولا تدخل مع زوجتك ولا مع أختك فإنه ممنوع دخول الرجال!
الله أكبر -يا عباد الله- ألا نفكر في هذه المصيبة؟ المرأة إذا دخلت السوق هل تجد نساء مثلها؟ تجد صاحب الدكان شاباً وسيماً قد انتخبه صاحب المعرض من أجمل الشبان لماذا؟ حتى يدرج البضاعة، مثل صاحب الدخان وصاحب البقالة يقول: أنا إذا لم أوجد الدخان في البقالة لن يأتي إلي الزبائن، وصاحب المكتبة يقول: إذا لم آت بالمجلات لن يأتي إلي الزبائن.
إنها دسائس شيطانية، وصاحب الخياطة تقف عنده المرأة الساعة والساعتين وهو يخاطبها ويكلمها ويخطط معها التخطيطات، كل ذلك حل بالمسلمين، ولكن المسلمين لا يزالون راقدين سامدين، ماتت الغيرة، دفنوا الغيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلذلك يا عباد الله في العهد النبوي صلى الله عليه وسلم، في وقت نزول الآيات طرية غضة ينهى الرب جل وعلا نساء الرسول الطاهرات المطهرات عن الخضوع بالقول وتليين الكلام؛ حتى لا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا، وكذلك أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلزومهن البيوت، ونهاهن عن التبرج تبرج الجاهلية، وما أدراك ما التبرج؟ هو: إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراعين والساقين ونحو ذلك من الزينة؛ لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله عز وجل يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن؛ فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن.(171/3)
وجوب الحجاب للمرأة والنهي عن التبرج
ثم يقول الرب جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء على الرجال وتسترهن منهم، وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها، وأشار رب العالمين جل وعلا إلى السفور وعدم التحجب أنه خُبث ونجاسة وأن التحجب سلامة وطهارة، وهذا كله آيات كريمات أنزلها رب العالمين؛ ليخرج بها العباد من الظلمات إلى النور لمن ابتغى الهدى والرشاد فيقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} [الأحزاب:59] ثم يأتي بعض المعارضين، ثم يأتي بعض المفتونين ويقول: الحجاب خاص بنساء النبي أما نساءكم فأظهروهن لنا ودعونا ننظر إليهن، وزينوهن لنا، وقفوهن بالشوارع حتى يركبن مع صاحب الأجرة ومع غيرهم!
يقول: خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم! ثم نمسك يده إن كان أعمى، وإن كان أعمى القلب فصدق الله العظيم {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] والقلب إذا كان منكفئاً، فإنه لا يحمل شيئاً مثل الإناء يا عباد الله، الإناء إذا كان منكفئاً لا يتسع لشيء، فربنا جل وعلا لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] إن كنت مؤمناً صادقاً ونساؤك مؤمنات وبناتك مؤمنات فهذه الآية تشملك يا مسكين! وإن كنت ممن لا يؤمن بآيات الله ويريد المعارضة فحسبك الوقوف بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون.
يقول الرب جل وعلا -وليس الخطاب خاص بالنبي- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] ربما المعارض هذا لم يعلم أن هذه الآية في كتاب الله، أو أعماه الهوى وصده اتباع الباطل عن اتباع الحق فإننا نكررها {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] يا لها من آداب سامية!
ما هو الجلباب؟ هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب والتستر، وهذا الحجاب يشمل زوجات النبي وبنات النبي ونساء المؤمنين جميعاً بإدناء الجلباب على المحاسن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة.
بماذا تعرف المرأة؟ هل تعرف بمقدمتها أو بمؤخرتها؟ إذا كانت حاجبة عن وجهها؟ لا.
أما إذا كشفت عن وجهها فإنها تعرف في أول وهلة وفي أول الأمر؛ فينبغي لها أن تحتجب وتغطي وجهها ولا تطِع أهل الفتن وأهل الأهواء الذين يريدون لها الضلال والعياذ بالله.
فهذا النهي من ربنا جل وعلا، حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذين، وكذلك المصيبة العظمى والتي أنتجته لنا قصيدة عمت بها البلوى لا كثرهم الله، يقول: (ما هقيت أن البراقع يفتننا) قلبه مفتون، عيونه مفتونة، قلبه مفتون أسأل الله أن يهديه أو يأخذه ويريح المسلمين من شره، وهو البرقع الذي لما سمعن به ناقصات العقول والدين جعلن يبحثن عن هذا البرقع، كان البرقع لا يستعمله إلا أهل البادية، ولما سمع به النساء ناقصات العقول والدين من هذا المغني أخذنه بالقبول وأخذنه بالثمن حتى أنه يقاس عليها، يقول: كذلك مما يجلب الفتنة ويلفت النظر هو ما يسمى بالبرقع، وهو الذي يبين العيون، والبعض من النساء تزيد في فتحة البرقع حتى تبدو ملامح الوجه، وكذلك ترفع العباءة حتى يظهر مفرق رأسها.
كل هذا من دواعي الفتن التي انفتحت على المسلمين، والتعرض للشر فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ويا أولياء النساء! واعلموا أن المرأة أمانة في أعناقكم، يقول صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي بشيء من هذه البنات كن له ستراً من النار، ومن كان له جاريتين فأحسن تربيتهن … -إلى آخر الحديث- كنت أنا وهو كهاتين في الجنة}.
فما هي الآداب يا أخي المسلم؟ ما هي التربية التي ينبغي لك أن تتخذها لبناتك ونسائك وأخواتك حتى تكون رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة؟
الزم النساء بالحجاب، احفظهن من التبرج والسفور، كن لهن حصناً حصيناً بعد توفيق الله عز وجل، فهذا كله يمنع عنها الشكوك والأوهام.(171/4)
تحريم السفر والخلوة بالمرأة إلا مع محرم
وكذلك -يا عباد الله- ألزموا النساء البيوت إلا لحاجة ضرورية، فإن بيت المرأة خير لها وأسلم عاقبة، وبذلك تتم صيانة الأعراض، يقول علي رضي الله عنه: [[ألا تستمعون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها؟]] وكان يقول رضي الله عنه: [[اكفف بصرهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب عليهن خير من الارتياب، فإن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل]] رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين.
يا ليت علياً يرى ما وقعت فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج وإبداء المحاسن وظهور الفساد والفواحش، ويا ليت علياً يرى الكثير من الناس وهم يبيعون العفة والشهامة ويهينون الكرامة، يا ليته يرى السائق وهو يذهب بالزوجات والبنات إلى الأسواق والمستشفيات والمدارس، ويجوب بهن الأسواق وكأنهن مع إخوانهن أو مع أزواجهن ولا غيرة ولا مروءة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا ذلك ولم يبلغنا، أو لم يبلُغنا قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذي محرم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجل بامرأة؛ إلا كان الشيطان ثالثهما} هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
والله ثم والله، ما مشى على الأرض أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وشريعته نسخت جميع الأديان، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، يقول: {لا يخلون رجل بامرأة؛ إلا كان الشيطان ثالثهما} الرسول يخاطب الصحابة ولا يخاطبنا نحن الذين نزكي أنفسنا ونقول: نحن قلوبنا طاهرة، لا تمنع امرأتك أن تحتجب أو ابنتك أن تحتجب عن قريبك.
قول بغير علم والعياذ بالله! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الرجال الذين نوه الله بذكرهم في القرآن والسنة، يقول لهم: {لا يخلون رجل بامرأة؛ إلا كان الشيطان ثالثهما}
فاتقوا الله أيها المسلمون! وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج وإظهار المحاسن، وامنعوهن من التشبه بأعداء الإسلام الذين أرسلوا لكم بالمجلات وغيرها، واستيقظوا من غفلتكم قبل أن تندموا حين لا ينفع الندم.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أحي الغيرة في قلوبنا، ووفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(171/5)
النهي عن تشبه الرجال والنساء بأعداء الله
الحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله الثبات والوفاة على الإسلام والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، واحذروا من التيارات، احذروا من المجلات والأفلام، التي غزتكم في قعر بيوتكم وأفسدت نساءكم وبناتكم وأولادكم.
اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الوقوف بين يدي الله حق لا شك فيه، وأنه سوف يحصل جواب وسؤال.
عباد الله! احذروا من المبادئ الهدامة التي أتى بها إليكم السائق والخادمة والمربية، احذروا من الانزلاق في المدنية الزائفة التي تجر إلى قلة الحياء ونبذ التعاليم الإسلامية، ثم تكون خسارة وويلاً يوم القيامة، ومن ذلك -يا عباد الله- التشبه بأعداء الإسلام في الملابس والزي وغيرها، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء} ويقول صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
فإذا كانت المرأة استعملت هذه المنهيات أو ارتكبت هذه المنهيات فإنها لا تدخل الجنة، فحذروا -يا إخواني- زوجاتكم وبناتكم وأخواتكم، إنها أمانة أطرحها بين أيديكم وفي أعناقكم: أن تبلغوا نساءكم وتخبروهن أن الأمر عظيم: صنفان من أهل النار وذكر منهم رسول الله: {نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} هذا تحذير شديد من التبرج والسفور ولبس الرقيق والقصير من الملابس؛ ولذلك -يا عباد الله- ترون أن الأمر انعكس فصار بعض الرجال يسحب الثياب ويطيلها، وصارت بعض النساء تقصر الثياب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم إنا لله وإنا إليه راجعون.
والله ثم والله أن في بعض المناسبات تتفطر الأكباد مما نرى من بعض الرجال الذي يجرون الثياب أو يضيقونها كما تفعل النساء، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلنحذر -يا عباد الله- من التشبه بأعداء الإسلام فإنه {من تشبه بقوم فهو منهم}
وكذلك يجب عليك يا أخي أن تمنع البنات الصغار من الملابس القصيرة حتى لا تشب وتعتاد على ذلك، فاتقوا الله يا عباد الله واحذروا ما حرم الله، واعلموا أن الله مجازيكم على أعمالكم وسائلكم عن ذلك.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، وقيض لهم القرناء الصالحين الناصحين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
عباد الله! إن أردتم أن يستجيب الله دعاءكم؛ فأصلحوا أعمالكم وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، توبوا إلى الله توبة نصوحاً، أقبلوا على الله بأعمالكم وبقلوبكم حتى يقبل الله دعاءكم، أما ما دامت هذه المنكرات ظاهرة فقد ورد في الأثر: {ثم تدعوني فلا أستجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم} وما أكثر المنكرات! فإن أردتم إجابة الدعاء وقبول الله منك الدعاء؛ فغيروا هذه المنكرات، وأقبلوا على الله جل وعلا فإنه غفور رحيم، تواب رحيم، رءوف رحيم، وأن أردتم أن تيبس بلدانكم من الغيث، وتموت قلوبكم وتستحوذ عليكم الأعادي فجاروا أعداء الإسلام، جاروهم بالتشبه وبالمصانعة وبمحبتهم والعياذ بالله؛ ثم تقع اللعنة كما وقعت على بني إسرائيل، لماذا وقعت اللعنة؟ لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، فنسأل الله أن يرزقنا توبة نصوحاً.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، ووفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، وصل وسلم على نبينا محمد.(171/6)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن من أعظم أسباب الهلاك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإنما جعل الله الخير في هذه البلاد لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة طرق لإنكار المنكر فقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"
فالحذر الحذر في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحذر الحذر من مجالسة أهل المنكر!(172/1)
عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه, ومذل من خالف أمره وعصاه, الناصر لمن ينصره من أهل طاعته وأوليائه, الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه, ولا تأخذهم في ربهم لومة لائم, ولا يخشون أحداً سواه، ويحبون لحبه ويبغضون لبغضه, ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه, ويجاهدون أهل معاصيه بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم، طاعة لله.
أحمده سبحانه حمداً يملأ الأرض والسماء, وأشكره على سوابغ نعمه آلائه, ونعوذ بالله من زوال نعمه إنه على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الذي يغار إذا انتهكت محارمه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أنه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلان بترك الواجبات, واستخفاف بحق رب الأرض والسماوات, وإعلان بظهور المنكرات، وإعلان بعلو الفسقة.
عباد الله: إن تلقي بعض الناس لبعض الفساق والعصاة، ورفعة أهل المعاصي، وذل أهل الطاعات موجب للعنة رب الأرض والسماوات, ومقت جميع الخلق لكم حتى الحيوانات, وسبب لنزع البركات, وموجب لحلول أنواع الأمراض والأسقام والهلكات, مثل أمراض السل والسرطان, ومثل الأمراض التي استعصت على كثير من الأطباء.
إن بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجب لتسلط الأعداء وجور الولاة, فماذا يرتقب مرتكب المحظورات المعرض عن الله تهاوناً وعدم مبالاة؟! أما سمعتم الله يقول في محكم الآيات: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
عباد الله: أما سمعتم بما فعل بالقرون الخاليات من أنواع التدمير والعقوبات؟! منهم من خسفنا, ومنهم من أرسلنا عليه حاصباً, ومنهم من أغرقه الله، وما حل بهم من أليم العذاب والهلكات, التي يصلون بها إلى نار الجحيم والحسرات, ويُحْرَمون بركات الأعمال والأرزاق.
عباد الله: أما سمعتم بعظيم عذابه لمرتكب المحرمات, وبمن لم ينكر المنكرات، روى الإمام أحمد رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعقاب من عنده، قلت: يا رسول الله! أما فيهم يومئذٍ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يصنع بهم؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس}.
في الأثر: لا تزال هذه الأمة تحت يد الله, وفي كنف الله, ما لم يمالئ قراؤها فساقها, وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن شرارها خيارها، فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم يده, ثم سلط عليهم جبابرتهم, فساموهم سوء العذاب ثم ضربهم بالفاقة والفقر, وروي عن نبيكم صلى الله عليه وسلم: {إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل, فتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام، لعنهم الله عند ذلك, فأصمهم وأعمى أبصارهم} ويقول صلى الله عليه وسلم: {وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم}.
وتقول عائشة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: {يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم, وتستنصروني فلا أنصركم, وتسألوني فلا أعطيكم}.
أمة الإسلام: لنستمع إلى هذا الحديث بإمعان، يقول صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم, وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم} فما بعد هذا الحرمان -يا أمة الإسلام- حُرمنا القطر من السماء لأي شيء يا عباد الله؟ بظهور المنكرات وانتشار المعاصي, فإليك اللهم المشتكى, وإنا لله وإنا إليه راجعون!
يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: {يا معشر المهاجرين: خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهنّ ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا, ولا نقص قوم المكيال إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان, ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم}.
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى تكونوا من الذين قال الله فيهم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] ويقول جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(172/2)
الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه, وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن كل واحد منا عليه واجب بقدر المستطاع، فأولاً باليد فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، هكذا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: بالأمر بالمعروف يحصل الخير الكثير: ينقمع أهل المعاصي والفساد, وتظهر هيبة المسلمين حتى في قلوب الأعداء, ويحصل الأمن والاستقرار, وحصول البركات والخيرات, أما إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسترون المنكرات بأعينكم, وتلمسونها بحواسكم، وتفقدون القوة والأمن والاستقرار، ويطأكم الأعداء بالأقدم، وتحل اللعنة وترسل الرحمة ويصيبكم العذاب, فلا دعاء مستجاب عند ذلك.
أمة الإسلام: اعتبروا فيمن سلف من الأمم من قبلكم, وما أصابهم الله به من أنواع العقوبات, وما ربك بظلام للعبيد, غير أن الله عز وجل يغار, وغيرته أن يأتي العبد ما حرم الله عليه.
أيها المؤمنون: توبوا جميعاً إلى الله عز وجل, وأقلعوا عما أنتم فيه من الغفلة والرقاد, واعلموا أن كلكم راعٍ, وكل راعٍ مسئول عن رعيته, وسوف تقفون بين يدي الله عز وجل, ويسألكم عن هذا التفريط والإهمال, فأعدوا للسؤال جواباً, وللجواب صواباً, وليس الجواب أن نترك الحبل على الغارب ونقول: عجزنا! لا.
