عندما رجف المنبر
لابد للمرء ليكون في صلة مع الله والدار الآخرة من تذكير، وأعظم ذكرى وموعظة هي الموت، وفي هذه الخطبة تذكير بالموت وما بعده من الأهوال والشدائد، مما قد يجعل العاصي يتوب، والمطيع يستزيد.(38/1)
الموت وما بعده
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واقنعوا من هذه الدنيا بالقليل، واعلموا أنكم سوف تنتقلون منها على رغم أنوفكم رضيتم أم سخطتم قريباً أم بعيداً، ولكن خذوا حذركم.
أيها الإخوة في الله: لا تغتروا فإنه قد اغتر من كان قبلكم حتى أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، وانتقلوا من الدنيا وهم يتأسفون ويتحسرون؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
أجل يا عباد الله: استعدوا للموت قبل أن تناخ للرحيل الركاب، تنبهوا قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات؛ إنه الموت الذي لا يستأذن على الملوك ولا يدخل من الأبواب، إنه لا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيراً ولا يخاف عظيماً، ثم بعد ذلك القبر وما فيه من الأهوال، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
بعد ذلك عباد الله: البعث والحشر وأهواله وأحواله الصعاب؛ من طول المقام وازدحام الأقدام والأجسام.
يوم القيامة لو علمت لهوله لفررت من أهل ومن أوطان
يوم تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولدان
يوم عبوس قمطرير شره في الخلق منتشر عظيم الشان
يوم يجيء المتقون لربهم وفداً على نجب من العقيان
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشان
يابن آدم! لو رأيت أو تصورت ما يحل بك، وما يحيط بأرجاءك في ذلك اليوم العظيم لبقيت مصروعاً لما بك.
يابن آدم! أما علمت أن أمامك القيامة يوم الصاخة، يوم الطامة الكبرى، يوم القارعة، يوم الحاقة، يوم الزلزلة.
يابن آدم! أما علمت أن بين يديك يوماً يصم سماعه الآذان، ويشيب لروعه الولدان، يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها.
وترى الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور(38/2)
التذكير بالقيامة وأهوالها
أيها الإخوة في الله: تذكروا دائماً يوم القيامة، قفوا عند سماع تلك الأسماء العظيمة التي تهز القلوب هزاً، قفوا عند سماع الطامة، قفوا عند سماع الصاخة، قفوا عند سماع القارعة، قفوا عند سماع الحاقة، ثم تذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه} نعم.
جاء الموت بما فيه، جاء هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم الأطفال، ومرمل النساء، ثم تذكروا بعده ذلك اليوم العظيم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: {جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض} وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه؛ أنا الجبار؛ أنا المتكبر؛ أنا الملك؛ أنا العزيز؛ أنا الكريم؛ فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به}.
أيها الناس: إن يوم القيامة عظيم، لقد غفلنا عن يوم القيامة، لقد تناسينا يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجا} [النبأ:18].
يوم القيامة تفتح فيه أبواب السماء وتسير فيه الجبال، يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ} [النبأ:3] يوم القيامة {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:25 - 26] ويلك أيها الظالم من ذلك اليوم العظيم.
يوم القيامة {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه:108] لأن الرحمن جمعهم على أرض مستوية؛ لا جبال فيها ولا وهاد ولا أودية، يسمعهم الداعي ويبصرهم الناظر وقد خرجوا من القبور سراعاً، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُون * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70].
تفكروا في ذلك اليوم، أنسيتم يوم القيامة؟ ما هذه الغفلة؟ وما هذا الإعراض؟ تذكروا يوم القيامة وما يحصل فيه من الوقوف حفاةً عراةً غرلاً، تذكروا ذلك اليوم الرهيب وما فيه من الكروب والهموم والغموم، وقد طال القيام واشتد الزحام، وكثر البكاء والنحيب، ونفد الدمع، وفر كل قريب من قريبه، وتقطعت الأنساب، والصلات، وقد جمعهم المولى في صعيد واحد.(38/3)
الحساب الأخروي
نعم.
يا عباد الله: تذكروا يوم القيامة، وقد جمعهم الله في صعيد واحد، قد أحاطت الأملاك ولا مفر من الله إلا إليه {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:18 - 23] هنيئاً لهم إذا قيل لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:24 - 30] يا له من نداء ما أفظعه على رءوس الأشهاد إذا قال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:30 - 31] ياله من مشهد ما أفظعه، إذا سلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً! يا لها من أحوال ما أفظعها إذا صلي بنار جهنم!
عباد الله: تذكروا المرور على الصراط، وعلى الصراط خطاطيف مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه؛ فمن الناس من ينجو، ومنهم من يخدش، ومنهم الموبق بعمله، ولن ينجو في ذلك اليوم إلا أهل التقى، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] أترون ذلك الورود؟ إنه على نار جهنم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72].
اللهم اجعلنا من الناجين في يوم القيامة، اللهم اجعلنا ممن يعطى كتابه باليمين، ولا تجعلنا ممن يعطى كتابه بالشمال، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(38/4)
جزاء المؤمنين وجزاء المجرمين يوم القيامة
الحمد لله على إحسانه، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(38/5)
تخفيف الحساب على المؤمن وما يلقاه من نعيم
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل واعلموا أنه ورد في الآثار أن يوم القيامة يكون كفريضة صلاة على المؤمن، فلا تسأل عما يحصل للمؤمن من تخفيف الحساب، ومغفرة الذنوب، وتثقيل الموازين، ومجاوزة الصراط، ثم المرور على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ثم لا تسل عن تمام الفرحة والسرور إذا أخذ الكتاب باليمين، ثم يقال للمؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46]
اسمع يا عبد الله! لأنك سوف تقف أمام أحكم الحاكمين، اسمع ما الذي يقال للمؤمنين؛ الذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:68 - 70] ثم يساقون إلى جناتٍ تجري من تحتها الأنهار قصورها لبنةٌ من ذهب، ولبنة من فضة، وبلاطها المسك الاذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، وخيامها اللؤلؤ المجوف، هي والله نورٌ يتلألئ، وريحانة تهتز، ونهر مطرد، وفاكهة وخضرة، وزوجات حسان، هناك {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:28 - 31] هناك يأكلون ويتمتعون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، ولا يبولون، بل مسك يرشح من أجسامهم.
هناك في الجنة يا عبد الله يضحكون ولا يبكون، هناك في الجنة يقيمون ولا يضعنون، هناك في الجنة يحيون فلا يموتون، هناك في الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39].
هناك في الجنة جمال مبين، هناك في الجنة حورٌ حِسان، هناك في الجنة كل نعيم أبدي، هناك في الجنة الزيادة وهي النظر إلى وجه العزيز الوهاب، إذا اجتمعوا في ذلك الوادي الأفيح؛ اللهم اجعلنا معهم يا رب العالمين، فيالها من لذة وياله من سرور {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23].
في تلك الجنة: ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إن نجينا من دار الذل والهوان.(38/6)
جزاء المجرمين في جهنم
جهنم يا عبد الله هي دار الذل والهوان والعذاب والخذلان، فيا ويل من عصى الله ورسوله وتعدى الحدود؛ فإن مثواه جهنم ومأواه دار الشهيق والزفرات، دار الأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء والندامة والبكاء.
إنها النار: فيها الأغلال والسلاسل تجمع بين أيديهم وأعناقهم، وهم في النار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ومأكلهم من شجر من زقوم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فيقول الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
في نار جهنم: كيف لو أبصرتهم يا عبد الله وهم ينادون بالويل والثبور، يسحبون على وجوههم وهم لا يبصرون، صم بكمٌ عمي، كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم فهم لا يسمعون.
اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، عباد الله صلوا على رسول الله الذي قال: {لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار} صلوا على رسول الله الذي ترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي أمر الله بالصلاة عليه فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم يا أرحم الراحمين، اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاتنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام! اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم ارزقنا الاستعداد لما أمامنا، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، ووفقنا لاغتنام أوقات المهلة يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله! اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(38/7)
قصة مؤمن
الابتلاء سنة الله في عباده المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، والفلاح والفوز لمن صبر عند البلاء والامتحان، ولنا في رسل الله وأنبيائه وعباده الصالحين الأسوة والقدوة في الثبات على الدين عند الابتلاء من الله.(39/1)
أعلام ثبتوا على الدين
الحمد لله رب العالمين, الذي يعز من أطاعه، ويذل من عصاه، لا مانع لما وهب، ولا معطي لما سلب، طاعته للعاملين أفضل مكتسب، وتقواه للمتقين أعلى الرتب، هيأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب، وسهل لهم في جانب طاعته كل نصب، فلم يجدوا في سبيل خدمته أدنى تعب، وقدر الشقاء للأشقياء حين زاغوا فوقعوا في العطب، أعرضوا عنه وكفروا به فأصلاهم ناراً ذات لهب، أحمده على ما منحنا من فضله ووهب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وجاهدوا في الله حق جهاده, واصبروا واثبتوا عند الامتحان والابتلاء في الدين، قال الله تعالى: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].(39/2)
الغلام المؤمن
أمة الإسلام: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوم من قبل أمته أنهم أوذوا في الله، وصبروا وثبتوا، وهذا الحديث الصحيح فيه عبرة لمن أراد الثبات على دين الله عز وجل، وفيه عبرة لمن أراد أن يتمسك بدين الله عز وجل، ولا ينظر إلى كلام المغرضين وسفههم وتثبيطهم، بل يعتزم بالله جل وعلا، كما سنذكر في هذا الحديث الصحيح الذي يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخص بذلك الشباب الذين وفقهم الله للهداية والاستقامة، أخصهم وأحثهم أن يعوا هذا الحديث الذي حصل فيه امتحان عظيم لشاب من الشباب ومع ذلك صبر وامتحن، وقتل في الله ولله.
يقول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {كان ملك في من كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث الملك إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه، وسمع كلامه -أي: قعد هذا الغلام إلى الراهب وسمع منه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب، وقعد إليه -فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك -أي: الغلام- إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال -أي: الغلام-: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ وكان الراهب على دين عيسى عليه السلام، فأخذ -أي: الغلام- أخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس.
فأتى الراهب -أي: أتى الغلام إلى الراهب- فأخبره، فقال له الراهب: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي للناس من سائر الأدوية بإذن الله تعالى, فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل.
فقال له الغلام: فإن أنت آمنت بالله عز وجل، دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى -أي: الأعمى- إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟
قال: ربي.
قال: ولك رب غيري؟
قال: ربي وربك الله -لا إله إلا الله ما أجمل الإيمان إذا رسخ في القلب، ما أجمل الإيمان إذا تغلل في القلوب فإنه لا تزلزله الجبال الراسيات- فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه.
ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه -أي: الملك- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه.
وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، قال الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك -لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألك إيمانا دائماً كاملا، يباشر قلوبنا ويقيناً صادقا- فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟
قال: كفانيهم الله نعم المولى ونعم النصير رب العالمين.
فدفعه إلى نفر من أصحابه -الملك أيضاً يحتال إلى حيلة يحارب الله عز وجل والله هو القوي- فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -أي: سفينة صغيرة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به, فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله -لا إله إلا الله، الله أكبر! الكبرياء لله والعظمة لله والقوة لله- فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به.
قال: وما هو؟
قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلبه على الجذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في موضع السهم فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فأوتي الملك الضعيف الحقير الذليل، الذي يريد أن يحارب رب العالمين، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس ماذا فعل هذا الصنديد العنيد؟
أمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري فإنك على الحق} حديث صحيح رواه مسلم.
والله عز وجل يقول في محكم البيان تصديقاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:4 - 9].
اسمعوا بماذا توعدهم الله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] ثم اسمعوا ما وعد الله به المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] إي والله إنه لفوز كبير!(39/3)
امرأة فرعون المؤمنة
عباد الله: واسمعوا إلى هذا المثل الآخر من عباد الله المؤمنين، يذكره الله لنا في كتابه المبين، وهي امرأة آمنت بالله عز وجل هي امرأة فرعون، حيث ابتليت في الله وعذبت في الله، فلم يردها ذلك عن دينها قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
آسية بنت مزاحم آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون، فأمر بقتلها، فعند ذلك وهي في حالة التعذيب، وهي توضع عليها الحجارة الكبيرة دعت ربها قائلة: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] تقول: يا رب اجعل لي قصراً مشيداً بجوارك في جنة النعيم.
قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام! فقد اختارت الجار قبل الدار، حيث قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور رضي الله عنها وأرضاها.(39/4)
حال بعض الناس الآن مع الابتلاء والامتحان
وهكذا يا عباد الله! يجري على المسلمين في كل زمان من الامتحان والابتلاء، ومع ذلك يثبتون ويصبرون، أما حالة البعض من الناس الآن وخاصة المسلمين، فمع الأسف الشديد تجد بعضهم يلتزم مدة يسيرة، ثم يأتيه من بعض الناس بعض الكلام والعياذ بالله، ثم ينحرف وينتكس ويرجع إلى حالته السيئة, بمجرد ما يسمع من الألفاظ: إنك موسوس، أو متزمت، أو متحجر، عند ذلك يذهب إلى اللحية فيحلقها، ويطول الثياب، ويرجع إلى حالة الشر والعار والمعاصي والدمار، بعدما كان متمسكاً تائباً إلى رب العالمين.
يترك كل ذلك ويرجع إلى مجالسة قرناء السوء لا كثرهم الله، جلساء السوء الذين ضرب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بنافخ الكير إما أن يحرق الثياب وإما أن يؤذيك برائحته الكريهة.
فالابتعاد الابتعاد يا شباب الإسلام! عن قرناء السوء، ابتعدوا عن قرناء السوء، ولا يبعد أن يفتنوا كبار السن كذلك، فأنا أعرف رجل كبير السن، أسأل الله أن يرحمنا وإياه بواسع رحمته، لما ابتعد عن أولاده وسكن في بيته وحده، دخل عليه قرناء السوء، فصار من مروجي المخدرات وسجن ومات في السجن نسأل الله العفو والعافية.
فالحذر الحذر من جلساء السوء يا شباب الإسلام، ويا أهل الإسلام! قبل أن تنادي يوم القيامة واشباباه!
وأنت أيها الكبير قبل أن تنادي واكهلاه! واشيبتاه!
فالحذر الحذر إننا سوف نعرض بين يدي الله عز وجل في يوم لا ينفع مال ولا بنون، فينبغي لنا أن نكثر من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(39/5)
الابتلاء والامتحان في السلف الصالح
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أحيينا مسلمين وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله حق تقاته، عباد الله! لقد جرى على السلف الصالح من الابتلاء والامتحان، ما لو صب على الجبال الراسيات لذابت.(39/6)
ابتلاء خباب بن الأرت
خباب بن الأرت رضي الله عنه الصحابي الجليل، كان المشركون إذا اشتدت الهاجرة، أي: اشتدت حرارة الشمس وبدأت تلتهب الأرض التهاباً، أخرجوه إلى بطحاء مكة، ونزعوا عنه ثيابه، وألبسوه دروع الحديد، ومنعوا عنه الماء حتى إذا بلغ من الجهد كل مبلغ، أقبلوا عليه وقالوا: ما تقول في محمد؟ فيقول: عبد الله ورسوله، جاء بدين الهدى والحق ليخرجنا من الظلمات إلى النور، فيوسعونه ضرباً ولكماً.
ثم يقولون له: وما تقول في اللات والعزى؟
فيقول: صنمان أصمان أبكمان لا يضران ولا ينفعان.
فيأتون بالحجارة المحمية ويلصقونها بظهره، ويبقونها عليه، حتى يسيل دهن كتفيه.
الله أكبر! لا إله إلا الله، سبحان موهب الفضل والإحسان! سبحان الذي وهبهم قوة الإيمان!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: أتدرون ما يفعلون بهذا الصحابي الجليل، يأتون بالحجارة المحمية ويلصقونها بظهره، ويبقونها عليه حتى يسيل دهن كتفيه، ولم يرده ذلك التعذيب عن دين الله الصحيح، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بقي هذا الأثر مثل البرص في ظهره رضي الله عنه وأرضاه.(39/7)
ابتلاء خبيب بن عدي
وهذا خبيب رضي الله عنه، وقد مثل به المشركون وقطعه المشركون القطعة تلو القطعة، يقطعونه وهو ينظر، ويقولون له: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناج؟
فيقول والدماء تنزل منه: والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وإن محمداً يؤخذ بشوكة.
لا إله إلا الله، الله أكبر! يقطع إرباً إرباً، ويقول: ما أحب أن يؤتى محمداً بشوكة تضره صلى الله عليه وسلم.
ومات رضي الله عنه وهو ينظرهم يقطعونه إرباً إربا، مات شهيداً دون دينه، لم يرجع عن دينه، ولم يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، مات مسلماً أمره لله عز وجل.
وهكذا حصل للسلف رضي الله عنهم.(39/8)
ابتلاء الإمام أحمد
وحصل لبعض التابعين رضي الله عنهم ابتلاء، مثلما حصل للإمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، حين صلب وجلد؛ حتى أخذ اللحم الفاسد من ظهره من شدة الجلد، وحتى أغمي عليه رحمه الله.
وثبتوا على دين الله عز وجل، يريدون رضوان الله، والقرب من رب العالمين.
فهيا يا عباد الله! المجال مفتوح، والساحة واسعة، فالبدار البدار إلى الاحتذاء بأخلاقهم وآدابهم.
اللهم وفقنا جميعاً لاتباع سبيلهم، ووفقنا لمحبتك ومحبة رسولك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصرنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك يا رب العالمين.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا على رسول الله الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، صلوا عليه امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، صلاة وسلاماً إلى يوم الدين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الناصحين الصالحين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, واجعلنا هداة مهتدين، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا يا قريب يا مجيب لمن دعاك، يا من قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك.
يا أرحم الراحمين! يا من خزائن السماوات والأرض بيده! يا حي يا قيوم! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! لا إله لنا إلا أنت ولا رب لنا سواك، أنت الغني ونحن الفقراء، يا ربنا إلى من تكلنا! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا من تكفل بأرزاق العباد! يا من هو الرزاق ذو القوة المتين! يا علي! يا عظيم! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم لا تردنا خائبين, ولا من رحمتك آيسين، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثا هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقي عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، ربنا لا تؤاخذنا بسوء أفعالنا.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
يا من هو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا! يا من هو أرحم بنا من أنفسنا! إليك بالدعاء توجهنا، يا أرحم الراحمين! اللهم اسقنا سقيا رحمة، اللهم اسق عبادك، اللهم احيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار ِ) [البقرة:201].
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، اللهم أنت أرحم بنا من أنفسنا، اللهم ارحمنا وإياهم برحمتك التي وسعت كل شيء، فإنهم يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، بطونهم خاوية، يرجون رحمتك ومعونتك، يا رب العالمين! اللهم انصرهم بنصرك وأيدهم بتأييدك واجعل لنا ولهم التمكين في الأرض إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(39/9)
قصة صالح
إن لله سنناً في خلقه لا تتغير، فمن أطاعه أكرمه، ومن عصاه أذله، وقد أتى الشيخ في خطبته بمثال على ذلك، فذكر قوم صالح عليه السلام، وكيف أن هؤلاء القوم عصوا الله واجتمعوا على الكفر به وقتل الناقة، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر وهذه سنة الله في أي كافر استهان بحرمات الله.(40/1)
نبي الله صالح في حوار مع قومه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: لعلكم تذكرون ما مر بكم من قصص الأنبياء مع أممهم، وما حل بمن عصى منهم من العقوبة والعذاب والدمار، فإليكم أيضا قصة نبي الله صالح عليه السلام، حيث أرسله الله عز وجل إلى ثمود، وهم قبيلة مشهورة وكانوا عرباً يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام مثل قوم عاد، فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو عبد الله ورسوله صالح عليه السلام.
فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد ولا يشركوا به شيئاً، فآمنت به طائفة منهم وكفر جمهورهم وآذوا صالحاً عليه السلام ونالوا منه بالمقال والفعال.
فاسمعوا إلى ربنا جل وعلا يخبرنا في محكم البيان، يخبرنا في القرآن العظيم ويقول: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:141 - 152].
نعم يا أمة الإسلام! هذا نبي الله صالح عليه السلام يعظُ قومه ويذكرهم بنعم الله جلَّ وعلا، يذكرهم بما هم فيه من الأرزاق الدارة، حيث أنبت لهم الجنات والبساتين، وفجر لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم الزروع والثمرات، ثم أقدرهم على نحت البيوت في الجبال، الله أكبر يا عباد الله!
وقال لهم هذا الناصح الأمين: قابلوا المنعم بالشكر على هذه النعم، اتقوه وأطيعوه، فردوا عليه وقالوا: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] يقولون: أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك، نسأل الله العفو والعافية!(40/2)
الناقة وقتلهم لها
نعوذ بالله من التعنت والشقاق والعناد، طلبوا من صالح عليه السلام أن يأتيهم بآية ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم، وقد اجتمع الملأ منهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء! ولكن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأشاروا إلى صخرة من عندهم من صفاتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح عليه السلام العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه؛ فأعطوه ذلك.
فقام نبي الله عليه السلام فصلى ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم؛ فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها.
قال الله تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156] ناقة عظيمة خرجت من صخرة بأمر الله الحي القيوم الذي إذا قال للشيء: كن فيكون، ثم أخبرهم أنها ترد الماء، يوم لهم يشربون ويومٌ لها، وحذَّرهم من نقمة الله تعالى أن يصيبوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر ترد الماء وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها، فكانوا يحلبون منها ما يكفيهم شرباً ورِّيا.
فلما طال عليهم الأمدُّ والناقة تسطح بعض تلك الأودية، ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلع من الماء وكانت على ما ذكر خلقاً هائلا ومنظراً رائعاً؛ ولكن تلك الآية العظيمة لم تجد بأولئك العتاة الكفرة ولم يؤمن منهم إلا القليل، فعزموا على تغيير النعمة، وعزموا على أن يكفروا نعمة الله، وعلى قتل الناقة مخالفة لله ولرسوله.
قال بعض العلماء: إن سبب قتل الناقة: أن عجوزاً كافرة من قوم ثمود تكنى بـ أم عثمان -وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام- وكان لها بنات حسان في غاية الجمال ولها مال جزيل، وامرأة أخرى يقال لها صدوق ذات حسب ومال وجمال، فكانتا تلك المرأتان تعدان لمن التزم لهما بقتل الناقة بالزواج.
فدعت التي اسمها صدوق رجلاً يقال له: الحباد فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة؛ فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصرع فأجابها إلى ذلك، ودعت العجوز قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق أصهب يزعمون أنه كان ولد زنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي نسب إليه، وقالت له العجوزة الكافرة: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة.
فعند ذلك انطلق قدار ومصرع فاستغووا غواة من ثمود فتبعهم سبعة نفر فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله فيهم: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُون َ) [النمل:48] وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكاملها فطاوعتهم القبيلة على تلك المعصية، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء، وكمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة -أي: اختبأ لها- على طريقها، وكمن لها مصرع -أيضاً- في أصل أخرى، فمرت على مصرع فرماها بسهم فانتظم عظم ساقها، وشدَّ عليها قدار بن سالف بالسيف فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض ورغت رغاةً واحدة تحذر فصيلها ثم طعن في لبتها فنحرها.
وانطلق فصيلها -أي: ولدها- حتى أتى جبلا منيعاً فصعد أعلى صخرة في الجبل ورغى، قيل إنه قال: يا رب! أين أمي؟ وقيل: إنه رغى ثلاث مرات وأنه دخل في صخرة فغاب فيها، وقيل: إنهم قتلوه مع أمه والله أعلم.(40/3)
العذاب يصيب قوم صالح عليه السلام
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة، وبلغ الخبر صالحاً عليه السلام، وجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى فقال الله عنه: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65].
وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح عليه السلام وقالوا: إن كان صادقاً عجلناه قبلنا وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته، فلما عزموا على ذلك وتواطئوا عليه وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله؛ فأرسل الله سبحانه وتعالى -وله العزة ولرسوله- حجارة فرضختهم سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم.
وأصبح قوم ثمود يوم الخميس -وهو اليوم الأول من أيام النظرة- ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه -عياذاً بالله من ذلك- لا يدرون ماذا يفعل بهم؟! ولا كيف يأتيهم العذاب؟! وأشرقت الشمس وجاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة، لا إله إلا الله القادر على كل شيء! قال تعالى: {أَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67] وقال تعالى أيضاً: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78] أي: صرعى لا أرواح فيهم ولم يفلت فيهم أحد لا صغير ولا كبير لا ذكر ولا أنثى.
عند ذلك تولى عنهم الناصح الأمين صالح عليه السلام هو ومن آمن به وجاء ذلك في القرآن الكريم قال تعالى: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] وهذا تقريع من صالح لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله، وإعراضهم عن قبول الحق والهدى إلى العمى.
فالحذر الحذر يا أمة الإسلام! والحذر الحذر يا أمة محمد! من الإعراض عن قبول الحق واتباع الهدى؛ وإلا فسنة الله واحدة في خلقه.
اللهم اغفر لنا أجمعين، واهدنا إلى صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(40/4)
أمر الشارع بالاعتبار عند النظر إلى قرى الظالمين
الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن بآثارهم اقتفى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى وأطيعوه واحذروا أسباب المعاصي والمخالفات، واعلموا أن الله تعالى مطلع عليكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ظاهرةً وباطنة.
فاحذروا -يا عباد الله- أن يراكم الله على ما يسخطه، وبادروا إلى طاعة المولى جلَّ وعلا، واشكروا نعمه التي حباكم بها، وقوموا بواجب هذه النعم التي أنتم تتقلبون بها ليلا ًونهاراً، فقد سمعتم ما حل بالأمم الذين من قبلكم من النقمة والعذاب المتصل الموصل بهم إلى جنهم وبئس المصير لما كفروا النعمة.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب في طريقه إلى تبوك لما نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا لها القدور، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين للإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منه الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا إلا وهم يبكون، وقال: {إني أخشى أن يصيبكم مثلما ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم} رواه الإمام أحمد، وفي رواية عن الإمام أحمد أيضاً رحمه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم}.
عباد الله! أمة الإسلام: من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه أن يدخلوا ديار الظالمين إلا أن يكونوا باكين، فكيف بالذين يذهبون إلى ديار ثمود الآن؟! هل هم يبكون إذا دخلوا عليهم؟ أم هم في غاية الفرح والسرور والمزاح؟! والعياذ بالله! ويدلكم على ذلك أنهم يقيمون فيها فيأكلون ويشربون ويأخذون الصور التذكارية، ويصور بعضهم بعضا، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟! دخلوا ولم يبكوا، وصوروا الصور ذوات الأرواح، فما أكثر المعاصي إلى الله نشكو يا عباد الله!
ثم اعلموا وفقني الله وإياكم أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم الله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد وبلدان المسلمين آمنة مطمئنة رخاءً سخاءً في ظل تحكيم الكتاب والسنة يا رب العالمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن تغيثنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثا هنيئاً مريئا سحاً غدقاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم احيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب والأرض رب العرش الكريم، اللهم نفس كرب المكروبين من المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين من المسلمين، واشفِ بلطفك مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: نسأل الله أن يرفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء المنكرات وسوء الفتن، والمضلات ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(40/5)
الصبر
لقد جرت سنة الله في عباده المؤمنين أن يبتليهم، وهذا الابتلاء يقوى بقوة الإيمان، ويضعف بضعف الإيمان، يبتليهم ابتلاء تمحيص وتهذيب، وفي ذلك أسرار وحكم بالغة، لما فيه من تميز لأهل الإيمان من أهل النفاق، وجعل الله للصبر عاقبة لا يعلم مداها إلا من صدق الله في صبره على البلاء.(41/1)
الصبر على الابتلاء
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ولي المتقين وناصر المؤمنين، أحمده تعالى وأشكره على ما أولانا من النعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أما بعد:(41/2)
أشدُّ الناس بلاءً
فيا عباد الله: لقد جرت سنة الله في عباده المؤمنين أن يبتليهم ابتلاءً يقوى بقوة الإيمان، ويضعف بضعف الإيمان.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {أشدُّ الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء} يبتلي الله المؤمنين ابتلاءً ليس ابتلاء إهانة أو تعذيب، فحاشى حكمة الله وعدله، ولكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] وذلكم الابتلاء لأسرار وحكم بالغة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] والفتنة هنا بمعنى: الامتحان والاختبار اللذين يظهران حقيقة من يدعي الإيمان على وجه الحق والصدق؛ ومن يدعيه تقيةً ونفاقاً ليحصل على ما لأهله في صف المسلمين من حرمة وتقدير، يقول الله جلَّ وعلا: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
والله جلت قدرته وتعالت أسماؤه يعلِّم عباده أن الإيمان ليس مجرد دعوى أو أمنية فحسب، ولكنه حقاً ذو تكاليف وأمانة، ذو عبء وجهاد، ذو صبر وتحمل، لا يحملها إلا من في قلوبهم تجرد لها وإخلاص، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، ويتركوا هذه الدعوى حتى لا يتعرضوا للفتنة، بل يثبتوا لها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب فتفصل بينه وبين العناصر العالقة به.
أيها المسلمون: مما تقدم يعلم: أن عبء الإيمان كبير وأن تكاليفه شاقة إلا على القلوب المؤمنة بالله إيماناً راسخاً، والمتقبِّلة لتكاليفه بطواعية ورغبة فيما عنده، وما وعد الله به المؤمنين من نصر وعز في الدنيا وثواب مضاعف في الآخرة كما قال جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] متى تتنزل عليهم؟ تتنزل عليهم عند حالة الاحتضار وعند نزول ملك الموت قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:30 - 34] والخلاصة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره} نعم أيها المسلمون! عبء الإيمان شاق وكبير، ولكنه سهل ويسير على من يسره الله عليه، سهل على النفوس التي تعرف أن عبء الإيمان كبير، وأن جزاءه ومثوبته أكبر وأجلُّ عند الله، الذي يجزي على الحسنة بعشرة أمثالها ويضاعف.
فيا أخي المؤمن! إنك وأمثالك من المؤمنين في هذه الحياة معرضون لألوانٍ من الابتلاء والاختبار بخير أو بشر، بخير كالمال والصحة والولاية؛ ليرى هل تؤدي حق الله فيها بما أوجب عليك وأتمنك عليه؟ وهل قصرت النفس حال الصحة والابتلاء على المأمورات، وأمسكت بعنانها عن ارتكاب المنكرات؟ وهل أديت حق الله فيما استخلفت عليه من مصالح المسلمين؟ هل أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر؟ حتى تكون من أهل التمكين في الأرض الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
أيها المؤمنون بالله حقاً! اعلموا أن الله عز وجلَّ يبتلي عباده المؤمنين بالشر كما يبتليهم بالخير، بعض الناس يقول: لو كان الله يحبني لأعطاني مثلما أعطى بعض الناس من الملايين، والصحة والعقارات، لا يا أخي! إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فاظفر بالدين وتمسك بالدين، حتى تحشر مع المتقين.(41/3)
عاقبة الصبر على الابتلاء
أيها المؤمنون حقاً! الذين لا يزلزل إيمانهم ملايين ولا عقارات ولا غيرها من أعراض الدنيا الفانية! اعلموا أن الله عز وجلَّ يبتلي عباده المؤمنين بالشر كما يبتليهم بالخير، يبتليهم بالمرض، وتسليط الأعداء، وليس ذلك إهانة أو تعذيباً ولكنه لتقوية الإيمان.
نعم يا أمة الإسلام! لتقوية الإيمان الحق، ولعظم مثوبة الصبر على البلاء، كما حصل لنبي الله أيوب عليه السلام.
أيها المؤمنون: امتثلوا بالمؤمنين واجعلوا المؤمنين لكم قدوة، هذا أيوب عليه السلام حصل له من الابتلاء بالمرض الذي بلغ به إلى أن تخلى عنه جميع الأقارب حتى وضعوه بعيداً عنهم.
وكما حصل لأبينا إبراهيم من تسلّط قومه عليه وإلقائهم إياه في النار، فهل لما ألقوه، قال: لنذهب إلى الأمم المتحدة، أو نذهب إلى أمريكا، أو الاتحاد السوفيتي لنستنجد بهم؟ لا.
ولكن قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لا تكوني حرباً عالمية طاحنة، كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، وذلك لأن الله لا يضيع عباده المؤمنين، ولقد خلقهم في هذه الدنيا ليبتليهم، فمن صبر فله العاقبة الحسنى، ومن تضجر واستعان بغير الله فسيكله إليهم ويكله إلى ضعف وهوان.
وما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى والمضايقة، والتآمر ضده، والمؤامرة التي فضحها القرآن {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فماذا كان عاقبة الابتلاء؟!
أيها المسلمون: فأيوب كشف الله عنه ضره، وآتاه أهله ومثلهم معهم رحمة من الله وذكرى لأولي الألباب، من هم أولو الألباب: هم أهل العقول السليمة، الذين يعلمون أن الله يبتلي بالشر والخير فتنة.
يقول جلت قدرته للنار التي أنشئت لإحراق إبراهيم: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ثم جعله أمة يقتدى به، وجعل له لسان صدق في الآخرين، ومحمد الذي أفلت من مؤامرة المشركين الدنيئة، وخرج من مكة مختفياً مطارداً ويعود بعد ذلك ويطل عليها من أعلى طريق فيها فاتحاً، يطل على الدنيا وعلى الأمة جميعها، متوجهاً إلى رب واحد، وقبلة واحدة، وقيادة واحدة، ويصبح هو إمامها بما بلغها الله إلى يوم القيامة، بل هو فرطها على الحوض وشفيع لها عند الله فهو فاتح باب الجنة.
فاتقوا الله أيها المسلمون! اتقوه تقوى المؤمن الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: {عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم الذي جاء من عند الله، واصبروا على ما قد تبتلون به، وما كلفتم به من الله، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وأدوا حق الله فيما أعطاكم وفيما ولاكم، ولا يطغينكم عز ورخاء، أو صحة وثراء، ولا تطغينكم الأحداث والشدائد والمضايقات، فما هي إلا برهة قليلة ثم يأتي فرج الله ونصره ومثوبته، فما حصل للأنبياء وأتباعهم ممن ابتلوا وأوذوا في الله وستكون العقبى لأتباعهم كما كانت من قبل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] إلا من يا ربنا {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك وجودك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(41/4)
يبعث كل عبد على ما مات عليه
الحمد لله على التوفيق والسداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، والنهج القويم السديد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله واعملوا صالحاً تجزون به في دار الجزاء، جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: {يبعث كل عبد على ما مات عليه} اللهم توفنا على الإيمان، اللهم توفنا مؤمنين، اللهم توفنا مؤمنين متمسكين بسنة نبيك محمد، اللهم صلِّ على محمد.
عباد الله: ذلك الحديث يحفز الهمم على حب العمل، وملازمة السنن والإخلاص لله في القول والفعل؛ ليموت العبد على خير حال، وليكون قرير العين في المآل.
أمة الإسلام: يا له من حديث عظيم جليل!
خير الهدى رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، الزموا جماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله وقال: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلىَّ علي مرة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً،،اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ارفعنا بالإسلام، اللهم ارفع مكانتنا بالإسلام، اللهم أعد لنا هيبتنا بالإسلام يا رب العالمين، اللهم انصر عبادك الموحدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمرنا وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(41/5)
منافع الصلاة
إن الصلاة هي الصلة بين العبد وربه، وهي النور الذي يستضيء به المؤمن، وهي الحجة والبرهان على صحة الإيمان، والوسيلة للنجاة يوم القيامة، وهي عمود الإسلام وآخر ما يفقده الناس من دينهم، وهي عون للعبد في مصالحه الدنيوية والأخروية.
والواجب علينا أن نهتم بها ونؤديها بجميع أركانها وشروطها كما أداها محمد صلى الله عليه وسلم وأن نحذر من التهاون بها أو تركها بالكلية فإن تركها بالكلية كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(42/1)
منزلة الصلاة وفضلها
الحمد لله المحمود بفعاله، والمنعوت بصفات الجلال والكمال، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض على عباده الصلاة، ووعد من أقامها بخشوعها وآدابها بسكن الفردوس، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أوصى بالصلاة وهو يلفظ آخر الأنفاس، وهو يفارق الحياة صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: {الصلاة الصلاة} اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن للصلاة شأناً عظيماً؛ لأنها الصلة بين العبد وربه الصلاة هي النور الذي يستضيء به المؤمن.
وهي البرهان على صحة الإيمان، والوسيلة لنجاة المؤمن يوم القيامة، كما ورد في الحديث: {من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة}.
الصلاة -يا أمة الإسلام- هي ركن الدين، وعمود الإسلام، وهي آخر ما يفقده الناس من دينهم، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام.
وقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس، وتفصيل أوقاتها وشروطها ومكملاتها، وفضلها وكثرة ثوابها.
فمن فضائل الصلاة: أنها أفضل عبادة يحصل فيها الخضوع والذل لله رب العالمين، وامتلاء القلب من الإيمان به وتعظيمه، وذلك مادة سعادة القلب الأبدية ونعيمه، ولا يمكن تغذية القلب بمثل الصلاة أبداً
فلا يفيد القلب الدم، ولا تفيده المرطبات، ولا تفيده كثرة المغذيات؛ إذا كان فاقداً للذة الصلاة، فلا يمكن تغذية القلب بمثل الصلاة، وأقصد بذلك حياته التي توصله إلى رب العالمين، أما الحياة البهيمية فإن القلب يكفيه ما يكفيه.
والصلاة -يا عباد الله- من أعظم الأغذية ومن أعظم ما تسقى به شجرة الإيمان، فالصلاة تثبت الإيمان وتنمي ما يثمره الإيمان من فعل الخيرات والرغبة إليها، وهي كذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما أخبر المولى جلَّ وعلا: {أَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله َأَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فأخبر بأن فيها الغذاء بذكر الله، والشفاء نهيها عن الفحشاء والمنكر، وأي شيء أعظم من هذا وأجل وأفضل.
ومن فضائل الصلاة: أنها أكبر عون للعبد على مصالح دينه ودنياه، كما حثنا الله على ذلك بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] أي: في كل الأمور.(42/2)
المصالح الدينية للصلاة
أما عونها على المصالح الدينية: فإن العبد إذا داوم على الصلاة وحافظ عليها قويت رغبته في فعل الخيرات، وسهلت عليه الطاعات، وبذل الإحسان بطمأنينة نفس، واحتساب للأجر والثواب.
وبالمحافظة على الصلوات الخمس تذهب أو تضعف دواعي المعاصي، وهذا أمر محسوس مشاهد؛ فإنك لا تجد محافظاً على الصلاة بفروضها ونوافلها إلا وجدت تأثير ذلك في بقية أعماله، ولهذا كانت الصلاة عوناً على الفَلاح، يقول جلَّ وعلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18].
وهل المراد عمارتها بالزخارف، أو تصميمها كما تصمم الكنائس، أو بذل الأموال والبذخ فيها؟ لا.
إنما المراد عمارتها بالصلاة والقربات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} ولو كان يصلي على الأرض، ولو كان يصلي على التراب، اشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18].
أما نحن! فقد عمرنا مساجدنا، وباهينا بعمارتها، وزخرفناها، وقد بلغت من التكاليف كذا وكذا، ولكن كم يرودها من المصلين؟ كم يأتي إليها من المصلين؟! وإنا لنخشى أن يقع علينا الخبر في آخر الزمان: {مساجدهم عامرة وهي من الهدى خراب} ولا حول ولا قوة إلا بالله.(42/3)
المصالح الدنيوية للصلاة
كما أن في الصلاة عوناً على المصالح الدينية؛ فإن فيها أيضاً عوناً على المصالح الدنيوية:
فمن مصالحها أنها تهون المشاق، فقد جاء في الحديث: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة} أما الكافر فإنه إذا ضاقت عليه الأرض ذرعاً وضاقت عليه نفسه انتحر والعياذ بالله، أما شريعتنا الإسلامية فهي تدل إلى كل خير.
والصلاة تسلي على المصاب، وهذا من أمر الله عز وجلَّ الذي لا يخالف: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فيجازي الله صاحبها بتيسير أموره، وتفريج كرباته؛ لأنها الصلة العظيمة بين العبد وبين ربه.
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: "أن رجلاً كان يتجر للناس، وكان رجلاً تقياً عفيفاً، فهجم عليه لص وقال: أريد أن أقتلك وآخذ مالك، قال: خذ المال ولا تقتلني، فأبى إلا قتله، فقال: دعني أصلي ركعتين، فأخذ من ماء كان معه في شنة له، فتوضأ وقام إلى صلاته قام ليبتهل إلى رب العالمين قام ليُشغل الهاتف العاجل قام ليُشغل الحركة بينه وبين ربه، بينه وبين مغيث اللهفان، ومجيب الدعوات فلما سجد في الركعة الثانية توسل إلى المولى جلَّ وعلا وقال: اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما تريد! أسألك بعزتك التي لا ترام وملكك الذي لا يضام أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني قالها ثلاث مرات، فرفع رأسه من السجود وإذا برأس اللص يتدحرج أمامه، وإذا برجل على فرس شاهراً رمحه فقال: من أنت؟ قال: أنا ملك من ملائكة السماء الرابعة، تخاصم فيك الملائكة فاخترت أن أنزل أنا".
عباد الله: بالقرب من الله تنال الحاجات وتلبى الطلبات.
ومن فضائلها: أن من أكملها وأتقنها، فقد فاز وسعد وللصلاة فوائد كثيرة كل واحدة منها خير من الدنيا وما عليها.
والصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفيها تكفير للسيئات، وزيادة في الحسنات، ورفعة للدرجات وفيها زيادة القرب من رب الأرض والسماوات، وزيادة الإيمان في القلب ونوره.
وقد شرع الشارع الحكيم الاجتماع للصلوات الخمس والجمعة والعيد؛ لما في الاجتماع من حصول التنافس في الخيرات، والتنشط عليها والتعلم والتعليم لأحكامها، فإن العالم ينبه الجاهل، والجاهل يتعلم بالقول وبالفعل من العالم، ويقتدي الناس بعضهم ببعض كذلك يحصل في الاجتماع للصلوات في المساجد التعارف والصلات، والملاحظ أن أكثر الجيران لا يعرف بعضهم بعضاً، لعدم إتيانهم إلى الصلاة والعياذ بالله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والاجتماع للصلوات في المساجد يحصل به التودد والتواصل بين المسلمين، وعدم التقاطع، ويحصل -أيضاً- معرفة من يحافظ على الصلوات ممن يتهاون بها، ممن يتركها، فإن تارك الصلاة منبوذ كافر والعياذ بالله ويحصل بكثرة الخُطى إلى المساجد تكفير السيئات ورفعة الدرجات.
ومن فوائد الصلاة: ما فيها من الرياضة المتنوعة النافعة للبدن المقوية للأعضاء؛ من المشي والذهاب والمجيء والقيام والقعود والركوع والسجود المتكرر، وكذلك ما فيها من الداعي إلى النظافة، وهو تكرر الطهارة وكل هذه الحركات نفعها محسوس مشاهد، لمن أنصف من نفسه وأقر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(42/4)
أهمية الخشوع في الصلاة
أمة الإسلام! بقي أن نعلم أن روح الصلاة ومقصودها الأعظم هو حضور القلب بين يدي الله، ومناجاته بكلامه، وذكره والثناء عليه، ودعاؤه والتضرع إليه، وطلب القربة عنده ورجاء ثوابه، وإذا حصل ذلك فإنه بلا ريب ينير القلب ويشرح الصدر ويفرح النفس والروح يخبر رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد إذا قام من الليل فذكر الله وتوضأ ثم صلى ما كتب له؛ انحلت عنه عقد الشيطان كلها، فأصبح طيب النفس نشيطاً، وإلا أصبح خبيث النفس كسلاناً}.
عباد الله! حافظوا على الصلوات وأدوها في المساجد بقلوب حاضرة، وأريحوا أبدانكم وقلوبكم من المشاغل بإقامة الصلاة، اقتداءً بنبيكم صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول: {أرحنا بها يا بلال} وقد كانت قرة عينه صلى الله عليه وسلم كما قال: {وجعلت قرة عيني في الصلاة}.
فالله الله في إقامة الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها ومسنوناتها؛ حتى نفوز بالقرب من رب العالمين، حيث يقول: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُون * أولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35].
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين، بارك الله لنا في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(42/5)
لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة
الحمد لله العظيم في سلطانه، أحمده سبحانه القائل في محكم التنزيل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى القائل: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} {بين العبد والكفر ترك الصلاة} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وحافظوا على الصلوات الخمس، أدّوها كما أمرتم لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} احذروا من الإخلال بأركان الصلاة وواجباتها، واحذروا من الإخلال بما ينبغي لها، واعلموا أن الصلاة نور كما أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
فمن باع نفسه للرحمن بطاعته واتباع شرعه والتمسك بدينه؛ فقد أعتقها من عذاب الله، ومن باع نفسه للشيطان والكرة والملاهي ولعب الورق ولعب الميسر والشطرنج والقمار، متتبعاً خطوت الشيطان، مستجيباً لإغوائه متبعاً لهواه؛ فقد أورد نفسه موارد الهلاك والعطب، وما أكثر من أطاع الشيطان -والعياذ بالله- فصار هو إمامهم يقودهم إلى كل شر وفساد ورذيلة، يهيمون في شهواتهم، قد أضاعوا الصلوات وأشغلوا أوقاتهم بما يعود عليهم بالخسارة الفادحة يوم القيامة يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] والويل: وادٍ في جهنم، فكيف بِمنْ يتهاون بالصلاة، كيف حاله إذا بدأ يهيم في هذا الوادي؟! هذا لمن تهاون بالصلاة، وأخرها عن وقتها.
أما من ترك الصلاة بالكلية فهو كافر والعياذ بالله، والويل له من سقر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:27 - 28] فالحذر الحذر يا عباد الله من ترك الصلاة، الحذر الحذر من التهاون بالصلاة، فإنها الفارقة بين الكافر والمسلم {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]].
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك وزد على سيدنا ونبينا محمد صلاةً وتسليماً إلى يوم القيامة، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أورثنا ديارهم وأوطانهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في برك وبحرك من المسلمين، اللهم أيدهم بنصرك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على أعداء الإسلام والمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اجعلهم قرة أعين لنا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(42/6)
لمن تكون الطاعة
ابتدأ الشيخ خطبته بذكر آيات التقوى من سورة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، ثم تحدث عن وجوب طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما يترتب على هذه الطاعة من حل للمشكلات الاجتماعية وعلاج للأمراض الخطيرة التي تفشت بسبب معصية الله ورسوله، وأن تحكيم الشريعة طريق للنصر والعزة والكرامة، ثم تطرق إلى الحديث عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي من صوره الجهاد، وختم بذكر أحاديث في فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل.(43/1)
وجوب العمل بالشريعة الإسلامية
الحمد لله الذي تفرد بالجلال والكمال والبقاء، الحي الذي لا يموت أبداً، ذي العظمة والكبرياء، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الإسلام، وأعظم بها من نعمة! وأسأله أن يديمها علينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أطاح بعروش الظلم والظلام، وأقام دولةً إسلامية بوحي من الله وإلهام.
اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين نفذوا شرع الله على خير مرام، وفتحوا الفتوحات، ومصروا الأمصار، فدانت لهم العوالم بأسرها مع قلة العَدَد والعُدَد، فرضوان الله عليهم أجمعين، وعلى من سلك طريقهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، فإن ربكم جل وعلا يأمركم في محكم البيان بأن تتقوه حق تقاته، وأن تتمسكوا بدين الإسلام حتى تموتوا عليه، وأن تعتصموا بحبل الله المتين، وينهاكم جل وعلا عن التفرق والاختلاف، ويذكركم بنعمته عليكم حيث جعلكم إخوة في الدين والعقيدة، ولقد أنقذكم بهذه الأخوة من النار، حيث بعث إليكم أفضل المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل عليه أفضل الكتب ألا وهو القرآن، واسمعوا إلى القرآن يا أمة الإسلام وهو يخاطب المسلمين جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، يقول المولى جل وعلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103].
أيها المسلمون: اعلموا أنكم إذا أطعتم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وطبقتم الأوامر التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد حظيتم بالفوز العظيم، ورافقتم نخبةً طاهرةً من عباد الله في رفيع الجنان، وتصديق ذلك في محكم البيان قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70] وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(43/2)
الحكم بالشريعة علاج للمشكلات والأضرار
عباد الله: إن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم العمل بجميع ما جاءت به الشريعة الإسلامية أجل -يا أمة الإسلام- علينا أن نقف مع أنفسنا، ونتساءل عما حل بالمجتمعات من ضرٍ وضيقٍ مالي أو أمني فردياً كان أو جماعياً، وكل عاقل سوف يقول: هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وإهمالهم لأوامر الله عز وجل، ونسيانهم شريعة الله عز وجل، والتماسهم الحكم بين الناس من غيرة شريعة الله الذي خلق الخلق وكان أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم، وكان الله جل وعلا أعلم بمصالحهم من أنفسهم.
أمة الإسلام: نسمع في هذه الأيام أنهم يعقدون الجلسات ليبحثوا عن علاج لمرض الإيدز ومرض الهربز ومرض الزهري ومرض السيلان، وقد أخبرنا الله بالعلاج منذ خمسة عشر قرناً، منذ أن جاء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه أتدرون ما هو العلاج؟ إن العلاج هو جلد الزاني والزانية مائة جلدة، وتغريبهما عن البلاد، هذا إذا كان الزاني أو الزانية بكراً لم يتزوج، أما العلاج الثاني وهو للمتزوج فإنه يقتل رجماً بالحجارة، سواء في ذلك الذكر والأنثى إذا كانا متزوجين فيا له من علاجٍ جاءت به الشريعة الإسلامية على لسان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه! هذا هو علاج مرض الإيدز والهربز والسيلان، وغيرها من الأمراض التي انتشرت من جراء الزنا واللواط، أما الحكم على اللوطي -وهو من يعمل جريمة قوم لوط- فقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
ولذلك الصحابة رضي الله عنهم الذين يطبقون شرع الله منهم من أحرق اللوطي بالنار، ومنهم من رجمه بالحجارة، ومنهم من قال: ينظر إلى أعلى محلٍ في البلد، ثم يرمى منه ويتبع بالحجارة، هذا هو اللوطي الذي قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[اللوطي إذا مات من غير توبة فإنه يمسخ في قبره خنزيراً]] والعياذ بالله!
إذاً العلاج في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضاً علاج الذين يسطون على الأموال، ويرعبون الناس، ويزحزحون الأمن عن البلاد؛ علاجهم في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] ولكن بعض الدول التي تدعي الإسلام لما استمعت إلى تلاميذ لينين وماركس، جعلوا يقولون: هذه الأحكام فيها تشويه! -نسأل الله العفو والعافية- أليسوا يعتبرون بذلك كفاراً، إذا أطلقوا هذه العبارات على أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! مروج المخدرات والمسكرات يقتل ويقضى عليه؛ لأنه من الذين ينشرون الفساد في الأرض، يقول ابن تيمية رحمه الله: شارب الخمر إذا شرب في الأولى يجلد، ثم في الثانية يجلد، ثم في الثالثة يجلد، ثم في الرابعة يقتل فرحمة الله على علماء الإسلام والمسلمين الذين ترووا من شريعة الله.(43/3)
تحكيم الشريعة طريق للنصر
أيها الإخوة في الله: هذه أحكام الله سبحانه وتعالى واعلموا أن المسلمين إذا رجعوا إلى كتاب الله، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظموا شعائر الله؛ فليبشروا بالنصر من الله جل وعلا، فإن النصر لا يحصل ولا يتحقق إلا إذا عمل المسلمون بدين الإسلام كله، وطبقوه عقيدةً وعبادةً، وأحكاماً ونظاماً وأخلاقاً في كل شأنٍ من شئون حياتهم.
فعلى المسلمين في كل زمان ومكان إذا أرادوا النصر والفخر والعز والشرف من الله، والتمكين في الأرض؛ عليهم جميعاً أن يعملوا بكتاب ربهم، وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى قوله صدقٌ، ووعده حقٌ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ويقول تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ويقول تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فإذا وجد الإيمان والإسلام، وجد النصر بإذن الله تعالى، وإذا فقد الإيمان والإسلام، فلا عز ولا نصر جزاءً وفاقاً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
فإذا أراد المسلمون النصر والعز والنصر، والحفاظ على الممالك الإسلامية؛ فعليهم ألا يغالطوا أنفسهم، وعليهم أن يأخذوا بأسباب النصر، ومن أهمها: العمل بشريعة الإسلام، والاستعداد بالقوة الحسية والمعنوية في قتال الأعداء امتثالاً لأمر الله جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ثم التكاتف، والتساند، والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين من أسباب النصر، ولابد -يا عباد الله- أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله ولنصرة دينه، فلا قومية، ولا شعبية، ولا عنصرية، ولا حمية جاهلية، فإذا أعلن الجهاد لإعلاء كلمة الله، فإن النصر يتحقق بإذن الله تعالى.(43/4)
صور من العمل بالشريعة الإسلامية
أيها الإخوة في الله: إن من العمل بشريعة الإسلام: فعل جميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، ومن تلك المحرمات التي انتشرت بين المسلمين وعلا شرها واستطار: جريمة الربا وهي الكبيرة التي أذن الله لمن يرتكبها بالمحاربة -نسأل الله العفو والعافية- ومن يحارب الله يا عباد الله؟!! ويقول صلى الله عليه وسلم: {الربا ثلاثٌ وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه} وأيضاً ورد في الأثر: {درهمٌ ربا أشد عند الله من ستٍ وثلاثين زنية}.
فيا أمة الإسلام: متى نستيقظ؟ متى نحارب هذه الجريمة التي حلت على أهلها اللعنة؟ فقد ورد في الحديث: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} أي: في الإثم سواء.
ومن العمل بشريعة الإسلام -يا عباد الله- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم الواجبات وأعظم المهمات على المسلمين عموماً إبعاد القوانين الوضعية المخالفة لشريعة الإسلام، فالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها المخلوق لمخلوق مثله كفر وإلحاد وظلمٌ وفساد، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ويقول المولى جل وعلا: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38] ففي الشريعة الإسلامية حلٌ لكل مشكلة، فهي صفوة الأديان ومسك الختام، وقد جاءت لإقامة العدل في الأرض ومنع الفساد، جاءت للإصلاح والصلاح، وتكفلت بإصلاح الأوضاع كلها، وإبطال جميع الأنظمة والقوانين الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأحكام الشريعة الإسلامية أحكام مرنةٌ لا التواء فيها ولا تعقيد كما يوجد في القوانين الوضعية.
أمة الإسلام: إن ميدان الشريعة الإسلامية واسع وفسيح، وهي مع ذلك في غاية من الحكمة والسماحة واليسر والتسهيل، وليس في الشريعة الإسلامية عجزٌ ولا قصورٌ عن حل مشاكل الحياة، بل في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم السداد والوفاء والكفاية بجميع متطلبات الحياة البشرية، والآيات التي صرحت بالحكم بما أنزل الله أكثر من مائة وخمسين آية في كتاب الله، فواجب على المسلمين أن يستمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وليهنئ بعضنا بعضاً ونحن في هذه البلاد الآمنة التي تطبق الشريعة الإسلامية يقول لي بعض الإخوان المغتربين الذي جاء من خارج البلاد، ويقسم بالله ثلاثة أيمان، يقول: والله، ثم والله، ثم والله، ما تلذذت بالنوم إلا يوم أن دخلت هذه المملكة.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا بحفظه، وأن يرعانا برعايته حكاماً ومحكومين، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، وأن يجعلنا وإياهم هداةً مهتدين نطبق شرع الله إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأسأل الله بمنه وكرمه أن يغفر لنا جميعاً فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(43/5)
الجهاد في سبيل الله وفضله
الحمد لله أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه بالأجر العظيم والثواب الجزيل لمن أخلص فيه النية لله، وجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي جاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وارجعوا إلى الله، وجددوا توبةً نصوحاً، وجاهدوا في سبيل الله، فإنه من أفضل الأعمال إلى الله، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌ مبرورٌ} متفق عليه وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} متفق عليه وعن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله} متفق عليه ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها} متفق عليه فيا له من فضل عظيم!
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مكلومٍ يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى؛ اللون لون دم، والريح ريح مسك} متفق عليه وعن سهل رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} رواه مسلم وعن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه} رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا} متفق عليه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} وفي رواية: {مات ميتة الجاهلية}.
عباد الله: إن أحاديث الجهاد في سبيل الله كثيرة، وكذلك الآيات الدالة على فضله كثيرة، وما قدمنا فيها كفاية وفيها ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد.(43/6)
من صور الجهاد
عباد الله: علينا -أولاً- أن نجاهد أنفسنا وأهلينا وأولادنا على طاعة الله عز وجل؛ بالقيام بالفروض وأدائها على الوجه المطلوب، ثم علينا أن نجاهد أنفسنا عن المحرمات من غيبةٍ ونميمةٍ، وأكل للحرام، ونجاهد أنفسنا عن الخداع والكذب والغش والخيانة، وأكل الربا، وشهادة الزور، ونجاهد أنفسنا عن الرياء والسمعة، ونجاهد أنفسنا عن ارتكاب المحرمات بجميع أنواعها واختلاف أشكالها، فإذا جاهدنا أنفسنا واستقمنا على الطريقة، جاهدنا الأعداء؛ وحينئذ يتحقق النصر بإذن الله تعالى.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالإكثار من الصلاة والتسليم عليه، فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين والملحدين والعلمانيين والبعثيين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيزٍ مقتدر يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، الله أقر أعيننا بصلاحهم، واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، فأنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، يا من قلت وقولك الحق: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا قريباً مجيباً لمن دعاك، يا من قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] لبيك وسعديك! لبيك وسعديك! نرفع إليك أكف الضراعة يا غني يا حميد! يا علي يا عظيم! يا حليم يا عليم! اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، عاماً طبقاً مجللاً، عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم أنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته لنا قوةً على طاعتك، وبلاغاً إلى حين، اللهم أحي بلدك الميت، اللهم أحي بلدك الميت اللهم أحي بلدك الميت اللهم انشر بركتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد! يا من خزائنه ملأى! يا من يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء! أنت الغني ونحن الفقراء لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم فارج الكربات! كاشف الشدائد والبليات! اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.(43/7)
أمراض القلوب
إن للقلب أهمية كبرى في جانب الحياة الروحية والاتصال بالله سبحانه وتعالى، فهل أعطينا القلب ما يستحقه من نصح وعناية وإحاطة بالخير؟! وهل جنبناه مواطن الفساد والمرض؟!
إن هذه المضغة الصغيرة ذات أهمية بالغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وكما أن لموت القلوب أسباباً فكذلك لحياتها أسباباً، وإن من أعظم أسباب حياتها ذكر الله.(44/1)
أهمية القلب في حياة الإنسان
الحمد لله يهدي من يشاء, ويضل من يشاء, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, خلق فقدر, فكلٌ ميسر لما خلق له, فأهل السعادة يسَّرهم الله لأعمال أهل السعادة, وأهل الشقاوة -كذلك- ميسرون لأعمال أهل الشقاوة, اللهم اجعلنا من السعداء ولا تجعلنا من الأشقياء, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي نصح لأمته, وتركهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله عز وجل, وراقبوه في السر والعلانية, كما هي وصية الله للأولين وللآخرين, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي -أيضاً- بعض الصحابة ويقول: {اتق الله حيثما كنت}.
أيها الإخوة في الله: من تقوى الله عز وجل إحاطة القلب ونصحه وإدخال كل شيء يرضي الله إليه, وإبعاد كل شيء يغضب الله سبحانه وتعالى عنه, وهذه القطعة الصغيرة التي لا يراها أحد إلا الله سبحانه وتعالى أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي: القلب} اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
أيها الإخوة في الله: إن القلب هو المسيطر وهو الملك على الأعضاء كلها, لذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه ليحث الأمة الإسلامية على حفظ هذا الوعاء المهم, ألا وهو القلب, كذلك حث على حماية هذا القلب, وعلى وقايته من الأخطار.
عباد الله: القلب مصدر سعادة الإنسان أو شقاوته, ومن القلب تنبعث حياة الإنسان الروحية أو ينبعث موته المعنوي.
يا أمة الإسلام: القلب يحتاج إلى عناية, وإلى صيانة, ويحتاج إلى عطف منك أيها الإنسان حتى يقوم بواجبه, والقلب يحتاج منك أن تتقرب إلى الله عز وجل, فإذا صلح قلبك صلحت الجوارح كلها.(44/2)
إهمال الكثير لقلوبهم
أيها الإخوة في الله!
السؤال
هل أعطينا القلوب ما تستحقه من حماية؟ وهل أحطنا القلوب بسياج الإيمان الكامل؟
إن معظم الناس بل الأكثر فرط في هذه الناحية الحساسة, وتركها حتى دخل عليها ذئب الإنسان وهو الشيطان, فجعل يخطط للأعداء, ويأمرها وهي تنفذ تلك الأمور الخطيرة, حتى أصبح الأكثر من الناس في أسر الشيطان وقيوده, ووقعوا في أعظم داهية, وأصيبوا بأعظم الأدواء ألا وهو فقدان الإحساس الروحي, وابتلوا بموت الضمائر, حتى ران على القلوب الران, وأعمتها الذنوب والمعاصي، وفقدوا الغيرة والمروءة والحياء, والحياء شعبة من الإيمان, فقده الذين ماتت قلوبهم.
أيها الإخوة في الله: إن موت القلوب طغى عليها فأصبحت كالحجارة, لا تتأثر بآية ولا وعظ, ولا تستجيب لنداء الإسلام, ولا تستفزها نذر القرآن, ولم يؤثر بتلك القلوب التي عميت عن الحق ما يطرق أسماعها من الآيات الكونية والعبر, وصدق رب العالمين قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] تعمى عن النظر إلى الحق, وتصم عن سماع الحق, لو كانت القلوب واعية وصحيحة لكفى بها ما تسمع من العبر, وما تشاهده من الحوادث المفزعة, والكوارث المدمرة التي جعلت أهل تلك البلدان المجاورة شذر مذر, وفرقتهم في كل ناحية, فأصبحوا بعد الغنى فقراء, وبعد الشبع جياعاً, وأصبحوا بعد الجماعة فرقة, فإنها عبرة لمن يعتبر.
أيها الإخوة في الله: عباد الله! إن موت القلوب أغفل الكثير عن الاهتمام بدين الإسلام, حتى أصبح الكثير من المسلمين لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً, فما بقي إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
يا علماء الإسلام: ما هذا التغافل عن الدعوة إلى الله؟ وما هذا البعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟(44/3)
أسباب موت القلوب
أيها الإخوة في الله: بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبسبب غفلة القلوب، تداعت على الإسلام الأمم من كل صوب وحدب وغزوا العقائد والأخلاق, وبذروا الفتن وأججوا نارها بين المسلمين, وأدخلوا البدع فاستحسنها بعض أهل الإسلام -ويا للأسف الشديد- كل ذلك نتيجته موت القلوب وبعدها عن الله, وصارت تلك القلوب العمياء تلك القلوب الميتة أمام الكثير سراباً لا حقيقة له, أو كأنها أضغاث أحلام لا يتوقع لها تأويل, ولا يفكر فيما تولده من شرور, عياذاًَ بالله من مضلات الفتن.
كل ذلك نشأ عن موت القلوب, وعدم الشعور والتطلع بمسئولياتها حتى إن بعض الناس لموت قلبه وبعده عن الله أتى بالخادمة وجعلها له ولأهله متعة يتمتع بها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن موت القلوب: أنه سمح للفتاة التي امتنعت عن الزواج أن تستقدم لها سائقاً يذهب بها ويرجع, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن موت القلوب: ما يتبادله بعض النساء من أفلام خبيثة تعكس الفطر وتنكس أخلاقها، وتجعل تلك المرأة بعد أن كانت أمينة حصينة عفيفة، تكون داعرة خبيثة, مجرمة, تنشر الشر والفساد، وذلك بسبب الأشرطة التي تتبادلها هي وزميلاتها.
أيها الإخوة في الله: ألا نحيط قلوبنا بالنصيحة؟ ألا نتفقد قلوبنا؟ ولو صح القلب ووعى, لتفقدنا الأهل والأولاد, ولقمنا بالواجب, ولعلمنا أن علينا مسئولية عظيمة, والله لو وعى القلب لما تركنا المرأة تخرج مع السائق يجوب بها الأسواق وتذهب لتشجع اللاعبين, ولتشاركهم في أفراحهم ولعبهم, أين هذا من المسلمين؟ هذا لم يوجد حتى في مجالس الجاهلية، ولم يذكر في مجالس الجاهلية أن أمرأة جلست معهم في مجالسهم, فأين الغيرة يا أمة الإسلام؟ وأين الحياء يا أمة الإسلام؟! أين الغيرة يا عباد الله؟! كيف يترك الرجل أهله وبناته مع السائق يجوب بهن الأسواق؟ فقولوا: إنا لله وإنا إليه راجعون, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إن استقدام السائق والخادم والمربية فتنة فتحت على المسلمين, والله إنها فتنة فتحت على المسلمين, والله إنه شر مستطير, ملأ البيوت بالفتن والشر والفساد, ولعلكم تسمعون وتقرءون ما يحصل في بعض البيوت من الشر والفساد, فإلى متى هذا السكوت على هذه المنكرات؟ قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(44/4)
عاقبة موت القلب
أيها الإخوة في الله: إن موت القلوب الذي عمّ الأكثرين من الناس، سبب لهم عدم المبالاة بأوامر الله, فأكثر الأولاد لا يعرفون المساجد, ولا يصلون في بيوت الله -فإنا لله وإنا إليه راجعون- والله ليست المصيبة مصيبة الدنيا ولا بفقد شيء من المال, إن المصيبة العظمى والكسر الذي لا يجبر هي -والله- مصيبة الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كم نسمع في البيوت من رجال تعدت أعمارهم الأربعين ماذا ينتظرون إلا هادم اللذات أن يأخذهم على غرة وهم لا يعرفون المساجد, فإنا لله وإنا إليه راجعون, وكثير من النساء لا يعرفن الصلاة, فعلى من تقع هذه المسئولية؟ على ولي أمرها {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
أيها الإخوة في الله: إن أسباب موت القلوب, جرأت الكثير من الناس على أكل الحرام, وعلى أكل الربا, وعلى أكل الرشوة, وعلى الغش, وعلى الخداع, وعلى بيع المحرمات: كالدخان والمخدرات والمسكرات بأنواعها, وجرأهم على أنهم جلبوا إلى بلاد الإسلام والمسلمين آلات اللهو واستحلوها, وأكلوا أثمانها وهي حرام, والقاعدة الفقهية تقول: "ما حرم استعماله فحرام ثمنه", لو كانت القلوب حية, لو كانت القلوب واعية لعرفنا أن أمامنا يوم عظيم, وأن أمامنا قيام بين يديّ رب العالمين.
أيها الإخوة في الله: يوم الجزاء الثاني يوم القيامة, يوم عظيم تبرز فيه الكائنات، وتظهر فيه الحقائق، وتنكشف فيه النيات, وتنشر فيه الدواوين.
أيها الرجل: إذا قيل لك يوم القيامة: ما السبب الذي جعلك تأتي بالخادمة والمربية وتتمتع بها وتجعلها بين أولادك وأهلك؟! ما هو الجواب بين يدي الله عز وجل؟ أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما سمعت المبلغ عن رب العالمين وهو يقول: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} أعدّ لهذا جواباً بين يدي الله رب العالمين, ثم أعدّ للجواب صواباً.
أيها الإخوة في الله: إن موت القلوب أبعد الناس عن ذكر الله عز وجل, حتى غطى الغبار على كتاب الله عز وجلَّ, فإنا لله وإنا إليه راجعون, واستُحلت قراءة كتب أهل البدع والمحدثات, واستُحلت كتب الخلاعة والمجلات الهابطة والجرائد الساقطة وغيرها، وأعرضت القلوب عن ذكر الله قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
أيها الإخوة في الله: اعلموا يا من تريدون النجاة يوم القيامة, أنه لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم, وما هو القلب السليم؟! القلب السليم هو: الصحيح الممتلئ بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه, القلب السليم هو: المتحلي بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه, القلب السليم هو: الخالي من كل شبهة تعارض خبر الله, القلب السليم هو: الخالي من كل شهوة تميل إلى ما حرم الله, فاتقوا الله أيها المسلمون! وتجنبوا كل ما يمرض القلوب أو يميتها.
وإن أكثر ممرض وأعظم مميت للقلوب هو: الصدود عن ذكر الله, والصدود عن تلاوة كتاب الله, والإعراض عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأكبر مميت للقلوب استماع الأغاني, والسهر, وقضاء الأوقات مع الأفلام والتمثيليات والمسلسلات التي جلبها أعداء الإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(44/5)
أخلاق المؤمنين وصفاتهم
واسمعوا وصف المؤمنين الكامل في كتاب الله إن كنتم تريدون أن تقتدوا بهم.
الوصف الأول: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] اسمع هذا وصف واحد يا عبد الله, إن كنت من المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وخافت.
الوصف الثاني: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2].
الوصف الثالث: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
الوصف الرابع: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3].
الوصف الخامس: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال:3].
ولما استكملوا تلك الصفات الخمسة ماذا وصفهم الله؟ قال الله جلَّ وعلا: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:4] لا إله إلا الله! اللهم اجعلنا ممن يحوز على هذا الوصف, وبماذا وعدهم الله؟ {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4].
اسمع يا عبد الله! أكرر عليك لعلك تنهج نهجهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
اللهم اجعلنا منهم, اللهم أحينا مسلمين, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين, اللهم أجرنا من مضلات الفتن, اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(44/6)
أهمية اختيار الجليس الصالح
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضاه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله, اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: إن كتاب ربنا جلَّ وعلا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيهما الحث على ما يحمي القلوب ويوقظها ويقربها من حضرة علام الغيوب, وفيهما النهي العظيم عن مجالسة الأشرار, فإن مجالسة الأشرار تعمي القلوب، وتصد عن ذكر الله، وتبعد عن الله عز وجل, لذلك فإن رب العزة والجلال نهى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن مجالسة الظالمين, فقال وقوله الحق: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] لماذا؟! لأنهم سمٌ يدخل في الأبدان, فالكتاب والسنة يأمران بأن نبتعد عن كل خلق ذميم خشية أن يقودنا إلى الهاوية, فالشرير لا يهمه إلا أن يكون جليسه مثله شريراً.
إن القرآن والسنة يأمران أن نبتعد عمن انغمس في العصيان وولّى وجهه نحو الشيطان, ويأمران أن نبتعد عمن غلب عليهم الجهل وتسلطت عليهم الأهواء, وإن أعظم مثال يصور لنا خطر جليس السوء ما حصل لـ أبي طالب عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم, الذي كان يحميه من أذى المشركين، لما حضرته الوفاة وجعل يعاني من سكرات الموت, ويلفظ آخر أنفاس الحياة, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله} فماذا قال جلساؤه الأشرار؟ قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فعاد عليه الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم: {يا عمِّ قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله} فأعادوا عليه الكرة, وكرروا عليه التلقين وقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فماذا قال في النهاية؟ قال: هو على ملة عبد المطلب، فخرجت روحه على ملة الكفر والشرك والأوثان.
أيها الإخوة في الله: إنه لا أخطر على الإنسان من جلساء السوء, فاحذروا جلساء السوء, فكم من شاب تقي صالح أصبح الآن رهينة في السجون؛ بسبب جلساء السوء! وكم من شاب عفيف طاهر أصبح يبيع عرضه بقطعة حشيش، بسبب مجالسة جلساء السوء! كم من شاب كان صحيح العقل مستوي القامة ولكن بصحبة الأشرار وبما قدموا له من الحبوب والمخدرات أصبح الآن بصفة المجانين وفي غرفة يعيش وحده لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً, إنهم جلساء السوء, احذور منهم, احذروا -أيها المسلمون رحمكم الله- أن تجالسوا من ساءت أخلاقهم وفعالهم.
ولعل رجلاً يقول: أنا كبير السن ولا يؤثر فيّ جليس السوء, بلى، فقد أثروا على من هو في السبعين سنة، فجالسوه في بيته وحده وقالوا: لعلنا نأتي بالمخدرات ونبيعها نحن وأنت فإن فيها مكاسب, ولما قبض عليهم وأودعوا في السجن خرج يتوكأ على العصا بعد مدة طويلة قضاها في السجن, كل ذلك بمجالسة قرناء السوء, ومات في علته, نسأل الله العفو والعافية، ونسأل الله حسن الخاتمة.
أيها الإخوة في الله: احذروا جلساء السوء، وحذِّروا أولادكم, وحذِّروا نساءكم, فكم من فتاة عفيفة شريفة أهدت إليها جليسة السوء شريط الفيديو؛ فأصبحت خبيثة داعرة, وأصبحت عاهرة شريرة, وأصبحت عاراً على أهلها وأقاربها, بسبب جليسة السوء التي أهدت إليها شريط الفيديو, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكم من فتيان أرواحهم طيبة, وأجسامهم مستقيمة, وهم على طاعة الله يدأبون, ولكن سرعان ما تحولت نفوسهم الروحانية إلى نفوس شيطانية, بسبب مخالطة بعض المفتونين, ورموا بأنفسهم بين الموبوئين, وكم انحلت من أخلاق، وكم ملئت السجون بأناس لا يعرفون الشر ولكن بسبب مقارنة أهل السوء صاروا أهلاً لذلك, فاتقوا الله يا عباد الله! واحذروا جلساء السوء فإنهم شياطين وما أقبحهم من شياطين، يصدون عن الصراط القويم, ويدعون إلى سواء الجحيم.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, واجعلنا هداة مهتدين, اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اكفنا وإياهم جلساء السوء, اللهم أبعد عنا وعنهم جلساء السوء, اللهم أصلح ولاة أمورنا, اللهم ارزقهم البطانة الصالحة, اللهم أبعد عن ولاة أمورنا بطانة السوء, واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
أيها الإخوة في الله: صلوا على الناصح الأمين, صلوا على من أرسله الله رحمة للعالمين, صلوا على محمد بن عبد الله الذي أمركم الله أن تصلوا عليه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] , صلوا على من قال: {من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وأكثروا من الصلاة على رسول الله, فإنه قال: {إن صلاتكم معروضة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة} فأكثروا من الصلاة والسلام عليه, اللهم صلِّ على نبينا محمد, وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم, اللهم بارك على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين, لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل؛ يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(44/7)
احذر عقوق الوالدين
إن حق الوالدين عظيم، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى طاعته بطاعتهما، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم طاعتهما على الجهاد في سبيل الله.
وذلك لما قاما به من عظيم الرعاية وكبير المشقة، وقد تفشت في هذا العصر ظاهرة العقوق وهي المؤذنة بتفكك المجتمع وانحلال روابطه، كما أنها مجلبة لسخط الله وعقابه.(45/1)
طاعة الوالدين طاعة لله
الحمد لله الذي بيده الفضل ومنه الإحسان، والمعروف منذ القدم بالجود والكرم، لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، أحمده سبحانه وأشكره، سخر لنا الوالدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بطاعة الوالدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حذر عن عقوق الوالدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا لله عزَّ وجلَّ وأطيعوه، ومن طاعته الإحسان إلى الوالدين، فالله سبحانه وتعالى عظَّم حق الوالدين، فقرن حقهما مع حقه، وقرن شكرهما مع شكره، فيا له من أمر عظيم! ويا له من حق كبير! فاسمعوا إلى المولى جل وعلا وهو يقرر ذلك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
(وقضى) أي: وصَّى ربك جل وعلا {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
ويقول الله جل وعلا: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
ويُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.
سأل ابن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة لوقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله}.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ثلاث آياتٍ نزلت مقرونة بثلاث، لا تُقبل منها واحدة بغير قرينتها:
إحداها: قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] فمن أطاع الله ولَمْ يُطعِ الرسول لَمْ يُقبل منه.
ثانيها: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فمن صلى ولَمْ يُزَكِّ لَمْ يُقبل منه.
ثالثها: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فمن شكر الله ولَمْ يشكر والديه لَمْ يُقبل منه]].(45/2)
حقوق الوالدين
أيها المسلمون: لنعرف حق الوالدين؛ فإن حقهما عظيم، وأمره خطير، وإن من حقوقهما: الحنو والشفقة عليهما، والتلطف لهما، ومعاملتهما معاملة الشاكر لِمَن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم.
أيها المسلم: يا من تحب أن تجزى بالإحسان إحساناً! عامل والديك بالإحسان والتلطف بهما.
أيها المسلم: لا تتأفف من شيء تراه، أو تشمه من الوالدين مما يتأذى به الناس، واحذر الضجر والملل! ولا تنغص أو تكدر عليهما بكلام تزجرهما به {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] أي: حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتقدير، فلا ترفع عليهما صوتك، وتذكر عندما كنت طفلاً صغيراً، ماذا حصل لك من الرعاية والعطف والحنان.
واسمع عِظَم هذا الحديث:
{جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه بالجهاد في سبيل الله معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} رواه: البخاري، ومسلم، فيا له من حق عظيم للوالدين!
ومما ورد في الحث على بر الوالدين: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد في سبيل الله، ولا أقدر عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: {هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}.
قال طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: {يا رسول الله! إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال: الزم رجليها، فثمَّ الجنة}.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
نعم.
يا عبد الله! للأم ثلاثة حقوق؛ لأنها تنفرد بأشياء كثيرة من المشاق، منها: الحمل، والوضع، والرضاع، وكثرة الشفقة، والخدمة, والحنو، فيا لها من حقوق تحتاج إلى مجازاة! فوالله ثم والله مهما بالغ البار بالوالدين فإنه لم يؤدِّ من الحقوق إلا القليل.
فيا أيها العاق! يا أيها المضيع لآكد الحقوق بالعقوق! يا من اعتاض بر الوالدين بالعقوق! يا من نسي ما يجب عليه من الحقوق! يا من غفل عما بين يديه! ألم تعلم أن بر الوالدين عليك دين؟! ففكر، ثم فكر هل وفيت بهذا الدين؟ فإنك ستجد غِبَّ ذلك في أولادك.
فيا أيها العاق! يا من نسي الجميل! هل نسيت حمل أمك في بطنها؟!
هل نسيت حملك في بطن أمك تسعة أشهر، وكأنها تسع حجج؟!
هل نسيت ما حصل لأمك من الكرب عند وضعك؟! فقد حصل لها والله ما يذيب المهج.
هل نسيت الرضاع؟!
هل نسيت غسلها عنك القذارات؟!
هل نسيت ذلك السرير الذي في وسط حجرها؟!
ثم إنها تتعب لراحتك؛ فإن أصابك مرض أو شكاية؛ أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والبكاء! إنها الأم الحنون، إنها الأم الضعيفة، إنها الأم المسكينة، كم بذلَتْ ما في وسعها لترتاحَ؟! ولو خُيِّرَت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها.
فكم حرمتها لذيذ المنام؟! فسهِّرت والناس نيام، وكم تلذذت برائحة ملابسك عند فقدك؟!
فيا لها من حقوق قابلتها أيها العاق بالنسيان! أعندما احتاجت إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك، نسيتها، وقدمت عليها الأهل والأولاد بالإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان؟ و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
إنها أمك، صَعُبَ عليك أمرُها وهو يسير، فكم طلبت منك حاجة فقابلتها بالامتناع والاعتذار؟! وربما قلت بكل شناعة: اللهم أرحنا من هذه العجوز! أنسيت يا هذا زمن الطفولة والحنان والرضاع؟! كيف قابلت إحسانها بالتقصير، وهجرتها ومالها بعد الله سواك من نصير؟! هل نسيت فزعها عندما يصيبك خوف أو مرض؟! تذكر يا من نسيت الجميل!(45/3)
صور من عقوق الوالدين
يا من عق والده وأبعده! تذكر تلك اللحظة عندما بُشِّر أبوك بمجيئك، ضاقت به الأرض بما رَحُبَتْ فَرَحاً بك وسروراً، ثم تذكر كد والدك عليك، لا يهدأ له بال مدى الليالي والأيام، يقتحم الشدائد، ويهيم على وجهه؛ لطلب الرزق لأجلك، وتذكر فرحه عندما يراك وأنت في خيرٍ وعافية، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك في أوقات الإجابة، وتذكر لحالته إذا تأخرت عن وقت المجيء والحضور، لا يقر له قرار، ولا يهنأ له عيش حتى يراك، تذكر إذا أقبل أقرانك ولم يرك بينهم.
فيا أيها العاق! اعرف حق الوالدين {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فحذاري من العقوق يا شباب الإسلام! والله لقد نسمع ما يندى له الجبين، وتضيق به الصدور من بعض ما يحصل من العاقين هداهم الله، فكم من شابٍ قال لأبيه: هذا فرَّاش عندنا، وكم من شابة قالت: هذه خادمة عندنا، يعنون: الأب والأم، فيا لها من مصيبة! والله إن هذا كفران الجميل! أبعد هذا التعب يكونا لك خادماً وخادمة؟!
أبعد هذا الحنو، والشفقة، والعطف، والحنان، وغسل القاذورات، يكونا عندك خادماً وخادمة؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون!
ومن أكبر المصيبة أن الرجل إذا كَبُر أو المرأة عند بعض الناس، يأخذوهما بكل استخفاف، وبكل استهتار، ثم يضعونها في دار الرعاية، أنسيت العطف والحنان؟! أنسيت الرعاية يا مسكين؟! بأي شيء تقابل به رب العالمين إذا سألك عن حقوق الوالدين؟!!
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.
اللهم أصلح نياتنا، وذرياتنا، واجعلنا من البارين بوالدينا، ولا تجعلنا من العاقين يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، واجعلنا هداة مهتدين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(45/4)
أسباب ظاهرة العقوق
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجْمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا ما جاء في الكتاب والسنة المطهرة، وتمسكوا بهما، فإن الإعراض عنهما يوحي بوخامة العاقبة.
عباد الله: لقد ظهرت في هذا الزمان موجة قوية من العنف والسخط من بعض أبناء هذا الزمان لآبائهم وأمهاتهم، وعدم الاحترام والتوقير لهما، وما ذاك يا عباد الله! إلا لأننا أعرضنا عن الكتاب والسنة، ففي القرآن والسنة نبأ عظيم، وهو لا شك فيه، أن بر الوالدين فريضة لازمة وواجب محتم، وعقوقهما حرام، وذنب عظيم، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته، وبيَّن ما يجب لهما، وما لا يحل فعله معهما، فقد قرأتُ عليكم قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23].
عباد الله: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، واعلموا أن سخط الله في سخط الوالدين، وأن رضاه لا يكون إلا إذا رضي عنكم الوالدان، ولا شيء يزيد في العمر، ويبارك في الرزق مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام.
عباد الله: ورد في الحديث: {ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث، الذي يُقر الخبث في أهله}.
والله يا إخوان! إن أكثر ما يصدر العقوق من مدمني الخمور والمسكرات والمخدرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالشاهد من هذا الحديث: أن العاق لا يدخل الجنة، ومن عقَّ والده عقَّه أولاده، وكما تدين تُدان، ولا يُجازى فاعل الشر إلا بمثل فعله {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15].
ويا لطول عنائها في حمله ووضعه!
فيا عباد الله: يا من تؤمنون بثواب الله وعقابه! هل امتثلتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات} فشكر المنعم واجب شرعاً وعقلاً، ولله تعالى نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين نعمة الإيلاد، والتربية الصالحة، والعناية التامة بالأولاد.
وأعظم الناس مِنَّةً، وأكبرهم نعمة على المرء والداه، اللذان تسببا في وجوده بعد الله عزَّ وجلَّ، واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن صار بالغاً تاماً يعقل ويفهم، فالأم تحمله تسعة أشهر في بطنها، تعاني به الآلام، ثم تضعه وتقاسي به الأسقام.
فيا أيها العاق: تُب إلى ربك، ارجع إلى ربك عزَّ وجلَّ، فالأم حنونة، والأب كذلك، عنده من العطف والحنان ما لا يعلمه إلا الله.
فبادر أيها العاق لبر الوالدين قبل أن يفاجِئَك هادم اللذات، أو قبل أن تُرزق بأولاد فيُعمل بك ما عملت بوالديك.
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله مما يبين لنا من شفقة الأم وعطفه: تقول عائشة رضي الله عنها: [[جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بين ابنتيها]] فأعجب شأنُها عائشة رضي الله عنها، فذكرت الذي صنعت المرأة مع ابنتيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلذلك يا عباد الله! لما كانت هي رحيمة وشفيقة، كان الله أرحم منها وأوسع فضلاً، فما الذي جازاها به يا عباد الله؟!
اسمعوا! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله قد أوجب لها الجنة، أو أعتقها بها من النار} فانظروا يا عباد الله! هذا الجزاء من الله!
فيا للأسف الشديد! لما يصنع بعض أهل هذا الزمان مع الوالدين -مع التقصير الشديد- من العقوق والتقصير في الواجبات، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.
عباد الله! صلوا على الناصح الأمين محمد بن عبد الله؛ امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].(45/5)
الإصلاح بين الناس
إن للإصلاح بين الناس ثمرات عديدة، وقد ذكر الله في كتابه الآيات الكثيرة التي تدل على الحث في الإصلاح بين الناس، وذلك مثل قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) فالواجب على المسلم أن يسعى في الإصلاح بين الناس بقدر ما يستطيع؛ وهي التجارة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب الأنصاري.(46/1)
الحث على الإصلاح بين الناس
الحمد لله رب العالمين, أمر بالإصلاح بين ذات البين، ورتب على ذلك الثواب الجزيل، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله يحب المقسطين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين, وسيد المرسلين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن توثيق عُرى المودة بين المسلمين، وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على ما يجلب المودة والتآلف والتناصر والتعاضد، وتجنب ما يوغر الصدور ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تاماً إلا بذلك.
ولما كان الصلح بين المسلمين أفراداً أو جماعات يُثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق والباطل، وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى، وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور، وتجنب المشاجرات، والاعتداءات على الحقوق والنفوس، وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها في الكيد والخصومات, إلى غير ذلك مما يثمره الصلح.
لذلك كله! أمر الله به في محكم التنزيل، فقال جلَّ وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وهذا أمر من الله جلَّ وعلا، ويقول أيضاً: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ويقول عليه الصلاة والسلام: {المقسطون على منابر من نور يوم القيامة} يقول ربنا جلَّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] ويقول الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكذلك ورد في السنة النبوية الحث على الإصلاح وفضله، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة، وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي أيوب وهو صحابي جليل: {ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا} رواه البزار والطبراني، وعند الطبراني: {ألا أدلك على عملٍ يرضاه الله ورسوله؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا}.
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين؛ لأنه يسعى في الإصلاح بينهم، فقد روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة} رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث صحيح، قال ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين}.
ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده، المضحي براحته وأمواله في رأب الصدع، وجمع الشتات، وإصلاح فساد القلوب، وإزالة ما في النفوس من ضغينة وحقد، والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء، وإطفاء نار العداوة والفتن.(46/2)
الإصلاح وظيفة المرسلين
إن الإصلاح وظيفة المرسلين -عليهم من الله أفضل الصلاة والتسليم- ولا يقوم بهذه الوظيفة إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم، وشرفت نفوسهم، وصفت أرواحهم، يقومون به لأنهم يحبون الخير والهدوء، ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس.
ولو تتبعنا الحوادث، وراجعنا الوقائع، لوجدنا أن ما بالمحاكم من قضايا، وما بالمراكز من خصومات، وما بالمستشفيات من مرضى، وما بالسجون من بؤساء لوجدنا أن هذا كله يرجع إلى إهمال الصلح بين الناس, حتى عمّ الشر القريب والبعيد، وأهلك النفوس والأموال، وقضى على الأواصر، وقطع ما أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم، وذهب بريح الجماعة، وبعث على الفساد في الأرض، ومن تأمل ما عليه الكثير من الناس اليوم، رأى أن كثيراً منهم قد فشت في قلوبهم، ونمت في طويتهم حب الشر -والعياذ بالله- والميل إليه، والعمل على نشر الشر بين الناس، من أجل ذلك يتركون المتخاصمين في غضبهم وشتائمهم حتى يستفحل الأمر، ويشتد الشر، ويستحكم الخصام بينهم، فيحصل الكلام والقذف والطعن بالكلام, حتى يتدرج الأمر إلى حمل السلاح -والعياذ بالله من مضلات الفتن- كل هذا يحصل وأهل الشر المشجعون لهذه الفتن يتفرجون، ويتغامزون، ويتتبعون الحوادث، ويلتقطون الأخبار، ثم تكون النتيجة سيئة، وقد يكفي لإزالة ما في النفوس من الأضغان والأحقاد والكراهية كلمة واحدة من عاقل لبيب ناصح مخلص لله ولرسوله يقوم بواجبه نحو هذه الرسالة, ألا وهي: الإصلاح بين الناس, حتى تقضي على الخصومات في مهدها، فيتغلب جانب الخير، ويرتفع الشر، وتسلم الجماعة من التصدع.
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(46/3)
صورة من إصلاح الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه
الحمد لله كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم من جحد به أو كفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى كل خير, والمحذر من كل شر، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، اعملوا بطاعة مولاكم، وبالتقرب إليه بما يرضيه عنكم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: {سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتَ خصومٍ في الباب عاليةٍ أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر، ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل.
فخرج عليهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين المتألِّي على الله لا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله! وله أيُّ ذلك أحب} متفق عليه.
فهذا الرجل كان قبل أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته ممتنعٌ أن يقبل من أخيه المعذرة، ويطلب منه الرفق والمسامحة، فيحلف بالله ألا يفعل، فلما خرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكراً لعمله بقوله: {أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟} عدل الرجل عن رأيه، واستجاب لفعل الخير، وقد قامت في نفسه دوافع الخير إرضاءً لله ولرسوله.
أما في زماننا، وفي وقتنا إذا قلنا: اصفح عن أخيك، وتجاوز عنه وستجد أن ما عند الله أعظم أجراً، قال: الآن، أين أنا من يوم القيامة؟ كأنه مستبعد البعث -والعياذ بالله- اتق الله، خاف الله، الآن آخذ حقي، ويوم القيامة لها حلال، هذه لهجتنا العامية التي سارت بيننا إذا حصل الإصلاح، إذا قيل لهم: اتقوا الله خافوا الله، سوف تجدون ذلك عند الله، قال: لا.
آخذ حقي الآن، ويوم القيامة لها حلال.
يوم القيامة أنت أحوج شيء إلى فضل الله ورحمته وإلى عفو الله ومغفرته، إن الله يحب المتجاوزين عن عباده، لقد غفر لعبدٍ من عبيده ما عمل بطاعته إلا أنه كان يتجاوز عن عباد الله، فقال له: {أنا أحق بالتجاوز عنك} هكذا يا أمة الإسلام.
الشاهد من ذلك: خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم.
فالدين الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المتخاصمين، ويقوموا بإصلاح ذات بينهم، ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده درءاً للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع، ومنعاً للفوضى والخصام.
وأضمن الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها: أن يجعل كل منا نفسه ميزاناً بينه وبين إخوانه المسلمين، فما يحبه لنفسه يحبه لهم، وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم، وبذلك تستقيم الأمور بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد, والحقد, ومن البغض لعبادك المؤمنين.
عباد الله: صلوا على رسول الله اقتداءً بأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم اجمع شتات قلوبنا، اللهم املأ قلوبنا من محبتك وخشيتك ومعرفتك، ومن الأنس بقربك يا رب العالمين.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، ورافع عنهم عافيتك ويدك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم دمّرهم تدميراً، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اجعلهم قرة أعين لنا، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(46/4)
اقتراب الموت
إن الموت باب لابد أن يدخله كل إنسان على هذه الأرض، ولو طال عمره، ولو أحب البقاء على الأرض والعيش فيها، فحري بالعاقل إذا علم أنه سوف يفارق هذه الدار إلى الدار الآخرة أن يكثر من الأعمال الصالحة قبل أن ينزل به الموت، فعندها لا ينفع الندم على التفريط، ففي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.(47/1)
الحث على تدبر القرآن
الحمد لله الذي قضى بالزوال والفناء على أهل هذه الدار، وتوحد بالبقاء، فلا يعتري ملكه زوال ولا إدبار، العزيز الذي عنت الوجوه لعزته، وخضعت الرقاب من سطوته، المرتدي بالكبرياء، المتزر بالعظمة، أحمده على فضله الشامل، وأشكره على إحسانه الكامل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله والحق دافر وقدم الصواب عاثر، فقمع الباطل بالحق الظاهر، ونسخ ظلمات الجهالة بنور العلم الزاهر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه.
عباد الله: تدبروا القرآن المجيد، فقد دلكم على الأمر الرشيد وتمسكوا به، فإنه حبل الله المتين وهو الصراط المستقيم والنور المبين، فطبقوه كما أمركم الله بتطبيقه، وأحضروا قلوبكم عند تلاوته لفهم الوعد والوعيد، ولازموا طاعة ربكم فهذا شأن المتقين ودأب المؤمنين وسلوك الصادقين، واحذروا من غضب الله، احذروا من غضب الجبار، فكم قصم من كل جبار عنيد طغى وتكبر، شيد البنيان وطولها وتأمر على الناس وسادهم، وظن الإنسان جهلاً منه أنه مخلد في هذه الحياة الدنيا، ومعمر فيها، فجمع الأموال ما بلغت، فلما ظن أنه قد حصل على الكمال، وتمكن منه الغرور، وأَمِن مكر الله وغفل عن الخالق جلَّ وعلا، جاءه أمر الله على غرة وسلبه الصحة والعافية، واللذاذة في المطعم والمشرب، فصارت الأموال عنده لا قيمة لها؛ لأنه جاءه ما يدهشه وينسيه، جاءه الموت بما فيه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].(47/2)
الندم على التفريط عند سكرات الموت
فيا من أنذرته المواعظ بمرور الليالي والأيام، ويا من أنذرته المواعظ بموت الآباء والأجداد والأولاد، هل تظن أنك بعدهم سوف تخلد؟! كلا والله، ثم كلا والله، سوف يأتيك ما أتاهم ويطرقك ما طرقهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
فيا أيها الإنسان: أما علمت أنك مخلوق في هذه الدنيا، موجودٌ للابتلاء والامتحان؟! أما علمت أنك مسئول عما فرطت فيه من عمرك؟! فما هذا الإهمال، وما هذا التفريط وأنت محاسبٌ ومناقش، وسوف تنطق أركانك بالشهادة عليك بما حُفظ ورصد عليك في ديوان أعمالك: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18] ويقول تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].
يا من يرى العبر بعينيه، ويسمع المواعظ بأذنيه، إنك تعنى بذلك، إنك تقصد بذلك، فهل أنت مستعدٌ إذا نزل بك ملك الموت؟! هل أنت مستعدٌ إذا نزل بك هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم الأطفال، ومرمل النساء؟! هل أنت مستعدٌ إذا حلت بك سكرات الموت، وتريد الكلام ولا تستطيع؟! تريد أن تقول: واأسفاه على شراء آلات اللهو! واأسفاه على شراء الفيديو! واأسفاه على ما جمعت في البنوك من الربا! واأسفاه على جسم نبت من السحت! واأسفاه على أوقات أمضيتها مع الميسر والقمار! واأسفاه على أوقات قضيتها في خارج البلاد في معاقرة الخمور وارتكاب الزنا، والجلوس في مسارح المجون والفساد والإلحاد!
هل يفيدك هذا الندم؟ وقد وصلت الروح إلى الحلقوم، وتماديت في معاصيك ولم تتب، فعند ذلك تقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] ثم يقال لك: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
عند ذلك تندم على تفريطك، وهيهات في ذلك الوقت أن يفيد الندم، وبعد خروج الروح من الجسد، تنتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، يحملونك من الدار إلى المقبرة وتبقى وحيداً في قبرك، ينهال عليك التراب، وتنفقع بطنك وتأتيك الديدان من كل ناحية، وعندك عملك؛ إن كان صالحاً فهنيئاً لك، وأنت في روضة من رياض الجنة، وإن كان عملك سيء فويل لك وأنت في حفرةٍ من حفر النار، على ممر العصور ومضي الدهور.
بعد ذلك يأذن الله بعد هذا المكث الذي لا يعلم قدره إلا الله جلَّ وعلا، يأذن بالنفخ في الصور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20].
فحينئذٍ يعيد الله الأجسام بقدرته إلى أول خلقها: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا} [الأنبياء:104].
لا إله إلا الله! الله أكبر القادر على كل شيء، فيجمعهم الله على صعيد واحد: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد} [ق:21].
معك الوزير، ومعك الواسطة، ومعك الرفيق، والصديق {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].(47/3)
الفرار من القرابة يوم القيامة من شدة الهول
عند ذلك في ذلك العرض العظيم {يوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
أخوك إذا مرضت جلس عندك في المستشفى، ولو طالت الأيام، وصاحبتك تساهرك الليل والنهار، وأمك وأبوك إذا خرجت إلى السوق وطالت غيبتك جعلا يبكيان حتى تعود إلى البيت، أما في هذا الموضع العظيم والموقف الكبير والمهول {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
نفسي نفسي، لا أسألك اللهم اليوم إلا نفسي، كلٌ يتبرأ من صاحبه، في ذلك المكان يعرض عنك الصديق ويهرب منك الأخ، وتلقى من الهول الشديد كل ما أزعجك وأساءك: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] من هذا الأمر الذي حذرك الله إياه، وفي ذلك الموقف العظيم تجري الدموع، والعرق يمتد في الأرض أذرعةً طويلة، والشمس حامية، وجهنم تزفر، والرب غضبان، يوم طوله خمسين ألف سنة تتقطع الأكباد فيه من الحسرات، تزفر جهنم على أهلها، وتشهق فرحةً بهم كما تشهق البغلة في الشعير.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! في ذلك اليوم توضع الموازين التي تنزعج لوضعها القلوب، ويقع الخصام ويقول الحق جلَّ وعلا: قد أزلت المُطل والليْ، وفصل هذا الأمر إليَّ، وانتصاف المظلوم من الظالم عليَّ، يا ويلك يا ظالم إن خرجت بمظالمك من الدنيا وأنت ظالم لعباد الله، يا ويلك إذا وقفت بين يدي الله، يا ويلك إذا أنشبت بك الخصوم أظفارها: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28].
حقاً لقد أنذرنا ربنا بالقرآن، فحذرنا من عواقب المعاصي والآثام، وأمرنا باجتناب الظلم، وحرمه على نفسه جلَّ وعلا، وأمرنا باجتناب الإجرام، وبأخذ الحلال واجتناب الحرام.
فهل من مستمع؟! هل من مطبق قبل أن يقال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]؟!
يا عباد الله: إن أمامكم يوم القيامة؛ يومٌ تشخص فيه الأبصار وتذهل فيه العقول: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
فهنيئاً لمن أطاع الله ورسوله، وامتثل الأمر وأدى الفروض، وانتهى عما نهاه الله عز وجل، فسوف يكون مع المؤمنين إذا جاءتهم البشارة السارة، وفازوا بالكرامات من الله إذا قال الله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍِ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [ق:31 - 32] لمن يا ربنا؟ {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:32 - 34].
ولا ينتهي ما فيها {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] كرامات تتبع كرامات، رضوان من الله في جوار رب العالمين.
أيها الناس: اتقوا ربكم عز وجل، فروا من النار، فروا من دار الهلكات، فروا من الجحيم ما دمتم في وقت الإمكان، فروا إلى دار الرحمة، إلى الدار التي طاب ساكنها ومسكنها، في نعيم أبدي لا يزول ولا يحول في جوار أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة بمنك وكرمك وإحسانك، اللهم اجعلنا من أهل الجنة بجودك وفضلك، اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين، اللهم لا تجعلنا من أهل النار، اللهم لا تجعلنا من أهل النار، اللهم لا تجعلنا من أهل النار، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، واستغفروا الله يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(47/4)
الحذر من كيد أعداء الإسلام
الحمد لله العلي العظيم القاهر، الملك السلطان القادر، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، أحمده سبحانه على ما أولانا من بره وإحسانه المتظاهر، وأشكره وقد وعد بالمزيد للشاكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المؤيد بالآيات والمعجزات والبصائر، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله عز وجل واعملوا ليومٍ تنكشف فيه السرائر وتحصى فيه الصغائر والكبائر، إنه يوم الجزاء الأكبر، إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم تدور فيه على المجرمين الدوائر، يومٌ تنشر فيه صحائف الأعمال، فآخذٌ كتابه باليمين له السرور والفرحة والغبطة أنه فاز ونجا، وأما من أخذ كتابه بشماله فسوف يراه عليه في ذلك اليوم من أكبر المصائب، لأنه خسر خسراناً مبيناً، إنه يؤمر به في نار جهنم فبئس المصير.
فاتقوا الله عباد الله وسارعوا ما دمتم في زمن الإمكان إلى رضوان الله، وبادروا بالأعمال الصالحة، واحذروا البدع، واحذروا منكرات الأهواء، واحذروا المعاصي بأنواعها، وحاربوا البدع، وحاربوا المنكرات، قبل أن يحل بكم ملك الموت فلا يمكنكم ذلك، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
خذوا حذركم من أعداء الإسلام فهم يشنون عليكم الغارة بما يوردون لكم من المعاصي والآثام.
انتبهوا -يا أمة الإسلام- لا تكونوا من الغافلين، كونوا حريصين على دينكم وعلى أخلاقكم.
إن من المؤسف، أن البعض من الناس لا يدري أو يدري ويتجاهل كيف يدس الأعداء الدسائس حتى بأقل حاجة لا يلتفت إليها، إلا الفطن، يصورون على أشرطة الكاسيت المرأة العارية وبجانبها الرجل يقبلها ويضمها، وتباع في أسواق المسلمين، ويؤتى بها إلى أسواق المسلمين ليغيروا بها أمزجة المسلمين، وليضيعوا أفكار المسلمين، ويدفنوا الغيرة من قلوب المسلمين، ويصوروا بها الفاحشة، ويثيروا بها الغرائز الجنسية، ويفعلون بها الأفاعيل بين المسلمين، والمسلمون ساكتون، إنها أشرطة مخبئة لا يعرفها إلا من عايشها، لكن على الذي عايشها، أن يتقي الله ويخاف الله ببلدان المسلمين، ليخاف الله بالمسلمين قبل أن تصيبه دعوة تقطعه إرباً إرباً.
اللهم من أراد المسلمين بسوء فإنا نجعلك في نحره، اللهم دمره تدميراً، اللهم مزقه كل ممزق، اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، أنت القوي القهار تغلب كل شيء بقدرتك؛ فإنك حسبنا ونعم الوكيل، اللهم من أتى إلى هذه البلاد الآمنة وأتى بالفساد فاجعل منيته في طريقه، واجعله غداءً للسباع، اللهم اجعله غداءً للسباع، اللهم اجعله غداءً للسباع، اللهم اجعله غريقاً في البحار، اللهم مزقه كل ممزق.
اللهم من جاء إلى هذه البلاد يريد الصلاح ويريد الإصلاح فأعنه على طاعتك واجعل لنا وله من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءً عافية.
أمة الإسلام: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فاحذروا البدع -يا أمة الإسلام- وصلوا على خير مرشد، صلوا على نبي الرحمة، وعلى من أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، محمد صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:65].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على أشرف خلقك محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين يا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سُقْيَا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار عاماً طبقاً مجللاً عاجلاً غير آجل يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم الآمرين بالمعروف الفاعلين له، الناهين عن المنكر المجتنبين له، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، واجمعنا ووالدينا في جنات النعيم يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(47/5)
الاستعداد للآخرة
ما قدمه الإنسان في دنياه فإنه ملاقيه في آخرته، ومحاسب عليه، ويوم القيامة يسعد المرء أو يشقى أبد الآبدين، وقد تحدث الشيخ عن أهمية هذا الأمر، وأن الله عز وجل ما أوجدنا في الدنيا إلا ليبتلينا، فيثيب المحسنين، ويعاقب المسيئين كلٌّ حسب ما قدم، ولن يسعد المرء إلا بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.(48/1)
إثابة الله للمحسن وعقابه للمسيء
الحمد لله رب العالمين، القائل وقوله الحق: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:55 - 57].
مالك يوم الدين، الذي بدأ الخلق وهو يعيده، وهو على كل شيء قدير، وهو الذي خلق الخلق ليعبدوه؛ فيجازيهم بعملهم والله بما يعلمون بصير، فسبحانه من رب عظيم، وإله غفور رحيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال وقوله الحق: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:10 - 13].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، أرسله الله بين يدي الساعة، فختم به الرسالة، وأكمل به الدين، وأتَمَّ به النعمة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله عز وجل خلقكم وأوجدكم في هذه الدار الدنيا للابتلاء والامتحان، ليرى المطيع فيجزيه ثواباً حسناً ومقيلاً في فسيح جناته، ويرى العاصي فيعاقبه بما يستحق من العقوبة والنكال، فاتقوا الله عباد الله، {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33].
عباد الله اتقوا يوماً فيه {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
اتقوا الله يا عباد الله واخشوا يوماً ينقسم الناس فيه إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء الذين جمعوا الأموال في البنوك من الربا والقمار والميسر، الذين عمروا الفلل، الذين شيدوا القصور، الذين كسدت تجارتهم في هذه الحياة، لا، لا يا مسكين.
السعداء الذين اتقوا ربهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراًَ، فما جزاء هؤلاء السعداء؟ جزاؤهم أن وجوههم {يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] وأما الأشقياء العصاة الذين تمادوا في معاصيهم، وفي ظلمهم، وفي عنادهم، وفي عتوهم وإذا قيل لهم: اتقوا الله، قالوا: التقوى هاهنا، ويشيرون إلى صدورهم، وهم يخالفون أمر الله ورسوله فوجوههم {يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:39 - 40] {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27].
عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
يومٌ وياله من يوم عظيم يجمع الله فيه الخلائق الأولين والآخرين، في صعيد واحد، في أرض مستوية، ليس عليها جبل ولا سهل، ولا نهر، يُسمِعهم الداعي، وينفذهم البصر، أجسامهم عارية، وأقدامهم حافية، وقلوبهم وجلة خائفة، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} [القمر:8] حضرت الحقائق، ووقعت الواقعة، وجاءت القيامة، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} [القمر:8] شاخصة أبصارهم في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
في ذلك اليوم يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركباناً، وصنف يمشون على وجوههم، فالذي أقدرهم على المشي على الأقدام، قادر على أن يجعلهم يمشون على وجوههم، في يوم {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9] تدنو الشمس من رءوس الخلائق قدر ميل؛ فيعرقون على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يكون العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ليس هناك ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، إلا شمس حامية قد أرسلت على رءوسهم في ذلك الموقف العصيب، قد كورت الشمس، وانكدرت النجوم، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111].
في ذلك اليوم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، تنصب الموازين لوزن الأعمال {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] الناجحون الفائزون، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103].
وما أدراك ما جهنم؟! نار حامية، جمعت فيها الأهوال، جمعت فيها العقارب والحيات، والسلاسل والأغلال، يوم القيامة يؤتى بالرجل له صلاة وصيام وزكاة، وقد ضرب هذا وأخذ مال هذا، وشتم هذا، وظلم هذا، فيجتمعون عليه الغرماء -الله أكبر الله أكبر- كلاً يريد حقه، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي لهم حق أُخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم ألقي في النار، الله أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.(48/2)
وجوب أداء الحقوق لأهلها في الدنيا
عباد الله! بينما رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم، جالس مع أصحابه ذات يوم، فرآه الفاروق عمر بن الخطاب يضحك، حتى بدت ثناياه، فقال له عمر رضي الله عنه: {ما أضحكك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ قال صلى الله عليه وسلم: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري، وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن تحمل عنهم من أوزارهم}.
فاتقوا الله عباد الله! إذا قال لك أخيك المسلم أعطني حقي قبل يوم القيامة، فأعطه حقه، ولا تماطل، اتقِ الله يا عبد الله فإن القيامة قريبة، فإذا مات العبد فقد قامت قيامته، يكفيك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا حمل الرجال الجنازة فإن كانت صالحة، قالت: قدموني قدموني} الله أكبر إلى روضة من رياض الجنة، إلى أول منازل الآخرة إلى القبر {وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها} إلى حفرة من حفر النار، إلى أول منازل الآخرة، إلى القبر يشتعل عليه ناراً.
اتقوا الله عباد الله! في ذلك اليوم، يوم تتطاير الصحف، وتظهر النتيجة مَن الناجح ومَن الراسب، فهنيئاً لمن نجح وأخذ صحيفته باليمين، وويل ثم ويل لمن رسب وأخذها بالشمال.
عباد الله! أمة الإسلام كلنا ولله الحمد نؤمن بيوم الحساب ولكننا في غفلة عن الاستعداد لذلك اليوم، قد شغلنا في العمران، قد شغلنا بجمع الحطام، قد شغلنا في التكاثر في الأموال والأولاد، شغلنا في دنيا دنية، وانغمسنا في لذائذها؛ كأننا لا نعلم أننا سوف نموت ونلحق بالأموات، فيالها من قلوب قد استولت عليها أيدي الشهوات!
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة} زوروا القبور، مثلوا لأنفسكم أنكم ستجعلون في تلك القبور، في تلك الحفر، وتلك الحفر بينها فرق شاسع إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
علت على القلوب الشهوات، ران عليها الران، قست فصارت كالحجارة، فسوف يلينها هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومرمل النساء، وميتم الأطفال، إذا هجم عليها واستخرج الروح من العصب والقصب واللحم، عند ذلك لا ينفع الندم، ترى الميت يتلمظ عطشاً، يريد شربة من ماء، يقلب بك البصر، يتمنى شربة من ماء، وأنت لا تدري ماذا يريد، يعاني من سكرات الموت التي عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله عباد الله! ولازموا طاعة مولاكم واسألوه أن يحيي قلوبكم، فإنه على كل شيء قدير، ارجعوا إلى المولى جلَّ وعلا، ارجعوا إلى ربكم، اقضوا أوقاتكم بذكر الله، بتلاوة القرآن، بالاستغفار، أحيوا مجالسكم بتلاوة القرآن، بتلاوة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لعل هذه القلوب أن تحيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة:1 - 6] أي: صفوف بين يدي الله، ولماذا يصدرون أشتاتاً؟ {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:6 - 8].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(48/3)
اجتناب طريق الشيطان
الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، المبعوث بتأسيس الحق وأصول الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله عز وجل، قوموا بحق الله خير قيام، تالله لقد غرت الأماني أكثر خلق الله، فتركوا سبيل الهدى، وأعطوا نفوسهم هواها، وأعرضوا عما يقربهم إلى دار النعيم، إلى دار القرار في جوار رب العالمين، لما أعرضوا عن ذلك وقعوا في شرك الردى، وتنادوا على التواني، وظنوا أن يتركوا سُدَىً، ونسوا قول الله جلَّ وعلا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] نسوا قول الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] نسوا قول الحق تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
عباد الله! مثلوا أحوالكم إذا قمتم من القبور حيارى، حفاة عراة غرلاً، وقد عظمت الأهوال، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، لقد لزمت الصحف الأعناق {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] وقال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ} [الأنعام:62].
عباد الله! كيف أنتم في ذلك الموقف الرهيب إذا سمعتم الجبار يقول: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] كيف لكن بالجبار إذا قال: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28 - 29].
قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] تحذير من الله، لكن أين القلوب يا أمة الإسلام؟ {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] هذا تحذير من الله، وتوبيخ لمن أطاع الشيطان، فيقول له يوم القيامة: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] فعند ذلك يؤخذ المجرمون بالنواصي والأقدام، ويطرحون في الجحيم، ويمرح بالنعيم من قدم الخيرات لدار السلام، وعمل بالباقيات الصالحات، ويخص بجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، فاتقوا الله عباد الله واسلكوا طريق الشرع القويم، الذي لا اعوجاج فيه، وقوموا بأوامر الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان، اتخذوه عدواً كما أخبركم الله أنه لكم عدواً، واحذروا أن تكونوا ممن غرتهم الحياة الدنيا بزخارفها الزائلة، وأولئك هم الذين تنقص الأيام والليالي آجالهم وهم لاهون غافلون، لا يتعظون ولا يعتبرون بما وقع بمن قبلهم.
فاتقوا الله عباد الله وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلىَّ علي صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أغثنا جميعاً بالإيمان، اللهم اشفِ مرض قلوبنا، اللهم اشفِ مرض قلوبنا، اللهم اشفِ مرض قلوبنا يا رب العالمين، اللهم أذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم دمر اليهود والمبشرين والشيوعيين وأعوانهم يا رب العالمين، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، واقطع دابرهم، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم غنيمة للمسلمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وألف بين قلوبهم واجعلهم هداة مهتدين، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، واجعلهم هداة مهتدين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين أجمعين يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجميل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(48/4)
اسلك سبيل المؤمنين
في هذه الخطبة حث الشيخ على المداومة على الأعمال الصالحة في رمضان وفي غيره، مبيناً حكم تارك الصلاة، وأوصى بالتناصح بين الجيران بالمحافظة على الصلاة، كما ذكر بعض الأعمال المستحب التقرب بها إلى الله من صيام وقيام ليل وغيرها.(49/1)
المداومة على الطاعة بعد رمضان
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: لازموا طاعة المولى في السر والعلانية.
أمة الإسلام: وأنتم تودعون شهر رمضان المبارك، الذي كان ميدان تنافس للصالحين بأعمالهم، ومجال تسابق للمحسنين بإحسانهم، وعامل تهذيب للنفوس المؤمنة، روضها على الفضيلة، وارتفع بها عن الرذيلة، فأخذت فيه دروساً للسمو الروحي، والتكامل النفسي، فجانبت كل قبيح، واكتسبت فيه كل هدىً ورشاد.
فيجب على تلك النفوس المؤمنة أن تستمر على نهج الهدى والرشاد والاستقامة على طاعة المولى جل وعلا كما كانت في رمضان، فإن في دوامها على ذلك الهدى والرشاد والاستقامة نعيم للصالحين وإرضاء لرب العالمين.(49/2)
طاعة الله لا تنتهي بوقت معين
أمة الإسلام: ليس للطاعة زمن مَحدود ينتهي بانتهائه، ولا للعبادة أجل معين تنتهي بانتهائه، بل العبادة هي حق الله على العباد، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]
نعم -يا عباد الله- العبادة: هي حق لله يعمر بها العبادُ الزمانَ، ويشغلون بها فرص الحياة، ويقطعون بها سويعات العمر، فالعبد الذي يقطع مرحلة الحياة في طاعة الله وفي مرضاته هو من أولياء الله المتقين، الذين وعدهم الله بعظيم الأجر وسابغ الفضل، حيث يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:41 - 44].
هكذا يجزيهم رب العالمين؛ لأنهم عاملوه معاملة العارفين الذين عرفوه حق المعرفة، وقدَّروه حق قدره، وقاموا بحقه حق القيام، فجازاهم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جازاهم في دار الكرامة، في دار النعيم، في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فهنيئاً لهم تلك الكرامة في جوار رب العالمين.
ويا أرباب الهمم العالية، ويا من قد تفضل الله عليهم بإتمام صوم رمضان، وأسبغ عليهم العفو والغفران، وكتب لهم العتق من النيران، واصلوا الإحسان بالإحسان، واتقوا الله ربكم، فإن من تقواه المداومة على عمل البر والإحسان, واعزموا عقد النية على التزام المسلك الراشد الذي التزمتموه في رمضان.(49/3)
العودة بعد رمضان إلى طاعة الشيطان
فإنه من المؤسف جداً انهزام تلك الصفوف! إنه من المحزن جداً أن البيوت ملأى بأناس لا يُرون في المساجد إلا في رمضان! ثم بعد رمضان يعودون إلى طاعة الشيطان بعد طاعة الله، وربما يكون في عبادتهم شرك إذا كانوا لا يعبدون الله إلا في رمضان، فإنهم في ذلك الفعل الوخيم قد عصوا الله ورسوله، فقولوا لهم -يا من تعرفونهم! يا من كنتم تأكلون معهم مائدة الإفطار! - قولوا لهم: تارك الصلاة كافر، إذا ترك فرضاً واحداً متعمداً فهو كافر، فكيف بمن يترك الفرض أحد عشر شهراً والعياذ بالله؟! وبعضهم لا يصلي إلا يوم الجمعة، وباقي السنة لا يعرف فيها بيوت الله، فهؤلاء إذا أصروا وعاندوا وجحدوا باقي الأوقات فهم كفار والعياذ بالله، وتارك الصلاة كافر مرتد، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
تارك الصلاة كافر ملعون مطرود عن رحمة الله، لا يُصلى على جنازته إذا مات، ولا ينبغي أن يُغش به المسلمون، فمن كان عنده إنسان مات وهو لا يصلي، فلا يغش به إخوانه المسلمين؛ لأنه كافر، والكافر لا يُصلى عليه، ولا يُغسل، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُدعى له بالرحمة، بل يُوارى بعيداً عن البلد، تارك الصلاة لا يُؤاكَل، ولا يُشارَب، بل يُهجَر ولا يُجالَس.
وأما الذين يتركون الصلاة بالكلية، فهم كما ذكرنا كفار والعياذ بالله.
أما من يصلي في البيت فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد [[سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة، فقال: هو في النار]] ثم أتاه السائل بعد شهر، فسأله، فقال: رجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة، فقال: [[هو في النار]].
فانظر كيف حكم ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما على هذا الذي لا يشهد الجمعة والجماعات في النار، نعم يا عبد الله.
ولقد همَّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -وهو نبي الرحمة- بإحراق بيوت أناس لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، همَّ أن يحرقها عليهم بالنار، ولولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقها عليهم بالنار.
فلنتق الله -يا عباد الله- ولنتواصَ بالحق، ولنصبر على ذلك، ولنواصل أعمال الخير التي كنا نعملها في رمضان، حتى يتوفانا الله إليه وهو راضٍ عنا.
قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ قول الحق تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] "
وقيل لبعض العارفين: إن قوماً يتعبدون ويتهجدون في رمضان، ثم إذا خرج رمضان تركوا ذلك، فقال: بئس القوم! لا يعرفون لله حقاً إلا في رمضان.(49/4)
أهمية تقوى الله قبل لقائه يوم القيامة
فاتقوا الله، عباد الله، انصحوهم يا عباد الله، كلموهم يا عباد الله، بلغوهم ذلك الوعيد الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم -يا أخي- أن جارك يتعلق بك يوم القيامة، فتقول: يا رب! لم أظلمه بماله، ولا بعرضه، ولا بأهله، فيقول: صدق، ولكنه رآني على المنكر فلم ينهني ولم يأمرني.
ثم أولادك -يا عبد الله- اتق الله فيهم، لا تخرج إلى المسجد وأولادك في فرشهم نائمون؛ فإنك مسئول عنهم يوم القيامة.
عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ قبل يوم القيامة، قبل أن توقفوا بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فيسألكم عن الصغير والكبير، في يوم تشخص فيه الأبصار لله الحي القيوم، وتشيب فيه الصغار، وتزفر فيه النار، وتحيط به الأوزار، وينصب فيه الصراط، ويغلظ فيه العذاب، ويشهد الكتاب، ويحضر الحساب، ويعظم العقاب، فيا له من يوم ما أطوله وأشد هوله! فكم من شيخ كبير فرط في عمره، وأضاع الحياة، فهو ينادي بأعلى صوته: وافضيحتاه واشيبتاه واشيبتاه
وكم من كهلٍ أو شاب اغتر بشبابه، فضيع أوامر الله ورسوله، وارتكب المحرمات، وهجر المساجد، فهو تاركٌ لصلاته، حالق للحيته، مسبل لثيابه، متشبه بأعداء الله، قضى حياته في إدمان المخدرات والمسكرات، والزنا، واللواط، يؤذي المسلمين في مرافقهم، ثم جاءه الأجل وهو على هذه الحالة من غير توبة، وهو يوم القيامة ينادي: واشباباه واشباباه واشباباه فيا له من يوم عظيم لا تنفع فيه الواسطة، قد تجلى فيه الرب للفصل بين العالمين! قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21] فيا لها من فضيحة! ويا له من عار بين العالمين!
فيا عباد الله: عدوا العدة لذلك اليوم، وخذوا الأهبة ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، ووفقنا لصالح الأعمال، واغفر لنا ولوالدِِينا ولوالدِي والدِينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(49/5)
صيامات مستحبة في غير رمضان
الحمد لله الذي كتب على هذه الخليقة فناءً وزوالاً، وجعل لكل شيء منها إدباراً وإقبالاً؛ ليدلنا بذلك على أن لكل نازل رحيلاً وانتقالاً.
أهَلَّ علينا شهر الصيام ليفيض فيه علينا من الإحسان والرحمة والغفران، ففاز من أطاع الله فيه، وخاب وخسر فيه من أساء الأعمال وعصى الرحمن، فسبحان من قسم عطاءه بين خلقه! فهذا مقبول، وهذا مردود، أحمده سبحانه وأشكره، إذ أعاننا على الصيام والقيام، كرماً منه وإفضالاً.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك آيسين، ولا من عطائك مفلسين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
يا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: لَئِنِ انقضى شهر الصيام فإن العام كله محل عبادة للواحد القهار، فالله عزَّ وجلَّ يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
ففي الحث على الصيام يقول سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر} رواه مسلم.
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: {صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، رواه الإمام أحمد ومسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم}.
وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، ويقول: {إن الأعمال تُعرض فيهما، فأرجو أن يُعرض عملي وأنا صائم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: حث على صيام يوم عرفة، ويوم العاشر من شهر المحرم.(49/6)
قيام الليل في غير رمضان
وقد شُرع قيام الليل في غير رمضان، ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قوله، قال: {أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل}.
فاحرص -يا عبد الله- على هذا الفضل العظيم، فإن الرب جل وعلا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
ثم يا عبد الله! اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه أنه: {ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثني عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة} وهي:
أربع ركعات قبل الظهر.
وركعتان بعد الظهر.
وركعتان بعد المغرب.
وركعتان بعد العشاء.
وركعتان قبل صلاة الغداة، أي: قبل صلاة الفجر {وركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها}.(49/7)
نصيحة لإبراهيم بن أدهم في قيام الليل
فاجتهدوا -إخواني- وشمروا في طاعة الله، واسمعوا إلى هذا الحث والنصيحة من إبراهيم بن أدهم رحمه الله حيث يقول:
قم الليل يا هذا لعلك ترشدُ إلى كم تنام الليل والعمر ينفَدُ
أراك بطول الليل ويحك نائماً وغيرك في محرابه يتهجدُ
ولو علم البطَّال ما نال زاهدٌ من الأجر والإحسان ما كان يرقدُ
فصام وقام الليل والناس نُوَّمٌ ويخلو برب واحدٍ متفردُ
لا يخلو بالأفلام والتمثيليات والبَلُوْت.
بحزم وعزم واجتهاد ورغبة ويعلم أن الله ذا العرش يُعبدُ
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً يخلد
اسمع يا مسكين! يا من تشيِّد وتبني، وتجعل الأساس إلى الماء! اعلم أنك سوف تنتقل وتموت.
أترقُد يا مغرور والنار توقدُ فلا حرها يُطفى ولا الجمر يخمد
أترقدُ يا مغرور؟! يا ليتهم يرقدون ويرتاحون من الملاهي، والتمثيليات، والأفلام، والأغاني الماجنة، يا ليتهم يرتاحون من القيل والقال، ومن مغازلة النساء.
فيا راكب العصيان ويحك خلِّها فتحشر عطشاناً ووجهك أسودُ
فكم بين مشغول بطاعة ربه وآخر بالذنب الثقيل مقيدُ
الله أكبر! صحيح، كم بين الذين ذهبوا إلى العمرة، وإلى المسجد النبوي، وإلى الذين ذهبوا خارج البلاد، إلى الزنا, واللواط، والخمور والمسكرات، كم بينهم من الفرق يا عباد الله؟!
فهذا سعيد في الجنان منعَّمٌ وهذا شقي في الجحيم مخلدُ
الله المستعان!!
كأني بنفسي في القيامة واقفٌ وقد فاض دمعي والمفاصل ترعدُ
وقد نُصب الميزان للفصل والقضا وقد قام خير العالمين محمدُ
محمد صلى الله عليه وسلم الذي سوف يرد على حوضه أناس ثم تردهم الملائكة، فيقول: {يا رب! أمتي أمتي فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك}.
فيا عباد الله: احذروا من مضلات الفتن.
الله الله بالاقتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، محمد بن عبد الله الذي ترككم على المحجة البيضاء، صلوا على رسول الله الذي جاء بها نقية من عند رب العالمين، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوا عليه، فإن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً، والله عزَّ وجلَّ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقنا وإياهم الجلساء الصالحين الناصحين الذين يعيوننا إذا ذكرنا، ويذكروننا إذا نسينا يا رب العالمين.
اللهم قيض لأولادنا قرناء صالحين، اللهم قيض لأولادنا جلساء صالحين، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا سامع الصوت! ويا سابق الفوت! ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت! نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، أن تجعل كيد أعداء الإسلام والمسلمين في نحورهم، يا رب العالمين.
اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً لهم، يا سامع الدعاء.
اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وخالف بين كلمتهم، ورمِّل نساءهم، ويَتِّم أطفالهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم وحد صفوفهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، واجعلهم يداً واحدة على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
اللهم اجمعنا ووالدِينا ووالدِي والدِينا، وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات في جنات النعيم، إنك على كل شيء قدير.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:90 - 91].
عباد الله: اشكروا الله تعالى على هذه النعم، قابلوا ربكم على هذه النعم، قابلوه بشكرها، قوموا لله بشكر هذه النعم، اشكروا الله دائماً وأبداً على نعمة الأمن، ورغد العيش، والاستقرار، ونعمة العافية، وأنتم تعبدون الله لا تخافون في الله لومة لائم، اشكروا الله تعالى على هذه النعمة قبل زوالها.
ثم اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم.
وصلوا على محمد، يا عباد الله.(49/8)
أشراط الساعة
حتمية قيام الساعة أمر مفروغ منه، ولكن لها أشراطاً، وهذه دعوة لكل أحد أن يطلع على هذه الأشراط، ويتفكر فيها، فإن الساعة قريبة، ولتأتينهم بغتة وهم لا يشعرون، ثم دعوة أخرى إلى النظر في أحوال الناس يوم القيامة وأقسامهم ومنازلهم.
نسأل الله أن يجعلنا مع السابقين والله المستعان.(50/1)
أشراط الساعة في السنة النبوية
الحمد لله الذي تفرد بعلم الغيب، ولا يعلم قيام الساعة إلا هو، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استوى عنده علم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله عز وجل، وتوبوا إليه توبة نصوحاً، قبل أن يحال بينكم وبين التوبة، وقبل أن تفجأكم القيامة بغتة وأنتم لا تشعرون، فإنه من مات قامت قيامته، فإنكم لا تدرون متى تقوم الساعة.
وللساعة أشراط وعلامات، قد أظهر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على كثير منها، فيما أوحاه إليه من الكتاب والسنة، وليس يعلم صلى الله عليه وسلم إلا ما أوحاه إليه ربه، فمن ذلك ما في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين؛ كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن ويكثر الهرج -وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يهم رب المال من يقبض الصدقة، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لفحته فلا يطعمه ولا يشربه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها}.(50/2)
اقتتال الفئتين وبعث الدجالين
عباد الله! بهذا الحديث أخبر نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم عن اثني عشر أمراً تكون قبل قيام الساعة، أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة، وفسر العلماء ذلك بما وقع في زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما، حيث كان كل من الفئتين يدعو إلى ما يرى أنه الحق، فقتل منهم نحو سبعين ألفاً على ما قيل.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون، يزعم كل منهم أنه نبي، وقد ظهر كثير منهم، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] هكذا يقول رب العالمين.(50/3)
قبض العلم وكثرة الزلازل
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، والمراد به العلم الشرعي؛ علم الكتاب وعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكيفية قبض العلم:
أن يقبض العلماء كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا}.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلال، والزلازل نوعان:
النوع الأول: زلازل حسية، تهز الأرض فتدمر القرى والمساكن، وزلازل معنوية تزلزل الإيمان والعقيدة والأخلاق والسلوك حتى يضطرب الناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيعود الحليم العاقل حيراناً، والحديث محتمل لكل منهما.(50/4)
تقارب الزمان وكثرة الفتن والقتل والمال
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره، وذلك بكثرة الغفلة وفشل الأعمال والأوقات، حتى يمضي الزمن الكثير والإنسان ما صنع إلا شيئاً قليلاً، أو أن معناه سرعة إنجاز الأمور التي لا تنجز إلا بزمن كثير كما يشاهد اليوم في وسائل النقل ووسائل الإعلام، فكم من بلد كانت لا يوصل لها إلا بعد أشهر والآن يوصل إليها في ساعات قليلة، فصلوات الله وسلامه على من لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، فتن الدين والدنيا، أما فتن الدين فكل ما يصد عن الإيمان بالله، والقيام بأوامره واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، من العقائد الفاسدة، والأفكار الهدامة، والسلوك المنحرف، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بالاشتغال بالشهوات واللذائذ المحرمة؛ من آلات اللهو ومن الأغاني والتمثيليات والأفلام الخليعة التي أفسدت الأخلاق وصدت العباد عن طاعة الله.
وأما فتن الدنيا، فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب.
وظهور الفتن يا أمة الإسلام دليل على ضعف العلم الصحيح والإيمان الخالص، وعدم الولاية العادلة.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر القتل، سواءٌ كان ذلك بالحروب أو بالاغتيالات، وقد جرى ذلك.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وقد كثرت الأموال وسوف تزداد حتى يهم الرجل من يقبض صدقته، وحتى يعرض المال على الرجل هبة أو صدقة؛ فيقول: لا حاجة لي به.(50/5)
التطاول في البنيان وتمني الموت
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان، سواءٌ كان التطاول بجمال البنيان وتشييده والاعتناء به، أو بارتفاعه، كل ذلك من التطاول، وهو دليل على اشتغال الناس في أحوال دنياهم دون أحوال دينهم؛ لأن التطاول في البنيان يشغل القلب والبدن، فيلهو به الإنسان عن مصالح دينه.
أمة الإسلام! وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وذلك لما يرى من الأمور العظام التي يفضل الموت عليها؛ من عظيم البلاء ورئاسة الجهلاء وخمول العلماء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم واستغلال الحرام.(50/6)
طلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، ويختل نظام سيرها، فحينئذٍ يعلم الناس أنها تسير بتقدير الله وأمره؛ فيؤمنون ولكن لا إيمان ينفع في تلك اللحظة، إلا من كان مؤمناً من قبل أو كاسباً في إيمانه خيراً.
ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم بغتة، وضرب لذلك أربعة أمثال: تقوم والرجلان بينهما ثوب قد فلاه، يتبايعانه فلا يمكنهما البيع ولا طي الثوب إلا والساعة قائمة تفزعهم.
تقوم الساعة والرجل قد انصرف بلبن ناقته ليشربه، فلا يتمكن من شربه.
تقوم الساعة والرجل يصلح حوض إبله ليسقيها فلا يسقي فيه تبغته الساعة.
تقوم الساعة وقد رفع اللقمة إلى فمه فلا يطعمها.
هكذا يخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
فيا عباد الله! أمة الإسلام! بادروا بالتوبة إلى الله، بادروا بالأعمال الصالحات، آمنوا بالله ورسله وأعدوا ليوم القيامة عدته قبل أن يفجعكم ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19]
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(50/7)
أقسام الناس يوم القيامة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله حق تقاته، واستعدوا ليوم القيامة، اليوم الذي ينقسم فيه الناس إلى ثلاثة أقسام:
أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، وإليكم ذكر أولئك الأصناف من كتاب الله العزيز: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:1 - 10].(50/8)
السابقون
هؤلاء الأقسام، ولكن لكل قسم منزلة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:10 - 26].
هؤلاء أصحاب الرتبة الممتازة.(50/9)
أصحاب اليمين
وبعد السابقين يأتي أصحاب اليمين قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:27 - 40].(50/10)
أصحاب الشمال
بعدهم القسم الثالث نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} [الواقعة:41 - 51] فرق عباد الله! انظروا إلى السابقين ماذا يأكلون، وإلى هؤلاء ماذا يأكلون، نسأل الله العافية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:51 - 57].
الخاتمة يا عباد الله! لينظر كل منا إلى أين ينسب من هذه الفرق: أصحاب الميمنة، والسابقون، وأصحاب الشمال، فصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صل عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم اسقنا من حوض نبيك محمد، شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم لا تحرمنا من شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم تداركنا بواسع رحمتك، واختم بالصالحات أعمالنا يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع عنهم عافيتك ويدك، ومزقهم كل ممزق يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار في مشارق الأرض ومغاربها يقودونهم قيادة حميدة، ويدلونهم إلى كل خير، ويحذرونهم من كل شر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، وأجرنا يا مولانا جميعاً من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوفنا وأنت راض عنا يا كريم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع إخواننا المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم واقض الدين عن المدينين من المسلمين بلطفك يا كريم.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(50/11)
أشراط الساعة وفتنة الدجال
أشراط الساعة هي علاماتها التي تحدث بين يديها، ولعل أهمها وأكبرها فتنة المسيح الدجال، وقد حذر الأنبياء عليهم السلام أممهم من هذه الفتنة، لأنها فتنة عظيمة، وقد جعلها الله كذلك بأن جعل للمسيح الدجال إمكانات خارقة للعادة، بعيدة عن قدرة البشر.(51/1)
أشراط الساعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الناس: اعلموا علم اليقين أن الساعة آتية لا شك فيها ولا ريب، ومصداق ذلك من كلام الله جل وعلا: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] بل ينكرون ويكذبون والعياذ بالله، فاسمعوا الوعيد الأكيد لمن كذب بالساعة، قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:11 - 14].
ثم اعلموا يا عباد الله! أن الله عز وجلَّ لم يُطلع أحداً من خلقه على علم الساعة، لا ملكاً من الملائكة مقرباً، ولا نبياً من الأنبياء مرسلاً، بل استأثر بعلمها وحده لا شريك له قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] وقال جل وعلا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
وقد سأل جبريل عليه السلام نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: {متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل} أنت جبريل، وتأتي بالوحي من عند الله، لو كان أحدٌ يعلمها لعلمت أنت يا جبريل، وسأخبرك عن أشراطها -وهذا في رواية البخاري - وفي رواية مسلم عن أماراتها، قال: {إذا ولدت الأمة ربها} وفي رواية مسلم: {إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله} ثم تلا نبينا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] وأنا أشهد على ذلك أن الله عليم خبير، وصدق الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87].
وللساعة -يا عباد الله- آيات واضحة إذا ظهرت فإنه لا ينفع إيمان بعد خروجها، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] إذا رأى الناس الآيات آمنوا وصدقوا ولكن لا ينفعهم ذلك، إذا خرج الدجال أو طلعت الشمس من المغرب، أو خرجت الدابة التي تَسمُ الناس، أو خرج من أشراط الساعة ما الله به عليم, فإن الناس حينئذٍ يؤمنون ويصدقون فعند ذلك لا ينفعهم الإيمان.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير الآية السابقة: وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من أشراط الساعة، كما قال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها} أي: كل من على وجه الأرض يؤمن، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة وأماراتها، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق يجب اعتقاده والتصديق به.(51/2)
فتنة المسيح الدجال
ذكر صلى الله عليه وسلم للساعة أشراطاً كثيرة منها ما مضى، ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل، وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال -أعاذني الله وإياكم من فتنة المسيح الدجال- فقد صح عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبر من الدجال، وإنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته، وإنه يجيء معه بمثل الجنة والنار} فتنة عظيمة يا عباد الله، فتنة كبرى، اللهم أجرنا من مضلات الفتن، يجيء معه بمثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها جنة نارٌ تحرق، والتي يقول إنها نار ماء عذب طيب، ثم يقول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم: {فمن أدرك ذلك منكم فليقع فيه} أي: في ناره، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم, إنه شاب قطط، أعور العين اليمنى، مكتوب بين عينيه كفر، يقرأها كل مؤمن كاتبٌ وغير كاتب، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه بفواتيح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً}.
فاثبتوا يا عباد الله! قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: {أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم, قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا، اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم -فتن يا عباد الله- ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلأً شبابا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل ووجهه يضحك} وفي رواية: {يقول لهذا الشاب: أوما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم, فيستوي قائماً -فتنة يا عباد الله! اثبتوا- ثم يقول: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيأخذه الدجال ليذبحه فلا يسلط عليه}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال, قالت أم شريك: فأين العرب يومئذٍ؟ قال: هم قليل} ويتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفاً، ويخرج همته المدينة، فتصرف الملائكة وجهه عنها؛ لأن الله جعل على كل باب منها ملكين يمنعانه من الدخول.
فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين -أي: حلتين- مصبوغتين بورس أو زعفران، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات.
ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه، فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى صلى الله عليه وسلم قوماً قد عصمهم الله من الدجال، ويمسح بوجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
عباد الله! سبحان من مكّن هذا الدجال، سبحان الرب العظيم، سبحان القادر المقتدر الذي مكّن هذا الدجال من هذه المعجزات، مكّنه فتنة للعباد، وبين لهم العلامات التي تبين بطلان ما ادعاه وفساده, فإنه أعور ناقص في ذاته، وأنه مكتوب في عينيه: " كفر " يقرأه كل مؤمن، إنه إذا قتل الرجل ثم أحياه لم يقدر عليه بعد ذلك، فهو ناقص في قدرته، إن جنته نار، وناره ماء طيب عذب، فما جاء به الدجال فهو باطل.
إن الدجال يا عباد الله خلق مخلوق من مخلوقات الله، وإنه يفنى ويقتل، يقتله عيسى بن مريم عليه السلام، وإنه في الأرض لا في السماء, وكل هذه صفات مخلوق ناقص، التي تبرهن على أنه ليس بإله.
فعليكم -عباد الله- بالإيمان الصادق بالله، قووا إيمانكم بالله، التجئوا إلى الله، تعرفوا إلى الله ينجيكم من الشدائد إذا نزلت بكم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا بك مؤمنين وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم اجعلنا من الطائفة الذين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمرك يا ألله، اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أجرنا من مضلات الفتن، ونعوذ بك اللهم من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات, ونعوذ بك من النار ونعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(51/3)
من أهوال يوم القيامة
الحمد لله الذي استأثر بعلم الساعة، ولم يُطلع عليها أحداً من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال وقوله الحق: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187] أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب لنا سواه, هو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أخبر بآيات تكون قبل الساعة، وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، وأعدوا العدة والأهبة إلى يوم القيامة، وكلنا ولله الحمد يؤمن بيوم القيامة، ونعلم ونقرأ أننا نبعث بعد الموت، ومن لم يؤمن بيوم البعث والنشور فهو كافرٌ والعياذ بالله، قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وفي يوم البعث -يا عباد الله- تكون أمور وأهوالٌ عظيمة, جمعها أحد الوعاظ في هذه الموعظة، فقال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رأس العباد تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما بها معمور
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير؟
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
كل هذا -يا عباد الله- سوف يحصل يوم القيامة وأشد من ذلك، ولكن قبل يوم القيامة -كما ذكرنا- آيات وعلامات تدل على قيام الساعة، أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله عنها في كتابه العزيز منها: الدجال, والدابة, ويأجوج ومأجوج, ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، وطلوع الشمس من المغرب، وحدوث زلازل وخسوف أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما علينا إلا أن نلتجئ إلى الله، نلتجئ إلى أرحم الراحمين، لعله أن يقوي إيماننا فلا تضرنا الفتن إنه أرحم الراحمين.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة, وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي مرة صلّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وزد صلاة وتسليماً على إمامنا وقدوتنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم دمّرهم تدميراً يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم أصلح أئمة المسلمين، وولاة أمورهم في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وأصلحنا جميعاً وأصلح لنا وأصلح بنا, واهدنا واهد لنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا؛ واللواط والسفور والتبرج، والأفلام الخليعة، والتمثيليات الماجنة، والأغاني الشريرة، اللهم ارفعها عنا وعن جميع المسلمين يا رب العالمين، وطهّر بلادنا وبلدان المسلمين منها إنك على كل شيء قدير، اللهم املأ قلوبنا من محبتك, ومن خشيتك, ومن معرفتك, ومن الأنس بقربك, واملأها حكمة وعلماً، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والشكوك والشبهات والشهوات، ومن الغل والشحناء والعداوة للمسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(51/4)
ابتلاءات إبراهيم
المؤمن لا بد له من ابتلاء واختبار، وقدوتنا في ذلك الأنبياء، فهذا خليل الله يدعو قومه لعبادة الله عز وجلَّ، وينكر عليهم عبادة الأصنام، فيواجه قومه وحده، فيقذفون به في النار، ولكن الله يقول للنار: (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً)؛
ويؤمر بذبح ابنه الوحيد فيقبل أمر الله، ويكرمه الله هو وابنه بالفداء، ويجعله الله إماماً للعالمين.(52/1)
قصة إبراهيم مع قومه
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الفضل والامتنان والإحسان, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من قام بشرائع الإسلام، وأفضل من حقق الإيمان، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجلَّ واعرفوا أنبياء الله ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام, وفي مقدمتهم: أبوكم إبراهيم عليه السلام؛ فإنه من أولي العزم عليه أفضل الصلاة والسلام وقد حصل له من الابتلاء والامتحان ما ظهر به صدقه وإيمانه بالله رب العالمين، فقد جاهد في الله حق الجهاد.(52/2)
إبراهيم ينكر على قومه عبادة الأصنام
ففي أول أمره عليه أفضل الصلاة والسلام لما عرف الله حق المعرفة, وعرف أن قومه على غير حق, وأنهم ضالون بعبادتهم الأوثان من دون الله, عزم وشمَّر عن ساعديه مستعيناً بالله الحي القيوم على تدمير الأصنام التي يعبدونها من دون الله.
إبراهيم فرد واحد قام بأمر عظيم بإنكار المنكر وهو: تكسير الأصنام التي يعبدها قومه من دون الله, فوثب عليه قومه وصارت المخاصمة والمناظرة بينه وبين القوم، ولكن الله عز وجلَّ أخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا, فكل من قام بأمر من أمور الله، يريد بذلك إعلاء كلمة الله, ونصرة دين الله؛ فإن الله ينصره لا محالة؛ لأن الله جلَّ وعلا لا يخلف الميعاد.(52/3)
إبراهيم يقذف في النار
لقد نصر الله إبراهيم -عليه السلام- بحجته الظاهرة، فلجأ القوم ينصروا ما هم عليه من السفه والطغيان فكادهم رب العالمين جلَّ جلَّاله, وأعلى كلمته ودينه وبرهانه, كما قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
وذلك أنهم انشغلوا جمع الحطب من جميع ما يمكن من الأماكن لمدة شهر؛ حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت نذرت لئن عوفيت لتحملن حطباً لحرق إبراهيم، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة, فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأضرموا فيها النيران, فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط, ثم وضعوا إبراهيم -عليه السلام- في كفة منجنيق صنعه لهم رجلَّ من الأكراد يقال له: هيزل , وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدون إبراهيم عليه السلام ويثبتونه بالحبال وهو في كفة المنجنيق يناجي إله الأولين والآخرين, ويستنصر برب العالمين, "لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الشكر لا شريك لك", هكذا كان نداءه عليه السلام وهم يقيدونه بالحبال ليلقوه في تلك النار العظيمة, فلا يزال أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين, لك الحمد ولك الشكر لا شريك لك، فلما ألقوه في النار اتصل بالحي القيوم الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, قال: "حسبي الله ونعم الوكيل", الكلمة التي قالها رسول الهدى محمد بن عبد الله إيماناً بالله، واقتداءً بالخليل عليه السلام لما قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174].
فاقتداءً بإبراهيم عليه السلام قالها محمد صلى الله عليه وسلم, فإبراهيم عليه السلام، قال: حسبي الله ونعم الوكيل، قال بعض السلف: "عرض جبريل لإبراهيم وهو في الهواء فقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ -يقولها جبريل الذي له ستمائة جناح أعظم الملائكة خلقاً, يقول له الروح الأمين: ألك حاجة يا إبراهيم؟ - فقال: أما إليك فلا.
حسبي الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس رضي الله عنها: [[إن ملك المطر قال: متى أؤمر فأرسل المطر ليطفئ النار عن إبراهيم]] , ولكن أرحم الراحمين، إله الأولين والآخرين، الذي بيده أزمّة الأمور، الذي إذا قال للشيء: "كن" فيكون، قال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] صدر المرسوم الملكي الذي لا يعارض ولا ينازع: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] التوقيع من جبار السماوات والأرض, فخمدت تلك النار, يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: [[أي: لا تضريه]] وقال بعض المفسرين: لولا أن الجبار جلَّ وعلا قال: {وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لآذى إبراهيم بردها.
بعد هذا المرسوم الكريم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] كيف صار إبراهيم؟ صار إبراهيم في مثل: الجوبة، حوله الناس وهو في روضة خضراء, والناس ينظرون إليه لا يستطيعون الوصول إليه وهو لا يخرج إليهم.
ويروى أن الطاغية الخبيث أبو إبراهيم لما نظر إلى إبراهيم في تلك الروضة، قال: نِعَمْ الرب ربك يا إبراهيم.
ويُروى أن إبراهيم عليه السلام مكث في المكان الذي ألقي فيه أربعين أو خمسين يوماً، فإنه قال: ما كانت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشتي وحياتي كلها مثل ذلك إذ كنت فيها.
هذا إبراهيم عليه السلام نصره الله، إبراهيم فرد، قام بأمر الله فنصره الله, فما بالكم بملايين المسلمين واليهود يعيثون فساداً في مقدسات الله؟!
الشيوعية تعيث فساداً في أنف المسلمين، والنصرانية تعيث فساداً في ديار المسلمين, وأهل البدع يعيثون فساداً في بلاد المسلمين، والمسلمون وهم يُعدُّون بالملايين, وإبراهيم واحد قام بأمر الله عز وجلَّ؛ ولكن الله لا يخلف وعده, فمن صدق مع الله وأخلص النية لله, فإن الله قد أصدر مرسوماً ملكياً يقرأ منذ أربعة عشر قرناً: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51].(52/4)
قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل
هاجر إبراهيم -عليه السلام- لما غير المنكر، وكسَّر الأصنام، وأثابه الله بمثوبة عظيمة ظهرت على رءوس الأشهاد، وهي: إطفاء النار التي يوقدونها شهراً ولم يستطيعوا هم بأنفسهم أن يضعوه فيها إلا بواسطة المنجنيق؛ فأطفأها الله عز وجلَّ, وهاجر إبراهيم من بلاد قومه، وبنى البيت العتيق هو وإسماعيل عليهما السلام، حتى صار البيت العتيق مأوى يأوي إليه الناس, تلبية لنداء إبراهيم حيث أمره الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] هكذا من قام لله وقام بأمر الله بصدق وإخلاص.(52/5)
إبراهيم يؤمر بذبح إسماعيل
لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه جلَّ وعلا أن يهب له ولداً صالحاً, فبشَّره الله تعالى بغلام حليم، وهو: إسماعيل عليه السلام, وهو أول ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمره.
فلما بلغ معه السعي -أي: شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه- رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا -أي: إسماعيل- ورؤيا الأنبياء وحي، وهذا اختبار من الله عَزَّ وَجلَّ، الله أكبر!! سبحانك وبحمدك لا إله إلا الله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]! إنه يأمره بذبح ولده، وفلذة كبده إسماعيل الذي أتاه في تأخر من عمره، وهذا -كما قلت- اختبارٌ من الله عز وجلَّ لخليله بأن يذبح هذا الولد العزيز، الذي جاءه على كبر في السن! هل مانع إبراهيم؟
لا.
إنما امتثل أمر الله -عز وجلَّ- في ذلك, وسارع إلى طاعة مولاه.
عرض ذلك على ولده إسماعيل ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسراً ويذبحه قهراً: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ابتلاء عظيم!! ابن ليس له غيره من الأبناء, وشب وترعرع وصار في طاعته, ثم أمر بذبحه إنها كبيرة جداً على النفس يا عباد الله! ولكن لا بد من طاعة المولى جلَّ وعلا، قال: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لا إله إلا الله! {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] ما أحلى الأولاد البارين! ما أحلى الأولاد الطائعين! {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فبادر الغلام الحليم والده الخليل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
عباد الله! هذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد, قال الله تعالى: {لا إله إلا الله العظيم الحليم} هذا دعاء الكرب الذي أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي لكل مسلم إذا أصابته كربة أن يلجأ إلى الحي القيوم, مفرج الكربات, ومغيث اللهفات, وقاضي الحاجات, ومغني الفاقات, إله الأولين والآخرين, الذي إذا قال للشيء: كن فيكون.
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم علَّمنا دعاء الكرب، قال: {إذا أصاب أحدكم الكرب فليقل: لا إله إلا الله العظيم الحليم, لا إله إلا الله رب العرش العظيم, لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم} فإذا أصاب الإنسان كرب ودعا بهذا الذكر العظيم فإن الله يفرج له.(52/6)
الله جلَّ وعلا يفدي إسماعيل بذبح عظيم
لما امتثل أبونا إبراهيم عليه السلام طاعة الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ألقاه على وجهه ليذبحه، قال بعض المفسرين: أراد أن يذبحه من قفاه؛ لئلا يشاهده في حال ذبحه, ثم تأخذه رحمة الأب بابنه, وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جنبه لاصق بالأرض, وسمّى إبراهيم، وكبِّر وتشهد الولد للموت, وجعل إبراهيم يمر السكين على حلق إسماعيل, فلم تقطع شيئاً، يقول بعض المفسرين: جعل الله بين السكين والحلق نحاس، أو جعل الله قدرته القادر على كل شيء ألا تضره السكين، فعند ذلك نودي من قبل الله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] ارفع ابنك عن الأرض, وارفع السكين عن إسماعيل, فقد حصل المقصود من اختبارك يا إبراهيم, وحصلت طاعتك لرب العالمين, ورأينا مبادرتك لربك يا إبراهيم {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] أي: الاختبار الظاهر، ثم قال رب العزة والجلال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] أي: جعلنا فداء ذبح ولده إسماعيل ما يسره الله تعالى من العوض وهو كبش أبيض أعلم, أي: عظيم سواد العين أقرن، قال ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن: [[كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً]].
فإبراهيم عليه السلام لطاعته لله، وامتثال أوامره، سمَّاه الله عز وجلَّ: أمة؛ فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] وكذلك يبعثه الله تعالى يوم القيامة أمة واحدة.
فاتقوا الله -يا عباد الله! - واشكروا الله على نعمة الإسلام, واشكروه على ما أنعم عليكم من هذه النعمة العظيمة أن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس, وجعلكم من الأمة الإسلامية التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم.(52/7)
وقفة مع الأضحية
عباد الله: اشكروا الله على نعمه، ثم على مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم, وتنفقون بها نفائس أموالكم, فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم, وإن لكم بكل شعرة فضل عظيم, إن لكم بكل شعرة حسنة, وبكل صوفة حسنة, يقول صلى الله عليه وسلم: {ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض تطيب بها نفساً}.(52/8)
حكم الأضحية
اعلموا -أيها المسلمون- أن بذل الدراهم بالأضحية وشرائها أفضل من الصدقة بها, والأضحية سنة مؤكدة لمن يقدر عليها, قال بعض العلماء: إنها واجبة على الأغنياء, فضحّوا عن أنفسكم وأهليكم وأولادكم والوالدين, ليحصل الأجر العظيم للجميع، والبعض من الناس يظن أن الأضحية للأموات فقط بل للإحياء، فقد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فقال: {اللهم هذا عن محمد وآل محمد، وهذا عمن لم يُضحِ من أمة محمد} فالذي لا يستطيع على الأضحية يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضحَّى عنه, وهذا عن من لم يستطيع أن يضحي من أمة محمد، أو كما جاء في الحديث الصحيح.
واعلموا أن الأضحية تكفي للبيت الواحد عن الوالد وأولاده وأهل بيته، وفضل الله واسع, إلا إذا كانت وصية فإنها لصاحبها الذي وصى بها, كما نص في وصيته التي وصى بها.(52/9)
شروط الأضحية
والأضحية تكون من بهيمة الأنعام، إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو الماعز ولا تجزئ إلا بشرطين:
أولاً: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً.
ثانياً: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء, فأما السن ففي الإبل خمس سنين, وفي البقر سنتان, وفي المعز سنة, وفي الضأن ستة أشهر.
وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {أربع لا تجوز في الأضاحي: العرجاء البين ضلعها, والعوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها, والعجفاء التي لا تنقى} فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء.(52/10)
زمن ذبح الأضحية
عباد الله! من كان منكم يُحسِن الذبح فليذبح أضحيته بيده، فقد ذبح أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة, ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها فذلك أفضل.
واحذروا أن تذبحوا قبل الوقت المحدد للتضحية شرعاً, فالوقت هو من بعد الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين، وينتهي وقت الذبح بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد.
فأيام الذبح أربعة: العيد, وثلاثة أيام بعده, والذبح في النهار أفضل, ويجوز الذبح في الليل, ويسميها عند الذبح, فإن التسمية شرط عند الذبح, فمن لم يقل: باسم الله متعمداً على ذبيحته -أي: لم يسمِ- فهي ميتة نجسة حرام أكلها, أما الذي ينسى فقد قال جلَّ وعلا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال صلى الله عليه وسلم: {عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان}.
عباد الله! اذبحوا برفق, وحدُّوا السكين, ولا تحدوها وهي تنظر, ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها, ولا تسلخوها أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت, وكلوا من الأضاحي، واهدوا وتصدقوا, ولا تعطوا الجزار أجرته منها, بل أعطوه أجرة وأعطوه صدقة إن كان فقيراً.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات, واجتناب المنكرات واجعلنا هداةً مهتدين, مقتدين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، غير ضالين ولا مبتدعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(52/11)
فضل الأيام العشر من ذي الحجة
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجلَّ, وشمروا لطلب الخيرات قبل فواتها, واغتنموا الأعمال الصالحات في أوقاتها, فمنها الأيام المفضلات المخصوصة بالتشريع في محكم الآيات, وهن الأيام المعلومات أيام عشر من ذي الحجة التي فرط الكثير فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلا نسمع التكبير امتثالاً بسلفنا الصالح؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون!
أميتت هذه السنة ولا حول ولا قوة إلا بالله! البعض يرى أن التكبير والتهليل عيب ونقيصة, وهو -والله- فضيلة ورفعة, وأجر من رب العالمين {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
عباد الله! في هذه الأيام اليوم التاسع المخصوص بالفضل العظيم، والمقسم به في القرآن العظيم وهو يوم عرفة, فاغتنموا فضله, واحذروا الموانع والقواطع من الذنوب, يقول صلى الله عليه وسلم: {خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة, وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما رؤي الشيطان أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة} لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الرب عن الذنوب العظام, وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيده من النار من يوم عرفة}.
وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عرفة وذلك لغير الحاج, فقال صلى الله عليه وسلم: {صيام يوم عرفة احتسبوا على الله أن يُكِّفر السنة الماضية والسنة الآتية} وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة, فيقول: هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق, يرجون مغفرتي، فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل لغفرتها، ثم يقال لهم: أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه}.
فاجتهدوا -عباد الله- بالأعمال الصالحة، وارفعوا أصواتكم بالتكبير في كل مكان: في الأسواق, والمساجد, وفي المجتمعات, وفي البيوت, وأكثروا من قراءة القرآن, ومن التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير, ومن الصدقات, واستيقظوا -يا عباد الله- من رقدتكم قبل أن تفوتكم أيام الخيرات, وقبل أن ترتهنوا في حفركم، وقبل أن توضعوا في القبور, فيتمنى الواحد منا أن يقول: لا إله إلا الله أو يقول: سبحان الله, أو الحمد لله, وقبل أن يتمنى الواحد منا أن يصلي ركعتين ولا يحصل له ذلك, فقد ارتهن بعمله، وصفت عليه اللبنات، وحث عليه التراب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يقوم لرب العالمين.
عباد الله! صلوا على رسول الله، امتثالاً لأمر الله؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً} , وربنا جلَّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي , وعن سائر أصحابه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل, اللهم وحد صفوفهم, واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.(52/12)
عواقب معصية الله
حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار, وقالها محمد صلى الله عليه وسلم, ونقولها نحن عندما نتوعد بـ أمريكا والاتحاد السوفيتي وجميع الدول الخبيثة نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
واعلموا -يا عباد الله- أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروكم بشر لم يضروكم إلا بشيء قد كتبه الله لكم، ولو اجتمعوا على أن ينفعوكم بخير لم ينفعوكم إلا بخير قد كتبه الله لكم.
عباد الله: قووا إيمانكم بالله, لقد شاب كثير من الشباب, لماذا؟! لما يسمع جاءتك أمريكا , جاءك الاتحاد السوفيتي , جاء كذا وكذا , ونسي الله عز وجلَّ الذي نصر إبراهيم -واحد- عليه السلام قام بأمر الله ونصره الله نصراً مؤزراً, ونصر محمداً صلى الله عليه وسلم وهذا من الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51].
عباد الله! اصدقوا مع الله, قوموا مع الله, وحدوا الله, توبوا إلى الله, بيوت الله تكاد أن تخلى من المسلمين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نعم -يا عباد الله- والله ثم والله أن مسجدنا هذا في رمضان أكثر من عشرة صفوف, والآن لا يتم الصفين في صلاة الفجر فإنا لله وإنا إليه راجعون! والله إنها مصيبة عظمى أصيب بها المسلمون.
نعم -يا عبد الله- لو كان للإنسان وعد لفزع وقام مذعوراً أما منادي الله: حي على الصلاة, حي على الفلاح, الصلاة خير من النوم, يضع الغطاء ويطيل على المكيف وينام تحته متناسياً لأمر الله عز وجلَّ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] نعم.
سوف يحصل عندنا الذعر والخوف من أعداء الله؛ لأنه ورد في الحديث القدسي: {من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني}.
نعم -يا عباد الله- المسلمون لن ينتصر عليهم أعداء الإسلام, ولن يقدروا عليهم إلا إذا نسي المسلمون ربهم وتركوا دينهم فإن الله يسلطهم عليهم بذنوبهم.(52/13)
من أسباب الهزيمة المعصية
في غزوة أحد نصر الله رسوله في أول الأمر وقال للرماة: لا تبرحوا مكانكم سواء انتصرنا أم لم ننتصر, ولكنهم لما عصوا رسول الله وجاءوا يأخذون معهم الغنائم, كرّ عليهم العدو وفتك بالمسلمين فتكاً عظيماً, بمعصية قليلة انهزم المسلمون وكادوا يقتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم, ألقوه في الحفرة وأدموا وجنتيه وكسروا رباعيته صلى الله عليه وسلم, بسبب معصية خالف بها بعض الصحابة رضي الله عنه فكيف الآن بالمسلمين؟ ترك البعض الصلاة -والعياذ بالله- والكثير منهم لم يعرف الصلاة إلا في رمضان, الكثير من شباب الإسلام لا يعرف الصلاة -والعياذ بالله- ولا يعرفون أموراً عظيمة قد تركوها, فوالله لن يؤتى المسلمون إلا من قبل أنفسهم، إن أتاهم آت فإنما يؤتون من قبل أنفسهم وبسبب معاصيهم لله عز وجلَّ.
إذا لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله فإن الله يغار، يا عباد الله! إن الله ليس بغافل, إن الله مطلع على السرائر ويعلم ما في الضمائر.
فعلينا -يا عباد الله- أن نتوب إلى الله قبل أن يحل بنا ما حل بالمجاورين, ليس بين الله وبين خلقه نسباً, انظروا إلى المجاورين بعدما كانوا في جنات ونهر, وفي ثمار وفي نعمة ورغد عيش, الآن انظروا إليهم ماذا يعملون يأكلون الخشاش -والعياذ بالله- ويأكلون القطط، يأكلون الكلاب، تدوسهم الأعداء بالأحذية لماذا؟! لأنهم عصوا رب العالمين وخالفوا أمره والله لا يخلف الميعاد.
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, وأسأل الله عز وجلَّ أن يصلح قادة المسلمين، أسأل الله أن يرزقهم الجلساء الصالحين، أسأل الله أن يرزقهم البطانة الصالحة التي تحثهم على الخير وتأمرهم به وتعينهم عليه.
أسأل الله عز وجلَّ أن يقوي شجرة الإيمان في قلوبنا حتى نغار, وحتى نأمر بالمعروف, وحتى ننهى عن المنكر, وحتى نكون كما أراد الله قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
اللهم قوي إيماننا بك, وبملائكتك, وبكتبك, وبرسلك, وباليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, لا تكفروا النعمة يا عباد الله, احذروا من كفران النعمة, احذروا من المعاصي فإنها تجلب النقم وتزيل النعم, احذروا ثم احذروا! قبل أن يحل بكم ما حل بمجاوريكم, واجعلوا هذه العبارة بين أعينكم وارسموها في جدران قلوبكم, احذروا ثم احذروا! لا يصيبكم ما أصاب المجاورين من زوال النعم ومن دوس الأعداء ومن فتكهم, ومن انتصارهم, ارجعوا إلى ربكم, توبوا إلى ربكم, أقلعوا عما أنتم فيه يا عباد الله.
أسأل الله أن يرزقني وإياكم التوبة النصوح, وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/14)
أصحاب الغار
إن الله سبحانه وتعالى مع عبده المؤمن الذي يلهج دائماً بذكر الله وطاعته، ومع الذين يتعرفون إلى الله في الرخاء، فإذا اشتدت عليهم الكربات، وأظلمت عليهم المصائب والملمات، كان الله قريباً منهم بفعلهم وتقربهم إلى الله عز وجل، ولذا فإن الشيخ قد أورد في هذه الرسالة قصة أولئك النفر المؤمنين من بني إسرائيل وما فيها من فوائد لتكون لنا درساً على مدى التاريخ.(53/1)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين, والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة, تعرفوا إلى الله عز وجل بالقيام بطاعته, رغبة في ثوابه, وابتعاداً عن عقابه, خوفاً من النار, فإن أليم النار شديد.
أيها المسلمون! أيها المؤمنون بالله حقاً! اعلموا أن رخاء العيش، وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على العباد، والقيام بطاعة المنعم الجواد جل وعلا.
أيها المؤمنون بالله: اعلموا أن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة, ويستطيع أن يعمل في سن الشباب ما لا يمكنه القيام به في حال الكبر والهرم, ويستطيع أن يعمل في زمن الأمن والطمأنينة ما لا يمكنه القيام به في حال الخوف, ويستطيع أن يعمل وهو صحيح، ما لا يمكنه القيام به وهو مريض, وإذا امتحن الإنسان هذه الحياة، وفكر فيها جيداً، عرف حقاً أن العافية في البدن والأمن والترف لا يدوم, فقد يعقبها شدة ومرضاً.
نعم يا أهل الأخوة في الله: نعم يا أهل العقول! يا أولي الألباب! إذا امتحن الإنسان هذه الحياة الدنيا وفكر فيها جيداً، عرف حقاًً أن العافية في البدن والأمن والترف لكنها لا تدوم, فقد يعقبها شدة ومرضاً, وخوفاً وجوعاً, لكن المؤمن بالله حقاً، الذي قوى صلته بربه جل وعلا، وقام بحق الله تبارك وتعالى وتعرف للحي القيوم في حال الرخاء، فإن الله تبارك وتعالى يعرفه في حال الشدة, في حال الضيق, فيلطف به ويعينه على الشدائد وييسر أموره, قال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] * وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] هكذا وعد الله سبحانه وتعالى للمتقين, والله لا يخلف المعياد, فاتقوا الله عباد الله.(53/2)
قصة ثلاثة نفر عرفوا الله في الرخاء
وإليكم هذه القصة التي تبين عاقبة الأعمال الصالحة، وأن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة, يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه, فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار, فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً, فنأى بي طلب الشجر يوماً؛ فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما, فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً, فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر-الله أكبر- والصبية يتضاغون عند قدمي, فاستيقظا فشربا غبوقهما, اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ -وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء- فأردتها على نفسها فامتنعت مني, حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها؛ ففعلت حتى إذا قدرت عليها -وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها- قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها -الله أكبر- اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه, فانفرجت الصخرة, غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم أنه كان لي أجراء -اسمعوا يا أهل المؤسسات! اسمعوا يا من تظلمون الناس حقوقهم! اسمعوا يا من تواعدون وتخلفون- وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب, فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال, فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله! أد إليّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق, فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي, فقلت: لا أستهزئ بك, فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً, اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه, فانفرجت الصخرة, فخرجوا يمشون} لا إله إلا الله, ما أجمل التقوى وأهدى سبيلها!
أمة الإسلام: تلكم القصة التي أخبر بها أصدق الخلق محمد صلى الله عليه وسلم, فالأول من أولئك الثلاثة ضرب مثلاً عظيماً في بر والديه, وبقي طول الليل والإناء على يده، لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله, ولا أن ينغص على والديه نومهما, لم يقل: يا شيبة يا عجوز قم، لا.
تركهما حتى قاما واستيقظا حتى طلع الفجر والقدح على يديه، فلما قاما أسقاهما ذلك الغبوق, الله أكبر.
وأما الثاني: فضرب مثلاً بالغاً في العفة الكاملة حيث تمكن من حصول مراده, من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه، ولكن لما ذكرته بالله لما قالت له: اتق الله تركها وقام, ولم يعمل الفاحشة, ولم يأخذ شيئاً مما أعطاها, ناهيك من الذين يتكبدون المشاق يضربون المشاوير الطويلة ليحصلوا على الزنا واللواط, فكم سمعوا في الخطب, كم سمعوا في المواعظ: اتقوا الله اتقوا الله ولكن: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
وأما الثالث: فقد ضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح حيث نمّى للأجير أجره, لم يماطل به, لم يشتكيه على الحقوق المدنية, لم يواعده ويضره, لم يضرب دونه الباب, لم يمنعه أجره بالثمانية أشهر ولا بالعشرة الأشهر، يواعده في بلاده، يعطيه من المواعيد ومن الأماني, فإذا أتى به ثمله وسرحه, فبعضهم يموت جوعاً الآن بسبب أولئك الذين فقدوا الأمانة, فيا ويلهم إذا وقفوا بين يدي الله.
هذا الثالث ضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح، حيث نمّى للأجير أجره, فبلغ ما بلغ وسلمه إلى صاحبه, ولم يأخذ على عمله شيئاً, فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله, في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة, فأنقذهم من الهلاك وإلا يا إخوتي في الله من يعلم أنهم في وسط هذا الجبل وسدت عليهم هذه الحجر العظيمة إلا لطف الله عز وجل, لما تعرفوا على الله في الرخاء عرفهم الله في الشدة, فأنقذهم من الهلاك, وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، أن من تعرف إلى الله في حال الرخاء عرفه في حال الشدة، كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:61 - 63].
اللهم إن نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى, بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(53/3)
أعظم شدة هي شدة الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: قد سمعتم ما في القصة السابقة الذكر من الأمر العجيب لمن أطاع الله واتقاه.
أيها المسلمون: إن الشدائد أنواع متنوعة, وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت, عند فراق المألوف، واستقبال المخوف, فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته وحياته ونشاطه وأمنه واستقراره عرفه الله سبحانه في حال شدته وعند حضور ملك الموت، إذا نزع الروح من القصب والعصب واللحم؛ فإن الله يهون عليه الأمر ويحسن له الخاتمة, وينتقل من هذه الدنيا على أحسن حال, وأما إذا كان معرضاً عن الله لم يزده الرخاء إلا بطراً وبعداً عن الله تعالى, فحريٌ بأن يكله الله إلى نفسه, ويتخلى عنه حال شدائده فتحيط به السيئات والأوزار ويموت على أسوأ حال, نسأل الله العافية.
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] وهذا الناصح الأمين محمد بن عبد الله، رسول الهدى يقول صلى الله عليه وسلم: {أكثروا ذكر هادم اللذات} ,قال بعض العلماء: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
1 - تعجيل التوبة.
2 - قناعة القلب.
3 - النشاط في العبادة.
ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
1 - تسويف التوبة.
2 - عدم الرضا بالكفاف.
والناصح يقول:
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها هل راح منها بغير الحنط والكفن
3/ التكاسل في العبادة.
عباد الله: الاستعداد للموت هو ألا يفرغ القلب من ذكره, ويتذكر دائماً من أخذه الموت على غرة وبدون إنذار.(53/4)
سبب عدم إجابة الدعوة في الشدة
عباد الله: مر إبراهيم بن أدهم على أناس فسألوه عن قول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] قالوا: يا إبراهيم! فإنا ندعوه فلا يستجاب لنا! فقال رحمة الله تعالى عليه: " لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:
أولاً: أنكم عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
ثانياً: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به.
ثالثاً: ادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.
رابعاً: ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم أثره وسنته.
خامساً: ادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها.
سادساً: ادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب.
سابعاً: ادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.
ثامناً: اشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.
تاسعاً: تأكلون رزق الله ولا تشكرونه.
عاشراً: تدفنون أمواتكم ولا تعتبرون.
فجدير لمن كان الموت مصرعه والتراب مضجعه, والدود أنيسه, ومنكر ونكير سائله, وعمله جليسه, والقبر مقره, والبرزخ مستقره, والقيامة موعده, والجنة أو النار مورده, ألا يغفل عن الموت وما بعده, وألا يستعد إلا له, وألا يهتم إلا به, وألا يحوم إلا حوله, وليعد نفسه في الموتى, ويراها في أصحاب القبور, وليذكر اليوم أنه في الدور والقصور, وغداً في الحفر والقبور.
فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم من ذلك الغفلة عنه والإعراض عن ذكره, وعدم التفكير فيه, وترك العمل له, فإن فيه عبرة لمن اعتبر، انتهى كلام ابن أدهم رحمه الله تعالى.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا.
اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا, واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفؤاً أحد, لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أسقنا سقيا رحمة, اللهم لا راحم للعباد سواك يا أرحم الراحمين, اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مرئياً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار, اللهم سقيا رحمة اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق, اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم ارفع عنا التبرج والسفور والأفلام الخليعة والأغاني الماجنات, اللهم طهر بيوتنا وبلادنا من هذه الفتن يا رب العالمين.
اللهم أحيينا مسلمين, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين, غير خزايا ولا مفتونين.