بل نجاهد ولو في بيوتنا, كما كان عباد الله الذين مدحهم الله في القرآن فهذا إسماعيل عليه السلام يقول فيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] ويقول جل وعلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].(172/3)
التحذير من مجالسة أهل المنكرات
عباد الله: الحذر الحذر من مجالسة أهل المنكرات, فإن العقوبة واللعنة تعمّ من جالسهم ورضي بأفعالهم, وأقرهم عليها, ومصداق ذلك ما رواه إمام أهل السنة في مسنده وما روي في السنن من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي جعد عن أبي عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن من كان قبلكم كان إذا عمل فيهم العامل الخطيئة جاءه الناهي تعذيراً, فإذا كان الغد جالسه وآكله وشاربه, كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى سبحانه وتعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض, ثم لعنهم على لسان أنبيائهم: {دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]} وكان متكئاً صلى الله عليه وسلم فجلس وقال: {والذي نفس محمد بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً؛ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض, ثم يلعنكم كما لعنهم}.
ذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر الصنعاني: أن الله أوحى إلى يوشع بن نون عليه السلام: أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم, وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار, فما بال الأخيار؟! قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي, وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم.
فيا عباد الله -يا أمة الإسلام- لننتهي عن المداهنة, لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, ونرجع إلى الله عز وجل ونتوب؛ فإنه يقبل التائب إذا ناب ورجع, وعلينا بإصلاح أنفسنا وأهلينا حتى يصلح المجتمع وتحصل الخيرات وتحل البركات من فاطر الأرض والسماوات.
إخواني المسلمين: إن الأهل والأولاد تحت مسئوليتنا فعلينا أن نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر, ونرشدهم إلى طاعة الله عز وجل, فإنهم أمانة في الأعناق, وسنسأل عن هذه الأمانة أمام الله عز وجل في يوم لا تنفع فيه أعذار.
وصلوا على من أدى الرسالة, وبلغ الأمانة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أمركم الله أن تصلوا عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحابه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك وإن كنا مقصرين يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم انصر بهم دينك، اللهم اجعلهم حرباً لأعدائك سلماً لأوليائك، اللهم أقر بهم أعين الآباء يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, ربنا أنت غني عنا وعن أعمالنا؛ فلا تأخذنا بسوء أعمالنا ولا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار, عاجلاً غير آجل, اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم ارحم عبادك, اللهم إنا خلق من خلقك, فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم أغثنا يا رب العالمين, يا من خزائنه ملأى, يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين, اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم أحي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد, يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(172/4)
إلى متى تذكروا
في هذا الدرس يتحدث الشيخ عن أعظم الجرائم بعد الشرك ألا وهي جريمة اللواط والعياذ بالله!
وقد بين خطرها على الأمة، وأنها سبب عذاب الله وغضبه وانتقامه، وذكر حد الذي يفعلها، وهو القتل، وأن الصحابة -من شدة قبح هذه الجريمة وشناعتها- لم يختلفوا في وجوب قتل اللوطي، ولكنهم اختلفوا في كيفية قتله.
ثم حث الشيخ على التوبة، محذراً من ذنوب قد فشت في هذه الأمة مثل التبرج والسفور وإهمال الأبناء والنساء.(173/1)
اللوطية وخطرها على الأمة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أنعم علينا بنعمة الإسلام، الذي أحل الله به الحلال، وحرم به الحرام، الإسلام الذي جاء ليحل الطيبات، ويحرم الخبائث على الأمة الإسلامية، الإسلام ندب إلى الطيبات وحرم الخبائث ونهى عنها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، هو أرحم الرحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي أنزل الله عليه الكتاب المبين، فيه البشارة والنذارة، والوعد والوعيد، اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي بلغ البلاغ المبين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي جاء بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: لقد جاء في القرآن العظيم وعدٌ ووعيد، ومن الوعيد الذي جاء في كتاب الله ذِكْر أمة من الأمم لها فعلٍ وخيم، لَمْ تسبق إلى مثلِه.
إن تلك الأمة جاءت بعارٍ شنيع عُيِّرت بذلك الفعل الوخيم، وعُذِّبت به عذاباً سُطِّر خبرُه في كتاب الله عز وجل؛ ليكون تحذيراً للأمة الإسلامية التي بُعِث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم الله به مكارم الأخلاق، ويدعو إلى كل فضيلة، وينهى عن كل رذيلة.(173/2)
قوم لوط في القرآن
أمة الإسلام: لقد جاء تعيير أمة من الأمم في كتاب الله العزيز، وما أدراكم ما هذه الأمة! هي أمة عملت جريمة وخيمة شنعاء تقشعر من ذكرها الجلود، ويندى لها الجبين، إنهم قوم لوط الذين أخبر الله عنهم في كتابه المبين حيث قال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80].
نعم.
إنها فاحشة عظيمة وخيمة، كيف لا.
والله يؤكد ذكرها في مواضع من كتابه بذكر وتصريحٍ تشمئز منه القلوب، وتنبو عنه الأسماع، وتنفر منه الطباع أشد نفرة؟! ألا وهو إتيان الرجل رجلاً مثله، ألا وهو ركوب رجل رجلاً مثله، فيقول الله جلَّ وعَلا: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81] والإسراف يا عباد الله هو مجاوزة الحد، ثم أكد الله جل وعلا على تلك الأمة الذم بوصفين في غاية القبح فقال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74] وسماهم مفسدين، وسماهم ظالمين، والآيات فيهم بكتاب الله كثيرة معلومة.
أجل يا عباد الله! يا من يؤمن بالله واليوم الآخر! إنه ليس في المعاصي مفسدة أعظم من مفسدة اللواط، فهي كبيرة عظيمة، وفاحشة شنعاء، وهي التي تلي مفسدة الكفر والعياذ بالله، ولم يبتلِ الله بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحداً من العالمين، فلهذا عاقبهم المولى جل وعلا عقوبة لم يعاقب بها أمة غيرهم.
أمة الإسلام! لقد جمع الله على قوم لوط -الذين يأتون الذكران من دون النساء- أنواعاً من العقوبات: قلب ديارهم، وخسفها بهم، ورجمهم بالحجارة من السماء، وطمس أعينهم، وعذَّبهم، وجعل عذابهم مستمراً، جعل ديارهم بحيرة منتنة، فنكل بهم نكالاً لم ينكله أمة سواهم، وما ذاك يا عباد الله إلا لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها إذا عملت عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السماوات والأرض إذا شاهدوا فاحشة اللواط خشية نزول العذاب على أهلها فيصيبهم معهم، وتئز الأرض إلى ربها، وتكاد الجبال تزول على ما فيها؛ لشناعة هذه الجريمة، إنها جريمة اللواط، إنها ركوب الذكور بعضهم على بعض.(173/3)
عقوبة اللوطي
ثم إن شريعة الإسلام -يا عباد الله- جاءت بأرقى الآداب وأسمى الأخلاق، ولما كانت تلك الجريمة تتنافى مع الأخلاق والآداب، وتغضب الجبار جلَّ وعلا، تغضب الخالق الرزاق، تغضب البارئ المصور، تغضب رب الأرض والسماوات، تغضب الذي أوجد الكائنات، تغضب إله الأولين والآخرين، جعل جل وعلا فيها وحياً أكيداً، فقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
ثم يقول ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية قال: [[إذا وجد وهو بكر يعمل عمل قوم لوط فإنه يرجم]]
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط} فإنا لله وإنا إليه راجعون!
ما أكثرها تكون في مجتمعات الشر والفساد! في مجتمعات اللهو والغفلة يا عباد الله! رسول الهدى يقول: {إذا كثرت اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا.
ويقول في رواية: أربعة يصبحون في غضب الله، ويمسون في سخطه، قلت: يا رسول الله! من هم؟ قال: المتشبهون من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، والذي يأتي البهيمة، واللوطي}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً]].
أمرٌ عظيمٌ يا عباد الله، إن اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً؛ لذلك حرم كثيرٌ من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيتٍ ودكان، وما ذاك إلا لخوف الوقوع في هذه الفاحشة العظمى، وورد في الحديث القدسي: {النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس، مَن تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه} ولما كانت الخلوة بالأمرد من الأسباب الداعية إلى الوصول إلى تلك الجريمة الشنعاء حرمها بعض العلماء.
وهذا سفيان الثوري رحمه الله لما دخل عليه صبي في الحمام حسن الوجه قال: [[أخرجوه عني، فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل صبي بضعة عشرة شيطاناً]].
فهؤلاء هم أرباب القلوب الحية، الخائفون أن تزل قدمٌ بعد ثبوتها.(173/4)
اختلاف العلماء في كيفية قتل اللوطي
أيها المسلمون: إن جريمة اللواط جريمة شنعاء، وفاحشة عظيمة، ولذلك اخْتُلِف في كيفية قتل هذا المجرم.
هذه الجرثومة الخبيثة التي تنتشر في البلاد، ما هو العمل على إبادتها؟
فقال بعض العلماء: في رواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أحرق رجلاً يعمل عمل قوم لوط بالنار، بعدما استشار من اجتمع عنده من الصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك حرَّق بالنار مَن عَمِل عَمَل قوم لوط عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك، وقال: [[لو لم يذكر الله عمل قوم لوط في القرآن لم أصدق أن الرجل يركب الرجل]] رحمهم الله ورضي الله عنهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وهو رأي له رحمه الله: [[أنه يُرمى من أعلى شاهقٍ في البلد، مُنَكَّساً على رأسه، ثم يُتْبَع بالحجارة]].(173/5)
حث على التوبة
وفي نهاية المطاف يا عباد الله! فباب التوبة مفتوح، والله غفور لمن تاب وآمن، ومن تاب تاب الله عليه، وقد استقرت حكمة أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين: أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد ضمن الله تعالى لمن تاب من الشرك، وقتل النفس، والزنا؛ أنه يبدل سيئاته حسنات، وهذا حكمٌ عامٌ لكل تائبٌ من ذنب إذا أقلع وتاب إلى الله، وعزم على عدم العودة إلى الذنوب فإن الله يتوب.
أبشر أيها العاصي فإن باب التوبة مفتوح، وربك يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وباب التوبة مفتوح ولن يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها أو يأتيك هادم اللذات.
فأنت أيها العاصي لا تدري متى يهجم عليك الموت، هل يهجم عليك وكأس الخمر في يدك؟! هل يهجم عليك وأنت راكبٌ على ذكرٍ مثلك؟! هل يهجم عليك وأنت تعاني من السكر؟! هل يهجم عليك وأنت تمارس جريمة الزنا؟! هل يهجم عليك وأن تتسلق بيوت المسلمين لتسرق منهم؟!
أيها العاصي! فمتى تتوب؟! هل عندك من الموت إنذار؟! هل عندك صكٌ في طول حياتك؟! أو في عدد مدتك التي تعيشها في هذه الحياة؟! لا والله، ثم لا والله، بل ملك الموت يأتي من دون إنذار.
فتب إلى الله أيها العاصي، واسمع قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول أيضاً في البشارة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] أربعة شروط يا عبد الله، إذا استكملتها تاب الله عليك: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
ويقول الرب جل وعلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:70] فما تبدله يا ربنا؟ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] ثم زدنا يا ربنا من هذه البشارة! {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:71] ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: {التوبة تجب ما قبلها}.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً.
اللهم ارزقنا توبة صادقة تطهر بها قلوبنا، وتمحص بها ذنوبنا.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا يا أرحم الرحمين!
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(173/6)
ذنوب عمت وطمت في الأمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، وخذوا على أيدي سفهائكم.(173/7)
إهمال رعاية الأهل والأولاد
إنكم مسئولون عن أولادكم يا عباد الله، طول الليالي وطول ساعات الليل والنهار، وطول ساعات العمر، تركتم لهم الحبل على الغارب، يهيمون في الشوارع وفي غيرها من المحلات كأنهم بهائم سائبة، فإنكم -والله ثم والله- مسئولون عنهم أمام الله، فما العذر يا عباد الله؟! ما الحجة إذا وقفت بين يدي الله ترتعد فرائصك، وقلبك يرجف؟! ما العذر بين يدي الله إذا سألك عن هؤلاء الأولاد، وعن النساء أدخلت عليهن الفيديو في بيتهن حاربت أخلاقهن وآدابهن، والأولاد من الذكور تركت لهم الحبل على الغارب في الشوارع يهيمون؟!
وأنا كنت في محل من محلات الشرطة، وإذا بالشرطي يتصل بأحد الآباء ويقول: قبضنا على ابنك يعمل كذا وكذا، ويقول الأب: والله ما أدري عنه منذ يومين، الله أكبر! الله أكبر! ليواجه رب العالمين بهذا السؤال إذا سأله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
إن هؤلاء الأولاد نعمة، ثم هم نقمة: نعمة إن قام الرجل بتربيتهم وتأديبهم، ونقمة عليك يوم القيامة تحاسب عنهم.
كذلك جارك تحاسب عنه إذا رأيته على المعاصي ولم تأمره بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، فكيف بولدك وفلذة كبدك الذي هو قطعة من لحمك تترك له الحبل على الغارب، فلنقل جميعاً: إنا لله وإنا إليه راجعون!
والله ثم والله إن آلات اللهو ما دخلت على المسلمين إلا بالنقص والشرور، فإلى الله نشكو، وحسبنا الله ونعم الوكيل! إنا لله وإنا إليه راجعون!
فمتى نستيقظ يا عباد الله؟! متى نستيقظ من رقدتنا؟! إذا نفخ في الصور ووقفنا بين يدي الله عز وجل! ما هو العذر لك يا عبد الله؟!(173/8)
مفاسد في البيت المسلم
المراة مع السائق يجوب بها الأسواق، والبنت مع السائق، والأب مع الخادمة في البيت يمازحها ويقبلها ويلمسها نعم يا عباد الله، دُفِنَت الغَيرة، قُتِلت الأخلاق، ذُبِحَت بغير سكين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
والله لن يصدق أحدٌ أن هذا يقع في المسلمين! المرأة والبنات يجوب بهن السائق في الشوارع، وربما أدخلهن على العزاب، ويفعلون بهن الجرائم، والرجل في بيته يفعل بالخادمة الجريمة، وإذا أُتِي إليه بخادمة قبيحة أرجعها وقال: ردوا إليَّ أحسن منها.
ليتنا نموت، ليتنا ما خُلِقْنا يا عباد الله! ليتنا ما وُجِدْنا في هذه الحياة!
الأطفال يُذْبَحون ويُفْعَل بهم الجرائم من أجل سبب سجارة يمصها.
الرجل الكبير يبيع عرضه لحفنة حشيش.
الرجل العاقل يركب أمه ويزني بها إذا شرب الخمر وسط الحشيش.
ليتنا ما خُلِقْنا، ليتنا ما وُجِدْنا في هذه الحياة!
والله! إنها حياةٌ يُمَلُّ ويُسْأم منها، والله إنا إذا دخلنا الأسواق ورأينا النساء متبرجات، ورأينا السائق يجوب بهن، ويلَمِّسهن، ووالله لو كان القتل للنفس جائزاً لقتل كثيرٌ من الناس أنفسهم؛ لما يرون من كثيرٍ من الناس وقد باعوا الغيرة، وهتكوا حرماتهم!
ما هو العذر أمام الله؟! خافوا الله، راقبوا الله، اخشوا الله قبل أن يخسف الله بكم الأرض من تحتكم، قبل أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أين الأمر بالمعروف؟ أين النهي عن المنكر يا أمة الإسلام؟!
والله إنها أمورٌ تشيب الذوائب، وتنجرح القلوب منها، ولكن لمن نشكو، ومن نخبر، خطب ومواعظ تتلى؟ وتدخل مع اليمنى وتخرج مع اليسرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! وصدق رسول الله: {يأتي زمان يمر الرجل على القبر يتمرغ عليه يقول: يا ليتني مكانك ما به من شيء، ما به إلا البلاء}.
والله ما أشد البلاء الآن! نساءٌ كاسيات عاريات مع السائقين يجوب بهن الأسواق، ونساءٌ شابات يطفن على الخياطين وعلى المكتبات، والسائق وصاحب الخياطة يعرض عليها أزياءً تقشعر منها الجلود، هذه أزياءٌ تيلاندية، وهذه أزياءٌ فرنسية، وهذه أزياءٌ شيطانية، ما هذا العمل؟!
حتى يقتلوا المسلمين، لا يقتلونهم بسكين ولا بسلاح، بل يقتلونهم بقتل الإيمان في قلوبهم! فإلى متى هذه السكرة؟! إلى متى هذه الغفلة؟! حتى إذا نفخ في الصور ونحن مداهنون، ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، هل نتحرى خسفاً ومسخاً وحجارةً تنزل علينا من السماء؟!