عباد الله اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(53/5)
أصول التوحيد
إن من أوجب الواجبات على العبد توحيد الله عز وجل؛ لأن التوحيد هو القاعدة وهو الأصل والأساس لدين الإسلام ولا يقبل الله عملاً إلا به.
والتوحيد له ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، والقسمان الأولان منه لا يدخل المعتقد بهما دون أن يعتقد بتوحيد الألوهية؛ لأن المشركين كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق والرازق والمالك والمقدر وغيرها، ومع ذلك لم يكونوا موحدين.(54/1)
أنواع التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمة الإسلام! أمة العقيدة! اعلموا أن من أوجب الواجبات على العبد معرفة توحيد الله عز وجل؛ ذلك لأن التوحيد هو القاعدة والأصل والأساس لدين الإسلام الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، وللتوحيد ثلاثة أصول:
1/ توحيد الربوبية.
2/ توحيد الأسماء والصفات.
3/ توحيد الألوهية.(54/2)
الأصل الأول: توحيد الربوبية
ويطلق عليه توحيد أفعال الرب تبارك وتعالى، وهذا الأصل من التوحيد، ولا يكفي العبد في الدخول في الإسلام، والدليل أن المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بهذا التوحيد لله وحده، ولم يدخلهم في الإسلام كما أخبر الله عنهم في محكم البيان: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31] ويخبر عنهم جلَّ وعلا فيقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] ويخبر الله عنهم أيضاً فيقول: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:84 - 87] ويخبر عنهم أيضاً فيقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] الله أكبر يا أمة الإسلام! المشركون يقرون بذلك، ولكن لم يدخلهم هذا في الإسلام.
ومع الأسف الشديد يوجد أناس في هذه الآونة المتأخرة ينكرون وجود الله جلَّ جلاله، ينكرون وجود الخالق جلَّ وعلا, كما هو معتقد الشيوعيين وأتباعهم من أهل الكفر والزندقة والإلحاد، وليس الأسف أن يكون أولئك الذين يعتنقون ذلك المذهب الخبيث، ولكن الأسف ثم الأسف أن أناساً يدعون الإسلام وتربوا في أحضان الإسلام أحبوا ذلك المذهب الخبيث مذهب الشيوعيين، وبعضهم اتبع ذلك المذهب، وإذا قيل لهم اتقوا الله، قالوا: أثبتوا لنا وجود الله.(54/3)
الأصل الثاني: توحيد الأسماء والصفات
وهو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، السميع البصير، القوي العزيز، اللطيف الخبير، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، الرحمن على العرش استوى، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الذي قال وقوله الحق: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] ويقول رسول الهدى ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: {إن لله تعالى تسعةٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة}.
أمة الإسلام: هذا التوحيد لا يكفي أيضاً في الدخول في الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية والألوهية.(54/4)
الأصل الثالث: توحيد الألوهية
وهو الذي وقع فيه النزاع بين الرسل وأممهم في قديم الزمان وحديثه، وهو أساس الأمر ورأسه، ودعوة الرسل من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معنى لا إله إلا الله، وهو الذي خلق من أجله جميع البشر، وخلقت من أجله الجنة والنار، وأرسل لأجل معرفته والعمل به جميع المرسلين، وهو توحيد الله، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء والنذر والنحر والرجاء والخوف والاستعانة والاستغاثة والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، وغير ذلك، قال المولى جلَّ وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومعنى يعبدون: يوحدون.
ويقول المولى جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] ويقول جلَّ وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] ويقول جلَّ وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
عباد الله: لابد أن يكون التوحيد بالنفي والإثبات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فدلت هذه الآية على أنه لابد في التوحيد من النفي والإثبات، فتثبت العبادة لله وحده، وتنفي عبادة ما سواه، وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
وقوام التوحيد -يا عباد الله- على شيئين عظيمين هما:
1/ تجريد الإخلاص لله تعالى وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقوله جلَّ وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ويقول جل وعلا: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
2/ تجريد المتابعة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] ويقول جلَّ وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وتفرده بالعبادة والدين الخالص، وأن ذلك لا يقبل إلا إذا كان على شريعة رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: هذه هي الأصول الثلاثة الجامعة لأنواع التوحيد، والمنافية لأنواع الشرك والتنديد, قولاً وعملاً واعتقاداً، وقد بينها الله في القرآن، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، عرفها الله كل التعريف ليعرف ويعبد ويوحد ويذكر بأسمائه وصفاته، ويكون الدين كله لله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
اللهم اجعلنا مسلمين لك، موحدين لك، متبعين لشرعك، مهتدين بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(54/5)
الشرك في الربوبية وأنواعه
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام: لقد سمعتم الأصول الثلاثة الجامعة لأنواع التوحيد، أما ما يضاد التوحيد من الشرك، فهو ثلاثة أقسام بالنسبة لأنواع التوحيد:
القسم الأول: الشرك بالربوبية، وهو نوعان:
شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون لعنه الله إذ قال وما رب العالمين؟
وشرك الفلاسفة الذين ينكرون وجود الخالق عز وجل، ويسندون الحوادث بأسرها إلى أسباب يسمونها بأسماء مختلفة منها الطبيعة وغيرها، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ومنهم الشيوعية والملاحدة كالمجوس والقدرية , وأشباههم، ومشركي الصابئة، وعباد الشمس والنار.
وشرك المعطلة لأسماء الرب وأوصافه من غلاة الجهمية والقرامطة وغيرهم.
شرك من جعل مع الله إلهاً آخر: كشرك اليهود الذين يقولون: عزير ابن الله، تعالى الله عما يقولون.
وكشرك النصارى الذين يقولون: الله ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً، وما من إله إلا إله واحد سبحانه وتعالى عما يقول الكفرة والفجرة والظالمون علواً كبيراً.
ويلتحق بهذا الشرك الشنيع من وجه شرك غلاة عباد القبور, الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون من التجأ إليهم، وقد كذبوا والله، فهم أموات لا يقضون الحاجات، ولا يفرجون الكربات، ولا ينصرون من دعاهم، ولا يحفظون من التجأ إليهم، هم والله كذبوا، فلا ناصر، ولا حافظ، ولا ضار، ولا نافع إلا الله، ولا رافع، ولا خافض، ولا معطي، ولا مانع إلا هو، الذي قال وقوله الحق: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] وقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
فأحذر إخواني الذين يذهبون إلى خارج البلاد، أحذرهم أن يغتروا بعباد القبور، وقد ذكر لنا كثيرٌ من الذين قدموا من الخارج أنهم ذهبوا بهم إلى الأضرحة، وقالوا لهم: إن أردتم أشياء من الغنى، أو الصحة، أو الزوجات، أو أي شيء من الدنيا، فلا عليكم إلا أن تطوفوا بهذا القبر -قبر الولي- وتسألونه، ولكن -ولله الحمد والمنة- كما قال المولى جلَّ وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فسرعان -ولله الحمد- ما ينكرون عليهم ذلك، فإذا أنكروا عليهم ذلك، قابلوهم بلهجةٍ يقولونها: أنتم من الوهابية، نسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أمة الإسلام: قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدها من دون الله؟
لو رأيتموهم -يا عباد الله- وهم يصيحون ويبكون عند تلك الأضرحة، وتلك القبور، ويتمسحون بها، ويأخذون من تلك الأتربة، وقد أعرضوا عن الله الذي يحيي ويميت وبيده النفع والضر، فلا حول ولا قوة إلا بالله، أسمعوهم هذا الحديث -يا عباد الله- ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد} ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك} ما أبلغ هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: احذروا من الشرك الأصغر والأكبر، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
ومن الشرك الأصغر -يا عباد الله- الحلف بغير الله، والرياء، وغيره من الأمور التي تؤدي أحياناً إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله.
عباد الله: الله الله بتعلم العقيدة، الله الله بتعلم التوحيد، وارفعوا والهجوا بلسان الدعاء لله عز وجل, الذي قيض لهذه البلاد وما حولها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ورفع درجته في عليين، وأسكنه الفردوس الأعلى، ونحن معه ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون.
عباد الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
وعن سائر الصحابة أجمعين.(54/6)
إقامة حدود الله
أوجب الله جل وعلا حدوداً وأحكاماً على مرتكبي الذنوب والمعاصي، وذلك لحكم عظيمة وجليلة، وقد قال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة)؛ وبإقامة الحدود تحفظ الأعراض والأرواح، وتمنع من انهيار المجتمع ومن غضب الله.
وقد تعرض الشيخ لذكر بعض الجرائم التي عمت وطمت، ومنها: جريمة الزنا، وتحدث عن جريمة اللواط وحد مرتكب هذه الجريمة، وكلام شيخ الإسلام في ذلك، ودعا الأمة للوقوف أمام المفسدين في الأرض.(55/1)
لماذا فرضت الحدود؟
الحمد الله الذي شرع عقوبة العصاة ردعاً للمفسدين وصلاحاً للخلق أجمعين، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله الثبات على الدين القويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واشكروه على نعمة هذا الدين القويم الجامع بين الرحمة والحكمة، رحمة في إصلاح الخلق، وحكمة في اتباع الطريق الموصل إلى هذا الهدف الأسمى.
أمة الإسلام: إن من طبيعة البشر أن يكون لهم نزعات متباينة، فمنها نزعات إلى الخير والحق، ومنها نزعات إلى الباطل والشَّر كما قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الطائشة والأعمال السيئة لابد لها من رادع يكبح جماحها، ويخفف من حدتها، شرع رب العباد وهو الحكيم العليم الرءوف الرحيم، شرع حدوداً وعقوباتٍ متنوعة، وكل ذلك بحسب الجرائم، وما ذلك إلا لردع المعتدين وأطرهم على الحق أطراً، وإصلاح المفسدين، وتقويم المعوجين.(55/2)
بإقامة الحدود تحفظ الأعراض
فأوجب رب العالمين إقامة الحدود على مرتكبي الجرائم كلٌ بحسب جريمته، فالسارق تقطع يده؛ لأنه يسرق بها غالباً، وقطاع الطريق إذا قَتَلوا قُتِلوا، وإن أخذوا المال فقط قُطِعت أيديهم وأرجلهم من خِلاف نكالاً وجزاءً من جنس العمل، وقَاذِف المحصنات والمحصنين يُجلد ثمانين جلدة حتى لا تنتهك الأعراض، ويا للأسف الشديد ما أكثر ما نسمع هذه الكلمات: يا ولد الزنا، ويا إلى غير ذلك من الألفاظ التي تشمئز منها النفوس، وتنكرها القلوب، لقد اعتاد عليها كثير من الناس حتى تربى عليها الصغير والعياذ بالله.
كذلك شارب الخمر إذا عُوقِب وأُقِيم عليه الحد، ارتدع عن تناول الخمر التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم الخبائث ومفتاح كل شر.(55/3)
إقامة الحدود تمنع من انهيار المجتمع
أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع، تلك الجريمة البشعة، الجريمة الجالبة للأمراض والبلايا المتعددة التي تكمن في فعل الزنا واللواط، فإنها جريمةٌ عظيمة، ولعظم جرمها وخطرها على المجتمع رتَّب عليها الشارع عقوبة كبرى، فالزاني الذي يطأ فرجاً حراماً إما أن يكون محصناً، وإما أن يكون غير محصن، فالمحصن: هو البالغ العاقل الذي تزوج امرأةً ووطأها بنكاح صحيح، فإذا زنى فإنه يُرجم بالحجارة حتى يموت، ولا شفاعة في حدود الله -اللهم قَاتِل من شفع في حدٍ من حدود الله- ثم يغسل ويكفَّن ويُصلَّى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلماً، وأما غير المحصن: وهو من لم يتزوج، فإنه إذا زنى جُلد مائة جلدة، ويسفر عن البلد.
أمة الإسلام: إذا كان الزنا بالفرج موجباً لهذه العقوبة، فإن هناك زناً آخر دون ذلك يوجب الإثم والعقوبة الأخروية، وربما كان سبباً للزنا الأكبر؛ ألا وهو زنا الجوارح الأخرى، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه}.(55/4)
وقفة مع جريمة اللواط
أما الجريمة الكبرى الثانية، الجريمة النكراء، الجريمة المفسدة للدِّين والدنيا، الهادمة للأخلاق، الماحقة للرجولة، المفسدة للمجتمع، القاتلة للمعنويات، المذهبة للخير والبركات، الجالبة للشرور والمصيبات والأمراض المستعصيات إنها مِعْوَل الخراب والدمار، إنها سبب للذِّل والخزي والعار إنها جريمة اللواط! إنها ركوب الرجل على الرجل إنها الجريمة التي تنكرها وترفضها العقول والفطر السليمة، الجريمة التي جاءت الشرائع السماوية بمقتها والزجر عنها؛ لما فيها من ضرر عظيم، وظلم فاحش للفاعل بما جر على نفسه من الخزي والعار، وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها، فكان بين الرجال بمنزلة النساء، لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت، وهو ظالم للمجتمع كله بما يسدي إليه من حلول المصائب والنكبات.
ولقد قصّ رب العالمين علينا ما حصل لقوم لوط حيث أنزل عليهم رجزاً من السماء، -أي: عذاباً من فوقهم- أمطر عليهم حجارةً من سجيل، فجعل قريتهم عاليها سافلها، وهي الآن بحيرة منتنة، وهي تسمى بـ البحر الميت قرب الأردن، وبعد أن قصَّ الله علينا قصتهم وما نزل بهم قال جلَّ وعلا: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
أمة الإسلام: إنه متى فشت هذه الفاحشة في المجتمع ولم يعاقب الله بدمار الديار، فإنه سيحِلُّ بها ما هو أعظم من ذلك، سيحِلُّ بها انتكاس القلوب، وانطماس البصائر، وانقلاب العقول حتى يسكت عن الباطل، أو يزين له سوء عمله فيراه حسناً، وأما إذا يسَّر الله له ولاةً أقوياء، ولاةً عُدلاء، ولاةً أمناء، يقولون الحق من غير مبالاة، وينفذون الحدود من غير محاباة، فإن هذا علامة التوفيق والصلاح.(55/5)
حكم من عمِل جريمة اللواط
أمة الإسلام: لما كانت جريمة اللواط فاحشة بشعة من أعظم الجرائم, كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات، فعقوبتها القتل والإعدام، قال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به} وقد اتفق جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل من عَمل عمل قوم لوط، سواءً كان فاعلاً، أو مفعولاً به إذا كان راضياً"، ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت.
وقال بعضهم: يحرق بالنار.
فالفاعل والمفعول به إذا كان راضياً كلاهما عقوبته الإعدام بكل حال, سواء كانا محصنين أو غير محصنين، يقتلون لعظم الجريمة، فإن بقاءهما قتل معنوي للمجتمع، وإعدام للخلق والفضيلة، ولا شك أن إعدام من يعمل عمل قوم لوط خير من إعدام الخلق والفضيلة.
هكذا جاء الإسلام، هكذا جاء النور، هكذا جاء البرهان؛ ليهذّب البشرية ويدلها على ما فيه الأمن والسلامة والطمأنينة والخير والاستقرار، فمن أخذ بهذا الدين وطبقه ونفذ أحكامه؛ فليبشر بالتمكين والسعادة، ومن أعرض عن هذا الدين ونبذ أحكامه؛ فسوف يعيش معيشةً ضنكاً، في خوف وقلق وزعازع وانحطاط وانتكاس {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
عباد الله: يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول جل وعلا: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:12 - 14].
أقول قولي هذا، وأسأل الله بمنِّه وكرمه وإحسانه أن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(55/6)
دعوة للوقوف أمام المفسدين في الأرض
الحمد لله الذي شرع الأحكام، فبيّن الحلال والحرام، وأمر بالصالحات ونهى عن الآثام أحمده سبحانه على ما شرع وسنّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمدٌ عبده ورسوله, أعرف الخلق بالله وأتقاهم له، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله:
أمة الإسلام! يا من رضي بالله رباً, وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً: كيف يحارب الله بالمعاصي؟ كيف يتجرأ على حدود الله ولا يخاف {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:17 - 18]؟ وكيف يخالف القرآن ويتبع الشيطان وكان الشيطان للإنسان خذولاً؟ لقد استفز الخبيث بعض الناس بصوته وأجلب عليهم بخليه ورجله، وزين لهم الإثم والعدوان وحب الفساد وأهله دعاهم إلى الزنا واللواط، ودعاهم إلى شرب الخمور، ودعاهم إلى التعامل بالربا وأكله، وحسّن لهم القيل والقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال في غير محله، فلما أغواهم وأوقعهم في تلك المآزق تبرأ منهم، وقال كما أخبر الله في محكم البيان: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17] وهكذا يوقع الإنسان بسياسته الشريرة، فإنه يعدهم ويمنيهم، ثم يكون بعد ذلك معه في نار جهنم وبئس المصير.
أمة الإسلام: علينا جميعاً أن نأخذ حذرنا من هذا العدو اللدود المتقدم في العداوة، ونحذر من المزالق التي تهوي بنا في الهواية، علينا جميعاً -كمجتمع إسلامي قوامه الدين والأخلاق ولله الحمد- أن نجتهد بقدر ما نستطيع على التمسك بسياج ديننا الحنيف والتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يسعى كل منا -من الولاة فما دونهم- لمنع الفساد والمفسدين, ويقطعون دابر الذين يدخلون إلى هذه البلاد الآمنة ويجرون معهم جراثيم الغرب، ويجرون معهم سيئات الغرب وانحطاطهم، ويبثونها في أماكن يسمونها أماكن التطور والترفه، وهي في الحقيقة أماكن الفساد والانحطاط، ومع الأسف أن المسلمين لا يعالجون الجرح إلا إذا استفحَل وفَشَى بين المجتمع، ثم يكون صعباً تلافيه صعباً إلا بعد العناء والجهد الشديد.
إن علينا جميعاً أن نتخذ الحيطة، ونتتبع مواقع المفسدين لتطهيرها، وعلى كل واحد منا أن يراقب حال أولاده وأهله الذكور والإناث، فيمنع النساء من الخروج وهن متبرجات متطيبات فاتنات مفتونات، وعليه كذلك أن يتفقد الأولاد أين ذهبوا؟ وأين غابوا؟ ومن أصحابهم؟ ومن جلساؤهم؟ وكذلك يمنعهم من مخالطة السفهاء والمفسدين الأشرار، فإذا أصلح الرجل أهله، وأصلح أهل الحارة جيرانهم، وحرص الولاة على إصلاح بلدهم؛ حصل بذلك من الخير ما يكفل السعادة للمجتمع.
أمة الإسلام: إن أصدق الحديث كلام رب العالمين، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة عليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذ في النار.
وصلوا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إلى الإسلام، اللهم حبّب إلينا الإسلام، اللهم خُذ بأيدينا إلى تعاليمه، اللهم املأ قلوبنا من حبه إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها، اللهم ولِّ عليهم من يقوم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين الذين يفسدون في الأرض ويصدون عن سبيلك، اللهم دمّرهم تدميراً، واجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم يا سميع الدعاء اللهم أعم بصائرهم وقطّع أوصالهم، واكف المسلمين شرّهم في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(55/7)
الإسراء والمعراج
إن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأكمل الشريعة بسنة المصطفى المبينة للقرآن، فلا يحق لشخص أن يستدرك شيئاً على الله أو يعدل شيئاً.
وما كثرت البدع في هذه الأمة، وكثر مروجوها، وخاصة في مثل هذه العصور المظلمة؛ إلا بالجهل.
ومن البدع المحدثة بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي.(56/1)
معجزة الإسراء والمعراج
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, الحمد لله العلي الأعلى الذي أنعم علينا بنعم لا تحصى, ودفع عنا من النقم ما لا يعد ولا يستقصى, سبحانه من إله عظيم, أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وعرج به بصحبة جبريل الأمين إلى السماوات العلى, وأراه من آياته العظمى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا, قال وقوله الحق: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى وخير الورى, والشفيع يوم القيامة في كل من وحّد الله واهتدى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرماء, وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء, وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس عامة: والمؤمنون خاصة! اتقوا الله تعالى, واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم الكبرى, فإن نعم الله علينا سابغة, وفضله علينا عظيم, لقد منّ الله علينا وبعث فينا خير خلقه أجمعين محمداً صلى الله عليه وسلم, ثم منّ علينا بنعمة كبرى وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس وفضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بخارقة عجيبة في تاريخ الإسلام, ومعجزة خالدة حيرت عقول أعداء الإسلام, وقرَّت بها أعين المؤمنين وازدادوا بها إيماناً وتصديقاً لمحمد صلى الله عليه وسلم.
تلك المعجزة العظيمة إنها الإسراء والمعراج بأكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم حيث عُرِج به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, إنها لعبرة الدهر يغص بها الملحدون كما غص بها من قبلهم الجاحدون من صناديد قريش وأشباههم, الذين تصدوا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث حبسوه بالشعب ثلاث سنين أكل فيها ورق الشجر.
, ثم ما حصل له من أهل الطائف لما رجموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن المولى جلَّ وعلا جعل له من كل هم فرجاً, ومن كل ضيقٍ مخرجاً, وأيده بالأنصار لما هاجر إليهم في بلادهم, أعانوه على تبليغ هذه الرسالة بمعاونة المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين.
أيها المسلمون: حادثة الإسراء والمعراج حادثة عظيمة, نَزل يشيد بها قرآن، والعلماء رحمهم الله اختلفوا في تحديد الإسراء والمعراج هل هو بشهر معين أم لا؟ ولكن اختلفوا بحسب النقول الواردة في ذلك, فمنهم من رجح وقوعه في شهر ربيع الأول, ومنهم من قرر حدوثه في ربيع الثاني, وآخرون ذهبوا أنه في رجب, وذهب آخرون منهم إلى غير ذلك, فاتضح -يا من تبحثون عن الدليل الصحيح- أنه ليس ثمة جزم على التحديد بشهر معين حتى ولو حصل التعين المعين, واتضح أنه وقع في تاريخ معين, فليس للمسلمين أن يشرعوا شرعاً لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.(56/2)
بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج
أمة الإسلام: إننا إذا رجعنا للكتاب والسنة, وفعل الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم, نجد أنهم لم يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج, ولم يحتفلوا بالمولد النبوي, ولم يحتفلوا بأعياد غير أعياد الإسلام, عرفنا وتحققنا أن البعض قد أحدث في الأزمنة المتأخرة ما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم, وبفعلهم هذه المحدثات والبدع ابتعدوا عن الصواب نسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً.
أمة الإسلام: لما قَدِِم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم المدينة وللخزرج والأوس يومان يلعبون بهما, قال: {ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر} ففي ذلك دليل على النهي عن الاحتفال بغير أعياد الإسلام عيد الأضحى وعيد الفطر.
ووقفت القرون المفضلة عند هذا الحد, فلم تكن تعمد إلى إحياء ذكرى الحوادث الإسلامية على كثرتها, ولم تتخذ من الأيام المفضلة أعياداً تحتفل بها, والخير كل الخير فيما ذهب إليه السلف الصالح رحمة الله عليهم, والصواب كل الصواب فيما وقفوا عند حده رضي الله عنهم أجمعين.
عباد الله: عليكم بالاقتداء بـ السلف الصالح , يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[من كان مستناً فليستنّ بمن مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة]] نعم.
الرجال أولئك! أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً رضي الله عنهم وأرضاهم, اختارهم الله لصحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم, ولإقامة دينه, فاعرفوا فضل الصحابة, واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم, أولئك الذين يبادرون بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويعملون بما جاء به من عند ربه ويؤمنون به.(56/3)
قصة الإسراء والمعراج
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مكة قبل الهجرة أوتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها: البراق, يضع خَطْوه عند منتهى طرفه, فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين عليه السلام, حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلّى بالأنبياء إماماً لكل الأنبياء والمرسلين وهم يصلون خلفه, ويتبين بذلك فضل رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, ويتبين شرفه وأنه الإمام المتبوع.(56/4)
عروج النبي إلى السماوات ومن لقي من الأنبياء
ثم عَرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قال: ومن معك؟ قال: محمد, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له صلى الله عليه وسلم, فوجد فيها آدم عليه السلام, فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلّم عليه؟ فسلّم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح, وإذا على يمين آدم عليه السلام أرواح السعداء, وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته, فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك, وإذا نظر قِبل شماله بكى.
ثم عَرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما أبناء خالة، كل واحد منهما ابن خالة الآخر, فقال جبريل: هذان يحيى وعيسى فسلِّم عليهما, فسلَّم عليهما فردا السلام, وقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, فوجد فيها يوسف عليه السلام فقال جبريل: هذا يوسف فسلِّم عليه, فسلَّم عليه فردَّ السلام, وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عَرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له فوجد فيها إدريس عليه الصلاة والسلام, فقال جبريل: هذا إدريس فسلِّم عليه, فسلَّم عليه, فردَّ السلام وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عَرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى عليه السلام, فقال جبريل: هذا هارون فسلِّم عليه, فسلَّم عليه, فرد السلام وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عَرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له فوجد فيها موسى عليه الصلاة والسلام, فقال جبريل: هذا موسى فسلِّم عليه, فسلَّم عليه, فردّ عليه السلام وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ولما تجاوزه بكى موسى عليه السلام, فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي, فكان بكاء موسى حزناً على ما فات أمته من الفضائل, لا حسداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم عَرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل, قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم, قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء, ففتح له فوجد فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن, فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه -إبراهيم الذي قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة قيعان, وأنها طيبة التربة, عذبة الماء, وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} - فسلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم, فرد عليه السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح, وكان إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون ويصلون, ثم يخرجون ولا يعودون إليه, ويأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله.(56/5)
فرض الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم
ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سِدْرة المنتهى فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها, حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها.
ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة, فرضي بذلك صلى الله عليه وسلم ثم نزل؛ فلما مر بموسى عليه السلام, قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: خمسين صلاة في كل يوم وليلة, فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك, وقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة, فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك, قال النبي صلى الله عليه وسلم: فرجعت فوضع عني عشراً, وما زال يراجع ربه حتى استقرت الفريضة على خمس, فنادى مناد: أن أمضيت فريضتي وخففت على عبادي, أي: خمسين في الميزان وخمس في العمل.
هذه -يا عبد الله- الصلاة فرضها رب العزة والجلال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات فرضها بدون واسطة, الصلاة الخمس التي يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر رمق من الحياة وهو يقول: {الصلاة الصلاة الصلاة} الصلاة التي ضيّعها الكثير من الناس, عمود الإسلام الذي هدمه كثير من الناس, ومع الأسف الشديد هم يدّعون الإسلام, فالصلاة عمود الإسلام, وهي الفريضة التي فرضها الله على رسول الله من فوق سبع سماوات بدون واسطة, والتي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته, فحافظوا عليها, اتقوا الله في صلاتكم, حافظوا على هذه الصلاة, فإن من حافظ عليها فإنها تكون له نجاةً وبرهاناً يوم القيامة, ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نجاة ولا برهاناً, وحشر يوم القيامة مع قارون وهامان وأبي بن خلف وفرعون.
في تلك الرحلة المباركة التي وصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوق السماء السابعة أدخل نبي الهدى صلى الله عليه وسلم الجنة, فإذا فيها قباب اللؤلؤ, وإذا ترابها المسك.(56/6)
إخبار النبي لقريش وإنكارهم له
ثم نَزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة بغلس, وصلّى فيها الصبح فلما أصبح أخبر قريشاً بما رأى, فكان في ذلك امتحاناً لهم وزيادة في الطغيان والتكذيب, وقالوا: كيف تزعم يا محمد أنك أتيت بيت المقدس ورجعت في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً في الذهاب وشهراً في الرجوع؟! فهات وصف لنا بيت المقدس؟
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصفه لهم حيث جلّاه الله له, فجعل ينظر إليه وينعته لهم, فبهتوا! وقالوا: أما الوصف فقد أصاب.
وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه, فقالوا: إن صاحبك يقول كذا وكذا , فقال: إن كان قاله فقد صدق, ثم جاءه وحوله المشركون يحدثهم صلى الله عليه وسلم فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم شيئاً, قال أبو بكر: صدقت, فَسُمي الصديق من أجل ذلك رضي الله عنه وأرضاه.
فاعتبروا -أيها المؤمنون- بهذه الآيات العظيمة, واشكروا الله على هذه النعم الجسيمة, واسألوه أن يثبتكم على الإيمان إلى الممات, قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:1 - 18].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, أقول قولي هذا وأسأل الله بمنِّه وكرمه أن يرزقنا إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا, ويقيناً صادقاً, وأسأل الله بأسمائه الحسنى, أن يجيرنا من مضلات الفتن إنه على كل شيء قدير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، واستغفروا ربكم إنه هو الغفور الرحيم(56/7)
البدع والخرافات في الموالد
الحمد لله على إحسانه, وأشكره على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى وتبصروا في دينكم, واحذروا البدع المحدثة, التي تبعدكم عن الله, وتصدكم عن الصراط المستقيم.
عباد الله: لقد بلغ بالذين يحضرون الموالد وليلة الإسراء والمعراج من الإفك والافتراء: أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد معهم, ولهذا يقومون له محيين ومرحبين, وهذا من أعظم الباطل, وأقبح الجهل, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة, ولا يتصل بأحد من الناس, ولا يحضر اجتماعاتهم؛ بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة, وروحه في أعلى عليين, عند ربه في دار الكرامة.
عباد الله: ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة أو فسوف يراني في اليقظة فإنه لا يتمثل بي الشيطان} الشيطان لا يتمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام, وإنما يتمثل للمشعوذين المفسدين دعاة السوء والضلال, الذين يخرفون على الناس ويقولون لهم: سوف تحضر الحضرة النبوية, ثم يقوم أولئك الجهال إذا دخل عليهم الشيطان ويقولون: هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومع الأسف الشديد أين العقول؟! أين القلوب؟! محمد صلى الله عليه وسلم ميت, وهو مقيم في قبره إلى يوم القيامة, وروحه في عليين, عند ربه في دار الكرامة, كما قال ربنا جلَّ وعلا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16] ليسمع الذين يخرّفون, ليسمع الذين يهرفون بما لا يعلمون, ليسمع المشعوذون, ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة} إذاً: لا ينشق عنه القبر إلا يوم القيامة, أجل فإن دعاة الشر والتخريب والشعوذة كاذبون في ادعائهم أن رسول الله يحضر معهم في موائدهم وفي ليلة الإسراء, كاذبون ثم كاذبون ثم كاذبون, رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره لا يبعث إلا في يوم القيامة, وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {وأنا أول شافع وأول مشفع} عليه من ربي أفضل الصلاة والسلام, فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف, وما جاء فيما معناهما من الآيات والأحاديث تدل كلها على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات, إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة, وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين المحققين المنصفين, وليس الجهال الذين ألَّفوا القصائد الشركية, الذين ألهوا فيها رسول الله وجعلوه فوق منزلته من العبودية, فحسبهم من الله ما عليهم من العذاب, إنهم فتنوا الكثير من الجهال بقصائدهم التي خرفوا بها وجعلوا رسول الله فوق منزلته.
يا عباد الله: إنهم يتوسلون برسول الله, إنهم يسألونه الشفاء, إنهم يسألونه قضاء الحوائج وهو ميت صلى الله عليه وسلم, عبد لا يُعبد, ورسول يصدق, ويتبع فيما شرع وفيما بلغ عن ربه جلَّ وعلا, أما عبادته والتوسل به والاستغاثة به فهي شرك أكبر وصاحبها إذا مات على هذا بغير توبة فهو مخلد في النار.
لا تغتروا -يا أهل هذه البلاد- بالذين يأتون من بعيد وقد تكبدوا المشاق, تكبدوا المسافات الطويلة ثم إذا أتوا إلى قبر محمد صلى الله عليه وسلم جعلوا يندبون يسألونه قضاء الحوائج, يسألونه شفاء المرضى, يسألونه العطاء, وهو لا يقدر على هذا صلى الله عليه وسلم.(56/8)
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال بالاتباع لشرعه
بل من أراد أن يحوز على شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فعليه أن يتبع شرعه القويم ويتمسك به واسمع ما قال صلى الله عليه وسلم, يقول: {أنا سيد الناس يوم القيامة, هل تدرون مما ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟
فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم, ويأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر, خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة فسجدوا لك, وأسكنك الجنة, ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟
فيقول: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله, ولم يغضب بعده مثله, وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً عليه السلام ويقول مثل ما قال آدم: نفسي نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم ويقول مثل ما قال نوح يعتذر ويقول: نفسي نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى موسى عليه السلام.
فيأتون موسى ويعتذر ويقول: نفسي نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقول مثل ما قال من قبله: اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم} وهذا يوم القيامة اذهبوا إلى محمد في عرصات القيامة ليس في الدنيا، يأتي من مكان بعيد ويطوف بقبر محمد, ويتوسل بقبر محمد, ويسأله قضاء الحوائج, ويسأله رد الغائب, ويسأله شفاء المريض, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ميت لا يقدر على شيء, نعم محمد ميت صلى الله عليه وسلم, وروحه في عليين في دار الكرامة.
يوم القيامة إن كنت تريد الشفاعة فانهج نهج محمد صلى الله عليه وسلم, يا عبد الله! أطع الله وأطع الرسول, اسمع رسول الهدى, اسمع صاحب اللواء المحمود, والحوض المورود, والشفاعة الكبرى ماذا يقول؟ يقول: {فيقول عيسى: نفسي نفسي نفسي , اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله, وخاتم الأنبياء, وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى إلى ما نحن فيه؟
فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي, ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي, ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعطه, واشفع تشفع.
فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب , فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب, ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر , أو كما بين مكة وبصرى} متفق عليه.
فيا عباد الله: اغتنموا الأوقات بصالح الأعمال, ثم اعلموا أن أناساً يُردون عن حوض محمد صلى الله عليه وسلم, من قبل الملائكة فيقول: أمتي أمتي فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك, فاحذروا من البدع يا عباد الله احذروا من مضلات الفتن، فإحياء ليلة الإسراء والمعراج وإحياء المولد النبوي بدعة, لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يحث عليها, ولم يفعلها الخلفاء الراشدون.
ثم الطامة الكبرى التوسل بالقبور, وعبادة الأضرحة فإنها شرك أكبر, وصاحبها إذا مات على ذلك الشرك فإنه مخلد في النار, بلغوا هذا البلاغ إلى من يعتقد أن التوسل بالصالحين وعبادتهم من دون الله ودعائهم من دون الله, وقولهم: المدد المدد! وقول: الغوث الغوث! وقول: الشفاء الشفاء! من أولئك أهل القبور والأضرحة بلغوهم أنه شرك أكبر, وصاحبه إذا مات على ذلك فإنه مخلد في النار, فبينوا لهم ذلك -يا عباد الله- لعل الله أن يهديهم على أيديكم, ولعل الله أن ينقذهم في باقي حياتهم, ويستعدوا لما أمامهم من أهوال القيامة ومن الحشر والنشر.
وفقنا الله وإياكم جميعاً لتحقيق التوحيد, اللهم اجعلنا من الذين يحققون التوحيد, فإن الشيخ محمد عبد الوهاب عقد باباً وقال: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عقاب, فعليك -يا عبد الله- بتحقيق التوحيد, عليك بتجريد التوحيد, من شوائب الشرك والبدع ومضلات الفتن.
اللهم صلِّ على نبينا محمد الذي بلغ البلاغ المبين, اللهم صلِّ على نبينا محمد الذي نصح الأمة, اللهم صلِّ على نبينا محمد الذي ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, حيث أمرنا الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] فأكثروا من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سأل أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه} من قالها خالصة حلت له شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم, وأيضاً قال لنا: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم سلوا لي الوسيلة, فإنه من سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة} إذا انتهى المؤذن من قول: لا إله إلا الله تقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة آت نبينا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته", فإنك إذا دعيت لرسول الله بهذه الدعوة حلَّت لك شفاعته يوم القيامة.
اللهم شفع فينا رسولك محمداً صلى الله عليه وسلم, يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم, اللهم احشرنا في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم, اللهم اسقنا من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
أكثروا من الصلاة على رسول الله فقد حثنا على ذلك وقال: {أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة عليّ} أكثروا عليه من الصلاة؛ فإنه من صلّى عليه صلاة صلّى الله عليه بها عشراً.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم رد المسلمين إلى دينهم الصحيح, اللهم وفق علماء المسلمين وأيقظهم من رقدتهم حتى يبينوا للناس أن الأضرحة وما فيها لا تنفع أحداً, بل تضرهم إذا داوموا على التوسل بها, وعبادتها, وسؤالها قضاء الحاجات فإنها تضرهم؛ لأن من مات على ذلك فإنه مشرك والمشرك مخلد في النار.
بينوا ذلك يا علماء الإسلام والمسلمين! جددوا العقيدة في قلوب المسلمين, نشئوا الناشئة.
أيها المدرس: إنك داعية إلى الله في خلقك, وفي آدابك, وفي سلوكك, إما أن تكون داعية إلى الخير, وإما أن تكون داعية إلى الشر, فاحذر أن تكون من دعاة الشر, احذر أن تكون من دعاة السوء, وكن داعية إلى الله، أخبر الطلاب بما يجب عليهم من تحقيق توحيد الله, وحذّرهم من البدع التي تسمع في المجلات وفي غيرها من مجالات الإعلام والإذاعات المجاورة لنا, إننا نسمعهم وهم يحتفلون بعيد ليلة الإسراء والمعراج, ويحتفلون بالموالد, أخبر الطلاب أيها المعلم! إنها أمانة في عنقك, أخبرهم أنها بدعة, ولم يحث عليها رسول الله ولا الخلفاء الراشدون ولا يعملها أحد من علماء الأمة المنصفين.
أيها الأئمة! -أئمة المساجد- عليكم مسئولية عظيمة, بينوا للمسلمين العقيدة, التي كاد البعض من الناس أن يزيغ عنها, {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين, اللهم أصلحهم وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, اللهم أصلح فساد قلوبنا, اللهم اشف مرض قلوبنا, اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, يا رب العالمين, اللهم يا مغيث اللهفات ومفرج الكربات, محيل الشدائد والبليات, فرج للمسلمين ما هم فيه من البدع والمضلات التي أحدثت يا رب العالمين, اللهم طهّر بلاد المسلمين عامة من هذه البدع, ومن هذه المحدثات يا رب العالمين.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه, وجنبنا ما تبغضه وتأباه, اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط ومضلات الفتن جميعها ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين, اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين, وهب المسيئين منا للمحسنين, واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات في جنات الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم اجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى, واجمعنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم يا رب العالمين, ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم, إنك على كل شيء قدير.
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, وصلوا على رسول الله(56/9)
الامتحان الأكبر
طلب العلم طريق إلى الجنة، إذا أخلص طلابه نيتهم لله سبحانه، وعملوا بما علِموا، وعلَّموا الناس.
وإذا علمنا ذلك فجدير بنا أن نعرف بأن الله سبحانه قد وضع امتحانات كبرى لنا، واشترط النجاح فيها حتى نصل إلى رضوانه، أولها في القبر، وثانيها على ساحة العدل بين يديه سبحانه، وقبل ذلك عند الموت،
ولا ينال جنة ربنا إلا موحد لله، عامل بعمل أهل الجنة، مفارق لعمل أهل المعاصي.(57/1)
فضل العلم والعلماء
الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، وبآثار ربوبيته وآلائه إلى عباده متعرفاً، أحاط علماً بجميع الكائنات ما ظهر منها وما اختفى، واطلع على الظواهر والأسرار، الملك الذي تفرد بالعطاء والمنع، والخفض والرفع، والوصل والقطع، وبتوفيقه وفضله فاز الأبرار.
لا إله إلا الله اختار من خلقه خلاصةً, وجعل حظهم لديه حظاً موفوراً، ونصب أقدامهم لخدمته، وجعل وقتهم في الطاعة معموراً.
فيا عباد الله! السعيد -والله- من استقام قلبه على الحق واستنار، فسبحان من أيقظ أهل الهمم لطلب الدرجات العاليات، لا إله إلا الله رباً جلَّ أن تحيط به الأفكار، لا إله إلا الله تفرد بالإيجاد والاختيار، لا إله إلا الله تنزه عن مشابهة الأغيار، لا إله إلا الله توحَّد بالبقاء على مَرِّ الزمان، لا إله إلا الله الملك القهَّار، لا إله إلا الله العظيم الجبَّار، لا إله إلا الله العزيز الحكيم، لا إله إلا الله الغفار لمن تاب وأناب، لا إله إلا الله أرحم الراحمين, الذي يرحم من قصد جنابه والتجأ إليه، لا إله إلا الله يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويكشف الهموم والغموم، ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذُّل والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله حق تقاته، أطيعوه فلا تعصوه، واشكروه ولا تكفروه، واذكروه ولا تنسوه.
عباد الله! يقول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[مَدَح الله العلماء في هذه الآية، ثم قال: يا أيها الناس! افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، فإن الله يقول: يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات]] وفي الحديث الذي يُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه} نعم يا أمة الإسلام! فالعلم له فضلٌ عظيم، لمن صلحت نيته، وأخلص عمله لله، وتبع بذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أجمل العلم الذي يتحلَّى به صاحبه! هنيئاً لطالب العلم الذي يحثه علمه على تقوى الله، وإلى المسارعة إلى الخيرات، وإلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وصدق الله حيث يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].(57/2)
الإخلاص في طلب العلم
أما من طلب العلم للدنيا والرياسة والجاه, فليسمع إلى هذا الوعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة} ومعنى عرف الجنة، أي: ريحها، ويروى -أيضاً- عن ابن عمر رضي الله عنهما: {من تعلم علماً لغير الله، أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار} وحديث الثلاثة الذين تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، ومنهم: {رجلٌ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فماذا عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعملت به، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار}.
فيا من تطلبون العلم! أخلصوا لله رب العالمين.(57/3)
الاستعداد للامتحانات الكبرى
عباد الله! وأنتم تتأهبون وتستعدون للامتحانات في الدنيا، تذكروا الامتحانات التي سوف تمر بنا عند الموت وفي القبر وعلى أرض القيامة، فعند الموت تحصل فتنة الممات، ولا يدري على أي شيء تخرج الروح! هل على اليهودية؟ أو على النصرانية؟ أو تخرج الروح على ملة الإسلام؟! وهو يردد لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله -نسأل الله الثبات.
ثم لنتذكر الامتحان في القبر والسؤال من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فهنيئاً لمن نجح في ذلك الامتحان! عندما يجيب، ويقول: {ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، هنيئاً له النتيجة عندما يقال: صدق عبدي! فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة} ولكن الويل كل الويل إن لم يجب على الأسئلة وتلجلج، ولم يحصل على الجواب عندما يقول: {هاه هاه! لا أدري! فيقال: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبَّة من حديد}.
أيها الأخوة في الله! إنها عقبات وأمور سوف تمر بنا؛ فعلينا أن نستعد لتلك الأمور، وكذلك الاستعداد الامتحان الأكبر الذي يحصل على ساحة العدل، وبين يدي جبار الأرض والسماوات: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * الْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:13 - 17] متى؟! {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة:18] حفاة عراة غرلاً {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضون لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:18 - 20].
ما جزاؤه؟ {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24] هذا الذي نجح في الامتحان، هنيئاً له يا عباد الله!
أما الآخر: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] النهاية: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] يا له من رسوب ما بعده نجاح! يا له من دور انتهى ما بعده دور!(57/4)
نعيم أهل الجنة
عباد الله! اذكروا الجنة، وقد أخذتم الشهادة باليمين، اذكروا الجنة وما أعدَّ الله فيها من النعيم المقيم، ثم سارعوا إليها، تيقظوا!! اتركوا الكسل يا عباد الله، شمروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض بالأعمال الصالحة وبالإيمان، اسمعوا إلى المولى جلَّ وعلا وهو يحثكم إليها يا عباد الله!! {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] لمن هي يا رب العالمين؟ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] من هم؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
نعم يا عباد الله! أنتم -الآن- في هذه الدار مخلوقون للابتلاء والامتحان، وليس امتحان الرياضيات ولا اللغة العربية ولا الإنجليزي ولا غيرها من المواد الدراسية، أنتم مخلوقون لأمر عظيم، للابتلاء والامتحان على الأعمال التي سوف تجزون عليها.
يا عباد الله! أنتم في دار عمل ولا حساب, وغداً تنتقلون إلى دار الحساب والجزاء على الأعمال.
عباد الله! أنتم في ميدان فسيح, فسابقوا فيه بما يرضي الله من الأعمال الصالحة، اسمعوا رب العزة والجلال وهو يحثكم: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] سابقوا إلى جنة أعد الله فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
البدار البدار يا عباد الله! إلى جنة لا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبانها، ولا تبلى ثيابهم، لا يمتخطون ولا يبولون ولا يتفلون ولا يتغوطون، سالمة من الآفات والأكدار والتنغيصات والأمراض والأسقام، سالمة من الهموم والغموم، لا فيها دينٌ ولا مدين, فيها القصور والمنازل الرفيعة، فيها الحور العين {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15].(57/5)
عذاب أهل النار
ثم الذين كفروا في نار جهنم! فيها النكال والعذاب الأليم، فيها السَّموم والزقوم والغِسْلين والزمهرير، قال الله عنها: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فيا ويل أهل النار إذا أطبق عليهم في نار جهنم! يا ويلهم وهم ينادون ويستغيثون بالويل والثبور، ولهم فيهاضجيج.
أمانيهم فيها الهلاك، وهم -والله- مالهم من أسرها فِكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي بالسلاسل والأغلال، فهم في أوديتها بين الحيَّات والعقارب يُسحبون، ينادون من فجاجها وشعابها بالصراخ من ترادف العذاب: يا مالك! قد أثقلَنا الحديد.
يا مالك! قد نضجت منا الجلود.
يا مالك! قد تفللت منا الكمود.
يا مالك! العدم خير من هذا الوجود.
يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فيجيبهم بعد زمان طويل: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وبادروا بالتوبة النصوح إلى الله فإن الله غفور رحيم.(57/6)
صفات أهل الجنة
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! هلمُّوا إلى دارٍ لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبانها، ولا يتغير حسنها وإحسانها، هواؤها النسيم، وماؤها التسنيم، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الكريم كل حين: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
فأهل الجنة يتنعمون بما أعده الله لهم فيها من النعيم، وقرة العين واللذة والفرح والسرور.
الجنة -يا عباد الله- وأَنْعِم بها من دار، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إليها بالإيمان والإسلام والإحسان, فمن أجاب محمداً صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، وأكل مما فيها من النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول، ومن عصى رسول الله فمأواه جهنم وبئس المصير.
أيها الإخوة في الله! لنسمع بعض الصفات لأولئك الذين يدخلهم الله الجنة قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:1 - 9].(57/7)
المحرومون من الجنة
أخبروا الذين لا يعرفون المساجد إن كانوا يحبون جنة الفردوس ولم يعملوا بأعمال هؤلاء، فأخبروهم أن الجنة عليهم حرام {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] طوال السنة!! لا يصلون في رمضان ويتركون باقي العام، لا يصلون يوم الجمعة ويتركون باقي الأسبوع! {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] ما جزاؤهم؟ {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
عباد الله! هذه صفاتهم، ولهم صفات أخرى، اسمع يا متكئاً على الجدار! يا نائماً! يا من سهره طول الليل! {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:15 - 16] ما هي أفعالهم؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذريات:16 - 19].(57/8)
البدار البدار بالأعمال الصالحة
عباد الله! بادروا بالأعمال الصالحة, فسوف تجدون غبَّها {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] قدموا لأنفسكم خيراً، اعملوا بطاعة الله، ولازموا طاعة الله ولا تغتروا بطول الآجال، لا تغتروا بالمراكز وبالجاه وبالأموال؛ فإنكم منتقلون عن هذه الدار إلى دار فيها جزاء وحساب ونقاش، فاستعدوا لذلك -يا عباد الله- وتوبوا توبة نصوحاً.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً تطهر بها قلوبنا، وتمحص بها ذنوبنا، اللهم أصلح أحوالنا، وأصلح أعمالنا وأقوالنا, واجعلها خالصة لوجهك الكريم, واجعلها وفق هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة صلّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم نجحنا في الامتحان الأكبر يوم العرض عليك يا جبار.
اللهم اجعلنا ممن يأخذ كتابه باليمين، ولا تجعلنا ممن يأخذ كتابه بالشمال, ولا من وراء ظهره يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، واخذل من خذل الإسلام وأهله، يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم انصرهم نصراً مبيناً، اللهم قَوِّ شوكتهم يا رب العالمين، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.
اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد.(57/9)
الأمر بالمعروف
لم تترك أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أذلها الله ومقتها، وما جعلته أمة شعاراً لها إلا رفعها الله وأصلحها، ولقد تحدث الشيخ عن هذا الجانب، وعرض أدلة هذا الموضوع من الكتاب والسنة، وحذر من عاقبة تركه والتساهل فيه، وأن هذا الأمر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولا يعذر منه أحد، ويقوم به الكل حسب قدرته بيده أو لسانه أو قلبه.(58/1)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله رب العالمين, أحمده سبحانه وأشكره, ولا أحصي ثناءً عليه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, وقدوة للسالكين, رسم الصراط المستقيم, وترك أمته على المحجة البيضاء صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله! واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة, لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان}.
عباد الله! اعلموا أن في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلان بترك الواجبات, واستخفاف بحقوق رب الأرض والسماوات, وبظهور المنكرات وعلو الفسقة, وإن رفعة أهل المعاصي وذل أهل الطاعة موجب للعنة رب الأرض والسماوات, ومقت جميع الخلق لكم حتى الحيوانات, وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لنزع البركات, وموجب لحلول أنواع الأمراض والأسقام والهلكات, وتتسلط الأعداء وتجور الولاة؛ فماذا يرتقي بمرتكب المحذورات المعرض عن الإنكار تهاوناً وعدم مبالاة؟
أما سمع رب العالمين يقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] بماذا وبأي شيء لعنوا؟ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
عباد الله! أما سمعتم بما فعل بالقرون الخاليات من أنواع التدمير والعقوبات, وما حل بهم من أليم العذاب والهلكات, التي نقلوا بها إلى نار الجحيم والحسرات, وحرموا بها بركة الأعمار والأرزاق؟
عباد الله! أما سمعتم بأنين عذاب الله لفاعل المحرمات, ولمن لم ينكر المحرمات؟ روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعقاب من عنده, قلت: يا رسول الله! أما فيهم يومئذٍ أناس صالحون؟ قال: بلى, قلت: كيف يصنع بهم؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس} ويروى في الأثر: {إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتاحبوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمَّهم وأعمى أبصارهم}.
أيها المسلمون! الله جل وعلا يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ويقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {ولا ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاءهم} وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {إن رسول صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف, وانهوا عن المنكر, قبل أن تدعوني فلا أجيبكم, وتستنصروني فلا أنصركم, وتسألوني فلا أعطيكم}.
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: {يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا} صدق رسول الله فقد ظهر الهربز, والإيدز, والزهري, والسرطان, والسل, كل ذلك بسبب الذنوب والمعاصي, ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان, ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا, ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سَلَّط الله عليهم عدوا ً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم, وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم}.(58/2)
عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عباد الله! أمة الإسلام! لقد غلب على الكثير الهوى, وأمرضتهم الشهوات, حتى أصبح الكثير من الناس خالياً من الغيرة الإيمانية, فلا يرى المنكر منكراً ولا المعروف معروفاً, وقلَّ الحياء وصاروا لا يتأثرون إذا انتهكت حرمات الله عز وجل, فليحذر أولئك أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم وما جاورهم من الأمم, فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها, قال: يا رب! إن فيهم فلاناً لم يعصك طرفة عين, قال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة قط}.
يا من تترك الأولاد في البيت وتذهب إلى المسجد, لم يتمعر وجهك قط إلا إذا جاء وقت الدراسة، تمعَّر الوجه وانتفخت الأوداج, وارتفع الضغط عندما تيقظ الأولاد, أما الصلوات الخمس فتخرج وهم في البيت يلعبون ويمرحون, أما تخشى أن يقال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة قط؟!
أيها المتهاون بأوامر الله! يا من تمر والناس في الطرقات ولم تحرك شفتيك بكلمة, لا تقول: الصلاة يا عباد الله! الصلاة هداكم الله, هل ينقصك شيئاً إذا قلت هذه الكلمات؟! والله ثم والله لا ينقصك شيئاً, بل هي حسنات في ميزان حسناتك عند رب العالمين, يا ليتنا نسمع هذا يا عباد الله, يا ليت كل من مرَّ على أناس جالسون في الطرقات أن يقول لهم: صلوا يا عباد الله, بدون ضرب وبدون رفع صوت, بل بلينٍ وشفقةٍ وعطف ورحمة, صلوا يا عباد الله, فإني أخاف عليكم من سقر وما أدراك ما سقر؟! طبقة من النار, لا تتهاونوا يا عباد الله بالصلاة, لا تؤخروا الصلاة عن وقتها, فإني أخاف عليكم من ويل وهو وادٍ في جهنم, فإني أخاف عليكم من غي وهو وادٍ في جهنم, هكذا يا عبد الله , ذكِّر إخوانك بالله, مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن يقال: {اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة قط}.
هذا أنس بن مالك رضي الله عنه دخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هو ورجل آخر, فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة؟ فقالت: [[إذا استباحوا الزنا, وشربوا الخمور, وضربوا المعازف غار الله عز وجل في سمائه, فقال للأرض: تزلزلي بهم, فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم]] ولقد شاهدها البعض في آلة التلفاز, أن أناس يغنون فخسف الله بهم وابتلعتهم الأرض, فصدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن ماذا سوف يقول المعلق عن هذه الحادثة؟ لعله يقول: هذه براكين! أو لعله أن يقول المهندس: لم يتقن المسرح فانخسف بهؤلاء! لا أيها المعلق وتباً لك ولمعاندتك ومناصرتك لأعداء الله, بل خسف الله بهم الأرض, وغار الله جل وعلا, وإذا غار فغيرة الله لا تمانع ولا تُرد, يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة؟ فقالت: [[إذا استباحوا الزنا, وشربوا الخمور, وضربوا المعازف غار الله عز وجل في سمائه, فقال للأرض: تزلزلي بهم, فإن تابوا ونزعوا, وإلا هدمها عليهم]].
يا عبد الله! لا تستبعد ذلك، لا تقل: إن ذلك في بلاد الكفار, فإن الذي في بلاد الكفار نذير وموعظة للذي في بلاد الإسلام والمسلمين, لعلهم أن ينتهوا ويقلعوا عما هم فيه.(58/3)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يا أمة الإسلام! الله الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! إن حماية الدين وعز هذا الدين لا تكون ولا يحصل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمة الإسلام! اعتصموا بحبل الله جميعاً، وتعاونوا على البر والتقوى, مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر, ائتمروا بأمر الله, وانتهوا عما نهى الله عنه ورسوله, وتناهوا عن ذلك بقصد النصيحة لله ولعبادة الله بقصد الدعوة والإرشاد.
أيها المسلمون! لا تنسوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقسم به: {فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لا تستبعد هداية إخوانك يا عبد الله, ألحَّ بالدعوة, أرشد وادع إلى الله عز وجل, فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد, وأنت -يا عبد الله- ابذل من وقتك يسيراً {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] واعلم أن الهداية بيد الله, إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
عباد الله! ادعوا إلى الله, ادعوا إلى سبيل الله بقصد النصيحة لله ولعباد الله, بقصد الدعوة والإرشاد.
أيها المسلمون! إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على هذه الأمة الإسلامية التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله إن استقامت على دين الله عز وجل, ومصداق ذلك قول الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104 - 105].
أمة الإسلام! إنكم إن قمتم بهذا الذي أمركم الله به كنتم خير أمة أخرجت للناس, كما قال الله تعالى في محكم البيان, وإن تركتم ذلك لعنتم كما لعنت بنو إسرائيل, وكنتم من شرار الأمم, إنه لا نسب بين الله وبين عباده, ولكن من اتقاه فهو الكريم عنده وأكرم الناس عند الله أتقاهم لله.
أيها المسلمون! إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على فئة معينة من الناس, بل هو واجب على الناس جميعاً, كما أخبر بذلك الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان}.
عبد الله! ليس لك حجة أن تقول: لا عليّ من فلان! أو لست مكلفاً بفلان! لا.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلفك بهذه المسئولية ويقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان}.
البعض من الناس يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بفئة من الناس, وهذا ظن فاسد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: {من رأى منكم منكراً} وهذا عام لكل من رأى المنكر فيجب أن يغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه بالكلام والنصح والإرشاد, أو الكلام مع ولاة الأمور إن لم ينفع الكلام مع المنصوح, وكل واحد منا يستطيع أن يتكلم مع المسئولين في منع المنكر, في لين وعطف ورحمة, ويجب على المسئولين إذا بلغهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الإصلاح, وأن يجتمعوا على ذلك لينالوا الفوز والفلاح.
إن علينا جميعاً أن نترك الدعة والسكون, وأن نقوم لله مخلصين له الدين, ونبدأ أولاً بأنفسنا وأهلينا وأولادنا ومن تحت أيدينا, ومن جاورنا, وكذلك الزملاء والأصدقاء، ينبغي علينا جميعاً أن نكون دعاة خير ندعو إلى الله على بصيرة, وتكون الهمة هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور, من ظلمات الجهل والمعاصي إلى نور الحق.
عباد الله! الله الله بهذه المسئولية العظيمة -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- التي جاء بها الإسلام وحثكم عليها, وإذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وانغمستم في الترف, وكفرتم بنعم الله, فاسمعوا قول الله عز وجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] ويقول ربنا أيضاً: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
اللهم إنا نعوذ بك من عذابك ونقمتك, اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء, ودرك الشقاء، وسوء القضاء, وشماتة الأعداء, اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعمة, ومن تحول العافية، ومن فجاءة النقمة, ونعوذ بك اللهم من جميع سخطك, اللهم أرشدنا وهيئ لنا الخير, واجمع كلمتنا على الحق, اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيها عن المنكر إنك على كل شيء قدير, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(58/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحرص على وحدة الأمة
الحمد لله أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, ورتَّب على طاعته وعلى طاعة رسوله أجراً عظيماً, ونهى عن معصيته ومعصية رسوله, ورتَّب على من ارتكب ذلك أن يعاقبه بما يستحق من العقوبة في الدنيا وفي الآخرة, أحمده وأشكره الذي لم يتركنا هملاً, ولم يخلقنا عبثاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق في الدعوة والإرشاد والتوجيه, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الناصح الأمين, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم وفي دعوتهم إلى يوم الدين, وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل, مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر, حافظوا على حدود الله، تمسكوا بالأخلاق القيمة, والآداب الجميلة, قوموا بأوامر الله, وانتهوا عما نهاكم عنه, واتحدوا ولا تفرقوا.
واعلموا أن الأمة لا يمكن أن تكون أمة قوية مرموقة حتى تتحد في أهدافها وأعمالها، ولن يمكنها ذلك حتى تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فتكون على دين واحد في العقيدة والقول والعمل, وتنهج صراطاً مستقيماً, صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض, أما إذا لم يحب البعض البعض الآخر, ولم ينصح البعض البعض الآخر, فإن الأمة سوف تتفكك وتنفصم عراها, ويكون لكل واحد منهم هدف, ولكل واحد منهم طريق وعمل, عند ذلك يتفرقون أحزاباً وشيعاً يتيهون في متاهات الضلال, نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون! إذا لم تقم الأمة بأمر الله وتسعى في إصلاح المجتمع بالالتزام بدين الله عز وجل, فمن الذي يقوم ويسعى في ذلك؟! وإذا لم نتكاتف على منع الشر والفساد فكلنا هالك.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً, فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه وأكيله, فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض, ولعنهم على ألسنة أنبيائهم ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد الظالم, ولتأطرنَّه على الحق أطراً, أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم ببعض, ثم يلعنكم كما لعنهم} نعوذ بالله من لعنة الله!
عباد الله! الله الله استيقظوا من رقدتكم, واحذروا من أعداء الإسلام في كل مجال يرسلونه لكم, وكونوا على حذر منهم, فإن المؤمن ينظر بنور الله, فاحذروا من دسائس أعداء الإسلام, واعتبروا يا أولي الألباب بالمجاورين, وبما حلَّ بهم من العقوبات والنقمات, والأمراض والأوبئة التي لم يجدوا لها دواءً ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولعل بعضها تسرب إلينا من الذين ذهبوا إليهم واجتلبوا لنا تلك الأمراض الخطيرة, التي لا علاج لها إلا التوبة إلى الله عز وجل, والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله, فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة, وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله! عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار, احذروا من التفرق, واعلموا أن الذئب يأكل من الغنم القاصية.
وصلوا على الناصح الأمين رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغ البلاغ المبين, وترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها, فقد أمركم الله جل وعلا أن تصلوا عليه فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] , ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى الدين.
عباد الله! هناك ملحوظة يذكر لي بعض الناس: أنه استفتى بعض الجهال, فقال: إن عليّ صوم من رمضان السابق فهل أقضيه في شعبان؟ فقال له: لا يجوز لك أن تقضيه في شعبان, وهذه فتوىً جاهلية! سوف يسأل عنها هذا الجاهل؛ لأنه لم يعذر لأنه في بلاد الإسلام, وفي بلاد العلماء, فكيف له أن يتفوه بهذه الفتوى؟! حسبنا الله ونعم الوكيل, ولو كان عالماً لطالبناه بالدليل, ولكنه جاهل, وإذا خاطبكم الجاهلون فقولوا: سلاماً.
أما يا أخي إذا كان عليك قضاء من رمضان وأردت أن تصومه في شعبان فإنه يلزمك أن تبادر بقضاء هذا الدين الذي عليك, فإن عائشة رضي الله عنها كانت تقضي صومها في شعبان, وهي أم المؤمنين رضي الله عنها التي تربت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو كان لا يجوز القضاء في شعبان لنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشرِّع, فلا ينبغي لأحد أن يفتي بغير علم, قال بعض السلف الصالح: إن أجرأكم على النار أجرأكم على الفتوى, فليحذر الذين يفتون بغير علم, فليحذروا من الوقوف بين يدي الله عز وجل, وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
أيها الإخوان! من كان عليه صوم من رمضان فيلقضه -فإنه دين عليه- في كل شهور السنة لا فرق بينها, سواء كان في محرم أو شعبان أو غيره من الشهور؛ لأن عائشة كان يكون عليها القضاء فتقضيه في شعبان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ودمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين في كل مكان, اللهم خُذهم أخذ عزيز مقتدر, اللهم خُصّهم بذنبهم ولا تعمَّ معهم يا حي يا قيوم, اللهم إننا نشهدك أننا نبغض العصاة ونبغض أهل المنكرات, اللهم من كان في سابق علمك هدايته فاهده, ومن كان في سابق علمك أنه ضال مضل فخذه أخذ عزيز مقتدر, ولا تعمَّ بعقابه أحداً من عبادك يا رب العالمين.
اللهم أيقظنا من رقدتنا, ووفقنا لاغتنام أوقات المهلة, واجعلنا هداة مهتدين, اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين, اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم قيّض لهم العلماء الناصحين والعلماء العاملين, الورعين الذين لا يخافون في الله لومة لائم, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أرنا وولاة أمورنا الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه, وأرنا وولاة أمورنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, إنك على كل شيء قدير.
اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في جنات الفردوس الأعلى, واغفر لنا ذنوبنا, وتجاوز عن سيئاتنا, واستر عيوبنا, وتوفّنا وأنت راض عنا غير غضبان.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(58/5)
التجارة الرابحة
إن الله سبحانه وتعالى قد جعل للأمة مواسم وأوقاتاً يحصدون فيها الخيرات والبركات، وإن من هذه المواسم شهر رمضان الكريم الذي يضاعف الله فيه الأجور والحسنات، وقد تكلم الشيخ في هذه المادة عن فضل هذا الشهر وما ينبغي للمسلم أن يفعل فيه.(59/1)
فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غرة وجه العام، وأجزل فيه الفضائل والإنعام، وشرف أوقاته على سائر الأوقات، وفضل أيامه على سائر الأيام، وخصه على سائر الشهور بمزيد من الفضل والإكرام، عمر نهاره بالصيام، ونور ليله بالقيام، أحمده وأشكره على إحسانه العام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالكمال والتمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وأتقى من تهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أمة الإسلام! بشراكم بشراكم! يطل عليكم بعد أيام قليلة شهر كريم، وموسم عظيم، خصه الله تعالى على سائر الشهور بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه القرآن العظيم والذكر الحكيم، فرض صيامه شكراً على هذا الإنعام والفضل العميم، وجعل صيامه أحد مباني الإسلام التي لا يقوم على غيرها ولا يستقيم، وسنَّ لكم أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قيامه.
فهنيئاً لكم يا أمة الإسلام، فهو شهر الخيرات والبركات، شهر إجابة الدعوات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات، شهر الإفاضات والنفحات، شهر إعتاق الرقاب الموبقات، شهرٌ لا يعدل به سواه من الأوقات، الحسنة فيه بألف حسنة فيما سواه، والفريضة فيه تعدل سبعين فريضة لمن تقبل منه مولاه.
فيا ذا العقول السليمة! والهمم العالية، والمطالب الرفيعة السامية، اغتنموا أوقاته بالجد قبل فواتها، واعزموا على هجر البقالات.
عباد الله: استقبلوا شهر رمضان بنية واحتساب فقد أخبرنا الناصح الأمين نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}.
أمة الإسلام: أمة محمد! كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: {قد جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم}.
ذكر بعض العلماء في بعض الكتب: أن لله تعالى موضعاً حول العرش يسمى حظيرة القدس، وهو من نور، وفيه ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، يعبدون الله لا يفترون ساعة، فإذا كانت ليالي رمضان استأذنوا ربهم عز وجل أن ينزلوا إلى الأرض ويحضروا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، فكل من مسهم أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، لما سمع عمر رضي الله عنه ذلك قال: [[نحن أحق بهذا الفضل والأجر]] فجمع الناس على صلاة التراويح رضي الله عنه وأرضاه.
ولا يظن البعض أن عمر هو الذي سَنَّ صلاة التراويح، بل سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بأصحابه بعض الأيام، ولكنه خشي أن تفترض عليهم فتركها رحمة بهم صلوات الله وسلامه عليه.
يا عباد الله: أقبل شهر رمضان الذي اختاره الله عز وجل زمناً لنزول القرآن، وانطلاقة الإيمان، شهر رمضان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل يوم بدر، وانتقلت فيه الأمة من أمة حيرانية متلطخة بأدران الوثنية إلى أمة مستنيرة مهتدية بنور الإيمان، تتلقى تعاليمها من السماء بواسطة الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لا تدين إلا لله الواحد القهار وحده لا شريك له.
ومنذ أن وجد هذا الشهر ونزل فيه القرآن في ليلة القدر المباركة التي هي خيرٌ من ألف شهر، إلا وبركاته تتوالى على المسلمين، فلقد حصل فيه يوم الفرقان يوم غزوة بدر الكبرى التي نصر الله بها الإسلام والمسلمين، وأذل بها الشرك والمشركين، يوم بدر الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل.
أيضاً: حدث في رمضان فتح مكة الذي دخل الناس بعده في دين الله أفواجاً، فكما كان موسماً وزمناً لتلكم الفضائل والعبادات والوقائع الإسلامية فهو لا يزال ولن يزال موسم إفضال وإنعام من الكريم المنان، موسم تحول من غفلة وصدود إلى انتباه وإقبال على الله، موسم تحول من رذيلة إلى فضيلة، ومن تمادٍ واضمحلال وانهماك في الماديات إلى تحليق في سماء الروحيات.
وحري بهذه الأشياء أن توجد من نفس صاحبها نفساً روحية، تحلق به في الدنيا مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وفي الآخرة مع الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروه على ما منَّ به عليكم، واسألوا الله عز وجل أن يوفقكم لتدركوا شهر رمضان، فكم من نفس هذه الأيام القليلة سوف تخترمها المنية ولا تدرك شهر رمضان.(59/2)
علامة صيام رمضان
اعلموا -يا عباد الله- أنه يجب صيام شهر رمضان بأحد أمرين: إما برؤية هلاله، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين} متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لـ مسلم: {فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلٌ كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم} متفق عليه، أي: إلا إذا كان وافق عادة له بأن كان عادته صوم الإثنين والخميس فوافق ذلك اليوم، أو عليه قضاء فقضاه في ذلك اليوم فلا بأس.
ولقد سمعنا من بعض الناس الذين يفتون بغير علم أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يوفق كثيراً من طلبة العلم أن يتوقفوا عن الفتوى بغير علم فإنها والله مسئولية عظيمة أمام الله عز وجل.
فالبعض من الناس يغتر إذا رأى إنسان إما كث اللحية، أو عليه سيماء الخير، فإنه يبادر إليه ويستفتيه، فقد تقدم بعض الناس يستفتون بعض الناس، فقالوا: لا يجوز القضاء في شعبان، الله المستعان، فلا أدري من أين لهم هذه الفتوى، وعائشة رضي الله عنها أمة المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: {كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان} رواه البخاري، ولو كان لا يجوز يا معشر المفتين بغير علم، لو كان لا يجوز ذلك لنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولكن هذا من تمام اليسر، جاز تأخير القضاء، ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان الثاني بدون عذر؛ لأن تأخيره إلى رمضان الثاني يوجب أن يتراكم عليه الصوم وربما يعجز عنه، أو يموت وهو في ذمته، ولكن لأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الأولى إلى وقت الثانية كالصلاة فإن استمر به العذر، أي: إذا كان مريضاً ودخل عليه رمضان واستمر به المرض ولو مدة طويلة، ومات في مرضه فلا شيء عليه؛ لأن الله سبحانه أوجب عليه عدة من أيام أخر، ولم يتمكن منها فسقطت عنه.
أما من مرض في رمضان ثم شفاه الله من مرضه، وفرط ولم يصم ما عليه من الأيام التي تركها في رمضان وأفطرها، ثم مات بعد هذا التفريط، فإن أولياء أمره يقضون عنه الصيام كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله: {من مات وعليه صوم صام عنه وليه} متفق عليه.
اللهم ارزقنا التفقه في الدين، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم يا واحدٌ يا أحد! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا علي يا عظيم! يا حليم يا عليم! أهلَّ علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه على أحسن حال يا رب العالمين، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، وارزقنا القبول والإخلاص يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(59/3)
أدلة وجوب صيام رمضان
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين وقدوة للسالكين، فما مات إلا وترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185].
اللهم شكراً لك على إنعامك الكثيرة وفي مقدمتها نعمة الإسلام.
أيها المسلمون: هذه الآية تعلن بفريضة صيام رمضان على الأمة الإسلامية، كما هو مفروضٌ على الأمم من قبلها، وقد فضلت هذه الأمة بفضائل كثيرة ومنها ليلة القدر الليلة التي فيها الخير الكثير لمن قامها إيماناً واحتساباً، فشهر رمضان شهرٌ مبارك، فالمسلمون المؤمنون المصدِّقون بوعد الله يتأهبون لزيادة صلتهم بالله العظيم عن طريق الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وسائر القربات إلى الله جل وعلا، فمن قام بهذه الأعمال بإخلاص نية محتسباً الأجر عند الله، فقد تاجر مع الله، ونعم التجارة فإنها رابحة.
أما الذين يفرون ويهربون عن رمضان خارج البلاد ليقضون لياليه وأيامه بالسهر والمتعة بالملاهي والمجون والخلاعة، فهؤلاء المحرومون الذين كتب عليهم الحرمان، وأسرتهم الشهوات وقيدتهم الذنوب والمعاصي، فلم يزدادوا بهذا الشهر الشريف إلا بعداً عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الذين يعدِّون المسرحيات والتمثيليات والأفلام الخبيثة والأغاني الماجنة لشهر رمضان، فقد ضَربوا بسهم من الحرمان، اللهم إنا نسألك العفو والعافية.
أمة الإسلام: إن العبودية الصادقة لله عز وجل تعني: أن يشعر المرء بالحب والخضوع والذل لله رب العالمين، فيلتزم بأوامر الله جل وعلا، وينتهي عما نهاه الله تبارك وتعالى، فعلينا جميعاً يا أمة الإسلام! أن نغتنم هذا الشهر الكريم ونستقبله بالتوبة النصوح لله عز وجل من جميع الذنوب والخطايا، ونجدد توبتنا ونوثق إيماننا بالله الحي القيوم، ونقوم بطاعة مولانا وخالقنا، ونحيي شهر رمضان بقلوب مملوءة بالإيمان والحب، فأهلاً بك يا شهر رمضان، أهلاً بك يا شهر الصيام والقيام، أهلاً بك يا شهر القرآن، أهلاً بك يا شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، أهلاً بك يا شهر التعاطف والإحسان، أهلاً بك يا شهر الخيرات، اللهم وفقنا للصيام والقيام وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين.
عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، فاحذروا من البدع يا عباد الله، وصلوا على الناصح الأمين محمد بن عبد الله، الذي ترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، صلوا عليه وسلموا تسليماً، امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وفي مقدمتهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ياحي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق يا من لا يعجزه شيء لا في الأرض ولا في السماء، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، اللهم وحد صفوفهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم قيض لهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أبعد عنهم بطانة السوء، اللهم أبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، واجمعنا يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في جنات الفردوس الأعلى، اللهم اجمعنا في جناب الفردوس الأعلى يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، يا حي يا قيوم أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم يا من لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنياءً مريئاً، سحاً غدقاً نافعاً، مجللاً طبقاً، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم أنزل علينا من بركاتك، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض يا من لا يعجزه شيء لا في الأرض ولا في السماء، يا من تكفل بأرزاق العباد، يا من بيده ملكوت كل شيء، لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن والسفور والتبرج والملاهي بأنواعها وجميعها يا رب العالمين، اللهم طهر بيوتنا وقلوبنا وأسواقنا ومسامعنا من الملاهي بأنواعها يا رب العالمين، وأبدلها يا حي يا قيوم حلق ذكر ومجالس علم إنه لا يعجزك يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلا، اللهم طهر قلوبنا بالتوبة النصوح، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(59/4)
التفكر وتحقيق التوحيد
خلق الله عز وجل خلقه لعبادته، وجعل لهم آيات تدل على قدرته وعظمته وحكمته، ولكي ينتفعوا بها في دنياهم، وقد تحدث الشيخ عن آيات الله المبثوثة في هذا الكون وعظم سيرها وفق نظام محكم لا يختل، وأن الله لَمَّا خلق هذه المخلوقات، لم يخلقها عبثاً وإنما خلقها لمنافع لا تحصى، ولنستدل بها على عظمته، فنفرده بالعبادة لا شريك له.(60/1)
التفكر في مخلوقات الله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إلهاً أنزل لعباده من الآيات ما فيه عبرةٌ للمعتبرين، وزيادةً في يقين المؤمنين، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الثناء والمجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: تفكروا في آيات الله عز وجل، فإنها تدلكم على وحدانية الله تعالى، وعلى كمال ربوبيته، وعلى أن الله وحده هو الذي يتصرف في ملكه لا يشاركه أحد في تصريف أحوال عباده.
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111].(60/2)
التفكر في خلق السماوات والأرض
يا عباد الله: تفكروا في آيات الله، انظروا إلى السماء في حسنها وارتفاعها فإن فيها دلالة عظيمة على قدرة الباري جلَّ وعلا، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] وقال سبحانه وتعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29].
ثم انظروا -يا عباد الله- إلى الأرض مهدها الله لكم، وجعل فيها سبلاً، ثم أرساها بالجبال لتكون مستقرة لا تميد ولا تتحرك إلا بإذن الله تعالى، ثم هي ميسرة للعباد يمشون عليها، ويزرعون فيها، ويطلبون المعايش بأنواعها على هذه الأرض التي قال الله فيها: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33] وقال جل شأنه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] هذه آيات الله يا عباد الله! فمن تأمل ذلك وعقل وتدبر، علم كمال قدرة الباري جلَّ وعلا.(60/3)
التفكر في خلق الإنسان
ومن آياته ما بث في الأرض من المخلوقات الكثيرة على اختلاف أشكالها وألوانها ولغاتها قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] هذا أبونا آدم خلقه الله من تراب، أما ذريته فإنهم من ماء مهين، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم:20] ولما خلق الله الخلق؛ خلق لكل شكلٍ ما يناسبه من المعاش والطعام والشراب والزوجات، أما بنو آدم، ففضلهم الله جلَّ وعلا على كثيرٍ من خلقه تفضيلاً، فخلق الله لهم أزواجاً من شكلهم ومن أنفسهم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] الله أكبر! انظر إلى هذه الزوجة لا تعرفك من قبل هذا ولا تعرفها، ثم: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
عباد الله: تفكروا في هذه المخلوقات الكثيرة في البر والبحر، في المدن والقرى المنتشرة، هل ترزق أنفسها، أم لها ربٌ يرزقها؟! بل الله وحده لا شريك له هو الذي تكفل بأرزاق عباده {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
لا توجد أية تكهنات، ولا أية تخرفات، أو إعلانات من الإذاعات أن هذه الأعوام أو غيرها سوف تكون فيها أزمةٌ في الاقتصاد، فإن الله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] انظر إلى هذه النملة الصغيرة كيف تدخر قوتها للشتاء، من الذي علمها ذلك؟! هو الله عز وجل الذي تكفل لها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].(60/4)
التفكر في خلق الملائكة
وكما خلق الله جلَّ وعلا في الأرض من أصناف الخلق؛ فقد خلق في السماوات ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى، وما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملكٌ قائمٌ لله تعالى، وملكٌ راكع، وملكٌ ساجد، ويطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلا يوم القيامة، ومن الملائكة حملة العرش، ومنهم الروح الأمين جبريل عليه السلام الموكل بالوحي، له ستمائة جناح، هذا خلقٌ من مخلوقات الله، ومنهم ميكائيل الموكل بالقطر ما تنزل قطرة من السماء إلا وقد كالها عليه السلام بأمر الله تعالى، ومنهم إسرافيل الموكل بنفخ الصور، ومنهم ملك الموت الموكل بقبض روحي وأرواحكم يا عباد الله، وغيرهم كثير لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم.(60/5)
التفكر في آيتي الليل والنهار
ثم تفكروا -يا عباد الله- في هاتين الآيتين: الليل والنهار، فالليل جعله الله للراحة، والنهار لطلب المعاش وابتغائكم من فضله، اسمعوا إلى ربنا يقرر ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] ما أتعس الحياة لو كانت كلها ليل، وما أتعس الحياة لو كانت كلها نهار! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] والله لا غير الله أحدٌ أبداً يا عباد الله شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] عكسنا الأمر يا عباد الله، وخالفنا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسهر الليل الطويل، وننام عن الصلوات، وننام عن الصلاة المفروضة، وعن التهجد الذي ينزل ربنا جلَّ وعلا فيه كل ليلة إلى السماء الدنيا ويقول: {هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟} ولسان حالنا: لا يا ربنا، نحن عند التمثيليات، وعند الفيديو، وعند الأغاني، وعند البلوت، وعند الكنكان، وعند الضومنة، ثم نملأ بطوننا من المأكل والمشرب، ثم ننام حتى تطلع الشمس، هذا جوابنا لرب العالمين -إلا من شاء الله وقليل ما هم- {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].(60/6)
التفكر في خلق الشمس والقمر والنجوم
ومن آيات الله تعالى وتَقَدَّسَ: الشمس والقمر، يجريان في فلكهما منذ أن خلقهما الله تعالى، يجريان بسير منتظم لا تغير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف، حتى يأذن الله تعالى بخراب العالم، ثم تكور وتلف الشمس وتجمع الشمس مع القمر، فذلك أوان الذهاب بنورهما وتعطيلهما قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:7 - 10] أين المفر من يوم القيامة؟! {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] وفي هذا رد على الذين يقولون: الشمس كالمروحة ثابتةٌ في السماء، وربنا يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] فهل تفهمون الخطاب يا عرب؟! والقمر يا ربنا؟ {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:39 - 40] منذ أن خلقهم الله جلَّ وعلا: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
ثم تفكروا -يا عباد الله- في هذه الكواكب والنجوم التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، فمنها السيارات، ومنها الثوابت، ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة، ومنها المتفارقات التي تجتمع أحياناً وتفترق أحياناً، تسير بأمر الله تعالى الحي القيوم وتدبيره، خلقها الله زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فالكون كله من آيات الله جملةً وتفصيلاً هو الذي خلقه وهو المدبر له وحده لا شريك له، فهذه بعض آيات الله فمن آمن بها وصدق؛ فله الثواب من الله، ومن كذب بها؛ فاسمعوا ما قال الله من العقاب له: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41].
واسمعوا ثواب من آمن بآيات الله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
عباد الله: تفكروا في عظيم مخلوقات الله حتى في أنفسكم، قال الله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] نعم يا عباد الله! فالعالم لم يخلق نفسه، ولم يكن مخلوقاً من غير شيء، بل لابد له من خالقٍ يخلقه ويقوم بأمره، وهو الله سبحانه وتعالى لا خالق غيره ولا رب سواه.
اللهم ارزقنا إيماناً دائماً كاملاً، ويقيناً صادقاً، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم.(60/7)
تحقيق توحيد العبادة لله عز وجل
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم تعالى وأطيعوه، عباد الله! لقد سمعتم من آيات الله الكبرى ومخلوقاته العظمى التي تدل على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته التامة على كل شيء، وأنه وحده لا شريك له في ملكه، ولا نِدَّ له، ولا ظهير، ولا وزير، ولا صاحبة، ولا ولد قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] وقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وقال جلَّ شأنه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] وقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13] وقال عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] وقال عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وقال عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24] هو الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلت لجبروته الصعاب، ولانت لقدرته الشدائد الصلاب، رب الأرباب، ومسبب الأسباب، هو الله الذي تألهه القلوب، وتعنوا له الوجوه، وتصمد له الخلائق أجمعين.
أجل يا عباد الله! كيف يُعبد غير الله؟!! وكيف يُستعان بغير الله؟!! وكيف يُتوسل بغير الله؟!! وذلك كله لله، فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله؛ فهو مشرك كافر، ومن توسل بغير الله؛ فهو مشرك، ومن دعا غير الله؛ فهو مشرك، ومن ذبح لغير الله؛ فهو مشرك، ومن نذر لغير الله؛ فهو مشرك، ومن خاف غير الله؛ فهو مشرك، ومن استغاث بغير الله؛ فهو مشرك، ومن حلف بغير الله؛ فهو مشرك، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] اللهم وفقنا للالتجاء إليك، اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك.
يقول البعض من الناس -ومن الذين يسمعون إن كانوا حضوراً أم غياباً-: لماذا تقول هذا وبلادنا ليس فيها من القبور، ولا من الأضرحة ما يعبد؟!
فأقول له: يا أخي إن كنت صادقاً، وإن كنت ناصحاً، كيف تنكر ذلك؟ وأخوك وابن عمك وابن خالك قد ذهب إلى بلاد الخارج، وطاف معهم في الأضرحة، وتوسل إلى القبور يزعم أنهم قالوا له: إن هذا الولي يشفي مريضك ويرزقك ويغنيك، وطاف معهم في القبور، وهو تربى في بلاد التوحيد، وعاش على التوحيد، ولكنه لما خالط الأقران اجترب مثلهم وأصابه الجرب، فإني أسوق ذلك مخافة أن ينزلق الكثير، أما البعض فقد انزلق وطاف معهم في قبورهم وفي أضرحتهم واستغاث بموتاهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أتوهم من طريق خبيث، قالوا له: هل يأتيك أولاد؟ هل عندك أموال؟ هل أنت موفق؟ هل حظك زين، أم شين؟ ثم إذا شرح لهم الموضوع، أمسكوا بيده وأدخلوه إلى القبر، وإلى الضريح، وقالوا: توسل بهذا الولي، فإنها تُقضى حاجتك ويأتيك أولاد، وتستغني إن كنت فقيراً، مع الأسف الشديد كيف نبذ التوحيد وراء ظهره، وأطاع المشعوذين، والسحرة، والمخرفين، وأطاع المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون؟! كيف يطيع من داسوا على التوحيد بأقدامهم، ولم يعترفوا بالله العظيم؟! إنما اعترافهم دائماً بالأولياء، وبأصحاب القبور، وبأصحاب الأضرحة، وبأصحاب القبب، نسألك اللهم العفو والعافية، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون: إن من يسافر من هذه البلاد إلى بلاد أخرى فيها الشرك منتشر؛ فإنه على خطرٌ عظيمٌ، فلا حول ولا قوة إلا بالله، أين النصح يا عباد الله؟! انصحوهم وأرشدوهم جزاكم الله خيراً، وبينوا لهم أن التوسل بالأضرحة، والتوسل بالقبور، والتمسح بأتربة الأموات شركٌ بالله العظيم، وإن مات على هذه الحالة، فإنه مخلدٌ في النار، نعوذ بالله من النار.
اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك، يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ارزقنا حب التوحيد، واجعلنا من أهل التوحيد، وارزقنا حبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك.
اللهم يا أرحم الراحمين وفقنا للعمل بطاعتك، وارزقنا رضاك ورضا رسولك محمد صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ.
عباد الله: احذروا البدع في الدين، والتزموا عقيدة التوحيد، وعقيدة أهل السنة والجماعة، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] صلوا على رسول الله القائل: {لا تزال أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله} صلوا عليه وسلموا تسليماً، واسألوا الله أن يجعلكم من هذه الفرقة الناجية التي لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالف أمرهم حتى يأتي أمر الله.
اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! املئ قلوبنا من محبتك، ومن خشيتك، ومن معرفتك، ومن الأنس بقربك، واملأها حكمةً وعلماً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم طهر بلدان المسلمين من الأضرحة والقبب والقبور التي تعبد من دون الله، والتي يُذبح بها لغير الله، والتي يُنذر لها من دون الله، اللهم طهر بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين، ورد المسلمين إلى دينهم الصحيح، اللهم رد المسلمين إلى عقيدتهم الصحيحة يا رب العالمين!
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، واجعلنا اللهم وإياهم هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، الله دمر أعداء الإسلام، وأعداء المسلمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مُضلين، ولا مفتونين، ولا مُغيرين، ولا مُبدلين حتى تبعثنا من قبورنا يا رب العالمين.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) اللهم توفنا على الإخلاص لك يا رب العالمين، اللهم توفنا على الإسلام والإيمان، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/8)
التقوى
إن المسلم بحاجة إلى التقوى أشد من حاجته إلى الماء والهواء، وأعظم فوائد التقوى هي محبة الله له؛ فمن أحبه الله أحبه الناس، وخير زاد يتزود به المسلم هو التقوى، والباقيات الصالحات كما يقول بعضهم هي اتباع الحسنة بالحسنة، وعلى المسلم إذا بدأ في عمل أن يستمر فيه ويحذر من النكوص عنه، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.(61/1)
التقوى حقيقتها والحاجة إليها
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل الأنبياء وأكرم الأتقياء صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، نعم -يا عباد الله- نسمع هذه الكلمة في كل خطبة وعيد وجمعة، اتقوا الله، اتقوا الله في السر والعلانية، اتقوا الله، فما خلقتم إلا لتقوى الله، وما أسدى عليكم من نعمة إلا لتستعينوا بها على تقواه.
وحقيقة التقوى يا عباد الله هي: أن تجعلوا أنفسكم دائماً في وقاية من عذاب الله وعقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فلا يراكم حيث نهاكم، ولا يفقدكم حيث أمركم.
يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: [[التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد للرحيل]].
أيها المسلمون: إننا لمحتاجون إلى التقوى أشد من احتياجنا إلى الماء والهواء، ولو لم تكن فائدتها إلا أنها تجلب محبة الله لكفى، ومن أحبه الله أحبه الناس، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] ويقول جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].
وفي الحديث: {إن الله إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض} فاتقوا الله -أيها الناس- فبالتقوى أوصى الله ورسوله، وجدير بالمسلم أن يعضَّ بالنواجذ على وصية الخالق المدبر جلَّ وعلا، ووصية خير البشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول عليه الصلاة والسلام: {اتق الله حيث ما كنت}.
نعم.
يا عباد الله: بالتقوى ينجو الإنسان من الشدائد، وتندك أمامه العقبات، وتزول الشبهات، ويجعل الله له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وييسر له الرزق من حيث لا يحتسب.
وذلك مصداق قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
عباد الله: بالتقوى ينضج عقل الإنسان، وتتكون عنده ملكة قوية، وبصيرة نيرة، تضيء له الطريق المظلمة، ويفرق بها بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، بل وتكفر سيئاته، وتغفر ذنوبه يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:29] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28].
عباد الله: بالتقوى يأمن الإنسان إذا خاف الناس، ويُسر إذا حزنوا، ويستبشر إذا قنطوا ويأسوا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62 - 64] وبالتقوى تزداد علاقات الإنسان بربه، وينال الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35].
بالتقوى يطمئن المسلم على ذريته من بعده، ولا سيما ضعفائهم: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].(61/2)
خير الزاد التقوى
إذا عرفنا فائدة التقوى، وما تؤول إليه من خير كثير، وعرفنا أننا لا محالة مسافرون عن هذه الدار.
نعم يا -عباد الله- نحن مسافرون عن هذه الدار، ومقلعون عنها، ويوشك أن يؤذن لنا بالرحيل غداً أو بعده أو قبله عن هذه الدار، كلنا مسافرون، والكل منا يحتاج إلى تأمين راحته، فسفر الآخرة يحتاج إلى زاد واحد، وهو التقوى وأنعم به زاداً، نعم -يا عباد الله- أنعم به من زاد يكفل السعادة الأبدية، والطمأنينة الكاملة، والعيش الرغيد في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
لذا يا عباد الله: يعرف الإنسان أنه لا غنى له عن التقوى، التي بهها يتخلص من مآزق كثيرة في الدنيا والآخرة، ولاسيما عند الورود على النار، التي لا ينجو منها إلا المتقون، كذلك بالتقوى يكون الله معك، وينصرك، وتفوق عند الله وعند أوليائه أهل الحسب والنسب، مهما عُرفت أنسابهم، وشرفت مراكزهم، وإن كنت مولى الموالي، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى}.
ويقول بعض السلف رحمه الله: [[ما خرج عبد من ذل المعصية إلى عز التقوى، إلا أغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآناسه بلا أنيس]] فاتقوا الله عباد الله، فالتقوى جمال، والتقوى شفاء من الداء العضال، احرصوا أن تكون نفوسكم تقية، فلن يسعد عند الله إلا الأتقياء، وكل من عداهم فهو شقي، اتقوا الله فالتقوى خلف من كل شيء، ولا خلف في التقوى، اتقوا الله فهي أول عدة تعتدونها لأعدائكم وتفوقونهم بها، اتقوا الله في نفوسكم، وفي أهليكم، وفي أموالكم، وفي معاملاتكم، وفي أولادكم، وفي من تحت أيديكم، وفيما ائتمنتم عليه من مصالح المسلمين، وفي أرحامكم، وفي كل مجال من مجالاتكم العامة والخاصة، لتفوزوا برضى الله ورضوانه، بما فيه السعادة في الجنة.
اللهم اجعل التقوى خير زاد لنا يا رب العالمين، اللهم اجعل التقوى خير زاد لنا، اللهم اجعل التقوى خير زاد لنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، بارك الله ولي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا وأستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(61/3)
المداومة على الطاعات
الحمد لله الذي لا يتغير ولا يزول، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى آثارهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ وأكثروا من إتباع الحسنة بالحسنة، فوالله ما أجمل الطاعة إذا أُتبعت بطاعة، ولا أجمل من الحسنة تتلوها الحسنة بعدها، فتلكم الباقيات الصالحات، التي ندبكم إلى فعلها في محكم الآيات، يقول جلَّ وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
فالله الله -يا عباد الله- بالإقبال على ما يرضي الله، فإنه وعد بالخير الكثير لمن أطاعه واتبع رضاه في كل زمان ومكان، فإنه هو الذي أخبر عن نفسه سبحانه وبحمده أنه مع المتقين والمحسنين في كل زمان، أليس هو الذي أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا في رمضان وفي غير رمضان، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، ذلكم نزول حقيقي، يليق بجلاله وعظمته، فيقول سبحانه وبحمده: {هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل من فأعطيه مسألته}.
عباد الله: ما هذا الانصراف، وما هذه الرغبة عن الله، الذي يحب من عباده المداومة على تقواه، فحذار يا من سمت نفوسهم في رمضان إلى درجات الصالحين، ونعمت وتلذذت لمناجات رب العالمين، وانخرطت في سلك الطائعين، حذار أن تهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، حذار يا من كان في رمضان تقياً رحيماً أن تحول نفسك شيطاناً رجيماً، حذار فما أقبح النكوص على الأعقاب، والالتفات عن الله، بعد أن أقبلت عليه تائباً من ذلك، راغباً في رحمته، خائفاً من نقمته.
حذار بعد أن كنت في عداد الطائعين وحزب الرحمن، وأسبل عليك لباس العفو والغفران أن تخلعه بالمعاصي، فإنها شهوة قصيرة عاجلة تعقبها حسرة دائمة ونار حامية، في يوم يجاء بجهنم، فتزفر على العصاة وتأخذهم الزبانية بلا رحمة ولا عطف، في يوم ينصب فيه ميزان الأعمال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11].
نار بعيد قعرها، شديد حرها، طعام أهلها طعام ينشب في الحلوق {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] نار لا يموت فيها ولا يحي، ولا يسمع ندائهم فيها ولا يجاب لهم دعاء، يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
فاتقوا الله -عباد الله- وواصلوا السير إلى الله، لعلكم تفوزون برضاه، وتكونوا من أهل الجنة التي لا يزول نعيمها، ولا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23].
ويقال لأهلها: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك كرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احم حوزة الدين، اللهم احم حوزة الدين، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر دينك وكتابك، اللهم اخذل من خذل دينك، اللهم انصر من نصر كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، واخذل من خذل كتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الدين من اليهود والمبشرين وأعوانهم والشيوعيين، اللهم أدر عليهم دوائر السوء، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، وردهم إليك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا جميعاً إلى كل خير يا رب العالمين، واهدنا سبل الرشاد، اللهم اهدنا سبل الرشاد، اللهم أصلح إمام المسلمين، اللهم ارزقه الجلساء الصالحين، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين وجنبنا وإياهم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونَّ من الخاسرين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ولا ننسى هذه الوصية، وصية رسول الله: {من صام رمضان فأتبعه بست من شوال؛ فكأنما صام الدهر} رواه مسلم.
اللهم أعنا على أداء الطاعات، اللهم أعنا على أداء الطاعات، وجنبنا المنكرات يا رب العالمين، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكره على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(61/4)
الجهاد
الجهاد في سبيل الله بابه واسع، وخيره عظيم، وتجارة رابحة في الدنيا والآخرة، أمر به الله سبحانه وتعالى بالمال والنفس، وجعل لمن مات في سبيله أجراً عظيماً، ويوم تركنا الجهاد -ونحن نعد بالملايين- تداعت علينا الأمم، وأصبحنا طعمة للطامعين، نحب الحياة ونكره الموت ونحن في عداد الميتين فنشكو إلى الله حالة المسلمين!(62/1)
فضل الجهاد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: يقول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10 - 13].
أمة الإسلام: الجهاد في سبيل الله بابٌ واسع، وخيرٌ عظيم، وتجارة رابحةٌ في الدنيا والآخرة، وهو عمل حث عليه ربنا جل شأنه في أكثر من موضع من القرآن، ولم تغفل عنه السنة المطهرة بل اعتنت به عنايةً تامة وبينت مكانته وأنه باب من أبواب الجنة الثمانية.(62/2)
مبشرات للمجاهدين
عباد الله: الجهاد في سبيل الله بابٌ للحرية، وبابٌ للعزة والكرامة، وللمحافظة على الأنفس والأعراض، وللأموال والبلاد وللعبادات؛ لذلك أمرنا الشارع الحكيم أن نجاهد أعداء الإسلام بكل ما نستطيع.
روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم} قال أبو داود: صحيح الإسناد.
ثم بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي يرعى مصالح المجاهدين وأسرهم أو يجهز غازياً في سبيل الله بأي نوع من أنواع التجهيز فقد شارك الغازي في سبيل الله، وله من الأجر مثل أجر الغازي، فعن سيف بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا} متفق عليه.
وتأتي بشارة عظيمة في حديثٍ صحيح ينقله إمام المحدثين البخاري رحمه الله فيقول فيما رواه عن عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما اغبرت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسه النار} ثم يقول في بشارة أخرى: {لغدوةٍ أو روحةٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها} متفق عليه.
وترغيباً في الجهاد وزيادة في الفضل من الله أنه اشترى منا أشياء هو الذي وهبها لنا، وذلك في مقابلة ثمن كريم فقال جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لذلك ينبغي أن يكون المجاهدون على صلة طيبة بالله تعالى؛ لأن الله تعالى جعل نصرهم على الأعداء بعد طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ثم يكونوا على أهبة الاستعداد في استيعاب جميع أسلحة القتال امتثالاً لأمر الله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا حصلت الطاعة وحصل الإيمان الكامل بالله وأعدت القوة الحسية والمعنوية فسوف يحصل النصر والتأييد من الله عز وجل بعدما يكون هذا الجهاد خالصاً لله عز وجل وفي سبيل الله لا يكون لـ قومية أو وطنية أو عصبية أو حمية أو جاهلية، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: {أتى أعرابياً النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة} فعجب لها أحد الصحابة رضوان الله عليهم فقال: أعدها يا رسول الله! فقال: {من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض} قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: {الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله}.(62/3)
حنظلة يجاهد صبيحة عرسه
أمة الإسلام: لقد سطر التاريخ الإسلامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أمثل الأمثال وأروعها لأن الدنيا لم تعظم في قلوبهم.
نعم.
يا أمة الإسلام! ولم يروا الدنيا شيئاً لأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، فإليكم قصة هذا الشاب المسلم، هذا الشاب المسلم من الذين يفخر بهم التاريخ الإسلامي فإنه عمل جاهداً ليكمل شطر دينه، وشاء الله له أن يكمله وأن يتزوج بزوجة عفيفة تقية كما يشتهي رضي الله عنه، فدخل بتلك الزوجة وأتى منها ما يأتي الرجل من زوجته ثم يسمع في صباح عرسه منادي الجهاد: حي على الجهاد، حي على الجهاد؛ فيترك عروسه ودنياه ومتاعه راغباً فيما عند الله من الثواب، وركب الفرس ولبس أدوات الحرب، وما هي إلا لحظات حتى كان منتظماً في صفوف المجاهدين، وقاتل قتال الأبطال الشجعان ما شاء الله له أن يقاتل حتى لقي ربه بين الشهداء وضِمن الشهداء.
فلما انتهت المعركة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عجيباً أثار دهشته! فقال لأصحابه: {هل أحد من أهل حنظلة؟ أين ابن أبي عامر -وكان هذا هو اسم الشهيد- قالوا: يا رسول الله! زوجته وعروسه بنى بها بالأمس -أي: دخل بها- فقال: إلي بها.
فجاءت زوجته وعليها آثار العرس فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زوج حنظلة! اصدقيني القول: ماذا كان آخر العهد بينك وبين حنظلة؟
فقالت: يا رسول الله! بنى بي بالأمس، وأتى مني ما يأتي الرجل من زوجته، وقبل أن يطهر من جنابته سمع منادي الجهاد فخرج للجهاد في سبيل الله ولم يتطهر من جنابته بعد.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عن هذا سألتك فإني رأيت الملائكة تغسله بماء السلسبيل من الجنة في صحاف من ذهب وفضة بين السماء والأرض تغسله من جنابته}.
فيا لها من شهادة حق في سبيل الله!! لقد آثر رضي الله عنه الآخرة على الدنيا ولم يقض شهر العسل في المكسيك أو في البلاد الغربية أو في بلاد الإلحاد والكفر والإشراك، فلقد لقي الجزاء الأوفى من الله عز وجلَّ، وسوف يقضي شهور العسل بل دهور العسل بل حياة طويلة لا انقضاء لها بجوار أرحم الراحمين، في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
اللهم اكتب النصر لأمتنا الإسلامية، اللهم اكتب النصر لأمتنا الإسلامية، اللهم اكتب النصر لأمتنا الإسلامية على أعدائها في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(62/4)
حال المسلمين اليوم
الحمد لله مغيث اللهفات، ومحلِّ الشدائد والكربات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم العلانية والخفيات، ويعلم ما نقوله في ألسنتنا وما تخفيه صدورنا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! قد أوجب الله على المؤمنين الجهاد في سبيله، والاعتصام بدينه الذي هو حبله المتين، والدعوة إلى ذلك، والألفة والاجتماع والتعاون على الخير والبر والتقوى، والاستعانة بالله في جميع الأمور، وقوة التوكل على الله، وعلى القيام بالمستطاع المقدور عليه من الدين والتقوى، وتعلم ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم من العلوم والفنون النافعة التي يحصل بها قيام الدين والأمة، والتمرن على القوة المعنوية والشجاعة الإيمانية وبالأسباب المقوية للإيمان كلها، وبالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة المبطلين والضالين بالتي هي أحسن، والجهاد في سبيل الله حق جهاده، فهذه الأوامر الإلهية في القرآن في مواضع متعددة وكلها داخلة في الجهاد في سبيل الله.
ولكن يا للأسف الشديد! لقد تغيرت الأحوال، ولو خرج فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم ورأى التشتت والافتراق وكثرة الأحداث، ورأى واقع المسلمين لقال: بئس ما خلفتموني من بعدي! وما له لا يقول ذلك ونحن نُعد بالملايين وقد تداعت علينا الأمم وأصبحنا طعمة للطامعين، نحب الحياة ونكره الموت ونحن في عداد الميتين.
معذرة إلى الله، حالة المسلمين اليوم حالة تبكي لها القلوب وتتفتت لها الأكباد، ويذوب من أجلها الجماد، وكيف لا يكون ذلك وقد أذلهم الرجوع إلى الدول الكافرة في حل مشاكلهم؟ وهيهات أن يحل الكفار مشاكل المسلمين، بل هم فرحون مستبشرون بما يحصل بين المسلمين من التفرق والشتات وسوء المعاملات.
فإلى متى هذا الرقاد يا أمة الإسلام؟ تذكروا بيت المقدس ومن ساكنه الآن، أليست شرذمة قليلة ملعونة في كتاب الله؟ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112] تذكروا إخوانكم في أفغانستان فهم يقاومون الشيوعية الحمراء، تذكروا إخوانكم في أفريقيا وقد عثا فيهم التبشير بـ النصرانية.
يا شباب الإسلام! الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، يكفي الانحراف، يكفي الانجراف، يكفي الركض وراء المدنية الزائفة، متى الاستيقاظ؟ إلى متى هذا السهاد؟
عباد الله: صلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد الذي جاء بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم صلَِ وسلم وبارك عليه وزد صلاة وتسليماً إلى قيام الأبدان من القبور.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك الشجعان أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقوي عزيمتنا وأعزنا بالإسلام وردنا إليك رداً كريماً حتى نحذو حذوهم يا من له القدرة التامة! ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يا علي يا عظيم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أخرج المسلمين من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، إلى نور الإيمان والإسلام، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، واللواط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(62/5)
الحج الأكبر
حينما يعقد الناس مؤتمراتهم الدنيوية سعياً وراء المصالح، وبحثاً عن الحلول في سبيل التخلص من مشكلات الدنيا؛ عندئذٍ تنطلق كوكبة من طلاب الآخرة لعقد مؤتمرهم الإسلامي السنوي في رحاب الأرض الحرام، ولينجزوا بذلك خطوة في طريقهم إلى الله.(63/1)
حكم الحج وآدابه
الحمد لله، الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة، والنعم السابغة، أحمده سبحانه وأشكره، ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل.
عباد الله، إن الله -جلَّ وعلا- شرع الحج إلى بيته الحرام، وجعله ركناً من أركان الإسلام، وهو كذلك في العمر مرةً واحدةً، فمن زاد فهو تطوعٌ، والله لا يضيع أجر المحسنين.
عباد الله! هناك عند بيت الله الحرام وفي المشاعر المقدسة، يجتمع المسلمون ليؤدوا واجباً عليهم، فهنيئاً للمسلمين إن عرفوا قدر هذا الاجتماع، ثم هنيئاً للمسلمين إن عرفوا قدر هذا الاجتماع.
أمة الإسلام! إنه موسمٌ عظيم لبَّى فيه المسلمون دعوة الله عز وجل، قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27 - 29].
نعم يا عباد الله! إنها منافعٌ كثيرة تحصل في ذلك الاجتماع العام للمسلمين في تقوية دينهم، وإصلاح دنياهم في قوتهم واتحادهم.
نعم يا عباد الله! يحصل في ذلك الموسم العظيم التعارف بين المسلمين، وتقوى صلتهم والروابط بينهم، فيا له من موسمٍ عظيم! ويا لها من فرصةٍ ثمينة! ومناسبةٍ قويمة! لا تحصل لغير المسلمين.(63/2)
فوائد قصد البيت الحرام
اجتماعٌ يلتقون فيه من جميع أقطار الأرض متجهين إلى الله الواحد القهار، فهنيئاً لهم وهم يتجهون إلى تلك البقاع؛ ليجددوا صلتهم بالخالق العظيم، يدفعهم الإيمان، ويحدوهم الشوق، وتقودهم الرغبة فيما عند الله من الخيرات والمغفرة، مؤمنين حق الإيمان بأن الحج ركنٌ من أركان الإسلام، تطبيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان} ورغبةً فيما عند الله من الأجر العظيم، حيث يقول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {مَن حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة} ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: {تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة}.(63/3)
وجوب الحج على الفور
عباد الله! الحج واجبٌ على المستطيع على الفور، فلقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا أيها الناس! قد فُرِضَ عليكم الحج، فحجوا، فقال رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول الله؟! فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم.
وفي رواية: الحج مرة، فمن زاد، فهو تطوع} وفي الأثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين]].
فاتقوا الله يا من تستطيعون أداء الفريضة، وتتأخرون عن أدائها! اتقوا الله -جلَّ وعلا- قبل أن يأتيكم الموت، وقبل أن ينزل بكم هادم اللذات وأنتم مفرطون، فقدر ورد في الأثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً]].(63/4)
ما ينبغي لمن عزم على سفر الحج(63/5)
التخلص من الديون والمظالم
عباد الله! اعلموا أنه إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج، أو العمرة، استحب له أن يُوصي أهله وأصحابه بتقوى الله عز وجل، وهي فعل أوامره واجتناب نواهيه، وينبغي أن يكتب ما لَه من الدَّين، ويُشهِد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب استجابةً لله حيث يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وحقيقة التوبة هي: الإقلاع عن جميع الذنوب وتركها، والندم على ما مضى منها، والعزيمة على عدم العودة إليها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفسٍ، أو مالٍ، أو عرضٍ، ردها عليهم، أو تحللها منهم قبل سفره، فقد حث على ذلكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {من كان عنده مظلمة لأخيه من مالٍ، أو عرضٍ فليحلله اليوم قبل ألاَّ يكون دينارٌ، ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه}.(63/6)
تعلم أحكام الحج
كذلك -يا عبد الله- ينبغي للحاج أن يتعلم ما يشرع له في حجته وعمرته، ويتفقه ويسأل عَمَّا أشكل عليه، ويختار الرفقة الصالحة، ليكون على بصيرة، ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار، ويحذر أن يصحب معه آلات اللهو، بل يحرص على الذكر والاستغفار، ودعاء الله جلَّ وعلا، ويتضرع إليه ويتلو القرآن ويتدبر معانيه، ويحافظ على الصلوات في الجماعة، ويحفظ لسانه من كثرة القيل والقال، ويتحرز من الخوض فيما لا يعنيه، ويحذر من الإفراط في المزاح، ويصون لسانه -أيضاً- من الكذب، والغيبة، والنميمة، والسخرية بأصحابه وغيره من إخوانه المسلمين، وينبغي له بذلَ البِر في أصحابه، وكفَّ الأذى عنهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة على حسب الطاقة.
هذه بعض آداب الحج والعمرة فالزموها، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجنبني وإياكم ما يبغضه ويأباه، وأسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم حجاً مبروراً، وأن يجعل سعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، إنه غفور رحيم.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المؤمنين، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(63/7)
فضل الإيمان والعمل الصالح
الحمد لله مشرف الأيام بعضها على بعض، ومصرف الأحكام بالإبرام والنقض، وموقظ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولانا من الإنعام والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! اعلموا علم اليقين أن الله جلَّ وعلا أعدَّ لمن آمن به وعمل الصالحات خيراً كثيراً، وقد ورد ذلك في كتاب الله، فاسمعوا إلى ذلك يا عباد الله!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
واسمعوا أيضاً يا عباد الله! إلى هذا الوعد الكريم، لمن آمن وعمل صالحاً: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
واسمع إلى الوعد يا عبد الله! {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124].
واسمع الوعد يا عبد الله! {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9].
ويقول ربنا جلَّ وعلا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10].
وأيضاً يا عبد الله! {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:107 - 108].
ثم يا عبد الله! الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناهم الله من الخسران، بعد أن أقسم جل وعلا، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].(63/8)
فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة
فبادروا -رحمكم الله- بالأعمال الصالحة، واغتنموا الفرصة، واسمعوا ما دمتم في وقت الإمكان؛ فإن الله جلَّ وعلا أقسم بهذه الأيام -أيام عشر ذي الحجة- في محكم البيان، والتي قال فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {ما من أيامٍ العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بماله ونفسه، ولم يرجع من ذلك بشيء} رواه البخاري.
فيا عباد الله! استقبلوها بالأعمال الصالحات، بالإكثار من نوافل العبادة، من الصلاة، والصدقات، والذكر، وقراءة القرآن، والاستغفار، وارفعوا أصواتكم بالتكبير والتهليل في كل مجتمع، وفي كل مكان، فإن هذه سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه عادة سلفكم الصالح، فإنهم كانوا يخرجون إلى الأسواق يكبرون ويهللون، فاقتدوا بهم رحمكم الله، ولا يمنعكم الحياء أن ترفعوا أصواتكم بالتكبير والتهليل، (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً) ما أجمل المسلمين لو رفعوا أصواتهم بهذا الذكر في كل مكان! الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {من صلَّى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
عباد الله! أمة الإسلام! يا من ترغبون في الخير، سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، قال: {يكفر السنة الماضية والباقية} رواه مسلم ورواه الترمذي أيضاً إلا أنه قال: {صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يُكِّفر السنة التي بعده والسنة التي قبله} فاغتنموا ذلك يا عباد الله! فإن هذا فضلٌ عظيم، ولا تحرموا أنفسكم هذا الفضل.
اللهم ارض عن خلفاء رسولك أجمعين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كملتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين.
اللهم من قدم إلى هذه البلاد يريد أن يحج ويعتمر، فاجعل حجه مبروراً، وسعيه مشكوراً، وذنبه مغفوراً، واجمعنا وإياه في جنات النعيم، ومن أتى إلى هذه البلاد ليفسد ويؤذي المسلمين في بيتك وفي المشاعر المقدسة، فاجعل منيته في طريقه، واجعله فريسةً للسباع، وأغرقه في البحر قبل أن يأتي إلى هذه البلاد يا رب العالمين، يا قوي يا متين، يا عزيز يا حكيم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح فساد قلوبنا وردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اغفر لنا ولوالِدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(63/9)
الحجاب
الحجاب هو المحارب اليوم من أعداء الله من العلمانيين والمنافقين واليهود والنصارى، فلذلك لزم التحدث عنه وحث النساء على التمسك به فهو دين، وقد حذر الشيخ من التبرج والسفور، وذكر أدلة من القرآن على ذلك، كما تكلم عن البرقع وأنه من أسباب الفتنة، وتعرض للتحذير من التشبه بالكافرين، وحذر من مسابقة الإمام في الصلاة.(64/1)
التحذير من التبرج والسفور
الحمد لله الذي علمنا الحكمة والقرآن، فمن عمل بما علم فقد أفلح ونجح وبلغ المرام، ومن أعرض عن الذكر الحكيم وما فيه من الآيات المحكمات فقد خاب وخسر وباء بالثبار، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين, ونصح الأمة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا ربكم عز وجلَّ، اتقوا الله في السر والعلانية.
أيها المسلمون: لا يخفاكم ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج النساء وسفورهن وعدم التزامهن بالحجاب من الرجال، وإبداء كثير من زينتهن الذي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ظهور هذه المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة من أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وخذوا على أيدي نسائكم، وامنعوهن مما حرم الله عليهن، وألزموهن بالتحجب والتستر، واحذروا غضب الجبار وعظيم عقوبته.
فقد صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه}.(64/2)
القرآن يحذر من السفور
أمر ربكم جلَّ وعلا بتحجب النساء في كتابه المبين، وأمر بإلزامهن البيوت وحذّر من التبرج والخضوع بالقول للرجال لأي شيء؛ صيانة لهن عن الفساد؛ وتحذيراً لهن عن أسباب الفتنة، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32 - 33] في هذه الآيات الكريمة ينهى الله سبحانه نساء أفضل الخلق، نساء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهل هن مثل نسائنا هذا الزمان؟! لا.
وكلا والله، أمهات المؤمنين وهن من خير النساء وأطهرهن ومع ذلك ينهاهن الرب جلَّ وعلا عن الخضوع بالقول للرجال، وما أدراكم ما هو الخضوع بالقول؟ هو تليين الكلام وترقيقه حتى لا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا، وكذلك أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلزومهن البيوت ونهاهن عن التبرج تبرج الجاهلية.(64/3)
المقصود بالتبرج
وما أدراك ما هو التبرج؟ هو إظهار الزينة والمفاتن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق، ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة التي تجول في زماننا ونبعت وكثرت في هذا الزمان.
فإن الرجل في زماننا إذا طأطأ برأسه ليغض بصره عن الوجه, نظر إلى الفتحة التي تفوق ما على الوجه والساقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسألك اللهم المخرج من مضلات الفتن يا رب العالمين.
إذا طأطأ الرجل رأسه ليغض نظره عن الوجه ونظر إلى أسفل القدمين والساقين والفخذين قد وضع لهما شقا ليخرجن ليفتن المسلمين، فأين الغيرة يا أمة الإسلام؟!
أين الأمر بالمعروف؟!
هذا ربنا عز وجل يحذر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحذرهن من إظهار الزينة ومن الخروج من البيوت لما يترتب على ذلك من إظهار للزينة، لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
لما كانت ملكة الحياء عند نسائنا كان الرجال أشد منهن حياءً، لذلك إذا تقابل الرجل والمرأة في أسواقنا التي كنا نعهدها ضيقة، وليست تلك الشوارع الفسيحة، إذا التقى الرجل بالمرأة وقف الرجل في أول السوق حياءً أن يمس المرأة في ذلك السوق الضيق، ثم تلتصق المرأة بالجدار -لا إله إلا الله! اللهم ردنا إليك رداً جميلا! - والآن -يا عباد الله- لما اتسعت الشوارع قلّ الحياء، والعياذ بالله من مضلات الفتن.
إذا كان الله عز وجلَّ يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة، عافانا الله وإياكم من مضلات الفتن، يقول الله عز وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] فهذه الآية الكريمة ردٌ واضح على من عاند وتعنت في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم, وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفاحشة وأسبابها، وأشار رب العالمين جلَّ وعلا إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة، وأن التحجب سلامة وطهارة.(64/4)
الفرق بين الحجاب والبرقع
هذه آيات كريمة تدل على الحجاب لمن ابتغى الهدى والرشاد {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59].(64/5)
المقصود بالحجاب
ما هو الحجاب؟ هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب وللتستر به، وهذا الأمر يشمل زوجات النبي وبنات النبي ونساء المؤمنين جميعاً، بإدناء الجلباب على المحاسن من الشعور والوجه وغير ذلك؛ حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن ولا يفتن غيرهن فيؤذين.(64/6)
البرقع محرم شرعاً
وإن مما يجلب الفتنة ويلفت النظر، هو ما يسمى بـ"البرقع" وهو الذي يبين العيون، والبعض من النساء تزيد في فتحة البرقع حتى تبدي ملامح الوجه، وكذلك ترفع العباءة حتى يظهر مفرق رأسها.
أمة الإسلام! أين الغيرة؟ أين الإيمان؟ أين تعاليم الإسلام؟ هذا كله من أسباب الفتنة والتعرض للشر، فتنبهوا لذلك يا أولياء أمور النساء وألزموهن بالحجاب، الحجاب حصن حصين للمرأة، يمنع عنها الشكوك والأوهام، كذلك ألزموا النساء بالبيوت فإن البيت للمرأة خير لها وأسلم عاقبة، وبذلك تتم صيانة الأعراض، قال علي رضي الله عنه الخليفة الراشد: [[ألا تستحون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها]] وكان يقول رضي الله عنه: [[أكفف أبصارهن بالحجاب، فإن شدة الحجاب عليهن خير من الارتياب، فإن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل]] الله المستعان! فرضي الله عن علي وعن أصحاب رسول الله أجمعين.
ويا ليت علي يرى ما وقع فيه النساء اليوم من التبرج وإبداء المحاسن وظهور الفساد والفواحش! ويا ليت علي يرى الكثير من الناس وهم يبيعون العفة والشهامة، ويهينون الكرامة, يا ليته يرى السائق وهو يذهب بالزوجات والبنات إلى الأسواق والمستشفيات وكأنهن مع إخوانهن أو أزواجهن ولا غيرة ولا مروءة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلينا ولم يبلغنا البلاغ المبين.
أين نحن من قول الرسول: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم}.
أمة الإسلام: لا تقتلوا أحاديث رسول الله، لا تئدوا سنة رسول الله، لا تهدموا الإسلام بمعاول الاستعمار، اتقوا الله يا عباد الله! يقول لكم رسول الله: {لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فاتقوا الله يا أمة الإسلام!.
أيها المسلمون: الحذر الحذر خذوا على أيدي نسائكم, وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج, وإظهار المحاسن والتشبه بأعداء الإسلام، واستيقظوا من غفلتكم قبل أن يحل بكم ما حل بـ لبنان وما حل بالمجاورين لكم وأنتم تنظرون.
انتبهوا قبل أن تندموا وحين ذلك لا ينفع الندم، إنما أضرب لكم المثل بـ لبنان؛ لأنا كنا نعرفها وكأنها بين أعيينا نرى ما فيها من المنكرات وما فيها وما فيها، والآن ويا للأسف يتمنون السكون والراحة من ضرب القنابل والمدافع، كل ذلك لما غيروا وبدلوا غير الله عليهم، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أحلل الغيرة في قلوبنا وأغث قلوبنا بالإيمان، أستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(64/7)
التحذير من التشبه بالكافرين
الحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله الثبات والوفاة على الإسلام والإيمان، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد المنّان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدٌ عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واحذروا من التيارات والمذاهب الهدامة، احذروا من الانزلاق في المدنية الزائفة التي تجر إلى قلة الحياء, وتجر إلى اتباع الصهيونية والشيوعية، وتجر إلى اتباع الغربية وتقليدهم، تجر إلى نبذ التعاليم الإسلامية, ثم تكون خسارة ووبالاً يوم القيامة.
من ذلك -يا عباد الله- التشبه بأعداء الإسلام في الملابس والزي وغيرها، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء} ويقول سيد البشرية: {اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، فذكر منهما -أي: الصنفين- نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها}.
احذروا أن يكون هذا الصنف في بناتكم أيها المسلمون، احذروا يا عباد الله! تذكروا فهذا تحذير شديد من التبرج والسفور ولبس الرقيق والقصير من الملابس، وبذلك انعكست المسألة, فصار بعض الرجال يسحب الثياب ويطيلها، وصارت بعض النساء تقصر الثياب, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فلنحذر.
ولنحذر من التشبه بأعداء الإسلام, فإنه: من تشبه بقوم فهو منهم وكذلك يجب منع البنات الصغار من الملابس القصيرة حتى لا تشب وتعداد ذلك.
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا ما حرم الله عليكم، وتعاونوا على البر والتقوى، وتواصوا بالحق والصبر عليه، واعلموا أن الله مجازيكم على أعمالكم وسائلكم عن ذلك، فأعدوا للسؤال جواباً، وللجواب جواباً صواباً، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعطفك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الدين من اليهود والشيوعيين والمستعمرين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً عليه يا مجيب الدعاء.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(64/8)
الخشوع في الصلاة
الصلاة عمود الدين، ولا دين لمن لا صلاة له، وإن مما يدل على عظم الصلاة وفضلها أنها فرضت من الله عز وجل بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات السبع، والصلاة صلة بين العبد وربه فعلى العبد أن يحسن الصلة بينه وبين ربه، وأن يجاهد نفسه على الخشوع فيها، والذين لا يخشعون في صلاتهم لا يجدون لها لذة، ولا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ولا يصلونها بسكينة وتؤده، وإنما ينقرونها كالغراب، فلذلك يحسون بثقلها ومشقتها.(65/1)
الأمر بالمحافظة على الصلوات
الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات الخمس, فرضها لحكم بالغة وأسرار لا يعلمها إلا هو سبحانه، وجعلها صلة بين العبد وبين خالقه جل وعلا, ليستنير بذلك قلب المؤمن ويحصل له المطلوب في الدنيا ودار القرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون المؤمنون بالله حقاً: اتقوا الله تعالى، وحَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها, ثم كملوها بفعل مستحباتها، فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين لمن لا صلاة له، هكذا قال صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر أنفاس الموت يوصيكم بالصلاة: {الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم}.
أيها المسلمون: لقد فرضت الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم من الله جلَّ وعلا بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات في العمل وخمسين في الميزان ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها؟
أيها المسلمون: إن الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، يقف العبد بين يدي الله عز وجلَّ موقف خضوع وإذلال، فيكبر الله عز وجل معظماً ومخبتاً وخاشعاً له يتلو كتابه العزيز, ويتلذذ بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ويسبحه ويعظمه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما يكون وسيلة إلى حلول رضوانه وكرامته.(65/2)
الحث على الخشوع في الصلاة
أيها المسلمون: إنه لجدير بمن كان متصلاً بربه أن ينسى كل شيء دون الله عز وجلَّ، وأن يكون حين هذه الصلة خاشعاً قانتاً مطمئناً قلبه، مستريحاً لله وبالوقوف بين يدي الله، ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، يقول صلى الله عليه وسم: {أرحنا بها يا بلال! أقم الصلاة} فهي راحة قلوب العارفين بالله جلَّ وعلا، لما يجدون في الصلاة من اللذة والأنس بمعبودهم ومحبوهم رب العالمين.
أيها المسلمون: إنه لجدير بمن دخل الصلاة خاشعاً مطمئناً قانتاً خائفاً من الله مراقباً لله، أن يخرج منها بقلب مملوءٍ فرحاً وسروراً، وإنابة لربه وإيماناً، لذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة.
وإنه لجدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمرتها أن تكون أكبر همه، وأن يكون منتظراً إليها، مشتاقاً إليها، ينتظر تلك الساعة في غاية الشوق والفرح والاهتمام؛ لأنه سوف يقف أمام رب العالمين، وسوف يقف بين يدي ملك الملوك، وسوف يقف بين يدي جبار السماوات والأرض، وسوف يقف بين يدي الواحد القهار الذي إذا سأله الحوائج وقال: يا ربِ! قال: لبيك عبيدي ولذلك أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وهكذا كان يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(65/3)
حال من لا يخشعون في الصلاة
أيها المسلمون: التجئوا إلى الله وأقيموا الصلاة كما أمركم الله, وكما صلاها رسول الله, حتى تجدوا لها اللذة وتفرح وتستنير بها قلوبكم.
أما اللذين يصلون ولا يعرفون فائدة الصلاة ولا يقدرونها حق قدرها؛ لذلك ثقلت عليهم الصلوات، ولم تكن قرة لأعينهم، ولا راحة لأنفسهم، ولا نوراً لقلوبهم، إنما يصلون تقليداً للآباء، أو حياء وخجلاً من الناس، أو عادة لا يعتبرونها عبادة، فهم ينقرون الصلاة نقر الغراب، وإذا صلوا خلف من يطمئن بصلاته، قالوا: أنت منفر، أنت مبعد عن الدين الإسلامي.
ويا للأسف الشديد! إنهم يؤولون حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ولا يعلمون ما هي صلاة معاذ بن جبل رضي الله عنه، إن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، وجاء إلى قومه ليصلي بهم، فصلى بهم وقرأ سورة البقرة الله أكبر! وهؤلاء يقولون لمن قرأ بالتين والزيتون، أو بالضحى، أو بالشرح، وأحياناً بعبس: إنك منفر ويقولون لمن قال: سبحان ربي العظيم خمس مرات أو سبع مرات، يقولون: إنك منفر، أئت لنا بالواجب مرة واحدة! هل نحن في حالة خوف يا عباد الله؟! ألسنا في أمن ونعمة وطمئنينة ورغد عيش تستوجب الشكر لله، وتستوجب أن نقوم لله قيام من عرف حقه وحق هذه النعم التي هي تترى علينا ليل نهار؟!
إن الذين لا يجدون للصلاة لذة ولا يعرفون لها قدراً، وينقرونها نقر الغراب، ولا يطمئنون فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً من هم أولئك؟ أولئك هم المنافقون، ولا صلاة لهم ولو صلوا ألف مرة؛ لأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم، المعلم الأكبر الذي جاء بهذا الدين، الذي قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} قال للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: {ارجع فصل, فإنك لم تصل} فعل ذلك ثلاث مرات، وفي كل ذلك يذهب فيصلي، ثم يأتي فيسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول له: {ارجع فصل, فإنك لم تصل}.
وبعد أن ألقى عذره، قال: {يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني} فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة.(65/4)
الوسوسة في الصلاة وعلاجها
أيها المسلمون: إن الكثير من الناس يصلي بجسمه لا بقلبه؛ لأنه جاء إلى المسجد بجسمه، وقلبه في كل واد يجول، يفكر في كل شيء حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها، وهذا ينقص الصلاة نقصاً كبيراً, ويجعلها قليلة الفائدة للقلب بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته وهي لم تزده إيماناً ولا نوراً.
وقد فشى هذا الأمر -أعني الوسوسة في الصلاة- ولكن الذي يعين على إزالته هو أن يفتقر العبد إلى ربه، ويأتي الصلاة برغبة، ويقبل على الله بقلب حاضر، ورغبة فيما عند الله عز وجلَّ، ويعلم علم اليقين أنه فقير وعبدٌ لله يريد من الله العون والنجاة في الدنيا والآخرة، ويسأله دائماً أن يعينه على إحسان العمل، وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة أنه سوف يقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وأن يعتقد أنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها هو الخشوع فيها وحضور القلب، ويعلم أن حضور الصلاة بلا خشوع كالجسم بلا روح.
ومن الأمور التي تستوجب حضور القلب أن يستحضر معنى ما يقول وما يفعل في صلاته، وأنه إذا كبر ورفع يديه فهو تعظيم لله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى فهو ذل بين يدي ربه عز وجلَّ، وإذا ركع فهو تعظيم لله، وإذا سجد فهو تصاغر أمام علو الله جلَّ وعلا، وأنه إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أجابه الله عز وجل من فوق عرشه قائلاً: حمدني عبدي.
وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي الله أكبر! يجيبه رب العالمين، يجبيه الخالق جلَّ وعلا، يجيبه من بيده ملكوت كل شيء -فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل هكذا يجيبك مولاك من فوق سبع سماوات، فاستحضر ذلك.
واعلم أنك إذا قلت: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى, وإن كنت تقولها بصوت خفي، وإن كنت تقولها في محل مظلم, فإن الله تعالى يراك ويسمعك وهو فوق عرشه, فما ظنك إذا آمنت بأن الله تعالى يقبل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة، وأنه يسمع كل قول تقوله وإن كان خفياً، ويرى كل فعل تفعله وإن كان يسيراً، فهو تعالى المحيط بعبده علماً وقدرة وتدبيراً، وسمعاً وبصراً, وغير ذلك من معاني ربوبيته.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأقيموا صلاتكم وحافظوا عليها، واخشعوا فيها، فقد قال ربكم في كتابه الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] من هم؟ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].
اللهم اجعلنا من المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون, وعليها محافظون, وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا كريم، وتقبل منا صالح الأعمال يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأسأل الله بمنِّه وكرمه ألا يجعله حجة عليّ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(65/5)
الحث على صلاة الجماعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك الناصح الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واحرصوا على أداء الصلوات المكتوبة في جماعة, وفي أول أوقاتها, ولا تتخلفوا عن الجماعة، فإن في تخلفكم عن الجماعة إضاعة لأمر الله عز وجلَّ, ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم} متفق عليه.
والمتخلف عن الجماعة فوت على نفسه خيراً كثيراً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة} متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا توضأ العبد فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة, وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلات ما انتظر الصلاة}.
متفق عليه.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: {جاء رجل أعمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولّى دعاه, فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: فأجب} رواه مسلم.
فكيف بمن يسمع النداء فوق رأسه ومن الإذاعة والتلفاز، ثم لا يجيب منادي الله عز وجلَّ؟! إنها مصيبة عظمى أصيب بها أكثر الناس، وهي بعدهم عن الله وعن الصلاة وأدائها فمن ترك الصلاة متعمداً فهو كافر، وسوف يكون في سقر، وسقر: اسم من أسماء جهنم, وأما المتهاون بها فسوف يلقى غياً أو غيلاً، وكلاهما واديان في جهنم لمن اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة.
اللهم نجنا من النار, ووفقنا للقيام بطاعتك يا كريم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليها بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الناصح الأمين، الذي دل الأمة على كل خير وحذرها عن كل شر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الدين، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، واخذل من خذل الإسلام وأهله، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، واجعلهم قرة أعين لوالديهم يا رب العالمين، اللهم انصر بهم دينك، اللهم أعلِ بهم كلمتك، اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك، اللهم اشف ما ببعضهم من الأمراض الاجتماعية التي أدت إلى الهوس يا رب العالمين، اللهم أصلحنا جميعاً واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم وفقنا لامتثال أمرك وامتثال أمر رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح قلوبنا واشف مرضها، اللهم املأ قلوبنا من محبتك وخشيتك، ومن معرفتك ومن الأنس بقربك، واملأها حكمة وعلماً ومعرفة بك يا رب العالمين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن ترفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(65/6)
الخمور
أباح الله لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث والمضرات، ولقد كرم الله بني آدم بكرامات كثيرة، أهمها العقل؛ لكن تجد من الناس من يجني على هذا العقل بشرب الخمور والمسكرات.
وهنا نداء إلى شارب الخمر قبل فوات الأوان.(66/1)
إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
الحمد لله الذي أباح لنا جميع الطيبات، وحرم علينا الخبائث والمضرات، أباح لنا الطيبات تفضلاً منه وولاية، وحرم علينا المضرات عناية منه ووقاية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، وتمتعوا بما أحل الله لكم من الطيبات، واشكروه عليها بالقيام بطاعته، فإن الشكر سبب للمزيد، واسمعوا إلى الرءوف الرحيم، وهو يحثكم على الأكل من الطيبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
أيها المسلمون! إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نوراً وهدىً، فيه آيات بينات، وسبل واضحات، من اتخذه إماماً وقائداً؛ سعد في دنياه وفاز في أخراه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ومن ترك العمل بالقرآن، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ضل في دنياه وشقي في أخراه {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].
أيها المسلمون: هذا العمى المذكور في الآية الكريمة سببه اجتراح السيئات، وفعل المنكرات، فإن المعاصي توجد في القلب ظلمة حقيقية، يشعر بها العاصي -إن كان له ضمير- كما يشعر بظلمة الليل البهيم، وتزداد هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تعلوا وتكون سواداً في الوجه، وذلك هو الران الذي ذكره الله في كتابه قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].(66/2)
المسكرات تذهب بالعقول
أيها المسلمون: إن المعصية سبب لهوان العبد على الله جل وعلا وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على ربه لم يجد من يكرمه، كما قال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] ويقول جل علا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
نعم.
الله عز وجل يكرم بني آدم بكرامات كثيرة، وفي مقدمة هذه الكرامة العقل، إن العقل نعمة كبرى، ثم يجني بعض بني آدم على هذه الجوهرة وهذا العقل السليم ويزيله بما حرم الله عليه، وذلك بالمسكرات والمخدرات من خمور وغيرها، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وهذه المسكرات من الخمور وغيرها توعد الله فاعلها بالخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأخزى؛ لأن الخمر أم الخبائث، ورأس الخبايا، ودليل إلى النار، وهي جالبة لغضب الجبار، فهي التي تيسر للعبد سبل الفساد وتجعله يشتري الجنون بدل الرشاد، ويشتري الجنون بماله الذي تعب فيه، ويبيع كنزاً ثميناً، بل يجني عليه أكبر جناية، ألا وهو العقل الذي ركبه الله فيه.
أمة الإسلام: إن شارب الخمر خاسر شرفه، ساقطة مروءته، مرذول بين المجتمع، شارب الخمر لو يرى نفسه وهو سكران، يمشي ويطيش ويتمايل في الطريق والناس يضحكون عليه ويستهزئون به، لو يرى نفسه في تلك الحالة ما قارب الخمر، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، اللهم إنا نسألك العفو والعافية يا رب العالمين.(66/3)
عاقبة شارب الخمر في الدنيا ويوم القيامة
يا شارب الخمر! أين كرامتك حين يراك من كان يظن أنك من المكرمين، بل أين الإسلام وأنت لا تخاف رب العالمين!
إن كان شارب الخمر تاجراً، فلا يأمن الإسلام فإن الله قد توعد شاربها بالفقر والجنون والفضيحة بين الناس.
وإن كان شارب الخمر موظفاً فستكون عاقبة أمره التشريد والعذاب الشديد، وقد أجمع الأطباء على أن شارب الخمر يصاب بأمراض كثيرة فتاكة، منها: السل والشلل، واحتقان الكبد، وإفساد المعدة، وتغير الخلق، فالسكارى يسارع إليهم التشوه وتسود وجوههم، ويكون كالهرمِ جسماً وعقلاً.
فالخمر تضر الجسد ضرراً بالغاً، وتقتله قتلاً فاتكاً ذريعاً، وتؤثر على عقول الذرية، فولد السِكِير لا يكون نجيباً ولا ذكياً، بل ربما يصاب بالخبل والجنون، فهذا بعض ما يصاب به شارب الخمر في الدنيا.
أما يوم القيامة، أما يوم الحسرة والندامة، أما يوم الفضيحة، أما يوم الاجتماع الأكبر، فيجيء شارب الخمر متحمل وزره وفضيحته.
وعندما يضع شارب الخمر على فمه الكأس، يقول الإيمان للكأس: انتظر حتى أخرج من القلب وتحل أنت فيه؛ لأنه لا يجتمع الخمر والإيمان معاً في قلب مؤمن، بهذا أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وكما أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن الله لعن الخمر وشاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستاقها وآكل ثمنها}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات} أي: الزواني، يسقى شارب الخمر من هذا النهر الذي يجري من فروج الزواني، الذي يؤذي أهل النار ريح فروجهن.
فهل يرضى عاقل من العقلاء أن يكون هذا حاله يوم القيامة؟!
وهل تعلم يا شارب الخمر أنك بعد شربها، لا يقبل الله منك صلاة ولا صياماً أربعين صباحاً، وهل سمعت يا شارب الخمر أنك يوم الهول الأكبر تشرب من عرق أهل النار، فيقطع أمعاءك ويشوي لحم وجهك وبدنك، وتكون من الخاسرين، الذين خسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.(66/4)
الإجماع على تحريم الخمر
أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله حقاً! لقد أجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، في قديم الزمان وحديثه، على أن الخمر حرام إجماعاً قطيعاً لا ريب فيه، فمن قال أن الخمر حلال فهو كافر يستتاب، فإن تاب وأقر بتحريمها ترك، وإلا قتل كافراً مرتداً، لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإنما يرمى بثيابه في حفرة بعيدة، لئلا يتأذى المسلمون برائحته وأقاربه بمشاهدته، ولا يرث أقاربه من ماله، وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين، ولا يدعا له بالرحمة، ولا بالنجاة من النار؛ لأنه كافر مخلد في نار جهنم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب:64 - 66].
نعم أيها المسلمون! إن من اعتقد أن الخمر حلال فهو مضاد لله، مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خارج عن إجماع المسلمين، أما من شرب الخمر وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام، ولكن سولت له نفسه الأمارة بالسوء فشربها، فهو عاق لله، فاسق عن طاعة الله، مستحق للعقوبة، وعقوبته في الدنيا أن يجلد ردعاً له ولغيره، فإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع، فقال ابن حزم رحمه الله: "يقتل في الرابعة" إذا شرب الرابعة يقتل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يقتل في الرابعة عند الحاجة، إذا لم ينته الناس بدون القتل".(66/5)
من أضرار المسكرات
فاتقوا الله أيها المسلمون! واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون، فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصفها الله بأنها رجس من عمل الشيطان، وقرنها بالميسر والأزلام وعبادة الأوثان، وقال صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الخمر مفتاح كل شر، وجماع الإثم كله، إن شاربها يفقد عقله، ويلتحق بالمجانين، وربما يقتل نفسه وهو لا يشعر، وربما يزني بأمه وأخته وابنته وخالته وعمته وهو لا يشعر، كل هذا يحصل إذا فقد الشعور بسبب أم الخبائث وبسبب شرب المسكرات.
لقد رُئي الكثير من سائقي السيارات الكبيرة وهم يصطدمون بالجدران وهم فاقدو الوعي، وقد رُئي الكثير من سائقي السيارات وهم يختلطون بدمائهم والمسكرات جميعاً -نسأل الله العفو والعافية- فكثير من الحوادث سببها المسكرات، ومنها أكل الحبوب التي غزت المسلمين.
اللهم لك الحمد وعليك المشتكى وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم من أتى بالحبوب والمسكرات إلى بلاد المسلمين؛ ليفسد البلاد ويؤذي العباد، اللهم اجعل منيته في طريقه، اللهم اجعل منيته في طريقه، اللهم اجعل منيته في طريقه.
اللهم من أتى بالمسكرات والمخدرات إلى بلاد المسلمين، لينشر الشر والفساد فاجعل منيته في طريقه، اللهم اجعله فريسة للسباع، اللهم اجعله فريسة للسباع، اللهم مغنماً للسباع يا رب العالمين، اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].
اللهم إن نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، أن تجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه إنك على كل شيء قدير.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(66/6)
نداء لشارب الخمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح لأمته، وترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واسمعوا وأطيعوا.
عباد الله: الله الله بالابتعاد عن المسكرات والمخدرات، فقد علمتم ما تقدم من الآيات والأحاديث أن الخمر أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، وعلمتم أن عذاب شاربها أليم، وأنها أم الخبائث ورأس الخطايا، ومفتاح الشرور، ودليل إلى النار، وجالبة لغضب الجبار، فالحذر الحذر يا عباد الله! فليتق الله شارب الخمر، وليفكر بالموت وسكراته، والقبر وظلماته، ولِيَتُب إلى الله، وليعمل صالحاً، وليقل لنفسه ويؤنبها: نفسي ذهب الصبا وولى وجاء المشيب، وقد قضيت عمري في اللهو فهل ترجعين؟!
نفسي إن كان قد غرك الشباب فالعمر ينتهي كلمح البصر، وإن كان غرك المال فما أنتِ من قارون أغنى وقد خسف الله به الأرض، وإن كان غرك نضرة الوجه، فالدود ينتظر أن يشبع من لحم الخدود.
فكر يا شارب الخمر فيما سمعت، وعظ نفسك لعلها ترق وتلين، وافتح آذان قلبك لعلك ترجع عن غيك، واذكر يوماً يقوم فيه الناس لرب العالمين، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، يوم يعض الظالم على يديه نادماً على ما جناه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] فاتقوا الله عباد الله! وأحسنوا سيرتكم وأفعالكم مع الله، وتجنبوا ما يخجلكم ويخزيكم عند الوقوف بين يدي الله.
وصلوا وسلموا على الناصح الأمين، صلوا وسلموا على رسول الله، على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأن نشهد أنه لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نسألك باسمك العظيم، الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استنصرت به نصرت، أن تعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم انصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم انصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقنا وإياهم لما تحب وترضاه، وجنبنا وإياه ما تبغضه وتأباه، اللهم أرنا جميعاً الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا جميعاً الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، إنك على كل شيء قدير، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، وجميع إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أصلح أحوال المسلمين وألف ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(66/7)
الدخان ومضاره
اعتنى الإسلام بالمسلم من كل جانب، ومن ذلك صحته، فقد حرم عليه محل ما يضره أو يضر غيره، ومن ذلك التدخين.
وقد تحدث الشيخ عن مضار التدخين الصحية والاجتماعية والدينية، وعرض قول العلماء فيه من أصحاب المذاهب الأربعة وأنه لا يجوز بأي اسم أو صورة كان.(67/1)
تحريم المذاهب الأربعة للتدخين
الحمد لله, كرّم بني آدم وحملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أحلَّ لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث, وهي من صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله ليتمم به مكارم الأخلاق, ويدعو إلى كل فضيلة، وينهى عن كل رذيلة, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واحذروا المعاصي بأنواعها, واحذروا المروجين للمعاصي الجالبين للمسلمين ما فيه ضررهم في دينهم ودنياهم وأبدانهم, الذين يسعون لجلب الدخان, أو التتن, أو التبغ, وكلها مسميات لأبي الخبائث الدخان, الذين يسعون لاستيراده, المتساهلين بما فيه من الخطورة والداء العضال, وقد تساهل فيه كثير من الناس حتى عمَّ المجتمعات وابتلي به كثير من الأفراد, وربا عليه الصغير في هذا الزمان، وهرم عليه الكبير إلا من رحم ربك.
والدخان لم يوجد إلا حديثاً, ولم يوجد في عهد السلف , ولقد ذهب كثير من العلماء إلى تحريم الدخان, منهم العيني من فقهاء الحنفية، قال رحمه الله: يحرم الدخان لكونه مضر للصحة بأخبار الأطباء المعتبرين، وكل ما كان كذلك فيحرم استعماله اتفاقاً, ولأنه من المخدرات المتفق عليها عندهم المنهي عن استعمالها شرعاً, للحديث: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر} والدخان مفتر باتفاق الفقهاء سلفاً وخلفاً, ولكون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه وخصوصاً في مجامع العبادات ونحوها, ويؤذي الملائكة المكرمين, وفي الحديث المتفق على صحته: {إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم} , ولكون الدخان سرفاً وتبذيراً إذ ليس فيه نفع مباح خالٍ عن الضرر, بل فيه الضرر المحقق باختيار أهل الخبرة، هذا كلام الحنفية.
وقال الشيخ/ خالد بن أحمد بن عبد الله من المالكية: لا تجوز إمامة من يشرب الدخان, وإن لم يدمن عليه, والصلاة خلفه باطلة على الأرجح, ولا تجوز شهادته وهي باطلة ثم قال رحمه الله: لا يجوز الاتجار في ذلك يعني الدخان، هذا مذهب المالكية.
وقال الشيخ/ ابن علان الصديقي من الشافعية رحمهم الله في إعلام الإخوان بتحريم تناول الدخان: وقد اتفق العلماء على حفظ العقول وصونها من المفترات والمخدرات, وكل من امتص هذا الدخان مُقر بأنه لا بد أن يدوخ أول تناوله, ويكفي ذلك دليل على التحريم, لأن كل ما غير العقل بوجه من الوجوه أو أثر فيه بطريق تناوله فهو حرام، قال صلى الله عليه وسلم: {كل مسكر حرام} والمراد بالإسكار فيه الإسكار القوي, أي: مطلق التغطية على العقل, وإن لم يكن معه الشدة المطربة، ولا شبهة أنها حاصلة لكل متناول أول ما يتناول الدخان.
وقوله: إذا تناوله بعد لا يؤثر فيه ذلك, لا ينفي سبب التحريم؛ لأن مدمن الخمر إذا اعتادها لا تؤثر فيه تغييراً أصلاً, ولا يخرجها ذلك عن كونها حراماً, اعتباراً بأصل التغيير الثابت فيها للعقول.
قال بعض العلماء رحمهم الله: التنباك حرام -أي: الدخان- ومن دلائل تحريمه أن فيه إضاعة المال من غير فائدة, لا في الدين ولا في الدنيا, وهو إسراف، والإسراف ممنوع لقول ربنا جل وعلا {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ولقوله تبارك وتعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء:26] ولقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] وأي سفاهة فوق أن يحرق الإنسان ماله, ويحرق قلبه وصدره بلا فائدة؟
والدخان عبث, والعبث مذموم, والدخان خبيث يستخبثه من لا يشربه ولا يصاحب شاربه, وقد قال ربنا جل وعلا: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] مع تلك المضار الكثيرة أنه ينتن الفم الذي هو محل ذكر الله عز وجل, ويحصل منه سواد الشفتين، وعلى كل حال هو شيء لا خير فيه.(67/2)
أضرار التدخين الصحية
ومن فقهاء الحنابلة الشيخ/ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قال في أثناء جوابه: وبما ذكرنا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك تحريم الدخان الذي كثر في هذا الزمان استعماله, وصحَّ بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصاً إذا أكثر منه أو تركه يوماً أو يومين لا يشربه ثم شربه فإنه يسكر, ويزيل العقل حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك, فهذا ما قاله العلماء والأطباء, وإليك ما فيها -أي: مقالات العلماء- من مضار الدخان:
1 - أنه إسراف وتبذير، وشارب الدخان يعدي أولاده, وخصوصاً الذين يشربونه أمام الأولاد, وربما يرسلون أولادهم يشترون لهم من الدكان.
2 - الدخان يثقل على العبد العبادات, فلا تراه في الصف الأول, ويبغض إليه المكث في المساجد, ويكره صاحبه الصيام, ويدعو شاربه إلى مخالطة الأنذال والسُفَّل، ويزهده في مجالسة الأخيار.
3 - الدخان يؤذي المسلمين, ويؤذي الكرام الكاتبين, ويلوث الفم واللسان والحلق والصدر, وكلها مواضع ذكر لله, ومن أراد أن يتبين ذلك فليمر على صاحب فرن ولينظر في قلبه فإنه يجول مثل ذلك الفرن الملتهب ناراً, وقلبه أسود من كثرة ممارسة الدخان.
4 - من مضار الدخان احتوائه على مادة (النيوكوتين) السامة، والدخان يعرض شاربه لأمراض خطيرة في بدنه, ومن ذلك تعسير الهضم وإحداث التهاب في الرئتين, وإحداث السعال, وتعطيل الشرايين الصدرية, وعسر التنفس, وتشويش انتظام دقات القلب.
5 - شارب الدخان يعين على قتل نفسه والله حرم ذلك: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29].
6 - الدخان يضعف البصر, ويضر بالعقل, ويورث الحمق وسرعة الغضب, ويخرب كريات الدم, ويحطم الأعصاب, ويؤدي إلى مرض السل الرئوي, ومرض السرطان, ويسود الفم والوجه, ويتلف الأسنان ويذهب نظرتها, ويكرهها للناظرين, ويحدث الأرق وعدم النوم, ويحدث التيبس في الكبد, ويحدث مرض الفالج.
فهذه بعض الأمراض الناتجة عن الدخان أبا الخبائث.
فالواجب على العاقل الناصح لنفسه أن يتوب إلى الله عز جل عن شربه قبل أن يموت بسببه, فيكون قد أعان على قتل نفسه.
اللهم اعصمنا عن كل محرم، اللهم أصلح أولادنا ونسائنا، اللهم اكفنا بالحلال عن الحرام، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه يا رب العالمين، يقول ربكم بعد أعوذ بالله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:9 - 13].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(67/3)
أضرار التدخين الاجتماعية والدينية
الحمد لله يهدي من يشاء, ويضل من يشاء, ومن يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق على الإطلاق، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله عز وجل وراقبوه في السِّر والعلانية, وابتعدوا عن جميع ما يغضب الرب جل وعلا, ابتعدوا عن مجالسة الأشرار, ابتعدوا عن مجالس السوء، وتأملوا ما جاءت به الشريعة من إحلال الحلال وتحريم الحرام؛ فإن الشريعة أحلت ما فيه مصالح للعباد, وحرمت ما فيه مضار للعباد.
وللدخان مضار كثيرة فمن مضاره ما ذكرته سابقاً, وكذلك للدخان مضار اجتماعية وهي: انتشار الفساد في المجتمع, وكثير من الذين يشربون الدخان الآن لا يبالون بانتشاره بين الناس, بل يشربونه أمام الناس وأمام أولادهم الصغار, وهذا لا شك يهون شربه عند الصغار ويؤدي إلى نتيجة حتمية وهي: أن الصغار إذا اعتادوه في الصغر فتك بهم فتكاً عظيماً, ثم لا يستطيعون الخلاص منه عند الكبر إلا بعد المشاقة الكبيرة.
وأما مضاره الدينية: فإن المحققين من أهل العلم الذين عرفوا مصادر الشريعة ومواردها وسلموا من الهوى قد تبين لهم تحريم الدخان من عمومات النصوص الشرعية, وقواعد الدين المرئية, وإذا كان حرام فثمنه حرام, ومعامله عاصياً لله ولرسوله, وبائعه عاصٍ الله ولرسوله, ضار لأمته ومجتمعه وأولاد المسلمين.
وبائع الدخان سوف يلقى جزاءه أمام رب العالمين إذا سأله تلك المسائلة فليعد الجواب وليقل: إن الزبائن يبتعدوا إذا لم يجدوا عندي دخان, ليعد هذا الجواب البائخ, ليعد هذا الجواب الفاشل أمام رب العالمين.
وسيقول له الله أنه أخبرنا في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
أمة الإسلام! الدخان ضرر في الدين؛ فإن الإيمان ينقص في المعصية ويزيد في الطاعة, وقد ألَّف كثير من علماء المسلمين في تحريمه عدة نسخ, جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
ونصيحتي -أيها المسلمون- لمن مَنَّ الله عليه بالعصمة من هذا الدخان, أن يحمد الله على هذه النعمة, ويسأله الثبات عليها، ويدعو لإخوانه بالعصمة من هذه الدخان الخبيث.
أما نصيحتي بمن ابتلوا به بأن يتأملوا بدقة وإمعان في مضار الدخان ونتائجه, ليقتنعوا بضرورة الاقتناع منه، ويهون عليهم تركه واجتنابه, وأن يلحوا على ربهم بالدعاء أن يعصمهم منه ويستعينوه على ذلك, ويستعملوا الأسباب التي تعينهم على تركه, وذلك بقوة العزم وعدم الجلوس في كل محل يشرب فيه الدخان, والتسلي بما أباح الله لهم من الطيبات من المطاعم والمشارب, ولينظروا في حال من عافاه الله كيف عادت لهم صحتهم وقوتهم وزالت عنهم الأضرار الناتجة عن شرب الدخان والحمد لله رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى علي صلاة، صلَّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلنا ممن يحلون الحلال ويحرمون الحرام ويجتنبونه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود والنصارى المبشرين والشيوعيين, اللهم دمرهم تدميراً, اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك, ومزقهم كل ممزق، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين, اللهم أعزنا بالإسلام وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العليم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(67/4)
الربا
الربا مرض عظيم يفتك بالمجتمع، ويقطع الأواصر، وينشر الاستغلال، وينزع الرحمة، ويحل الغضب والحرب من الله، والتحايل عليه لا يجدي عند الله، ولا يخرجه عن اسمه، ولا يعفي مرتكبه من أنه قارف كبيرة، وهذه الخطبة تتحدث حول الربا وأحكامه.(68/1)
مفاسد الربا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: {ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(68/2)
النهي عن الربا في القرآن والسنة
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، اتقوا ربكم الذي أمركم بالحلال ونهاكم عن الحرام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:130 - 132].
نعم.
يا عباد الله! هذا القرآن العظيم صارخاً ومحذراً من هذه الجريمة الوخيمة، ومتوعداً من ارتكب هذه الكبيرة ألا وهي الربا، ثم تأتي السنة، الوحي الثاني وتحذر تحذيراً بليغاً، ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلان المؤمنات} حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
الشاهد من هذا الحديث: (أكل الربا) فأكل الربا من الموبقات المهلكات، أكل الربا من كبائر الذنوب.
أيضاً في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الربا ثلاثٌ وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه}.
أيضاً: {لعن الرسول صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء -يعني: في الإثم-} حديث صحيح رواه الإمام مسلم.
أيها المسلمون! لقد توعد الله آكل الربا بالنار، وآذنه الله بالحرب، ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتب ومات على تلك الحالة، يقول صلى الله عليه وسلم: {درهمُ رباً يأكله الرجل وهو يعلم أنه رباً أشد من ستٍ وثلاثين زنيه}.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: {ورأيت رجلاً يسبح في نهر دم، وكلما جاء يخرج من هذا النهر استقبله رجلٌ آخر على شاطئ النهر وبين يديه حجارة ويرجمه بحجرٍ في فيه حتى يرجع حيث كان}.
وسأل عنه صلى الله عليه وسلم -سأل عن هذا الرجل الذي يعذب في هذا النهر من الدم ويلقم الحجارة- فأخبر أنه كان آكل الربا.(68/3)
الربا مفسدة على المجتمع
أيها المسلمون! إن الربا فسادٌ في المجتمع، واستغلال يبنى على الشح والطمع، آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يتخبطه الشيطان من المس، وذلك علمٌ لأكلة الربا يعرفهم به أهل الموقف، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديثٍ مرفوع: {إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بلاءً فلا يرفعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم}.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها]].
وكما ذكرنا في الحديث السابق: أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم الحجارة؛ والحجارة هو المال الذي جمعه من حرام، فكما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا يبتلع هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(68/4)
صور التحايل على الربا
أيها المسلمون: احذروا من الربا، احذروا من الربا يا عباد الله، والربا كثير، وقد كثر في بلدان المسلمين.(68/5)
ربا البنوك
إن للتحايل على الربا صوراً كثيرة أكثرها شيوعاً ما ظهر في البنوك علانية بين أظهر المسلمين؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.(68/6)
طريقة المداينة
ومنها يا عباد الله! طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس وهي: أن يتفق الدائن والمدين أولاً على المعاشرة، يتفق معه على الدراهم يقول: أريد عشرة آلاف ريال العشرة بعشرة ونصف أو العشرة اثنا عشر أو العشرة إحدى عشر مثلاً، ثم يذهب الدائن والمدين إلى صاحب دكان عنده أموال مكدسة إما سكر أو ربطات خام أو غيرها، فيشتريها الدائن شراءً صورياً تحيلاً على الله ليس له بها غرض سوى الوصول إلى بيع العشرة بعشرة ونصف أو العشرة بإحدى عشرة أو العشرة باثني عشر إلى غير ذلك من الحيل، والدليل الذي يوضح أنه شراء صوري أنه لا يكاثر بالثمن، ولا يقلب السلعة، ولا يفتشها كما يفعل المشتري حقيقة، وربما كانت تلك الأموال قد أفسدها طول الزمن، أو أكلتها الأرض؛ لأنها لم تنقل وإنما جعلت حيلاً للربا، جعلت فخاً ليصطاد بها الفقراء المحتاجين؛ الذين تحوجهم الدنيا حتى يأتون إلى أهل الطمع والجشع ليصطادوهم بذلك الفخ.
عباد الله: هذا الشراء الصوري؛ يبيع الدائن هذه السلع على المدين اتفاقاً عليها في الربح ثم يعود المدين فيبيعها على صاحب الدكان وهي في محلها، ويخرج من الدكان بدراهم؛ وهذا هو عين التحايل.(68/7)
مفاسد ومحاذير البيع الصوري
أيها المسلمون: إن المداينة بهذا البيع الصوري الذي يعلم الله جل وعلا ويعلم المتبايعان أيضاً أنهما لم يريدا حقيقة البيع وإنما أراد دراهم بدراهم فإن هذه المداينة تشتمل على عدة محاذير:
الأول: أنها تحايل على المحرم وخداع لله ورسوله، والخداع من عادة المنافقين قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة:9].
فنقول لهذا المتحايل: إن حيلتك لن تغني عنك من الله شيئاً: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألم تعلم أن الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ألم تعلم أن الحساب يوم القيامة على ما في قلبك أيها المخادع.
والمحذور الثاني: أن هذه المعاملة توجب قسوة القلب والتمادي في الباطل.
والمحذور الثالث: أن في هذه المعاملة معصية لله ورسوله فقد {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حتى تنقل} فكيف يليق بصاحب الدكان أن يشتريها بعدما بيعت وهي في مكانها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: {كان الناس يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه} رواه البخاري.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تبتاع السلع -أي: تشترى- حتى يحوزها التجار إلى رحالهم} فكيف ترضى لنفسك أيها المسلم أن تتعامل بمعاملةٍ تكون فيها معصية لله ورسوله والوقوع فيما حذر الله ورسوله منه من أجل كسبٍ لا يعود عليك بالخير والبركة، بل يعود بالحرمان من رضا الله والمباءة بسخط الله، فتب إلى ربك واتق الله في نفسك، واعرف حقيقة الدنيا وأنها زائلة لا تقدمها على الآخرة.
اللهم ووفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، اللهم ووفقنا للزهد والورع، وجنبنا ما فيه هلاكنا من الشح والطمع، واجعلنا ممن رأى الحق حقاً واتبعه ورأى الباطل باطلاً واجتنبه إنك جوادٌ كريم رءوفٌ رحيم.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(68/8)
من آثار الربا
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، والناهي والمحذر عن سخطه ونيرانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(68/9)
الكسل والبطالة
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واحذروا عقوبة المعاصي في الدنيا والآخرة ومنها: جريمة الربا التي تقضي على المودة والتراحم بين المسلمين، وتؤدي بالأغنياء إلى الكسل، وتصرفهم عن الأعمال المشروعة للكسب الحلال إذ يفضل الأغنياء التعامل بالربا مع راحة البدن على الاشتغال بالزراعة والصناعات، أو التجارة ونحوها مما يحتاج إلى تعب البدن وعنائه؛ ولا شك أن هذا ينشر البطالة، ويقتل روح التنافس بين أصحاب الحرف، ويؤدي إلى نقص الإنتاج وقلة موارده، وينتهي الأمر إلى الغلاء، أما إذا سد باب الربا استعمل الغني أمواله بالأمور النافعة بدلاً من تعطيلها وبدلاً من استعمالها بالربا.(68/10)
الأمراض والمصائب والفتن
أمة الإسلام: الإسلام حرم الربا؛ لأنه يساعد على خلق النظام الفاسد المخرب، الربا سبباً لجلب غضب الله عز وجل، ومنها تسليط الأمراض وناهيك بأمراض انفتحت علينا لا نعرف اسمها ولا يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا في الزمان السابق، إنما لما تعامل الناس بالربا وصار البعض من الناس يرتكب جريمة الزنا؛ تسلطت تلك الأمراض، وبعض الكوارث لمن يتعاملون بالربا ولمن يرتكبون الزنا فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد يقضي على حياتهم.
ومضار الربا شديدة أليمة وعاقبتها وخيمة، الذين يتعاملون بالربا تضطرب نفوسهم، وتختل عقولهم، وتراهم إذا قاموا وساروا يتخبطون كمن أصابه مس من الجنون، لا فرق في هذا بين الدائن والمدين، وإنما أصابهم ذلك؛ لأنهم استحلوا الربا وعدوه كالبيع، وغاب عنهم أن هناك فرقاً عظيماً يجعل البيع حلالاً والربا حراماً.
ويخشى على آكل الربا من سوء الخاتمة، فإليكم التفصيل من كلام الله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
اللهم عافنا من أحوالهم ومن مآلهم إلى النار وهم فيها خالدون.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول لنا ولا قوة إلا بك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ووفقهم لإزالة المنكرات وأعنهم عليها يا رب العالمين، وارزقهم بغضها يا حي يا قيوم، اللهم وارزقهم بغض المنكرات، وأعنهم على تغييرها وإزالتها بحولٍ منك وقوة فإنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعينٍ لنا يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين واجعلهم قرة أعينٍ لوالديهم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.(68/11)
الزنا
ما حرم الله ورسوله أمراً إلا وفيه منفعة للإنسان، سواءٌ ظهرت هذه المنفعة أو خفيت، ومن أقبح المنكرات وأبشع الجرائم جريمة الزنا، وقد ظهرت كثير من الأمراض الخبيثة نتيجة لهذه الفاحشة، ولا نجاة للمجتمع من هذه الأمراض إلا بالابتعاد عنها ومحاربتها.(69/1)
أسباب انتشار الفواحش
الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه من إلهٍ أعزَّ من أطاعه واتقاه، وأذل أهل الفسق والفجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله حكيمٌ حذر من الفواحش والزور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبيٌ جاء بالحق الواضح في كل الأمور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وانتهوا عَمَّا نهاكم الله عنه حيث يقول جلَّ وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151].
عباد الله: لقد انتشرت بين المسلمين في هذا العصر أمراض اجتماعيةٌ خطيرةٌ، من هذه الأمراض فاحشتا: الزنا واللواط، اللتان فشتا بين كثيرٍ من العامة والخاصة، مما يدل على ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين بلغ ضعف وازع الدين عند كثيرٍ ممن ينتسبون إلى العلم فضلاً عن غيرهم، فاتبعوا الشهوات واستمتعوا بالمآكل والمشارب والمراكب، وسكتوا عن الإنكار خوفاً من الملامة ورجاءً لهذه الدنيا الدنية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى وقف المنافقون من المسئولين حجر عثرةٍ ضد الدعاة والغيورين على محارم الله، لصدهم عن الإنكار، وذلك لحبهم للشر والفساد، وبغضهم للخير وأهله {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43].
عباد الله: إن حصول الزنا نتيجة للتبرج والسفور والاختلاط الذي فشا بين الناس، وذلك بانفلات الزمام من أيدي الرجال، فأصبحت المرأة تفعل ما تشاء من وسائل الفتنة والإغراء والرجل مغلوب على أمره، قال صلى الله عليه وسلم: {هلكت الرجال إذا أطاعت النساء، هلكت الرجال إذا أطاعت النساء، هلكت الرجال إذا أطاعت النساء} رواه الإمام أحمد في مسنده، والمراد: طاعة النساء في غير مرضاة الله تعالى، و {سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار، قال: الفم والفرج} رواه الترمذي.
ويقول الله عز وجلَّ وهو أصدق القائلين: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] فالله تعالى الحكيم العليم بشئون خلقه نهى عن الاقتراب من الزنا وما يدعو إليه من النظر المحرم، واللمس والاختلاط والخلوة بالأجنبية، لأن هذه الأشياء تؤدي إلى الزنا ولا بد، إلا من عصم الله، وإذا كان الله قد نهى وحذر من مقدمات الزنا ودواعيه، فالتحذير من ارتكابه أولى وأشدُّ.(69/2)
أضرار الزنا وآثاره السيئة
الزنا من أكبر الكبائر وأعظم الموبقات التي تهدد المجتمعات الإنسانية بالخراب والدمار، وانتشار الفقر والأمراض، واختلاط الأنساب وضياع الأولاد، فجريمة الزنا أخطر على البشرية من القنابل الذرية والهزات الأرضية، والزنا أيضاً يهدد النسل البشري بالفناء التدريجي، لأن هدف الزانية والزاني هو إطفاء الشهوة الغريزية، أما الحمل والإنجاب فأمران ثقيلان، لما يترتب عليهما من مسئوليات، لذا تجد المرأة الزانية تحول دون ذلك بأي وسيلة، سواء بتعاطي أسباب منع الحمل، أو الإسقاط بعد الحمل، أو قتل المولود فور ولادته، أو إلقائه في المستشفيات ونحوها، هذا والزانية حينما تقتل المولود، فإنما تجمع على نفسها مصيبتين، وترتكب معصيتين: الزنا وهو محرم، وقتل نفسٍ بغير حقٍ وهو أشدُّ تحريما.
والزنا آثاره سيئة وعواقبه وخيمة، ومن نتائج الزنا: كثرة اللقطاء غير الشرعيين الذين يعتبرون مبتورين عن المجتمع ليس لهم أي قرابةٍ، أو صلة، فينشئون معقدين نفسياً، شاذِّين فكرياً، لجهلهم أصلهم، وحرمانهم عطف وحنان الوالدين وتربيتهما، ولذا تجد غالبيتهم كما تدلُّ الإحصائيات يعشقون الإثم ويهوون الجريمة.
فيا من يرى أن فاحشة الزنا أمرها يسير، ويا من يحب ذلك، قل لي بربك: أتحب ذلك لأمك؟ أتحبه لأختك؟ أتحبه لابنتك؟ أترضا لزوجتك الزنا؟ بالطبع ستقول: لا وألف لا إن كان بك ذرةٌ من إيمان، فإذا كنت لا ترضاه لمحارمك؛ فكذلك الناس لا يرضونه لمحارمهم، فإن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ولو يعلم أحدكم أن زوجته، أو أخته قد قتلت، أهون عليه من أن يبلغه أنها قد زنت، قال سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه: [[لو رأيت رجلاً مع امرأتي، لضربته بالسيف غير مصفح]] فعجبوا منه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن} رواه البخاري ومسلم.(69/3)
عقوبة الزاني وفضل العفاف
حيث كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، فقد شرع لها الحكيم العليم عقوبةً تناسبها من الرجم أو الجلد، فالزانية أو الزاني الذي يطأ فرجاً حراماً اختياراً، إما أن يكون محصناً، أو غير محصن، فالمحصن هو: البالغ العاقل الذي تزوج امرأةً ووطئها بنكاحٍ صحيح، حتى ولو كانت مطلقةً، أو ميتة؛ فإذا زنا، فإنه يحكم عليه بالموت رجماً بالحجارة رجلاً كان أو امرأة، ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلماً.
وأما غير المحصن: وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذكرنا، فإنه إذا زنا، جلد مائة جلدة ويسفر عن بلده مسافة قصرٍ سنةً كاملة، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
عباد الله: من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: {رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله}.
يذكر أن رجلاً تعلق بامرأةٍ، وأنفق عليها أموالاً كثيرةً حتى مكنته من نفسها؛ فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته وأراد الفعل، ألهم التوفيق، ففكر، ثم قام، فقالت له: ما شأنك، فقال: إن من يبيع جنةً عرضها السماوات والأرض بقدر شبرٍ لقليل الخبرة بالمساحة، ثم قام وتركها.
روى أبو يعلى بسندٍ حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {ما ظهر في قومٍ الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله، فويل ثم ويل لمن استباح الزنا ودعا إليه بقوله أو فعله} وقد ذكر الفقهاء أن من استحل محرماً مجمعاً على تحريمه فقد كفر، ومن أباح الزنا ودعا إليه ورغب فيه فهو أعظم جرماً ممن استحله فقط، وعلى هذا فلا يبيح الزنا ويدعو إليه ويرغب فيه إلا من هو كافرٌ فاجرٌ محادٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63] ووالله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، وما ظهر الزنا والربا في قرية إلا وظهر فيها الفقر والأمراض المتنوعة وظلم السلطان.
وروى البخاري رحمه الله بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني الليلة آتيان وإنهما انبعثا بي، وإنهما قالا لي: انطلق} فذكر الحديث إلى أن قال: {فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا عليه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، وإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب، ضوضوا -أي: صاحوا- قال: قلت ما هؤلاء؟ -قال في آخر الحديث-قالا لي: هؤلاء هم الزناة والزواني} نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.(69/4)
وسائل العلاج من الفاحشة
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم من جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، عباد الله جاء في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بروا آباءكم تبركم أبناءكم، وعفوا تعف نساءكم} فيا من يحاول الوقوع في الزنا، أو وقع بالفعل ولم يتب سواء كنت في بلدك، أو في غير بلدك كمن يسافر في الإجازات الصيفية، أو الربيعية إلى خارج البلاد بنية المعصية، كن على يقينٍ وثقة بأن ساعة القصاص قريبة، وأن الديان موجود، فكما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل به لغيرك تكتال لنفسك، فالجزاء من جنس العمل ولو بعد حين، قال الشاعر الحاكم في هذا الموضوع:
عفوا تعف نساؤكم في المحرمِ وتجنبوا ما لا يليق بمسلمِ
من يَزْنِ يُزْنَ به ولو بجدارهِ إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
إن الزنا دَيْنٌ فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلمِ
ولرب من يزني بألفي درهمٍ في بيته يزنى بغير الدرهم
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا أنفسكم وأهليكم وأولادكم من أسباب الشر والفساد والتردي في مهاوي الرذيلة، فالوقاية خيرٌ من العلاج.
ومن الوقاية: نهي النساء عن التبرج والسفور وخروجهن متعطرات، لأن ذلك يؤدي إلى الفساد، أو اغتصاب النساء، أو التحرش بهن كما يحصل اليوم.
ومن الوقاية: تيسير سبل الزواج، وإزاحة العقبات من طريقه والبعد عن مهيجات الغريزة ومثيرات الشهوة كالاختلاط والنظر إلى صور النساء.
ومن طرق الوقاية أيضاً: عدم غياب الرجال عن زوجاتهم مدةً طويلةً تزيد عن ستة أشهر.
عباد الله: لما كان النظر بريد الزنا؛ أمر الله تعالى بغض البصر قبل حفظ الفرج في قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31] فالنظرة تولد الخطرة في القلب، ثم الخطوة بالقدم، ثم الوقوع في الخطيئة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {العينان تزنيان وزناهما النظر} ذلك أن النظر إلى محاسن المرأة الأجنبية ضربٌ من التلذذ وإشباعٌ للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع.
خرج حسان بن أبي سنان رحمه الله يوم عيد، فلما عاد قالت له زوجته: كم من امرأةٍ حسناء رأيتها هذا اليوم، فقال: والله منذ أن خرجت من عندك حتى رجعت إليك ما رفعت طرفي عن إبهامي.
وكان الربيع بن خثيم رحمه الله من شدة غضه لبصره يظن الناس أنه أعمى.
عباد الله: ينبغي أن تحثوا نساءكم وبناتكم على تعلم وحفظ سورة النور، وكذلك سورة الأحزاب لما تحويه هاتان السورتان من الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم العامة والخاصة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وآداب الستر والحجاب وعدم التبرج، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة من العفاف والستر والنزاهة والطهر، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [[علموا نساءكم سورة النور]].
عباد الله! اتقوا ربكم، واسألوه العافية وحسن العاقبة، فإن ارتكاب الزنا وتعاطي أسبابه والإصرار على المعاصي من أسباب سوء الخاتمة عياذاً بالله من ذلك.
هذا وصلوا على النبي المصطفى، نبيٍ ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه، امتثالاً لأمر ربكم حيث يقول جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.(69/5)
المعاصي وعواقبها
المعاصي والذنوب قد كثرت في زماننا هذا، بل قد جاهر الناس بالذنوب دون حياء ودون خوف من الله وعقوباته، والله جل وعلا أمرنا بطاعته وانتهاج شرعه، ونهانا وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره، وذكر لنا قصصا ًلكثير من المجتمعات التي عتت عن أمره فأنزل بها بأسه وعقوبته.(70/1)
الله جل وعلا يأمر بطاعته وينهى عن معصيته
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ذي البطش الشديد والفعال لما يريد، لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي، بل هو الغني الحميد، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعاملين بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجلَّ واعلموا أن الله تبارك وتعالى أوجب طاعته وطاعة رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20 - 21] ويقول جلَّ وعلا: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] ويقول ربكم جلَّ وعلا: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
عباد الله: إن الله يأمر بهذه الآيات الكريمات، يأمر بطاعته وطاعة رسوله، وركَّب على ذلك السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، ورتب على ذلك من العقوبات ما لا يعد ولا يحصى، ولا يحد ولا يستقصى، ولهذا ختم الآيتين الأوليين بذكر شدة عقابه لمن عصاه ولمن عصى رسوله، وختم الآيتين اللتين في سورة النور بالوعيد، فقال: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
عباد الله: إن المعاصي هي التي تجر إلى الشقاء والبأس والنقمة، وأن الطاعات والأعمال الصالحة ذريعةٌ ووسيلة للصلاح والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، إننا نشكو من كثرة الحوادث والنوازل، ولا نفكر أبداً فيما يجر هذه الحوادث لنا وفيما يسبب تلك النوازل لنا؛ لأننا لا نعتني بكلام الله ولا بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نهتم بالأخبار التي نبهنا عليها وحذرنا منها في القرآن والسنة النبوية، ولم نهتم بما بُين لنا من النافع والضار، وذلك برغم ما ندعيه نحن المسلمين من حب الله ورسوله، ونسمع الآيات ونسمع الأحاديث تصرح بتحريم الحرام، والتحذير في الانتهاك في الحرمات، وكأننا لم نقصد في ذلك البلاغ، فللذنوب والمعاصي عقوبات تتنوع، وعلى قدر الجرائم تكون العقوبة، فتارة تكون العقوبة في الدين، وهي من أعظم العقوبات، وهي أن يحال بين العاصي المدمن على الذنوب وبين الإيمان، وبينه وبين حسن الخاتمة كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] ولكن العاصي لا يرى أنه مصابٌ في دينه، لا يرى أنه مصاب في دينه ولا يرى أن النكتة التي نكتت في قلبه من أثر المعاصي، فتزداد وتعلو حتى تصير كالران، كما قال تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
وتارة تكون عقوبة المعاصي في الأبدان والأموال من خسف ومسخ وإهلاك، وأخذ على غرة وغفلة، اسألوا أهل اليمن هل جاءهم إنذارٌ قبل أن يأتيهم الزلزال، اسألوا أهل الخفجي هل جاءهم إنذار قبل أن تأتيهم الرياح المدمرة {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47] {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].(70/2)
آثار المعاصي والذنوب
عباد الله: لا تغتروا بما بُسط لكم من النعمة، فإنه بُسط على من كان قبلكم من النعمة، فظنوا أن الإمهال إهمال، وجاءهم أمر الله وهم غافلون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما أخذ الله قوماً إلا عند غرتهم وسلوتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإن أخذه أليم شديد.(70/3)
سلب النعم بسبب المعصية
يخبرنا تعالى في كتابه العزيز عن قوم نسوا ما ذكرهم الله به، ففتح عليهم أبواب كل شيء استدراجاً {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
فيا أيها المسلمون: أفيقوا من رقدتكم وانتبهوا من غفلتكم قبل أن يطرقكم من أمر الله ما لا طاقة لكم به، والحذر
الحذر!
ليست هذه خطباً تقال، وليس كلاماً نقوله، إنما هي إنذارات، ولنخرج من المسئولية أمام الله عز وجلَّ، الحذر الحذر من العقوبات والمثلاث التي حلت بالأمم الماضية والقرون الخالية، فلم تغنِ عنهم قوتهم وسلطانهم، لما جاءهم من عقاب الله وسطوته وبأسه ما حال بينهم وبين الشهوات، مما هو معدٌ ومرصد لأمثالهم وأشباههم، وما هي من الظالمين ببعيد.(70/4)
المعاصي سبب لغضب الله ولعنته وسخطه
عباد الله: إن الله تبارك وتعالى إذا أُطيع رضي، وإذا رضي بارك، وليس لبركته نهاية، وإذا عصي غضب، وإذا غضب لعن، ولعنته تبلغ السابع من الولد.
عباد الله: أما ترون ظهور هذه المنكرات التي انتشرت في ناديكم، في الحاضرة والبادية، في كل أسواق المسلمين، فلم يشمئز منها قلب، ولم يتمعر منها وجه، فأين الغيرة الدينية؟ أين الغيرة الدينية يا أمة الإسلام؟! هذه الصلاة تقام، وهي من أعظم الشعائر الإسلامية، والكثير من الذين يدعون الإسلام لا يعترفون بها ولا يؤدونها، وإذا قيل لهم: أدوا الصلاة، قالوا: لستم بربنا، ولستم بمسئولين عنا!
الله أكبر! إنه رد للحق، لقد تعالى أهل الباطل، نسأل الله عز وجل أن يهديهم أو يرد كيدهم في نحورهم، زيادة على ذلك إهمال الآباء للأولاد، فإنهم لا يأمرونهم بالصلاة ولا يحثونهم عليها، بل يحثونهم أن يمارسوا اللعب بالكرة في شوارع المسلمين في أوقات الصلوات، ولا يهتمون لذلك، فإنهم مسئولون أمام الله يوم القيامة، فليعدوا للسؤال جواباً، والكثير من الذين يدعون الإسلام لا يعرفون المساجد إلا يوم الجمعة، فتباً لهم لتضييع باقي فروض الله -وهي الصلوات الخمس- التي فرضها الله على العباد في اليوم والليلة.(70/5)
بعض المعاصي المتفشية في الأمة
لقد فشت المعاصي عند الناس، وصارت عند الكثير بصفة مباحات.(70/6)
معصية الغناء
إن الأغاني تشاع وتذاع في البيوت والشوارع والسيارات من غير إنكار ولا خوف من العظيم الجبار الذي بيده أزمة الأمور، وإذا قيل للمتمادي بفسقه المستمع للأغاني: اتقِ الله، قال: ساعة لك، وساعة لدينك، أوحى إليه الشيطان هذه الكلمات، إنا لله وإنا إليه راجعون! والويل لمن قال على الله غير الحق، ولقد أوحى إليه الشيطان -والعياذ بالله- هذه العبارة، يا أخي! الأغاني حرام، فمن أحلها لك ساعةوحرمها عليك في الساعة الأخرى؟!
الأغاني حرام في الشريعة الإسلامية سواء كانت ساعة أو دقيقة أو برهة من الزمن، وقد حذر منها الإسلام تحذيراً بالغاً، ولكن ران على القلوب الران.(70/7)
التبرج والسفور
أمة الإسلام: إن السفور من بعض النساء قد انتشر، وما ذاك إلا لإهمال الرجال القوامين على النساء، وترك الحبل على الغارب، فإنهن يخرجن إلى الأسواق متجملات متعطرات، فاتنات مفتونات وبدون مبالاة، أين الرجال؟ أين الشيمة وأين الحشمة؟(70/8)
شرب الدخان وتعليق الصور
أمة الإسلام: لقد قل الحياء عند الكثير من أهل الإسلام، لقد قل عند الكثير من أهل الإسلام، حتى صار اقتراف المحرمات ظاهراً ويرتكبها علانية، فتراهم يشربون الدخان -أم الخبائث- الذي اتفق كثير من العلماء على تحريمه، ويباع في أسواق المسلمين، وثمنه حرام واستعماله حرام، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
كذلك ابتليت شوارع المسلمين بكثرة الصور ذوات الأرواح وعرضها في الأسواق تباع، وإدخالها في البيوت وإخراج ملائكة الرحمة من البيوت وإدخال الشياطين.(70/9)
حلق اللحية
كذلك اعتاد البعض المقلدون للغرب، المقلدون للإفرنج، المقلدون لأعداء الإسلام اعتادوا أن يعتدوا على حلق اللحية، واعتدوا على الرجولة يقتلونها، فصاروا يحلقون اللحى، وحلق اللحية حرام، شاءوا أم أبوا, رضوا أم سخطوا، ورد في ذلك أحاديث كثيرة تبين أن حلق اللحية حرام، وحلق اللحية من التشبه بالنساء، ومن التشبه بالمجوس، ومن التشبه بالإفرنج، ومن التشبه باليهود {ومن تشبه بقومٍ فهو منهم}.
ترفعوا عن ذلك يا أمة الإسلام، ابتعدوا عن المعاصي بشتى أنواعها، احذروا عقوبة الله، احذروا تغييره، فإنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا غيَّر العباد غُير عليهم {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم ترحمون، وقوموا لله مثنى وفرادى بقوة وثبات، وليأخذ بعضكم على يد بعض حتى يرجع الأمر إلى نصابه ويكون السداد والصواب؛ لتفوزوا غداً بثواب الله وتأمنوا من نقمته وعقابه.
اللهم أصلح أحوال المسلمين أجمعين، اللهم اهدنا صراطك المستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(70/10)
على من تنزل العقوبات
الحمد لله كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له على رغم من جحد به أو كفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل واحذروا عواقب الذنوب والمعاصي، فإنها تجلب النقم وتسلب النعم.
عباد الله: جاء في حديث روته عائشة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث}.
عباد الله: إذا كثر الخبث لا يحول دون عذاب الله شيء، بالرغم من وجود الصالحين والعلماء، وقد وردت أحاديث متعددة بعناوين مختلفة في معنى التواصي بالخير، والمنع عن الشر، وإلا فإن الله سبحانه سوف يغار، إذا انتهك العباد محارمه، وتعدوا الحدود، وسوف يسلط عذاباً من عنده.
عباد الله: روى حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث الله عليكم عذاباً من عنده، ثم لتدعنه ولا يستجيب لكم} أجل -يا عباد الله- كيف يشتكي المسلمون من الحوادث والنوازل التي تفاجئهم بين فينة وأخرى، وقد تغيرت أحوالهم وحياتهم رأساً على عقب، بل يجب على المسلمين أن يفكروا إذا نزلت عليهم مصيبة أو فاجعة أنها لم تنزل بهم إلا أنهم كانوا يستحقون ذلك بما كسبت أيديهم.
جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب، فيصبحون قد مسخوا قردةً وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة في بني فلان وخسف الليلة في بني فلان بدار فلان، ولترسلن عليهم حجارةً من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور، ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً على قبائل فيها وعلى دور لشربهم الخمر، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وأكلهم الربا، وقطيعة الرحم} روى هذا الحديث الإمام أحمد والبيهقي وصححه الحاكم.
عباد الله: لا شك في أن هذه هي الأمور التي تسبب الكوارث والنكبات كالزلازل والأعاصير والفيضانات والمجاعات واصطدام القطارات والسيارات والطائرات وغيرها من الحوادث التي تتجدد كل يوم، وكذلك الأمراض والمصائب التي انتشرت في كل مكان، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
عباد الله: علينا أن نرجع عما نحن فيه من التقصير، ونقلع عن الذنوب ونتوب إلى الله، فإنه يتوب على من استغفر، ويتوب على من تاب.
عباد الله: اعلموا أنكم ستوقفون بين يدي الله، ويسألكم عما استرعاكم عليه، فأعدوا للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين المهديين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، أسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقنا وإياهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم جنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه، اللهم اجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً، وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً، وارزقنا وإياهم اجتنابه.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(70/11)
الدين وعظمته
الدين الإسلامي أفضل نعمة ينعم الله بها على عباده، ولذلك وجب شكر هذه النعمة والمحافظة عليها والتمسك بها، لأن الله عز وجل لا يقبل إلا دين الإسلام، والصحابة رضوان الله عليهم هم قدوتنا في التمسك بدين الله عز وجل، ومنهم: بلال بن رباح، وعبد الله بن حذافة، وآل ياسر، وخباب بن الأرت.(71/1)
لا يقبل الله إلا دين الإسلام
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى ولا تزال تتوالى على العباد وأشكره وكلما شُكِر زاد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بالمحافظة على نعمه بشكرها، ونهى عن تعريضها للزوال بكفرها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق ويهدي لأقوم السبل، فكانت بعثته رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمة الإسلام.
أيها المسلمون: إن بين أيديكم ديناً عظيماً، اختاره الله لكم ومنَّ به عليكم، ملة أبيكم إبراهيم، دين اشتمل على كل ما اشتملت عليه أديان الأنبياء، فهو خلاصتها وخاتمتها، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] واختار لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خير رسول عرفته البشرية، فهو أفضل المرسلين وخاتم النبيين، به تمت به النعمة وانجلت به عنكم ظلمات الجهالة والشرك والظلم والعدوان، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
أمة الإسلام: لقد أوصاكم ربكم جلَّّ وعلا بالتمسك بهذا الدين، والاقتداء بهذا الرسول، قال الله جلَّ وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
أيها المسلمون: إن أمامنا طريق السعادة مفتوح، فلماذا لا نسلكه؟!
أمامنا طريق الرقي والفلاح واضح، فلماذا نعدل عنه ونتركه، ونسلك طريق التأخر والشقاء والخسران؟!
أرأيتم أن دينكم قصر في إرشادكم إلى سبيل الفلاح؟! أرأيتم أن دينكم قصر في إرشادكم إلى طريق الفلاح فعدلتم عنه؟!
هل قرأتم في تعليمه ما يصدكم عن جلائل الأعمال ومكارم الأخلاق فهجرتموه؟!
كلا.
ثم كلا.
ثم كلا.
إنه دين الله الذي يبقى طريقاً للسعادة والرقي إلى يوم يبعثون.
إن دين الإسلام ما وجد من فضيلة إلا حث على التخلق بها، وما من رذيلة إلا حذر من قبحها وبين سوء عاقبتها، فما بال أكثرنا يسيرون على غير هدى، ويقلدون الكفار فيما حرمه الإسلام ونهى عنه، قد أهمل الكثير أمر الدين.
واستهانوا بحقوقه، وعبثوا بواجباته، وتجرءوا على انتهاك حرمات الله، واستبدلوا ذلك بأخلاق الكفار وعاداتهم وتقاليدهم مع الأسف الشديد.(71/2)
نماذج من تمسك الصحابة بدينهم
أيها المسلمون: إن المسلم الحقيقي لا يرضى بدينه بدلاً مهما كلفه الأمر ومهما عرض عليه من قبيل الكفرة من المغريات، أو ناله من الأذى، نعم.
إن المسلم يبقى أمام كل فتنة صلباً في دينه، متمسكاً بعقيدته، ولنا في سلفنا مثال.(71/3)
بلال بن رباح توضع على صدره الصخرة الثقيلة
فهذا بلال، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه يشتد عليه أذى الكفار، حتى إنهم يطرحونه على الأرض في رمضاء مكة أرض ملتهبة بالحرارة ويضعون الصخرة الثقيلة على صدره؛ يريدون منه أن يترك هذا الدين، فيصمد ويثبت على دينه ويقول: [[أحد أحد]].(71/4)
خبيب يٌقَطَّع من أجل دين الله
وهذا خبيب بن الربيع يقول له مسيلمة الكذاب لعنه الله، قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا إله إلا الله، فيقول له، قل: أشهد أن مسيلمة رسول الله، ويقول: لا أسمع، لا أسمع ثم يقطعه مسيلمة عضواً عضوا، ويأبى أن يقول أن مسيلمة رسول الله حتى لقي ربه صابراً محتسباً.(71/5)
عبد الله بن حذافة لا يبغي بدين الله بديلاً
وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، يأخذه ملك النصارى أسيراً عنده، فيقول له: اتبعني وأشركك في ملكي، فيأبى ويقول: لا أبغي بدين محمد صلى الله عليه وسلم بديلاً، ثم يحمي ملك الروم النحاس بالنار ويغلي القدور لتعذيبه، وعند ذلك يبكي عبد الله بن حذافة، فيطمع ملك الروم برجوعه عن الإسلام، ويقول: تتبعني وتترك دينك؟! فيرد عليه عبد الله رضي الله عنه بقوله: [[ما بكيت خوفاً على نفسي -الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر إنها عقيدة الإسلام يا أمة الإسلام! - ولكن وددت أن يكون لي نفوس عدد شعري تعذب في سبيل الله، فتدخل الجنة بغير حساب]].
ثم يطلب منه شيئاً يسيراً، ولكنه عزيز في نفسه رضي الله عنه، يقول له: تقبل رأسي وأطلق صراحك، ويقول: -بعد التردد- نعم وتطلق صراح جميع أسرى المسلمين، قال: نعم.
فأطلق سراحه وسراح أسرى المسلمين، فلما وصل إلى عمر رضي الله عنه وأخبره بالقصة، قال: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأسك وأنا أول من يقوم]] فقام عمر رضي الله عنه فقبل رأسه.(71/6)
صبر آل ياسر على دينهم
هذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية وأهل بيته عذبوا في الله ليتركوا دين الإسلام، فصبروا على العذاب وتمسكوا بالإسلام فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهم وهم يعذبون ويقول: {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة}.(71/7)
خباب بن الأرت يوضع على النار ويصبر
وهذا خباب بن الأرت عذب في الله، وصبر على دينه، وكان من تعذيب المشركين له، أن أوقدوا له ناراً وسحبوه إليها، فما أطفأها إلى شحم ظهره لما ذاب، كل ذلك وهو صابر على دينه لا يتزحزح عنه قيد شعره.
أيها المسلمون: هذه نماذج من ثبات المسلمين على دينهم مع شدة الأذى والتعذيب، أضف إلى ذلك ما قدموه في سبيل هذا الدين حماية لهذا الدين ونشره من جهاد بالأنفس والأموال، يتساقط منهم مئات الشهداء في المعارك وهم مغتبطون بذلك، فخورون بل تركوا من أجله الديار والأموال، وهاجروا فراراً بدينهم؛ أن يخدش أو يدنس يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله.
وما ذلكم -يا أمة الإسلام- إلا لما عرفوا في هذا الدين من الخير والسعادة، فتأصل حبه في قلوبهم حتى صار أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وديارهم، حتى قال قائلهم: "إذا عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء، فقدم نفسك دون دينك".(71/8)
حال شباب الأمة اليوم
والآن -يا أمة الإسلام- الكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام ويتسمون بالإسلام، ترخُص عليهم تعاليم الإسلام، عند أدنى طمع فتراهم يستبدلون بتعاليم الإسلام تعليم الكفر والإلحاد، يرفضون أحكام الإسلام العادلة إلى القوانين الوضعية، قوانين الكفر والإلحاد، وأنظمته الهابطة السافلة.
ما بال الكثير من المسلمين يتشبهون بالكفار في زيهم؟! في لباسهم؟! في أكلهم؟! بل في أكلهم وشربهم، بل في عاداتهم، بل في حلق لحاهم وتنمية شواربهم، بل في لبس خواتم الذهب، بل في الذهاب إليهم في بلادهم ومشاركتهم في شرب الخمور، وأكل لحم الخنزير، وارتكاب الزنا واللواط، والجلوس أمام الأفلام الخليعة في مسارح الشر والعار، ثم يعود إلى بلاد المسلمين متنكراً لدينه وآدابه، يحاول أن يحول بلاده إلى قطعة من بلاد الكفار التي قدم منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! نسألك اللهم أن تعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل في جميع أقطار العالم، إنك على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما صرفت فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اجعلنا هداة مهتدين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(71/9)
واجب التمسك بدين الله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وناصر الموحدين من عباده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
عباد الله: إن دينكم دين عظيم، هو صلاح البشرية جمعاء، فلا يرخُص لديكم، تمسكوا بهديه وعضوا عليه بالنواجذ، إن دينكم يريد منكم الصدق والصبر والجلد والبذل في سبيله، وصد الهجوم المعادي له، والأخذ على أيدي السفهاء، عن العبث بتعاليمه؛ وإلا فسيرحل عنكم إلى غيركم، فتخسرون الدنيا والآخرة، وصدق الله العظيم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
فتمسكوا بدين الإسلام، دين الرحمة والبر والإنصاف والعدل والأخوة والمساواة، دين الحق والخير والسلام وصدق الله العظيم حيث يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] اللهم إنا رضينا بك رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
اللهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه، هكذا ينبغي للمؤمنين أن يقولوا إذا سمعوا داعي الله، أن يقولوا سمعنا وأطعنا، سمعنا وأطعنا، ويمتثلون أوامر الله ويطبقون شرع الله كما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
اعلموا -أيها المسلمون- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وأمركم أنتم -أيها المسلمون- أن تصلوا على رسوله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلىَّ علي صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن جميع أصحاب رسولك أجمعين، وارض اللهم عن رجال قاموا بدينك وناضلوا في سبيلك، وصدوا كل عدوان عن دين الله وعن سنة رسول الله وفازوا وسموا رجالاً فهنيئاً لهم: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] سماهم الله رجالاً؛ لأنهم قاموا بدين الله {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] فهنيئاً لهم تلك الأسماء الحميدة.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم دلنا على صراطك المستقيم، وثبتنا عليه حتى نلقاك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، الذين يفسدون في الأرض ويصدعون عن سبيلك، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اجعل بينهم العداوة والبغضاء، اللهم اجعلهم حرباً على بعضهم يا رب العالمين، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة ولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وحد صفوف المسلمين تحت راية لا إله إلا الله، اللهم وحد صفوفهم تحت راية لا إله إلا الله.
اللهم انصر دينك عاجلاً غير آجل، اللهم انصر كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في برك وبحرك يا رب العالمين.
اللهم ثبت أقدامهم وأمدهم بنصرك وعونك وقوتك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم لا تدع لنا في هذه الساعة المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عدواً إلا قطعته، ولا عدواً إلا خذلته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها بحولك وقوتك يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(71/10)
المحافظة على الأمانة
الأمانة تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، وأشفقن من حملها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله.
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن أهمية الحفاظ على الأمانة، مبيناً بأن الصلاة من أعظم الأمانات، وفصل كذلك مفهوم الأمانة في مفهوم الإسلام، وتعرض للحديث عن تربية الأبناء كأمانة تحملها الآباء، عن الشهادة وعلاقتها بالأمانة، وأن خيانة الأمانة من صفات المنافقين، بخلاف المؤمن فإن من صفاته الحفاظ عليها.(72/1)
مفهوم الأمانة في الإسلام
الحمد لله الذي أمر بأداء الأمانة في كتابه العزيز، وأشكره وأسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وبادروا بأداء الأمانات رغبةً بالثواب من الله، وخوفاً من عقاب رب العالمين، يقول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
الأمانة -يا عباد الله- أمرها عظيم, وخطرها جسيم, لذلك تأبى السماوات والأرض والجبال وتشفق من حمل الأمانة ويحملها الإنسان.
أيها المسلمون: إن الأمانة من الأخلاق الفاضلة، وهي أصلٌ من أصول الديانات، الأمانة ضرورية للمجتمع الإنساني، لا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر ومزارع وغني وفقير، فالأمانة شرف الغني، وفخر الفقير، وواجب الموظف، ورأس مال التاجر، وسببٌ لشهرة الصانع، وسر نجاح العامل والمزارع، الأمانة مفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة وندامة بإذن الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
وليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمن عند الناس من غالٍ وثمين، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي عملٌ لكل طاعة أمر الله بها ورسوله، واجتناب كل مخالفة وعصيان نهى الله عنه ورسوله.(72/2)
أركان الإسلام من أعظم الأمانات
من أهم الأمانات: الصلاة، وفي الأثر: {أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة} فالصلاة -يا عباد الله- من أعظم الأمانات التي أمرنا الله بالمحافظة عليها، وعلى أوقاتها, والقيام بحقوقها, خاشعين خاضعين لجلالته وعظمته, والمحافظة عليها هو طريق الفوز والسعادة في العاجل والآجل.
إن الصلاة الكاملة تنير القلب, وتهذب النفس, وتعلم العبد آداب العبودية لله، وتعلمه كيف يعظم الله ويقدره حق قدره.
عباد الله: إن الزكاة أمانةٌ عندكم مطلوبٌ منكم أن تؤدوها في وقتها إذا اجتمعت الشروط المطلوبة، فالزكاة تطهر المال, وتزكي النفس, وتبرأ منها الذمة, وتسلم من العقاب يوم القيامة.
عباد الله: إن الصيام أمانة، ألا فاتقوا الله في صيامكم، فإنه لا يطّلع على ذلك إلا الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الحج إلى بيت الله الحرام أمانةٌ في عنق كل مسلم إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أمة الإسلام: بقدر ما يكون الإنسان مقصراً في عبادة من هذه العبادات، فإنه يكون غير موفٍ لأمانته تماماً.(72/3)
أعضاؤك أمانة عندك
إن السمع والبصر والفؤاد واليدين والرجلين أمانات يجب حفظها عن ما يخل بالأخلاق والفضيلة, مثل: الغيبة والنميمة، والكذب، والنظر إلى المحرم، وأكل الحرام، واستماع الحرام، والمشي إلى المحرم.
الفرج أمانة، ووقوعه في الزنا واللواط خيانة ومقتٌ في الدنيا، وفي الآخرة حسرةٌ وندامة إذا نطقت الجوارح بين يدي الله عز وجل: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
عباد الله: العقل أمانة إن استعمله الإنسان فيما يعود عليه بالسعادة في الدنيا والآخرة فقد حافظ على هذه الأمانة، أما إن استعمله في المكر والخداع للمسلمين وكيدهم وإفساده بالمخدرات والمسكرات، فسوف يُسأل عن هذه الأمانة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(72/4)
رعاية الأهل من الأمانة
عباد الله: أولادكم أمانةٌ في أعناقكم، وأنتم مسئولون عنهم أمام الله، على تركهم هملاً لا ترعونهم الرعاية الكاملة، ولا تحوطونهم بالنصيحة، بل تركتم لهم الحبل على الغارب، لأن الدنيا شغلتنا حتى عن تربية أولادنا، تركنا لهم الحبل على الغارب وسلمناهم الشوارع وصاروا مثل الأغنام السائبة, لا يعرف أكثرهم المساجد، فمن شبّ على شيء في الغالب شاب عليه، وبعضهم لو سألته: كم أركان الإسلام؟ لتلعثم وكأنه لم يعرف الإسلام، أما إذا سألته عن اللاعبين والمغنين والمغنيات لأجابك عن شيء لم تعرفه أنت؛ لأننا سلمناهم الشوارع، وقلنا: ربيهم يا كرة كما ربيتي لينين وما أدراك من الشيوعيين والنصارى؟! ربيهم يا كرة، ونشئهم يا تلفاز على تمثيلياتك وأغانيك، حتى يكونوا رجال مستقبل يحاربون الفضيلة والكرامة.
ولم يقتصر البعض على هذا الاعتداء على الأمانة حتى جاء بالفيديو إلى بيته وأهله، وقال لهم بلسان الحال: هلموا لننحرف عن الطريق المستقيم ونتبع كل شيطان مريد, أخبر الله في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37] كلام الله واضح لا يحتاج إلى تفاسير, ثقافة, تربية, هذه الثقافة ثقافة الغربيين يأخذها أولادنا ونساؤنا كل ليلة عن التلفاز وما يبث فيه من التمثيليات، وما أدراك؟!
والبعض من الناس هدموا بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين يقول القائل: بأي شيء؟ أقول: باستخدام المربيات الكافرات والخدم من النصارى, وغيرهم من مختلف الأديان التي تحارب الإسلام وأهله.
ثم إن البعض سلم الأهل والبنات والأخوات للسائقين، وقال: جوبوا بهن الشوارع بدون محرم، واذهبوا بهن إلى المعارض والأسواق، فيا لها من أمور تغضب الله عز وجل! ونقول: تسلطت علينا اليهود، اليهود قتلت المسلمين, سلبت المسلمين, أين المسلمون؟! إن أكثر المسلمين اليوم يتشبهون باليهود, كيف والبعض منا يقول: إخواننا المسيحيين، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، فيا لها من أمورٍ تغضب الله عز وجل! ويا له من زمانٍ ماتت فيه الفضيلة وانتشرت فيه الرذيلة! ويا له من زمانٍ حارب أهله الأخلاق والشيمة والمروءة، وأهانوا الكرامة! وذلك بتضييع الأمانة.
ونقف أمام نقطة ولا نيئس -يا عباد الله- ولا نقنط من رحمة الله إذا تبنا وغيرنا أحوالنا وتحولنا إلى ما يرضي الله عز وجل، وقمنا بما اؤتمنا عليه لعلنا ندخل تحت الحديث، أو لعلنا ندخل في الحديث الشريف الذي أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة, لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ويقول صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {يصلحون ما أفسد الناس}.
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين، واجعلنا من الصالحين المصلحين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(72/5)
الأمانة في السنة
الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه, وأدوا الأمانات جميعها من حقوق الله عز وجل مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والكفارات، والنذور، وغير ذلك مما ائتمنكم عليه، وكذلك أداء الحقوق لعباد الله كالودائع وغيرها من الأموال وما شاكلها من الأمانات، فمن لم يؤدِ الأمانة في الدنيا، أخذت منه يوم القيامة.(72/6)
الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة
ورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {إن الشهادة -يعني: القتل في سبيل الله- تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة -وإن كان قتل في سبيل الله- فيقال: أدِّ أمانتك، أدِّ أمانتك، أدِّ أمانتك ثلاث مرات، فيقول: فأنى أؤديها -من أين يؤديها في ذلك الموقف؟ وقد ذهبت الدنيا، فتمثل له الأمانة في قعر جهنم، فيهوي إليها، فيحملها على عاتقه، ثم إذا أشرف على شفير جهنم، نزلت به حتى الهاوية، فهو يهوي على إثرها أبد الآبدين} وفي الأثر: [[والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع]].(72/7)
تضييع الأمانة خصلة من النفاق
وكذلك خيانة الأمانة خصلةٌ من النفاق، يقول صلى الله عليه وسلم: {أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا أوتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر} رواه البخاري ومسلم، وورد أيضاً في الحديث: {لا إيمان لمن لا أمانة له}.
عباد الله: الأمانة الأمانة تمر الحياة بأحدنا وهو منهمكٌ في ملذاته وشهواته، ولا يفكر في مآله، ولا بيوم الحساب، وكأنه خالدٌ في الدنيا لا يموت أبداً، أو كأن عنده يقين أنه لا يحاسب على ما جناه، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لم تصمد له الجبال الصمُّ الصلاب، لقد قست القلوب وتحجرت الضمائر وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وسبب ذلك -يا أمة الإسلام- الإعراض عن كلام الله.
فيا عباد الله: لا تتعرضوا بذلك لسخط الله، وكونوا دائماً في ذكر الآخرة، فإن ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
واعلموا أن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ عن جماعة المسلمين شذَّ في النار، واعلموا إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم.
وصلوا على رسول الله كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وارضَ اللهم عن سائر أتباع رسولك أجمعين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر من به نصرٌ للإسلام والمسلمين، واخذل من بخذلانه نصرٌ للإسلام والمسلمين، اللهم دمّر الشيوعيين واليهود والكفرة أجمعين, الذي يحاربون عبادك في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرهم بنصرك يا رب العالمين، اللهم أمدهم بقوتك التي لا تغلب يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم أقرَّ أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(72/8)
المحافظة على الصلاة
للصلاة في الإسلام مكانة رفيعة، وهي عبادة بدنية لا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائها، وقد ذكرها الله في كتابه كثيراً، بياناً لفضلها، وتوضيحاً لأجر فاعلها وعقاب تاركها، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- وجوبها وأحكامها، وكانت الصلاة هي وصيته الأخيرة لأمته.(73/1)
مكانة الصلاة في الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(73/2)
الصلاة في القرآن الكريم
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله! حافظوا على الصلوات وأدوها كما أمركم الله، وصلوا الصلاة في أوقاتها بخشوعٍ وخضوعٍ، وتذلل وحضور قلب وطمأنينة، حتى تحوزوا على الفضل العظيم، والأجر الكبير الذي نوه الله عنه في كتابه فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:162] وقال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:22 - 24] وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35] وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].(73/3)
الصلاة في السنة النبوية
نعم.
يا عباد الله! سمعتم هذا الترغيب في كتاب الله بإقامة الصلاة وسمعتم ثواب من أدى الصلاة، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً تبين فضل الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! دلني على عملٍ إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} رواه البخاري ومسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا} رواه البخاري ومسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، مالم تغش الكبائر} رواه مسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله} رواه مسلم.
وعن زهير بن عمارة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لن يلج النار أحد صلىَّ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها -يعني الفجر والعصر-} رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلىَّ الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه الله على وجهه في نار جهنم} رواه مسلم.(73/4)
حكم تارك الصلاة والمتهاون فيها
عباد الله: حافظوا على الصلوات وأدوها في أوقاتها كما أمرتم، وقوموا لله قانتين خاشعين مطيعين، واحذروا من ترك الصلاة واحذروا من التهاون فيها! واحذروا من الاستخفاف بحقها.
عباد الله! إن ترك الصلاة كفرٌ يخرج من الملة والعياذ بالله! وسوف يكون مسكنه في سقر، وسقر طبقة من طباق جهنم، أما المتهاون والمتأخر عن الصلاة لا يبالي أصلاها في وقتها أو أخرها عن وقتها فسوف يلقى غياً، والغي: واد في جهنم يقول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
وما أكثر أولئك الذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، ولكن نحذرهم -كما ذكر الله في كتابه- من ذلك الغي، وهو وادٍ في جهنم، احذروا يا من تضيعون الصلوات وتتبعون الشهوات، احذروا ذلك الوادي الذي هو في جهنم مرصدٌ ومعدٌّ لمن اتبع الشهوات وأضاع الصلاة.
وأما الذين يصلون ولكن لا يصلون الصلاة إلا بعد خروج وقتها فأولئك موعدهم ويل، وويل: وادٍ في جهنم لو صيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، أجارنا الله من ذلك!
عباد الله: حافظوا على الصلوات في جميع أوقاتها، وأقيموها وصلوها بخشوعٍ وطمأنينة، أدوها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها؛ تحوزوا الأجر العظيم، والرضا من رب العالمين وفي الحديث: {من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة أو قال: وجبت له الجنة، أو قال: حرم عليه النار}.
لما سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: {أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها} وكذلك يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: {من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف} بئس القرناء يا عباد الله، بئس الرفقاء يا عباد الله، وبئس المنزل منزلهم جهنم!
عباد الله! إن من اشتغل بأمواله وتجارته ووزارته وولده وملاذِّه عن الصلاة فإنه يكون مع هؤلاء القرناء: قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، الذين يسهرون على الملاهي، ولعب القمار والميسر والورق، وغيرها ثم إذا جاءت الصلاة ناموا عنها، ثم يقولون: نحن لم نستيقظ، فإنه محال السهر والقيام مبكراً.
يا عباد الله: محالٌ السهر والقيام مبكراً، فإن صلاة الفجر بينها وبين التلفاز صراعٌ شديد فأيهما غلب صاحبه فإنه سوف يستيقظ إن ترك السهر مع التلفاز ومع الأفلام ومع غيرها ونام مبكراً واستعان بالله فإنه سوف يقوم بإذن الله ويصلي طيب النفس نشيطاً، أما إن طاوع النفس الأمارة بالسوء، وسهر مع الأفلام ومع الأغاني ومع غيرها فإنه يعقد عليه الشيطان ثلاث عقد ويصبح خبيث النفس كسلاناً.
أمة الإسلام! أمة الإسلام! ما هذا التمادي في المعاصي، وأنتم تعلمون أنها معاصي؟ مَنْ منا لا يعلم أن ترك الصلاة كفر؟!
فالكثير في البيوت -ونسأل الله العفو والعافية- يعلمون أن تارك الصلاة كافر ولكنهم يسكتون عليه ويؤاكلونه ويشاربونه ويصادقونه ويتخذونه لهم خليلاً، وهو والعياذ بالله بكفره وإصراره على ترك الصلاة كافر، وبعض العلماء يقول: هو مرتد أكفر من اليهود والنصارى.
عباد الله: متى نستيقظ من رقدتنا؟! متى نئوب إلى ربنا؟! متى نعرف حقوق الله علينا؟! متى نحب في الله ونبغض في الله؟! ونوالي في الله إذا نزل بنا العذاب؟! ونزلت بنا سنة الأولين؟!
إن سنة الله في عباده واحدة، ما نزل العذاب والهلاك والدمار في بني إسرائيل إلا لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجالسوا العصاة وآكلوهم وشاربوهم، ثم لعنهم الله، وضرب قلوب بعضهم ببعض -نسأل الله العفو والعافية- وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كل ذلك مِنْ تَعدي الحدود وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسكوت على المنكرات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، وأوقد في قلوبنا نار الغيرة على أعدائك وعلى المحرمات، حتى نتوب إليك ونبتعد عنها ونوالي فيك ونحب فيك ونبغض فيك يا رب العالمين.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله، واستغفروا الله يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(73/5)
فضل كثرة السجود
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، وجعلها صلة بينه وبين عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي قال وقوله الحق: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} والقائل: {بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} وأصلي على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعن الصحابة الكرام الذين قاموا بدين الله حق القيام وعلى من تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! أقيموا الصلاة كما أمرتم وأدوها في بيوت الله مع الجماعة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، فاستكثروا من السجود} رواه ابن ماجة بإسناد صحيح.
وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: {كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} رواه مسلم.
فعليكم يا عباد الله بكثرة السجود والتقرب إلى الله عز وجل في طاعته.
عباد الله: في خطبة الجمعة الماضية ذكرت لكم طريقة الوضوء والغسل، وقلت لكم: إن الوضوء الواجب أن يغسل كلَّ عضو مرةً واحدة، والغسلة الثانية سنة، وقلت في الثالثة: إسراف وبدعة، وهذا خطأ مني، فإني أستغفر الله، فإن الغسلة الثالثة سنة، أما ما عدا الثالثة إذا لم يحتج العضو إليها فلا شك أنها إسراف فانتبهوا لذلك يا عباد الله.(73/6)
الصلاة هي الوصية الأخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم
أسأل الله أن يرزقنا التفقه في الدين، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
يا عباد الله! حافظوا على صلاتكم ومروا أولادكم وأهليكم بها، فإنها آخر وصية محمد صلى الله عليه وسلم في آخر نفسٍ يلفظه وهو يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم} فجديرٌ بكل مؤمن أن يحافظ على وصية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأدوا الصلاة جماعة في بيوت الله، ولا تغتروا بمن عميت بصائرهم وتحجرت أفئدتهم، واشتد الران عليها فأصبحت أنفسهم الأمارة بالسوء، تزين لهم فعلها في البيوت، كأنهم لم يسمعوا، أولم يؤمنوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنه هَمَّ بإحراق المتخلفين عن الصلاة في المساجد، ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من النساء والصبيان الذين لم تجب عليهم الصلاة}.
عباد الله: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذًّ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، ونسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من عبادك الراشدين، اللهم اجعلنا من عبادك المقيمين للصلاة المحافظين عليها حتى تتوفانا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع عنهم عافيتك ويدك، اللهم مزقهم كل ممزق يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظنا جميعاً بالإسلام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
اللهم أمنا في أوطاننا ولا تسلط علينا أعداءنا، اللهم أمِّنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
اللهم نفَّس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم نفَّس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم فك أسراهم، اللهم فك أسراهم، اللهم اشفِ مرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضى المسلمين، واقضِ الدين عن المدينين واشفِ بلطفك مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة، يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(73/7)
بر الوالدين
جعل الله للوالدين حقاً عظيماً، فقرن طاعتهما بطاعته، وذلك لكونهما سبباً في وجوده، ولما يتحمله الأبوان من المشاق والآلام لإسعاده، وحرم الله تعالى جميع الأسباب المؤدية إلى عقوقهما، ولو صغر ذلك الشيء ككلمة (أف)؛ فبر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وعقوبة العقوق معجلة في الدنيا قبل الآخرة.(74/1)
وجوب بر الوالدين
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، الحمد لله حمداً يملأ ما بين السماوات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، وامتثلوا أوامره ونفذوها على ما أراد منكم.
عباد الله: لقد جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة ما يوحي ويخبر بأن للوالدين حقوقاً على الأولاد، فلقد قرن الله شكره بشكرهما، فقال جلَّ من قائل عليماً: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، إحداها: قول المولى جلَّ وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} [المائدة:92] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لن يقبل منه.
والثانية: قول المولى جل وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فمن صلى ولم يزكِ لن يقبل منه.
والثالثة: قوله جل وعلا: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] فمن شكر الله ولم يشكر والديه لن يقبل منه]] ولذلك أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين}.
ولقد فصَّل المولى جل وعلا ما يجب من الإحسان إلى الوالدين بقوله تبارك وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
وهذا معنى واضح يبين الله جلَّ وعلا فيه؛ أنه إذا وصل الوالدان أو أحدهما إلى الكبر حال الضعف والعجز، وصارا عندك في آخر العمر، كما كنت في أول العمر عندهما طفلاً صغيراً، وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما، وتلطف بهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم.
والمطلوب منك -أيها المسلم- إن كنت تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وإن كنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن كنت مؤمناً حقاً؛ أن تطيع الوالدين، ولا تأفف من شيء تراه، أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، واصبر على ذلك، واحتسب الأجر من الله تعالى، كما صبرا عليك في حال صغرك.
واحذر الضجر والملل منهما! ولا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به، وقل لهما قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم، مثل: يا أبتاه! يا والدي! يا أماه! يا والدتي! ولا تدعهما بأسمائهما، ولا تمش أمامهما، بل احترمهما ووقرهما ولا ترفع عليهما الصوت.(74/2)
فضل بر الوالدين
واسمع سنة المصطفى ورسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وهي تحث على بر الوالدين وتؤكد ذلك، فقد {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذنه بالجهاد في سبيل الله معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد، ففيهما فجاهد، ففيهما فجاهد} رواه البخاري ومسلم.
فانظروا -يا أمة الإسلام- كيف فضل نبيكم صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، فيا له من حق عظيم للوالدين على الأولاد!
ومما ورد في الحث على برهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد في سبيل الله، ولا أقدر عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحدٌ؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمر ومجاهد}.
وقال طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال: الزم رجليها فَثمَّ الجنة}.
وتأخر رجلٌ من السلف على أصحابه، فقالوا: لماذا تأخرت عنا؟ قال: كنت أتمرغ في روضات الجنة، قالوا: أين؟ قال: تحت أقدام أمي.
وبر الأم مقدم على بر الأب، وقد جاء رجلٌ إلى رسول الهدى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
رأى ابن عمر رجلاً يطوف بأمه على منكبيه، فقال: يـ ابن عمر! هل ترى أني أديت حق أمي؟! قال: ولا زفرة من زفرات الولادة.
الله أكبر! ثلاثة حقوق للأم؛ لأنها تنفرد عن الأب بأشياء منها: مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاعة، وكثرة الشفقة والخدمة والحنو، فقد حملتك في بطنها تسعة أشهر، كأنها تسع حجج، وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثدييها لبناً، وأطارت لأجلك عن عينيها لذيذ المنام، وغسلت بيديها عنك القاذورات والأذى، وآثرتك على نفسها بالغذاء، وصيرت حجرها لك سريراً مريحاً، فلو رأيتها إذا أصابتك شكاية أو مرض، وهي تظهر من الأسف فوق النهاية، وأطالت الأحزان والنحيب، وبذلت ما في وسعها من الراحة، الله أكبر! {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].(74/3)
خطر العقوق
ثم إن البعض من الذين لا يعرفون المعروف، ولا يقدرون للوالدين الحقوق جعلوا حقوق الوالدين من أهون الحقوق، وعقوا آباءهم وعصوهم وأذاقوهم أليم الهوان والمعاكسة والمعاندة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو علم الله شيئاً أدنى من الأُفَّ لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار} وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله العاقَّ لوالديه}.
أتدري يا أخي ما هي اللعنة؟! هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من سب أباه، لعن الله من سب أمه} وقال صلى الله عليه وسلم: {كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه} أي: يعجل له العقوبة قبل يوم القيامة.
أمة الإسلام: لقد ورد في روايات كثيرة تبين شناعة عقوق الوالدين وعظم حقهما، فإليكم هذه القصة التي أوردها الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر، حيث قال: إن زوجة علقمة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره أن زوجها في النزع، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عماراً وصهيباً وبلالاً، وقال: امضوا إليه ولقنوه الشهادة.
فمضوا إليه ودخلوا عليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله، ولسانه لا ينطق بلا إله إلا الله، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه أن لسانه لا ينطق بلا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل من أبويه أحدٌ حي؟ قيل: يا رسول الله! أمه كبيرة السن، فأرسل إليها صلى الله عليه وسلم، وقال للمرسل إليها: قل لها إن قدرت على المسير إلي وإلا فقري في المنزل حتى يأتيك.
قال: فجاء إليها الرسول وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نفسي لنفسه فداء، أنا أحق بإتيانه، فتوكأت على عصا وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: يا أم علقمة! اصدقيني، وإن كذبتيني جاء الوحي من الله، كيف كان حال ولدك علقمة؟ قالت: يا رسول الله! كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما حالك؟! قالت: أنا عليه ساخطة، قال: ولم؟ قالت: كان يؤثر علي زوجته ويعصيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة، ثم قال: يا بلال! انطلق واجمع لي حطباً كثيراً، قالت: يا رسول الله! وما تصنع؟ قال: أحرقه بالنار بين يديك، قالت: يا رسول الله! والله لا يتحمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي.
قال: يا أم علقمة! عذاب الله أشدُّ وأبقى، فإن سَرك أن يغفر الله له فارضي عنه، فوالذي نفسي بيده! لا ينتفع علقمة بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته ما دمتِ عليه ساخطة، فقالت: يا رسول الله! إني أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين؛ أني قد رضيت عن ولدي علقمة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا بلال إليه وانظر هل يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله أم لا؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياءً مني، فانطلق فسمع علقمة من داخل الدار يقول: لا إله إلا الله، فدخل بلال، فقال: يا هؤلاء! إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة، وإن رضاها أطلق لسانه بلا إله إلا الله.
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بحق الوالدين كما أمركم الله، وليعلم كل إنسان أنهما -أي: الوالدان- جنته وناره، فأطيعوا الله والرسول وبروا بالوالدين، وأطيعوهما إلا إذا أمرا بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
اللهم وفقنا لجميع أعمال البر، ووفقنا لطاعتك ورضاك يا رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجب طاعة الوالدين، وحرم عصيانهما وقهرهما، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أخبرنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتدبروا ما جاء في الكتاب والسنة المطهرة، وتمسكوا بهما؛ فإن الإعراض عنهما يوحي بوخامة العاقبة.
عباد الله: لقد ظهرت في هذا الزمن موجة قوية من العنف والسخط من بعض الأولاد والبنات لآبائهم وأمهاتهم، حتى إن بعض الشباب يَعدُ أباه خادماً عنده، وحتى إن بعض الفتيات تعد أمها من الخادمات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وعدم الاحترام والتوقير للوالدين من كبائر الذنوب التي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.
عباد الله: إن بر الوالدين فريضة لازمة وواجب محتم، وعقوق الوالدين حرام، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته، وبين ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما، فقال تعالى -وهذا إعادة للآية امتثالاً لأمر الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
عباد الله: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، واعلموا أن سخط الله في سخط الوالدين، وأن رضاه لا يكون إلا إذا رضي عنكم آباؤكم، ولا شيء يزيد في العمر ويبارك في الرزق مثل بر الوالدين وصلة الأرحام، وقد ورد في الحديث: {ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث} والديوث: الذي يقر الخبث في أهله.
فالشاهد من هذا الحديث أن العاق لا يدخل الجنة، ومن عقَّ والداه عقه أولاده، وكما تدين تدان، ولا يجازى فاعل الشر إلا بمثل فعله: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] فربُّ العالمين يوصيك بالبر بالوالدين وبالإحسان إليهما وإن كانا مشركين: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} [لقمان:15] وإن كانا مشركين وكافرين، إلا أنك لا تتبعهما على دينهما، إنما برهما وأطعهما بالمعروف، وعاملهما بالمعروف، المعاملة الحسنة، كما فعل ذلك الصحابة الكرام مع آبائهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وعليك يا أخي! ببر والديك، وإن رأيت منهما بعض ما تكره من المعاصي والذنوب إلا إنك لا تطعهما في المعصية؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض الله عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء!
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم لك الحمد، أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.(74/4)
المحافظة على أرواح الناس
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الأنفس، وتجنيبها العطب والتلف.
وإن من إلقاء النفس للتهلكة وتعريضها للعطب ما يفعله كثير من الشباب من قيادة السيارة بالسرعة التي يفقد السائق بسببها االتحكم فيها مما يؤدي إلى الموت له ولغيره من الناس.(75/1)
حفظ النفوس من مقاصد الشريعة
الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صلِّ وسلم على رسولك وعبدك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم إلى يوم القيامة، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله رب العالمين، اتقوا أرحم الراحمين، وأطيعوه واشكروه على نعمه الكثيرة التي لا تحصون لها عدداً، ومنها نعمة وسائل النقل بأنواعها كالسيارات وما شاكلها، فإنها نعمة لمن استعملها في مرافق حياته المباحة.
عباد الله: لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحقن الدماء والمحافظة عليها، قال الله جلَّ وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يجأ بها بطنه يوم القيامة، في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً}.
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قتل نفسه بشيء، عذب به يوم القيامة}.
روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كان رجلٌ ممن كان قبلكم، وكان به جرح، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة}.
ففي هذه الآية السابقة، والأحاديث الصحيحة تهديد شديد، ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن يلقي السمع وهو شهيد.(75/2)
انتشار الحوادث المرورية
عباد الله: لقد قرر بعض العلماء رحمهم الله أن سائق السيارة إذا كان لا يعرف القيادة، وقاد السيارة بدون معرفة، ثم حصل له حادثٌ ثم مات، فقد عرض نفسه للإتلاف، ولأنه لم يأخذ بالأسباب الواقية، وهي معرفة القيادة، إذاً فهو داخل تحت الوعيد الشديد، الذي مر آنفاً في الأحاديث الصحيحة، والآية الكريمة.
وقرر أيضاً بعض العلماء رحمهم الله أن السائق إذا تعدى السرعة التي تمكنه من التصرف بالسيارة، ووقع الحادث ومات، فهو داخل تحت الوعيد الشديد؛ لأن من فعل الأسباب الرفق، وعدم السرعة التي تهدد حياته وحياة البشر جميعاً، فكم نرى، وكم نسمع بالحوادث، وكل ذلك سببه السرعة وعدم معرفة القيادة، وناهيك بعدم معرفة القيادة انتشاراً، فهذا رجل يدخل شوارع المسلمين العامة، ويقول له رجل المرور: ارجع إلى الخلف، فيقول: لا أعرف أرجع! إنه هدَّد نفسه وهدَّد البشرية جميعاً بقتلهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ألا فليحذر الذين قست قلوبهم وصارت الأرواح عندهم لا قيمة لها! ألا فليحذر الذين عرَّضوا أنفسهم وأهليهم وأولادهم للهلاك! فليحذروا من هذا الوعيد الشديد في الآية: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30].
أمة الإسلام: إننا نرى الحوادث كل يوم، ولم نر القلوب تتعظ وترعوي، فكم نرى الجثث تحت السيارات! وكم نرى الجثث تخرج بواسطة الأكسجين! وكم نرى اللحم قد اختلط بالحديد! ومع ذلك فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا نفس تتعظ وتنتهي عن غيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(75/3)
النهي عن إيذاء المؤمنين
عباد الله: لقد نهى الله عز وجل عن إيذاء المؤمنين، ومن ذلك إيذاؤهم في شوارعهم العامة والخاصة، وهو ما يفعله بعض السفهاء من عملية التفحيط وإحداث الأصوات المزعجة التي تؤدي إلى القلق، ولا ننسى ما يقوم به رجال المرور والنجدة والدوريات من قمع هؤلاء السفهاء ومطاردتهم وسجنهم، وما أجمل ذلك النظام! وما أحسنه لولا الواسطة الخارقة للنظام!
ما أجمل النظام من الرجال المسئولين عن ذلك، لولا الواسطة الخارقة للنظام، فإن المخالف يسجن بالليل ويخرج بالنهار، وهذا الذي جعلهم يتمادون في سفههم وإيذائهم لعباد الله نسأل الله تعالى لهم الهداية والصلاح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(75/4)
الوصية بالتوبة
الحمد لله الذي فتح باب التوبة للمذنبين، وكتب الرحمة لعباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، هو الحق المبين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين وقائد الغر الميامين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: استجيبوا لنداء الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8].
عباد الله: إن الله يدعوكم إلى التوبة النصوح، وقد فتح باب الرحمة والتوبة للمؤمنين على مصراعيه، وجعله أوسع الأبواب ليعلموا أن لهم رباً عظيماً، يتضاءل بالتوبة أمام رحمته وعفوه كل ذنب.
عباد الله: إن التوبة النصوح الصحيحة التي يكفر الله بها السيئات ويدخل بها الجنات هي الإقلاع عن الذنوب جميعها، الصغائر منها والكبار، والندم على ما مضى منها، والعزم على ألا يفعلها في المستقبل، ورد المظالم، والتحلل من أهلها قبل يوم القيامة.
عباد الله: توبوا إلى ربكم وأسلموا له واعملوا صالحاً؛ ينجيكم من عذابه يوم القارعة، يوم الطامة، يوم الزلزلة، يوم الحسرة والندامة، ولا تكونوا غافلين عن الموت وسكراته وأهواله، فهنيئاً لمن تيقظ وتاب وأناب، وعمل عملاً صالحاً، وتباً لمن غفل وأسرف على نفسه، وسوَّف بتوبته، ووافته المنية على إصراره، وعلى إيذاء عباد الله، وإزعاجهم بملاحقة النساء، والتفحيط في شوارعهم العامة والخاصة، فيا لها من فتنة عمياء! ويا له من تقليد أحمق! فلو رأيتم شاباً لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره وقد اختلط لحمه بحديد السيارة من جراء التفحيط لرأيتم عجباً، ولا أدري من يلقى عليه اللوم، هل عليه وهو في سن المراهقة، أو على ولي أمره الذي ترك له الحبل على الغارب؛ فلا نامت أعين الأشقياء.
عباد الله: متى نأخذ على أيدي السفهاء؟! ومتى نأطرهم على الحق أطراً، ونقصرهم عليه، ونعلم أنهم أمانة في أعناقنا، ونحن مسئولون عنهم أمام الله يوم القيامة؟!
عباد الله: لينظر كل مِنَّا منقلبه ما دام في زمن الإمهال، وليتفكر في منتهاه، ما دام الأمر ممكناً قبل: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
عباد الله: إن على الإنسان أن يعمل سراً وجهراً في طاعة المولى جل وعلا، ويذكر ربه وما أحاطه به من النعم، وما له عليه من حقوق، ويذكر ضعفه وقوته وما في يوم القيامة من أهوال، وماذا عمل استعداداً لذلك اليوم العظيم المروع؟ فسيستحضر تقصيره ويتذكر تفريطه، وهو يدري ما يفعل به.(75/5)
المعاصي تمحق البركة
فيا أخي المسلم: إن المعاصي تمحق بركة العمر والرزق، وتمحق بركة العلم والطاعة والتوبة واجبةٌ في كل وقت، امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهيا إلى التوبة يا عباد الله، فالحياة مرَّة، وإذا انتهت، فلا كرة ولا رجوع.
هيا إلى التوبة من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خِلال، فقد يفصل في الأمر، وتغلق الأبواب، والمسوِّف بالتوبة بين خطرين عظيمين: إما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً، فلا يقبل المحو، وإما أن يعاجله المرض أو الموت فجأة، فلا يجد مهلة لتدارك ما فات.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام رب العالمين، وخير الهدي هدي سيد الأولين والآخرين، محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة في النار، وكل ضلالةٍ، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عن جماعة المسلمين شذ في النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] يقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم وانصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم دمِّر أعداءك أعداء الدين، الذين يصدون عن سبيلك، ويفسدون في الأرض، ويعادون أولياءك، اللهم دمرهم تدميراً ومزقهم كل ممزق، وأدر عليهم دائرة السوء يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين! اللهم اجعلنا وإياهم هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق ومغاربها، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا واللواط، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(75/6)
المساجد لا الملاعب
إن رسالة المسجد عظيمة، فهو مدرسة الإيمان، وفيه تكمن حياة القلوب، وهو قاعة التسبيح والتهليل والذكر، وله أهميته الكبرى في بناء الأمة.
والمساجد تضيء الأرض كما تضيء النجوم السماء، وهي منارات للسالكين، وهداية للطائعين، ومقصد للعارفين، وموئل للذاكرين، منها ينطلق التوحيد، ويتخرج الدعاة، وتقاد الأمة وتساس الأرض.
والمساجد منذ فجر الإسلام وعلى مدار عصور التاريخ الإسلامي معاهد علم، ومجامع أخوة، وساحة إعداد للجهاد، لذلك فقد أشاد الإسلام بفضل عمارتها والتأدب بآدابها.(76/1)
رسالة المسجد وعظمها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: {من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ وأطيعوه.
عباد الله: يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] نعم يا عباد الله! إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، وهم رجال مدحهم الله جل وعلا، رجال لا تشغلهم عن طاعة الله الشواغل، رجال {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] وما أدراكم ما ذلك اليوم يا عباد الله! هو يوم القيامة، يوم الحشر والنشور.
وإن أمام الناس حشرٌ وموقفٌ ويومٌ طويلٌ ألفُ عامٍ وأطولُ
فيا لك من يوم على كل مبطلٍ فظيع وأهوال القيامة تعضلُ
تكون به الأطواد كالعهن أو تكن كثيباً مهيلاً أهيلاً يتهلهلُ
يوم القيامة يومٌ {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] فما ظنكم عباد الله بذلك اليوم؟!
عباد الله: ذلك اليوم بضائعه الأعمال، وشهوده الجلود والألسنة والأوصال، وسجنه النار، وحاكمه الجبار.
إن ذلك اليوم يوم عظيم، لقد خافه أولئك الذين مدحهم الله بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].(76/2)
فضل عمارة المساجد
أمة الإسلام: لقد أشاد الإسلام بفضل عمارة المساجد، وما تعود به زيارتها على نفوس المؤمنين من أثرٍ فعال، فقد ورد في الأثر أنه مكتوب في التوراة: إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحق على المزور إكرام الزائر.
أمة الإسلام: لقد أضاف الله تعالى هذه الزيارة إلى نفسه الكريمة إضافة تشريف وتكريم، ولا غرابة أيها المسلمون! فرسالة المسجد من أعظم رسالات؛ إذ هي الموضحة لأحوال الناس.
وفي زيارة المسلمين للمساجد في اليوم والليلة خمس مرات، يتضح في الظاهر المؤمن من المنافق، وقد ذم الله المنافقين، وأخبر أنهم يخادعون الله وهو خادعهم، وأنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، مع ذلك فإن ذكر الله شاق عليهم، فألسنتهم قد وافقت قلوبهم بما فيها من النفاق، ولذلك توعدهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار.
ما أكثر المنافقين في هذا الزمان! الذين لم يتكاسلوا عن الصلاة فحسب، بل تركوا الصلاة بالكلية، ويزعمون أنهم مسلمون، ويدَّعون الإسلام بالهوية والتابعية، فتباً لهم، وتباً لما ادعوه من الكفر والنفاق.
تارك الصلاة كافر رضي أم سخط، شاء أم أبى.
فالحذر يا عباد الله من ترك الصلاة! والحذر يا عباد الله من مجاورة تارك الصلاة! فإنه فد ورد في الأثر: [[أن تارك الصلاة تنزل عليه كل يوم سبعون لعنة]].
والحذر الحذر من التكاسل عن الصلاة يا عباد الله! فإن الأمر عظيم في أعناقكم يا أمة الإسلام!
ومع الأسف الشديد أن المساجد في الفجر لا يوجد فيها من يبلغ من الخامسة عشر إلا القليل، فأين تلك القطاعات؟ وأين تلك الفئات التي تخرج للمدارس والأعمال؟ أين هم؟
هل هم مختفون تحت الأرض، لا يخرجهم إلا شعاع الشمس؟
أم أنه التهاون بأمر الله عزَّ وجلَّ وتعظيم أمر المخلوق والخوف من المخلوق؟! فهذا هو الواقع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأم والأب، والساعة الثالثة، والساعة الرابعة، وساعة الحائط، كل هؤلاء يتعاونون على الولد إذا جاء وقت الدراسة والعمل، أما وقت الصلاة فإن كان الأب فيه ريح إيمان وأراد أن يوقظه، قالت الأم: اتركه، فإنه كان متعباً من المذاكرة، الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا أمة الإسلام! هل هذا من تأدية حقوق الله؟!
إن المسلمين اليوم في خطر شديد، نكررها ونعيدها، لعلها تصادف قلوباً حية، تخاف من سطوة الله ومن نقمته، فتستيقظ وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
عباد الله: الحذر من التكاسل عن الصلاة، فإن ذلك من عادة المنافقين.
والبِدار البِدار إلى تقوية الصلة بينكم وبين الخالق جل وعلا، البِِدار إلى أداء الصلوات في بيوت الله، في خشوع وتذلل للخالق جل وعلا، مستشعرين عظمة الله، متجردين من مشاغل الحياة حال الوقوف بين يدي الله، خلِصّوا أنفسكم من أسر الدنيا، وملذاتها، وفرغوا قلوبكم وأسماعكم لتدبر كلام الله عزَّ وجلَّ، الذي لو أنزله الله على صم الجبال لرأيتموها خاشعة تتصدع من خشية الله، فيالله كم من قلوب طالما سيطر عليها مرض الشهوة، واستفحل بها داء الشبهة، فلما سمعت كلام الله ووقع فيها؛ انفتح أمامها طريق الحق والصواب، فصارت تبصر بنور الله جل جلاله.
هذا الفضيل بن عياض: كان لصاً يسرق، فلما تسلق بيت أحد المسلمين ليسرق منه، وإذا هو يتلو قولََ الله جل وعلا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] قال: نعم.
آن لها الآن، آن لها الآن، وكف عن سرقته وتاب إلى الله، وصار عالماً من علماء المسلمين.
ومالك بن دينار: نام نومة وهو سكران، ورأى في المنام أمراً عجيباً، وآخر لما سمع قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فاستيقظ وهو يرددها، فتاب إلى الله، وصار عالماً من علماء المسلمين.(76/3)
أهمية المسجد في الحياة الروحية
عباد الله: باب التوبة مفتوح، وفضل الله واسع يا عباد الله.
أجَل يا أمة الإسلام.
المساجد هي مدرسة الإيمان، وحياة القلوب، ومسكن النفس، وقاعة التسبيح والتهليل والذكر.
المساجد مزار الملائكة، منها تصعد الأعمال، وفيها تنزل الرحمات، فطوبى لعُمَّار بيوت الله، وطوبى لمن تعبد فيها لله، وطوبى لمن أَلِفَها، وطوبى لمن تعلق قلبه بها، فإن من تعلق قلبه بالمساجد فإن موعده أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
هي المساجد يا عباد الله: مدراس لتهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق, وصقل العقائد وإنارتها، المساجد مدارس لتلاوة آيات الله البينات، ولتلاوة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(76/4)
المساجد خرجت الرجال
المساجد هي التي خرجت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحاب رسول الله الذين فتحوا الفتوحات، ومصّروا الأمصار، وجاهدوا في الله حق جهاده، فتحوا القلوب والبلاد، لم يفتحوها بالماجستير ولا بالدكتوراه، ولكن فتحوها بتعلم العلم النافع، على يد المربي الكامل محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن لما تُرِكَت هذه السنة، وهُجِرَت المساجد، وصار البعض يعتبرها لأداء الفريضة فقط، حتى إن بعض أئمة المساجد، وبعض المؤذنين يقف على رأي المصلين، إن كان في حر شديد يطفئ عليهم المراوح والمكيفات، ليخرجهم من بيوت الله، يظن جهلاً منه أنها لم تُبْنَ إلا للصلاة.
ولما اندرست هذه السنة ماذا أعقبنا يا عباد الله؟ لما كان السلف الصالح يقضون أوقاتهم في مدارسة العلم في بيوت الله، صاروا في عزة وسعادة ورخاء وطمأنينة بال، أما نحن لما تركنا المساجد واستبدلناها بآلات اللهو، صرنا والعياذ بالله في انحدار وانحطاط، فالأولاد ليلهم ونهارهم مع الكرة في شوارع المسلمين وكأنهم لا مسئولية عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان البعض من الصحابة في الخامسة عشر يحمل لواء الجهاد، يجاهد في سبيل الله مشتاقاً إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وشبابنا الآن يشتاق إلى الكرة، وإلى تشجيع فلان وفلان، ونسي الله ورسوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويذكر لي بعض الإخوة الثقات: أن بعض المشاهدين للتلفاز لما قال المذيع: لنقف هذه الفترة لنقل أذان العشاء من الكعبة، قال: لعنة الله على الكعبة، وعلى الأذان.
الله أكبر يا عباد الله!
هذه دسيسة صهيون وأعوانه!
هذه التي يريدها منا الصهاينة؛ لتنحل عقائدنا وأخلاقنا، ونرمي ديننا وراءنا ظِهرياً.
ما أبشعها من كلمة! يقولها بكل وقاحة: لعنة الله على الكعبة، وعلى الأذان.
الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا أمة الإسلام! إلى أي حد أصابنا هذا الجهل؟! والله لم يقلها أبو جهل، ولم يقلها أبو لهب، ما قال يوماً من الأيام لعنة الله على مكة ولا على الأذان، الله أكبر يا عباد الله!
كل ذلك بسبب الدسائس الخبيثة التي أدخلوها على الأبناء وهم صغار، يقال في الأثر: "ما بكم إذا لبستكم فتنة يهرم عليها الكبير ويربو عليها الصغير".
إي والله إنها فتنة كبيرة.
يقول لي بعض المتحدثين: إن شاباً دخل على أمه، فلما رأى عليها ثوباً يخالف النادي الذي هو يشجعه عَمِد إلى ثوبها فمزقه بيديه، الله أكبر! إلى هذا الأمر وصلت أحوال المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أتدرون من أي شيء ذلك؟
لما ترك المسلمون المساجد وهجروا المساجد، ولم يعرف البعض المساجد إلا لأداء الصلاة، ألم يعرفوا أن المساجد هي التي تخرِّج الرجال؛ خرَّجتهم أبطالاً، خرَّجتهم شجعاناً، خرَّجتهم قادة، خرَّجتهم دعاة، خرَّجتهم أئمة، خرَّجتهم قضاة إلى غير ذلك من مصالح المساجد التي تعطلت ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون: الرجوع إلى دين الله، الرجوع إلى العقيدة، الرجوع إلى الأخلاق، ما دمتم في زمن الإمهال قبل أن تتحولوا من دينكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه -ماذا يعملان به؟ - يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه} حتى يعْرب عنه لسانُه.
فالحذر يا عباد الله! الحذر يا أمة الإسلام! فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن {آخر الزمان تكون فتن كقطع الليل المظلم، يمسي المؤمن كافراً ويصبح مؤمناً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالنجاة النجاة ووالله لا تحصل النجاة إلا بالرجوع إلى الله، والتمسك بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(76/5)
المحافظة على الصلاة في المسجد
أيها المسلمون: حافظوا على صلواتكم، فإنه لا غنى لكم عنها، فهي تنير القلوب، وتغرس في القلوب مراقبة الله.
إن الصلاة تزكية لمن يخشى، وتذكرة لمن ينسى.
إن الصلاة تكفر الذنب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
الصلاة نور وبرهان، ونجاة لمن أداها كما أمره الله، وكما صلاها على ضوء إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وصدق الله حيث قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18].(76/6)
من آداب المسجد
أمة الإسلام: التزموا الآداب الشرعية التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عند الخروج من البيت إلى المسجد، وعند دخول المسجد، وحال المكث في المسجد، وحال الصلاة وأنتم واقفون أمام الله، وفي بيت من بيوت الله، فمن الآداب المتعلقة بالمساجد:
أن تصان عن كل وسخ، وقذر، وقذاة، ومخاط، وبصاق، ورائحة كريهة من أكل بصل أو ثوم أو كراث، أو دخان، أو غيره، فقد نهاكم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا} إهانة له.
وروى البخاري ومسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنَّ مساجدنا -هذا من رواية مسلم لماذا؟ - لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم} صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا عباد الله! والله يا له من أذى، وما أقبحها وأكرهها من رائحة، ولكن مع الأسف الشديد تجد الكثير لا يأكلون طعامهم إلا بتلك البقول، ومع ذلك لا يبالون بأذية إخوانهم المسلمين، وبأذية الملائكة الكرام.
أمة الإسلام: ينبغي للمسلم الحقيقي الذي جاء إلى بيت من بيوت الله عزَّ وجلَّ برغبة صادقة، أن يعلم لمن أتى، ولمن يريد أن يقف بين يديه، إنه أتى إلى ربه زائراً، ويقف بين يديه، وسوف يكشف الحجاب الذي بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ، فسوف يناجيه بكلامه المجيد، ويبدي إليه أسراره وحوائجه التي لا يقدر على قضائها إلا هو جل وعلا.
فينبغي للمؤمن أن يأتي إلى المسجد بأحسن هيئة، وأطيب ريح، امتثالاً لأمر الله جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: عند كل صلاة.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(76/7)
أهمية المسجد في الحياة الاجتماعية
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلِّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
يا أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واعرفوا ما للمساجد من المكانة، وعظموها في أنفسكم، فهي بيوت الله في الأرض، بيوتٌ تضيء الأرض كما تضيء النجوم للسماء منارات للسالكين، وهداية للطائعين، ومقصدٌ للعارفين، وموئلٌ للذاكرين، تنطلق من مناراتها دعوات التوحيد، وتكبيرات الإجلال لله رب العالمين.
تهيب بكل مسلم: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فسرعان ما تهوى إليها القلوب المؤمنة بالله، المصدقة لوعده، وسرعان ما تخطو إليها الخطى، ولها بكل خطوة صدقة، ووعدٌ آخر، خطوة ترفع بها درجة، وخطوة تحط بها خطيئة.
إنها المساجد يتوافد عليها المسلمون زرافات ووحدانا، في طهارة ثوب وبدن، وخشوع قلب، واستكانة لله رب العالمين، ما أحسن تلك الأحوال لو تحققت يا عباد الله! ما أحسن تلك الأحوال لو تحققت في زماننا وطبقناها على أنفسنا وفي مجتمعنا، فتلتقي شتات القلوب على توحيد الواحد الأحد، فتتآخى في وَحْدَةٍِ، لا ينال منها اختلافُ الأجناسِ، ولا تَبَايُنِ الألسُنِ والألوانِ، ولا تتميز إلا بالتقوى، هكذا كان المسجد منذ فجر الإسلام، وعلى مدار عصور التاريخ الإسلامي، معاهد علم، ومجامع أخوَّة، فهو أول قدسية في الإسلام، وهو أول مدرسة في الإسلام درَّس فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وتخرَّج على يديه رجال نشروا الدعوة في الآفاق، وفتحوا الفتوحات، ومصَّروا الأمصار، وعلَّموا العالَم ما لم يعلموا من علم الله جل وعلا، أخرجوا العالَم من براثن الجهل إلى نور العلم، ومن عباة الأوثان والأصنام إلى عبادة رب العالمين.
عباد الله: إن للمسجد دور فعال، حيث شرع الله جل وعلا اجتماع المسلمين فيها للجمعة والجماعة، يلتقون فيها على علم نافع، ووعظ زاجر، يحثهم على الإقبال إلى الله والدار الآخرة، ويحذرهم مغبة الغفلة والنسيان؛ ولكن مع الأسف الشديد، لقد تعطلت أكثر المساجد من المصلين، والذي يصلون يظنون أن المساجد للصلاة فقط، فلا يفرغون لأنفسهم من أوقاتهم ساعات قليلة يتفقهون فيها بدين الله عزَّ وجلَّ، ويتعلمون أحكام دينهم، والبعض من الناس إذا كان في المسجد حديث، وخاصة العشاء، تأخر ليشرب الشاي، ويلهو ويسهو حتى تُقام الصلاة، وينقضي وقت الحديث، ويُشغل نفسه بأشياء تافهة، حتى يفوِّت على نفسه خيراً كثيراً.
فهذه أحوال الكثيرين اليوم من المسلمين, فلا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم اهدنا ووفقنا وأرشدنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا هُداة مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين.
اللهم ارزقنا الحب فيك، والبغض فيك، واجعلنا اللهم نحب فيك، ونبغض لك، يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، ورد دور مساجدنا كما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منارات للعلم والذكر والخير الكثير.
اللهم صلِّ على نبينا محمد، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأنعم بهم من رجال، وبقية الصحابة أجمعين، رضي الله عنهم، ورضي عمن تبعهم من السلف الصالح، ومن العلماء العاملين، الذين عملوا بعلمهم.
أيها العلماء: إن عليكم مسئولية عظيمة هي تبليغ ما في كتاب الله، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول الهدى وقد رسم ذلك لكم في وصية له، فقال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} ماذا تردون عن هذا الجواب يوم القيامة؟ إذا رأيتم الناس يُسألون عن غيهم وجهلهم، وهم يتخبطون في جهلهم، والعلماء الآن حازوا على الشهادات وجعلوها في البراويز، وجعلوها مناظر في المجالس، والله إنهم مسئولون عن علمهم، كم نرى في المساجد أن يأتينا عالم من علماء المسلمين يزورنا ويلقي إلينا كلمات؟ لم نرَ أحداً إلا إنساناً مجتهداً من الجهال مثلي ومن أمثالي، يقفون أمام الناس يتخبطون خَبْطَ عشواءٍ، أما العلماء الذين أخذوا الشهادات وبروزوها في البراويز، فإنهم رقدوا عليها وناموا، وسوف يسألهم الله عزَّ وجلَّ عن ذلك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم وفق ولاة المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم وأعنهم على الأخذ على أيدي السفهاء حتى يأطروهم على الحق أطراً، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، يا رب العالمين، ووحد صفوفهم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد والعناد.
آمين يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/8)
الموكب الكريم
رواد هذا الموكب الكريم يحملون كلمة الله، وهذه الكلمة هي رسالة الخالق إلى المخلوق، ولقد أرسلهم الله في أزمنة متفاوتة، وجعلهم في بقاعٍ شتى، يمضون لغاية واحدة هي الأغلى والأسمى في هذا الوجود.
وفي هذا الدرس خمسة أمثلة لهذه الصفوة وهم: نوح، هود، صالح، شعيب، لوط.(77/1)
أوَّل الرسل نوح عليه السلام
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا ربكم الذي اختاركم من بين الأمم، واحمدوه على أن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، واشكروه على نعمة الإسلام والإيمان.
أمة الإسلام! لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشريعة سمحاء سهلة، فيها الخير والصلاح، والسعادة والفلاح لمن تمسك بهذه الشريعة, وقام بها حق قيام.
عباد الله! لقد أخبرنا ربنا جل وعلا في محكم البيان ما حصل للأمم مع الأنبياء والمرسلين الذين أرسلوا إليهم، ففي سورة هود أخبر الله سبحانه وتعالى عن نوح مع قومه عليه السلام، وأخبر عن هود مع قومه عليه السلام، وأخبر عن صالح مع قومه عليه السلام، وأخبر عن لوط مع قومه عليه السلام، وأخبر عن شعيب مع قومه عليه السلام.
فنوح عليه السلام هو أول رسول بعثه الله سبحانه وتعالى إلى أهل الأرض، وقد أمره ربه جل وعلا أن ينذر قومه ويحذرهم عذاب الله، فعاش فيهم طويلاً، وكان أطول الأنبياء عمراً، وأكثرهم جهاداً، فقد تحمل من الأذى ما لم يتحمل أحدٌ من الرسل، فدعى قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وقام فيهم تسعمائة وخمسين عاماً يذكرهم ويعظهم، ويدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنه لم يلقَ من قومه إلا كل تكذيب واضطهاد وصدود وإعراض.
فقد كانت قلوبهم أشد من الحجارة، وعقولهم أصلب من الحديد، ومع طول المدة التي أقامها بينهم لم يؤمن برسالته إلا القليل، كما أخبر الله جل وعلا: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
بعث الله نوحاً عليه السلام إلى قوم قد أشركوا بالله، وعبدوا الأوثان والأصنام واتخذوا آلهة من دون الله, اعتقدوا أنها تضر وتنفع من دون الله عز وجل، فأرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام ليحذرهم فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:1 - 3].(77/2)
ظهور الأصنام وعبادتها
أيها المسلمون! لقد كان الناس قبل قوم نوح على دين الفطرة يعبدون الله لا يشركون به شيئاًَ، ولا يعرفون أوثاناً أو أصناماً، وكانوا مؤمنين مقرين بوحدانية الله جل وعلا، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [[كان بين نوح وآدم عليهما السلام عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين]] قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [[كان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها, ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمن جعلوا أجساداً على تلك الصور, فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين: وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً]].
أيها المسلمون! احذروا من اقتناء الصور فإنها تطرد الملائكة عن البيوت، وتوجب لعنة الله عز وجل، واسمعوا إلى ما حصل لقوم نوح من اقتناء الصور: فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين؛ وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، فلما تفاقم الأمر وفشا الشرك فيهم, بعث الله نوحاً عليه السلام، يأمرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.(77/3)
ردة الفعل من قوم نوح عليه السلام
ومع هذا التذكير والنصح والإرشاد فقد تمادى قوم نوح في الكفر والضلال والعناد مع طول المدة التي مكثها فيهم نوح عليه السلام لم تلن قلوبهم، قال الله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:5 - 20].
ماذا ردوا عليه؟ أبوا أن يطيعوه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} [نوح:5 - 6] أخيراً دعا عليهم نوح عليه السلام، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].
عند ذلك أمر الله نوحاً عليه السلام أن يصنع السفينة قال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37] ولما انتهى نوح من صنع السفينة؛ أمره الله أن يحمل فيها الذين آمنوا معه، ومن الحيوانات من كلٍّ زوجين اثنين، وجعل الله له علامة إذا ظهرت فذلك وقت ركوب السفينة، قال الله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41].
تصوروا -يا عباد الله- تلك السفينة والأمواج قد ظهرت على رءوس الجبال {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42].
ماذا قال الابن العاق؟ قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:43 - 44] تلكم تذكرة لكم يا أمة محمد.(77/4)
هود وصالح عليهما السلام والعبرة من قصصهما(77/5)
قوم هود ورحلة الكبر من الترف إلى الريح العقيم
هذا هود عليه السلام أرسله الله إلى قبيلة عظيمة من العمالقة تدعى قبيلة عاد، كانوا أشداء أقوياء قد زادهم الله بسطة في الجسم، وكانوا مترفين في الحياة، يبنون القصور الفخمة الشامخة، وعندهم البساتين النضرة، والعيون الجارية -وليست مثل حدائقنا التي يختلط فيها الرجال والنساء الآن، وتقضى فيها الليالي الفضلى ليلة الجمعة وليلة الخميس، هؤلاء قوم عاد عندهم البساتين النضرة والعيون الجارية- فاغتروا بضخامة أجسامهم وقوتهم، فاستكبروا على الله وعتوا عن أمر رسله, وتمادوا في طغيانهم, لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، فأهلكم الله بالريح العاتية، كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15 - 16].
لما طغت عادٌ وتمردت على نبي الله هود عليه السلام، ولم ينفعها التذكير ولا الإنذار وتمادت في طريق العصيان؛ حبس الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى اشتد عليهم الجهد والبلاء، فاستغاثوا، فأرسل الله عليهم سحاباً كثيباً من السماء، فلما رأوا السحاب فرحوا واستبشروا وظنوا أنه مطر غزير، وأن الله استجاب دعاءهم حين استغاثوا, فلما أظلتهم السحابة رأوها سوداء قاتمة، ففزعوا ثم هبت عليهم الريح وكانت ريحاً عقيماً سلطها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فأهلكهم الله وأبادهم، وصارت أجسامهم كأنها أعجاز نخل خاوية، ونجى الله عز وجل هوداً عليه السلام والذين معه، وكان الذين هلكوا من قوم عاد قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق من أنفسهم ولا من ديارهم شبح ولا رسم؛ لأن الريح قد دمرت كل شيء فلم تبقِ عليهم ولم تذر، قال الله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:41].
تذكر يا عبد الله وهي تحمل الرجل ثم تضعه على أم رأسه، تصور هذا العذاب من الله عز وجل، ولكن هل نفكر؟ إنما نقول أعاصير ورياح وبراكين وزلازل ولا نفكر أنها غضب من الله {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42] هذا لكم تذكار يا أمة محمد.(77/6)
أذى ثمود للنبي صالح عليه السلام وللناقة
وهذا نبي الله صالح عليه السلام أرسله الله إلى قبيلة مشهورة يقال لها ثمود، وكانوا عرباً من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مرّ به رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، فلما نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها وطبخوا، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، أمرهم أن يريقوا القدور -أي: يكبوا القدور- وأن يعلفوا العجين الإبل، وارتحل بهم صلى الله عليه وسلم حتى نزل عند البئر التي تشرب منها الناقة، وقال لهم صلى الله عليه وسلم -اسمعوا يا من تأخذون آلة التصوير! اسمعوا يا من تأكلون وتشربون عند ديار المعذبين! ولا تبكون ولا تعتبرون- يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام: {لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم} مع الأسف الشديد ما يفعله البعض من الناس من الضحك والمزاح واتخاذ الصور التذكارية فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون! كانت قبيلة ثمود تدين بعبادة الأوثان، وتكفر بالله الواحد الديان، فبعث الله إليهم صالحاً عليه السلام، يذكرهم بنعم الله ويهديهم طريق الفوز والسعادة، وأنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم عاد، وأمرهم بالتقوى، ونهاهم عن عبادة الأصنام، فظلوا متمادين في غيهم، عاكفين على عبادتهم الباطلة، وكانوا أهل خصب ونعيم، لما لهم من الخيرات الوافرة, والجنات الزاهرة, والعيون الجارية، وقد ذكرهم الله بهذه النعم فآمن منهم نفر قليل، وأكثرهم كذبوا وكفروا برسالة الله التي جاء بها صالح عليه السلام، وعتوا في طغيانهم عتواً كبيراً، وطلبوا من صالح معجزة تشهد بصدقه، فجاءهم بمعجزة الناقة، وقد كانت آية عظيمة دالة على صدق صالح عليه السلام، وقد حذرهم صالح من التعرض للناقة بسوء، وأنذرهم عذاب الله إن هم أقدموا على قتلها، ولكن النفوس العاتية التي لا تسمع موعظة ولا تقبل نصيحة، والتي قد أعماها حب التمرد والطغيان، وأصم آذانها عن قبول دعوة الله، قد أبت إلا الإجرام.
فأقدموا على عقر الناقة بغياً وعتواً، وكان أول من سطا على الناقة الشقي اللعين قدار بن سالف، فعقرها فسقطت على الأرض فابتدرها الرجال بأسيافهم يقطعونها، وكانوا تسعة كما أخبر الله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] وقد هموا بقتل نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم بعد قتل الناقة، لا سيما بعد أن أنذرهم بعذاب الله، وتوعدهم به بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة، قال الله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] فأرسل الله على ذلك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة من السماء رضختهم ودمرتهم قبل قومهم.
قال ابن كثير رحمه الله: "وأصبحت ثمود في اليوم الأول من موعد حلول العذاب، وقد اصفرت وجوههم، ثم أصبحوا في اليوم الثاني وقد احمرت وجوههم، ثم أصبحوا في اليوم الثالث وقد اسودت وجوههم كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما انتهت الأيام الثلاثة ومع شروق الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس، وسكنت الجوارح والحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثاً هامدة لا أرواح فيها ولا حراك {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:14 - 15] وأما صالح عليه السلام والذين آمنوا معه، فقد نجوا مما لحق بقومهم من العذاب.(77/7)
شعيب عليه السلام في أهل مدين
يا أمة الإسلام! هذه تذكرة لكم يا عباد الله! يا أمة الإسلام! كل هذا في كتاب الله عز وجل تذكرة لكم.
وهذا شعيب عليه السلام أرسله الله إلى أهل مدين، وكانوا أهل تجارة وزراعة، وكانوا أصحاب رفاهية ونعيم، وقد كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ولكنه لم يطل بهم العهد حتى غيروا وبدلوا وكفروا بالله, وانحرفوا عن الصراط المستقيم، قد فشت فيهم منكرات عديدة، منها التطفيف في المكاييل والموازين، فكانوا يبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد بعث الله إليهم شعيباً عليه السلام، فدعاهم إلى توحيد الله وذكرهم بعذاب الله، ونهاهم عن تطفيف المكيال والميزان، وأمرهم بالإصلاح وعدم الإفساد فآمن به قليل منهم وكذبه الأكثرون.