نزعت البركات، والقطر من السماء لا ينزل إلا لهلاك الكثير من الناس، فنزول هذه الأمطار بكثرتها وهذه الفيضانات إنها عذابٌ من الله، الزلازل ليست براكين كما يزعمه الشيوعيون، إنها -والله- غضبٌ من الله، إنها نقماتٌ من الله، ولكن المسلمين مسخت قلوبهم والعياذ بالله، السكر من ذلك القليل، وأستغفر الله ألا يعم الجميع!
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوقظنا من رقدتنا، وأن يهب لنا توبة نصوحاً يطهر بها قلوبنا، وأن يُقْبِل بقلوبنا عليه إنه على كل شيء قدير.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة.
اللهم قيض لهم البطانة الصالحة، الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة.
اللهم ارزقهم العلماء الصالحين الناصحين، الذين يبينون لهم تلك المنكرات التي فشت وعمت في بلاد المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
يا إخواننا! لا ننظر إلى اليهود، لا ننظر إلى النصارى، لا ننظر إلى الشيوعيين، بل ننظر إلى -نحن المسلمين- مسلمون ندعي الإسلام، تركنا كتاب الله وراءنا ظهرياً، وتركنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صار الكثير من المسلمين الآن يتحلى بالتقاليد الغربية، يتحلى بها وينبسط بها، وإذا عوتب على ذلك قال: أما رأيتَ إلاَّ أنا؟! فانظر إلى فلان وفلان.
فإنا لله وإنا إليه راجعون!
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاًَ لأمر الله حيث قال في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي قال: {إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار}.
اللهم ارض عن خلفائك الراشدين الذين قاموا بدين الله حق قيام، فتحوا الفتوحات، ومصَّروا الأمصار، ودينهم باقٍ إلى الآن، علاماته وآثاره، ولكن طمسه المفسدون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم انصر دينك عاجلاً غير آجل، اللهم انصر دينك عاجلاً غير آجل، اللهم انصر دينك عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وأصلح فساد قلوبنا، وردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.(173/9)
أيها الشاب عد إلى ربك
إن الله سبحانه وتعالى حذر عباده المؤمنين أن يقعوا فيما حرم الله عز وجل، وإن كثيراً من شباب الأمة اليوم قد غرقوا في اللهو واللعب والمعاصي، وتركوا شرع الله وراءهم ظهرياً، فعلى الشباب أن يعودوا إلى ربهم ويتقوا الله قبل أن ينزل بهم هاذم اللذات، وتبلغ الروح الحلقوم، ويحصَّل ما في الصدور.(174/1)
حال العبد عند خروج روحه
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوا العباد أيهم أحسن عملاً، قسمهم إلى قسمين: فمنهم شاكرٌ ومنهم كفور، وأحمده وأشكره وأساله أن يُوفقنا إلى صالح الأعمال والأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلها آخر كلامنا من الدنيا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله عزَّ وجل، واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
عباد الله! هل تعلمون ما ذلك اليوم؟ هو والله يوم القيامة يوم الطامة الكبرى يوم الصاخة يوم القارعة يوم الحاقة يوم الواقعة يومٌ تشقق السماء فيه بالغمام يومٌ تُفتح فيه السماء فتكون أبواباً، فينزل من كل سماءٍ ملائكتها ليحيطوا بأهل الموقف في ذلك اليوم العظيم، الذي يتجلَّى فيه الرب لفصل القضاء، الذي ينزل فيه الرب -جل وعلا- لفصل القضاء بين الخلائق.
عباد الله! إذا تحقق ذلك وآمنا به، علمنا حق اليقين أن هذه الحياة الدنيا لا بد لها من الزوال، وأنها دار ممر وعبورٌ إلى الآخرة، وأننا سننتقل منها إلى ما قدَّمنا من الأعمال، فتذكروا -عباد الله- حالتكم عند حلول الآجال، ومفارقة الأوطان والأهل والعيال، ومفارقة الأصدقاء الذين تأنسون بهم ويأنسون بكم.
تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم، وأنتم مُقبلون إليها، مُدبرين عن الدنيا؛ تذكروا حالة الاحتضار، وعند نزول ملك الموت، هل أنت إذا قيل لك: قل: لا إله إلا الله تُبادر وتجيب؟ وتقول: لا إله إلا الله؟
أم تتلعثم ويثقل لسانك، وتجمد الأعضاء، وتفكر، وتقول: بما أمضيت من سيئ الأعمال.
عباد الله! {إن المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه؛ كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من الجنة، وحنوطٌ من الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان} يالها من فرحة وسرور يُقابل بها المؤمن عند خروجه من الدنيا! {يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيَّ السقا، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، فيجعلوها في ذلك الكفن، الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض؛ فيصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟
فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتح له فيفتح له، ويشيعه من كل سماء مُقربوها، إلى السماء التي تليها -إلى السماء السابعة- فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض فإني منها خَلَقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارة أخرى، قال: فتُعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه.
فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
فيقول: هو محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقولان له: وما علمك؟
فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفتح له في قبره مدَّ البصر، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، ويقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريحٍ جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح لها فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السُّفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما دينك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
فيقول: هاه هاه لا أدري، فيضربانه بمرزبة من حديد، فيغاص في الأرض سبعين ذراعاً، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة}.
عباد الله! هذا الذي يحصل بعد الموت وفي القبر، فقسمٌ من الناس توفاهم الملائكة طيبين يقولون: سلامٌ عليكم ألا تخافوا ولا تحزنوا ويبشرونهم بالجنة، وبما فيها من النعيم المقيم، وقسمٌ من الناس توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50].(174/2)
الاستعداد ليوم المعاد
عباد الله! أين الاستعداد لذلك اليوم؟ وأين الاستعداد لنزول الموت؟ وأين الاستعداد للقبور؟
يا عباد الله: إذا حملتم إلى القبور، وانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال، ومسحتم من القصور والعمائر والفلل؛ فإما خيرٌ تسرون به إلى يوم القيامة، وإما شرٌ تجدون به الحسرة والندامة.
عباد الله: رُوي أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان إذا دخل منزله يبكي حتى الصباح، وفي يومٍ زاد بكائه حتى أبكى أهل البيت، فلمَّا سمعهم الجيران كانوا يبكون معهم، فأتوا إليه فقالوا: يرحمك الله، ما هذا البكاء قال: [[تصورت يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا أدري أين أكون؟]].
عباد الله! تذكروا دائماً هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومروا على القبور واعلموا أنها ستكون لكم مساكن كما سكنها من قبلكم، سوف تصف عليكم اللبنات، ويستوي عليكم الليل والنهار، سوف تنقلون عن فسيح الديار، وتدخلون في القبور وهي أول منازل الآخرة، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
اللهم هون علينا سكرات الموت، واجعل القبر لنا بعد منازل الدنيا أفسح المنازل، وآمن خوفنا يوم الفزع الأكبر، واجعلنا ممن يُعطى كتابه بيمينه، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.(174/3)
خطر الاغترار بالدنيا
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله حق تقاته، واستعدوا لما أمامكم يوم العرض الأكبر على الله عز وجل، حين ينقسم الناس إلى قسمين: سعداء وأشقياء.
فأما السعداء؛ ففي روضات الجنات لهم فيها ما تشتهي أنفسهم، ولهم فيها ما يدَّعون، لهم فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها الشاب المسلم! اتق الله، ولا تغتر بزخارف الحياة الدنيا.
مع الأسف الشديد! أن بعض الشباب يستقيم أحياناً ويتردى أحيانا، إما تكذيباً لوعد الله أو مخادعةً لأمر الله، أو فيه صفة من صفات المنافقين الذين يُخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم، أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
إنه من المؤسف يا عباد الله! أن نرى في عامٍ مضى بعض الشباب الذين استقاموا، ثم نراهم قريباً قد انحرفوا وانجرفوا وراء التيارات، وانزلقوا وراء ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم في الدنيا، والله ثم والله كلُّ ذلك بسبب جلساء السوء الذين لا يعينون على الخير ولا يدعون إليه، بل همتهم كلها الدعوة إلى الشر والترغيب فيه، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها الشاب: أنسيت وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله}؟
أنسيت أيها الشاب هذا الوعد المحقق من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]؟
استقطعت هذه الحياة الدنيا، فما متاع الحياة الدنيا إلا غرور، فما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، فاتق الله أيها الشاب لا تهدم الأعمال الصالحة لا تنحرف لا تدبر بعد أن أقبلت إلى الله، لا تحرم نفسك ذلك الموضع الذي يغبطك عليه من في الموقف أجمعين، أنت تحت ظل عرش الرحمن، وعلى مائدة الرحمن، تأكل وتضحك وتتبسم، وغيرك في الحساب واقفون قد ألجمهم العرق، وغاص بهم في الأرض منهم سبعون ذراعاً.
فلا تحرم نفسك -أيها الشاب- هذا الفضل العظيم، ولا تغتر بدعاة الزور، ولا تجالس جلساء السوء لا كثرهم الله.(174/4)
التحذير من رفقة السوء
عباد الله: من كان له شابٌ مستقيم فليحافظ عليه من جلساء السوء؛ فإنهم كثروا في هذه الأزمنة -لا كثرهم الله- وما أتوا إلا بدسائس من أعداء الإسلام، الذين حسدوا المسلمين على هذا الإسلام، وعلى هذا الدين، ويريدون أن يجترفونهم معهم، ويصحبونهم معهم، في صحبة إمامهم ومقدمتهم الشيطان في نار جهنم، حيث يخطبهم ويقول: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
عباد الله! الحذر الحذر من مضلات الفتن، والحذر الحذر من البدع المحدثة التي داهمت المسلمين في البيوت والأسواق وفي كل محل من محلاتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم يا مُقلِّب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك}.
فيا أيها الشاب! عليك بالإكثار من هذا الدعاء: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك": {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
أسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يهدي ضال المسلمين، اللهم اهدِ ضال المسلمين، وثبت مهتديهم يا رب العالمين!
اللهم ثبت مهتديهم يا رب العالمين!
اللهم من كان مهتدياً ومستقيماً فزده من الهدى والتقى حتى يلقاك يا رب العالمين!
ومن كان منحرفاً فاهده الصراط المستقيم حتى تنقذه من الهاوية يا رب العالمين!
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ولا مفتونين ولا مغيرين ولا مبدلين، وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين!
عباد الله! اعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الناصح الأمين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين؛ امتثالاً لرب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد دائماً وأبداً إلى قيام الأشهاد، وبارك عليه كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وارزقنا اتباعهم يا رب العالمين!
اللهم ارزقنا اتباعهم يا رب العالمين!
وارزقنا الاقتداء بهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام!
يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وارزقنا الإخلاص في أعمالنا وأقوالنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا وأقوالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم افسح لهم في قبورهم، واجعلها لهم روضة من رياض الجنة، خاصة بذلك المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات يا رب العالمين!
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين!
اللهم ارحمنا جميعاً بواسع رحمتك إنك على كل شيء قدير.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، أكثروا من ذكر الله تحيا قلوبكم، وزوروا القبور؛ فإنها تذكركم بالآخرة، واشكروا الله على هذه النعم التي ترفلون بها، وتتقلبون فيها ليلاً ونهاراً، اشكروا الله على هذه النعم، واغتنموها بصالح الأعمال، قبل أن يأتيكم ما يشعركم يا عباد الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، واستغفروا ربكم إنه هو الغفور الرحيم.(174/5)
أهوال يوم المحشر
إن الله سبحانه وتعالى وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال في كتابه الكريم وبما أوحى به إلى نبيه مما ذكره في حديثه الشريف، وإن أحوال الناس في ذلك اليوم العصيب تختلف؛ فمنهم المؤمن الناجي بعمله، ومنهم الكافر الهالك بعمله، ومنهم المنافق المكردس في جهنم بنفاقه وكذبه ودجله.(175/1)
حال الناس يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، الذي أوضح سبل هدايته، وحرض أولياءه لطاعته وعبادته، فساروا على نهجٍ قويم، وواصلوا السير في طريقهم إلى رضوان الله، وخالفهم آخرون فاتبعوا أهواءهم وجاءهم الأجل المحتوم، وهم مفرطون، فصدق الله رب العالمين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! ما هذه الغفلة؟ وما هذا الإعراض؟ والبعض من الناس صار يعكف على آلات اللهو استماعاً ونظراً، والبعض من الناس ذهبت عنه الغيرة، وصار يرتكب المحرمات من الزنا واللواط أذهب عمره فيها، وانفد أمواله فيها، وصارت حياته حياة الأنعام، والبعض من الناس أذهب عمره في القيل والقال والغيبة والبهتان، والبعض من الناس أنهك حياته وأمواله في المخدرات والمسكرات وبعضهم باع محارمه بشيء من المخدرات والمسكرات، باع عرضه، حتى إن بعضهم ركب أمه ومنى بها لما فقد شعوره بشرب المسكرات.
نعم.
يا عباد الله! زيادة على ذلك ما ظهرت في الأزمنة المتأخرة من نساء كاسياتٍ عارياتٍ مفتوناتٍ فاتنات، كل هذا ظهر دون خوفٍ من الله جل وعلا، ومن جبار الأرض والسماوات، وما ذاك يا عباد الله إلا أن الإيمان قد نقص عند الكثير من الناس، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فأين الإيمان ممن تجرءوا على محارم الله ومعاصيه؟! أما علم أولئك أنهم سوف يهجم عليهم الموت، وسوف ينقلون إلى حفرٍ ضيقات، وإن من مات فسوف يرى في قبره ما قدم، إن كان من أهل الجنة فقبره روضة من رياض الجنة، وإن كان من أهل النار، فقبره حفرة من حفر النار.
يا عباد الله! ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن نعيم القبر وعذابه حقٌ ثابتٌ لا مرية فيه ولا شك، ولا ينكر ذلك إلا ملحدٌ معاند، ثم لا يعلم مدة المكث في هذه القبور إلا الله عز وجل، فإذا تمت هذه المدة المقدرة لهذا العالم أمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور، قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] يقومون من قبورهم لرب العالمين، تصوروا ذلك القيام يا عباد الله! حفاةً عراةً غرلاً فرادى كما خلقوا أول مرة، ليس معهم شيء سوى أعمالهم من حسناتٍ وسيئات.
عباد الله! إن أمر القيامة عظيم، وشأنها جسيم، وموعدها قريب.
أجل أيها العاصي ما الذي جرأك على أن تعصي الله، وأنت سوف توقف بين يديه يوم القيامة؟!(175/2)
أهوال يوم القيامة
أيها الغافل! تذكر يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة؟! إنه يومٌ يقرع القلوب هولاً، يومٌ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش، وتدنو الشمس فيه من رءوس الخلائق، ويشتد الحر ويعظم الهول، ويوم القيامة {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] يوم القيامة تبرز الخلائق لله الواحد القهار، والملائكة محيطة بهم صفاً صفا، إنه يومٌ عظيم، يتناسى فيه الحبيب حبيبه، وتنقطع الأسباب، ويتبرأ الأنساب، ويفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، يوم القيامة يوم يشيب فيه الولدان لشدة هوله، يوم القيامة يومٌ تضع الحوامل فيه حملها، يومٌ تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت، يوم القيامة ما أطوله حيث يقدر بخمسين ألف سنة، هل نسيت ذلك اليوم أيها العاصي حتى تجرأت على محارم الله {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23] إنه يومٌ عظيم، يجاء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرونها، إنها جهنم لها تغيظ وزفير، إذا كنت تعرف جهنم فما الذي أقدمك على معاصي الجبار؟! في ذلك اليوم العظيم يحاسب الله جل وعلا الخلائق ويجزي كلاً بعمله {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا} [آل عمران:30] في ذلك اليوم يعطى كل إنسان نتيجته وبينهم تفاوت في ذلك الموقف العظيم؛ منهم المسرور الفرح، ومنهم المظلوم الترح، أما المؤمنون فتبيض وجوههم، وتثقل موازينهم بالحسنات، ويردون حوض نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.(175/3)
حال أهل الجنة
نعم.
يا عباد الله! أما المؤمنون فتبيض وجوههم، وتثقل موازينهم بالحسنات، ويردون حوض نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم؛ الحوض الذي هو أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً، ويمرون على الصراط الذي وقف الأنبياء بجانبيه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم واقف على طرف الصراط ويقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.
أمة الإسلام! أين الاتعاظ؟! أين التذكار لذلك اليوم العظيم؟! يوم القيامة الذي قال الله فيه للمؤمنين المطيعين: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] يتلقاهم خزنتها ويسلمون عليهم ويهنئونهم بسلامة الوصول إلى دار النعيم، هنيئاً لنا إن كنا منهم، ثم هنيئاً لنا إن كنا منهم، ويسلمون عليهم ويهنئونهم بالسلامة من عذاب الجحيم، يهنئونهم بما في الجنة من الخلود الأبدي فيما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من نعيم القلوب والأرواح والأبدان، وتمام ذلك أن يحل عليهم الرب جل جلاله رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ويقال لهم: {إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تناموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً} ولهم نعيمٌ أعلى وأجل من ذلك وهو التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع خطابه، والابتهاج برضاه، عند ذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].(175/4)
حال أهل النار
أمة الإسلام! يا من تريدون النجاة من النار، يا من تريدون أن تزحزحوا عن النار وتدخلوا الجنة، الله الله جدوا في المسابقة إلى طاعة الله، وإن طريقها يسير على من يسره الله عليه، هو الإيمان الصادق، والعمل الصالح، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، والتوبة النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات، والإنابة إلى الله تعالى في كل وقتٍ وحين، وكثرة ذكره ودعائه واستغفاره حتى تنجو من النار، وما أدراك ما النار؟ هي مأوى الكفار والمجرمين والمشركين والعصاة، ومأوى الملحدين فإنهم يخرجون من قبورهم قلقين فزعين مرعوبين خائفين {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] فيحاسبهم الله على ما أسلفوا من الجرائم، ويجزيهم بين الخلائق، وعلى رءوس الخلائق، فتسود وجوههم، وتخف موازينهم من الحسنات، ويعطون كتب أعمالهم بشمائلهم، ويساقون إلى جهنم حفاةً عراةً قال الله تعالى في حقهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:70 - 71].
ويقول الله لهم أيضاً بعدما يسألونه بعد حين طويل: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ففي ذلك الحين يأخذون في الزفير والشهيق، وييئسون من كل خير ومن كل فرجٍ وراحة، ويستيقنون الخلود الدائم، والعذاب الأبدي المستمر.
عباد الله! ما أشد شقاهم! وما أعظم عناهم! ينوع عليهم العذاب، تارةً يعذبون بالسعير المحرق لظواهرهم وبواطنهم، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب الأليم، وتارة بالزمهرير الذي بلغ من برده أنه يهرى اللحوم، ويكسر العظام، وتارة يعذبون بالعطش والجوع المفزع، ثم يسقون ويطعمون بالغسلين والزقوم والضريع، ومع ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.
فالحذر الحذر عباد الله! أنتم في وقت الإمهال، أنتم في هذه الدنيا في دار المزرعة والعمل فاعملوا صالحاً، اللهم وفقنا وأيقظنا من رقداتنا، اللهم ارزقنا الاستعداد لما أمامنا، اللهم نبهنا من غفلاتنا، اللهم نجنا من النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(175/5)
إلى متى الغفلة؟!
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشكره وأسأله من فضله العميم، وأعوذ به من نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه المسارعين إلى الخيرات، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! إن الله جل وعلا قد حذركم من أليم عقابه، وتوعد العاصين بالنار؛ فاحذروا -عباد الله- النار فإنه لا صبر لكم عليها، ولا مهرب لكم منها ولا فرار، ولن ينجيكم منها إلا تقوى الله عز وجل، والتمسك بكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! الله الله بادروا بالأعمال الصالحة لعلكم تنجون من عذاب النار.
عباد الله! بينما الناس في كرب القيامة وأهوالها إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأطلت عليهم نارٌ ذات لهب، وسمعوا لها تغيظاً وزفيراً من شدة الغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالغضب، وجثت الأمم على الركب، عاين الظالمون سوء المنقلب، وخرج المنادي قائلاً: أين فلان بن فلان المسوف نفسه بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، المضيع عمره عند آلات اللهو عند الأغاني والتمثيليات، عند اللعب بالليل؛ لعب القمار والميسر، اللعب بالورق الذي والله ثم والله إن بعض الناس عادت حالتهم تحزن وتنذر بعذابٍ أليم، وتنذر بموت قلوبهم وبعدهم عن الله وعن شرع الله، أجل يا عباد الله كيف يسهرون طول الليالي مع اللعب ثم ينزل ربنا جل وعلا إلى السماء الدنيا وهم في لهوهم ولعبهم ساهون؟! إنها والله ماتت القلوب ولم تعمل للحي القيوم، فهذا والله ينذر بعذابٍ أليم، ولكن الناس لم يفكروا إذا أصابتهم المصائب والكوارث لأي شيء أصابتهم هذه الكوارث والمصائب ولو رجعوا لأنفسهم لرأوا أنهم هم الذين جنوا على أنفسهم باقتراف المعاصي والسيئات، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فأيها المسوف بالتوبة! أيها المضيع لعمره! استمع يوم القيامة إذا نادى المنادي: أين فلان بن فلان المسوف نفسه بطول الأمل؟ المضيع عمره في سوء العمل؟ فيبتدرونه بمقامع من حديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وما فيه من الزمهرير والصديد، فعياذاً بالله من النار وما فيها من العذاب.
عباد الله! أسأل الله عز وجل أن يمن علينا جميعاً بالتوبة النصوح، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يوقظنا من رقدة الغفلة إنه على كل شيء قدير.
صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاةً صلى الله عليه بها عشرا} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين', وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم يا واحد! يا أحد! يا فرد يا صمد! يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنزل بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، اللهم مزقهم تمزيقا، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم فإنه لا حول ولا قوة إلا بك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات في جنات الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين،
اللهم ارفع عنا الغلاء والربا والزنا واللواط، والتبرج والسفور وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين!
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اكفنا شر الأشرار يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(175/6)
تذكَّروا
إن الله جل وعلا قد حذرنا من أهوال يوم القيامة وما فيه، كي يستعد له المسلم بالأعمال الصالحة؛ فذكر الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وما بعده، وذكر تطاير الصحف، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، وذكر الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، كل ذلك للذكرى والاتعاظ والاعتبار، وهذا هو ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله في خطبته هذه.(176/1)
مواقف للذكرى والاعتبار
الحمد لله الذي رفع قدر ذوي الأقدار عن الركون إلى هذه الدار، ومنح صفاء إحسانه لأهل تلك الدار، ونزَّل تصاريف الأقدار في أهل الجنة والنار، فسبحان مَن يسَّر كلاًّ لما خُلق له والذي قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] أحمده سبحانه وأشكره، وللشكر على أصحاب الشكر آثار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الناصح الأمين، والبشير النذير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلِّم تسليماًَ كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
ويقول جلَّ وعَلا: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19].
ويقول جلَّ وعَلا: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:15 - 17].
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعتُ مثلها قط، فقال صلى الله عليه وسلم: {لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
وزاد أبو ذر في روايته: ولَمَا تلذذتم بالنساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعَدات تجأرون إلى الله} وفي رواية: {عُرِضَت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.
فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه، فطأطؤا رءوسهم ولهم خنين، أي: جعلوا يبكون؛ لأنهم -رضي الله عنهم- أدركوا بقوله صلى الله عليه وسلم: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} أدركوا صوراً شتى ذَكَروا الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم المقيم وذَكَروا النار وما فيها من النكال والعذاب الأليم ذَكَروا عظمة الجبار في انتقامه من الظالمين والعصاة ممن اتبع هواه وكان من الغاوين.
وأنتم يا عباد الله! تذكروا أن الدنيا دار فناء ولا بقاء لها ولا لأهلها، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]!
تذكروا النهاية المحتومة لكل حي، وما يكون في آخر المرحلة من نزع الروح والاحتضار، ومعاناة سكرات الموت! ويا لها من سكرات!
تذكروا جمود العينين، ويَبْس اللسان! ووقوف الجنان عن النبضات!
تذكروا وأنتم جثث هامدة، قد انقطعت منكم الآمال!
تذكروا صورة البعث والنشور، وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين!
وقبل ذلك: تذكروا القبر! واعلموا أن عذاب القبر ونعيمه حق لا مرية فيه، إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
تذكروا قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، حُفاةً عُراةً غُرْلاً في موقف القيامة وأهواله!
تذكروا دُنُوَّ الشمس من الخلائق!
تذكروا تطاير صحف الأعمال، إما إلى اليمين وإما إلى الشمال!(176/2)
الصراط وما بعده
تذكروا صورة المرور على الصراط منصوباً على متن جهنم، أنتم فوقه تسيرون وجهنم تحتكم تزفر!
تذكروا الصراط ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عنده يقول: {اللهم سَلِّم سَلِّم}!
تذكروا كلاليب جهنم، وهي تخطف الناس إلى الهاوية!
تذكروا ذلك الصراط الذي هو أدق من الشعر، وأحد من السيف، يجتازه الناس على قدر أعمالهم، حتى يكون منهم من يُجْتَذَب إلى النار!
وتذكروا صور العذاب في النار؛ من حر وسَموم، وزمهرير وزقوم!
وتذكروا الزبانية الغلاظ الشداد!
تذكروا أهلها ينادُون ويستغيثون، لهم فيها بالويل ضجيج، أمانيُّهم فيها الهلاك، وما لهم من أسر جهنم فكاك قد شُدِّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ذل المعاصي ينادُون من فجاجها وشعابها بُكِيَّاً من تَعاظُم العذاب: يا مالك! قد أثقلنا الحديد يا مالك! قد نضجت منا الجلود يا مالك! قد تفلذت منا الكُبُود يا مالك! العدم خير من هذا الوجود يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود فيجيبهم بعد زمان: {قَالَ اخْسَئُوا فِيْهَا} [المؤمنون:108] ولا بد من الخلود!
أين هذا البكاء وأنتم تكفرون؟! أين هذا البكاء وأنتم تزنون؟! أين هذا البكاء وأنتم تلوطون؟! أين هذا البكاء وأنتم تغشون وتخدعون وتمكرون؟! أين هذا البكاء وأنتم تمترون؟!
ثم يجيبهم الله جلَّ وعَلا قائلاً مصداقاً لقولهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78]!
تصوَّر يا عبد الله! إن كنت عاصياً ومِتَّ على غير توبة، تذكر نفسك وأنت في أودية جهنم تهيم، ومن طعامها وشرابها تأكل صباحاًَ ومساءًَ! تذكر إن مت على المعاصي والذنوب! تذكر جسمك هل يتحمل هذا العذاب!(176/3)
الجنة وما أعده الله للمتقين فيها
عباد الله: تذكروا أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، التي لا يعتريها نقصٌ، ولا زوالٌ، ولا انحلالٌ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا} [الكهف:107 - 108] يا عبد الله، أين عقلك؟! فرِّق يا مسكين! فرِّق بين النعيم والجحيم! {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:108].
يا غشاش لنفسه! فرِّق بين الجنة والنار، وبين الصحيح والسقيم.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: {أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا ذلك في كتاب الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}
عباد الله: إنها الجنة! التي لا يَخْرب بنيانها، ولا يَهْرَم شُبَّانها، ولا تبلى ثيابهم، سالمة من الأنجاس، والأكدار، والتنغيصات، والأمراض، والأسقام: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26].
ويقول الله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15].
اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، ولا تجعلنا من أهل الجحيم يا رب العالمين.
عبد الله: تزوَّد واستَعِد، فإن أمامك سفر طويل، ومكث في القبور لا يعلم مدته إلا الله، وجليسُك فيه الأعمال، فإن كانت صالحة؛ فهنيئاً لك، وإن كانت سيئة؛ فيا ويلك على مر الأزمان.
اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين، اللهم أحسن ختامنا يا رب العالمين، واجمعنا ووالدِينا ووالدِي والدِينا وجميع المسلمين والمسلمات في جنات النعيم يا رب العالمين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(176/4)
نشر الصحف وشهادة الأعضاء على الإنسان
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛ أحمده سبحانه القائل عن نفسه: {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلَّم تسيلماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
اتقوا يوماً يوضع فيه الكتاب، وتلاقُون فيه الحساب، يوماً يُنشر لكم فيه واضحاً ملف أعمالكم، وديوان حصيلتكم من خير أو شر {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
ويقول جلَّ وعَلا: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].
ويقول جلَّ وعَلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن أنس رضي الله عنه قال: {كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألَمْ تُجِرني من الظلم؟! فيقول سبحانه: بلى.
فيقول: إني لا أقبل اليوم شاهداً إلا مني.
فيقول تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] والكرام الكاتبين شهوداً.
فيُختم على فيه، فيقول لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله -نعوذ بالله من الخزي والندامة، ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة- ثم يُخَلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْداً لكن وسُحقاً! فعَنْكُنَّ كنت أناضل}.
فاتقوا الله -يا عباد الله- من ذلك اليوم العظيم، والهول الجسيم، اتقوا ذلك الموقف الذي ستُقْدِمون فيه للمساءلة والمحاسبة، وسيُوقَف كل منا بين يدي الله عزَّ وجلَّ متخلياً عنه أقرب قريب، وأصدق صديق، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
عباد الله: اسألوا الله عزَّ وجلَّ أن يخفف عليكم الحساب، واسألوه أن يحسن لكم الخاتمة، ودائماً أكثروا من قول: يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.
حتى تلقوا ربكم، وأكثروا من قول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، محمد بن عبد الله الذي أمركم الله أن تصلوا عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل.
اللهم أذل الشرك والمشركين اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، بعيدين أم قريبين يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك، وأعلِ كلمتك اللهم انصر الموحدين من عبادك، واجمع قلوبهم على الحق يا رب العالمين، ووحِّد صفوف المسلمين أجمعين اللهم اجعلهم يداً واحدة على من عاداك، وعادى رسولك، وعادى المؤمنين يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المؤمنين، اللهم انصرهم بنصرك، وأيدهم بتأييدك، اللهم انصرهم بنصرك، وأيدهم بتأييدك اللهم ثبت أقدامهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، اللهم قد قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وأنت يا ربنا لا تخلف الميعاد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، نسألك أن تغيثنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سَحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم انشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا وإليه المعاد!
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أرسل السماء علينا مدراراً.
لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، أنت ولينا في الدنيا والآخرة.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، يا مغيث اللهفات، ويا مفرج الكُرُبات، ويا مُوْهِِن الشدائد والبليات، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، اللهم انشر رحمتك على العباد.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وسلِّم تسلمياً كثيراً إلى يوم الدين.(176/5)
تذكروا قصة الثلاثة
إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق بطبيعتهم في التفريط والتقصير، وقد قال رسول الله: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) ففي هذا ظهور للرحمة والمغفرة من الله على عباده.
والواجب على كل من عصى الله أن يقلع عن معصيته ويصدق مع الله، ويتوب التوبة النصوح، حتى لا يدركه الموت وهو على غير طاعة الله، فيختم له بخاتمة السوء.(177/1)
قصة الثلاثة الذين خلفوا
الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وبادروا بالتوبة إلى الله ما دمتم ممهلين.
عباد الله! إن للتوبة النصوح شأناً عظيماً، فإن التائب يكون عنده إقبال على طاعة الله عز وجل، وهذا من علامة قبول التوبة، وكذلك التائب يكون من أحباب الله عز وجل، وإذا أحبه الله وضع الله له القبول في الأرض، فأحبه أهل السموات والأرض.
عباد الله! إن للتوبة النصوح شأناً عظيماً، قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
عباد الله! من هم هؤلاء الثلاثة؟
يفسر لنا هذه الآيات أحد الثلاثة وهو كعب بن مالك رضي الله عنه فيقول: {لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أعظم في الناس منها.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، وغزاها صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كبيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن ذلك أنه سيخفى عليه ما لم ينزل به وحي من الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعِّر -أي: أميل، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، حتى إذا أردت فما يزال يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، ولم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتطارق الغد، فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت!
ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بـ تبوك: ما فعل كعب بن مالك؟
فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت فيه، والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يجول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري.
قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً، وأستعين بذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، حتى أردت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر صلى الله عليه وسلم بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
أي اشتريت، قال: قلت: يا رسول الله! إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر فلقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، وإن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، ما كان لي من عذر يا رسول الله، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك.
وسار رجال من بني سلمة فتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟
قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟
قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقدي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدراً فيهما أسوة، قال: فمضيت حينما ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه، قال: فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
قال: حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
فسكت، فعدت مناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، فتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بـ المدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً؛ أي: أقرأ، فقرأت فإذا فيه، أما بعد:
فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها.
حتى مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني رسول الله أرسل إلينا- يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضايع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟
قال: لا.
ولكن لا يقربنك.