وقد كان هؤلاء المكذبون على غاية من الضلال والجحود، يقعدون على الطريق يصدون الناس الذين يأتون إلى شعيب عن الدين، ويمنعونهم من الإيمان به، ويتوعدونهم بأنواع التهديدات والوعيد، ولما ألح عليهم شعيب عليه السلام في الدعوة والموعظة جاهروه بالعداء، وادعوا أنهم لا يفقهون كلامه، ولا يعرفون غرضه، وتوعدوه بأنه لولا أن له أنصاراً لقتلوه، ثم هددوه وتوعدوه بالإخراج والطرد من القرية هو والذين آمنوا معه، إلا أن يعودوا في ملتهم ويدخلوا في دين قومهم، قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88] وقال الله أيضا عن قوم شعيب: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90].
إنهم أمة عتاة حمقى، ولقد كان من شدة حماقتهم أن يطلبوا من شعيب أن يسقط عليهم كسفاً من السماء إن كان من الصادقين في دعوته، فأخذهم عذاب يوم الظلة، بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام، حتى غلت مياههم من شد الحر، ثم ساق إليهم غمامة فاجتمعوا تحتها للاستظلال فراراً من شدة الحر، فلما تكامل عددهم في ظلها تزلزلت بهم الأرض وجاءتهم الصيحة وأمطرت عليهم السماء ناراً تلظى فاحترقوا.
تلك سنة الله في خلقه، فاتقوا الله وأطيعوه، واحذروا من غضب الله وعقابه, ومن شدة نقمته, بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(77/8)
لوط عليه السلام في القرية الخبيثة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل، في هذه الخطبة الثانية نتحدث عن قوم أرسل الله إليهم رسولاً يدعوهم إلى الله عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها ولم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم يعهدونه، ولا يألفونه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله، فأرسل الله إليهم لوطاً عليه السلام، قال الله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81].
كانوا يرتكبون ذنب اللواط، الذنب الذي كان يغضب رب العباد، إنها الفاحشة التي يضيق بها الفضاء وتأج لها السماء، ويحل بها البلاء، فكشف حال، وسوء مآل، وداء عضال، وقبح فعال، وعيب دونه سائر العيوب، جريمة اللواط عيبٌ تموت به الفضيلة، وتحيا به الرذيلة، اللواط عملٌ مسبوب، ووضع مقلوب، اللواط فاعله ملعون، اللواط خلق فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وعاقبته زهري وجرب وألوان، إنها الجريمة الشنعاء البشعة القبيحة، إنه ركوب الذكران بعضهم على البعض.
اللهم وإن في هذه الفاحشة الشنعاء من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، فعال أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها، وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية حيال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك، إنها أمة ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة، والجريمة الفضيعة، علناً في نواديهم، ويذرون ما خلق الله من أزواج، ولا يبالون بمن يعتب ويشنع عليهم، وقد بالغ لوط عليه السلام بدعوتهم إلى توحيد الله عز وجل، وحذرهم من فعل الفاحشة وهي إتيان الرجال من دون النساء، وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكان الجواب من أولئك العصاة الكفرة على تلك النصيحة، أن قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
يقولون هذا ومقصودهم السخرية، والتهكم بلوط عليه السلام، فلما أنذرهم بأس الله ونقمته لم يلتفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكوا فيها وتماروا به.(77/9)
الملائكة في بيت لوط عليه السلام
وقد أرسل الله عز وجل إلى لوط عليه السلام ملائكة بصفة حسنة؛ جبريل وميكائيل وإسرافيل في صور شباب مرد حسان، محنة من الله واختباراً لقوم لوط، فأضافهم لوط عليه السلام وهو خائف عليهم من قومه، ولكن زوجته السوء العجوز الشريرة بعثت إلى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، يريدون أولئك الشباب المرد الحسان، وأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب وذلك عشية، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه، ويقول لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71] أي: نساؤهم {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] يريدون فاحشة اللواط، فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول، خرج عليهم جبريل عليه السلام، فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم، يقال: أنها غارت من وجوههم، ويقال: أنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان، ويتوعدون لوطاً عليه السلام إلى الصباح، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37].
ولقد جاءت الملائكة لوطاً عليه السلام، تأمره بالخروج من بين أظهر أولئك؛ لأن العذاب قد حان نزوله بهم، قال الله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر:65] صدر الأمر العظيم من إله الأولين والآخرين: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66].(77/10)
عقاب الله لقوم لوط عليه السلام
خرج لوط عليه السلام ومن معه آخر الليل فنجا مما أصاب قومه، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، ولا امرأته، بل أصابها ما أصابهم، وخرج لوط عليه السلام وبنات له من بين أظهرهم سالماً لم يمسسه سوء، قال الله تعالى عن قوم لوط: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:73 - 74].
تذكر الله يا عبد الله! تصور ذلك العذاب! تصور تلك القرى وجبريل عليه السلام يرفعها بجناحه ثم يقلبها عليهم: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:74 - 77].
نعم يخبر الله جل وعلا أنهم أخذتهم الصيحة، وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وهو طلوعها وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، أمر الله جبريل -وهو ملك من ملائكة الرحمن له ستمائة جناح- أمر الله جبريل عليه السلام فاقتلع ديارهم بجناح واحد من أصولها, ورفعها إلى السماء الدنيا، حتى سمع الملائكة نباح الكلاب وصياح الديكة، فقلبها عليهم ثم اتبعهم الله بحجارة من سجيل منضود، فتلكم قرية سدوم الذي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتة خبيثة، في طريق مهيع مسلكه مستمر إلى اليوم، وهو المعروف بـ البحر الميت، الذي لا يعيش فيه شيء.(77/11)
الحكمة من إيراد أخبار قوم لوط
أيها المسلمون! إن البعض من المسلمين فتن بهذه الجريمة وهي جريمة اللواط، سواءً من الكبار أو الصغار، الجريمة التي تشمئز لها النفوس، وتضيق بها الأرض ذرعاً، وتأج السماء من فعلها.
عباد الله! أيها المسلمون! أتدرون لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنه والله لنعتبر بما أصابهم ونحذر كل الحذر مما كانوا عليه من سوء الحال وقبح الفعال، والله يقول وهو أصدق القائلين: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] فسبحان الله يا عباد الله!
كيف يقع ذكر على ذكر وهو يعلم أن الله حرم ذلك؟! وهو يعلم أن الله يراه ولم يغب عن بصره طرفة عين! ويعلم ما في ذلك من مخالفة العقل والدين! وما فيه من خطر ومرض وشر مستطير، وخزي وعار!! هذا في الحقيقة فعل تترفع عنه طباع الكلاب والبغال والحمير والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إلا ذلت، وأخزيت وسلب عزها.
وإذا أراد الله جل وعلا إهلاك قرية فسق فيها المترفون, فاستحقت الخراب والدمار، فانتبهوا أيها المسلمون! وتناصحوا، واحفظوا أولادكم، واعلموا أنكم مسئولون عن أولادكم أمام الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
أيها المسلمون! صلوا على الناصح الأمين رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضِ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى القرآن والسنة يا رب العالمين، اللهم ردنا لنأخذ بسيرة سلفنا الصالح يا رب العالمين، اللهم وفقنا للاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أيقظنا من رقداتنا، الله اشفِ مرض قلوبنا، اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا، وأصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ونعوذ بك اللهم من جميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام راقدين، اللهم لا تشمت بنا ولا تطمع بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم اجمعنا جميعاً في جنات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا رب العالمين.(77/12)
الوقاية من النار
نار جهنم أحد المصيرين اللذين لا ثالث لهما يوم القيامة، ولهذا وجب علينا أن نهرب بأنفسنا من النار، وهناك أسباب وأمور تجعل الإنسان يقي نفسه وأهله من نار جهنم، ومن الأسباب التي ذكرها الشيخ في هذه الخطبة: الإخلاص في جميع الأعمال، وخشية الله عز وجل.
موضحاً أن من أهم الأسباب -أيضاً- عدم غش الأبناء والأهل بإدخال آلات اللهو إلى البيت.(78/1)
أمور تقي الإنسان من النار
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، الذي فيه البشارة والنذارة، وفيه الترغيب والترهيب وفيه الأمر والنهي، الأمر بما فيه السعادة والفلاح, والنهي عن ما فيه الشر والشقاوة، نحمده ونشكره الذي لم يتركنا هملاً ولم يخلقنا عبثاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقو الله عز وجل وأطيعوه.
أمة الإسلام: لقد ناداكم القرآن بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أمة الإسلام: لقد أمرنا ربنا بهذا الأمر وهو: أن نحفظ الأنفس والأهل من الوقوع في النار التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسله، إنها نار جهنم التي يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ثم أولئك الملائكة الذين هم في شدة الغلظة والقسوة على من عصى الله، في الأثر: [[أنهم إذا سحبوا العاصي إلى النار يقول لهم: ألا ترحموني؟ فيقولون له: إذا لم يرحمك أرحم الراحمين فلن نرحمك]] أو كما ورد في الأثر.
عباد الله: لنفكر ما هو الشيء الذي نفعله ونقوم به حتى ننجو من النار؟ ما هو الشيء الذي نقوم به لله حتى ينجينا من هذه النار؟ إنه خشية الله تعالى، خشية الله في السر والعلانية، وما هي خشية الله؟
هي التي تبعث العبد للعمل بما أمره الله ويجتنب ما عنه نهى الله عز وجل، ويأمر الأولاد والأهل بذلك، فإذ فعل ذلك وامتثل فقد صار من الذين قال الله فيهم في محكم البيان: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] فإذا حصل على هذا الأجر العظيم فقد حصلت له الوقاية من النار, وزحزح نفسه وأهله عنها, وفتح لنفسه ولأهله طريق الجنة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ومن الوقاية من النار -يا عباد الله-: الإيمان الخالص بالله عز جل، إيماناً لا يخالطه شرك ولا يخالطه شك، إيمان يدفع إلى القيام بحقوق الله عز وجل.
ومن أعظم هذه الحقوق إقامة الصلوات الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها مع جماعة المسلمين في بيوت الله عز وجل، وتعلّم أحكامها وتعليم الأهل والأولاد لأحكامها وأمرهم بإقامة الصلاة في أوقاتها وحثهم عليها, والصبر على ذلك امتثالاً لأمر الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ومن الوقاية من النار: إعطاء الزكاة لمستحقيها الذين ذكرهم الله في محكم البيان.
ومن الوقاية من النار: أداء ما فرض الله على عباده من الصيام والحج والجهاد في سبيله.
ومن الوقاية من النار: الصدق في الأقوال وأداء الأمانة.
ومن الوقاية من النار: النصيحة وعدم الغش والبعد عن الخيانة، ومن الغش والخيانة: إدخال آلات اللهو على الأهل والأولاد من أفلام وأغانٍ وفيديو وسينما وتلفاز ومجلات وغيرها من أدوات الإلحاد والشر التي غزي بها المسلمون، وكذلك صور ذوات الأرواح التي طردت الملائكة عن بيوت المسلمين وأحلت مكانها السخط واللغو وكثرة الشتمات، كل من أدخل هذه في بيته فهو غاش لنفسه ولأهله ولأولاده، وسوف يوقف بين يدي الله عز وجل ويحاسبه على ذلك حساباً دقيقاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أمة الإسلام: إن من الوقاية من النار: البعد عن جريمتي الزنا واللواط، والبعد عن شرب المسكرات بأنواعها، والبعد عن الشحناء والكذب والنفاق والخيانة، والبعد عن أكل أموال الناس بالباطل، والبعد عن أكل الربا، والبعد عن التعدي والظلم، والبعد عن اللعب بالقمار والميسر، والبعد عن جميع الموبقات التي تسبب للأمة الخزي والعار, والتأخر والاضمحلال، وتسبب زوال النعم، ثم هي بعد ذلك تهوي بمن ارتكبها في النار التي وقودها الناس والحجارة.
فالنجاة النجاة يا أمة الإسلام!! انتبهوا من هذا الرقاد وبادروا بالأعمال، بادروا بالأعمال الصالحات فإن الأعمار سريعة الانصرام، والأيام والليالي تمر بكم مر السحاب، وإذا تأملتم هذه الدنيا وفكرتم بها رأيتموها كالسراب، وصدق القائل في وصفها:
إذا امتحن الدنيا اللبيبُ تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
أعوام سريعة المرور، وشهور تتبعها شهور, وعبر بين ذلك ترى بالأبصار، ولكن أين أعين الاعتبار؟! {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] لقد غرت الدنيا قبلنا أقواماً وخدعتهم ورأيتم كيف تقلبت بأهلها الأحوال, وخدعتهم الآمال حتى وافتهم الآجال قبل أن يحصلوا على ما تمنوه من صالح الأعمال، فحاسبوا أنفسكم على ما كسبت من الذنوب والمعاصي الثقال، لقد جنينا على أنفسنا بالذنوب جناية عظيمة فلينوا قلوبكم بذكر هادم اللذات لعلها تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنهما لحق اليقين، وذكروها: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران:30] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].
اللهم أيقظنا من سِنة الغفلة, ووفقنا لاغتنام أوقات المهلة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(78/2)
الحث على التقوى والرجوع إلى الله
الحمد لله رب العالمين، أحمده وبه أستعين، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشرية جمعاء، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وارجعوا إلى الله عز وجل، ارجعوا إليه بالتمسك بكتابه العزيز واتباع سنة نبيكم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، واسمعوا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فأقلعوا -يا عباد الله- عن جميع المعاصي، واستقلوا عن استعمار الشيطان، لقد استعمركم الشيطان بالمعاصي, فاستقلوا وأقلعوا -يا عباد الله- بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل, حتى لا يصيبنا ما أصاب مجاورينا من زوال النعم وحلول النقم واستبدال الأمن بالخوف, فإن المعاصي تزيل النعم وتجلب الويلات وغضب الله عز وجل.
أمة الإسلام: إن الله إذا رضي بارك وإذا غضب سخط، وإذا سخط لعن، ولعنة الله تبلغ السابع من الولد، وأنتم -لله الحمد والثناء- تتقلبون بنعم الله عز وجل ولكن خذوا حذركم فإن أعداء الإسلام أصحاب المبادئ الهدامة والعقائد الفاسدة يبذلون جهدهم ليردوكم عن الصراط المستقيم وعن الوصول إلى ما يقرب من رب العالمين، فاحذروهم كل الحذر.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
واعلموا أن الله عز وجل أمركم أن تصلوا على رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم خذ بنواصينا إلى كل خير، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا يا رب العالمين، اللهم واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمّر اليهود والنصارى المبشرين والشيوعيين ومن عاونهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار ولا تولِّ عليهم الأشرار الذين يسومونهم سوء العذاب.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(78/3)
إلى الباحثين عن السعادة
يا من يريد السعادة في الدنيا والآخرة عليك بتقوى الله عز وجل فهي الطريق الوحيد للوصول إلى السعادة، والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ولا يكون ذلك إلا بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه من المنكرات والمعاصي.(79/1)
السعادة هي في تقوى الله عز وجل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
عباد الله: يا من تريدون السعادة في الدنيا والآخرة! يا من تبحثون عن العزة والشرف والرفعة في الدنيا والآخرة! يا من تبحثون عن راحة القلوب وسرورها! يا من تبحثون عن علاج الهموم والغموم! يا من تبحثون عن تفريج الكروب وكشف الخطوب ودفع الملمات! عليكم بتقوى الله جل وعلا, فكم نسمع: عليكم بتقوى الله.
عليكم بتقوى الله لا تتركونها فإن التقى أقوى وأولى وأعدل
لباس التقى خير الملابس كلها وأبهى لباساً في الوجود وأجمل
فما أحسن التقوى وأهدى سبيلها بها ينفع الإنسان ما كان يعمل
فيا أيها الإنسان بادر إلى التقى وسارع إلى الخيرات ما دمت تمهل
وأكثر من التقوى لتحمد غبها بدار الجزا دار بها سوف تنزل
وقدم لما تقدم عليه فإنما غداً سوف تجزى بالذي كنت تفعل
وأحسن ولا تهمل إذا كنت قادراً فأنت عن الدنيا قريباً سترحل(79/2)
جزاء المتقين
التقوى -يا عباد الله- تحمل العبد على أن يحفظ الرأس وما فيه من السمع والبصر واللسان, أخذاً بقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فلا يسمع إلا إلى الحلال, ولا يطلق بصره إلا إلى ما يحل له, ولا يطلق لسانه إلا فيما ينفع في الدنيا والآخرة.
التقوى تحمل من التزمها أن يحفظ الفرج عما حرم الله عليه من الزنا واللواط, التقوى تحمل من التزمها على أكل الحلال وشرب الحلال ولبس الحلال, التقوى عامل أساسي للمبادرة إلى أداء الواجبات الربانية والقيام بأوامر الله على الوجه المطلوب, التقي بار بوالديه, واصل لأرحامه, محسن إلى الفقراء والمساكين, يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويفشي السلام, ويعود المرضى, ويقوم بحق الجوار, ويؤدي الأمانة, ويفي بوعده, ويؤدي الشهادة على القريب والبعيد والصديق والعدو, ويتحرى العدل في جميع معاملاته, ثم يبين لنا هذا الناصح جزاء المتقين على تقواهم فيقول:
وجنات عدن زخرفت ثم أزلفت لقوم على التقوى دواماً تبتلوا
بها كل ما تهوى النفوس وتشتهي وقرة عين ليس عنها ترحلُ
ملابسهم فيها حرير وسندس وإستبرق لا يعتريه التحللُ
ومأكولهم من كل ما يشتهونه ومن سلسبيل شربهم يتسلسلُ
وأزواجهم حور حسان كواعب على مثل شكل الشمس بل هي أشكلُ
يطاف عليهم بالذي يشتهونه إذا أكلوا نوعاً بآخر بدلوا
فواكهها تدنوا إلى من يريدها وسكانها مهما تمنوه يحصلُ
وأنهارها الألبان تجري وأعسل تناولها عند الإرادة يثملُ
بها كل أنواع الفواكه كلها وخمر وماء سلسبيل معسلُ
يقال لهم طبتم سلمتم من الأذى سلام عليكم بالسلامة فادخلوا
عباد الله: بأي شيء نالوا هذه الكرامات؟! اسمعوا ماذا يقول هذا الناصح:
بأسباب تقوى الله والعمل الذي يحب إلى جنات عدن توصلُ(79/3)
الشقاوة هي في معصية الله
إذا عرفنا فائدة التقوى وما فيها من الخير العاجل والآجل في الدنيا والآخرة, فإن ضد ذلك الشقاوة ومن أسبابها عدم الخوف من الله جل وعلا, فإن الله يورث الأشقياء ضنكاً في الدنيا, فلا طمأنينة لقلوبهم, ولا انشراح لصدورهم, بل هي ضيقة حرجاً لبعدهم عن الله عز جل, والله ثم والله إن فيها من الذل والهوان والضيق ما الله به عليم, وإن تنعم ظاهرها, ولبسوا ما شاءوا وأكلوا وشربوا ما شاءوا, وسكنوا حيث شاءوا, وصدق الله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] أهل الشقاوة قلوبهم قلقة؛ لأنها لم يخلص إليها اليقين والهدى, فهي في حيرة وشك, وظلمات تتخبط بها, لماذا؟
لإعراضهم عن اتباع الهدى، واستعمال ما وهبهم الله من الحواس فيما يغضب الله جل وعلا, فلا حفظوا القلوب والأسماع ولا الأبصار, بل أطلقوها فيما حرم الله عليهم, فلذلك ذمهم الله بقوله وتوعدهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
يا له من وعيد في نار جهنم, ويا له من ذم ما أقبحه, ثم اسمعوا بما وصفهم الله به فقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فكم تتلى عليهم آيات الله؟ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] اسمعوا ماذا يقولون وهم في نار جهنم يعذبون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] فيا طول عنائهم! ويا طول مكثهم! ويا لكثرة همهم وغمهم! ويا لكثرة بكائهم وصراخهم وهم ينادون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيجيبهم الله أحكم الحاكمين: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] عند ذلك يزداد بكاؤهم.
فيا عباد الله: تذكروا أهل النار وهم يسحبون في أوديتها, في توابيت من نار, وتذكروا عندما يساقون إليها زمراً قد اسودت وجوههم, وتذكروا عندما تقابلهم الزبانية بالتهديد.
ونار تلظى في لظاها سلاسل يغل بها الفاجر ثم يسلسل
شراب ذوي الإجرام فيها حميمها وزقومها مطعومهم حين يؤكل
حميم وغساق وآخر مثله من المهل يغلي في البطون ويشعل
يزيد هواناً من هواها ولم يزل إلى قعرها يهوي دواماً وينزل
وفي ناره يبقى دواماً معذباً يصيح ثبوراً ويحه يتولول
عليها صراط مدحض ومزلة عليه البرايا في القيامة تحمل
وفيه كلاليب تعلق بالورى فهذا نجا منها وهذا مخردل
فلا مذنب يفديه ما يفتدي به وإن يعتذر يوماً فلا العذر يقبل
فهذا جزاء المجرمين على الردى وهذا الذي يوم القيامة يحصل
فيا ويل من أعرض عن كتاب الله, ويا ويل من غفل عن ذكر الله, ويا ويل من أضاع الصلاة, يا ويل من منع الزكاة, ويا ويل من ارتكب الجرائم والموبقات, ويا ويل من ارتكب الزنا واللواط, ويا ويل من أكل الربا, ويا ويل من غش عباد الله, ويا ويل من أكل الرشوة, ويا ويل من بات وهو مدمن على شرب المسكرات والمخدرات, ويا ويل من قضى وقته في الغيبة والنميمة, ويا خسارة من قضى وقته مع الأفلام والتمثيليات والأغاني الماجنات, إذا استلم الصحيفة -يوم لا ينفع مال ولا بنون- وقد سجلت عليه تلك الخطايا والسيئات, يا لها من فضيحة لا يماثلها فضيحة! ويا لها من خسارة لا يماثلها خسارة! في ذلك اليوم العظيم, يوم العرض الأكبر على الله يوم القيامة: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ:18 - 19] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يا لك من يوم عظيم على من أضاع أوامر الله, وهنيئاًَ ثم هنيئاً لمن أطاع الله, إذا قال وهو يرفع تلك الشهادة: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24] اللهم اجعلنا ممن يؤتى كتابه باليمين, واجعلنا ممن يرد حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, اللهم واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(79/4)
التأهب ليوم القيامة
الحمد لله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة, وتركها على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: تأهبوا ليوم القيامة, هل نسيتم يوم القيامة وما فيها؟
ما هي هذه الغفلة؟ ما هذا الإعراض؟
أين التناصح في الله؟ أين الأمر بالمعروف؟ أين النهي عن المنكر؟
أما علمتم أن أمامكم يوم القيامة وسوف تحاسبون فيه على تفريطكم وتندمون على إهمالكم؟ فاسمعوا يا عباد الله:
وإن أمام الناس حشر وموقف ويوم طويل ألف عام وأطول
فيا لك من يوم على كل مبطل فظيع وأهوال القيامة تعضل
تكون به الأطواد كالعهن أو تكن كثيباً مهيلاً أهيلاً يتهلهل
به ملة الإسلام تقبل وحدها ولا غيرها من أي دين فيبطل
به يُسألون الناس ماذا عبدتم وماذا أجبتم من دعا وهو مرسل
حساب الذي ينقاد عرض مخفف ومن ليس منقاداً حساب مثقل
ومن قبل ذاك الموت يأتيك بغتة وهيهات لا تدري متى الموت ينزل
كئوس المنايا سوف يشربها الورى على الرغم شبان وشيب وأكهل
حنانيك بادرها بخير فإنما على الآلة الحدبا سريعاً ستحمل
إذا كنت قد أيقنت بالموت والفنا وبالبأس عما بعده كيف تغفل
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى أبن يوم الجزا كيف تفعل
أترضى بأن تأتي القيامة مفلساً على ظهرك الأوزار بالحشر تحمل
أيصلح إيمان المعاد لمنصف وينسى مقام الحشر من كان يعقل
والله لا ينسى ذلك أحد -يا عباد الله- واسمعوا إلى قول رب العزة والجلال وهو يحذركم من الغفلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ما قدمت لغد يا عبد الله؟ ما قدمت ليوم القيامة؟ أتدري ما هو غد يا عبد الله؟ هو يوم القيامة, يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم اسمع إلى الإنذار, اسمع إلى رب العزة والجلال ينذرك ألا تكون مثل الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
ثم استمع -يا عبد الله- إلى الفرق: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20] ميز بعقلك يا مسكين هل يستوون؟! لا.
ورب العزة والجلال لا يستوون: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه يقول: {الكيّس من دان نفسه, وعمل لما بعد الموت, والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني}.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى الدين.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة, اللهم أيقظنا من غفلاتنا, اللهم وفقنا لاغتنام أوقات المهلة قبل أن يهجم علينا هادم اللذات, وننقل إلى تلك الحفر, فلا ينفع والله في تلك الحفر إلا ما قدمت يا بن آدم, إن خيراً فخير, وإن شراً فشراً, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين, واجعلنا هداة مهتدين, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم وفقنا وإياهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إنك على كل شيء قدير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال والإكرام, ارفع عنا الغلاء, والوباء, والربا, والزنا, واللواط, والسفور والتبرج, والتمثيليات, والأفلام والأغاني الماجنات, اللهم طهّر بيوتنا وبلادنا من هذه الفتن يا رب العالمين.
اللهم أحيينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين, غير خزايا ولا مفتونين, واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(79/5)
إن تنصروا الله ينصركم
لقد تسلط أعداء الإسلام علينا لما رأوا ما تعيشه أمة الإسلام من اختلاف ونزاع وبعد عن منهج الله، ففرقوا هذه الأمة فكرياً وعقدياً وأخلاقياً، ولكن متى ما صدقت هذه الأمة مع الله تعالى في الجهاد في سبيله وكان قتالها لتكون كلمة الله هي العليا، وحكمت الشريعة، وقامت بأمر الله، وآمنت بالله وباليوم الآخر، وعملت صالحاً، واتبعت سلفها الصالح؛ فستكون العاقبة لها بالحياة السعيدة وبنصر الله لها.(80/1)
أسباب ضعف المسلمين وعلاجه(80/2)
استغلال أعداء الإسلام لاختلاف المسلمين
الحمد لله رب العالمين, الذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى, يسّر من شاء من عباده إلى طاعته فأسعده ونصره وأيده, وطرد من أشقاه فخذله ووكله إلى نفسه, فصار ذليلاً مخذولاً حيراناً, نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أحمده سبحانه حمداً كثيراً كما يحبه ربنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام: اتقوا الله تعالى وأطيعوه, واعلموا أن النصر من عند الله, وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
أيها المسلمون! إن الضعف الذي حلّ بالأمة الإسلامية قد أفقدها شيئاً كثيرًا من هيبتها وعزتها, ومن كرامتها, لقد دبّ الضعف في صفوف المسلمين لما اختلفت الأمة في أهوائها, وتفرقت كلمتها, وتشعبت مناهجها؛ فصارت ألعوبة للأعداء ولقمة سائغة أكلتها سباع الشيطان، وما ذاك يا أمة الإسلام, وما ذاك يا أمة التوحيد, وما ذاك يا أمة لا إله إلا الله! إلا لما تركت الأمة الإسلامية ما فيه غذاؤها الروحي والفكري وهو القرآن والسنة والحكم بهما والتحاكم إليهما.
لما تركوا ذلك -إلا القليل منهم- ورأى أعداء الإسلام والمسلمين منهم ذلك, جلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم حتى حسنوا لهم البدع والمنكرات, وحتى غزوا الأمة من كل جانب, وبكل سلاح, غزوها من ناحية الفكر والعقيدة فغيروا الأفكار وأفسدوا العقيدة, غزوها من ناحية الأخلاق والمثل العليا فأفسدوا الأخلاق وهدموا المثل العليا, غزوا الأمة من ناحية المنهج والسلوك فضيعوها في متاهات الجهل والخرافات والبدع وفرقت الأمة دينها, وكانوا شيعاً متفرقة وصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة, قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي اليوم} فالله المستعان يا أمة الإسلام!
الأمة الآن شيع متفرقة استبدلت بالحكم بالكتاب والسنة القوانين الوضعية, وأحكام الطواغيت، وهي الحكم بغير ما أنزل الله جل وعلا.
ومع الأسف الشديد لما انزلقت الأمة الإسلامية في ذلك عمّ فيهم الجهل, وأصبحوا الآن يقتل بعضهم بعضا ويسب بعضهم بعضاً في الإعلام والمجلات, وصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين خطب في يوم عرفة: {ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} الآن يا أمة الإسلام.
إخوة متجاورون في أوطان متجاورة يقتل بعضهم بعضاً, وأعداء الإسلام تتفرج وتتفكر ماذا يفعلون! يقتل بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً في الإعلام والمجلات, وصاروا في حلبة الصراع نهبة للأعداء من كل ناحية, فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم إنا نسألك الخلاص لأمة الإسلام، اللهم إنا نسألك الخلاص لأمة الإسلام.(80/3)
تسلط الأعداء
أيها المسلمون! إنكم ترون ما بلغت الأمة الإسلامية الآن، إنها بلغت إلى مستوى انحطت معنويتها به, ونزعت من قلوب أعدائها هيبتها, وتسلط الأعداء عليها بقوة السلاح, فغزوها غزواً عسكرياً، فتلكم الشرذمة القليلة من اليهود التي استحلت المسجد الأقصى والمسلمون متشاغلون في الخلافات والمنابذة في الإعلام والمجلات, وتلكم الشيوعية الحمراء تقتل وتشرد وتبث مذهبها الهدام, تلكم التبشيرية بـ النصرانية تعبث بالمسلمين من كل ناحية.
كل ذلك وغيره من المبادئ الهدامة التي تبدد الأفكار, وتهدم الأخلاق, وتبرهن وتعلن أنها جاءت لما رأت الضعف بالأمة الإسلامية ولما رأت الكثير يتخلى عن دينه ويتباعد، ويزعم الزعم الخطأ أن الحكم بما أنزل الله قد انقضى وقته, وانقرض أهله, فلا يطابق هذا العصر، ولا يناسب أهله أهل هذا العصر, وما هو إلا رجعية وتخلف إلى الوراء, كل ذلك زعم باطل ولا يقول ذلك ولا يدعي ذلك إلا من ارتد عن دين الله, ورضي بالقوانين الوضعية, ولكن أين أبو بكر لهذه الردة والله يقول وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(80/4)
الانحراف عن منهج الله
أيها المسلمون: أيتها الأمة الإسلامية! لعلنا نتساءل: لماذا سلط الأعداء علينا من كل ناحية ومن كل جنس؟
فالجواب في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلما غير البعض من المسلمين بالطاعة المعصية, غير الله عليهم وما ربك بظلام للعبيد، فلو تصورنا حال المسلمين اليوم تصوراً صريحاً, وحكمنا العقل بعيداً عن تيارات العاطفة؛ لوجدنا في الأمة التي تدعي الإسلام اليوم ما هو أكبر من أسباب الخذلان والهزيمة, فيهم من لا يؤمن بالله واليوم الآخر, اعتنقوا دين الشيوعية الحمراء, فيهم من يشرك بالله بدعاء المخلوقين، بالتوسل بالموتى وبالقبور، وتعظيم الموتى والتعلق بالأضرحة, فيهم من لا يقيم الصلاة ويقول: إنها روتين, ولا يعترف بها, ولا يؤدي الزكاة, وفيهم من لا يصوم رمضان, ومنهم من لا يحج البيت, وفيهم من يحكم بغير ما أنزل الله, ويرى أن الحكم بما أنزل الله رجعية وقد انتهى وقته -مع الأسف الشديد- وفيهم من تباع الخمور في أسواقهم, وتشرب علانية في بلدانهم, وفيهم من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, وفيهم من لا يقيم الحدود التي أوجب الله في الجرائم, ويرى أن إقامة الحدود همجية ووحشية إلى غير ذلك من المعاصي والمنكرات.
كل ذلك واقع في أمة الإسلام التي تدعي الإسلام وكثير وكثير! ومع ذلك تطمع في النصر على الأعداء, وهي قد تلبست بكثير من عادات أعداء الإسلام, وأخذها الكثير ممن يدعي الإسلام منهجاً وطريقاً، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم وقال: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
أمة الإسلام! أيها الإخوة في الله! فما بالكم بهذه الفظائع التي توجد في بعض البلاد العربية اليوم وغيرها؟ مع ذلك يطمعون في النصر على الأعداء، فهذا مستحيل؛ لعدم وجود أسباب النصر التي أمر الله بها قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(80/5)
علاج ضعف المسلمين
إن الأمة الإسلامية متى صدقت مع الله تعالى في الجهاد في سبيله، وكان قتالها لتكون كلمة الله هي العليا، وحكمت الشريعة وقامت بأمر الله, وآمنت بالله وباليوم الآخر, وعملت صالحاً, واتبعت سلفها الصالح, فستكون العاقبة لها, وسوف يورثها الله الأرض كما أورثها سلف الأمة، قال الله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] وصدق الله حيث يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد, يا منان! يا بديع السماوات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! نسألك اللهم أن تنصر الإسلام والمسلمين, اللهم انصر الإسلام والمسلمين, اللهم اخذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين, اللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(80/6)
عوامل النصر وطيب العيش(80/7)
ترك المعاصي والتمسك بآداب الإسلام
الحمد لله كتب للمؤمنين العزة, أحمده سبحانه يؤيد دينه وينصر حزبه, وحزب الله هم المفلحون, والخذلان والحرمان والطرد والإبعاد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين, واتبع أعداء الدين, أولئك حزب الشيطان الخاسرون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوان الله وطاعته, والمحذر من سخطه ومعصيته, اللهم وفقنا لاتباعه، اللهم ارزقنا اتباعه، اللهم وفقنا للأخذ في منهجه وسلوك طريقه، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وخذوا بأسباب القوة تتحقق لكم الحياة الطيبة في العاجلة والآجلة وتفوزوا برضا الله, فجاهدوا أنفسكم، جاهدوا أنفسكم على القيام بطاعة الله, مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وابدءوا أولاً بإصلاح أحوالكم.
تمسكوا بآداب الإسلام, وتخلقوا بأخلاقه, نظفوا منازلكم من البدع والمنكرات, ومن آلات اللهو, ومن المجلات التي أعدها أعداء الإسلام حرباً للأخلاق وللعقائد وللفضائل، وقاتلة للمروءة وللغيرة، وقاتلة للأوقات، ومعمية للقلوب التي في الصدور, حتى إنها صدت الكثير عن تلاوة كتاب الله, وعن قراءة سنة رسول الله, ويا لها من مصيبة عظيمة وكسر لا يجبر؛ أن يشتغل المسلمون فيما يضرهم, ويتركون ما فيه نفعهم بالعاجلة والآجلة وصدق الله حيث يقول: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور ما أحدث على غير هدي من الله، أو من غير سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].(80/8)
الاقتداء بسلف الأمة
عليكم عباد الله! بما كان عليه الصدر الأول ففي هديهم الرشاد, وفي نهجهم الفلاح والسداد, وليس والله باتباع طريقتهم تأخر ولا رجعية, والله ثم والله ليس في اتباع السلف تأخر ولا رجعية, ومن حاد عن مسلكهم تقاذفته الشبه والأهواء, وارتطم بالفتن، وانزلق في المهاوي.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحابه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الدين, اللهم ابعث لدينك ناصراً ومؤيداً يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، فإن لم يغفر لنا ربنا ويرحمنا لنكونن من الخاسرين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً, لا إله إلا أنت يا سامع الصوت، ويا سابق الفوت, ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت, نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تغيثنا يا رب العالمين.
اللهم أغثنا, اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً، سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم عاماً نافعاً غير ضار يا رب العالمين.
اللهم احيي بلدك الميت, اللهم انشر رحمتك على العباد، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك يا واسع الفضل والإحسان! أنت الغني ونحن الفقراء, إليك لجأنا، إليك فوضنا أمورنا, لا ملجأ لنا منك إلا إليك يا رب العالمين.
اللهم أغثنا غيثاً عاجلاً غير آجل, اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(80/9)
إياك والتفريط
إن العمر سريع التقضي، أبي التأني، أيام تمضي ولا تعود كغروب الشمس، فمن كان قد أحسن في عمره فليزدد، ومن أساء فليراجع نفسه، قبل أن يختم له بخاتمة سوء، ومما يساعد على ذلك كثرة تذكر الموت والقبر والحساب والجنة والنار.(81/1)
اغتنام الحياة في التزود من الأعمال الصالحة
أيها الناس! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واعلموا حق اليقين أن الله لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم هملاً، بل خلقكم لطاعته وعبادته في هذه الحياة الدنيا، وإذا انتهت هذه الحياة وافاكم الله جل وعلا بما أحصاه عليكم من الأعمال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
عباد الله! اعتبروا بهذه الأعوام، كيف تمر بكم وتنقضي، فإنها من أعماركم، ومهما عاش ابن آدم، فإن مصيره إلى الموت.
أمة الإسلام! تيقظوا وانتبهوا من هذه الغفلة، فإن كل يوم يمر بكم يبعدكم من الدنيا، ويقربكم من الآخرة، فالكيٍّس من اغتنم هذه الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة، التي تقربه من الله زلفى، وينجو بها من عذاب جهنم.
أيها المسلمون! إنكم في هذه الجمعة، التي هي آخر جمعة من عامكم الذي ستودعونه، والذي سيطوي سجله على ما أودعتموه وخزَّنتموه فيه من الأعمال، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن أحسن فيها واستقام، وويل ثم ويل لمن أساء وارتكب المعاصي والمحرمات، ولقي الله غداً وهو مُصِر على ذلك الإجرام، نعم، هنيئاً غداً يوم القيامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وهنيئاً لمن يُعطى كتابه باليمين، ويرفعه مسروراً بما فيه، {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:19 - 23] فيقال لهم في تلك الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] هذا هو المؤمن الذي عمل بالصالحات، وقدم الأعمال الصالحة أمامه عند الله.
أما الذي قضى حياته، وضيَّع أوقاته في غير طاعة الله، فاسمعوا ماذا يقول إذا أخذ كتابه بالشِّمال: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] فيقال للزبانية: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
نعم.
هذه النهاية، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
أجل يا عباد الله! إذا عرفنا أن النهاية إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ ليقف كل منا مع نفسه، محاسباً ماذا أسلف في العام الذي هو على وشك الانتقال، فإن كان قد عمل خيراً فليحمد الله ويزداد، وإن كان غير ذلك، فليتب إلى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، ويُقلع ويُنيب ويكثر من عمل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
أجل أيها العاصي، بادر ما دمتَ في وقت الإمكان قبل أن يهجم عليك هادم اللذات، تُب إلى الله قبل إغلاق الباب، وإسبال الحجاب، وطي الكتاب على ما فيه.
عباد الله! يُروى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال: {أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى، لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي، لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت}.
عباد الله! تذكروا بانقضاء هذا العام انقضاء العمر، وسرعة زوال الدنيا، وسرعة زوال السرور في الدنيا، وسرعة قرب الموت، وبتقصير الأحوال، وبزوال الدنيا وما فيها، فكم وُلِد في هذا العام مِن مولود؟! وكم مات فيه مِن حي؟!
فاغتنموا فرصة العمر يا عباد الله، هذا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويقول: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك} هكذا يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الخمس، قبل حلول أضدادها.
ففي الشباب: قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعُفت قوته، وفترت عزيمته.
وفي الصحة: نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه، وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال.
وفي الغنى: راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله.
أمة الإسلام! في الحياة الدنيا ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
إذا مات الإنسان يتبعه ثلاثة، يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله.
فاتقوا الله عباد الله، واستدركوا ما فات بالتوبة النصوح، واستقبلوا عامكم الجديد بالعمل الصالح، فإن إقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأيامكم معدودة، وأعمالكم مشهودة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما صرَّفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(81/2)
سرعة انقضاء الأعمار
الحمد لله منشئ الأيام والشهور، ومفني الأعوام والدهور، ومضاعف الثواب لمن أطاعه والأجور، وغافر الذنوب لمن تاب إليه من المعاصي والفجور، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ويسمع دبيب النمل في دياجي الظُّلَم على الصخور، فسبحانه من إله تسبحه جميع الكائنات، وتَقَدَّس من ولي كريم محسن شكور.
أحمده سبحانه على نعم تتجدد بالرَّواح والبكور، وأشكره على سابغ فضله المنشور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف كل مشرك كفور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صاحب المنزلة العليا، والشفاعة العظمى في يوم النشور.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى.
عباد الله! كيف لا يتفكر الإنسان في هذا العمر الذي يتصرم سنة بعد سنة.
عباد الله، إنه قد تصرم من مدة الحياة عامٌ قد ودعتموه، شاهداً عليكم بما أودعتموه، فمن أودعه صالح العمل فليثق من الله بالبشرى والرضا والكرامة، ومن فرط أو عمل غير صالح، فأحسن الله عزاه.
فيا ليت شعري! على أي شيء تُطوى صحائف هذا العام، ويا غفلة من لعله لم يبق من عمره إلا ساعات أو أيام، ويا أسفاه على من انقضى عمره وهو على تماديه وغفلاته مقيم، ويا خَجْلَة من بنى أجله وهو مكب على المعاصي والآثام.
عباد الله! اعتبروا بهذه الشمس، كل يوم تطلع من مشرقها، وتغرب في مغربها؛ فإن في طلوعها ثم غروبها إيذاناً بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي طلوع ثم غروب وزوال.
واعتبروا بهذه الشهور تهل بها الأهلة صغيرة، كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها، أخذت بالنقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان، طفولة ثم شباب، ثم كهولة، ثم هرم، وما بعد ذلك إلا الممات، ومنكم مَن يُتوفى قبل أن يصل إلى ذلك.
واعتبروا أيضاً بهذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نَظَرَ البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً، فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، كل هذا عبرة ودلالة على زوال الدنيا وفنائها.(81/3)
الحذر من سوء الخاتمة
وهكذا عمر الإنسان، يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، فإذا به قد هجم عليه ملك الموت بِغِرَّة وبدون إنذار، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
عباد الله! أطيلوا الفكر في الموت، وأكثروا من ذكر هادم اللذات، وأهواله وشدائده وسكراته، وتفكروا يا عباد الله في شدة النزع والألم الذي يعانيه المحتضر عند خروج الروح من البدن، حتى قيل: إنه أشد من الضرب بالسيوف، ونشر المناشير، وقرظ المقاريظ؛ لأن الموت يهجم على الإنسان، ويستغرق جميع أجزائه من كل عِرق من العروق، وعصبٍ من الأعصاب، ومفصلٍ من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة، من مفرق رأسه إلى القدمين، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
فعند ذلك لا تسأل عن حالة المحتضر وقد نزلت به الكروب والآلام، ومع ذلك فهو لا يقدر على الصياح والبكاء، مع شدة الألم وزيادة الكرب، حيث قهر الموت منه كل قوة، وأضعف كل جارحة، فلم يبق له قوة الاستغاثة، أما العقل فقد غشيه ووَشْوَشَه، وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها وأوهنها وخدرها، فإن بقي فيه قوة سمعتَ له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه وارْبَدَّ وجهه، وشخص بصره، وحشرج صدره، واقشعرَّ جلدُه، وتشنجت أصابعُه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله، فالألم منتشر في داخله وخارجه.
فلا تسأل عن جسم يُجذب كل عرقٍ على حدة، ثم يموت كل عضوٍ من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ثم يبلغ حتى بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وينسى ما كان قد حافظ عليه في الحياة، وعند ذلك تعظم حسرة المفرط، ويندم حين لا ينفعه الندم.
أخي المسلم! أوصيك إذا حضرت محتضِراً، فلا تستعجل عليه في تلقين الشهادة، لعل الله يخرج روحه على كلمة (لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فإن خرجت روحه على (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فهنيئاً له حسن الخاتمة، فقد ورد في الأثر: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} أما من هذى، وجعل يطرف بالكلمات التي تقشعر منها الجلود، ويندى لها الجبين، فوالله إنها لحالة يُرثى لها، كم قيل لمحتضِر: قل (لا إله إلا الله) قال إنه كافر بـ (لا إله إلا الله).
فيا عبد الله! احذر أن تخرج روحك على سوء الخاتمة، فأنت في الحياة الدنيا في ميدان فسيح لمزرعة الأعمال الصالحة، فمن عاش على خير، هنيئاً له أن يحسن الله له الخاتمة.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ثم استقاموا يا عبد الله، على أي شيء استقاموا؟ أعَلَى السهر والتمثيليات؟ أم مع البَلُوْت والكِنْكان؟ أم على أكل الربا، وغش المسلمين، والخداع؟ أم على أكل الرشوة؟ أم على التبرج والسفور؟ مسكين من أدخل إلى بيته تلك الملاهي، فعند الممات يتمنى أن يقول: أخرجوا هذه الملاهي، ولكن حِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنما يُقال ذلك لمن استقام على طاعة الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار.
يا عبد الله! ارحم نفسك قبل أن ينزل بك هادم اللذات، وقد حلقت لحيتك، وملأت بيتك بالمنكرات، والملاهي.
يا عبد الله! اتق الله، ولا تغفل في هذه الحياة عن الأعمال الصالحة، خشية أن ينزل بك هادم اللذات وأنت على معاصي الله.
عباد الله! تيقظوا من هذه الغفلات، يا للأسف الشديد، على مجالس تقتل في غير ذلك، يا للأسف الشديد على عُمْر فَرَّط فيه صاحبُه، لم يعرف فيه بيوت الله، إلا يوم الجمعة أو في رمضان، يا ويله إذا نزل به هادم اللذات، وقيل له: قل (لا إله إلا الله) فمن أين له أن يقول: (لا إله إلا الله) وهو لا يعرف بيوت الله؟! من أين له أن يقول: (لا إله إلا الله) وهو يسهر طوال الليال مع الأفلام والتمثيليات، والأغاني، وكتب الحداثة السخيفة، يقضي وقته ذلك الوقت الذي هو مسئول عنه بين يدي الله، بين يدي جبار الأرض والسماوات؟!
فأين الاستعداد يا عبد الله؟! أين الاستعداد لهادم اللذات؟ أين الاستعداد لمفرق الجماعات، وقد أتوا بالطبيب، والطبيب لا ينفع إذا نزل بك هادم اللذات.
عبد الله! إذا زرت المريض فذكره بهادم اللذات، وقل له: تُب يا أخي مما جنيت واستعد، ومع الأسف الشديد كم نزور من المرضى، وما منا من يقول: اتق الله, واذكر الله، إنما نقول له: إذا مرضت ولم تُشفَ اذهب إلى أمريكا، أو إلى بريطانيا، حتى تموت في بلاد الكفار.
نعم السبب مطلوب، ولكن إذا نزل بك الموت، وإذا جاءت سكرة الموت فلا ينفع حينئذٍ الطبيب، فعليك يا عبد الله أن تُذَكِّر أخاك المسلم، وتعينه على ذكر الله، وتذكره أن الحياة لها نهاية، وأن الحياة الباقية في جنة عرضها السماوات والأرض، أو في جهنم وبئس المصير.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي قال: {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة}.
زوروا القبور يا عباد الله، تذكروا إذا وضعتم أخاكم في قبره، وهو جثة هامدة، لا ينازعكم من الأمر شيئاً، والله لو كان حياً ما أدخلتموه من باب المقبرة، فانظروا إليه وهو جثة هامدة، تضعونه في هذا الصدع من الأرض، وتصفون عليه اللبنات، وتَحْثُون عليه التراب، وترجعون كأن لم تفعلوا شيئاً، والله لقد قست القلوب، بل ماتت، كيف ندفن الموتى ولا نعتبر يا عباد الله؟! كيف لا نعتبر، ولا نتذكر أنَّا بهم لاحقون؟! وسواءً أقرُب الأمد أو بَعُد فإنا سوف نُدفن كما دفنوا، سوف تُصف علينا اللبنات، ونُترك في صدع من الأرض، لا أنيس ولا جليس إلا الأعمال يا عباد الله.
اللهم آنس غربتنا في القبور، اللهم آنس غربتنا في القبور، اللهم آنس غربتنا في القبور.
اللهم ارحم ذلنا عليك يوم العرض والنشور {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] اللهم رحمتك نرجو يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا على خاتم المرسلين، صلوا على الناصح الأمين، الذي ترككم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم، اللهم اسقنا من حوض نبيك محمد شربة هنيئة مريئة، لا نظمأ بعدها أبداً، يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا ممن يُعطى كتابه باليمين.
وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(81/4)
بدعة المولد
لقد أكمل الله لنا الدين، وأي شيء يزاد مما لم يشرعه الله ولا رسوله؛ فإنما هو بدعة محدثه لا تجوز، ومن جوزها فقد زعم أن الله لم يكمل لنا الدين، وقد أتى الشيخ بفتوى العلامة ابن باز رحمه الله في بدعة المولد، وذكر بعض منكرات هذه الموالد، وبين أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون في كل وقت وحين.(82/1)
كمال الدين وخطر البدع
الحمد لله الذي فتح لنا أبواب الهدى بمن جعله مسك الختام, وجعل أمته خير الأمم, وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره من ذوي الإجرام, أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ علينا من جزيل الإنعام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين, وفارقاً بين الحلال والحرام, وداعياً إلى القيام بأركان الإسلام, نصح الأمة, وكشف الغمة, وجاهد في الله حق الجهاد, وما مات حتى أتمَّ الله به النعمة, وأكمل به الدين, وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله تعالى حق تقاته, واحذروا البدع فإنها ما ظهرت في أمة إلا مات فيهم بدلها سنة.
أمة الإسلام! لقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته المباركة في كفاح وجهاد متواصل, وغرس الدين الإسلامي في نفوس البشرية جمعاء, إلى أن اختاره الله له في الرفيق الأعلى, بعد أن قضى ثلاثة وستين سنة, منها في أول عمره تقريب لوجهات العرب, وبعد الأربعين من عمره نزل عليه الوحي في تبليغ رسالة ربه حتى أكمل الله به الدين, وأتم به النعمة, ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه, ولا شراً إلا حذرها منه.(82/2)
فتوى ابن باز ببدعية المولد
فيا عباد الله! يا أتباع محمد بن عبد الله! إن كنتم متبعون له صحيحاً على نهجه؛ إنكم تسمعون في هذه الأيام والليالي عبر وسائل الإعلام المجاورة والجرائد وغيرها بدعة محدثة, وهي بدعة عيد المولد النبوي, وقد سئل شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه, وجعل الجنة مأوانا ومأواه- عن هذه البدعة فأجاب جزاه الله خيراً قائلا:
و
الجواب
أن يقال لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا غيره لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله, ولا خلفاءه الراشدون, ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة, وهم أعلم الناس بالسنة, وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وأكمل متابعة لشرعه ممن بعدهم, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود عليه, وقال في حديث آخر: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة} ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها, وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وقال جلَّ من قائل عليماً: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] ويقول الرب جلَّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله, زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله, وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم, والله سبحانه وبحمده قد أكمل الدين لعباده, وأتم عليهم النعمة, والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ المبين, ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة, كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم} حديث صحيح.
ومعلوم أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم, وأكملهم بلاغاً ونصحاً, فلو كان الاحتفال بالمولد النبوي من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة, أو فعله في حياته, أو فعله أصحابه رضي الله عنهم, فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم, ولم يقع شيء من ذلك, عُلم أنه ليس من الإسلام في شيء, بل هو من المحدثات التي حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته منها -كما تقدم ذكر في الحديثين السابقين- وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: {أما بعد, فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد, وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة} رواه مسلم , والأحاديث في ذلك كثيرة.
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار المولد والتحذير منها عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها، وقد رددنا هذه المسألة وهو فصل الخطاب, يقول الشيخ ابن باز وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه: " وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالمولد إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم, ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا, وأمرنا باتباع الرسول فيه, وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به, ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم.
فعلمنا من ذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة, ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم, وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالمولد ليس من دين الإسلام بشيء, بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله بتركها والحذر منها.
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعل من الناس في سائر الأقطار, فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] هذا تحذير للرسول صلى الله عليه وسلم.(82/3)
منكرات الموالد
إن غالب هذه الاحتفالات بالمولد مع كونها بدعة, لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى, كاختلاط النساء بالرجال, واستعمال المعازف في الأغاني المسماة بالأناشيد وغيرها, وفي بعض البلدان يشربون المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور, وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك, وهو الشرك الأكبر, وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به، وطلب المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس عند احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره مما يسمونهم بالأولياء, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين}.
ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة, ويدافع عنها, ويتخلف عما أوجبه الله عليه من حضور الجمع والجماعات, ولا يرفع بذلك رأساً ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً, ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان, وقلة البصيرة, وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي.
نسأل الله بمنَّه وكرمه أن يعافينا في ديننا ودنيانا وآخرتنا وأن يردنا إليه رداً جميلاً, وأن ينصر دينه, ويعلي كلمته, وأن يبعث لدينه ناصراً, يحيي الدين ويؤذن في تلك البلدان التي فشا فيها الابتداع, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(82/4)
بدعة اعتقاد حضور النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل, وتبصروا في دينكم, واحذروا البدع المحدثة التي تبعدكم عن الله, وتصدكم عن الصراط المستقيم.
عباد الله! لقد بلغ الذين يحضرون الموالد من الإفك والافتراء أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد, ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل, فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة, ولا يتصل بأحد من الناس, ولا يحضر اجتماعاتهم؛ بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة, ويرى في المنام، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومما يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ميت ميتة برزخية أكمل من ميتة الشهداء, والأرض لا تأكل لحوم الأنبياء يقول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16] وقال سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] إلى آخر الآيات, وقال صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة} فها هو يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره إلا يوم القيامة, يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة, وأنا أول شافع وأول مشفع} عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث؛ كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة, وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين, ليس فيه نزاع بينهم.
فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور, والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات, ومن الأعمال الصالحات كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة ولم يقل: صلوا علي في يوم مولدي, إنما هذا اختلاق اختلقه بعض الجهال، وأمره صلى الله عليه وسلم واضح في سنته المطهرة.
فأكثروا عليه من الصلاة في كل أوقاتكم دائماً وأبداً حتى تلقوه على الحوض إن شاء الله, وإياكم ومحدثات الأمور! وإياكم والبدع! فيقول صلى الله عليه وسلم: {من صلّى علي صلاة صلّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وفي مقدمة أصحابه الخلفاء الراشدين, وارض اللهم عن البقية أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون, اللهم أصلح ولاة أمورنا ووفقهم إلى الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم قيض لهم الجلساء الصالحين الناصحين, وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واهدنا واهد لنا واهد بنا يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد, نسألك بأنا نشهد أنك أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد, اللهم إنا نسترحمك يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين, اللهم يا واسع الفضل والإحسان يا من خزائنه ملأى يا من يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقا نافعاً غير ضار, عاجلاً غير آجل, اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق, يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال والإكرام, اللهم انشر رحمتك على العباد, يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب, اللهم أنزل علينا من بركات السماء, اللهم أدر لنا الضرع وأنبت لنا الزرع, اللهم أخرج لنا من بركات الأرض ما يكون لنا عونا ً على طاعتك, وبلاغاً إلى حين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم ارفع عنا الغلاء والبلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون, وصلوا وسلموا على رسول الله.(82/5)
بعد المسلمين عن دينهم
إن من أعظم أسباب وجود الضعف بين المسلمين هو بعدهم عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذان هما غذاؤهما الروحي والفكري، وهو نفسه السبب الذي جعل الأمم الأخرى تداعى على أمة الإسلام كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، والناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يرى فيهم أنواع المعاصي والمنكرات والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تتحقق الحياة الطيبة للمسلمين في العاجلة والآجلة إلا بالرجوع إلى دين الله تعالى، والقيام بطاعته سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، وترك المنكرات والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتمسك بأخلاق الإسلام وغيرها من أسباب القوة.(83/1)
سبب وجود الضعف في المسلمين
الحمد لله المعز لمن أطاعه والمذل لمن عصاه, الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى, يسر من شاء من عباده إلى طاعته فأسعده ونصره وأيده، وطرد من أشقاه فخذله ووكله إلى نفسه, فصار ذليلاً مخذولاً حيراناً, يتمشى مع التقاليد الغربية والشرقية والإفرنجية, نسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة, أحمدك اللهم وأشكرك, حمداً كثيراً كما تحب ربنا وترضاه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاء بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وأيقظنا من رقدتنا حتى ننهج نهجهم يا رب العالمين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوا واعلموا أن النصر من عند الله, وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة للمتقين.
أيها المسلمون: ألا يتساءل البعض؟ ألا يتحدث البعض عن سبب حصول الضعف للمسلمين.
إن الضعف الذي حل بالأمة الإسلامية قد أفقدها شيئاً كثيراً من هيبتها, ومن عزتها ومن كرامتها, لقد دب الضعف في صفوف المسلمين منذ أن تدخل عبد الله بن سبأ اليهودي بثورته الخبيثة التي قتل فيها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
نعم.
-يا عباد الله- لما اختلفت الأمة الإسلامية في أهوائها وتفرقت كلمتها وتشعبت مناهجها, فصارت ألعوبة للأعداء ولقمةً سائغة أكلتها سباع الشيطان, وما ذاك إلا لما تركت الأمة الإسلامية ما فيه غذاءها الروحي والفكري وهو القرآن والسنة, نعم -يا عباد الله- لما ترك الكثير القرآن والسنة والحكم بالكتاب والسنة والتحاكم إلى الكتاب والسنة, لما تركوا ذلك إلا القليل منهم, وفي مقدمة هذه الفئة القليلة: بلادنا هذه أعزها الله بالإسلام ونصرها وأيدها على من عاداها, فهي ولله الحمد باقية على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك بعد دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بقيادة إمام الدعوة محمد بن سعود رحمهما الله, وعلى ذلك نهج نهجهم من جاء بعدهم من الذرية, فنسأل الله عز وجل أن يزيدهم من ذلك وأن يحبب إلينا وإليهم الإيمان وأن يزينه في قلوبنا وقلوبهم, وأن يُكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان إنه على كل شيء قدير.
أمة الإسلام: إذا سمعنا ولي الأمر أو من بعده من ولاة الأمور خاصةً في هذه البلاد ارتاحت الأنفس وتلذذت بخطبهم؛ لأنهم يدعون إلى التمسك بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبالتمسك بالأخلاق الفاضلة, كل ذلك يدعون إليه جزاهم الله خيراً.
أما البقية من المجاورين لما تركوا ذلك وجروا وراء الأعداء ووراء الاستعمار, جلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم, حتى حسنوا لهم البدع والمنكرات, وحتى غزو الأمة من كل جانب وبكل سلاح, غزوها من ناحية الفكر والعقيدة, فغيروا الأفكار وأفسدوا العقيدة, غزوها من ناحية الأخلاق والمثل العليا فأفسدوا الأخلاق, فصارت نساؤهم ترقص في المسارح, ورجالهم يرقصون طرباً وغناء, ونسألك اللهم العفو والعافية.
وصار العباد منهم الجهال يحثونهم على بناء القبب على القبور, وعلى التوسل بها, وعلى عبادتها من دون الله, هذا الذي يريده أعداء الإسلام، وهو غزوٌ فكري غزوا به تلك البلدان، وغزوهم من ناحية المنهج والسلوك فضيعوهم في متاهات الجهل والخرافات والبدع, حتى تفرقت الأمة وكانوا شيعاً, واستبدلوا الحكم بالكتاب والسنة, استبدلوها بالقوانين الوضعية، أحكام الطواغيت وهي الحكم بغير ما أنزل الله جلَّ وعلا.
ومع الأسف الشديد لما انزلقت تلك الأمم في ذلك عَمَّ فيهم الجهل, وأصبحوا الآن يقتل بعضهم بعضاً, ويَسبُ بعضهم بعضاً في الإعلام والمجلات, وصاروا في حلبة الصراع نهبةً للأعداء من كل ناحية, فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.(83/2)
سبب تداعي الأمم على أمة الإسلام
أيها المسلمون: إنكم ترون ما بلغت الأمة الإسلامية الآن, إنها بلغت إلى مستوى انحطت معنوياتها فيه, ونزعت من قلوب أعدائها هيبتها, وتسلط الأعداء عليها بقوة السلاح, فغزوها غزواً عسكرياً, تلكم اليهود وأعوانهم الشرذمة القليلة التي استحلت المسجد الأقصى, والمسلمون منشغلون في الخلافات, وتلك الشيوعية الحمراء وهي تقتل وتشرد وتبث مذهبها الهدام, وتلكم النصارى وهم يبثون النصرانية ويعثون في الأرض فساداً من كل ناحية, كل ذلك وغيره من المبادئ الهدامة التي تبدد الأفكار وتهدم الأخلاق، وتبرهن وتعلن أنها جاءت لما رأت الضعف بالأمة الإسلامية.
ولما رأت الكثير يتخلى عن دينه وهذه والله هي المصيبة العظمى -يا عباد الله- والله ثم والله إنها هي المصيبة العظمى يا أمة الإسلام، أعداء الإسلام لما رأوا الكثير يتخلى عن دينه ويتباعد ويزعم الزعم الخاطئ أن الحكم بما أنزل الله قد انقضى وقته وانقرض أهله فلا يطابق هذا العصر ولا يتناسب مع أهل هذا العصر, وما هو إلا رجعية وتخلف إلى الوراء, وكل ذلك زعمٌ باطل من الذين غسل مخهم أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من الشيوعية والرأسمالية , ولا يقول ذلك ولا يدعي ذلك إلا من رضي بالقوانين الوضعية والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
أيها المسلمون: لعلنا نتساءل، ثم نتساءل لماذا سلطت الأعداء من كل ناحية، ومن كل جنس على الأمة الإسلامية؟
فالجواب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلما غير البعض من المسلمين الطاعة بالمعصية غير الله عليهم أحوالهم {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(83/3)
حال المسلمين اليوم
فلو تصورنا حال المسلمين اليوم تصوراً صريحاً وحكَّمنا العقل بعيداً عن تيارات العاطفة, لوجدنا في الأمة الإسلامية التي تدعي الإسلام اليوم ما هو أكبر من أسباب الخذلان والهزيمة, ففيهم من لا يؤمن بالله, وانخرط في سلك الشيوعية وصار شيوعياً ملحداً, ولا يؤمن بالله واليوم الآخر, ولا يؤمن بالحساب ولا بالجزاء ولا بالجنة والنار, ومنهم من يشرك بالله, ومنهم من لا يقيم الصلاة, ولا يعترف بالصلاة بالكلية, ولا يؤدي الزكاة, وفيهم من لا يصوم رمضان, ومنهم من لا يحج البيت العتيق, وفيهم من يحكم بغير ما أنزل الله، ويرى أن الحكم بما أنزل الله رجعية، وقد انتهى وقته.
مع الأسف الشديد!
وفي تلك البلدان التي تدعي الإسلام تباع الخمور في أسواقهم وتشرب علانية, وفيها البارات وفيها الخمارات وفيها بيوت الدعارة، وبيوت الزنا واللواط, أين هم من الإسلام؟! وفيهم من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, وفيهم من لا يقيم الحدود التي أوجب الله في الجرائم, ويرى أن إقامة الحدود همجية ووحشية، إلى غير ذلك من المعاصي والمنكرات.
أمة الإسلام: لو تفكرنا ونظرنا في كثير من بلدان المسلمين إلى ما يحدث فيها من كثرة البدع والخرافات, والخزعبلات من دعاء الأموات وعبادتهم من دون الله تعالى, والتقرب إلى أهل القبور, وإلى الأضرحة بالنذور وغيرها والطواف بها, وطلب الغوث والنصر من تلك القبور, التي أصبحت فيها تلك الجثث هامدة لا تضر ولا تنفع, وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بدأ الإسلام غريبا ًوسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء, قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {الذين يصلحون ما أفسد الناس} فأي غربة أعظم من هذه الغربة؟! والبعض من الناس -مع الأسف الشديد- الذين يدعون الإسلام ليلهم ونهارهم, سرهم وجهارهم يدعون الأموات من دون الله, ويستغيثون بهم, ويطلبون منهم المدد, ويذبحون وينذرون لهم, والبعض ممن يدعي الإسلام قد انشغل وتعلق قلبه بالجن وصار يستعين بهم في كل نائبة وكارثة يهتف بهم ويناديهم من دون الله: يا جني فلان يا جني فلان قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
والبعض من الناس ممن يدعي الإسلام -مع الأسف الشديد- إذا أصابته مصيبة أو ألمّت به ملمة, أو ذهبت له ذاهبة ذهب إلى الكهان والسحرة والمنجمين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صدق كاهناً بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} وفي رواية: {من صدق كاهناً بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}.
فيا عباد الله أين الإسلام من أولئك؟ وأين الإيمان ممن نسي الله عز وجل, والتجأ إلى غيره ودعا غيره, واستغاث بغيره, أين هم من قول الله المولى جلَّ وعلا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
أمة الإسلام! إن أحوال البعض من المسلمين يرثى لها, كيف لا يا عباد الله وهي قد تلبست بعادات أعداء الإسلام, فنساء المسلمين الآن تلبس القصير والرجال يلبسون الطويل, الرجال يحلقون اللحى ويربون الشوارب, اقتداءً بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين, والبعض من المسلمين قد علق في رقبته الذهب, ولبس في يده خاتم الذهب, ولبس في يده ساعة الذهب -فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم}.(83/4)
أهمية إقامة الدين في نصر الله للمؤمنين
عباد الله: إن الله وعد بالنصر من ينصره, فقال جلَّ من قائل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فمتى صدقت هذه الأمة مع الله تعالى في إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحكَّمت الشريعة وقامت بأمر الله تعالى، ووحدت المولى جلَّّ وعلا، وأقامت الصلاة، وأدت الزكاة، وصامت رمضان وأدت فريضة الحج، ونهجت منهج السلف الصالح الذين فتحوا الفتوحات ومصروا الأمصار فستكون العاقبة لها بإذن الله تعالى, وسوف يورثها الله الأرض كما وعد، فإنه لا يخلف الميعاد حيث يقول سبحانه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه, واجعلنا هداة مهتدين, اللهم اجعلنا من الدعاة في سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة على علم وبصيرة يا رب العالمين, اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا, اللهم أعزنا ولا تذلنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, واجعلنا من عبادك الفائزين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد واستغفروا الله يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(83/5)
النصر يكون بأخذ الأسباب
الحمد لله الذي كتب للمؤمنين العزة, أحمده سبحانه يؤيد دينه وينصر حزبه, وحزب الله هم المفلحون, والخذلان والحرمان والطرد والإبعاد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين, واتبع أعداء الدين أولئك حزب الشيطان هم الخاسرون, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوان الله وطاعته, والمحذر عن سخطه ومعصيته, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وخذوا بأسباب القوة تتحقق لكم الحياة الطيبة في العاجلة والآجلة, وتفوزوا برضوان الله, جاهدوا أنفسكم على القيام بطاعة الله, مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وابدأوا أولاً بإصلاح أحوالكم, تمسكوا بآداب الإسلام وتخلقوا بأخلاق الإسلام, نظفوا منازلكم من البدع والمنكرات, ومن آلات اللهو ومن المجلات التي أعدها أعداء الإسلام حرباً للإسلام والمسلمين, وحرباً للأخلاق والعقائد والفضائل, وقاتلة للمروءة والغيرة، وقاتلة للأوقات, ومعمية للقلوب التي في الصدور, حتى إنها صدت الكثير من المسلمين عن تلاوة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيا لها من مصيبة عظيمة، وكسر لا يجبر أن يشتغل المسلمون فيما يضرهم, ويتركون ما فيه نفعهم في العاجلة والآجلة! وصدق الله حيث يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إن الله يأمركم أن تصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وبإحسانك يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين, ووحد صفوفهم, وانصر جيوشهم, وثبت أقدامهم, وانصرهم على القوم الكافرين, اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين, اللهم أمدهم بعونك وقوتك يا رب العالمين فإنه لا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا واجعلنا هداة مهتدين, ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا, ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم فإنه وعد الشاكرين بالمزيد, وصلوا على رسول الله.(83/6)
تبرج النساء
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته}.
فالواجب على المسلم أن يتقي الله في رعيته، وأن يحافظ عليهم ويتابعهم الأول بالأول، وألا يترك الحبل على الغارب، فعلى الأب أو الزوج أن يعرف أين تذهب نساؤه، وماذا يلبسن من الثياب، ويجب على الرجل أن تكون عنده غيرة على محارمه، فلا يجعلهن يختلطن بمن لا يجوز لهن الاختلاط بهم.(84/1)
قوامة الرجال على النساء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون المؤمنون بالله حقاً: اتقوا الله تعالى، وقوموا بما أوجب عليكم من رعاية الأهل والأولاد فقال: {يا أيَّها الذينَ آمنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] وامتثلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} فإنكم رعاتهم والمسئولون عنهم.
يا أمة الإسلام: يا رجال الإسلام! اذكروا هذه الأمانة العظيمة التي وليتم عليها، قوموا بها على الوجه الأكمل، اسمعوا قول الحق جل وعلا وهو يخاطب معشر الرجال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34].
أيها الرجال: إن الله لم يجعلكم قوامين على النساء إلا لعلمه بقصورهن عقلاً وديناً، ولقد أكد ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حين قال في النساء: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن}.
فاعرفوا نعمة الله عليكم، واعرفوا هذا الفضل الذي فضلكم به على النساء، وقوموا بهذه الفضيلة وهذه الأمانة، ولا تغلبنكم النساء على رجولتكم، ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهلكم، ولا تشتغلوا بالدنيا وحطامها، وتضيعوا ما هو أهم وأولى {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه}.(84/2)
فتنة النساء
أيها المسلمون: إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يُتهاون بها، وليست بالمشكلة الجديدة، إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها، ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد فيها إنها مشكلة الوقت كله قديماً وحديثاً، لقد كانت مشكلة بني إسرائيل وما لعن بنو إسرائيل إلا لما تبخترن نساؤهم بالزينة وهي مشكلة هذه الأمة التي حذر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من السناء} وهذا الحديث الثابت في الصحيحين يتضمن التحذير من هذه الفتنة العظيمة، والسعي في القضاء على أسباب الشر قبل أن يستفحل.(84/3)
حال بعض نساء المسلمين اليوم
أيها المسلمون: إن مشكلة النساء قد استفحلت واستطار شرها في التبرج والسفور والتسكع في الأسواق، وكل ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] لقد توسع النساء توسعاً تعدى التبرج في الجاهلية، توسعاً يحزن قلوب المؤمنين الذين يخشون عقاب الله، ويخافون من نقمته، ويخافون من أليم عقابه، يخشون أن يحل بهم ما حل ببني إسرائيل حينما تبرجت نساؤهم.
أيها المسلمون: لقد توسع النساء في التبرج باللباس، فصارت المرأة تلبس للسوق من أحسن اللباس، وتضع عليه عباءة ربما تكون قصيرة لا تسترها، أو خفيفة تصف الذي تحتها، أو ترفعها من أسفل جسمها حتى تبين جمال الثياب والزينة، وربما تشتد بالعباءة حتى تبين حجمها، وكل هذا مما نهى الله عنه ورسوله.
قال الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فقد نهى الله عز وجل النساء أن يضربن بأرجلهن فيعلم الخلخال الذي تخفيه؛ لأن النساء كانت تلبس الخلخال في الأقدام، أما الآن فلا يكاد يوجد، فإذا كان الله عز وجل نهى عن الضرب بالرجل خوفاً من سماع الخلخال المستور؛ فكيف بمن تلبس جميل الثياب، ثم ترفع العباءة عنه ليراها الناس بأعينهم فتفتنهم؟! ولا شك أن الفتنة بما يُرى أعظم من الفتنة بما يُسمع.
وبعض النساء تكشف عن ذراعيها ليظهر ما عليها من الحلي والزينة والنعومة، وأعظم من ذلك إذا خرجت متعطرة متطيبة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية}.
فالأمر عظيم وخطير يا أمة الإسلام! لقد وجد ويوجد في أسواق المسلمين اختلاط النساء بالرجال، ومزاحمتهن للرجال، ويتحدثن بأصوات مرتفعة، ويمازحن الرجال، ومع ذلك فلا حياء ولا هيبة من الجبار فأين الرجال يا أمة الإسلام؟
أين المروءة؟ أين الشيمة؟ أين الغيرة؟
لقد عادت جاهلية أشد من الجاهلية الأولى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم للنساء: {استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق} فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق به.
أمة الإسلام: أين النساء اللواتي يستجبن لقول الله ولقول رسوله؟ خذوا على أيدي سفهائكم، ائطروهم على الحق أطراً، إنه يجب على الرجال أن يمنعوا النساء من التبرج والتعطر قبل أن تحل بنا اللعنة وقبل أن تنزل علينا اللعنة، وأعظم من ذلك -يا أمة الإسلام- منع القطر من السماء، والطيور تلعن العصاة من بني آدم، والبحر يستأذن كل يوم ليغرق بني آدم أين الغيرة على دينكم؟ فإن النساء قد ترك لهن الحبل على الغارب، يمازحن الرجال، ويبعن ويشترين مع الرجال، ويذهبن إلى الأسواق بدون أمر أو نهي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(84/4)
الحذر من مشابهة الكفار وتقليدهم
أمة الإسلام: الحذر الحذر من الأخذ بتقاليد الغرب، والحذر الحذر من مشابهة الكفار في لباسهم وزيهم ومشيهم، فإنه من تشبه بهم فهو منهم لا تنخدعوا بما يزيفون لكم، وبما يحسنون لكم من البدع والانحرافات الضالة.
أيها المسلمون: إن أعداءكم لو دعوكم إلى الكفر أو الشرك لأبيتم، ولم تجيبوهم، ولكنهم يرضون منكم أن يهدموا أخلاقكم ودينكم من جهات أخرى، من جهات محقرات الذنوب، التي تحتقرونها في عيونكم حتى تجتمع عليكم فتوردكم إلى النار.
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان قد أيس أن تعبد الأصنام في أرض العرب، ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات} وهي الموبقات يوم القيامة، فاتقوا الله -أيها المسلمون- ولا تنخدعوا بما يقدمه لكم أعداؤكم.
إنكم الآن على مفترق طرق، فقد فتحت عليكم الدنيا، وانهال عليكم الأعداء من كل مكان أتيتم بهم إلى بلادكم، وأعززتموهم بعد أن ذلهم الإسلام، ورفعتم قدرهم بعد أن حطهم الإسلام، فإن الإسلام يقول: خذوا منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنتم رفعتم مكانتهم، وأتيتم بهم ليفسدوا في ديار المسلمين.
قدم البعض عليكم بعاداتهم السيئة وتقاليدهم المنحرفة، وسافر البعض منكم إلى بلادهم، وشاهدتموهم في وسائل الإعلام في الصحف والمجلات والتلفاز، فإما أن يكون في دينكم صلابة فتتحطم عليها مكائد الأعداء، وفيكم قوة الشخصية الإسلامية فلا تعتدون ولا تغترون بهم، وتتمسكون بما كان عليه أسلافكم الصالحون، فتنالون خير الدنيا والآخرة.
وإما أن يكون الأمر بالعكس لين في الدين، وضعف في الشخصية، وانهيار أمام المثيرات، فتبوءون بالصفقة الخاسرة فيالها من خسارة لا تعوض! ويا له من كسر لا يجبر! إن انطبق عليكم قول الحق جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
اللهم اجعلنا هداة مهتدين نقول بالحق ونعمل به، اللهم اجعلنا هداة مهتدين نأمر بالمعروف ونأتمر به، وننهى عن المنكر ونجتنبه، اللهم لا تجعلنا ضالين ولا مضلين يا رب العالمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح نساء المسلمين أجمعين، اللهم خذ بأيدينا إلى طريقة النجاة يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأسأل الله بمنه وكرمه أن يغفر لنا جميعاً إنه هو الغفور الرحيم، واستغفروه يغفر لكم.(84/5)
خطر الاختلاط بين الرجال والنساء
الحمد لله كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لأمته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً وكثيراً.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام: اسمعوا القرآن وهو يناديكم بأشرف اسم ألا وهو اسم الإيمان، يقول الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:30 - 31] اسمعوا إلى تفصيل الآية الكريمة، اسمعوا يا من تماديتم في المباحات! يا من بدأتم تفتون لأنفسكم والله سائلكم عن فتاويكم يوم القيامة، يوم توقفون بين يدي الله {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31].
إذاً: ليس في الآية أن يبدين زينتهن للأصدقاء، وليس في الآية أن يبدين زينتهن للأقارب الذين ليسوا لهن بمحارم اسمعوا إلى كلام الله عز وجل تفقهوا في دين الله لا تأخذكم الجاهلية العمياء، اسمعوا قول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
إن إبداء الزينة لا يباح إلا للمحارم فليتفطن لذلك الذين يدعون العقل، ليتفطن لذلك الذين يضربون بهذا القول المبين عرض الحائط، وكأنهم يقولون: لا سمع ولا طاعة إنهم يبيحون الاختلاط فيما بينهم إذا كانوا أصدقاء أو قرابة، ليس فيهم محارم للنساء، فإنهم يجتمعون جميعاً يمازح بعضهم بعضاً، ويأكل النساء والرجال جميعاً، بدعوى باطلة يقولون: إن القلوب نظيفة، سبحان الله! تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
هل كانت قلوبكم يا من تسمرون مع الفيديو والتلفاز أنظف من قلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟
إن بعض الصحابة لو وزن إيمانه بإيمان هذه الأمة لرجح إيمانه بإيمانهم جميعاً، لقد نزل عليهم القرآن بحضرتهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرتهم: {لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا والشيطان ثالثهما} فقالوا: سمعنا وأطعنا، بجميع ما أمرهم الله به من أحكام الدين، فهنيئاً لهم، وأنعم بهم من رجال اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم جاء دورنا في القرن الرابع عشر، وقلنا: قلوبنا نظيفة، وقلنا: لا مانع من اختلاط الأصدقاء ونسائهم، وجلوسهم جميعاً، ولربما سلم بعضهم على بعضهم، وصافح نساء لسن له بمحرم ويفعلون هذا، ويعتبرونه تقدماً وتطوراً ومجاراة للعصر وهذا في الحقيقة معصية لله ولرسوله، وهبوط عن درجة الإسلام والإيمان إلى تقليد أعداء الإسلام والمسلمين {ومن تشبه بقوم فهو منهم} ونقص في إيمان الذين يفعلون هذا وعدم غيرة، فلو كان عندهم غيرة ما ترك الرجال الأجانب يتحدثون مع زوجته بصفتهم أصدقاء، إن هذا يفضي إلى قلة الحياء وعدم المبالاة من النساء.
ومعلوم أن مصافحة المرأة للأجنبي حرام، وفيها وعيد شديد، فاتقوا الله -يا عباد الله- وأقلعوا عن العادات الجاهلية، التي جاء الإسلام ليحاربها ويزيلها، وليكن عندكم من الغيرة والحياء والمروءة ما تحامون به على أعراضكم ونسائكم، وتميزوا عن الغرب، وعن دعاة الشر والفساد بعفتكم وإسلامكم ولا تقلدوهم.
واعلموا أنكم مسئولون أمام الله عن أولادكم ونسائكم، فاتقوا الله -يا أمة الإسلام- غيروا على أعراضكم، وحافظوا على شرفكم، ولا تجعلوا المرأة سلعة بين الأصدقاء وبين الشوارع، خافوا الله وراقبوه وأدوا ما عليكم من الحقوق لعلكم تفلحون وتنجون من عذاب الله يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون.
واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وعليكم بجماعة المسلمين، وعليكم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقتدوا برسول الله وبصحابته الكرام، وإياكم ومحدثات الأمور، وصلوا على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد الذي بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح أئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا جميعاً ما تغضبه وتأباه اللهم واجعلنا هداة مهتدين دعاة إلى سبيلك ناصحين لعبادك يا رب العالمين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك يا رب العالمين.
اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اسقنا غيثاً مغيثا، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، مجللاً طبقاً، عاماً عاجلاً غير آجل، نافعاً غير ضار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(84/6)
تحريم الكبر
إن الله عز وجل ما حرم علينا الكبر إلا لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، وقد ظهر لنا بعضها، وخفي علينا بعضها، والكبر كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: {الكبر بطر الحق وغمط الناس}.
والكبر لا يأتي من فراغ إنما له أسباب منها: العلم، والنسب، والجاه، والسلطان، وغيرها من الأسباب الباعثة إليه.
وله أنواع وله علاج، والكبر من الأسباب التي تمنع قبول الحق واستماع النصيحة، وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة التي تدل على ذم التكبر والابتعاد عنه.(85/1)
سبب تحريم الكبر
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له من بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبير المتعال ذو العظمة والكبرياء والجلال والعزة التي لا ترام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يا عباد الله: اتقوا الله عز وجل واعلموا أن الله حرم الكبر والإعجاب؛ لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل، وليس لمن استوليا عليه قبول النصح ولا قبول التأديب؛ لأن المتكبر يعتقد في نفسه أنه جليلٌ عظيم متعال عن رتبة المتعلمين، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه: {بطر الحق وغمط الناس}.
والكبر والعجب من الصفات النفسية المرذولة، التي كثيراً ما تثير الغضب والحقد، وتورث العداوة والبغضاء، وتورث الاحتقار والازدراء بالناس واغتيابهم.
الكبر يجافي الصدق وكظم الغيظ، وقبول النصح.
الكبر يصد المرء عن النظر إلى عيوبه، ويحول بينه وبين العلم، وبينه وبين الانقياد للحق.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الكبر بطر الحق} معناه: رده ودفعه وعدم قبوله وهو عالم به، سواءٌ كان من حقوق الله أو من حقوق عباده.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {غمط الناس} معناه: احتقارهم وتنقصهم، وذلك ناشئ عن عجب الإنسان بنفسه وتعاظمه عليهم وتنغصهم بقوله وفعله.(85/2)
أسباب الكبر
وللكبر أسبابٌ كثيرة فقد تكون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسلطان، وربما نشأ عن غرور ووهم؛ بحيث يعتقد أنه أكمل من غيره خطأً وجهلاً، وهذا برهان على نقص عقله، ولذلك يقول بعض العلماء: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل من ذلك الكبر، قل أو كثر.(85/3)
العلم
فإن كان الكبر ناشئاً عن العلم كان صاحبه مثالاً سيئاً، وقدوة رديئة، خصوصاً إذا دفعه الكبر إلى صفة ذميمة كالحسد والحقد، أو أفضى به إلى ارتكاب مظلمة من مظالم ارتكبها بيده أو لسانه، فإن ضرر هذا لا يقدر؛ لأن الناس يقتدون بالعلماء في أقوالهم وأفعالهم، فيستسهلون عند ذلك ارتكاب الجرائم وإشباع الصفات الذميمة، كمن يرى بعض العلماء يصلي في بيته، فإنهم يقتدون به ويقولون: الشيخ فلان يصلي في بيته، أو كما يرون بعض العلماء يحلق لحيته ويقولون: ذاك العالم الفلاني يحلق لحيته، أو يقولون: إن العالم الفلاني يستمع الأغاني، أو يقولون: إن العالم الفلاني يستعمل الربا، فإنه صار في هذا شر قدوة وأسوأها، فإن هذا إذا صدر من العلماء فإن فيه شراً عظيماً، وأيضاً لا ينتفع بعلمهم؛ لأنهم يكونون بعد ذلك ضعفاء الإرادة، ومن كان هذا شأنه فإن علمه وبالٌ عليه، وسوف يسأل عن علمه ماذا عمل به.
أما العلم النافع: فهو الذي يربي الأنفس ويطهرها من الصفات الرديئة، ويعرف العبد بربه وبنفسه وخطر أمرها، وهذا يورث الخشية والتواضع، فيكون صاحبه مثالاً حسناً في الناس، وقدوةً صالحة في الأقوال والأفعال، هذا إذا كان الكبر في العلماء.(85/4)
النسب
أما إذا كان الكبر ناشئاً عن النسب، فإنه ربما يكون سبباً للطعن في أنساب الآخرين، وقد يؤدي إلى احتقارهم وازدرائهم، وقد فصل المسألة رب العالمين بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وفصلها رسول الهدى: {لا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى}.(85/5)
الجاه والسلطان
وإن كان الكبر ناشئاً عن الجاه والسلطان، فإنه غالباً يفضي إلى شر أنواع الظلم وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق خلقه، مثل ألا يبالي بهم، ولا يسمع شكواهم وخاصة الضعفاء، ومثل أن يعرض عن النصيحة وعن العلم بالحق، فإنه في هذه الحالة يكون متكبراً مذموماً ممقوتاً.(85/6)
أعظم أنواع الكبر وعلاجه
والكبر أنواع، وأعظم أنواع الكبر: الكبر على الله وعلى رسله، وهذا من أشر أنواع الكبر، ومن أراد علاج الكبر فقد ذكره العلماء، فقال بعضهم: أولاً أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه، فإنه إذا عرف ربه حق المعرفة، علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله جل وعلا، وإذا عرف نفسه علم أنه ضعيفٌ ذليل، لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع لرب العالمين والذلة لله، قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22] ويقول جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] ففي هذه الآيات إشارة إلى خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسط أمره، أما أوله فإنه لم يكن شيئاً مذكوراً، وقد كان في حيز العدم دهوراً، ثم خلقه العزيز الحكيم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعله عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم لما استتم الخلق جعله سميعاً بعد أن كان أصمَّ، وبصَّره بعد أن كان فاقد البصر، وقواه بعد أن كان ضعيفاً، وعلمه بعد أن كان جاهلاً، فمن كان هذا أوله، وهذه أحواله فمن أين له البطر والأشر والكبرياء والخيلاء، وهو الضعيف الحقير بالنسبة إلى قدرة الباري جل وعلا؟!
فليتأمل العاقل -يا عباد الله- هل يليق الكبر بمن هذا أوله؟!
وآخره أنه يسلب روحه! فهذا الإنسان الذي يجول ويصول يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحواسه وإدراكه وحركاته وجماله وجميع أحواله، فيعود جماداً كما كان أولاً، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته، ولا حركة فيه، ثم يوضع في التراب في مثواه الأخير في القبر، فيصير جيفة منتنة كما كان في الأول نطفة قذرة، فتبلى أعضاؤه، وتتفتت أجزاؤها، وتنخر عظامه، ويأكل الدود أجزاءه، ويستقذره الإنسان، وأحسن أحواله أن يعود تراباً كما كان، ثم يحييه الذي خلقه أول مرة، فيقاسي البلاء والشدائد، والأهوال والمزعجات فيخرج من قبره كما أخبر الله تعالى بقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44] فينظر إلى قيامة قائمة، وسماء منفرجة منشقة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وشمس منكشفة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، وجهنم تزفر.
فيا ويل المجرمين مما أمامهم في ذلك اليوم العظيم!
اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال وأحبها إليك، لا يهدينا لأحسنها وأحبها إليك إلا أنت، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين وأنت راضٍ عنا يا كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(85/7)
بماذا يسعد المسلمون؟
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.
إنما يسعد المسلمون بأن يتبعوا الحق ويدعوا إليه، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقبلوا النصيحة ممن ينصحهم، ويعملوا بها راضيةً نفوسهم، شاكرةً ألسنتهم غير مستكبرين ولا متعنتين، ولم يعمهم الهوى عن اتباع الحق، إذ بذلك تكمل لهم السعادة ويتم لهم النعيم.
رجل يأكل عند الرسول صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال له: {كل بيمينك، قال: لا أستطيع -وهو متعافِ ولكن منعه الكبر- فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فقال: لا استطعت! فما رفعها إلى فيه} وقد كثر المتكبرون في وقتنا الحاضر عن قبول الحق، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدي الجميع إلى صراطه المستقيم.
أمة الإسلام: لا تكون السعادة في من فشا فيه داء الكبر، فاستحكم وتكبر عن قبول النصح من الناصح وإرشاد المرشد، فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح كان راضياً عن نفسه، وإذا رضي عن نفسه عمي عن عيوبها، فلا يؤثر فيها نصحٌ ولا ينفع معها إرشاد؛ لأن الغرور متحكم فيها والشهوات محيطةٌ بها، فإذا أراد الله بعبده خيراً بصره بعيوب نفسه، فأصلحها واتهمها دائماً بالنقص، وطالبها بالكمال، حتى تلتحق بالنفوس الزكية والأرواح الطاهرة، وهكذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [[رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي]] هذا دعاء من أمير المؤمنين إلى من يبصره بعيوب نفسه وإلى من يقول له: أخطأت في كذا؟ لماذا عملت كذا؟
رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم يفرحون إذا نبههم أحد بعيوب أنفسهم، ويعدون ذلك من باب النصيحة ولم يتكبروا.(85/8)
بعض الآيات والأحاديث التي تدل على ذم التكبر
وقد ورد في ذم التكبر آيات وأحاديث تبين أنه شر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
في السنة أيضاً مما يحذر من التكبر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: {لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً} ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي: {العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئاً منهما عذبته} ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: {يقول الله جل وعلا: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلٍ جواظ مستكبر} رواه البخاري ومسلم.
التقى عبد الله بن عمر بـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، التقيا على المروة، فتحدثا ثم مضى عبد الله بن عمرو بن العاص، وبقي عبد الله بن عمر يبكي رضي الله عنه، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن، قال: هذا -يعني: عبد الله بن عمرو بن العاص -زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، كبه الله على وجهه في النار}.
وورد أيضاً في الحديث أنه: {يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجنٍ في جهنم يقال له: بولس، تعلوه نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجلٍ: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس}.
عباد الله: الخير والهدي في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم دمر اليهود والنصارى المبشرين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أبعدهم عن بلدان المسلمين يا رب العالمين، اللهم قاتل الشيوعيين، وانصر المجاهدين عليهم يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في برك وبحرك، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك يا رب العالمين، اللهم أظهر بهم الحق ودينك، اللهم أظهر بهم الدين والحق الذي رضيته يا رب العالمين، اللهم أصلح إمام المسلمين وارزقه الجلساء الصالحين الناصحين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعينٍ لنا، واجعلهم هداة مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(85/9)
تذكر يا بني
إن من عظيم حق الوالدين على أولادهما أن قرن الله حقهما بحقه، وجعل رضاه تبعاً لرضاهما، ورفع مكانتهما، وأوصى بهما حتى لو كانا كافرين، فكيف بالمسلمين؟! وقد تحدث الشيخ عن هذه المسألة، وأتى بأدلتها من الكتاب والسنة، وعن سبب رفع الإسلام للوالدين ولحقهما، وبين المشاق والآلام التي يلاقيها الوالدان في تربية الأبناء، وما هي النتيجة السيئة التي يحصلها كل عاق لوالديه.(86/1)
عظم حق الوالدين في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين، فصلوات الله وسلامه عليه حيث بلغ البلاغ المبين، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: أطيعوا الله، وإن من طاعة الله سبحانه وتعالى الإحسان إلى الوالدين، فإن الله سبحانه وتعالى عظَّم حق الوالدين، فقرن حقهما بحقه وشكرهما بشكره، فيا له من أمرٍ عظيم! ويا له من حقٍ كبيرٍ! فاسمعوا إلى المولى جل وعلا وهو يقرر ذلك في محكم البيان فيقول:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
الله أكبر! هذا كلام الله جل وعلا ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رضا الله من رضا الوالدين، وسخط الله من سخط الوالدين} وسأل ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها.
إحداها قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، والثانية: قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فمن صلى ولم يزكِ لم يقبل منه، ومن زكى ولم يصل لم يقبل منه، والثالثة: قول الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فمن شكر الله ولم يشكر والديه، لم يقبل منه]].
أيها المسلمون: لنعرف حق الوالدين؛ لأن حقهما عظيم، وأمره خطير، فإن من حقوقهما: الحنو والشفقة عليهما، والتلطف لهما، ومعاملتهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه على أن الفضل للمتقدم.
أيها المسلم: يا من تحب أن تجزى بالإحسان إحساناً! عامل والديك بالإحسان والتلطف بهما، ولا تتأفف من أي شيء تراه أو تشمه من الوالدين مما يتأذى منه الناس، واحذر الضجر والملل، ولا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به، وقل لهما -امتثالاً لأمر الله- قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتقدير، ولا ترفع صوتك عليهما، وتذكر -يا عبد الله- عندما كنت طفلاً صغيراً ماذا حصل لك من الرعاية والعطف والحنان واسمع هذا الحديث: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد في سبيل الله معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} رواه البخاري ومسلم.
فياله من حق عظيم للوالدين! ومما ورد في الحث على بر الوالدين: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد في سبيل الله ولا أقدر عليه.
فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحدٌ؟ قال: أمي، قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمرٌ ومجاهدٌ} وقال طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه وأرضاه: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: أمك حية؟ قلت: نعم، قال: الزم رجليها فثم الجنة}.(86/2)
سبب الإحسان إلى الوالدين
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
ولعل البعض قد يقول: لماذا للأم ثلاثة حقوق؟ ولماذا يوصي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة حقوق؟
أقول لك يا عبد الله! -وأنت تعرف ذلك إذا أنصفت نفسك-: إنها تنفرد بأشياء كثيرة من المشاق والمتاعب والمصائب والأمراض والهموم والغموم، ومنها الحمل والوضع والرضاع، وكثرة الشفقة والخدمة والحنو فهذه أمك عندما كنت في بطنها إذا تحرك الجنين آذاها في أحشائها، وإذا سكن ذلك الجنين جعلت تضع يدها على بطنها لماذا لا يتحرك؟ ما الذي حصل له؟ فهل نقدر ذلك يا عباد الله؟
فيا لها من حقوق تحتاج إلى مجازاة، ووالله ثم والله مهما بالغ البار بالوالدين لم يؤد من الحقوق إلا القليل.
فيا أيها العاق: يا أيها المضيع لأعظم الحقوق! يا من استعاض من بر الوالدين بالعقوق! -وما أكثر من عق الوالدين في هذه الأزمنة المظلمة! - يا من نسي ما يجب عليه من الحقوق! يا من غفل عما في يديه! ألم تعلم أن بر الوالدين ديَّنٌ عليك، فهل وفيت بهذا الدين؟ فإنك سوف تجد غب ذلك من أولادك يا أيها العاق: يا من نسي الجميل! هل نسيت حملك في بطن أمك تسعة أشهر وكأنها تسع حجج؟
هل نسيت ما حصل للأم من الكرب حين وضعك؟ فقد حصل والله ما يذيب المهج.
هل نسيت الرضاع؟
هل نسيت غسلها منك القاذورات بيدها؟
هل نسيت ذلك السرير الذي في وسط حجرها؟
هل نسيت عندما تفز في الليل المظلم، في الليل البارد، في الليل الشاتي، ثم تضفي عليك الغطاء؟
هل نسيت الأم يا عبد الله؟
إنها تتعب لراحتك، فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والبكاء، وبذلت ما في وسعها لترتاح، ولو خُيرت بين حياتك وموتها، لاختارت حياتك بأعلى صوتها وكم حرمتها لذيذ المنام، فسهرت والناس نيام، وكم تلذذت برائحة ملابسك عند فقدك فيا لها من حقوق قابلها بعض الناس بالعقوق والنسيان عندما احتاجت إليه هذه الأم المسكينة، جعلها من أهون الأشياء عليه، نسيها وقدم عليها الأهل والأولاد بالإحسان، وقابل يديها بالنسيان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
إنها أمك صَعُب عليك أمرها وهو يسير، فكم طلبت منك حاجة فقابلتها بالامتناع والاعتذار، وربما قلت بكل شناعة: اللهم أرحنا من هذه العجوز! أنسيت يا هذا زمن الطفولة؟! وربما دعتك لتنقذك من النار، ربما أيقظتك للصلاة، أو لطلب المعاش، فتقابلها بكل وقاحة: اللهم أرحنا من هذه العجوز! الله أكبر يا عباد الله! كيف قابل العاق هذا الإحسان بالتقصير وهجرها، وما لها بعد الله سواه من مصير، هل نسي فزعها عندما يصيبه خوفٌ أو مرض؟!
ثم تذكر يا من نسي الجميل! ويا من عق والده وأبعده! يا من اجتمع مع من اجتمع ليطلب مركزاً ليضم العجائز والشيوخ وكبار السن! أنسيت أباك؟! أنسيت والدك؟! ألم تتذكر تلك اللحظة -والله إنك لا تتذكرها- تلك اللحظة عندما بشر الأب بمجيئك، امتلأ فرحاً وسروراً، ثم بدأ يفكر بأي اسمٍ يسميك تذكر تلك الساعة، وتلك اللحظات، تذكر كدَّ والدك عليك فلا يهدأ على مدى الليالي والأيام يقتحم الشدائد، ويهيم على وجهه لطلب الرزق لأجلك، وتذكر فرحه عندما يراك وأنت في خير وعافية، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك في أوقات الإجابة، وتذكر كيف يكون حاله إذا تأخرت عن وقت المجيء، فهو يتململ كأنه على الجمر حتى تحضر وحتى تدخل البيت، لا يقر له قرار، ولا يهنأ بعيش حتى يراك.
فيا أيها العاق! اعرف حق الوالدين هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فحذار من العقوق، فقد قال رسول الهدى ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة عاق} وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله العاق لوالديه} وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من سب أباه، لعن الله من سب أمه}.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أصلحنا وأصلح نياتنا وذرياتنا، واجعلنا من البارين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(86/3)
عقوبة عقوق الوالدين
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا ما جاء في الكتاب والسنة المطهرة، وتمسكوا بهما؛ فإن الإعراض عنهما يوحي بوخامة العاقبة.
عباد الله: لقد ظهرت في هذه الأزمان المظلمة موجةٌ قويةٌ من العنف والسخط من بعض الأبناء والبنات للآباء والأمهات، وظهر من عدم الاحترام والتوقير، وما ذلك -يا عباد الله- إلا لأننا أعرضنا عن الكتاب والسنة، ففي القرآن والسنة نبأ عظيم، وفيه أن بر الوالدين فريضة لازمة، وواجب محتم، وعقوقهما حرام وذنب عظيم، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته.
فيا إخواني في الله: ألا يكفي بهذا الوعيد؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث} والديوث: هو الذي يقر الخبث في أهله.
فالشاهد من هذا الحديث: أن العاق لا يدخل الجنة، ومن عق والده ووالدته فسوف يقيض الله له من يعقه عند الكبر.
ولقد سمعتم بقصة الشاب الذي طلبت منه والدته أن يوصلها إلى بعض أقاربها، ووقف في وجهها، وهو يعطيها من الشروط، ويتوعدها إن تأخرت عن نصف ساعة، فلبت طلبه، وقال: إذا أتيت إلى الباب، وسمعت بوق السيارة ولم تخرجي فسأذهب وأتركك، فلما أتى بعد نصف ساعة، وأعلن بوق السيارة ولم تخرج الأم، ذهب غاضباً مغضباً على أمه، وارتطم بحجرة كبيرة وهو الآن لا يستطيع أن يجلس، ولا يستطيع أن يمشي ولا يتحرك إلا بلسانه، وهذا -والله ثم والله- بعض من العقوبة بسبب عقوقه والدته.
وهذه قصة أخرى: كان شابٌ شريرٌ مدمنٌ للخمور، وكانت أمه تعظه وتنهاه عن هذه الطرق السيئة، ولكن كلما وقفت تنصحه، أشهر السكين في وجهها، فاستدعت رجال الأمن ليأخذوه، فأتوا وقالوا: نسجنه؟ قالت: لا، عالجوه انظروا إلى رحمة هذه الأم وحنانها فأدخل تحت العلاج، ولما مكث شهراً تحت العلاج، وخرج واتصل به قرناء السوء التي كانت تحذره منهم، اتصلوا به وأخذوه وبات عندهم ليلة، فاتصلت برجال الأمن: أين ابني؟ فبحثوا عنه، ووجدوه مرمياً في برميل القمامة!
فإنه لما اتصل به جلساء السوء الذين كانت تنهاه الوالدة الحنون عن مرافقتهم ومصاحبتهم، اتصل بهم تلك الليلة، وأعطوه إبرة الهروين المدمر للمجتمعات وللشعوب، وهو نوع من المخدرات، دخل علينا عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين حسداً وحقداً على الإسلام وأهله، فلما أعطوه تلك الإبرة مات بين أيديهم، وأصبح جثةً هامدةً، وصاروا يبحثون عن الخلاص، ولكن ما هو الخلاص؟ وما هي النهاية؟! لقد حملوه وألقوه في برميل الزبالة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
انظروا -أيها الإخوة في الله- ماذا حصل من أثر العقوق وعواقبه وأصبحت هذه الأم في حالة حزنٍ شديدٍ عندما فقدت هذا الابن، وربما أهدت إليه الدعوات، وهي طالما أسدت إليه النصائح، ولكن لما عصى نصيحتها، مات شر ميتة، وحمل شر حمل، ووضع في برميل الزبالة، فتذكروا ذلك، وتفطنوا له.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا بارين يا رب العالمين.
ولكن إلى هذه الشفقة من هذه الأمة الحنون تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: {جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتيها -شقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بين ابنتيها- فأعجب شأنها ذلك عائشة رضي الله عنها، فذكرت الذي صنعت المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنها لما رفعت تلك التمرة وهي محتاجة إليها، استطعمتها تلك البنتين وشقتها بينهما، فأعطت كل واحدة نصف تمرة، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أوجب لها الجنة، أو أعتقها بها من النار} أي بهذه التمرة، فانظروا إلى هذا الجزاء العظيم من الله! فيا للأسف الشديد لما يصنع بعض أهل هذا الزمان مع الوالدين من التقصير الشديد والعقوق!
أيها الإخوة: علينا أن نتقرب إلى الله، ونطيع الله جل وعلا حتى لا يسلط علينا أولادنا أو أهلنا، يقول بعض السلف: [[إني لأعصي الله وأرى ذلك في خلق دابتي وولدي وزوجتي]] فالله الله في التوبة النصوح والرجوع إلى الله عز وجل.
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، الله أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تغيث قلوبنا بالإيمان.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله كما أمركم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين وأهله، اللهم انصر من أراد إعلاء كلمة (لا إله إلا الله) يا رب العالمين، اللهم اخذل من خذل الدين وأهله، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين والملحدين والعلمانيين والبعثيين يا رب العالمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم دمرهم تدميراً يا سميع الدعاء، يا قريب الإجابة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، مجللاً طبقاً عاماً يا رب العالمين، نافعاً غير ضار، اللهم سقيا رحمة، اللهم إنا نستسقيك يا رب العالمين سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرقٍ، اللهم أحي بلدك الميت، اللهم أحي بلدك الميت يا رب العالمين، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة، يا من لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(86/4)
تارك الصلاة
اعتنى الإسلام بالغذاء الروحي للمسلمين، ومن هذا الغذاء الصلاة، فقد فرضها الله على كل مسلم بالغ عاقل، وقد تحدث الشيخ عن أهميتها وترغيب الله ورسوله فيها والحث عليها والتحذير من التهاون بها، وأورد الشيخ حكم تاركها بالكلية، وما يتبع هذا الحكم من لوازم تجري عليه في حياته وبعد مماته.(87/1)
ترغيب الله ورسوله في الصلاة
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، وصلة قوية بين العبد وبين رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة، له الركوع والسجود والخضوع والإنابة، وتفويض الأمور إليه والتوكل عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفقه المصلين، وإمام الخاشعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا على صلاتهم يحافظون، ويسارعون إلى الخيرات، وهم لها سابقون، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيقول ربكم جل وعلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
عباد الله! يا من تؤمنون بكتاب الله حق الإيمان، إنه في كثير من سور القرآن الأمر بإقامة الصلاة والمحافظة عليها وعلى الخشوع فيها، وقد رغب الله في ذلك ووعد بالفردوس من امتلأت قلوبهم من حب الصلاة والشوق إليها والإقبال عليها؛ لأنها الصلة بين العبد وبين الله، يقول جل وعلا وقوله حق لا يخالف ولا يمانع: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] هكذا جزاء من أقام الصلاة على الوجه الذي يتطلب منه.
وكذلك يأتي الترغيب في السنة المطهرة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم ويقول: {أرأيتم لو أن نهراً في باب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من درنه شيء؟ قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا} لا إله إلا الله! فضل عظيم من الله لمن يسر له أداء الصلوات في أوقاتها، رواه البخاري ومسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {الصلوات الخمس} انتبه يا من تختصر الحديث، وتب في نفسك، فهي أمارة للسوء، بعض الناس يأخذ بجملة من هذا الحديث، ويترك الباقي، فالحديث يقول: {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تؤت الكبائر} رواه مسلم والترمذي، وهذا الحديث صحيح، ولكن بعض الذين قصرت معرفتهم عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصلي إلا يوم الجمعة، وينفي عن باقي الأسبوع، فنقول لهم: احذروا ولا تكونوا مثل اليهود عليهم لعنة الله، فإنهم لا يؤمنون بكل ما أمروا به، بل قالوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150] عياذاً بالله من أقوالهم.
عباد الله! إن كنتم آمنتم بالله وبرسوله، فخذوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، قولوا كما قال أسلافكم بالله حقاً: سمعنا وأطعنا.(87/2)
عقوبة المتهاونين بالصلاة
عباد الله! إن ترك الصلاة بالكلية كفر يخرج عن ملة الإسلام والعياذ بالله! وسوف يكون مسكن تارك الصلاة في سقر، وسقر طبقة من طباق جهنم، أما المتهاونون عن الصلاة والمتأخرون عنها، ولا يبالون أصلوها في أوقاتها أو أخروها عن أوقاتها، فسوف يلقون غياً، وهو واد في جهنم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] كم وقت من أوقات الصلاة تذهب وتمضي ونحن في انتظار الشوط الأول والأخير! كم وقت يمضي ونحن ننتظر متى نقضي لعبة البلوت والكنكان! كم من أوقات تنقضي ونحن أمام شاشة التلفاز وما يبثه لنا من برامج وأفلام! {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
وأما الذين يصلون، ولكن لا يصلون الصلاة إلا بعد خروج وقتها، فأولئك موعدهم ويل، وويل واد في جهنم لو صيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره أجارنا الله من ذلك!
عباد الله! حافظوا على الصلوات في جميع أوقاتها، وأقيموها وصلوها بخشوع وطمأنينة، وأدوها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها تحوزوا الأجر العظيم، والبعض من الناس الذين لا يأتون إلى الصلاة إلا وهم كسالى يتمايلون من الكسل، وكأن النوم في أعينهم، وكأنهم مغصوبون على أداء الصلاة، ولو زادت الصلاة دقيقتين لخرج من المسجد؛ لأنه لم يأت إلى الصلاة عبادة، وإنما أتى عادة.
عباد الله! حافظوا على الصلوات بجميع أوقاتها، وأقيموها وصلوها بخشوع وطمأنينة، أدوها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها، تحوزوا الأجر العظيم، والرضا من رب العالمين، ففي الحديث: {من حافظ على الصلوات الخمس، ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حقاً من عند الله} أي: علم أن الصلاة حق من عند الله، فرضها الله على عبادة، وليست عادة {وجبت له الجنة أو قال: حرم على النار}.
ولما سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله، قال: {الصلاة على وقتها، الصلاة على وقتها، الصلاة على وقتها} كذلك يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: {من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف} وبئس القرناء!
يا عباد الله! من اشتغل بأمواله وتجاراته ووزارته وولده وملاذِّه عن الصلاة؛ فإنه يكون مع هؤلاء: قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، كذلك الذين يسهرون على الملاهي ولعب القمار والميسر والورق وغيرها، ويقضون الصلاة ويؤخرونها عن أوقاتها، وذلك لانتظار الشوط الأول والأخير؛ هم كذلك إذا لم يتوبوا فسيحشرون مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف، إذا جاءت الصلاة ناموا عنها، ثم يقولون: نحن لم نستيقظ، يقضون ست ساعات مع السهر، ثم يقولون: لم نستيقظ، محال يا عباد الله! السهر والقيام مبكراً، ولكن نم مبكراً تقم مبكراً، اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه {كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها}.
نعم يا عباد الله! الخير كل الخير، والسعادة والنجاة والفلاح في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع شئون الحياة، إن كنا مؤمنين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].
اللهم اهدينا في من هديت، وعافينا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وأجرنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن أبداً ما أبقيتنا، اللهم اجعلنا ممن حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتهن وأداهن على الوجه الذي يرضيك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(87/3)
حكم تارك الصلاة
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأشكره، وبه أستعين على أمور الدين والدنيا، فإنه خير معين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، أفضل من صلى وصام وقام، وتهجد لله رب العالمين، جاهد في الله حق جهاده، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله عز وجل، وامتثلوا أمره واجتنبوا نواهيه، وأدوا الصلاة في أوقاتها المفروضة التي أوضحها الشارع الحكيم، واعلموا أن تأخير الصلاة عن وقتها حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وترك الصلاة بالكلية كفرٌ محض مخرج عن الإسلام، واعلموا وتيقنوا حق اليقين أن تارك الصلاة كافر، ولا يجوز للمسلم أن يزوجه من امرأة مؤمنة، وإذا مات تارك الصلاة لا يُورث ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا تجوز مؤاكلته ولا مجالسته ولا مصاحبته ما دام تاركاً للصلاة؛ لأنه كافر يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وأقام الصلاة؛ وإلا قتل حداً بالسيف مرتداً كافراً، هكذا يقول علماء المسلمين عليهم رحمة الله.
أيها السلمون! إن السكوت عن تارك الصلاة لا يسمح به الإسلام، وإنما نتج ذلك من نقص الإيمان وعدم المبالاة بأداء هذا الفرض العظيم الذي هو أحد أركان الإسلام بعد الشهادتين، الصلاة الصلاة يا عباد الله! الصلاة الصلاة يا أمة الإسلام! فإنها الركن العظيم بعد الشهادتين، فكيف يليق بالمسلمين أن يهملوا هذا الركن العظيم؟! وذلك بعدم التآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك يوجد كثير من أهل المحلات في محلاتهم لا يشهدون الصلاة مع المسلمين، بل يرخون الأبواب عليهم، ويحسبون أن الله لا يعلم بهم، ويحسبون أن الله لا يطلع عليهم وهم في محلاتهم، بل الله يعلم ما تخفي الصدور، وكيف لا يعلمك به في وسط محلك أيها الآثم وهو الله العليم الحكيم؟
وبعض الموظفين في دوائرهم والعمال في أعمالهم لا يشهدون الصلاة، وكذلك المجاورون للمساجد لا يشهدون الصلاة إلا القليل، ولو قلت لأحدهم: إنك كافر بتركك للصلاة لأوقفك -عند الحد الأقصى- وأخرج لك الهوية، وقال: انظر أنا مسلم ولا أصلي إلا إذا ذهبت إلى البيت، الله أكبر يا أمة الإسلام! إسلامٌ باللسان والهوية ومعاندة لرب العالمين بالفعل.
أيها المسلمون! إن خلو المساجد من كثير من الشباب يحزن القلب، ويندي الجبين، ويحز في النفس، ويرجع ذلك لمصلحة أعداء الإسلام الذين يحاولون ليل نهار إبعاد المسلمين عن دينهم الحنيف وعن تعاليم الإسلام وعن أخلاق الإسلام الفاضلة المؤهلة للنصر والتمكين في الأرض.
فيا عباد الله! حافظوا على صلواتكم وتآمروا بها، ومروا أهليكم وأولادكم بها؛ فإنهم أمانة في أعناقكم، فالصلاة آخر وصية محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان في آخر نفس يلفظه وهو يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم} فجدير بكل مؤمن أن يحافظ على وصيته صلى الله عليه وسلم، فأدوا الصلاة جماعة في بيوت الله، ولا تغتروا بمن عميت بصائرهم، وتحجرت قلوبهم، واشتد الران عليهم، فأصبحت أنفسهم الأمارة بالسوء تزين لهم فعلها في البيوت، كأنهم لم يسمعوا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه همَّ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في المساجد بالنار؛ لأنهم تخلفوا عن أداء فرض من فروض الله في بيت من بيوت الله، ولم يمنعه من ذلك صلى الله عليه وسلم إلا ما في البيوت من النساء والصبيان الذين لم تجب عليهم الصلاة.
عباد الله! إن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حيث أمركم الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحابه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد بالإسلام والمؤمنين سوءاً فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم مزق أعداء الإسلام والمسلمين تمزيقاً، اللهم ألق عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر المسلمين عليهم في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم ردنا وإياهم إليك رداً جميلاً، اللهم من أراد إفساد شباب الإسلام والمسلمين، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العلمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(87/4)
تصوروا
يتحدث الشيخ في هذه الخطبة عن بعض الصحابة حين احتضروا وكيف كان احتضارهم، وحالة الاحتضار سوف يمر بها الجميع، ومن وقت الاحتضار تبدأ رحلة الانتقال إلى الدار الآخرة، فإذا مات غسل، ودفن في قبره، وسأله منكر ونكير، وفتح له باب من الجنة أو من النار، ثم هو في يوم القيامة حاله كما كان في قبره من يسر أو عسر في الحساب، وكل هذا يبشر به من حين الاحتضار إذا رأى ملائكة بيض الوجوه أو سود الوجوه.(88/1)
حسن الخاتمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
عباد الله: لقد سمعتم في الخطبة الماضية الحث على التوبة النصوح، وسمعتم في الخطبة التي قبلها آثار الذنوب والمعاصي على البلاد وعلى العباد وعلى المجتمع، نسأل الله أن يرزقنا توبةً نصوحاً، ونسأله حسن الخاتمة.
عباد الله: إن العبد إذا تاب وأناب وأقبل على الله بالأعمال الصالحة؛ فإنه يرجى له حسن الخاتمة -بإذن الله تعالى- وبالعكس من ذلك إذا كان من الذين عصوا الله، وذهبت حياتهم في غير طاعة الله عز وجل، وأطاعوا الشيطان في جميع ما يأمرهم به من المخالفة والعصيان، فتعدوا الحدود وارتكبوا المحرمات؛ فإنه لا يؤمن عليهم من سوء الخاتمة، والعياذ بالله.(88/2)
صور من حسن الخاتمة
عباد الله: قد أزعج خوف سوء الخاتمة قلوب الخائفين، وأسهر عيون العابدين، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المكثرين لرواية الحديث، لمّا حضرته الوفاة بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: [[بعد السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار]] الله أكبر! هؤلاء الرجال الذين خافوا الله عز وجل، وعظمت محبة الله في قلوبهم.
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة، جعل يجود بنفسه وقال: [[ألا رجلٌُ يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجلٌ يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجلٌ يعمل لمثل ساعتي هذه؟]].
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لمّا حضرته الوفاة شهق، ثم أغمي عليه ثم أفاق، وقال: [[مرحباً مرحباً، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له: ماذا ترى؟ قال: هذا رسول الله وأخي جعفر، وعمي حمزة، وأبواب السماء مفتحة، والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرونني، وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور العين، وهذه منازلي في الجنة، لمثل هذا فليعمل العاملون]] ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه.
عباد الله: أمة الإسلام! إن حالة الاحتضار سوف تمر بكل إنسان، فالموفق من وفقه الله وألهمه وثبته على القول الثابت، فإن المؤمن الذي قد عاش على طاعة الله وذكره عندما يقال له: قل لا إله إلا الله؛ يبادر بها ويرفع بها صوته، ومع ذلك هو فرحٌ بالموت مشتاق؛ لأن الله جل وعلا اشتاق للقائه، والبشرى تزف إليه، وملائكة الرحمة تنزل إليه لقبض روحه.(88/3)
مواقف من بداية الانتقال إلى الآخرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} -استقاموا على طاعة الله- {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] هكذا المؤمن -يا عباد الله- تبشره ملائكة الرحمة بهذه البشرى التي تقرءونها في كتاب الله عز وجل ويقول الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28 - 30].
وأما الصنف الآخر من الناس الذين عاشوا على غير طاعة الله، وغفلوا عن ذكره سبحانه، فحالة احتضارهم مخيفة، حتى جلساؤهم من أقاربهم يفرون منهم، فإنه يقال لأحدهم: قل لا إله إلا الله وإذا به يلهج بما كان عليه من الاشتغال بغير طاعة الله.
عباد الله: اعلموا أن سكرات الموت عظيمة، وأن الألم المصيب للبدن إنما يدرك بواسطة الروح، وإذا وصل الألم إلى نفس الروح فلا تسألوا عن كربه وألمه، حتى قالوا: إنه أشدُ من ضرب بالسيوف، ونشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ومع ذلك فإنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم تجدونه في سكرات الموت يود أن يصيح بكل ما في وسعه، ولكن الموت وسكراته قد أو هنته إلى الأرض، حتى إذا نزل به هادم اللذات قهر كل قوة، وضعَّف كل جارحة، فلم يبق له قوة -في الاستغاثة - أما العقل فقد غشيته وشوشة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد خدرها وضعفها، فإن بقيت فيه قوة، سمعت له خوراً وغرغرةً من صدره وحلقه يريد أن يتكلم ولكن لا يستطيع {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أين الأطباء؟ أين الممرضون؟ لا يفيدونه بشيء {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] وعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وتغلق أبواب التوبة.(88/4)
موقف نزع فيه الروح
تصور -يا أخي- صرعة الموت بنفسك! وتصور نزعه لروحك! وتصور كربه وسكراته وغمه وقلقه! وتصور ظهور الملك لجذب روحك من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع منتهاه، وقلبك وجلٌ محزونٌ، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب، ثم تخرج الروح ويتبعها البصر.(88/5)
موقف الغسل والتكفين
وتصور -يا أخي- تجريدك من الثياب بين يدي المغسلين ليغسلوك، وأنت قبل ذلك لا ترضى أن تُرى عورتك، ثم هم بعد ذلك يقلبونك على المغتسل، ثم تلف عليك الأكفان، وتقدم ويصلون عليك صلاةً لا ركوع لها ولا سجود، ثم يحتملونك إلى قبرك وحيداً فريداً لا تلفاز، ولا فيديو، ولا تلفون، ولا عمال، ولا مؤسسة، ولا شركة، ولا مليار ولا مليون، إلا عملك إن كان صالحاً.
فكر يا عبد الله! وأطل التفكير، وأكثر من العمل الصالح، فإن رزقك مضمون، وأما الخلاص يوم القيامة فليس لك بمضمون {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية:15].(88/6)
أهوال القبر وظلمته
ثم يحتملونك إلى قبرك وحيداً فريداً، ويصفون عليك اللبنات، ويا ليتهم يجلسون عندك ثانيةً أو دقيقةً في قبرك، ليروا ما أنت فيه من الظلمات ولكن يضعونك في صدعٍ من الأرض ثم يهلِّون عليك التراب، ثم بعد فراقهم -وأنت تسمع قرع نعالهم- يأتيك منكر ونكير، ويجدَّا في سؤالهما لك: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فتصور أصواتهما يا عبد الله! تصور أصواتهما عند ذلك السؤال! فإنه ليس سؤالاً من مدرس أو معلم في الدنيا، إنهم ملائكة لا يقبلون رشوة، ولا يقبلون واسطة تصور قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] والله إنه سوف يقع بنا ذلك، فيا ليت شعري ماذا سيكون الجواب؟
فيا عبد الله: إن كنت مؤمناً فسوف تقول: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام وهنيئاً لمن أجاب، وويلٌ لمن تلجلج في الجواب، والويل لمن قال: هاه هاه لا أدري فمن ثبته الله وأحسن الجواب قالوا له: انظر إلى مقعدك من النار، فقد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، وعنده عمله الصالح في صورة شاب حسن الثياب طيب الريح، يقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وأما من تلجلج في الجواب، ولم يقل: ربي الله، وديني الإسلام، وونبيي محمد، بل قال: هاه هاه قالوا له: كذبت، ويضربانه بمرزبةٍ من حديد، ويفتح له باب إلى النار، ويأتيه من حرها وسمومها، وعنده عمله الخبيث بصورةٍ بشعةٍ، رائحته منتنة، ومنظره مزعج، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
فيا لها من حسرة! ويا لها من ندامة! ويا لها من عثرة لا تقال! وإذا أذن الله عز وجل بانقضاء الدنيا وزوالها، وماتت كل نفس، ولم يبق إلا الجبار جلَّ جلاله منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه يقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].(88/7)
موقف البعث والنشور
ثم يحيي المولى جلَّ جلاله إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصورة نفخة البعث، ويأمر الله ملكاً ينادي على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية! والأوصال المتقطعة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] يوم الخروج من القبور، فتأمل -يا أخي- الوقوف في ذلك اليوم، وأنت منفرد عريان خائف، وقد أُدنيت الشمس من رءوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش الرحمن لأوليائه وعباده الصالحين.
ثم ازدحمت الخلائق وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، ومالت الأعناق، وتقطعت من شدة العطش والخوف، وحشرت الوحوش منكسةً رءوسها لهول يوم القيامة.(88/8)
مجيء جهنم
تأمل -يا عبد الله- مجيء جهنم وهي تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال الله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] الله أكبر! تصوروا -يا عباد الله- وقوفنا في ذلك اليوم، فسوف نقف فيه جميعاً اعتبر يا مسكين! ارجع يا مغرور فسوف نقف جميعاً، وليس هذا الكلام خاصاً للصحابة رضي الله عنهم، بل لكل من خلق الله على وجه البسيطة حتى الوحوش تحشر ويفصل بينها، يؤخذ للشاة الجماء من القرناء ثم يقال لها: كوني تراباً، وعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23] يتذكر يوم القيامة، يوم لا تنفع الندامة، يوم لا تنفع الذكرى، وأين هذا التذكار يا عبد الله؟! أين هذا التذكار في الدنيا وأنت تسرح وتمرح وتقضي أوقاتك فيما يغضب رب العالمين؟! أين هذه الذكرى يا غافل؟! أين هذه الذكرى يا ميت القلب؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] مستحيل يا عبد الله! وأنى له الذكرى؟ لا يستفيد من ذلك شيئاً.
عند ذلك إذا جيء بجهنم، فلا يبقى ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسلٌ إلا جثا على ركبتيه يقول: يا ربِ! نفسي نفسي فتصور ذلك الموقف المهيب المفزع الذي تشيب من هوله الولدان! تصور نفسك عندما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب! قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37].(88/9)
تطاير الصحف
عباد الله: تأملوا الصراط والميزان، وتقسيم صحائف الأعمال، إما باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] هذا هو الأكبر يا عبد الله: {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] لأنه ما درس على شيوعي، ولا على ملحد، ولا على نصراني، بل درس على مؤمن تقي، علَّمه ما ينفعه في دينه ودنياه، أما الذين درسوا على الشيوعيين فقد علموهم علوم الطبيعة، فأنكروا وجود الله، وأنكروا قيام القيامة، وأنكروا الجنة والنار، فقلوبهم ممسوخة -والعياذ بالله- {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:19 - 23] ثم يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] هل ذلك في الفندق؟ أم في قصر الأفراح؟ في موضع ينتهي وقته وينتهي زمانه؟ لا.
بل في جنة الخلد لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، نعيمهم دائمٌ سرمدي {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: بما أسلفتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا.
ثم يأتي الصنف الثاني الذي يعطى كتابه بشماله، قد رسب في الامتحان الأكبر يوم القيام بين يدي رب العالمين، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28] المليار الذي يحارب به رب العالمين في كل مكان باستعمال الربا والقمار {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] ثم يقال للزبانية: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة:30 - 32] تصور -يا عبد الله- هذه السلسة! وما ظنك بهذه السلسلة وهي سبعون ذراعاً بذراع الملك، لو وضعت حلقة من هذه السلسلة على جبلٍ من جبال الدنيا؛ لتركته تراباً!!
أيها الإخوة في الله: أوصيكم ونفسي المقصرة الظالمة بتقوى الله عز وجل، والرجوع إليه، فلنرجع -يا عباد الله- إلى أرحم الراحمين، ولنتب إلى أكرم الأكرمين، ولنجدد صلتنا مع الله، لعل الله أن يرحمنا وأن يعطينا كتابنا باليمين إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(88/10)
يوم القيامة وأهواله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وما أدراك ما يوم الدين، يوم القيام لرب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله
عباد الله: يقول الله عز وجل: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم:47 - 52].
عباد الله: سيأتي يومٌ يتغير فيه هذا العالم، فتنفطر فيه السماء، وتنتثر فيه الكواكب، وتطوى السماء كطي الصحيفة، يزيلها الله عز وجل ويطويها كما بناها بقدرته التامة، وتبدل الأرض غير الأرض، وينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم أحياءً كما كانوا في هذه الدنيا، يقومون حفاةً عراةً غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشدُّ من أن يهمهم ذلك} الله أكبر يا عباد الله! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك.(88/11)
حال الكافر يوم القيامة
وفي ذلك الموقف يحشر الكافر أعمى لا يرى، أصم لا يسمع، أخرس لا يتكلم، وإن كان قبل في الدنيا يتكلم ويؤذي المسلمين يتكلم بالكلمات البذيئة، وينشر في الصحف ما يغضب الله ورسوله، فإنه يوم القيامة أخرس أصم لا يتكلم، يمشي على وجهه في غاية الإهانة أسود الوجه، أزرق العينين، في منتهى العطش، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ليس بينهم في ذلك الموقف وبين الشمس إلا مقدار ميل في ذلك الموقف العقول ذاهلة، والأبصار شاخصة للحي القيوم، ثم يؤمر بهذا الكافر ويسحب إلى جهنم والعياذ بالله.
وأما المؤمنون -أسأل الله أن يجعلنا منهم بمنَّه وكرمه وإحسانه- فإنهم ينعمون في جنات عالية قطوفها دانية، ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] اللهم اجعلنا منهم ومعهم بجودك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الناصح الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، فاحذروا من محدثات الأمور يا عباد الله، احذروا من المحدثات التي يروجها أعداء الإسلام والعقيدة، وأعداء الأخلاق والآداب، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، صلوا على رسول الهدى الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، امتثالاً لأمر الرءوف الرحيم حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً} وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(88/12)
تعظيم بيوت الله
إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق جنهم وإنسهم من أجل غاية واحدة، وهي: عبادته سبحانه وتعالى، وشرع لهم أوقاتاً للعبادة والطاعة وأماكن يعبدون الله فيها، وهي أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه هي المساجد المباركة، ولذلك لابد من تعظيمها واحترامها قولاً وفعلاً، وعمارتها بطاعة الله جل وعلا، وقد تطرق الشيخ في هذه الرسالة إلى الكلام حول تعظيم بيوت الله وما يجب على المؤمنين نحوها من كل الجوانب.(89/1)
عمارة المساجد بذكر الله والصلاة
الحمد لله أذن في بيوت أن ترفع ويذكر فيها اسمه، أحمده وأشكره أن هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
عباد الله: لقد فرض الله على الأمة الإسلامية خمس صلوات في اليوم والليلة، وصح في الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وتفصيل أوقاتها وشروطها ومكملاتها، وفي فضلها وكثرة ثوابها.
فمن فضائل الصلاة أنها عمود الإسلام، وأنها أعظم عبادة يحصل فيها الخضوع والذل لله رب العالمين وامتلاء القلب من الإيمان بالله وتعظيمه.
عباد الله: لما كانت الصلاة بتلك المنزلة، أمر جلَّ وعلا أن تبنى لها المساجد، وتشاد على اسمه الخاص، وأن تعظم ويرفع شأنها، لتكون منارات للهدى، ومراكز للإشعاع الروحي، يعبد الله فيها بتوحيده، ويذكر وتتلى آياته، يقول جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] أولئك المؤمنون كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغلٍ وبادروا لطاعة الله عز وجل، وفيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه.(89/2)
تقدير الإسلام للمساجد وتطهيرها
تلكم المساجد يا عباد الله! التي يجب على كل مؤمن أن يعرف قدرها، ويتعاهدها، ويطهرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق بالمساجد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[نهى الله سبحانه عن اللغو في المساجد]].
وقال قتادة رحمه الله: [[المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها]] وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول: [[مكتوبٌ في التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحق على المزور كرامة الزائر]] أخرجه ابن أبي حاتم.(89/3)
النهي عن زخرفة المساجد
لقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها، وتوقيرها وتطيبها وتطهيرها، واقتصرنا على حديث منها في الصحيحين: عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة} أخرجاه في الصحيحين.
فهذا فضل عظيم لمن أخلص النية فيما يبذله في بناء المساجد، من غير مبالغة ولا إسراف في ذلك، فإنه يحرم زخرفة المساجد بذهب أو فضة، وكذلك تكره زخرفة المساجد بنقشٍ وصبغٍ وكتابة، وغير ذلك مما يلهي المصلين.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أمرت بتشييد المساجد} قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى]] علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الحبر أخذ الخبر عن رسول الله، ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله يقول: [[لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى]] تجعلونها مثل الكنائس في الزخرفة بالأصباغ وبالألوان.
وعن أنس رضي الله عنه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد} رواه الخمسة إلا الترمذي، هذا علم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اتضح لنا في القرن الرابع عشر زخرفة المساجد وتشييدها وتحميرها وتصفيرها والكتابة عليها.
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أمر ببناء المسجد، قال: [[أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس]].(89/4)
المساجد أحب البقاع إلى الله
عباد الله: ورد في حديث أن المساجد أحب البقاع إلى الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها} لأن الأسواق يركز الشيطان فيها راياته.(89/5)
وجوب صيانة المسجد من القذر والروائح الكريهة
أمة الإسلام: إن المساجد هي بيوت الله، أشرف الأماكن في الأرض، يسن صيانتها عن كل وسخٍ وقذرٍ، ومخاطٍ وبصاق، ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {عرضت عليَّ أجور أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد} تكتب له من الأعمال الصالحة، يخرج العود من المسجد، تكتب له من الأعمال الصالحة، بخلاف الذين يتمخطون في منديل الفاين، ثم يضعونه وراء أعمدة المسجد، يا لها من إهانة! أو يضع باكت الدخان في المسجد، ثم يخرج ويتركه، يا لها من إهانة! {عرضت عليَّ أجور أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد} ورد في حديث: {إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين}.
وورد أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها} هذا إذا لم يكن المسجد مفروش، أما إذا كان مفروشاً وبصق في المسجد، فيا له من تشويه!
أمة الإسلام: يسن أن تصان المساجد عن كل رائحة كريهة، من بصلٍ وثومٍ وكراثٍ ودخانٍ ونحوها، لما ورد عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، ولا يصلين معنا} أي: الثوم والبصل.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أكل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا} وفي رواية لـ مسلم: {من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم}.(89/6)
أخذ الزينة عند كل صلاة
يا عباد الله! إذا عرفنا هذا وتحققناه، فإنه ينبغي للمسلم أن يأتي إلى المسجد بأحسن هيئة، وأطيب ريح، أختم بقول الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي: خذوا زينتكم عند كل صلاة، البسوا الملابس الطيبة الطاهرة، لا تأتِ بملابس الورشة، لا تأتِ بملابس الإسمنت والجص، لا تأتِ بملابس الفران تؤذي عباد الله.(89/7)
فضل الذهاب إلى المساجد وعمارتها بذكر الله
أمة الإسلام: يجب على الإنسان إذا وقف بين يدي الله، أن يحسن وقوفه ويتطهر ويحسن الوضوء، فإنه إذا توضأ للصلاة، ذهبت ذنوب أعضائه مع آخر قطر الماء، ثم إذا تشهد بعد الوضوء، فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
فقد ورد في صحيح مسلم ورواه الإمام أحمد ورواه الترمذي، قال: {ما منكم من أحدٍ يتوضأ، فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} وفي رواية الترمذي زاد هذه الكلمات بعد أن يتشهد قال: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} فإذا مشى إلى المسجد، وإلى بيت الله، إذا ذهب يزور الله في بيته، كان له بكل خطوةٍ يخطوها تحط عنه خطيئة، وترفع له بها درجة، فإذا انتظر الصلاة، فإنه لا يزال في صلاته، وإذا صلى، لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ما لم يؤذِ أو يحدث.(89/8)
النهي عن حديث الدنيا في المساجد
ورد الذم لمن كان حديثهم الدنيوي في المساجد، الذين يتكلمون: ما هي الأخبار اليوم؟
ماذا بعت يا فلان؟ ماذا حصل في المساهمة؟ إن شاء الله طلعت المساهمة، ماذا بعت؟ وكم بعت؟
أين فلان؟ وماذا قالت الإذاعة الفلانية؟
أعطونا الأخبار، هذه أحاديث دنيوية تتنافى مع بيوت الله.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سيكون في آخر الزمان قومٌ يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيه الحاجة} الله أكبر! علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.(89/9)
مما لا ينبغي في المساجد
ويحرم في المسجد البيع والشراء، فإن فعل فالبيع باطل ولا ينعقد، ويسن أن يقال لمن باع، أو اشترى في المسجد: لا أربح الله تجارتك، وكذلك يقال لمن أنشد ضالةً في المسجد: لا ردها الله عليك.
وينبغي أن تصان المساجد عن الصغير الذي لا يميز، وعن المجنون حال جنونه، وتصان المساجد عن رفع الأصوات بمكروه، فتصان المساجد عن إقامة الحدود، وعن سل السيوف، وكذلك ينبغي أن تصان المساجد عن الكتب التي فيها الصور ذوات الأرواح، كالمناهج الدراسية وغيرها.
وينبغي للمسلم أن يحافظ على نظافة بيوت الله، فلا يدخل إلا بعد أن يتفقد نعليه حتى لا يكون فيها وسخ ولا قذر، هذا إذا كان المسجد غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً، فكيف تسمح له أنانيته أن يدخل المسجد بنعلين قذرين؟! كيف تأذن له نفسه أن يدخل إلى بيت الله في نعلين وسخين وابنه الصغير إذا دخل المجلس بنعليه مسكه بيده وأخرجه! وهذا بيت الله يجب أن يعتني المسلمون ببيوت الله، وجزى الله حكومتنا خيراً على أن اعتنت في بيوت الله حيث فرشتها، وأعطتها من العناية التامة، فبمناسبة أسبوع المساجد نذكر أئمة المساجد ومؤذنيها أن يدعوا الأبواب مفتوحة في هذه الأيام حتى يعتنى بها أشد، فجزى الله القائمين على ذلك أحسن الجزاء، ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار، وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك، وارزقنا ووفقنا للتعاون في طاعتك، والمبادرة إلى خدمتك، وحسن الآداب في معاملتك، والتسليم لأمرك، والرضا بقضائك، والصبر على بلائك، والشكر لنعمائك يا رب العالمين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(89/10)
فضل السنن الرواتب قبل الصلوات وبعدها
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له من بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من قام بالواجبات والمسنونات، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واتبعوا الهدى والنور الذي جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فقد سن سول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سنن أفعال وأقوال، وحثهم على أدائها، ورغبهم فيها.(89/11)
فضل السنن الفعلية قبل الفريضة وبعدها
من السنن الفعلية التي حثنا عليها الرسول الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، فقد رُوي عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبدٍ مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنة} أو {إلا بني له بيتاً في الجنة} حديث صحيح رواه إمام المحدثين مسلم رحمه الله.
وهذه الرواتب هي أربع قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وقد ورد في الحديث الصحيح: {ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها} والعلماء رحمهم الله يسمون هذه الركعات الاثني عشر بالرواتب؛ لأن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها في الحضر، أما في السفر، فكان يتركها إلا سنة الفجر والوتر، فكان صلى الله عليه وسلم يحافظ عليهما حضراً وسفراً.
والأفضل أن تصلى الرواتب في البيت، فإن صلاها في المسجد فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة} إلا الفريضة فإنه لا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة الفريضة ويصليها في البيت، فقد ورد الأثر المرفوع عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وجار المسجد هو الذي يسمع النداء، وليس الجار هو الملاصق الجدار بالجدار، لا.
إنما الجار الذي يسمع النداء، الجفاء كل الجفاء، والنفاق كل النفاق من سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب.
عباد الله: في الحديث: {من صلى أربعاً قبل العصر} لأنه قال في الحديث: {رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربع ركعات} وليست من الرواتب، واثنتين قبل المغرب واثنتين قبل العشاء، إذا صلى هؤلاء الركعات، فحسن، لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، هذه سنن الأفعال.(89/12)
فضل السنن القولية بعد الصلوات
ومن سنن الأقوال: إذا سلم عن يمينه وعن يساره قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله ثلاث مرات، ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم بعد ذلك يقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وعلى حسن عبادتك، ويسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده ثلاثاً وثلاثين، ويكبره ثلاثاً وثلاثين، فهذه تسع وتسعون، ثم يكمل المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: {من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر} رواه مسلم.
ثم بعد ذلك يقرأ آية الكرسي وقل هو الله أحد، لأنه ورد في الحديث: {من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي وقل هو الله أحد، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت} ويقرأ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وفي صلاة الفجر والمغرب يقول بعد السلام عشر مرات ما ورد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل} متفق عليه.
فيا عباد الله! حافظوا على هذه الفضائل، ولا يفوتنكم إياها الشيطان، بإشغالكم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود والمبشرين والشيوعيين، وأعوانهم يا رب العالمين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم اقض الدين عن المدينين، اللهم اقض الدين عن المدينين من المسلمين يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(89/13)
تفسير سورة الواقعة
سورة الواقعة سورة عظيمة، فيها من الزواجر والمواعظ ما يهز القلوب، وقد قسم الله فيها الناس إلى أصناف، وبين جزاء كل صنف، وفي هذه الخطبة تجد بيان هذه الأصناف.(90/1)
آيات سورة الواقعة وما تتحدث عنه
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين ومنبراً منيراً للمهتدين يهتدون بنوره؛ فكان شفاءً لما في الصدور ومصلحاً لجميع الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وهو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، وتدبروا كتاب ربكم الذي أنزله الله رحمة بكم وموعظة لكم وإصلاحاً لدينكم ودنياكم، ولا تعرضوا عنه فتبوءوا بالخسارة وقسوة القلوب, والبعد عن خشية علام الغيوب.
أمة الإسلام: إن القرآن موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في صدوركم.(90/2)
عرض الآيات من السورة
أيها المسلمون! إنه لا شيء أبلغ موعظة من القرآن العظيم لمن تدبره وتفكر في معانيه، وإليكم طرفاً من سورة الواقعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ * وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:1 - 56].(90/3)
الواقعة وما يقع فيها
أيها المؤمنون بالله وبكتاب الله! إن من أعظم المواعظ ما جاء في هذه السورة، تلك السورة العظيمة التي تحدث عن أحوال الناس يوم القيامة، وعن حالتهم عند مفارقتهم الدنيا.
ابتدأ الله هذه السورة بجملة شرطية عن وقوع الساعة، حذف جوابها ليذهب الذهن في تقديره كل مذهب، فيسلك في تفخيمه كل طريق، يقول الله تعالى: {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1 - 2].
والواقعة: هي يوم القيامة، وإذا وقعت رأيتم الأحوال العظيمة والمتباينة، عند ذلك ترج الأرض رجاً عظيماً, وتبس الجبال بساً، أي: بعد أن كانت متماسكة صلبة تتفتت دقيقاً فتكون هباءً منبثاً كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] وكما قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج:8 - 10].(90/4)
أقسام الناس يوم الواقعة
في هذا اليوم الذي تحصل فيه تلك الأهوال والشدائد والكربات ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: سابقون، وأصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة.(90/5)
السابقون
القسم الأول هم السابقون: السابقون في هذه الدنيا إلى طاعة الله هم السابقون يوم القيامة إلى الكرامة والجنات، وهم المقربون إلى فاطر الأرض والسماوات، يُنعمون في دار لا يفنى نعيمها ولا يبلى جديدها، ولا يتكدر صفوها، نعيمها دائم، وسرورها قائم، تخدمهم الولدان، يسقون الشراب بالأكواب والأباريق والكئوس، شراب لا فيه غول ولا تصديع، ولا لغو ولا تأثيم، بل يجدون شراباً طهوراً.
أما طعامهم ففاكهة مما يتخيرون, ولحم طير مما يشتهون، وأما نساؤهم فحور ذو بياض حسن صاف، عين: حسنات العيون، منظر وخلقة كأمثال اللؤلؤ المكنون, في غاية الصفاء، ومع ذلك هم في مجتمع كامل قد نزع الله ما في صدورهم من الغل إخواناً على سرر متقابلين، لا يسمعون في ذلك المكان الطاهر لغواً من القول، ولا كلاماً لا فائدة فيه ولا تأثيماً، بل كلامهم ذكر الله وتسبيحه، ويتحدثون بما أنعم الله عليهم به فهم يقولون ما قال الله عنهم في محكم البيان: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35] هؤلاء هم السابقون إلى طاعة الله ورسوله، يقومون بالواجبات والمستحبات ويتركون المحرمات والمكروهات، وكان نعيمهم أكمل النعيم، وأحوالهم أكمل الأحوال.(90/6)
أصحاب اليمين
القسم الثاني هم أصحاب اليمين: وهم من أهل الجنة ولكنهم أقل حالاً من السابقين، فهم في سدر مخضود, أي مخضود شوكه فليس فيه شوك بل بدل الشوك ثمار من أسفله إلى أعلاه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] وهذا السدر والطلح ليس مشبهاً لما في الدنيا؛ إنما الاسم هو الاسم ولكن الحقيقة غير الحقيقة، لأن الله يقول في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} فأصحاب اليمين في نعيم دائم، عندهم فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فهي لا تنقطع في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا، ولا ممنوعة عن مبتغيها كما تمنع فواكه الدنيا.
أما جلوسهم ففي فرش مرفوعة، وأما نساؤهم فقد أنشأ الله الحور منهن إنشاءً بدون ولادة، وأنشأ نساء الدنيا من أهل الدنيا إنشاءً جديداً فجعلهن أبكاراً لا يرجعن ثيبات أبداً، كلما عاد إليها زوجها وجدها بكراً، ومن تمام النعيم أن جعلهن الله عرباً يتحببن إلى أزواجهن بالتلطف والمداراة، أتراباً على سن واحدة حتى لا تفخر واحدة على الأخرى أو ترى نفسها خيراً من الثانية.(90/7)
أصحاب الشمال
القسم الثالث هم أصحاب الشمال: اللهم لا تجعلنا منهم، اللهم لا تجعلنا منهم، اللهم لا تجعلنا منهم يا واسع الفضل والإحسان.
أصحاب الشمال ولا تسأل عن أحوالهم، إنها حال البؤس والشقاء والعناء، حال التعذيب والتحريق بالنار، إنهم في سموم: هواء حار يلفح وجوههم ويدخل في مسام جلودهم، وليس عندهم ما يبرد هذا السموم سوى ماء حميم شديد الحرارة كما قال تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20].
كما أنهم ليس لهم ما يحجب هذا السموم سوى ظل من يحموم، واليحموم: هو الدخان الأسود الحالك، لا بارد ولا كريم، أي: ليس فيه وقاية ولا نفح، فهذا مكانهم وموضع إقامتهم.
وأما طعامهم وشرابهم فهو الزقوم: وهو شجر خبيث الطعم، خبيث المنظر، منتن الريح، ليس فيه ما يحب الأكل منه؛ ولذلك فهم يتزقمونه تزقماً، لا يسمن ولا يغني من جوع، ويبتلعونه بشدة ومشقة فيملئون بطونهم منه، وحينئذ يحترقون عطشاً فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، إذا دنى من الوجوه شواها، ويقطع أمعاءهم إذا حل فيها, هذا نزلهم يوم الدين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من السابقين، ومن التالين لكتابك ومن المنتفعين به يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن اتبعوا القرآن فقادهم إلى رضوان الجنة، ولا تجعلنا ممن اتبعهم القرآن فزخهم في قفاهم إلى النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(90/8)
التوبة إلى الله
الحمد لله أحمده وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل.(90/9)
الأمر بالتوبة والمسارعة إلى الطاعة
أمة الإسلام: عليكم بتقوى الله، سارعوا إلى طاعة مولاكم فإن عاقبتها الرضا وحلول دار الكرامة في الجنة، وإياكم والمعاصي، إياكم والمعاصي، إياكم والمعاصي! فإنها تعقبكم سخط الجبار وتورث دخول النار لمن أصر عليها ومات ولم يتب.
فيا عباد الله: توبوا إلى الله واعملوا الأعمال الصالحة التي تقربكم من الله وتحل عليكم رضوانه.
أمة الإسلام: لقد سمعتم في بعض السورة التي تليت عليكم الأقسام الثلاثة الذين سوف نكون من ضمنهم، ولكن لا ندري من أي الأقسام نكون، أمن السابقون أم من أصحاب اليمين أم من أصحاب الشمال؟ فهذا علمه عند الله عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فمن عمل الصالحات واتقى الله فليبشر بما يسره، وأما من عمل السيئات وعصى الله فليبشر بما يسوؤه، قال الله تعالى في سورة الواقعة: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:88 - 96].
عباد الله إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم، ومزقهم كل ممزق، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم لا تبق ولا تذر منهم أحداً يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم، لا إله إلا الله مفرج الكربات ومغيث اللهفات ومحل الشدائد والبليات، لا إله إلا أنت ربنا ورب كل شيء ومليكه.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل المفسدون، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل الظالمون، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل المعتدون، لا إله إلا أنت، أنت أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين.
اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع بذنوبنا فضلك, لا إله إلا أنت سبحانك، على الله توكلنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(90/10)
تفسير سورة (ق)
سورة ق من أعظم السور القرآنية وقعاً وتأثيراً، وموعظة وتذكيراً، لما تتضمنه من التذكير بالبعث والجنة والنار، وقد جمعت من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي فإنها تضمنت المبدأ والمعاد والتوحيد والإيمان بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، وانقسام الناس إلى هالك وفائز وأوصاف هؤلاء وهؤلاء.(91/1)
سنية الخطبة بسورة (ق)
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة؛ لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيامة والحساب, والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترهيب والترغيب، فاستمعوا لها وأنصتوا، وأقرؤها اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(91/2)
التذكير بالبعث بعد الموت
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:1 - 22].(91/3)
جزاء المتقين وجزاء الكافرين
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:23 - 45].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(91/4)
عرض عام لسورة (ق)
الحمد لله الذي قال وقوله الحق: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] أحمده سبحانه وأشكره الذي جعل القرآن شفاءً ورحمةً للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فصَّل في سورة (ق) من العبر والمواعظ والوعد والوعيد ما يدل على كمال قدرته ووحدانيته، فله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، لا يُسئل عن ما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق وأتقاهم لله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، وقد سمعتم ما في سورة (ق) السورة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر يوم الجمعة، فإن هذه السورة تعالج أصول العقيدة الإسلامية: الوحدانية, والرسالة, والبعث والنشور.(91/5)
الموضوعات التي طرقتها السورة
إن هذه السورة رهيبة شديدة الوقع على الحس بما فيها وما دلَّت عليه، تهز القلوب هزاً، وترج النفوس رجاً، وتثير فيها روعة الإعجاب ورعشة الخوف.
ابتدأت هذه السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها الكفار وتعجبوا منها غاية العجب، وهي قضية الحياة والبعث بعد الممات، ولكن هذه السورة لفتت أنظار المشركين المنكرين للبعث إلى قدرة الله العظيمة المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور في السماء والأرض, والماء والنبات, والثمر والطلع, والنخيل والزروع، وكل هذه براهين قاطعة دالة على قدرة العلي الكبير.
ثم انتقلت هذه السورة الكريمة تخبر عن المكذبين للرسل من الأمم السالفة, وما حلَّ بهم من الكوارث والمصائب وأنواع العذاب، وفي هذا تحذير لمن بعدهم أن يحلَّ بهم ما حل بالسابقين.
ثم بينت السورة خلق الإنسان، وما وكِّل به من الملائكة عن اليمين وعن الشمال، ثم نهاية الأجل وما يحصل فيه من سكرات الموت وهول الحشر والحساب، ثم ما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب من أهوال وشدائد تنتهي بإلقائه في الجحيم.
ثم بينت ما أُعدَّ للمتقين من النعيم المقيم, الذي لا يزول ولا يحول، وذلك جزاء من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، فإنهم يلاقون بالتحية والإكرام، يقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب، بسلامة من الهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الذي لا نهاية له أبداً، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء، وكذلك في النار؛ يقال لهؤلاء وهؤلاء: يا أهل الجنة ويا أهل النار! إنها حياة لا موت بعدها، فأهل النار يعذَّبون بما يصلونه من الجحيم، وأهل الجنة يتنعمون بما فيها من النعيم.
وفي الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، ولهم كذلك -مزيداً على ذلك الإنعام والإكرام- النظر إلى وجه الله الكريم {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] فالزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.
واختتمت السورة الكريمة بالإخبار عن صيحة الحق، وهي الصحية التي يخرج الناس بها من القبور كأنهم جراد منتشر، ويساقون إلى الحساب والجزاء لا يخفى على الله منهم أحد، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها, وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، فعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذ في النار، وصلوا على رسول الله كما أمركم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك, ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا، وكاشف همومنا وغمومنا، وسائقنا ودليلنا إلى جناتك جنات النعيم اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، وبالإيمان بك وبملائكتك وكتبك ورسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خُذْ بنواصينا إلى كل خير، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما لا تحبه ولا ترضاه.
اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين, واشدد وطأتك عليهم يا رب العالمين، وارفع عنهم عافيتك، اللهم مزّقهم كل ممزق، اللهم دمّرهم تدميراً، اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر عيوننا بصلاحهم يا رب العالمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم دعوة من قلب مخلصٍ لك يا رب أن تصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم ردّ عنهم كيد الكائدين، اللهم من أراد الإسلام وأهل الإسلام بكيد فاجعل كيده في نحره يا رب العالمين.
اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بك يا علي يا عظيم، يا مغيث المستغيثين، ويا ناصر المستنصرين، ويا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأجودين، يا من يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير؛ اهد شباب الإسلام والمسلمين لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين اللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من عبادك الراشدين اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، ولوالدينا ولوالد والدينا، ولمن أوصانا بالدعاء، ولمن أوصيناه بالدعاء، ولمن أحببناه فيك، ولمن أحبنا فيك يا رب العالمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(91/6)
تفكروا
إن المتفكر في آيات الله ومخلوقاته من أرض وسماء، وشمس وقمر، وليل ونهار، يرى كمال قدرة الباري وعظيم صنعته، مما يزيد في إيمانه وتعظيمه لله تبارك وتعالى، وإن من أعظم ذلك ما قصه الله علينا من إحيائه الموتى كما في سورة البقرة؛ فعلى المسلم أن يتدبر كتاب الله تعالى ليزداد إيمانه ويقوى يقينه.(92/1)
التفكر سبب لزيادة الإيمان
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:17 - 19] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، الداعي إلى الله بإذنه على بصيرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون! يا من تؤمنون بالله حقاً! تفكَّروا في آيات الله الدالة على كمال قدرته؛ لتزدادوا بذلك تعظيماً لله تعالى وعبادة؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
إن الله تعالى قد خلق السماوات والأرض وما بينهما، بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب، والبحار والأنهار، خلق الله تلك المخلوقات في ستة أيام، خلقها على أكمل وجهٍ وأتم نظام، ولو شاء لخلقها في لحظة واحدة؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] وقال جلَّ وعلا: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] ولكنه تعالى خلقها في ستة أيام لحكمةٍ اقتضت ذلك، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].(92/2)
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
عبد الله: تفكَّر في خلقك! لقد خلق الله تعالى الإنسان من سلالة من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
أيها المسلمون: تفكروا في خلقكم، فقد خلقكم الله من ماء مهين، من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، ثم يستقر ذلك المني في قرار مكين، لا تعتريه شمسٌ ولا هواء، ولا حرٌ ولا برد، ثم يطوِّر الله هذه النطفة في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الغشاء يظل أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، فإذا تمت هذه الأيام وهي الأربعة الأشهر، أرسل الله تعالى إليه الملك الموكل بالأجنة، فينفخ فيه الروح ويصبح إنساناً بعد أن كان جماداً، فتبارك الله أحسن الخالقين.
هذا خلقك يا عبد الله! فارجع إلى نفسك، وتفكَّر في خلق الله لك {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
ولقد أرى الله عباده من آيات قدرته ما يكون آية للموقنين، وعبرة للمعتبرين، فقد خلق الله تعالى عيسى ابن مريم من أمٍ بلا أب، وأقدره على النطق في المهد، فتكلم بكلامٍ من أفصح كلام البشرية وأبينه، قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:30 - 33] فما أبلغ هذا الكلام وأفصحه من صبيٍ في المهد! ولقد أخبر الله تعالى عن عيسى أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً، وأخبر أنه يبرئ الأكمه -وهو الذي يولد مطموس العين- ويبرئ الأبرص، وأخبر أنه يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم؛ كل ذلك بإذن الله تعالى.(92/3)
إحياء الله للموتى في الدنيا
لقد قصَّ الله علينا في القرآن الكريم في سورة البقرة خمس حوادث، كلها تتضمن إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفيها عظة وعبرة:
فأول هذه القصص: قصة بني إسرائيل حين قالوا لنبيهم موسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فعاقبهم الله تعالى؛ فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم بعثهم الله من بعد موتهم، وفي هذا يقول الله تعالى يخاطب بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56].
والقصة الثانية: في شأن القتيل من بني إسرائيل الذي قتله ابن عمه؛ من أجل أخذ ماله، فاتهم به قبيلةً أخرى، فاختصموا في أمره إلى موسى عليه السلام، فأمرهم موسى -بوحيٍ من الله تعالى- أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل بجزءٍ منها، ففعلوا -بعد التعنت والمراجعات التي تقرءونها في سورة البقرة: ادع لنا ربك ادع لنا ربك إلى آخر ما قالوا- وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وضربوه ببعضها، فأحياه الله تعالى القادر على كل شيء، فأخبر عن قاتله: أنه ابن عمه، قتله لأخذ ماله فتلكم من آيات الله العظام لمن تدبر القرآن، وعرف معاني القرآن.
القصة الثالثة: في قومٍ نزل في ديارهم وباء، فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذراً من الموت، فأراهم الله تعالى أنه لا مفر من أقدار الله تعالى، فأماتهم الله؛ ليعلم العباد قوة سلطانه ونفوذ قدرته، ثم أحياهم ليستكملوا آجالهم، وفي ذلك تعليم لهذه الأمة حتى لا تتطير، ولا تفر من أقدار الله، بل تصبر وتحتسب الأجر على الله.
القصة الرابعة قصة الرجل الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، قد تهدم بناؤها ويبست أشجارها، فاستبعد هذا الرجل أن تعود إلى ما كانت عليه من العمران والسكان، فأراه الله تعالى آية في نفسه تدل على قدرة الله تعالى؛ أماته الله مائة سنة، وكان معه حمارٌ وطعامٌ وشرابٌ، فمات الحمار وتمزقت أوصاله، ولاحت عظامه، وبقي الطعام والشراب لم يتغير واحدٌ منهما بنقص ولا طعم ولا لون ولا رائحة مدة مائة سنة، والشمس تصهره والرياح تتعاقب عليه، وبعد هذه المدة بعث الله تعالى ذلك الرجل، وأراه طعامه وشرابه لم يتغير مع طول هذه المدة، وأراه الحمار، فنظر إلى عظامه المتفرقة في الأرض يركب بعضها بعضاً كل عظم في محله، ويكسوها الله تعالى لحماً وفي هذا يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
عباد الله! تلكم من أنباء الغيب التي قصها ربنا جلَّ وعلا في هذا القرآن العظيم على سيد البشرية، ونبي الرحمة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وقصها عليكم في كتابه المبين؛ ليزداد المؤمن إيماناً بالله العظيم الذي له القدرة التامة على كل شيء.
القصة الخامسة: في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين سأل الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير، فيقطِّعهن أجزاءً ثم يفرقها على الجبال التي حوله، على كل جبل جزءاً من هذه الطيور الأربعة، ثم يناديهن فقطع إبراهيم عليه السلام هذه الطيور وخلط لحمهن، وجعل على كل جبل منهنَّ جزءاً، ثم ناداهنّ إبراهيم، فعند ذلك التأمت تلك الأجزاء المفرقة في الجبال؛ بعضها على بعض، وأتين إلى إبراهيم مشياً لا طيراناً.
وفي هذا يقول ربنا جلَّ وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].(92/4)
إحياء الموتى في الدنيا دليل على البعث والنشور
أيها المسلمون: هذه نماذج من إحياء الله تعالى للموتى في الدنيا تدل على البعث والنشور يوم القيامة، وما أهون ذلك على الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] الإعادة أهون عليه من البداية ويقول جلَّ وعلا: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28] ويقول جلَّ وعلا: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] فسبحانه من إلهٍ عظيم! وسبحانه من إله عليم قادر!
عباد الله: إنها زجرةٌ واحدةٌ يخرج بها الناس أحياءً من قبورهم، ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، لا يتخلف منهم واحد، في مثل لمح البصر أو هو أقرب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
عباد الله: ارجعوا إلى كتاب الله عز وجل، وارجعوا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليزداد إيمانكم، ولتعلموا قدرة الله.
اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك، وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك، وما قدرته من قضائك، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(92/5)
الاعتناء بالقرآن تدبراً وعملاً
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدَّر فهدى {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:14 - 15] فسبحانه من إله خلق فسوى! ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وله الحمد في السماوات والأرض، وله الكبرياء والعظمة، وأشهد أن لا إله إلا الله إيماناً به وتوحيداً، لا رب لنا سواه، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يحيي ويميت، بيده الخير ومنه الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات التي بهرت العقول، ودلت على نبوته وصدق رسالته، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وتدبروا آيات القرآن العظيم التي فيها من الأخبار ما يملأ القلوب؛ من الإيمان والتصديق والزيادة في معرفة الله العظيم لا تشغلوا أنفسكم بما يضركم في الآخرة والأولى.
عباد الله: إن الإكباب على الملاهي، وعلى المجلات والجرائد، والقصص المختلقة؛ إنما هي دسائس من أعداء الإسلام؛ ليشوشوا أفكاركم، وحتى لا تعتبروا بما في كتاب الله، ولا بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا تعتبروا ولا تتعظوا بما في هذا الكون العظيم من مخلوقات الله.
عباد الله: ارجعوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله إلى الدستور العظيم إلى القرآن الكريم إلى المنهج القويم إلى الينبوع الصافي إلى حبل الله المتين إلى الصراط المستقيم إلى كتاب الله العظيم، الذي من حكم به عدل، ومن تمسك به نجا، ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه تجبراً وتكبراً قصمه الله.
فكتاب الله العظيم في تلاوته الأجر الكثير؛ فمن قرأ حرفاً من القرآن؛ فله به عشر حسنات، فيا له من خير فضيل لو كانت القلوب تعقل؛ كما قال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: [[لو طهرت قلوبكم لما شبعت من كلام ربكم]] فإنه أصدق الكلام.
وارجعوا إلى خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، واحذوا محدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، واحذروا التفرق يا عباد الله.
وصلوا وسلموا على رسول الله، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اشف مرض قلوبنا اللهم اشف مرض قلوبنا اللهم اشف مرض قلوبنا اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، واجعلنا متحابين فيك يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم قيض لهم جلساء صالحين ناصحين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا، وأصلح أولادنا وأهلينا وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين والمسلمات.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين نأمر بالمعروف ونفعله، وننهى عن المنكر ونجتنبه إنك على كل شيء قدير، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الكريم المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا حي يا قيوم، اللهم أمد إخواننا المجاهدين بعونك، اللهم أمدهم بقوة من عندك، اللهم انصرهم نصراً مؤزراً، اللهم انصرهم على أعدائك وعلى أعداء الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم اجعل أعداء الإسلام والمسلمين غنيمةً لأوليائك الصالحين، اللهم مكن المجاهدين منهم يا رب العالمين، اللهم اجعلهم يأسرونهم ويسبون نساءهم وذراريهم، اللهم اجعل أعداء الإسلام والمسلمين غنيمةً لعبادك المؤمنين يا رب العالمين! اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان من بلدان العالم الإسلامي يا رب العالمين! اللهم انصرهم بنصرك، وأيدهم بتأييدك إنك على كل شيء قدير ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، أكثروا من ذكر الله؛ فإن ذكر الله يقربكم من الله، وأكثروا من شكر نعم الله؛ فإن الشكر يزيد النعم، وإياكم وكفران النعمة، حافظوا على هذه النعم يا عباد الله! فإن بشكرها تقر، وبكفرها تفر، وفقني الله وإياكم لشكر النعمة إنه على كل شيءٍ قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(92/6)
توجيه الشباب
إن شباب الصحابة رضوان الله عليهم حين تربوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وتوجهوا التوجيه الصحيح؛ رفع الله بهم الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وكان همهم الوحيد هو نصرة الدين وإرضاء رب العالمين عز وجل؛ والناظر إلى شباب المسلمين اليوم وما صاروا إليه يتعجب أشد العجب، فقد تغيرت اهتماماتهم، وتحطمت أخلاقهم، وكل ذلك لأنهم لم يجدوا من يوجههم التوجيه الصحيح الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(93/1)
الفرق بين شباب السلف وشباب الخلف
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌ من الذل وكبره تكبيراً، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وخذوا بأسباب النجاة والسعادة، واحذروا من أسباب الشقاوة والهلاك.
عباد الله: أرأيتم لو كان لكم أشجارٌ تتعاهدون سقياها، وتتعاهدونها بما يصلح لها، وتختارون لها التربة الطيبة, والمزارعين الفنيين في فن الزراعة، إذا حصل ذلك فسوف تؤتي الثمار اليانعة، ويعظم خيرها، ويكثر جناها.
أجل -يا أمة الإسلام- هذا مثال لفلذات أكبادكم، مثال للشباب في عنفوانه ونضرة أيامه، إذا وجد له راعياً أميناً، وموجهاً مرشداً صالحاً ناصحاً، فسوف يثمر أطيب الثمار، ويكون عضواً صالحاً في المجتمع، وعنصراً هاماً لحماية الدين، ورعاية الأخلاق، ورفع راية الفضيلة.
أمة الإسلام: إن مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم لما كانت تتمشى مع التعاليم السماوية والتوجيهات الربانية، خرجت شباباً كان لهم في أزهى عصور الإسلام جولات عظيمة، ومغامرات كريمة، كان فيها عز للإسلام، ونصر لشريعة سيد الأنام، ورفع لعلم الدين خفاقاً يحكي العزة، ويصور المجد، ويشعر بالقوة، إنهم تعلموا العلم لوجه الله، فنالوا به رفعةً ومجداً وسؤدداً، أولئك الشباب الناشئ في مدرسة الإسلام، غذاهم الإسلام بمبادئه وروضهم على تعاليمه، وقومهم برفيع توجيهاته، وجعل منهم في ميدان البطولة الفدائي, الذي لا يشق له غبار يخوض معركة الشرف لا يريد بذلك وطنية، ولا يريد قومية، ولا جاهلية، ولكن لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
ولقد كانوا رضي الله عنهم في ميدان العلم والمعرفة أئمة في الدين، وأعلاماً في الفقه, وفي مجالات العبادة والإخبات، فهم رهبان بالليل، أسود بالنهار: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] في ميادين البذل والبر والإحسان يبذلون الفضل لوجه الله طلباً للمثوبة والأجر، فهذه أوصاف أولئك الرجال، فإنها حميدة، لم تغلب عليهم السطوة، فكانوا رضي الله عنهم قدوة للشباب المسلم الصالح الذي رفع الله درجته، وأمن مخاوفه، ووعده أن يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولقد أخبر إمام الأمة وقدوتها صلى الله عليه وسلم بقوله: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله} وعدّ منهم: الشاب الناشئ في عبادة ربه عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] ولكن مع الأسف الشديد والحزن المرير أين تلك الأوصاف؟ أين تلك الأشباح؟ رحمة الله على تلك الأرواح، لقد تغيرت الأحوال، وانعكست الأفعال، وعمي الكثير عن الهدى واتباع الحق، وغرق البعض في التقليد الأعمى، ومالت به نفسه الأمارة بالسوء عن الصراط المستقيم، وقلد الكفرة في باطلهم، وقلّد الغرب في الانحلال والميوعة والإلحاد والرذائل، وأطلق لنفسه العنان في الشهوات المحرمة والنزوات الطائشة والرذائل، ونسي الله عز وجل, ولم يراقب الجزاء، ولم يحذر من بطشته وسطوته وأخذه الأليم الشديد، فهو ممن قال الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وممن وصفهم الله بقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104].(93/2)
العامل الأساس للأخذ بأيدي الشباب
إن العامل الوحيد للأخذ بأيدي الشباب وقيادتهم إلى الخير ليكونوا كما كان أسلافهم في عصر النور هو التوجيه الصالح الرشيد الذي يتظافر عليه البيت والمدرسة والإذاعة والصحافة والعلماء والقادة, كل أولئك يجب عليهم أن تتظافر فيهم جهود التوجيه، توجيه الشباب إلى الخير, وقيادتهم إلى أقوم السبل في الأقوال والأفعال والعزائم الصادقة.
أما مجرد التوجيه بالأقوال بدون التصديق بالأفعال فلا كأن يقال: إليكم هذا الحديث، إليكم هذه التلاوة المرتلة، ثم يقال: تغني فلانة، ويغني فلان، ثم يأتي في الصحافة، ويقول: مجلة الفن تحل الأغاني وتحل الموسيقى، وهي حرام في الإسلام، فأين هذا التوجيه من التوجيه الإسلامي الصحيح؟! إذا لم تصدق بالأفعال، فذلك مما ينقضه الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
ومثل مدرس يشرح حديث {لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء} فيقول له الطالب: كيف ذلك يا أستاذ؟ فيقول: في حلق اللحية، إذا حلق لحيته، فإنه يتشبه بالنساء، ومع الأسف الشديد كان الأستاذ الجليل حالق للحيته، فيقول له الطالب: فلماذا تحلق لحيتك يا أستاذ؟ فيقول: (هذا جَريٌ للمجتمع، وخوف من المعزبة) أو كما قال قولته الشنعاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
كذلك الأستاذ يشرح الدرس، وثوبه يجر خلفه شبراً في الأرض، وهو يقول: إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء، الله أكبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
إن من شروط الداعي إلى الخير أن يكون قدوةً فيما يأمر به، أما الذي ينهى الأولاد عن شرب المسكرات والدخان، وهو مدمن عليها، فإنهم يهزءون به، لأنه بصفة المختل للعقل، لأنه لم ينه نفسه قبل ذلك.
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
كذلك المعلم إذا كان في أثناء الشرح فهو مرآة، فلينظر ماذا يلقي على أولئك النشء، فإنهم أمانة في عنقه.
أما الذين يعلَّمون ولا يعملون فليسمعوا إلى هذا الوعيد الشديد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه -أي: أمعائه- فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان! ما شأنك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر، وآتيه}.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين في التوجيه وفي النصح والإرشاد وفي الدعوة إلى الله عز وجل, حتى يصلح بكم أولادكم، ويرتفع بكم المجتمع، وتكونوا قدوةً صالحة.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا يا رب العالمين، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن أبداً ما أبقيتنا يا أرحم الراحمين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(93/3)
إهمال تربية الأولاد
الحمد لله ذي الكبرياء والعظمة والسلطان، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود، وسيد ولد عدنان، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله كما أمركم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] اتقوا الله في أولادكم، وفي أهليكم، وفي معاملاتكم، وفيمن تحت أيديكم.
إنه ليحزن ويمرض أننا نرى الكثير من الآباء قد أهمل الأولاد، وترك لهم الحبل على الغارب! حتى صاروا شراً مستطيراً على المجتمع, وداءً عضالاً وعضواً لا خير فيه, كل ذلك بسبب الإهمال, حتى إن البعض من الآباء تحمل أوزاراً، وهو يعرف أنه فيها ظالم لنفسه ولأولاده، وهو أنه يعينهم على الأسفار إلى بلاد الكفر والفساد، ويدفع لهم الأموال، ويفتح لهم الاعتمادات حتى يفسدوا بها، وينفقونها في سبيل الشيطان، ويقول: نريد لهم الترفه، بل ظلمهم، وأعانهم على إغضاب الرب جلَّ وعلا، فسوف يسأل عن هذا كله إذا وقف بين يدي الله يوم ترتعد الفرائص من الخوف والوجل.
أمة الإسلام: إنه من أكبر المنكرات أن يخرج الرجل من بيته إلى المسجد والأولاد في بيته إما يمارسون لعب الورقة، أو جالسون عند التلفاز، أو نائمون في فرشهم، وهو يأتي إلى المسجد، إنه من أكبر المنكرات -والعياذ بالله- من عمى البصيرة: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
أمة الإسلام: لننتبه من رقدتنا ونستيقظ ونستعد قبل أن نقف بين يدي الله ثم نسأل، فمن أين لنا الجواب؟ من أين لنا الجواب؟
وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين السابقين إلى الخيرات، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك وعافيتك ومزقهم كل ممزق، اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه, إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واهدنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والربا والوباء والزنا واللواط، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوفٌ رحيم.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(93/4)
توحيد الله تعالى
التوحيد هو الهدف من إرسال الرسل، ولا يصح للإنسان إسلامه إلا إذا وحد الله جل وعلا في جميع عباداته وأعماله؛ ولا يمكن أن تكون هناك وحدة إلا في ظل التوحيد، والعرب ما اجتمعوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
والشيخ قد تحدث في هذه الخطبة عن كمال الدين والتميز في أحكامه، وشكا متألماً حال الكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم يتنكرون لأحكامه، والإسلام منهم براء، كما ذكر أن الإسلام هو سبب الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.(94/1)
كمال الدين الإسلامي وشموليته
الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، نحمده حمداً متعدٍ يفوق العدَّ والحسبان على نعمه وآلائه العظام، ونستغفره ونشكره، ونسأله العز والعفو وحسن الختام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي لم يأل جهداً ولم يدخر وسعاً في تبليغ الرسالة، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين طهرتهم من كل تعصب إقليمي أو قبلي، وعلى كل من تمسك بهديه ومن دعا بدعوته وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله سبحانه، فقد حباكم بدين كله مكارم ومحاسن إنه دين أكرم الله أهله وفضلهم على سائر من خلق تفضيلاً دين حمى مصالح من تمسك به بسياج حديدي وإن كان أعجمياً لا أصل له، أو مولى أو لم يكن له نسب دين احترم النفوس؛ فقد أوجب القتل على من قتل نفساً عمداً، أو سعى في الأرض فساداً أن يقتل أو يصلب دين احترم الأموال؛ فقد أوجب قطع اليد على من سرق ثلاثة دراهم فأكثر دين احترم الأعراض، فقد أوجب ثمانين جلدة على من قال لأمرأة: يا زانية، أو غير ذلك من قواذف اللسان الخبيثة التي يقذف بها من تعاليم الشيطان، فمن قذف بهذه الكلمات أوجب عليه الشارع الحكيم ثمانين جلدة.
إنه دين احترم أنسابكم؛ فأوجب القتل على الزاني رجماً بالحجارة -الزاني المحصن وهو الذي تزوج- وإبعاد من لم يكن محصناً مع جلده مائة جلدة دين احترم العقول فحرم كل ما فيه خطر على تغطية العقل من خمر أو حشيش أو حبوب مخدرة أو غيرها دين لم يفرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أسود ولا أبيض، وإنما جعل الرابط الوحيد والعلاقة الحقة هي الإيمان بالله.