فقالت: والله ما به من حركة إلى شيء، فوالله ما زال يبكي منذ أن كان من أمره ما كان إلى يومه.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟}.(177/2)
توبة الله على الذين خلفوا
{قال كعب: فلبثت بذلك عشر ليال، تكمل لنا خمسون ليلة، من حين نهى عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر، يا كعب بن مالك! أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء الفرج.
فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساع من أسلم قبليّ، وأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لتهنئك التوبة، لتهنئك توبة الله عليك.
فدخلت المسجد وإذا برسو ل الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لـ طلحة.
قال كعب: ولما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا.
بل من عند الله عز وجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، فقلت: إني ممسك سهمي الذي بـ خيبر.
فقلت: يا رسو ل الله! إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى بما بقي، قال: فأنزل الله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:117 - 119].
قال كعب رضي الله عنه: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين سبقوا}.(177/3)
فوائد من قصة الذين خلفوا
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(177/4)
أهمية الصدق مع الله
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وكونوا من الصادقين، اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله {فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
أيها المسلمون! إن الصدق بجميع أنواعه محبوب، وإن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق، إن الله يرفع ذكره، ويزيد أجره، وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين، في حياتهم وبعد مماتهم.
نعم.
أهل الصدق أخبارهم مقبولة، وأماناتهم موثوقة، يكفي لذلك ما حصل لـ كعب بن مالك رضي الله عنه عندما صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
نعم يا عباد الله! إن هذه هي الغبطة، والنعمة والفائدة الكبيرة.(177/5)
مشروعية هجر أهل الفسق والمعاصي
عباد الله! لقد سمعتم ما حصل لهؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم من الهجر والمقاطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة رضي الله عنهم، ومن أقاربهم؛ وذلك من تمام الإيمان، امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هجروهم وقاطعوهم، حتى ضاقت الحال، وتراكمت الكربات، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى جاء الفرج من الله، فتاب الله عليهم، وأعلنت توبتهم في كتاب الله، تتلوها الأمة إلى يوم القيامة.
أما الذين نافقوا وكذبوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96].
أيها المسلمون! اعتبروا بهذه الآيات، يا ليتنا نطبق هذا الأدب الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة.
هل نهجر تارك الصلاة؟
هل نهجر المتخلف عن الصلاة؟
هل نهجر الفساق الذين أعلنوا فسقهم بين الناس بدون حياء ولا خوف من الله؟
إذا أردنا أن نتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلنهجرهم ولننابذهم حتى يرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه، اعتبروا بهذه الآيات وطبقوها يا عباد الله، وانظروا ما تختارون لأنفسكم، فلن يرضى المؤمن إلا أن يكون مع الصادقين المتقين.
عباد الله! صلوا على الناصح الأمين، صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين يا رب العالمين! اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم قيض لولاة أمور المسلمين جلساء صالحين ناصحين وعلماء عابدين يدلونهم على كل خير ويحذرونهم من كل شر يا رب العالمين!
لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك، ارحمنا اللهم بواسع رحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم إنك قلت وقولك الحق {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغثياً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم أنت أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأرحم بنا من أنفسنا، يا أرحم الراحمين!
اللهم لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك آيسين، ولا من عطائك مفلسين، اللهم ها نحن عبادك ببابك واقفين، اللهم لا تردنا خائبين، يا إله الأولين والآخرين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم، ولا بلاء ولا غرق، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على واسع نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(177/6)
احذروا الفتن
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في آخر الزمان من الفتن والمحن، وهاهو عصرنا يشهد بعضاً منها؛ كقلة العلماء وكثرة أهل الضلال، والشح والطمع وإضاعة الأمانة، والحرص على اكتساب المال من حلال أو حرام وهذا هو ما تحدث عنه الشيخ، وبين أهمية محاربة الفتن والحذر منها، وترك الشبهات، واكتساب المال الحلال.(178/1)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن آخر الزمان
الحمد لله عالم السر والنجوى، أحاط علماً بجميع الكائنات فلا تخفى عليه خافية، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، المبين عن ربه شرعه المنتقى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن لنهجهم اقتفى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أمة الإسلام: تمسكوا بدينكم، واحذروا مما يصدكم عنه من مال وأهل وولد: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
أمة الإسلام: احذروا فتنة القول وفتنة العمل، وفتنة العقيدة والآراء الهدامة والمشاهدات السيئة؛ فإن ذلك كله يصدكم عن دينكم، ويوجب هلاككم والعياذ بالله.
أمة الإسلام: انظروا إلى سلفكم الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، واسلكوا طريقهم؛ فإنكم بذلك أمرتم، وبذلك تفلحون، إن شاء الله.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بما سيكون إلى قيام الساعة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بفتن في آخر الزمن، أخبرهم لعلهم يحذرون ويتقون ويرجعون إلى ما كان أسلافهم عليه ويتمسكون به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتنة الدين بما يحدث من المغريات المادية والفكرية، فقال صلى الله عليه وسلم: {بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا}.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتنة الجهل والطمع والفوضى، فقال صلى الله عليه وسلم: {يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرجْ قالوا: يا رسول الله! وما الهرج؟ قال: القتل} متفق عليه.(178/2)
قلة العلماء وكثرة أهل الضلال
أمة الإسلام! لقد كاد أو قرب قبض العلم، وقل العلماء؛ قل العلماء الربانيون، قلّ أهل الخشية لله تعالى، وأهل الهداية، إن العلم حقيقة هو العلم النافع؛ الذي يكون صاحبه قدوة في الخير والصلاح والزهد والروع، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
لقد ظهرت الفتن شتى من كل نوع ومن كل جهة ظهر الطعن في الإسلام، والتشكيك في الدين، وتزييف الناس فيه، وسلب محبته من قلوب الناشئين، ومحاولة إبعادهم عن هذا الدين الحنيف بكل المحاولات والمغريات المعروفة والتي انتشرت بين الخافقين بكثرة.
أيها المسلمون: لقد تصاعدت الفتنة من جزئيات الدين وفروعه إلى أصوله وأركانه، وتطورت الفتنة من الأفراد والأقليات، وتلك طامة كبرى، ومصيبة عظمى، أن تتدرج الفتن هذا التدرج، وتتوسع هذا التوسع في حجمها وشكلها اللهم إنا نسألك الثبات على الإسلام، اللهم إن نسألك الثبات على الإسلام، اللهم إن نسألك الثبات على الإسلام.
أيها الإخوة في الله: شيوعية، ويهودية، وماسونية، ونصرانية، وإلحادية، ومجوسية، ووثنية؛ كل هؤلاء يحاولون الوثب على الإسلام، ولكن نسأل الله الحي القيوم أن يجعل شرورهم في نحورهم، وأن يردهم خائبين إنه على كل شيء قدير.
أمة الإسلام: كونوا على يقظة مما يدبره لكم الأعداء، ومما يجتمعون من أجله ليصدوكم عن دينكم، فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {قلت: يا رسول الله! هل بعد هذا الخير الذي جئت به من شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: وهل بعد ذلك من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا} فقد ظهر هذا -يا عباد الله! - ولكن خذوا حذركم، وتمسكوا بكتاب الله وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.(178/3)
الشح والطمع وإضاعة الأمانة
عباد الله: لقد ألقي الشح والطمع في قلوب بعض العباد؛ حتى منعوا الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة، وطمع البعض من الناس فيما ليس لهم به حق، وكثرت الفوضى والقتل، ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فتنة الأمانة، وأنها سترفع في آخر الزمان حتى لا تكاد ترى أميناً.
ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد قبضت الأمانة إلا ما شاء الله، ولقد صار الأمناء يعدون بالأصابع، فترى القبيلة ليس فيها إلا أمين واحد، والرجل يعجبك في عقله وظرفه وجلده، لكن ليس في قلبه إيمان؛ لأن الأمانة نزعت منه، ومن أراد أن ينظر إلى هذا ويتحقق منه؛ فليدخل إلى أسواق المسلمين، ويرى ما فيها.
ولقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة} رواه البخاري.(178/4)
الحرص على المال وكسب الحرام
عباد الله: ألا وإن من الفتن الكبيرة العظيمة: فتنة المال، وقلَّ من يسلم منها، قلَّ من يأخذ المال من وجهه ويصرفه في وجهه المشروع، فكان عند الكثير من الناس الحلال ما حل في يده بأي طريق كان، والمصروف منه ما صرفه في هواه ولو في الحرام، نستجير بالله من مضلات الفتن.
قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام} رواه البخاري.
ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الكثير من الناس لا يبالون بالمال من أي وجه اكتسبوه، وكأنما خلقوا للمال وللدنيا، ولا حساب عليهم في ذلك ولا عقاب، يكسبون المال بالغش وبالكذب وبالرشوة وبالربا صريحاً أو خداعاً أو حيلة، ويكتسبون المال بالدعاوى الباطلة، وما أكثرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بالمحاماة وبغيرها، فيدَّعون ما ليس لهم، ويجحدون ما كان عليهم، ولا يؤدون أعمالهم الوظيفية، ويأخذون المرتبات كاملة من غير نقص، كل هذه الطرق التي دخل معها المال فإنه حرام لا خير فيه، وعاقبته العذاب والنكال: {وأيما جسم نبت من السحت فالنار أولى به}.(178/5)
محاربة الفتن والاستعاذة بالله منها
احذروا -أيها المسلمون- هذه الفتن واجتنبوها ما دمتم في زمن الإمكان قبل أن يهجم عليكم هادم الذات.
احذروا الفتن وحاربوها، فإنها إذا ظهرت عمت المجتمع كله، وأصابت الصالح والفاسد، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25] تقول زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: {استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمراً وجهه، يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها- قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث} رواه البخاري.
أمة الإسلام: لقد أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم أن تستعيذوا بالله من الفتن في كل صلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {إذا تشهد أحدكم -أي: قرأ التحيات- فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جنهم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال}.
اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم رب محمد النبي صلى الله عليه وسلم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وأذهب غيظ قلوبنا، اللهم أذهب غيظ قلوبنا، اللهم أجرنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(178/6)
ترك الشبهات والحرام واكتساب الحلال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واحرصوا على الحلال الطيب، وجانبوا الحرام وابتعدوا عنه، واسمعوا إلى الناصح الأمين، وهو يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه لنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فلسد الجسد كله، ألا وهي القلب}.
ومع الأسف الشديد أن الكثير من الناس استسلموا لشهواتهم، فقادتهم إلى مسالك خطرة، وسبل ملتوية مظلمة، ومن أخطر هذه الشهوات: حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، والاندفاع وراءها في كل طريق، والتعلق بالشبه الواهية لتحصيل المال من أي وجه، ولقد تعددت في زماننا هذا أبواب المال الحرام وكثرت، ووقع فيها الكثير، فأهلكوا بذلك أنفسهم وأهليهم، ومن المصادر الخبيثة المحرمة: أكل الربا والتعامل به، والغش، والخداع، والكذب، والخيانة، والرشوة، والتزوير، ويبع آلات اللهو بجميع أنواعها، وبيع الدخان الذي يباع مع الأطعمة في محلات التموينات مع الأسف الشديد، ولكن المنخدع بهواه، الذي غش نفسه، إذا قيل له في الدخان، قال: أعطونا الدليل، وكم ذكرت له الأدلة في ذلك؛ فبيع الدخان حرام، وشرب الدخان حرام، وهو لا يقل عن ثمن المسكرات.
كذلك ثمن تصوير ذوات الأرواح، وثمن الصور ذوات الأرواح محرم يا عباد الله! فاكتسبوا الحلال من طرقه واجتنبوا الحرام.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
يا عباد الله: إذا أكل الإنسان الحلال، وشرب الحلال، ولبس الحلال، وتغذى بالحلال، ورفع يديه إلى رب العزة والجلال، يقول: يا رب! يا رب! يقول الرب جل وعلا: لبيك وسعديك، يسأله فيعطيه، ويتصدق فيقبل منه، ويصلح له النية والذرية، أما إذا كان المأكل من الحرام، والمشرب من الحرام، والملبس من الحرام، والغذاء حرام، فأنى يستجاب لذلك.
اللهم أصلح أحوالنا وأعمالنا وأقوالنا واجعلنا هداة مهتدين.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على من بعثه الله بشيراً ونذيراً، أكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله أن تصلوا عليه في محكم البيان فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحابه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تبق منهم أحداً، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، نسألك بعزتك التي لا ترام، وبقوتك التي لا تضام، يا حي يا قيوم، من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، واغفر لآبائنا وأمهاتنا، واجمعنا وإياهم في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
عباد اللهّ! يا أهل المجوهرات! يا أهل الذهب! اسمعوا يا من تبيعون الذهب بالدين؛ فإنه حرام ولا يجوز، فلا يجوز بيع الذهب إلا يداً بيد، وتقابض في المجلس، فمن أدان صاحبه أو صديقه فذلك رباً لا يجوز، وهذه المعاملات تدور عند كثير من الذين يبيعون الذهب إذا أتاه صديقه أو قريبه قال: خذ من الذهب ومتى ما يسر الله عليك أعطنا القيمة، فهذا حرام ولا يجوز، فاحذروا من هذا، يا من تبيعون الذهب!
أسأل الله أن يجعلنا ممن يأكل الحلال، ويشرب الحلال، ويتغذى بالحلال، إنه على كل شيء قدير.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(178/7)
الاتحاد وجمع الكلمة
لقد أوجب الله علينا أمراً عظيماً ننال فيه كل غاية مثلى، هو مصدر عزنا ومجدنا، ألا وهو الاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والعصبية، فالاتحاد أساس كل سعادة وتقدم ورقي، وتاريخ سلف الأمة الإسلامية خير شاهد ودليل على ذلك، فلقد عاشوا في عز منيع وشرف رفيع، ولما شاعت فينا الفرقة والاختلاف، وصلنا إلى هذه الحالة من الذل والهوان، ولن نستطيع أن نصل إلى ما وصلوا إليه من الرفعة والعزة والمجد، إلا باتباع الكتاب والسنة والاجتماع ونبذ الفرقة.(179/1)
الاتحاد وجمع الكلمة مصدر عز الأمة
الحمد لله ألّف بالإسلام قلوب المؤمنين، وأوجب عليهم الاتحاد، وحرم عليهم التفرق في كتابه المبين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الحكيم، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير داعٍ إلى الطريق القويم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين صَفَتْ قلوبهم، واتحدت كلمتهم، والتقت أهدافهم في مصب واحد، وهو إعلاء كلمة الله، وعلى من تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين، وسلم تسيلماً كثيراً.
أما بعد:
يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103].
أيها المسلمون! إن كتاب الله هو حبله المتين والحق المبين؛ من وقف عند حدود كتاب الله نجا، ومن تحلى بآداب القرآن سعد، ومن تمسك بالقرآن فقد هُدي إلى الصراط المستقيم، وإن الله جلت حكمته قد أوجب عليكم في القرآن أمراً عظيماً، أنتم أطعتم الله فيه، ونفذتم الأوامر، وقمتم بحقوق الله؛ نلتم من الخير ما تحبون، وبلغتم الغاية المثلى التي تطلبون، وذلك بأن تتحد القلوب، وتتآلف النفوس، ونتعاون على الخير فيما بيننا، ونرمي بالعصبيات والجاهليات عرض الحائط، وندفن القومية والعصبية والتفرق مع الجاهلية الأولى التي دفنها الإسلام.(179/2)
الاتحاد أساس السعادة والرقي
أمة الإسلام: إن الاتحاد هو أساس السعادة، وعماد كل تقدم ورقي، فالصحابة رضوان الله عليهم ليسوا من صلب واحد، ولا من أب وأم واحدة، إنهم من أقطار متفرقة، ولكن اجتمعوا تحت ظل لا إله إلا الله محمد رسول الله، اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالاتحاد -يا أمة الإسلام- هو أساس السعادة، وعماد كل تقدم ورقي، والتاريخ الإسلامي يشهد لما جاء به الدين الإسلامي من أن الخير كل الخير في اجتماع الكلمة والتضامن، وتوحيد الصفوف، والتضحية بالمصالح الشخصية والرغبات الفردية في سبيل المصلحة العامة، فما نالت أمة من الأمم نصيباً من التقدم في شيء من شئونها إلا باجتماع الكلمة.
يا أمة الإسلام! على كل فرد مسلم واجب يؤديه، ووظيفة يجب أن يقوم بها لصالح الجميع؛ لأن كل فرد من أمة المسلمين على ثغر من ثغور الإسلام، فيجب أن يقوم بوظيفته ويؤديها بأمانة وإخلاص ووفاء.
عباد الله: فحذارِ حذارِ من التنازع والتفرق؛ فإنهما والله لمن الجنايات العظمى، والجرائم الكبرى، التي قد يدخل ضررها على العجائز في أقصى بيوتهن، نعم والله إنهما لمؤذنان بوخامة العاقبة وسوء المصير، يقول الله سبحانه وهو أصدق القائلين: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
يا عباد الله! اتقوا الله واجتنبوا التنازع والاختلاف والتفرق؛ فإن ذلك مبلبلٌ للأفكار، مهرقٌ للدماء، مؤججٌ لنار العداوة والبغضاء، وما أدراكم ما العدواة والبغضاء؟!
هي والله الغزو الموحش والحرب الطاحنة، التي طالما هزت أركاناً راسية، وأودت بمصالح، وكشفت عن خبايا.
يا أمة الإسلام: اتقوا الله واعملوا على ما يجمع كلمتكم، ويقرب وجهاتكم، فذلك أول عدة تعتدونها لقتال أعداء الإسلام، وابتعدوا جميعاً عن مغريات الأعداء التي يزرعونها في صفوف المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها؛ ليضلوكم بها عن سبيل الله، ويبعدوكم عن دينكم الحنيف، وعن أخلاقكم، وعن المثل العليا التي جاء بها الإسلام ورسم لنا خطتها.(179/3)
أهمية توحيد الصفوف ونبذ الفرقة
أيها المسلمون! ما نال سلفنا الصالح في ماضيهم ما نالوه من عز منيع، وشرف رفيع، بكثرة أعدادهم، ولا بتوفر عددهم ولا بصواريخهم، ولا بطائراتهم النفاثة، ولا بقنابلهم الذرية، ولكن نالوا ذلك بالإيمان بالله، فهو العدة القوية، والسلاح القويم؛ الإيمان بالله، وتوحيد الصفوف، ولَمِّ الشعث فيما بينهم، حتى أصبحوا يداً واحدة، ولساناً واحداً، ينبروا لصالح الإخاء والإخلاص الذي أطاح بعروش الظلم والعدوان -عروش كسرى وقيصر- ونشر لواء العدل والمساواة في أرجاء المعمورة.
وأما الآن -أيها المسلمون- فإن الحالة يرثى لها؛ لأن بعض المسلمين استبدل بحكم الكتاب والسنة الحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها أعداء الإسلام من آرائهم، ونطقت بها أفواههم، معرضين عن كلام رب العالمين؛ الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، معرضين عن سنة رسول الله التي هي أوضح من شمس النهار، لا يزيغ عنها إلا هالك، واستبدل البعض بالقوانين، واستبدل البعض بالأحزاب البعثية، واستبدل البعض بـ الاشتراكية، واستبدل البعض بـ الشيوعية إلى غير ذلك من الأعمال التي نجح بإدخالها أعداء الإسلام، وهي مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {افترقت اليهود والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ ما أنا عليه وأصحابي}.
أمة الإسلام! لقد نجح أعداء الإسلام بإدخال تلك المزيفات على الإسلام والمسلمين، وقد أعانهم عليها الشياطين الذين تلبسوا بالإسلام وليسوا من الإسلام في شيء، وإنما هم أعوان للشياطين.
يا عباد الله: اتقوا الله واعملوا على ما يجمع الكلمة، ويوحد الصفوف، ويكون الهدف والغاية، تحت ظلال لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ألّف بين قلوب المسلمين، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، يا ذا الجلال والإكرام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين -الأحياء منهم والأموات- من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(179/4)
سلف الأمة وخلف اليوم تجاه الكتاب والسنة
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله، يقول الله جل وعلا في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] دليل واضح من كتاب الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] إذا غيروا الطاعة بالمعصية، غير الله عليهم الرحمة عذاباً وتسليط أعداء.
أيها المسلمون! لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها، حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها، بصيرة في أمر دينها ودنياها، وراقية في آدابها وعلومها، عزيزة الجانب، قوية الشوكة، صاحبة سلطان وصولة على من عادها.
واليوم أيها المسلمون! كثر عدد المسلمين، وقلّ العمل بالكتاب والسنة، وتبدلت الأحوال، واختلت العقائد، وفسدت المعاملات، وتدهورت الأخلاق، وتأخرت العلوم، وصارت الأمة ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، فاقدة الهيبة، تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، والتيارات الهدامة والدعايات الزائفة، وما ذاك -يا أمة الإسلام- إلا لأنها خالفت كتاب رب العالمين، وانحرفت عن طريق الهادي الأمين، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وسارت وجرت وراء أهوائها، واكتفت بزخارف الحضارة والمدنية الزائفة، وأدخلت في مدارسها علوم الإفرنج والغربية، وصارت أكثر تداولاً في أيدي الطلاب، حتى صار البعض الذين لا يفرقون بين الحق والباطل يوالون أعداء الإسلام، ويأخذون بأفكار أعداء الإسلام الزائفة، وأخلاقهم البشعة التي لا تتفق مع التعاليم الإسلامية، ولا مع الأخلاقه السامية التي جاء بها رسول البشرية صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {إنما بعثت لأتتم مكارم الأخلاق} وصدق الله حيث يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فلك الحمد يا ربنا على نعمة الإسلام، وتباً ثم تباً وخسارة لمن ابتغى غير الإٍسلام ديناً.
وصلوا على رسول الله -أيها المسلمون- امتثالاً لأمر الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ولقوله صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا ومنقذنا ومخرجنا من الظلمات إلى النور، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً كريماً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أمدهم بنصرك المبين وتأييدك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا ولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، واللواط، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد أمة الإسلام عامة يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(179/5)
الأضحية
إن المتأمل في سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام في الدعوة إلى الله ليعلم عظم ما حصل له من الابتلاء والامتحان، ومن هذا الابتلاء رؤياه حيث أمره ربه أن يذبح ولده إسماعيل، فلما امتثل أمر ربه نجى الله إسماعيل وفداه بذبح عظيم، فصارت سنةً سار عليها إبراهيم عليه السلام ونبينا صلى الله عليه وسلم من بعده، وفي هذه المادة تجد عرضاً سريعاً لذلك، وتذكيراً نافعاً بما هنالك(180/1)
ملامح من حياة إبراهيم عليه السلام في الدعوة إلى الله
الحمد لله، الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان، وذكر النحر والصلاة في محكم القرآن.
وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان والإحسان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام، وأفضل من حقق الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فنحن في استقبال يوم الحج الأكبر، وعيد الأضحى المبارك، الذي حصلت فيه السنة التي سنها أبو الأنبياء أبونا إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وحذا حذوه واقتدى به نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: لقد حصل لأبينا إبراهيم الكثير من الابتلاء والامتحان، فقد جاهد في الله حق الجهاد.
ففي أول أمره لما عرف اللهَ حق المعرفة، وعرف أن قومه على غير حق حتى أبُاه، الذي كان من أكبر الكفار، وأنهم ضالُّون بعبادتهم الأوثان من دون الله، عزم وشمر عن ساعدَيه مستعيناً بالله الحي القيوم على تكسير الأصنام التي يعبدونها من دون الله، فوثب عليه قومه، وصارت المخاصمة والمؤامرة بينه وبين القوم، ونصره الله الذي وعد بالنصر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] ونصره الله عليهم بحجته الظاهرة، فلجئوا إلى القوة لينصروا ما هم عليه من السفه والطغيان، فكادهم الرب جل وعلا، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال جل وعلا: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
وذلك بأنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع الأماكن، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحرق إبراهيم، ثم عمدوا إلى أخاديد عظيمة فوضعوا فيها الحطب، وأشعلوا فيها النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت، وعلا لها شررٌ لَمْ يُرَ مثله قط، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجلٌ من الأقباط، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وهكذا كل مَن سن سنة سيئة فسوف يعاقبه الله، ومن سن سنة حسنة فسوف يُعْظِم الله له الأجر.
أمة الإسلام: لما سن ذاك الخبيث تلك السنة التي وُضع فيها إبراهيم ليُلْقُونه في النار، جعل الله عقوبته أن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
ثم أخذوا يقيدون إبراهيم ويكتفونه وهو في كفة المنجنيق، وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك أنت رب العالمين، لا إله إلا أنت سبحانك أنت رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله نعم الوكيل.
لذلك يقول بعض المفسرين: لما عرض لإبراهيم جبريل عليه السلام وهو في الهواء قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا؛ لأنه فوَّض أمره لله القادر على كل شيء.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [[إن ملك المطر كان يقول: متى أؤمَر فأرسِل المطر لأطفئ النار عن إبراهيم؟!]] ولكن أمر الله أرحم الرحمين، القادر على كل شيء، الذي بيده أزِمَّة الأمور، أسْمَعُ وأسْرَعُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[برداً وسلاماً، أي: لا تَضُرِّيْه]].
قال بعض المفسرين: لولا أن الله تعالى قال: {وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لآذى إبراهيم بردها، ولكن جعلها برداً وسلاماً حتى صار إبراهيم في مثل الجوبة حوله نار وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون ولا يقدرون الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم.
ويُروى أن والد إبراهيم، الزنديق الملحد الكافر الخبيث، لما نظر إلى إبراهيم في تلك الروضة قال: نِعْم الرب ربك يا إبراهيم!
أمة الإسلام! هذا جزاء مَن يصبر على الدعوة إلى الله، فإن الله لا يضيعه، قال الله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51].
يروى أن إبراهيم مكث في المكان الذي ألقوه فيه أربعين أو خمسين يوماً، وأنه قال: ما من أيام وليالي أطيب عيشاً منها إذ كنت فيها، وودت أن عيشي وحياتي كلها مثل ذلك.(180/2)
هجرة إبراهيم عليه السلام من بلاد قومه وبناء البيت العتيق
بعد ذلك وغيره من الابتلاء والامتحان هاجر إبراهيم عليه السلام من بلاد قومه، وبنى البيت العتيق هو وابنه إسماعيل عليهما السلام، حتى صار مأوىً يأوي إليه الناس تلبية لنداء إبراهيم حيث أمره الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] وأجاب دعوته حين قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37].
فأجاب الله تلك الدعوة، وصار البيت العتيق مأوىً للمسلمين يأوون إليه كل عام.(180/3)
حادثة الذبح والفداء
لمّا هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فبشره الله تعالى بغلامٍ حليم، وهو إسماعيل عليه السلام، وهو أول ولدٍ ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمره عليه السلام، فلما بلغ معه السعي؛ أي شب وترعرع وصار يسعى في مصالح أبيه؛ رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده إسماعيل، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله بأن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر في السن، فامتثل أمر الله في ذلك، وسعى إلى طاعة رب العالمين، ثم عرض ذلك على ولده إسماعيل ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسراً، ويذبحه ظهراً قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ما قال الغلام: أبتاه! أريد مشاورة أصدقائي، أريد أن أشاور الزوجة، بل بادر الغلام الحليم والده الخليل: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
الله أكبر! لا إله إلا الله! هذا الجواب -يا عباد الله- في غاية التذلل والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أسلما أمرهما إلى الله، الوالد أسلم أمره لطاعة الله، والابن أسلم أمره لطاعة أبيه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: ألقاه على وجهه، قال بعض المفسرين: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده وهو يذبح فتدركه الرحمة، وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، فبقي طرف جبينه لاصقاً في الأرض، وسمى إبراهيم وكبّر، وتشهد الولد للموت، وجعل إبراهيم يمرر السكين على حلق إسماعيل، الله أكبر! لا إله إلا الله! سبحانك اللهم وبحمدك، أنت العليم بعبادك يا رب!
وجعل إبراهيم يمرر السكين على حلق إسماعيل، ولم تقطع شيئاً، يقول بعض المفسرين: جُعل بين السكين والحلق نحاس، والله أعلم بذلك، فعند ذلك لما علم الله عز وجل صدق إبراهيم.
وصبر إسماعيل قال الله عز وجل: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] أي: قد حصل المقصود، ونجحت في الامتحان، وأخذت شهادة الامتياز، في طاعة رب العالمين، في مبادرتك إلى أمر ربك: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] أي: اختبار الله نبيه المبين.
عند ذلك فداه الله بذبحٍ عظيم، أي: جعل فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى من العوض عنه، وهو كبشٌ أبيض أعين، عظيم سواد العين، أقرن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[كبشٌ قد رعى في الجنة أربعين خريفاً]].
فإبراهيم عليه السلام لطاعته لله وامتثال أوامره سماه الله عز وجل أمّة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] كذلك يُبعث يوم القيامة أمة واحدة.(180/4)
مشروعية الأضاحي وفضلها
عباد الله: اتقوا الله واحذوا حذو أبيكم إبراهيم عليه السلام، واشكروه على ما أنعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم، وتنفقون بها نفائس الأموال؛ فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم، ونبيكم محمد عليهما أفضل الصلاة والتسليم.
أيها المسلمون، إن لكم بكل شعرة منها حسنة، وبكل صوفة حسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض}.
أيها المسلمون! اعلموا أن الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، والأضحية سنة مؤكدة جداً لمن يقدر عليها، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم وأولادكم والوالدِين، وذلك بواحدة تجزئ عن البيت جميعاً؛ ليحصل الأجر العظيم للجميع، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم؛ حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ويكفي أن يضحي واحد لجميع أهل البيت، وفضل الله واسع إلا إذا كانت وصية فإنها لصاحبها الذي أوصى بها كما نص في وصيته التي وصى بها.(180/5)
شروط الأضحية
أمة الإسلام: والأضحية تكون من بهيمة الأنعام: إما من الإبل، أو البقر، أو الضأن، أو المعز، ولا تجزئ إلا بشرطين:
الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً.
والشرط الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء.
فأما السن: ففي الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن ستة أشهر.
وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء: فقد بينها رسولكم صلى الله عليه وسلم وقال: {أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تَنْقَى}.
فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده، ومن كان لا يحسن فليذبح عند الأتقياء، فذلك أفضل.
واحذروا أن تذبحوا قبل الوقت المحدود للأضحية شرعاً، وهو الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن يُنتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين، وينتهي وقت الذبح بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فأيام الذبح أربع، العيد وثلاثة أيامٍ بعده، وفي النهار أفضل ويجوز الذبح بالليل، ويسمي عند الذبح، والتسمية شرطٌ عند الذبح، فمن لم يقل باسم الله متعمداً على ذبيحته فهي ميتة نجسة حرام أكلها، وإذا نسي فلا بأس ولا حرج عليه.(180/6)
آداب الذبح
أمة الإسلام: اذبحوا برفق، وحدوا السكين، ولا تحدوها وهي تنظر، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها، ولا تسلخوها، أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت، وكلوا من الأضاحي، واهدوا، وتصدقوا، ولا تعطوا الجزار أجرته منها، بل أعطوه أجره من غيرها، وأعطوه صدقة إن كان فقيراً.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات، واجتناب المنكرات.
اللهم وفقنا للصواب في جميع أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(180/7)
بيان فضل العشر من ذي الحجة والعمل فيها
الحمد لله الذي فضل يوم عرفة على سائر الأيام، وجعله لعقد أيام العام واسطة النظام، وأكمل فيه الدين وأتم الإنعام، ورضي الإسلام لعباده المؤمنين ديناً موصلاً إلى دار السلام، وجَعَله موسماً لعتق الرقاب، ومغفرة الذنوب والآثام، فسبحانه من إله عظيم لا يُماثَل ولا يضاهى ولا يرام، أحمده سبحانه على إحسانه العام، وأشكره على التوفيق للإيمان والإسلام، وأسأله أن يثبتنا على ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من النار والفوز بدار السلام، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المخصوص بأكمل خُلُق وأرفع مقام، أفضل من صلى وصام، وأتقى من راح بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، ومصابيح الظلام، صلاة وسلاماً دائمَين متعاقبَين بتعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فاتقوا الله، وشمّروا لطلب الخيرات قبل فواتها، واغتنموا الأعمال الصالحات في أوقاتها، فمنها الأيام المفضلات المخصوصة بالتشريف في محكم الآيات، وهن الأيام العشر المعلومات، عشر ذي الحجة، وفيها اليوم التاسع المخصوص بالفضل العظيم في القرآن العظيم، فاغتنموا فضله، واحذروا الموانع والقواطع من الذنوب، يقول صلى الله عليه وسلم: {خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيين قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شرك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما رئي الشيطان أصغر ولا أدحر منه يوم عرفة} لما يلقى من تنزل الرحمة، وتجاوز الرب عن الذنوب العظام.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيده من النار من يوم عرفة}.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام عرفة وذلك لغير الحاج، فقال صلى الله عليه وسلم: {صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الآتية}.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً مِن كل فجٍ عميق يرجون مغفرتي؛ فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل لغفرتها} الله أكبر! يقال لهم: أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه.
عباد الله: اجتهدوا بالأعمال الصالحة وارفعوا أصواتكم بالتكبير في كل مكان؛ في الأسواق، والمساجد، وفي المجتمعات، وفي البيوت، وأكثروا من قراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، واستيقظوا من رقداتكم، وانهضوا من غفلاتكم، فلا تمر بكم ساعات الفضائل وأنتم لاهون غافلون.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ولا تجعلنا عن بابك مطرودين، ولا من فضلك محرومين، ولا تجعل مصيبتنا في الدين، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان.
وصلوا على رسول الله كما أمركم الله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم انصر من نصر كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، واخذل من خذل كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين.
اللهم أقر بهم أعين الآباء، وانصر بهم الإسلام، واحمِ بهم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار.
اللهم ولِّ عليهم الأخيار، ولا تول عليهم الأشرار.
اللهم اجعل ولاية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فيمن يخافك ويقيم حدودك، ويحكم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا، والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الرحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(180/8)
التعرف على الله في الرخاء
إن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة، والإنسان لا يعيش في رخاء دائم ولا شدة دائمة وإنما تتقلب عليه الأمور، فمرة في شدة ومرة في رخاء، فحري بالمسلم العاقل إذا كان في رخاء أن يتعرف إلى الله ويكثر من طاعته والقيام بأمره؛ لأن من تعرف إلى الله في الرخاء تعرف الله إليه في الشدة.(181/1)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والخير الواسع العميم، أنعم على عباده بنعم لا تحصى، ودفع عنهم من النقم ما لا يعد ولا يستقصى، وتفضل عليهم بالعمل الصالح، وجازاهم عليه أفضل الجزاء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلي الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي وصل بفضل ربه إلى أعلى مكانٍ يصل إليه الورى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليماًَ.
أما بعد:
أيها المؤمنون! اتقوا الله تعالى، وتعرفوا إلى ربكم في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرفوا إلى الله عز وجل بالقيام بطاعته رغبة في ثوابه، وابتعدوا عن معصيته خوفاً من عقابه؛ فإنه أليم شديد.
أيها المسلمون! أيها المؤمنون بالله حقاً! اعلموا أن رخاء العيش وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، وتستوجب القيام بطاعة المنعم الجواد جل وعلا.
أيها المؤمنون بالله! اعلموا أن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة، ويستطيع أن يعمل في سن الشباب ما لا يمكنه القيام به في حال الكبر والهرم، ويستطيع أن يعمل في زمن الأمن والطمأنينة ما لا يمكنه القيام به في حال الخوف، ويستطيع أن يعمل وهو صحيحٌ ما لا يمكنه القيام به وهو مريض.
نعم.
إذا امتحن الإنسان هذه الحياة، وفكر فيها جيداً؛ عرف حقاً أن العافية في البدن، والأمن والترف لا يدوم، فقد يعقبها شدة ومرض وخوف وجوع؛ لكن المؤمن بالله حقاً الذي قوى صلته بربه جل وعلا، وقام بحق الله تبارك وتعالى، وتعرف للحي القيوم في حال الرخاء، فإن الله تبارك وتعالى يعرفه في حال الشدة، وفي حال الضيق، فيلطف به ويعينه على الشدائد، وييسر أمره، قال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:2 - 4] هكذا يعد الله عباده المؤمنين، والله لا يخلف الميعاد.
فاتقوا الله عباد الله! وإليكم هذه القصة التي تبين عاقبة الأعمال الصالحة، وتبين أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدائد وأنجاه:
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أُرِح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر -الله أكبر! - والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي -وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء- فأردتُها على نفسها، فامتنعتْ مني، حتى ألَمَّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتُ، حتى إذا قدرتُ عليها -وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها- قالت: اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجلٍ واحد، ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ فقال: يا عبد الله! أدِّ إليِّ أجري فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق أجرك، فقال يا عبد الله! لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون} لا إله إلا الله! فخرجوا يمشون! متفق على صحة هذا الحديث.
أمة الإسلام! تلكم القصة التي أخبر بها أصدق الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالأول من أولئك الثلاثة: ضرب مثلاً عظيماً في البر بوالدَيه، بقي طوال الليل والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والدَيه نومهما حتى طلع الفجر.
وأما الثاني: فضرب مثلاً بالغاً في العفة الكاملة، حيث تمكن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه، ولكن لما ذكرته بالله، وقالت له: اتق الله، فتركها وقام ولم يعمل الفاحشة، ولم يأخذ شيئاً مما أعطاها.
وأما الثالث: فضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نَمَّى للأجير أجره فبلغ ما بلغ، وسلَّمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئاً، فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء أن تعرف الله عليهم في حال الشدة.
نعم يا أمة الإسلام! هكذا كان جزاؤهم على هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء، أن الله عرفهم في حال الشدة، فأنقذهم من الهلاك.
وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، أن من تعرف إلى الرب جل وعلا في حال الرخاء عرفه في حال الشدة، كما أوصى بذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه يا رب العالمين.
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:61 - 63].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما صرَّفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(181/2)
أعظم الشدائد ما يكون عند الموت
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وأشهد أن لا إله لنا ولا رب سواه، وهو الذي له القدرة التامة على خلقه أجمعين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، فقد سمعتم ما في القصة السابقة الذكر من الأمر العجيب لمن أطاع الله واتقاه.
أيها المسلمون! إن الشدائد أنواعٌ منوعة، وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت عند فراق المألوف، واستقبال المخوف.
فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته، وحياته، ونشاطه، وأمنه، واستقراره، عرفه الله سبحانه في حال شدته، وعند حضور ملك الموت إذا نزع الروح من القصب والعصب واللحم، فإن الله يهون عليه الأمر فيحسِّن له الخاتمة، وينتقل من هذه الدنيا على أحسن حال.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] هكذا تبشر الملائكة أولياء الرحمن، الذين تعرفوا إلى الله في الرخاء، تبشرهم عند الشدائد، وعند سكرات الموت.
وأما إن كان معرضاً عن الله مشتغلاً بدنياه عن طاعة الله، مشتغلاً بآلات لهوه، وبمسكراته ومخدراته ومفتراته، لم يزده الرخاء إلا بطراً وبُعداً عن الله تعالى، فحريٌ بأن يكله الله إلى نفسه، ويتخلى عنه في حال شدائده، فتحيط به السيئات والأوزار، ويموت على أسوأ حال وأخبث مآل.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة؛ صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام.
اللهم قَوِّ إيماننا بك، وبملائكتك، وبكتبك، وبرسلك، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
اللهم املأ قلوبنا من محبتك، ومن خشيتك، ومن معرفتك في الرخاء والشدة.
اللهم املأ قلوبنا من الإيمان والحكمة يا رب العالمين.
اللهم نور قلوبنا بالإيمان، اللهم نور قلوبنا بالإيمان.
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة يا رب العالمين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، من اليهود والنصارى المبشرين والشيوعيين يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم أدِرْ على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين دائرة السوء.
اللهم مزقهم كل ممزق.
اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم خذهم أخذ عزيزٍ مقتدر.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين.
اللهم وفقنا وإياهم جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا.
اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع إخواننا المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الجنون، والجذام، والبرص، وسيء الأسقام.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوُّل عافيتك، ومن فجاءة نقمتك.
اللهم إنا نعوذ بك من جميع سخطك.
اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الرحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(181/3)
الوعيد للمصورين
إن الله عز وجل أنزل القرآن الكريم، وأنزل فيه من الوعد للمؤمنين بجنات النعيم، والوعيد للكافرين بنار الجحيم، وأنزل في القرآن تحذيراً للمؤمنين من الشرك بالله.
وقد تحدث الشيخ عن الشرك بالله وبداية ظهوره، وذكر أن بداية ظهوره كانت في قوم نوح، وذلك بسبب اتخاذهم للصور، وتعظيمهم لها، ثم ذكر أن هذا هو سبب عذابهم وإهلاكهم، ثم ختم حديثه بذكر عدة أحاديث تحذر من التصوير وتبين خطره.(182/1)
القرآن ووعده ووعيده
الحمد لله رب العالمين، الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، فمن أطاعهم واتبعهم فجزاؤه جنة النعيم، ومن عصاهم وخالف أمرهم فقد باء بغضب من الله ومأواه الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، كما لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل رسول بعثه الله إلى خير أمة أخرجت للناس، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره! يا من تؤمنون بالقرآن: اعلموا أن القرآن أنزل ليعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، فيه عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن أراد أن يتذكر، فيه وعد أكيد لمن انقاد وأطاع الأوامر وقام بها، فله جنة عالية قطوفها دانية، في نعيمٍ أبدي سرمدي، لا ينقطع ولا يزول ولا يحول، بجوار رب العالمين، وبرفقة المؤمنين، في شباب لا بعده هرم، وفي صحة لا بعدها سقم، في لذة لا يعقبها تنكيد ولا تنغيص، في دار النعيم، دار اللذة والسرور، دار البهجة والفرح، في دار لا يعتري من سكنها هم ولا غم ولا حزن، وأكمل نعيمها أن أهلها {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
عباد الله: هذا لمن انقاد لأوامر الله واتبع القرآن، ثم إن في القرآن وعيد شديد لمن تعدى الحدود، وعصى المعبود، وخالف الأوامر وارتكب النواهي، فيا ويله ويا حسرته، وهو يطوف في جهنم بينها وبين حميم آن يسقى من الحميم، ويطعم الزقوم والغسلين، ويسحب فيها بالسلاسل، مكبلاً بالأغلال، في أضيق الأماكن مقرنين، تنهشهم الأفاعي والعقارب التي أعدت لذلك المكان، ثم عندهم ملائكة غلاظ شداد، معهم مقامع من حديد، يضربون بها وجوههم وأدبارهم، ويوبخونهم ويقولون لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] وهم أبد الآبدين يصلون بنار حامية قد أطبقت عليهم، وهم يتعاوون فيها كما تتعاوى الكلاب، يبكون ولا يسمعون، ويدعون ولا يجابون إلا بأشد مما هم فيه {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب َ) [النساء:56] هذا لمن عصى الله وتعدى الحدود.(182/2)
الشرك وبداية ظهوره في قوم نوح
عباد الله: إن في القرآن عبراً لمن أراد الاعتبار، وهذا كتاب الله عز وجل يخبرنا أن الله أرسل الرسل ليحذروا الناس من الشرك، ويدعوهم إلى عبادة الواحد القهار، وذلك -يا عباد الله- أنه كان بين أبينا آدم إلى زمان نوحٍ عليه السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [[وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها؛ ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان، جعلوا أجساداً على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين، وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، ولما تفاقم الأمر وطغى الشرك فيهم بعث الله نوحاً عليه السلام يأمرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له]].
وقد أنزل الله فيه آيات كثيرة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ يسليه فيها ويخبره بما وقع على قوم نوح من العذاب والنكال، ومع الأسف الشديد قد وقع في كثير من البلدان الإسلامية من الأضرحة والمشاهد وغيرها التي تعبد من دون الله، ويطاف بها، ويدعون الأموات فيها من دون الله الشيء الكثير، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وقد أنزل الله عز وجل في القرآن العظيم سورة كاملة فيها تفصيل تام عن دعوة نوحٍ عليه السلام، حتى نهاية ما حل بقومه من العذاب، يقول ربنا جل وعلا:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً * قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:1 - 21].
ومع هذا التذكير والنصح والإرشاد، فقد تمادى قوم نوحٍ في الكفر والضلال والعناد، وقد مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، فما لانت قلوبهم ولا انتفعت بالتذكير، ولا ازدادوا عند ذلك إلا عتواً ونفوراً، وعند ذلك قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27] ولما دعا عليهم أمره الله بصنع السفينة فقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37] فلما انتهى من السفينة أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
فلما ركبوا في السفينة كما أمرهم الله، قال الله جل وعلا: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12] أي: فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على حال قد قدره الله في الأزل وقضاه بإهلاك المكذبين غرقاً، فلم يبق على وجه الأرض شيء إلا أدركه الغرق، وهذه سنة الله في خلقه، وقد ورد في الأثر: لو أراد الله أن يرحم من قوم نوحٍ أحداً لرحم أم الصبي، فقد كان معها ابنها، وكلما ازداد الماء رفعته، فلما غرقت سقطت هي وإياه في الماء.
فهذه سنة الله في خلقه.(182/3)
المعاصي سبب للنقمة والهلاك
عباد الله: الحذر الحذر من المعاصي! فإنها سبب للنقم، وكم نسمع من الفيضانات، والزلازل، والأعاصير والرياح المدمرات، وكم نسمع من الحروب الطاحنات، فهل ربنا ظلام للعبيد؟ لا، وكلا! والله ثم والله إن ربنا ليس بظلام للعبيد.
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
عباد الله: إن المعاصي سبب للنقم وحلول العذاب وانتزاع البركات.
ولما دعا نوح عليه السلام على الكفار عقبه بالدعاء للمؤمنين فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بدأ بنفسه، ثم بأبويه، ثم عمم بجميع المؤمنين والمؤمنات؛ ليكون ذلك أجمع وأبلغ، ثم قال: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28] أي: ولا تزد من جحد بآياتك وكذب رسلك إلا هلاكاً وفساداً في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات إنك على كل شيء قدير.(182/4)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من التصوير
الحمد لله حمداًُ كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أتقى المرسلين وخاتم النبيين، عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلى من استن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا آيات الكتاب المبين، لتدلكم على كل خير، وتحذركم من كل شر.
عباد الله! عليكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
واحذروا من الصور يا عباد الله! فإن الشرك ما حدث في قوم نوح إلا لما صوروا التصاوير، ونصبوا التماثيل، وقد ورد عن رسول الهدى الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم التحذير من التصوير في عدة أحاديث صحيحة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون بها يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم} متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: {يا عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون خلق الله} متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[فإن كنت فاعلاً فاصنع الشجر وما لا روح فيه]] متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ} متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون} متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة} متفق عليه.
فهل نسمع ونعقل يا عباد الله؟! أم يدخل من أذن ويخرج من الأخرى؟ نحضر المواعظ ولكن لا فائدة فيها، مجالسنا منصوبة فيها الصور، وبيوتنا قد امتلأت بالصور، إنها مصيبة عظمى أصبنا بها، ودواهي كبرى عمت علينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ووالله ثم والله ليس لنا منها مخرج إلا الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} فأكثروا من الصلاة على رسول الله، فإن صلاتكم تعرض عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تغيث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم ردنا إليك رداً جميلًا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم أصلح أحوال المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة ولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم وفقهم وأعنهم لإزالة المنكرات يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا واللواط والسفور والتبرج والتصاوير وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن بلدان المسلمين أجمعين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(182/5)
عقيدة التوحيد
إن الله خلق الإنسان وجمله بالعقل ليوحد الله تعالى ويطيع رسله، ويعبده ولا يشرك به شيئاً، ولقد رجع بعض الناس القهقرى في هذا العصر إلى الجاهلية الأولى، حيث كثر الشرك في كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، فيجب على المسلمين التمسك بالعروة الوثقى والحذر من البدع ما ظهر منها وما بطن.(183/1)
ضرورة التمسك بعقيدة التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد؛ الذي جاء بالتوحيد، وهدم الأصنام وأزالها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله} اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: تمسكوا بعقيدة التوحيد، واعرفوا معنى لا إله إلا الله، فإن الله جل وعلا خلق الإنسان، وجملَّه بالعقل؛ ليفهم وليعرف أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
عباد الله: لقد أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين يدعون إلى الله عز وجل، وأنزل معهم الكتب فيها البراهين القاطعات تبين معنى لا إله إلا الله، فقامت بذلك الحجج على العباد، فقد فاز -والله- من أطاع الرسل ووحد الله، وقال خالصاً من قلبه: لا إله إلا الله.
وخسر -والله- من تمرد وعتا، وأبى الانقياد لله ورسله، ولم يحقق معنى: لا إله إلا الله، فحسبه جهنم وبئس المصير.(183/2)
شروط لا إله إلا الله
أمة الإسلام: اعلموا أن لـ (لا إله إلا الله) شروطاً، وهي:
الشرط الأول: العلم بمعناها: بأنه لا معبود بحقٍ إلا الله، فمن لم يعرف المعنى فهو جاهل بمدلولها.
الشرط الثاني من شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك.
لأن من الناس من يقول: لا إله إلا الله وهو شاك فيما دل عليه معناها.
الشرط الثالث من شروط لا إله إلا الله: الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن من لم يخلص أعماله كلها لله، فهو مشرك شركاً ينافي الإخلاص.
الشرط الرابع من شروط لا إله إلا الله: الصدق المنافي للنفاق؛ لأن المنافقين يقولونها، ولكن لم يطابق ما قالوه لما يعتقدونه، فصار قولهم كذباً لمخالفة الظاهر للباطن.
الشرط الخامس من شروط لا إله إلا الله: القبول المنافي للرد؛ لأن من الناس من يقولها مع معرفة معناها، ولكن لا يقبل ممن دعاه إليها؛ إما كبراً، أو حسداً، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القبول، فتجده يعادي أهل الإخلاص، ويوالي أهل الشرك ويحبهم، والمرء مع من أحب يوم القيامة.
الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله: الانقياد المنافي للترك؛ لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها، لكنه لا ينقاد فيأتي بحقوقها ولوازمها من الولاء والبراء، والعمل بشرائع الإسلام، ولا يلائمه إلا ما وافق هواه، أو تحصيل دنياه، وهذه حال كثير من الناس.
الشرط السابع من شروط لا إله إلا الله: المحبة المنافية للبغض.
فتجب محبة الله بكل القلب، وإرضاؤه بكل الجهد.
الشرط الثامن من شروط لا إله إلا الله: الكفر بما يعبد من دون الله.
أيها الناس: هذه شروط لا إله إلا الله، فيجب على كل مكلف معرفة الله تعالى؛ لأنه رب العالمين، الرحمن الرحيم، المالك المتصرف ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وجميع الكون وكل ما فيه خلقه وملكه وعبيده، وتحت ربوبيته وتصرفه وقهره، إذا عرفت هذا -أيها الإنسان- عرفت أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه.
والعبادة تكون بمنتهى الذل مع منتهى المحبة.
والعبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الحسية الظاهرة والقلبية الباطنة، فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد أشرك مع الله غيره في عبادته، والمشرك حرام عليه الجنة ومأواه النار.(183/3)
مظاهر من الشرك في عبادة الله تعالى
عباد الله: إنه من المؤسف جداً ما يفعل في كثيرٍ من الأقطار التي تنتسب للإسلام؛ حيث إن كثيراً ممن ينتسبون للإسلام يشركون بالله في كثيرٍ من أنواع العبادة مثل: الدعاء، والذبح، والنذر، وهم يدعون الأموات، ويطلبون منهم حوائجهم، أو رد غائبهم، أو شفاء مرضاهم، ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله.
فيذبحون لغير الله، كذبحهم للقبور وللجن، وينذرون لغير الله، إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ومع الأسف -يا عباد الله- ما يفعل عند تلك الأضرحة وعند تلك القبور من الدعاء والتوسل والذبح والنذر لغير الله، فلو رأيتم إسبالهم العبرات، وبكاءهم وصراخهم، وطوافهم عند تلك القبور وحولها، وسفك الدماء لها، وبذل الأموال الطائلة للسدنة، ولو رأيتم ذلك -يا عباد الله- لتقطعت قلوبكم حسراتٍ على التوحيد وعلى العقيدة، فكم من أناسٍ يدعون الإسلام وهم مشركون، ولقد قال لي بعض إخواننا الوافدين إلى هذه البلاد: إن آباءنا وأمهاتنا قد ماتوا على الشرك -والعياذ بالله- حيث إنهم إذا أصابتهم المصائب، ونزلت بهم البلايا، وألمت بهم الملمات؛ لم تسمع منهم إلاّ التوسل بأهل تلك القبور، فتسمع من يقول: يا رسول اللهّ! ومنهم من يقول: يا علي! ومنهم من يقول: يا حسين! ومنهم من يقول: يا زيلعي! ومنهم من يقول: يا عبد القادر! ومنهم من يقول: يا عيدروس! ومنهم من يقول: يا محضار يا زهير يا شاذلي يا ابن علوان يا بدوي يا دسوقي يا جيلاني إلى غير ذلك من الألفاظ الشركية، فهم دائماً يندبون ويتوسلون ويدعون أولئك الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، والله ثم والله! إن أولئك الأموات لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إنها مصيبة عظمى؛ حيث رجع أكثر الناس إلى الوثنية، ورجع أكثر الناس إلى الجاهلية كما قال صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} والله لو أنزلوا حاجاتهم وفاقاتهم بالله، وتضرعوا إلى الله والتجئوا إلى الله، ودعوه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ لجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، ولكن عميت قلوبهم عن الحق، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدي ضال المسلمين، ويردهم إلى الحق المبين، حتى يرجعوا إلى العلي الأعلى إلى الكبير العظيم، إلى الجليل الحميد المجيد، إلى السميع البصير العليم، إلى القوي العزيز المكين إلى القدير الغني الحكيم إلى الحي القيوم الحيي الستير، إلى الصبور العفو الشهيد الرقيب الحفيظ اللطيف المجيب المغيث الجواد الكريم الوهاب الودود الشكور الغفور الغفار التواب الأحد الصمد القهار الجبار الحبيب العدل الرشيد الحكم القدوس السلام الفتاح الرزاق المقدم والمؤخر، والمعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، إلى غيرها من أسماء الله الحسنى.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تملأ قلوبنا بالإيمان.
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:110 - 111].
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(183/4)
ضرورة التوبة إلى الله تعالى
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب لنا سواه، لا ملجأ ولا مفر لنا منه إلا إليه، هو ملاذنا وهو مغيثنا، وإليه نرفع حاجاتنا وسؤالاتنا وتضرعاتنا، فلا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه، نحمده اللهم على كل حال، ونعوذ به من أهل النار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله له التصرف التام في جميع خلقه، وفي كونه العلوي والسفلي، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ الذي جاء بالتوحيد، وبالعقيدة نقية بيضاء لا فيها غموض إلا على من أضله الله عن طريق الحق، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: أيها المفرطون في جنب الله: أما آن لكم أن تتوبوا إلى الله ربكم؛ الذي خلقكم ورزقكم من الطيبات، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، والذي سوف يميتكم ثم يبعثكم ويجازيكم جزاءً يوافق ما قدمتموه من عمل! إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
أما آن لكم أن ترجعوا إلى الله قبل أن يأخذكم هادم اللذات ومفرق الجماعات وقاطع الآمال.
أما آن لكم أن تذرفوا الدموع أسفاً وندماً على ما أسلفتموه من تفريط وإهمال في دين الله، فوالله! إن أحدكم لا يدري إذا أصبح هل يمسي وإذا أمسى هل يصبح، ثم بعد الموت يقدم على ما قدم من عمل؛ إن كان صالحاً فقد فاز، وإن كان غير ذلك فذلك الخسران المبين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
عباد الله! الله الله في عقيدة التوحيد، الله الله في التمسك بالعروة الوثقى (لا إله إلا الله) احذروا البدع ما ظهر منها وما بطن، فإن أعداء الإسلام يريدون أن تضلوا السبيل فالحذر الحذر! والله الله بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نسألك ونستغيث بك، ونتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى: أن تعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم طهر بلدان المسلمين من الشرك والبدع والخرافات يا رب العالمين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم دمرهم تدميراً واجعلهم غنيمة للمسلمين.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم ارزقنا وإياهم الجلساء الصالحين، ووفقنا للجلساء الصالحين الناصحين؛ الذين يذكروننا إذا نسينا، ويعينوننا إذا ذكرنا، واجمعنا جميعاً في مستقر رحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أسقنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(183/5)
قصة هود عليه السلام
إن في القرآن الكريم عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وذلك لما تضمنه من أخبار الأمم الماضية وما فيها من العبرة والعظة، ومن أولئك الأمم قوم عاد الذين أرسل الله إليهم هوداً عليه السلام لينذرهم ويأمرهم بالتوبة والاستغفار من الذنوب والخطايا، فعصوه وكذبوه ولم يأتمروا بما أمرهم به؛ فأنزل الله عليهم عذابه وعقابه، وأرسل عليهم ريحاً فيها عذاب أليم.
والشيخ هنا تحدث عن ذلك وأشار إلى أهمية الاتعاظ بما حصل للأمم السابقة، ثم ذكر كيف كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم وخشيته من عذاب الله تعالى.(184/1)
إرسال هود عليه السلام إلى عاد
الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الملك الذي لا يحتاج إلى أحد، العلي عن مداناة الأوغاد، الجليل العظيم الذي لا تدركه العقول والأفهام، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، فكل من عليها مفتقرٌ إليه على الدوام، وفق من شاء من عباده فآمن به واستقام، وحكم على آخرين بالشقاوة فباءوا بالطرد والحرمان، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عز من اعتز به فلا يضام، وذل من تكبر عن طاعته ولقي الآثام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن هذا القرآن الذي بين أيديكم تتلونه وتسمعونه وتحفظونه هو كلام ربكم رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو الذكر المبارك، والنور المبين، تكلم الله به حقيقة على الوصف الذي يليق بجلاله وعظمته، وألقاه على جبريل الأمين، أحد الملائكة الكرام المقربين، فنزل به على قلبِ محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذرين بلسانٍ عربي مبين، ووصفه الله بأوصاف عظيمة لتعظموه وتحترموه.
عباد الله: في القرآن عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن أراد أن يتذكر، فيه أخبار الأنبياء والمرسلين مع أممهم، ولقد سمعتم في الجمعة الماضية قصة نوح عليه السلام، وأنه أول رسول أرسله الله إلى قومه يدعوهم إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم يجدِ فيهم، فدعا عليهم فأغرقهم الله جميعاً إلا من ركب مع نوحٍ في السفينة.
ثم بعث الله من بعد نوحٍ وقومه أمة أخرى قصهم الله علينا في القرآن العظيم، وهم عاد قوم هود عليه السلام، قال الله جل وعلا: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:65 - 68].(184/2)
قوم عاد ورغد العيش
نعم يا أمة الإسلام! نعم يا أمة القرآن! هذا هود بعثه الله إلى عادٍ؛ وهم عرب يسكنون الأحقاف؛ وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت من جهة بلاد اليمن، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب.
اعتبروا يا أولي الأبصار! اعتبروا يا أهل الفلل والقصور! اعتبروا يا أهل السيارات والبيوت! اعتبروا واعلموا أن الله قويٌ شديد العقاب، اعتبروا يا أهل البهارج التماثيل! اعتبروا يا أهل الصواريخ والبازوكا، إن الله على كل شيء قدير، اعتبروا يا أهل القنبلة الذرية! اعتبروا واعتبروا ثم اعتبروا!
كانوا في غاية من التركيب والقوة، والبطش الشديد، والطول المزيد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات، والأنهار والأطيار، والزروع والثمار، ولكنهم مع هذا كله كانوا يعبدون مع الله آلهة أخرى؛ يعبدون الأوثان والأصنام، فبعث الله إليهم هوداً عليه السلام؛ رجلاً منهم بشيراً ونذيراً؛ يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار، إلى عبادة الحي القيوم؛ الذي بيده النفع والضر، الذي لا يحتاج إلى أحدٍ في قليل ولا كثير، وحذرهم نقمته وعذابه، وهو -عليه السلام- لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ والإرشاد؛ إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره.(184/3)
هود عليه السلام يدعو قومه إلى التوبة والاستغفار
قال الله تعالى عن هودٍ عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:50 - 51] ثم حثهم -عليه السلام- على الاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة، وأمرهم بالتوبة فيما سيتقبلون، ومن اتصف بهذه الصفة -أي: بكثرة الاستغفار- يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره، وحفظ شأنه، يروى في الحديث: {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52] فأخبر الله جل وعلا أنهم ردوا عليه دعوته، وعاندوا وجحدوا وكذبوا، فقال الله مخبراً عنهم في محكم البيان: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:136 - 138] افتراءً على الله تعالى.(184/4)
عصيان قوم هود عليه السلام لأوامر الله
ويخبر ربنا جلَّ وعلا في الآيات البينات عن قوم هود عليه السلام أنهم بغوا وعصوا وعتوا، فقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [فصلت:15] ثم إنهم أعجبوا بشدة تركيبهم، وثقل وزنهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يعتصمون بها من بأس الله جل وعلا {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] فرد الله تعالى عليهم قائلاً: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15] أي: ما لهؤلاء القوم لا يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة، فإنهم يبارزون العظيم؛ الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وأن بطشه شديد، أولئك عاد حاربوا الجبار بالعداوة، وجحدوا بآياته البينات الواضحات، وعصوا رسله، وعند ذلك قال الله فيهم ورسولهم يعتذر إلى الله: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56].(184/5)
عقوبة تكذيبهم لنبيهم عليه السلام
ولما تبرأ منهم عليه السلام ومن أعمالهم، وأنهم كذبوه، أخبر الله عنهم فقال: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:18 - 20].
اسمعوا يا عباد الله، أيها المتكبرون! يا من لا تلين قلوبهم! اسمعوا كلام الله: {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] وقبل أن يحل بهم العذاب أمسك الله عليهم المطر ثلاث سنين، حتى أصابهم الوحل، ثم أنشأ الله سحابات ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى كبيرهم الذي ذهب يستسقي لهم في جبال تهامة، ناداه منادٍ من السماء: اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء؛ فإنها أكثر السحاب ماءً.
فناداه مناد: اخترت رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، لا والداً يترك ولا ولداً، إلا جعلته همداً.
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها بما فيها، فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث، ولما رأوها استبشروا {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف:24] هذا هو الذي تحادون الله به، هذا العذاب الذي تتحدون الله به: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25] إنها ريح فيها عذاب، رأت امرأة من قوم عاد يقال لها: مميت، فلما تبينت ما في هذه الريح صاحت ثم صعقت، فلما فاقت قالوا: ما رأيت يا مميت؟ قالت: ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها.
فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، كما قال الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8] فتح الله عليهم من الريح قدر الخاتم، فأتت مع من يقودونها، فكانت الريح تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تمزقه على أم رأسه فتسلخ رأسه حتى تفصله من جثته.
نعم يا عباد الله! نعم يا أمة الإسلام! تلكم القصص في القرآن العظيم تسلية لإمام الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وتحذيراً للأمة المحمدية من أعمال أولئك الكفرة العصاة، حتى لا يسلكوا طريقتهم.
فالحذر الحذر يا عباد الله من المعاصي فإنها بريد الكفر! والحذر الحذر من الاغترار بهذه الدنيا وما فيها من الحطام الزائل!
اللهم أيقظنا من رقدة الغفلة، ووفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم أجرنا من عذابك، اللهم أجرنا من نقمتك، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم وكلماتك التامة من غضبك ومن أليم عقابك، ومن شر عبادك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(184/6)
خوف النبي صلى الله عليه وسلم وخشيته من عذاب الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واحذروا بطشه وانتقامه؛ فإن بأسه شديد، وهو عزيزٌ ذو انتقام، وسنة الله واحدة في خلقه، تقول عائشة رضي الله عنها: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلماً مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهاته -أي: لا أراه يضحك ويفتح فاه حتى أرى أقصى فمه- إنما كان يتبسم تبسماً صلى الله عليه وسلم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب} الله أكبر! من كان بالله أعرف كان لله أخوف.
أما نحن فنقول: الجو جميل وطيب لنأكل في الملاهي، ونبارز ربنا في البراري، لنعصي الله عزَّ وجلَّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب} أخرجه البخاري ومسلم فقد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قوم العذاب، وقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به} وقالت رضي الله عنها: {وإذا تخيلت السماء تغير لونه صلى الله عليه وسلم، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سري عنه، فعرفت ذلك فسألته، فقال صلى الله عليه وسلم: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]}.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وانصر الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الإسلام والمسلمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وفقهم بالجلساء الصالحين، وارزقهم البطانة الصالحة الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والتبرج والسفور والأغاني والتمثيليات والأفلام الخليعة يا رب العالمين، اللهم طهر بلداننا من هذه البلايا وبلدان المسلمين أجمعين، اللهم انصر دينك عاجلاً غير آجل، وانصر من نصر الدين وأهله إنك على كل شيء قدير.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(184/7)