وبالجملة فهو دين أودع الله فيه من الحكم ما هو كفيل بخلوده، وأودع الله فيه ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، صالحاً لمسايرة الإنسانية في تقدمها، ورقيها، وحضارتها الحقيقية.
ولا غرابة -يا أمة الإسلام- فهو دين البشرية جمعاء، الدين الذي جاء إليها وهي ترزح تحت أغلال ظلمات الجهل، فأقام سياستها على مبدأ واحد، وإذا أرادت شمسه أن تغيب فلا حول ولا قوة إلا بالله! ولا غرابة؛ فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً} ولكن نأمل من الله واسع الفضل والإحسان أن يجعلنا من الأمة الباقية على دين ربها، لا يضرها من خالفها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(94/2)
اجتماع الأمة على التوحيد
لقد جمع الدين الإسلامي الأمة تحت لواء التوحيد، تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ففي الجملة الأولى (لا إله إلا الله) التخلص من كل عبودية إلا لله وحده، وفي الثانية (محمد رسول الله): أنه لا عبودية صحيحة إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
إنه دين أدرك أمتنا العربية في حياتها الوحشية التي نطق بها القرآن الكريم، حياة العبودية للجمادات والأموات أموات لا يسمعون ولو سمعواما استجابوا وكما هو واقع بعض المسلمين في بعض الدول التي تدّعي الإسلام للأسف الشديد! فقد انتشرت عبادة القبور في أكثر أنحاء بلاد المسلمين! فيجلسون عند قبر الميت، ويسألونه الحوائج ونسو القادر المقتدر، الله الذي لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
أما الأموات فقد صاروا رفاتاً وعظاماً وتراباً، ولكن الله سيجمعهم بقدرته إذا نفخ في الصور.
أمة الإسلام: لقد جاء الإسلام والعرب الأقدمون الجاهليون في جاهليتهم الجهلاء، وعاميتهم الظلماء، يعبدون الحجارة من دون الله لقد عجب من ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضحك ثم بكى، فقال له أحد الحاضرين: لماذا بكيت يا أمير المؤمنين ثم ضحكت؟ قال: [[بكيت لأني وأدت ابنة لي وهي حية، وضحكت لأني أعبد صنماً من تمر، فإذا جعت أكلته، وإذا شبعت عبدته]] فهو يضحك رضي الله عنه تعجباً؛ لأن الله أخرجه من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والإيمان.
إنها حياة عبادة الجمادات والأموات ولو سمعوا ما استجابوا لهم حياة وأد البنات حياة شظف العيش وقد حياها أولئك الجاهلون حياة الذئاب المعتمدة في معايشها على النهب والسلب حياة معاقرة الخمور فجاء الإسلام، وجاء النور الساطع، وجاءت الشمس المشرقة جاء الإسلام فسما بها من هذه الأخلاق -وأقبح منها- إلى أوج العزة والكرامة إلى الألفة وصادق الأخلاق؛ فأصبحوا -بعد أن كانوا رعاة للشاة والإبل، وكانوا كالوحوش- أصبحوا قادة عظماء، وخضعت لهم الدنيا، وأطاحوا بعروش الفرس والروم وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل إسلامهم الذي لمَّ شعثهم ووحد كلمتهم وقضى على كل ما في نفوسهم من عوامل تفرقة بين عربي وغيره.
إن ديننا هذا قبس من نور، ومن محاسنه: آثاره على المتمسكين به في الدنيا والآخرة، فإن الله يعطيهم ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].(94/3)
تنكر الناس لدينهم
أيها المسلمون: لقد تنكر كثير من الناس لكثير من مبادئ الإسلام السامية، بالقول أو بالفعل أو بالاستهزاء أو بالمحاربة فقد دعاهم إلى الصلاة التي هي عمود الإسلام فقعدوا عنها، إما تركاً أو تهاوناً أو كسلاً، فهل أولئك بمسلمين؟ فهل أولئك بمسلمين؟!! ولو سمح الوقت لكررتها في اليوم خمس مرات: فهل أولئك بمسلمين؟! فإن من ترك الصلاة فقد كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر}.
ودعاهم إلى أداء الزكاة فبخلوا ودعاهم إلى النصح فغشوا ودعاهم إلى الصدق فكذبوا ودعاهم إلى البر فعقوا ودعاهم إلى الوصل فقطعوا ودعاهم إلى نفع إخوانهم فضروا ودعاهم إلى الإحسان فأساءوا ودعاهم إلى الإخلاص فبادروا بالرياء والشرك والعياذ بالله.
ودعاهم إلى الاحتشام والعفاف فأبوا إلا أن يلوثوا أخلاقهم، ويدسوا على تعاليم دينهم بما يسديه إليهم التلفاز والفيديو من تعاليم خليعة اكتسبنها نساء المسلمين وبناتهم للأسف الشديد! ويقولون: نحن أهل الإسلام، لا.
إن الإسلام بريء من هذا كله فاتقوا الله وارجعوا إلى دين الإسلام يا أهل الإسلام، وخافوا عاقبة ما أنتم عليه من تفريط وإهمال، وتمسكوا به، فإن التمسك به هو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وإذا ترك المسلمون الإسلام وتعاليمه؛ فقد ضلوا واحتاجوا إلى أعداء الإسلام.
عباد الله: لقد غزي هذا الدين العظيم من كل حدب وصوب، ومن أراد أن ينظر إلى الغزو فلينظر إلى أسواق المدن وما فيها من الأجنبيات الخبيثات اللاتي أتين ليغرين أولاد المسلمين وشباب المسلمين، ويبثوا الشهوات التي نهى عنها القرآن قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:59 - 60].
أمة الإسلام: الله الله في التمسك بدينكم، والذود عنه والمحاربة دونه كما فعل أسلافكم.
اللهم اجعلنا من أهل الإسلام الصادقين، وأمتنا تحت ظلاله يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(94/4)
الإسلام سبب للسعادة والفلاح
الحمد لله الذي نسخ بالإسلام جميع الأديان، وميزه بالخلود والصلاح لكل زمان ومكان، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي جاء بالنور الصادع والبرهان، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله وتمسكوا بتعاليم الدين، فإن سعادتكم في أن تكونوا به عاملين، وشقاؤكم في أن تكونوا عنه منحرفين.
أمة الإسلام: الله الله في التمسك بدين الإسلام، فخليق بكل من له نسبة من عقل أن يعيش في كنف الدين، ويلقي بنفسه بين أحضان هذا الدين، فهو الدين الكامل دين العدالة والمساواة دين من استضاء به اهتدى، ومن تمسك به نجا، ومن عض عليه وصل إلى الدرجات العلا دين من اعتز به فقد عزه، ومن ابتغى العزة من غيره فقد ضل سواء السبيل دين أساسه التوحيد (لا إله إلا الله) وروحه الإخلاص، وشعاره التسامح والإحسان دين ضمن لمعتنقيه السيادة والسيطرة والكرامة دين قام به سلفنا الصالح منذ أن طلع فجر محمد بن عبد الله، وقام به خلفاؤه وأتباعه، وكان لهم ما كان من عز وطيد، ومجد مشيد، وكلمة نافذة؛ فأصبحوا ملوك الدنيا بعد أن كانوا أمة مبعثرة مغلوبة على أمرها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
دين لا تطلب السعادة إلا وجدت فيه، ولا خير إلا وجد فيه، ولا يكشف عن مخبوء في الكون إلا وجد فيه دين شرع لنا من العبادات والمعاملات ما يهدم النفوس، ويبعث فيها روح التعاون والإخاء إن نحن تمسكنا بدين الإسلام.
أمة الإسلام: والله ثم والله لا دين إلا دين الإسلام، كما قرره ربنا في محكم الكتاب فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] فلا يهودية، ولا نصرانية، ولا مجوسية، ولا وثنية كلها محاها الإسلام، وسوف يظل الإسلام على رغم أنوف أعداء الإسلام، اللهم ارزقنا التمسك بدين الإسلام.
عباد الله: اعلموا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وعليكم بجماعة الإسلام والمسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذَّ عنه أو ابتغى العزة من غير دين الله وعن نهج رسول الله وعن نهج سلفنا الصالح فقد شذَّ في النار، واعلموا أنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
وصلوا على من أرشدنا إلى نور الهداية، ومن أنار الله به قلوب المسلمين بالإيمان صلوا على سيد البشر محمد بن عبد الله الذي أخرجكم الله بدينه من الظلمات إلى النور، صلوا على من بعثه الله بالحنيفية السمحة، كما صلى الله عليه وملائكته {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد ما أظلم الليل وما أضاء النهار، وما طلعت شمس وما غابت، وما طلع قمر ونجم وأفل، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وزده صلاة وسلاماً إلى قيام الأبدان من القبور، واجعلنا من الواردين على حوضه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا رب العالمين، وارزقنا الاقتداء بهم.
اللهم املأ قلوبنا بالإخلاص حتى لا تضرنا شعارات رفعها الدعاة المدعون لأعداء الإسلام، ممثلون وغيرهم، اللهم اكفنا واكف المسلمين شرهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها اللهم دمر أعداء الدين اللهم دمر أعداء الدين اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك ومزقهم كل ممزق اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين اللهم انصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أغثنا بعز الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين اللهم أصلح أولادنا ونساءنا اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط ومضلات الفتن والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن وعن جميع بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنا نسألك أنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ أن تملأ قلوبنا من محبتك ومن خشيتك ومن معرفتك، ومن الأنس بقربك، واملأها حكمة وعلماً، اللهم املأ قلوبنا من الإيمان.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(94/5)
حادثة الإفك
المنافقون خطرهم على الإسلام أكبر من خطر اليهود والنصارى، ولقد بلغ جرمهم ووقاحتهم أنهم اتهموا زوج النبي صلى الله عليه وسلم العفيفة الطاهرة بما يصان اللسان عن التحدث به.
وعائشة رضي الله عنها في هذه الخطبة تحكي قصتها بنفسها، وكيف هجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان نزول براءتها من السماء في قرآن يتلى إلى يوم القيامة؛ فلذلك وجب الحذر من النفاق والمنافقين.(95/1)
المنافقون وخطرهم على الإسلام
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل واحذروا من عقابه.
عباد الله: أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من صميم قلوبكم, فإن الله أخرجكم بدعوته من الظلمات إلى النور, فكم لاقى في سبيل دعوته من المعارضات والمنازعات من قبل خصومه من المشركين والمنافقين وأضرابهم, فلقد شجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته, وتآمروا على قتله ورموه بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه, ويأتيه ملك الجبال بأمر الله القوي العزيز الحميد بهلاك أولئك, وهو أن يطبق عليهم الجبال, ويدمرهم تدميراً عن بكرة أبيهم, ولكن ماذا يقول الرءوف بأمته صلى الله عليه وسلم؟ يقول: {لا.
لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً}.
هكذا يصمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام تحديات المشركين، حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة , ولكن أعداء الرسالة المحمدية أصناف متعددة, وتبين منهم في المدينة المنافقون الذين يضمرون الكفر ويعلنون الإسلام.
ولكن القرآن فضحهم وبين عداوتهم لله ولرسوله في آيات تتلى؛ ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة, لتعرف فيه خطر النفاق والمنافقين وضررهم على الأمة الإسلامية؛ فيحذروهم لا كثرهم الله ولا حياهم ولا بياهم, وزلزلهم الله وأخرجهم عن ديار المسلمين.(95/2)
حادثة الإفك
نعم! أمة الإسلام! نعم يا أمة القرآن-وأنتم ترتلون كلام الله عز وجل، وتقرءون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مرّ بكم حادث عظيم حدث في الإسلام, حادث بشع يتناول بيت النبوة الطاهر، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم, أكرم إنسان على الله عز وجل، وعرض صديقه الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وهو أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض رجل من خيرة الصحابة رضي الله عنهم صفوان بن المعطل الذي يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً.
إن هذا الحادث حادث الإفك قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية آلاماً لا تطاق, وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق، وحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولـ عائشة رضي الله عنها وصفوان رضي الله عنه ما لا يطاق من الألم والهم, حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول الطاهرة العفيفة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, وببراءة ذلك المؤمن المجاهد صفوان , وإدانة أهل النفاق وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول بالتآمر على بيت النبوة، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات.(95/3)
قصة حادثة الإفك ترويها عائشة
تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي الصديقة بنت الصديق: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه, فأقرع بيننا في غزوة غزاها, فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب, فأُحمل في الهودج وأُنزل فيه, فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقد دنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت ألتمس عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه, وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل المرأة العلقة من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن, فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس به منهم داع ولا مجيب, فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سوف يفقدوني فيرجعون إليّ, فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه من وراء الجيش؛ فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني, وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! فخمرت وجهي بجلبابي, ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه إنا لله وإنا إليه راجعون! وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك فيّ من هلك، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً -أي: مرضت شهراً- والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك, وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي, إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف, فذلك يريبني ولا أشعر بالشر, حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا, وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا}.(95/4)
عائشة لا تعرف الخبر إلا بعد شهر
{قالت رضي الله عنها: فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت قبل بيتي حين فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلتِ! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ أي هنتاه , أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك, فازددت مرضاً على مرضي, فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي، وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما, فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي: يا أمتاه! ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية! هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثّرن عليها, فقلت: سبحان الله! أو لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم, ثم أصبحت أبكي.
قالت رضي الله عنها: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله, فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه, فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيراًَ, وأما علي فقال: يا رسول الله! لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك الخبر, قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية بريرة , فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول وهو على المنبر, وقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي, والله ما علمت على أهلي إلا خيراً, ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً, وما يدخل على أهلي إلا معي, فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل, فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه, وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك, فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية، فقال لـ سعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل, فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد , فقال لـ سعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر -هكذا يدس المنافقون على الإسلام والمسلمين, حتى يفرقوا جمعهم ويشتتوهم ويجعلوهم شذر مذر, ولكن رحمة أرحم الراحمين- فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا, وتقول عائشة رضي الله عنها: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً, حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي.
}.(95/5)
النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عائشة عن الخبر
قالت رضي الله عنها: {فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي, فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودخل الفرج والفتح القريب من رب العالمين, فسلم ثم جلس تقول: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها, وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء, فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد: يا عائشة! إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله, وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه, قالت: فما أن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، حتى قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة, فقلت لأبي: يا أبي! أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال, فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال؟ قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ القرآن كثيراً: إنكم والله لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به, فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني, وإن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقنيّ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم حينئذ أني بريئة, وأن الله مظهر براءتي.
}(95/6)
براءة عائشة من فوق سبع سماوات
وتقول: {ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر, ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا فيبرءني الله بها, فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم, فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان, وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه, فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة! أما الله فقد برأك، فقالت لي أمي: قومي إليه, فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل، وأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]} عشر آيات
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(95/7)
احذروا المنافقين
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله الصادق في وعده، القائل جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! لقد تبين لكم من خلال هذه القصة العجيبة, خطر النفاق والمنافقين، وتآمرهم على الإسلام والمسلمين, وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه, حيث استهدفوا عرضه الشريف وكرامته صلى الله عليه وسلم, وأرادوا أن يلوثوا سمعته الطاهرة بالطعن في عفاف زوجه الصديقة عائشة رضي الله عنها.
ولكن الله جل ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم، وبرأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم, وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر، وعنوان مجدٍ وفخارٍ لزوجاته الطاهرات, ودليل طهرٍ ونزاهةٍ لبيت النبوة {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26] فصلى الله وسلم على نبينا محمد، ورضي الله عن زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وورد في الأثر أنه قال: {يأتي في آخر الزمان أقوامٌ يختِلون الدنيا بالدين، لابسين للناس في اللين جلود الضأن، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب} وما أكثرهم لا كثرهم الله! وما أكثرهم لا حياهم الله ولا بياهم! يختِلون الدنيا بالدين لابسين للناس في اللين جلود الضأن ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب.
صلوا على رسول الله الذي دلكم على كل خير وحذركم من كل شر, اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وارضِ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمر المنافقين وأعوان المنافقين, ومن أراد لهذا الدين وللمسلمين عداءً يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين, وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم ارزق ولاة المسلمين الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم قيض لولاة أمور المسلمين الجلساء الصالحين الناصحين الصادقين الذين يذكرونهم إذا نسوا, ويعينونهم إذا ذكروا, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا يا رب العالمين, اللهم اجعلنا هداة مهتدين, اللهم اجمعنا ووالدينا ووالدي والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم احفظنا بالإسلام قائمين, واحفظنا بالإسلام قاعدين, واحفظنا بالإسلام راقدين, ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(95/8)
حكم الاحتفال بالمولد
إن الدين الإسلامي منذ أن شع نوره وسطع ضوؤه، والأعداء يكيدون له، مرة بالمحاربة، ومرة بالتلبيس، ومرة بالابتداع وإدخال عليه ما ليس منه، ومن هذه البدع المحدثات: بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكتف المحتفلون ببدعة الاحتفال، بل أضافوا إلى ذلك منكرات مختلفة تزيد الطين بلة، وقد تحدث الشيخ عن ذلك، وأتى بفتوى العالم ابن باز في هذه المسألة.(96/1)
بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي فتح أبواب الهدى بمن جعله مسك الختام، وجعل أمته خير الأمم، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره من ذوي الإجرام، نحمده على ما أسبغ من جزيل الإنعام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، ونشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله البدر التمام، الذي بعثه الله رحمة للعباد، وفارقاً بين الحلال والحرام، وداعياً إلى القيام بأركان الإسلام، نصح الأمة, وكشف الله به الغمة, وجاهد في الله حق الجهاد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: لقد قضى صلى الله عليه وسلم حياته المباركة في كفاح وجهاد متواصل، وأرسى الدين الإسلامي في نفوس البشرية إلى أن اختار الله له في الرفيق الأعلى، فوافاه أجله في هذا الشهر الذي ولد فيه، بعد أن قضى ثلاثاً وستين سنة، أولها في تعبد وتقليب لوجهات العرب، وبعد الوحي في تبليغ رسالة ربه حتى أكمل الله به الدين، ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها إياه، ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
عباد الله: يا أتباع محمد بن عبد الله! يا من يحبونه أعظم من حبهم لأنفسهم وأهليهم! إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإجلاله إنما يكون في اتباعه والاقتداء بسنته, والتخلق بأخلاقه، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.(96/2)
حكم الاحتفال بالمولد
أمة الإسلام: ليس حبه صلى الله عليه وسلم في الاحتفال بمولده، كما يفعل في هذا الشهر في الأقطار العربية وبعض الدول الإسلامية، وقد سئل فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز عن الاحتفال بالمولد النبوي، فأجاب باختصار رحمه الله بما فيه كفاية قال:
والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون, ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتابعة لشرعه من بعده، وقد ثبت عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}.
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه وبحمده: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] , هذا كلام الله، وآيات الله في هذا المعنى كثيرة، ومحدثات مثل هذه تدل على أن الله عز وجل لم يكمل الدين.
يقول فضيلة الشيخ: إن مثل هذه الموالد يفهم منها أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله جلَّ وعلا قد أكمل الدين لعباده، وأتمَّ عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم} ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً.
فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بالمولد ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته منها، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين، فقد جاء في معناهما أحاديث أخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة، {أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.(96/3)
أدلة تحريم الاحتفال بالمولد
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار المولد وتحريمه، عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها، وقد رددنا هذه المسألة وهي احتفال المولد إلى كتاب الله سبحانه وبحمده، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه.
ولقد رددنا ذلك أيضاً إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به، ولا سأله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أن المولد ليس من الدين, بل هو من البدع المحدثة وهو من التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصافاً في طلبه: أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين الإسلامي في شيء، بل هو من البدع والمحدثات التي أمر الله ورسوله بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالمولد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى، كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف, وشرب المسكرات والمخدرات, وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأولياء، وما يقع من دعائه صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، وجعله نداً لله، والاعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره ممن يسمونهم الأولياء.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والغلو في الدين! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين} فمن العجائب والطرائف أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجبه الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأساً، ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي.
نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(96/4)
التحذير من البدع
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم واقتفى آثارهم وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، وتبصروا في دينكم، واحذروا البدع المحدثة التي تبعدكم عن الله وتصدكم عن الصراط المستقيم.
عباد الله: لقد بلغ بالذين يحضرون المولد من الإفك والافتراء أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين مرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما أخبرنا بذلك الله جلَّ وعلا فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16] وقال صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع} عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاع بينهم.
فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من الذين يدّعون العلم -نسأل الله العافية- ليحذر أولئك مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.(96/5)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات, ومن الأعمال الصالحات, كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلّى علي صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إلى الإسلام، واكفنا شر المحدثين في الدين، اللهم اكفنا شر أهل البدع والخرافات، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، اللهم إنا نعوذ بك من شر الكفار والمنافقين الذين يصدون عن دينك, ويبدلون دينك, ويريدون بعبادك الضلال، حسبنا الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم حرباً لأعدائك سلماً لأوليائك، اللهم انصر بهم دينك يا رب العالمين، واجعلهم قرة أعين والديهم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين! {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(96/6)
حياة أبي بكر رضي الله عنه
لقد اختار الله تعالى لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم خيرة الناس، وخصهم بمزايا عظيمة، وتختلف طبقاتهم وفضلهم بحسب تلك المزايا، وأعظمهم فضلاً ومنزلة أبو بكر الصديق؛ لما اختص به من تقدم إسلامه، وصدق إيمانه، وعظيم تحمله للبلاء، وتضحيته في سبيل هذا الدين، وهو رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وخليفته من بعده، وأشد الناس متابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام.(97/1)
فضل الصحابة رضي الله عنهم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله: إن الله جلَّ وعلا اختار لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أصحاباً من خيرة الناس، وخصهم بمزايا لم تكن لسواهم من الناس أجمعين حاشا الأنبياء والمرسلين، وأثنى الله عليهم في كتابه المبين؛ تنبيهاً على جلالة قدرهم وعلو منزلتهم، وعظيم فضلهم وشرفهم، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
ثم يصف الله الصحابة رضي الله عنهم بشدة الرحمة ولين الجانب بعضهم لبعض، ثم هم أشداء على أعداء الله ورسوله من الكفرة والمعاندين، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] نعم -عباد الله- آخذين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً} أولئك الرجال الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون؛ ليلتقوا بإخوانهم الأنصار أولئك الرجال الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، نعم أولئك الرجال الذين صدقوا في نصرة الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم، فيوسعون لهم الدور والصدور {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
عباد الله: لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أصبر الناس -بعد الرسل- على الأذى في الله، وهم الذين فتحوا القلوب بالقرآن والذكرى والإيمان، وفتحوا القرى بالسيف والسنان، وبذلوا النفوس النفيسة في مرضاة الله جل وعلا، فأي خطة رُشدٍ هم لم يستولوا عليها؟ وأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ لقد وردوا ينبوع الحياة عذباً صافياً زلالاً، ووطَّدوا قواعد الدين والمعروف، فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً.
إذاً يا عباد الله! فلا يشك عاقل أنهم هم الذين حازوا قصب السبق، واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق والعفة، والكرم والإحسان، والقناعة وعلو الهمة، والنزاهة والشجاعة، والتقى والتواضع، وكثير كثير رضي الله عنهم أجمعين، أولئك الصحابة رضي الله عنهم الذين تخرجوا من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسعيد والله ثم والله من تبع طريقهم المستقيم، واقتفى آثارهم، ونهج منهجهم القويم.(97/2)
أفضلية أبي بكر على سائر الصحابة
ففي مقدمة هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون، وفي مقدمتهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو صديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، ولما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادر أبو بكر بالتصديق والإيمان، وأعلن إسلامه بين القوم الكافرين.(97/3)
تحمله المشاق من أجل نشر الإسلام
اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة في أول الإسلام وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، فألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور من الدار، فقال: يا أبو بكر إنا قليل، فلم يزل أبا بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد الحرام، كل رجل في عشيرته.
وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضرباً شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنى منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزل على بطن أبي بكر رضي الله عنه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تميم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب حين أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم، فدخلوا المسجد، وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، ورجعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه، وهو في إغمائه، فجعل أبوه وبنو تميم يكلمون أبا بكر، حتى أجاب فتكلم آخر النهار، فلما أفاق من إغمائه، ماذا قال يا عباد الله؟ قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا عنده أولئك الجهلة، فمسُّوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه.
فلما خلت به -أي: خرج عنه أبوه وبنو تميم- ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي علم بصاحبك، فقال رضي الله عنه: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب، فاسأليها، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فجاءت إليه وأخبرته أن محمداً سالم صحيح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله عليَّ ألا أذوق طعاماً ولا أشرب حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالتا له: فأمهلنا، حتى إذا هدأت الرِجل وسكن الناس، فراحتا به يتكأ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ليس بي بأس إنما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهراً وهم تسعة وثلاثون رجلاً.(97/4)
خروجه قاصداً الحبشة
وكان حمزة رضي الله عنه قد أسلم في اليوم الذي ضرب فيه أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين.
واشتد الأذى على المسلمين، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرج ولا يخرُج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جارٌ، ارجع واعبد ربك في بلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، ثم طاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يُخرج مثله ولا يخرُج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لـ ابن الدغنة: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره فليفعل، فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فلبث أبو بكر بذلك، يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لـ أبي بكر رضي الله عنه فابتنى مسجداً في فناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين، أي: يزدحمون عليه هم وأبناؤهم ويعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إن كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فليفعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على دارك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.(97/5)
مرافقة الرسول في الهجرة
ولما أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، خرج هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قدَّم أبو بكر رضي الله عنه النفس والمال والولد لله ورسوله، ويسيران والمشركون في الطلب، واختفيا في الغار ثلاثة أيام، قال أبو بكر رضي الله عنه: {قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟}.(97/6)
خلافته ومسارعته بالخيرات
نعم -يا عباد الله- إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي استخلف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار خليفة على المسلمين، فكان خير خليفة، جاهد في الله حق جهاده، وسار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدم جميع ماله لله ولرسوله، وهو الذي ثبت في قتال أهل الردة ثبوتاً منقطع النظير، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة باباً يقال له الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، وبابٌ للصلاة، وباب للصدقة -وباب لكذا وكذا، يعدد الأعمال الصالحة- فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وهكذا باقي الثمانية الأبواب، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وهل على أحد من حرج أن يدعى منها كلها؟ قال: لا، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر} فرضي الله عنك يا خليفة رسول الله! وعن جميع أصحاب رسول الله.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(97/7)
من فضائل الصحابة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس! اتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: انهجوا سبيل المؤمنين، واقتفوا آثارهم، واعرفوا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقهم وفضلهم، وأحبوهم يحبكم الله ورسوله، فقد روى الترمذي في سننه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله أوشك أن يأخذه} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه}.
ومناقب الصحابة وفضائلهم أكثر من أن تذكر، وقد أجمعت علماء السنة أن أفضل الصحابة هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وأفضل العشرة أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ولا يشك في ذلك إلا مبتدع منافق خبيث، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية حيث قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}.
عباد الله: ترضوا عن أصحاب رسول الله، وأحبوا أصحاب رسول الله، فهم بذلوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، هم الذين أخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهم الذين فتحوا الدنيا، ومصروا الأمصار، وفتحوا الفتوحات، وفتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، وفتحوا القرى بالسيف والسنان، فرضوان الله عليهم أجمعين، اللهم إني أشهدك أني أحبك وأحب رسولك وأحب أصحاب رسولك أجمعين.
عباد الله صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء! اللهم اجعل بأس أعداء الإسلام والمسلمين بينهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين في برك وبحرك يا رب العالمين! اللهم انصرهم بنصرك وأيدهم بتأييدك، اللهم ارفع راية الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع كلمة التوحيد يا رب العالمين! اللهم دمر اليهود والنصارى والمبشرين والشيوعيين ومن ناصرهم على الإسلام والمسلمين.
اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم لا تبقِ منهم أحداً، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، الذين يعينونهم إذا ذكروا ويذكرونهم إذا نسوا، الذين يعينونهم على الحق يا رب العالمي، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيينا بصلاحهم يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ولوالدين ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
اللهم آمنا في أوطاننا، ولا تسلط علينا أعداءنا، اللهم آمنا في دورنا، اللهم ارفع عنا الغلاء والبلاء والوباء، والربا والزنا واللواط، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(97/8)
خطر البدع
شرع الله تعالى لنا، شريعة كاملة ومنهجاً شاملاً، وأمرنا بالتزامها والاهتداء بهديها، وحرَّم علينا إحداث زيادة فيها أو نقصان، وأوجب علينا عرض جميع أعمالنا -عبادات ومعاملات وسلوكيات- عليها، فما وافق أخذناه، وما خالف تركناه، وإن مما أُحْدِثَ مخالفاً للشريعة الإسلامية تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة وقراءة قرآن ونحو ذلك، فالواجب علينا إنكار ذلك ومجانبته.
وإن مما نهي المسلمون عن فعله مشابهة المشركين في أفعالهم؛ لأن المشابهة تورث المحبة لهم.(98/1)
كمال الشريعة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، اللهم إنا نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، واعلموا أن الله قد أكمل لنا الدين، وأمرنا باتباعه والتمسك به، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ويقول جل وعلا ناهياً عن الطرق التي تحيد بنا عن صراطه المستقيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(98/2)
خطورة الابتداع في دين الله
أجل يا عباد الله أجل يا أمة الإسلام! كل عمل ليس له أصل في الشرع ولم يقم عليه دليل من السنة فهو من ابتداع المبتدعين المضلين، وهو من السبل المتفرقة التي تضر بمن اتبعها وأعرض عن صراط الله المستقيم، يقول صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي رواية: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
أمة الإسلام: ما أكثر البدع التي حدثت ودخلت على الناس فاستحسنها البعض وأحبها ونبذ السنن لأجلها.
أمة الإسلام: يروي لنا الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسنده عن الناصح الأمين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها}.
عباد الله: احذروا من البدع فإن فيها مفاسد عظيمة، فإن الشيطان يزينها للإنسان حتى يحرص عليها أكثر مما يحرص على السنة، والبدعة -يا عباد الله- هي السلاح الفتاك لأعداء هذا الدين، يستخدمون بدعهم وخرافاتهم، ليشوهوا بها الدين الإسلامي الحنيف، ويغطون بها وجه هذا الدين الصحيح، حتى يظن من لا يعرف حقيقة الإسلام أنه مجموعة من الخرافات والطقوس الفارغة فينصرف عنه من يريد الدخول فيه، فكم لأهل الأهواء والبدع من منكرات ما أنزل الله بها من سلطان؟!(98/3)
وجوب عرض الأعمال على الشرع
فعليك أخي المسلم أن تتحرى الصواب في عباداتك، وأن تعرض أعمالك وأقوالك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما فاحمد الله على ذلك واسأله الثبات، وإن كنت تلبست بالبدعة فانخلع منها وابتعد عنها قبل أن يأتيك أجلك المحتوم، وإن أشكل عليك شيء من أمور دينك فاسأل؛ حتى تكون ذا عمل وبصيرة قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
عباد الله: إن المسلم الواعي الرشيد لا يعتمد في دينه إلا ما صح النقل به عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما يكثر فيه الخلاف بين العلماء رحمة الله تعالى عليهم أجمعين، فقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(98/4)
بدعة ليلة النصف من شعبان
عباد الله: لقد اشتغلت بعض المجتمعات الإسلامية بما ورد من الآثار عن ليلة النصف من شعبان، واعتمدت ما سطر في بعض الكتب من تخصيص ليلة النصف من شعبان بدعاء يقرأ فرادى وجماعات، يتخلله قراءة سورة يس، مرة يقرءون وينوون به طول العمر، ومرة ينوون به دفع البلاء، ومرة ينوون به الاستغناء عن الناس.
فمع الأسف الشديد -يا أمة الإسلام- اجتهد العلماء الجهابذة المحققون فلم يجدوا ذلك في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أبو بكر الصديق، ولا عمر الفاروق، ولا عثمان بن عفان، ولا علي بن أبي طالب، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين، ولا فعله سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إذا علم أنه من وضع المبتدعين في الدين فكل بدعة ضلالة؛ كما أخبرنا بذلك سيد المرسلين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك -يا عباد الله- لم يرد في الحديث الصحيح ما يدل على إفراد ليلة النصف من شعبان بقيام من بين سائر الليالي، ولا بصوم يومها من بين سائر الأيام، إنما ورد الحث على صيام أيام البيض من كل شهر الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والذين يزعمون أن ليلة النصف من شعبان نزل فيها قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] فإن جمهور العلماء على خلاف ذلك، بل هذه الآية نزلت في ليلة القدر، وليلة القدر إنما أمرنا أن نتحراها في العشر الأواخر من رمضان، كما أمرنا بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فانتبهوا لذلك يا عباد الله! واحرصوا على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمر الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمن اهتدى بهديه وأطاعه فيما أمر به، وانتهى عما نهى عنه والتزم اتباعه أعظم الله له الأجر، وبلَّغه أمنيته في أمور دينه ودنياه.
اللهمَّ وفقنا جميعاً لاتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا جميعاً ما تبغضه وتأباه، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(98/5)
التمسك بالشريعة الإسلامية سبيل السعادة الحقيقية
الحمد لله الذي أمرنا باتباع شرعه القويم، ونهانا عن الابتداع في الدين، أحمده وأشكره الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر ألا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه، عباد الله! اعتزوا بدينكم، وافخروا بدينكم دين الإسلام فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنى المسلمين وأنعم عليهم بشريعة كاملة شاملة لكل مصالح الدين والدنيا، وعلق السعادة في الدنيا والآخرة على العمل بها والتمسك بهديها، قال ربنا جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123].(98/6)
من التمسك بالشريعة حرمة التشبه بالكفار
وهذه الشريعة هي الصراط المستقيم الذي هو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما خالفها فهو طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى والمشركين، وأنت -أيها المسلم- في كل ركعة من صلاتك تدعو ربك أن يهديك الصراط المستقيم، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين، حينما تقرأ سورة الفاتحة التي قراءتها ركن من أركان الصلاة في كل ركعة، فتأمل هذا الدعاء ومقاصده وثماره، إنه يعني أول ما يعني: الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، والتمسك بشريعته في العبادات والمعاملات، وفي الآداب والأخلاق العامة والخاصة، وأنه يعني مخالفة الكفار فيما هو من خصائصهم في العبادات والمعاملات، وفي الآداب والأخلاق؛ لأن التشبه بهم في الظاهر يورث محبتهم في الباطن {ومن تشبه بقوم فهو منهم}.(98/7)
الأدلة حول التشبه بالكافرين
ولهذا تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على الأمر بمخالفة أعداء الله وأعداء شرعه ودينه، وعن التشبه بهم؛ إبعاداً للمسلم عما فيه مضرته؛ لأن أعمال الكفار باطلة ومساعيهم ضالة، ونهايتهم إلى الهلاك، فجميع أعمال الكفار وأمورهم باطلة.
فالحذر يا عباد الله! واسمعوا لرسول الله وهو يحذركم بهذا الحديث الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سُنَن من كان قبلكم} وفي رواية: {لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن} أي: من أي القوم إلا هؤلاء رواه البخاري ومسلم.
فيخشى علينا من اتباعهم ومن التشبه بهم.
فاحذروا -يا عباد الله- من البدع والمخالفات! وتمسكوا بدينكم القويم الصحيح الكامل الشامل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله: إن الله يأمركم أن تصلوا على نبيكم محمد امتثالاً لأمره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن أصحاب رسولك أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع يدك عنهم وعافيتك ومزقهم كل ممزق يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أصلح أئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين.
اللهم اشفِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم اكتب الصحة والسلامة لنا ولجميع المسمين في برك وبحرك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنَّا الغلاء والبلاء، والربا والزنا واللواط، والزلازل والمحن وسوء الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(98/8)
خطر المعاصي
إن عواقب الذنوب والمعاصي وخيمة في الدنيا والآخرة، فهي تحرم البركة وتطفئ نور القلب، وتقتل الغيرة، وتستنزل غضب الله جل وعلا وعذابه؛ ولقد ذكر الله تعالى لنا ما حلَّ بالأمم السابقة من العذاب والنكال والخسف والحرق والإغراق بسبب ما اقترفوه من الآثام والمعاصي، وقد ذكره عبرة لنا؛ حتى لا يحلَّ بنا ما حلَّ بهم.(99/1)
عواقب المعاصي
الحمد لله رب العالمين، حذَّر من الذنوب والمعاصي، وأرشد إلى الطاعات وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، حذَّر من المعاصي، وحثَّ على التزود من الطاعات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا عز وجل، وتدبَّروا كتاب الله تجدوا فيه ما حلَّ بالأمم السالفة من العقوبات والنكبات؛ لأنهم ارتكبوا المعاصي، وأسخطوا جبار الأرض والسموات، حين عصوه سراً وعلانيةً، فمنهم من ردَّ رسالة نبيه، ومنهم من قتل الأنبياء، ومنهم من قتل الناس الذين يدعون إلى الله.(99/2)
المعاصي سبب هلاك الأمم
إن المعاصي -يا عباد الله- لها عقوبات عاجلةٍ وآجلة، ولها آثار سيئة على العباد والبلاد، فكم أهلكت من أمة! وكم دمُرت من بلاد! فما في الدنيا والآخرة من شرور وداء وبلاءٍ إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
فمن الذي أخبرنا إلا الله عز وجل، أخبرنا بالكتاب العزيز أنه أخرج الأبوين من الجنة آدم وحواء، أخرجهما من دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور؛ إلى دار الآلام والأحزان والمصائب، لما عصوا الله بذنب واحد، نهاهم عن الشجرة فأكلا.
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجُعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وبُدِّل بالقرب بعداً وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وحلَّ عليه غضب الربِّ ومقته؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق الجبال؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض؛ كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم، وحروثهم وزروعهم ودوابهم؛ حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى قوم لوط حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أمة غيرهم؟
ولمن يعمل أمثالها {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحائب العذاب كالظلل، فلمَّا صار فوق رءوسهم، أمطر عليهم ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنَّم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمَّرها تدميراً؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار؟
قتَّلوا الرجال، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية، فأهلكوا ما قدروا عليه، وتبروا ما علوا تتبيرا.
وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات مرة بالقتل والسبي، وخراب الديار، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردةً وخنازير؟
وأقسم الرب جلَّ جلاله {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167].
إنها الذنوب والمعاصي يا عباد الله! وكل ذلك ذكره الله لنا في كتابه المبين؛ حتى نحذر ذلك ونبتعد عنه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
عباد الله: هذه عقوبات المعاصي، وما تجره على أهلها في العاجلة قبل الآخرة، من غرقٍ وحريق، وريح عقيم {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وصيحة واحدة تجعل العصاة كالهشيم، وخسف مروع يجعل عالي الأرض سافلها، ومطرٌ بالحجارة من السماء، وسحابٌ يمطر ناراً تلظى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] وصدق الله حين يقول: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:16 - 19].(99/3)
وجوب أخذ العبرة من السابقين
عباد الله هل من أذنٌ تسمع؟ هل من قلبٍ حاضرٍ يخشع ويتذكر؟
لقد سمعتم أخبار القوم وما حل بهم من النقم والعقوبات والدمار والهلاك.
عباد الله: إن سنة الله في خلقه واحدة، وأنتم -يا عباد الله- تسمعون بما يحل في أرجاء العالم من الزلازل والفيضانات، والأعاصير المدمرة التي تجتاح الألوف من السكان، وتهلك المبالغ الطائلة من الأموال، وتدمر الكثير والكثير من المساكن، فكل ذلك -يا عباد الله- من آثار المعاصي والذنوب، وما يحل بالعالم من الأمراض والأوجاع الفتاكة والحوادث المروعة، وما يحدث في العالم من الفوضى، ومن تسليط الظلمة، وكثرة القتل والانقسام إلى شيعٍ وأحزاب، يموج بعضها ببعض، كل ذلك من آثار المعاصي والذنوب، فالحذر الحذر يا عباد الله! الحذر الحذر يا عباد الله من الذنوب والمعاصي! وارجعوا إلى ربكم، وجدَّدوا توبةً نصوحاً قبل أن يحل بكم ما حل بالأمم الذين من قبلكم، واسمعوا إلى قول الله جل وعلا لعلكم تذكرون:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:94 - 99].
فاحذروا من مكر الله! فهذا تحذيرٌ لكم أن تسلكوا طريق من سبق من الأمم؛ من الخلاف والعناد والشقاق، وارتكاب المحرمات واجتراح السيئات.
اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم وفقنا لسلوك الصراط المستقيم، اللهم وفقنا لسلوك الصراط المستقيم، وثبتنا على الحق يا كريم! اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين يا رب العالمين.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(99/4)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل، واحذروا المعاصي والذنوب! فإنها وخيمة وعاقبتها الآلام، وحرمان البركة، إنها تطفئ نور القلب، وتقتل الغيرة، وتورث ما لا يحمد عقباه في الدنيا والآخرة.
أمة الإسلام: امتدحكم الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] هذا امتداح للأمة الإسلامية، ولعن آخرين قبلكم؛ لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال جلَّ وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].(99/5)
مجانبة أهل المعاصي
قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي يبده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم} وروى الترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً}.(99/6)
كثرة المنكرات وانتشارها
عباد الله: احذروا من العقوبة، فقد كثر في مجتمعنا تضييع الصلوات وترك الجُمع والجماعات، لقد كثر أكل الحرام؛ من الربا والرشوة، والغش في المعاملات، وأكل أموال الناس بالباطل بأنواع الحيل، وشهادة الزور، والأيمان الفاجرة في الخصومات، ولقد ارتفعت أصوات المعازف والمزامير والأغاني بأنواعها في البيوت وكل مكان، ولقد تبرجت النساء في الأسواق، وزاحمت الرجال؛ كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد ضاع كثيرٌ من الشباب، ونشأوا على الأخلاق الرذيلة والعادات السيئة، والجهل بأمور دينهم، وصار الكثير يجاري أعداء الإسلام بالعادات والتقاليد الشيطانية، وأصبحوا لا صلة لهم بالقرآن ولا بتعاليمه، ولا بأخلاق سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا صلة لهم بالمساجد إلا القليل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى الخير، وجنبنا كل شر، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعينٍ لنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط، والتبرج والسفور وجميع المنكرات، ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(99/7)
رجسٌ من عمل الشيطان
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأن نجتنب ما حرم علينا من المأكولات والمشروبات، ومن الأشياء التي حرمها الله علينا شرب الخمر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
والخمر معلومٌ ضررها على الإنسان؛ فمن أضرارها -وهي أعظمها- أنها تُذهب العقل الذي وهبه الله للإنسان.
ويقاس على الخمر أيضاً المخدرات التي أفتى العلماء بقتل من يروجها للناس؛ لأنها أضاعت بكثير من أموال الناس، وأذهبت عقولهم، وجعلتهم ينتهكون حرمات الله التي حرم عليهم.(100/1)
الأمر بأكل الطيبات وحفظ نعمة العقل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها المؤمنون: تمتعوا بما أحل الله لكم من الطيبات، واشكروه عليها بالقيام بطاعته، فإن الشكر سبب للمزيد، واسمعوا إلى الرءوف الرحيم، وهو يحثكم على الأكل من الطيبات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
أيها المسلمون: إن الله جلَّ وعلا أنزل القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نوراً وهدىً فيه آيات بينات، وسبل واضحات، من اتخذه إماماً وقائداً قاده إلى الجنة، وسعد في الدنيا وفاز في الأخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ومن ترك العمل بهذا القرآن، ومن ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل في الدنيا، وشقي في الآخرة، يقول الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72].
أيها المسلمون: هذا العمى المذكور في الآية الكريمة سببه اجتراح السيئات، وفعل المنكرات، وارتكاب المحرمات، فإن المعاصي توجد في القلب ظلمة حقيقية، يشعر بها العاصي -إن كان له ضمير- كما يشعر بظلمة الليل البهيم، وتزداد هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تعلو وتكون سواداً في الوجه، وذلك الران الذي ذكره الله في القرآن، قال جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
أيها المسلمون: إن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، سبب لسقوطه من عين الله: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
ويقول جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] نعم.
الله عزَّ وجلَّ كرم بني آدم بكرامات كثيرة، وفي مقدمة هذه الكرامة: العقل.
إن العقل -يا عبد الله- نعمة كبرى، ثم يجني البعض من بني آدم على هذا العقل ويزيله بما حرم الله عليه من المسكرات، والمخدرات -نسأل الله العفو والعافية- وغيرها من العار والشنار التي ابتلي بها كثير من الناس، وتوعد الله فاعلها بالخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى؛ لأن المسكرات وفي مقدمتها: أم الخبائث: الخمر هي رأس الخطايا، ودليل إلى النار وغضب الجبار.
المسكرات التي تيسر للعبد سبيل الفساد وتجعله يشتري الجنون بدل الرشاد.
المسكرات يشتري بها الجنون بماله الذي تعب فيه.
المسكرات يبيع بها كنزاً ثميناً، بل يجني عليه أكبر جناية، ألا وهو العقل الذي ركبه الله فيه، العقل الذي ميزه الله به عن سائر الحيوان.(100/2)
حال شارب الخمر
أمة الإسلام: إن شارب الخمر، خاسر لشرفه، ساقطةٌ مروءتُه، مرذولٌ بين المجتمع، شارب الخمر لو يرى نفسه وهو يُقَذِّرْ على نفسه كما يفعل الصبي، السكران يمشي ويقع ويتمايل في الطرق والناس يضحكون عليه ويستهزئون به، لو يرى السكران نفسه في تلك الحالة ما قارب الخمر، ولكنها كما قال الله جلَّ وعلا: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
السكران، لو رأى نفسه وهو يتبع أمه يريد أن يفعل بها جريمة الزنا ما اقترب الخمر، ولا اقترب المسكرات.
السكران، لو رأى نفسه وهو يتبع أخته ومحارمه ليفعل بهن الجريمة ما قرب إلى المسكرات: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
يا شارب الخمر! أين كرامتك حين يراك من كان يظن أنك من المكرمين؟! بل أين الإسلام! وأنت لا تخاف رب العالمين؟!
إن كان شارب الخمر تاجراً فلا يأمن الإفلاس؛ فإن الله قد توعد شاربَها بالفقر، والجنون، والفضيحة بين الناس.
شارب المسكرات، إن كان موظفاً فستكون عاقبة أمره التشريد والعذاب الشديد.
وإن كان مروجاً للمخدرات، وقبضت عليه السلطات فإن مآله إلى القتل، كما أفتى بذلك العلماء جزاهم الله خيراً؛ لأن المروج للمسكرات يعيث في الأرض فساداً.
وقد أجمع الأطباء على أن شارب الخمر يُصاب بأمراض كثيرة فتَّاكة، منها: السل، والشلل، واحتقان الكبد، وإفساد المعدة، وتغير الخلق، فالسكارى يسرع إليهم التشوه، وتسودُّ وجوههم في الدنيا قبل القيامة، أسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
السكارى تسودُّ وجوههم في الدنيا قبل الآخرة، ويكون كالهَرِم جسماً وعقلاً، فالخمر تضر الجسد ضرراً بالغاً، وتفتك به فتكاً ذريعاً، وتؤثر على عقول الذرية، فولد السكِّير لا يكون نجيباً، ولا ذكياً، بل ربما يُصاب بالخبل والجنون، هذا بعض ما يُصاب به شارب الخمر في الدنيا.
أما يوم القيامة، أما يوم الحسرة والندامة، فيُجاء بشارب الخمر مسودَّ الوجه، خارجاً لسانه على صدره، يتقذره كل من يراه، ويُصار به إلى جهنم وبئس المصير.
ويلك أيها السكير، لقد تجاهرت بالمنكرات، وأذهبتَ عقلك بالمسكرات، وارتكبت بسببها جميع المحرمات.
إن السكير إذا وضع كأس الخمر على فمه يقول الإيمان للكأس: انتظر حتى أخرج من القلب، وحُلَّ أنت فيه أيها الخمر.
فإن الإيمان لا يجتمع والخمر معاً في قلب مؤمن، {لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} بهذا أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
وأخبر: {إن الله لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وآكل ثمنها} إلى آخر الحديث، كل هؤلاء ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول أيضاً: {ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدقٌ بالسحر، ومن مات وهو مدمن للخمر سقاه الله من نهر الغُوطة، قيل: وما نهر الغُوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات} أي: الزواني اللواتي يؤذي أهل النار ريح فروجهن، نسأل الله العفو والعافية.
فهل يرضى عاقل من العقلاء أن تكون هذه حالته يوم القيامة؟!
هل تعلم يا شارب الخمر! أنك بعد شربها لا يقبل الله منك صلاة ولا صياماً أربعين صباحاً، كما ورد في الأثر.
وهل سمعتَ يا شارب الخمر! أنك يوم الهول الأكبر تشرب عرق أهل النار، فيقطع أمعاءك، ويشوي لحم وجهك، ويذيب جسمك، وتكون من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.(100/3)
سبب الكلام عن الخمر وأدلة تحريمها
أيها المؤمنون بالله: لعل البعض من المستمعين الذين عصمهم الله من هذا الشراب الخبيث ومن هذه المسكرات يقول: ما الداعي لهذا أن يتكلم به بين المسلمين؟
فنقول: يا عبد الله! هل راجعتَ مراكز الشرطة؟ هل راجعت محلات الأحداث؟ هل راجعت دار الرعاية؟ حتى تجد أناساً فقدوا العقول، وأصبحوا بصفة المجانين، بسبب استعمال المسكرات والمخدرات، كانوا رجالاً، كانوا من أعقل الرجال، ولكن لما جنوا على هذا العقل على هذه الكرامة صاروا بصفة المجانين، نسأل الله العفو والعافية.
اللهم لا شماتة.
لو راجعت أخي المسلم مراكز الشرطة رأيتَ بعض الشباب الذين ضاعوا في سبيل الشيطان، وقد أُتي بهم وهم سُكارى والعياذ بالله، إلى أين يرجع هذا؟ يرجع إلى إهمال الآباء، نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
أيها المسلمون: أولادكم أمانة في أعناقكم، حتى بدأت النساء تتناول هذه المسكرات والمخدرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون بالله حقاً: حافظوا على هذه الأمانات التي علقها في أعناقكم، فإنكم سوف تسألون عنها يوم القيامة.
لقد أجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقديم الزمان وحديثه على أن الخمر حرام، إجماعاً قطعياً لا ريب فيه، فمن قال: إنها حلال فهو كافر، يُستتاب، فإن تاب وأقر بتحريمها تُرك، وإلا قُتل كافراً مرتداً، لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما يُرمس في ثيابه، في حفرة بعيدة؛ لئلا يتأذى المسلمون برائحته، وأقاربُه بمشاهدته، ولا يرث أقاربُه من ماله، وإنما يُصرف مالُه في مصالح المسلمين، لا يُدعى له بالرحمة، ولا النجاة من النار؛ لأن من مات وهو يُدمن الخمر، فإن حقاً على الله أن يُسْقِيَه من طينة الخبال، وطينة الخبال: عُصارة أهل النار.
من استحل الخمر، وقال: إنها حلال، فإنه كافر، يقتل مرتداً، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الأحزاب:64 - 65].
نعم، أيها المسلمون! إن من اعتقد أن الخمر حلال، فهو مضاد لله، مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خارج عن إجماع المسلمين.
أما من شرب الخمر، وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام؛ ولكن سولت له نفسه بها، فشربها، فهو عاص لله، ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فاسق عن طاعة الله، مستحق للعقوبة، وعقوبته في الدنيا أن يجلد ردعاً له ولغيره، فإذا تكرر من الشارب الشرب، وهو يُعاقَب ولا يرتدع، فإن ابن حزم رحمه الله تعالى قال: يُقتل في الرابعة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يقتل في الرابعة عند الحاجة إذا لم ينتهِ الناس بدون القتل.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون، فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصفها الله بأنها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] وقرنها بالميسر، والأزلام، وعبادة الأوثان، وقال صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الخمر مفتاح كل شر، وجماع الإثم كله.
إن شارب الخمر يفقد عقله، ويلتحق بالمجانين، إنه ربما يقتل نفسه وهو لا يشعر، وربما يزني بأمه وأخته، وقد حصل أن كثيراً من السكارى زنوا بأمهاتهم ومحارمهم، وبعضهم باع شرفه وعرضه، وبعضهم ينبطح كما تنبطح الدابة وتُفعل به الجريمة حتى يحصل على قطعة من الحشيش، وحتى يحصل على قليل من الحبوب المسكرة.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91].(100/4)
حكم أكل القات
يا عباد الله: لا ننسى المصيبة التي ابتلي بها الكثير، وهي الجريمة الخفية التي تفتك بالأموال، وتفتك بكثير من الناس، ألا وهي (القات) -وإن لم يرضَ البعض من الناس- القات الذي أذهب حياة كثير من الناس، وذهبت بسببه الأموال، وبعضهم صار عالة على المجتمع بسبب أكل هذا القات؛ لأنه إذا حصَّل قليلاً من المال ذهب سريعاً حتى يجعله في هذا القات، ووالله ثم والله إن بعضهم حضر عندي يبكي، يقول: أريد أن أقتني مسكناً لأولادي، وعجزت أن أقتني لي مسكناً، وقد حصلتُ على كثير من الأموال، ولكني أذهبها بالقات، أذهب الله القات، وقطعه الله عن أراضي المسلمين.
القات -يا عباد الله- الذي يصد الكثير عن الصلوات، فكان بعضهم إذا خَزَّن وأكل القات يترك خمس صلوات والعياذ بالله، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
والله إن كل منصف إذا تحدث عن القات، فبعضهم ولله الحمد عرفه، وعرف مضاره وتركه، فهو يتحدث بصدق.
فمن أراد أن يستنصح، فليسأل الذين كانوا يستعملون القات وتركوه، ليعرف ما فيه من المضرة، ومن انتهاك الأموال التي جعلت من يأكله عالة بين المجتمع -نسأل الله العفو والعافية- جعلته يتسول، ويستعمل المسألة التي نهى الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم} وإذا سألت بعضهم وقلت: لماذا، أنت رجل جَلْد ونشيط وقوي؟ قال: القات أذهبه الله أكل أموالنا، فنسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
عباد الله: أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، وأسأله بمنه وكرمه أن يحسن لنا الختام، وأن يتوفانا على الإسلام.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.(100/5)
الابتعاد عن المسكرات والمخدرات
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واسمعوا وأطيعوا.
عباد الله: الله الله بالابتعاد عن المسكرات والمخدرات، فقد سمعتم مما تقدم من الآيات والأحاديث أن الخمر من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم، وعلمتم أن عذاب شاربها أليم، وأنها أم الخبائث، ورأس الخطايا، ومفتاح الشرور، ودليل إلى النار، ودليل إلى غضب الجبار.
فالحذر الحذر يا عباد الله.
فليتق الله شارب الخمر، وليفكر في الموت وسكراته، والقبر وظلماته، وليتب إلى الله، وليعمل صالحاً، وليقل لنفسه ويناجيها: نفسي نفسي ذهب الصبا وولى، وجاء المشيب وقد قضيتُ عمري في اللهو، فهل ترجعين، نفسي إن كان قد غرك الشباب، فالعمر يمشي كلمح البصر، وإن كان غرك المال، فما أنتِ من قارون أغنى وقد خسف الله به الأرض، وإن كان غرك نضرة الوجه، فالدود منتظر أن يشبع لحم الخدود.
فكر يا شارب الخمر فيما سمعتَ! وعِظْ نفسك لعلها تَرِقَّ، وتَلِيْنَ، وافتح آذان قلبك لعلك ترجع عن غيِّك، واذكر يوماً يقوم الناس فيه لرب العالمين: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] ندماً على ما جناه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].
فاتقوا الله -يا عباد الله- وأحسنوا سيرتكم وأفعالكم، وتجنبوا ما يخجلكم ويخزيكم عند الوقوف بين يدي الله رب العالمين.
يا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واحذروا المعاصي، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.(100/6)
بعض الأحاديث والآثار التي تحذر من الخمر
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل مسكر خمر، وكل خمر حرام}.
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من شرب الخمر في الدنيا، ومات ولم يتب منها، وهو مدمن لها، لم يشربها في الآخرة}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه الله من طِينة الخَبال، قيل: يا رسول الله! وما طِينة الخَبال؟ قال: عَرَق أهل النار}.
وأيضاً -يا عباد الله- يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم، ومن مات وهو يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغُوطة؛ وهو ماءٌ يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن} والمومسات: الزانيات.
وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقول: [[اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم يتعبد، ويعتزل الناس، فعلقته امرأة، فأرسلت إليه جاريتها تدعوه للشهادة -غرته هذه المرأة تدعوه للشهادة- فدخل معها فطفقت تغلق الأبواب، حتى أفضى إلى امرأة عندها غلام وراوية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتُك لشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تقتل الغلام هذا، أو تشرب هذا الخمر، فكأنه تساهل الخمر، فشرب الخمر، فقال: زيدوني، فلم يزل حتى وقع على المرأة وفعل جريمة الزنا، وقتل الغلام]] قتل نفساً بغير حق.
ألا يا عباد الله: اجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً، وإن سميت لكم بغير اسمها، وإن سميت بالمشروبات الروحية، وإن سميت جَرَس، فإنها خمر، وحشيش، ومخدرات، ومسكرات، قضت على حياة الكثير، وعلى أعراضهم، وعلى أموالهم، وعلى شرفهم، وأصبحوا رهائن في السجون، نسأل الله العفو والعافية.
عباد الله: صلوا على الناصح الأمين، صلوا على نبي الرحمة محمد بن عبد الله، الذي جاء بها بيضاء نقية، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
اللهم اهد ضال المسلمين، وثبت مهتديهم على الحق، يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقنا وإياهم الجلساء الصالحين الناصحين، الذين يذكروننا إذا نسينا، ويعيوننا إذا ذكرنا.
اللهم اجمعنا جميعاً ووالدينا ووالد والدِينا، وجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، في جنات النعيم، يا رب العالمين.
عباد الله: حافظوا على أولادكم، حافظوا على فلذات أكبادكم، فإنهم أمانة في أعناقكم، فإنكم سوف تُسألون عنهم يوم القيامة، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] فأعدوا للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والمخدرات، والمسكرات، والأفلام، والتمثيليات، اللهم ارفعها عنا وعن بلدان المسلمين حتى نعود إليك، ونرجع إليك يا رب العالمين، اللهم أبدلنا بها إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وأبدلها يا رب العالمين في بيوت المسلمين بقراءة القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].(100/7)
رسالة إلى الدعاة
المجتمع اليوم يشكو الجهل والفساد بجميع أشكاله وأنواعه؛ فلذلك أرسل الشيخ رسالة إلى العلماء عبر هذه الخطبة ينبههم على خطر الشيوعية واليهودية والنصرانية، ثم تحدث عن أخلاق الدعاة وما يجب عليهم في الدعوة إلى الله، كما تعرض لذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ظهور الفساد في الأرض إنما هو بسبب تركنا لهذه الفريضة (فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).(101/1)
ثلاثة أخطار تحيط بالأمة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى صراط الله المستقيم، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ، اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
أمة الإسلام! إنه لا يخفى عليكم في هذه الأزمان المتأخرة ما يحل بالمجتمع البشري من إحداث البدع ونشر الشر والفساد الذي سار في الأبدان والقلوب والأفكار، إنها مصائب تتلوها مصائب، موجات إلحاد تتجاذبها عواصف تبشير تزيد تدميرها مع ما يفتح أمامها من المغريات الخبيثة التي يرسلها أعداء الإسلام وأعداء المسلمين في كل مكان بواسطة أحزاب الشيطان وجنوده من الجن والإنس من الشرور والفساد، وفتح سبل جائرة ومنحازة عن الحق ومجانبة للصواب، المجتمع البشري في الأزمنة المتأخرة يتخبط في ظلمات حالكة مدلهمة يحتاج فيها إلى الدعوة إلى الله عز وجلَّ وإلى سبيله العادل وصراطه المستقيم.(101/2)
خطر الشيوعية على الأمة
يا أمة الإسلام! إن المجتمع البشري اليوم يحيط به شواظ ثلاث وكل شاظية أشر من أختها، قد كشروا بأنيابهم وفتحوا أفواههم ليلتقموا المسلمين لقمة واحدة ويزيلوهم عن الأرض التي يرثها الله ومن عليها.
إن أعداء المسلمين وفي مقدمتهم الشيوعية الحمراء التي شردت المجتمعات وفرقتهم وأسالت دماءهم في كل مكان من العالم، على أي شيء يدل هذا يا عباد الله؟ يدل على أن المسلمين ابتعدوا عن دينهم ولعب بهم الأعداء كما يلعب الصبية بالكرة.(101/3)
خطر اليهودية على الأمة
ومن وراء الشيوعية الحمراء: اليهود الخبثاء الذين لعنهم الله في محكم البيان -الشرذمة القليلة- وعلى نهجهم تسير الماسونية التي اتخذها الكثير الآن منهاجاً لهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(101/4)
خطر النصرانية على الأمة
ثم بعد ذلك يأتي دور النصرانية التي تبث التبشير في العالم، ومع الأسف الشديد كثر منهم الأطباء وكثر منهم الممرضون والممرضات، وكثر منهم الخدم والخادمات، كل هذا يوجد في بلاد المسلمين، نصرانية تدعو إلى النصرانية تبشر بـ النصرانية ما المخرج منها يا عباد الله؟ المخرج هو تحقيق كلمة لا إله إلا الله والرجوع إلى كتاب الله والدعوة إلى الله عز وجلَّ، الدعوة إلى سبيله العادل وإلى صراطه المستقيم.(101/5)
حاجة المجتمع إلى الدعوة والدعاة
إن المجتمع الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى الدعوة إلى الله عز وجلَّ، فقد تفرق الكثير: فمن جائر لا يعرف لمَ خلقه الله عز وجل، ومن حائر لا يعرف الله عز وجل لو قلت له: من ربك؟ لتلجلج ودارت عيناه ينظر إليك لا يعرف من ربه، هذا أمر عظيم وخطر جسيم، لا يعرف الذي خلقه وأوجده من العدم إلى الوجود، ولا يعرف لأي شيء خلق، وهو يعد في عداد المسلمين!(101/6)
من واجبات الدعاة تعليم الجاهل
عليكم يا من حملتم العلم بالبيان والتبصير بما يجب على المخلوق بحق الخالق جلَّ وعلا، البعض من المسلمين وهو يؤدي الصلوات الخمس في المساجد ومع المسلمين لو أوقفته قليلاً وقلت: اقرأ عليَّ من كتاب الله لم يعرف ولا حتى أمِّ الكتاب، التي {لا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ الكتاب}.
البعض من المسلمين لا يعرف كيف يتوضأ، البعض من المسلمين يمكث السنين ولا يعرف الغسل من الجنابة، هذا أمر عظيم حل بالمسلمين، بماذا؟ بالبعد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى من نعلق هذه الأمانة؟ نعلقها على عاتق العلماء، إنها أمانة يا علماء المسلمين! فإن العلماء ورثة الأنبياء.
كذلك يوجد في المسلمين من هو غافلٌ عن الله وعن أوامره ونواهيه، لا يعرف الحلال والحرام إنما هو كالأنعام.
فهذا يحتاج إلى تنبيه، ومن المسلمين من هو معاند يحتاج إلى المجادلة بالتي هي أحسن، فعلى من نعلق هذا؟ نعلقه على العلماء الذين تعلموا العلوم، الذين ورثوا ميراث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن العالم يحتاج إلى الدعوة إلى الله عز وجلَّ، والدعوة إلى الله أفضل وسيلة لإنقاذ البشرية.
مع الأسف الشديد! البعض من طلبة العلم إذا تخرج وتعلم العلوم وأُريد أن يجعل في مكان ليعلم أو يقضي أو ليكون كاتب عدل اعتذر وقال: إنما أكون في وسط المدينة، وإلا فلا حاجة لي في ذلك؛ فإنه مسئول عن علمه هذا.
أما علمت -يا أخي- أن في أطراف البلاد أناس لا يعرفون الله عز وجلَّ جهلاً منهم بذلك، لا يعرفون أحكام الإسلام، لا يعرفون أمور دينهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أخي المسلم: بادر إلى الدعوة إلى الله عز وجلَّ، فالدعوة إلى الله أفضل وسيلة لإنقاذ البشرية، إن الدعوة إلى الله عز وجلَّ تلحق الداعي إلى الله بركب الأنبياء وتحله مكانة عالية في عالم السعداء، فالبدار البدار يا علماء الإسلام! البدار البدار يا علماء الإسلام!(101/7)
الدعوة إلى الله أمانة في أعناق العلماء
يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} ماذا تقولون أمام رب العالمين إذا سألكم عن كتاب الله الذي حملتموه، وعن السنة المطهرة التي تعلمتموها، وعن الأحكام التي تعلمتموها ولم تخرجوها لعباد الله؟!
البدار البدار يا عباد الله! أناس يدعون أنهم مسلمون ولكن مع الأسف الشديد يعبدون الأوثان ويستغيثون بالجن والشياطين ويستعينون بالكهان والسحرة، ومع ذلك يدعون أنهم مسلمون من أين أتاهم التقصير؟ أتاهم من العلماء!
يا علماء الإسلام: اتقوا الله، اتقوا الله وبثوا هذه الدعوة قبل أن تسألوا عنها أمام رب العالمين، ليس العلم أن تبرز الشهادة وتعلقها على الحائط تباهي بها الأقران، إنها مسئولية عظيمة أمام رب العالمين، بماذا عملت فيما علمت؟ أعد لهذا السؤال جواباً أمام رب العالمين.(101/8)
الدعوة إلى الله تكون على بصيرة
يا عباد الله: على العلماء عبءٌ ثقيل وأمانة ومسئولية عظيمة سوف يسألون عنها أمام رب العالمين، أين حلق الذكر يا علماء المسلمين؟! أين رياض الجنة يا علماء المسلمين؟! أين الدعوة إلى الله يا علماء المسلمين؟! الدعوة إلى الله هي ميراث الأنبياء يقول الله عز وجلَّ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ويقول الله عن رسوله وهو أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتقتدي به الأمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] أدعو إلى الله، يا عباد الله! الدعوة نسيت الآن، الدعوة نسيت يا عباد الله! ولم يعرفها إلا النادر من المسلمين، على من نعلق المسئولية؟ أكرر وأعيد، نعلقها على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
فالبدار البدار يا علماء المسلمين! إلى دعوة الناس إلى الخير على هدىً وبصيرة، لمن تتركون هذا المجال، تتركونه للضلال أو تتركونه للجهال؟! فهذا ليس عذراً لكم يا علماء المسلمين، بل الدعوة تحتاج إلى بصيرة، وإلى علمٍ وإلى ثقةٍ وأمانة، من الذي أتى بكثير من المسلمين في طرق الغواية؟! من الذي أتاهم بالطرق والسبل التي نشرها أعداء الإسلام وأعداء المسلمين إلا علماء الضلال، علماء الجهال الذين نشروا سمومهم في تلك البلدان فصار المسلمون فرقاً شتى هذا يأخذ بالطريقة كذا، وهذا يأخذ بمذهب كذا، وهذا يأخذ بدين كذا، حتى افترقت الأمة الإسلامية وصار هذا يعير هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
الدعوة على نور وبصيرة يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فيا ورثة الأنبياء وخلفاء الله في أرضه وأمنائه على تبليغ رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية! إن داعي الخير قد دعاكم إلى إنقاذ البشرية بدعوتها إلى الفضيلة، إلى العقيدة الصحيحة، إلى البر والتقوى، إلى الخير والهدى، إلى الخير والهدى امتثالاً لأمر الله تعالى إن كنتم تريدون الخير: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
قوموا -عباد الله- بدعوة الناس والهداية بيد الله، قوموا -عباد الله- بالدعوة إلى الله والهداية بيده: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25].(101/9)
الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء
علماء الإسلام: قوموا بالدعوة إلى الله؛ فإنها وظيفة المرسلين وقد أمرتم بالتأسي بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بهذه الدعوة بعزم وجدٍ وحماس لعلكم تحضون بالفضل العظيم من الله عز وجل، وتكونوا من المصلحين الذين ذكرهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} من الغرباء؟ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغرباء؟ قال: {الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس} وإنه -يا عباد الله- ليسر القلب ويبهجه ما نراه من يقظة الكثير من المسلمين ورجوعهم إلى دينهم، ولكن لا يكفي أن تكون صالحاً في نفسك بل كن مصلحاً لغيرك، يا من اهتديت يا من عرفت هذا الدين، ورجعت إلى ربك! كن مصلحاً كما صلحت، أسأل الله لك التوفيق والسداد، وأسأل الله لك الثبات على دينه.
أيها العلماء: استجيبوا لداعي الله عز وجلَّ وقوموا بدعوة الناس إلى الخير كلُّ بحسبه، فما قبل الدين سلفاً ولا ظهر إلا بالدعوة إليه وإظهاره للأمة في أبهى صورة، أما تسمعون ماذا يقول أعداء الإسلام وأعداء المسلمين عن هذا الدين؟! أما تسمعون؟! أما ترونهم يصورونه في أبشع صورة؟!
ولكن عليك -يا عبد الله- أن تقوم لله داعياً وتظهر الإسلام بالمظهر اللائق.
فلقد كان سلفنا الصالح أمثل ذكرٍ خالد قاموا على قدمٍ وساق فتحوا الفتوحات ومصروا الأمصار، قاموا بحق لا إله إلا الله، فعليكم بالاقتداء بهم بالدعوة إلى الله عز وجلَّ وبالتمسك بتعاليم الإسلام والتخلق بأخلاق سيد المرسلين، دعوة ملؤها الإخلاص وحب الهداية للآخرين.(101/10)
على الداعية البلاغ والهداية بيد الله
لا تيئسوا -يا عباد الله- ولا تستبعدوا فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا تقل: هذا حالق لحيته، لا.
إنه حالق لحيته، ولكنه يصلي ومسلم.
أخبره أن حلق اللحية حرام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها.
ثم أخبره -يا أخي- أن ترك الشارب معصية لله ولرسوله، وقد ورد في الحديث: {من لم يأخذ من شاربه فليس منا}.
أخبره -يا عبد الله- أن حلق اللحية حرام حتى يعرف ويعلم ذلك، البعض من المسلمين لا يدري أن حلق اللحية حرام، اسأل الله أن يهديه إلى الطريق المستقيم؛ حتى يعرف أن حلق اللحية حرام ويتصل بالعلماء الناصحين ليخبروه عنها وعن دلائل ذلك في كتاب الله وسنة رسوله.
البعض من المسلمين لا يدري أن الإسبال حرام، فأخبره -أيها الداعي إلى الله- أن الإسبال حرام، وإن قال: أنا لا أسبل إلا زينة، فأخبره أن ما أسفل الكعبين ففي النار، هكذا يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل الكعبين ففي النار}.
أخبر أخاك المسلم أن الغناء حرام، واستماعه حرام، وثمنه حرام، واستئجار المحل له حرام، وثمن الأجرة حرام، أخبر أخاك -أيها الداعية- أن هذا حرام، البعض من الناس لا يعلم ذلك.
أخبر يا عبد الله، أيها الداعي إلى الله، أخبر أهل الموائد إذا خلصوا من مائدتهم وهم يضعونها في برميل الزبالة أن هذا كفران لنعمة الله تعالى، وما أكثر هذا ولكن أين الدعاة الذين يبصِّرون عباد الله ويخبرونهم أن وضع النعم في الزبائل أنه كفران لنعمة الله عز وجلَّ، أو لا يعلمون أن أناساً من المجاورين لو حصلت لهم لأكلوها، وهي مختلطة مع الزبائل؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أيها الداعي إلى الله: قم بواجبك، قم بوظيفة المرسلين واسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقدم لـ علي رضي الله عنه: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
يا عبد الله: انظر إلى جارك الذي لا يحضر المسجد وأعلمه أن تارك الصلاة كافر، وأخبره أنه لو مات على كفره أن المسلمين لا يصلون عليه ولا يدفنونه في مقابر المسلمين.
أخبر جارك -أيها الداعية إلى الله- أخبره أن تارك الصلاة كافر، وأن امرأته إن كانت مسلمة، فهي حرام عليه، ولو طلبت طلاقها لطلقت منه، بل لا يحل لها أن تمكث معه وهو كافر لا يصلي.
عبد الله أيها الداعي إلى الله: أخبر تارك الصلاة أنه لا يرث ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين، أخبره أنه لا يغسل ولا يكفن، بل يوارى بعيداً عن بلدان المسلمين، إذا مات هذا تاركاً الصلاة.
عبد الله أيها الداعية: أخبر المرأة المتبرجة أنها بتبرجها عاصية لله ولرسوله، وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما -وذكر من هذا الصنف-: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، وإنهن لا يجدن ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(101/11)
أخلاق الدعاة إلى الله
أيها الداعي إلى الله: تخلق بالحلم والآداب والسمت، وتروي من الأحاديث التي فيها دلائل تدحض بها شبه الجاهلين، وتروي من كتاب الله عز وجل، وادع إلى الله على بصيرة وأمر بالمعروف وانهى عن المنكر.
اللهم اجعلنا من الدعاة إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة وعلى علم بإخلاص لك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يوقظنا من رقدة الغفلة، اللهم أيقظنا من رقدة الغفلة، اللهم إننا نعوذ بك من شرور أعدائنا، اللهم إننا ندرأ بك في نحور أعدائنا من اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، اللهم إنا نشهدك على بغضهم وعلى منابذتهم، اللهم إنا نشهدك على بغضهم وعلى منابذتهم فاكفنا اللهم شرهم وأبعدهم عن ديار المسلمين عامة يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(101/12)
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بما يصلح الخلق في الدنيا والدين وفي الآخرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بهديهم القويم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا -يا عباد الله- أنه إنما {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] لعلهم يرجعون، لعلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لعلهم يصلحون ما أفسد الناس.
عباد الله: اعلموا أن ما أصابكم من المصائب فبما كسبت أيديكم، وعفو الله عظيم، فهو يعفو عن كثير، ففساد الأرض ومصائب الخلق هي حصائد الأعمال الخبيثة والمحرمات، وعواقب أفعالهم التي ملأت البر والبحر.
أيها المسلمون: إن الواجب على المسلمين أن يأخذ حلماؤهم على أيدي سفهائهم فيأطروهم على الحق أطراً قبل أن يهلكوا جميعاً فقد قال صلى الله عليه وسلم: {إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده}.
أيها المسلمون: إن الناس بالنسبة إلى تغيير المنكر، منهم من يستطيع تغييره بيده، ومنهم من لا يستطيع إلا بلسانه، ومنهم من لا يستطيع إلا بقلبه، وقد بين صلى الله عليه وسلم ما يجب على كل واحد من هؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
أيها المسلمون: إننا إذا قمنا بتغيير المنكر حسب الاستطاعة أفلحنا بأنفسنا وأصلحنا مجتمعنا، وحصلت لنا الرفعة في الدارين: الأولى والأخرى، أما إذا ضيعنا الواجب الذي علينا في ذلك فستكون النتيجة وخيمة تكثر المعاصي ويظهر الفسوق وتحل العقوبات وتحل اللعنة كما حلت على بني إسرائيل نعوذ بالله من ذلك.
فاتقوا الله -يا عباد الله- وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين والملحدين والكفرة والمنافقين، اللهم دمرهم تدميراً، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين.(101/13)
سنن الفطرة
وفَّقَ الإسلامُ المسلمين لما يصلح دينهم ودنياهم، ومن هذا التوفيق: العمل بسنن الفطرة العشرة، وقد أكَّد الشيخ على هذه السنن، وبيَّن فوائدها وأهمية العمل بها، ووضَّح وجوب اتباع المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم.(102/1)
وجوب الالتزام بسنن الفطرة
الحمد لله الذي فطر الخلق على ما تستحسنه العقول, وأيد ذلك بما أنزله على الرسول, ففطرة الله التي جبل الناس عليها أمرهم بها تعبداً وثواباً, وما ربك خالقٌ خلقَه عبثاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالحنيفية السمحة ملة إبراهيم الخليل, الذي اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم, صلى الله عليه وعلى نبينا وعلى من سار على نهجهم القويم وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل, وأقيموا وجوهكم للدين حنيفاً متمسكين بالفطرة التي فطر الناس عليها, وهي الطهارة الباطنة, والطهارة الظاهرة.
فأما الطهارة الباطنة فهي: تطهير القلب من الإجرام وإخلاص العبادة لله وحده والقيام بالأعمال الصالحات.
وأما طهارة الظاهر: فمنها ما حث عليه صلى الله عليه وسلم بقوله: {عشر من الفطرة: الأولى: قص الشارب, والثانية: إعفاء اللحية, والثالثة: السواك, والرابعة: الاستنشاق بالماء, والخامسة: قص الأظافر، والسادسة: غسل البراجم, والسابعة: نتف الإبط, والثامنة: حلق العانة, والتاسعة: انتقاض بالماء -يعني: الاستنجاء-، قال الراوي: ونَسِيْتُ العاشرة إلا أن تكون المضمضمة}.
في الحديث بيان لكمال الشريعة الإسلامية, واهتمامها بما يعود على المسلم من المصالح الكبيرة في الدين والدنيا والآخرة؛ فهذه الأشياء العشرة كلها طهارة وتنظيف يقضي بها العقل السليم, ويحث عليها, فمنها:(102/2)
من سنن الفطرة: قص الشارب
وإحفائه, لأن في بقاء الشارب تجميع للأوساخ التي تمر من الأنف, فإذا شرب الإنسان تلوث شرابه بها, وكذلك هي مخالفة لزي المسلمين, لأنها من التشبه بالجاهلية والأعاجم, فإن الإسلام جاء ليهدم ويمحو آثار الجاهلية, وجاء لينهى عن التشبه بالأعاجم وغيرهم من الكفار, وغيرهم من أعداء الإسلام.(102/3)
من سنن الفطرة: إعفاء اللحى
وأما إعفاء اللحية فلأن الله خلقها تمييزاً بين الذكور والإناث, وإظهاراً للرجولية والقوة ولذلك -ولله في ذلك حكمة- اللحية لا تظهر إلى عند الحاجة إليها في وقت قوة الإنسان وجلده, وتثبيته لمهمات الأمور.
أما في حالة الصغر فلا تظهر اللحية ولله في ذلك حكمة, فلما كانت اللحية من المكملات للرجولة، الفارقة بين الرجال والنساء، جاء الشرع والقدر والفطرة لوجودها وإبقائها, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وإرخائها وتوفيرها, وقال عليه من الله أفضل الصلاة والسلام: {خالفوا المشركين وفروا اللحاء وحفوا الشوارب} فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام قد هدوا إلى الفطرة, فكانوا يوفرون لحاهم, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وأصحابه الكرام؛ فإنهم على النور المبين والصراط المستقيم، وليس بقاء اللحية من الأمور العادية كما يظنه البعض من الناس, وإنما بقاء اللحية من الأمور التعبدية الواجبة، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ما هي الفتنة؟ الفتنة في الدين هي: رد الحق, ورد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم, وقد يرد المرء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيذيب قلبه فيهلك والعياذ بالله!
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية, وأمر بمخالفة المشركين, فإذاً هو فرض وليس كما يظنه ويحتج به بعض الجهال, أن من المشركين الآن من يعفي اللحية, فإننا نترك اللحية, ونترك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها من أجل أن بعض المشركين يعفيها, وهذا فهم خاطئ؛ لأن المشرك هو الذي يتشبه بنا ولسنا نحن المتشبهين به.(102/4)
من سنن الفطرة: السواك
أمة الإسلام! نعود إلى خصائص الفطرة, فمنها السواك لأن فيه تنظيفاً للأسنان, ويتأكد السواك عند المضمضة في الوضوء, وعند الصلاة, وعند القيام من النوم, فهو مطهرة للفم مرضاة للرب, مفرحة للملائكة.
وكذلك الإنسان إذا دخل بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته كان أول ما يبدأ به: السواك.(102/5)
من سنن الفطرة: الاستنشاق
وكذلك من فوائد الفطرة الاستنشاق بالماء لأنه ينظف الأنف من الأوساخ.(102/6)
من سنن الفطرة: قص الأظافر
من سنن الفطرة: قص الأظفار، لأن الأظفار إذا طالت اجتمع فيها من الأوساخ ما يكون ضرراً على الإنسان, فلله در تلك الفطرة الإسلامية, وما تهدي إليه من المنافع.
فيا عباد الله! إن بقاء الأظفار تشبهاً بالمخنفسين, وتشبهاً بأعداء الدين, ومخالفة للفطرة.(102/7)
من سنن الفطرة: غسل البراجم
وكذلك يا عباد الله! من سنن الفطرة: غسل البراجم, وهي مفاصل اللحم, التي تكون في الإنسان فإنها تجتمع فيها الأوساخ.(102/8)
من سنن الفطرة: نتف الآباط
كذلك من سنن الفطرة: نتف الآباط؛ لأن الشعر إذا كثر فيها أحدث أوساخاً وروائح كريهة تضر بالإنسان، فلذلك يقول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {انتفوا الآباط}.
أما إذا قال المخنفسون وأهل الموضات الإبليسية, وأهل التفنن الشيطانية: نترك الآباط ونترك الشعور ونترك الأظفار, فنقول: لا سمعاً ولا طاعة؛ لأننا نرد كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم ونحن نعمل على نتف الآباط أو حلقها أو إزالتها بشيء ليس فيه ضرر على الإنسان.(102/9)
من سنن الفطرة: حلق شعر العانة
كذلك يا عباد الله! من سنن الفطرة: حلق شعر العانة, وهو الشعر النابت حول القُبُل, لأن في حلق العانة تقوية للمثانة, ولأن بقاء الشعر يجمع الأوساخ، وفيه ضرر على المثانة التي هي مجمع البول, وقد وقَّت نبيكم صلى الله عليه وسلم وقت في قص الشوارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط وحلق العانات في ألا تترك أكثر من أربعين ليلة.(102/10)
من سنن الفطرة: الاستنجاء
أمة الإسلام! كذلك من سنن الفطرة: الاستنجاء؛ لأنه تطهير للمحل الذي يخرج منه البول والغائط.(102/11)
من سنن الفطرة: الختان
وكذلك من سنن الفطرة: الختان، وهو تكميل لآداب الإنسان, لأنه يكمل الطهارة وفعله في زمن الصغر أفضل؛ فهذه آداب الشرع جاءت لتهذب البشرية, وتهديها, وتدلها إلى ما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة.
اللهم اهدنا ووفقنا للتمسك بشرعك القويم يا رب العالمين: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل القرآن, اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(102/12)
وجوب اتباع هدي النبي والمرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين
الحمد لله الذي فطر الخلق على الدين القيم, ملة محمد وإبراهيم, ووفق من شاء برحمته فاستقام على هدي النبيين والمرسلين, وخذل من شاء بحكمته فرغب عن هديهم وسننهم وكان من الخاسرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق طريقة, وأقومهم شريعة, وأقربهم إلى الخير العميم, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل, لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم الجمعة يقول: {إن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها} ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
والهدي: هو الطريق والشريعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات, والمعاملات, والأفكار الظاهرة والباطنة, فتمسكوا -يا أيها المسلمون- بهدي نبيكم فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة.
إن التمسك بهديه يورث الوجه نضرة, والقلب سروراً, والصدر انشراحاً, والبصيرة نوراً, إن الحياة الطيبة ونعيم القلب والروح لا يحصلان إلا بالإيمان والعمل الصالح, قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
عباد الله: إن الله يأمركم أن تصلوا على رسوله فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى علي واحدة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي , وعن سائر أصحابه أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الدين, اللهم عليك بأعداء الإسلام والمسلمين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر, اللهم اشدد عليهم وطأتك, وارفع عنهم يدك, ومزقهم كل ممزق, اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم أنقذهم من تيارات الانجراف والهلاك يا رب العالمين، اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك, اللهم أقر بهم أعين الأباء.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا يا رب العالمين, اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً, هنيئاً مريئاً, سحاً غدقاً, نافعاً غير ضار، اللهم احيي بلدك الميت, اللهم انشر رحمتك على البلاد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً, لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والبلاء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين, {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(102/13)
شهادة الزور
شهادة الزور فساد للدين والدنيا والآخرة، فهي ضياع للحقوق، وإسقاط للعدالة، وزعزعة للثقة، وخيانة للأمانة، وإرباك للأحكام، وتشويش على المسئولين والحكام.
ولعظمها ذكرها الله تعالى مقرونة بعبادة الأصنام وشدد صلى الله عليه وسلم في التحذير منها بلسانه تكراراً وبفعله حيث جلس بعد أن كان متكئاً.(103/1)
مسائل تتعلق بشهادة الزور(103/2)
حكم كتمان الشهادة
الحمد لله الملك العظيم العزيز الحكيم, له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الأولى والآخرة, وله الحكم وإليه ترجعون, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تخفون وما تعلنون, أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, الذي بين لأمته ما فيه الخير والسعادة, وحذرها من سوء العاقبة والمصير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأقيموا الشهادة لله وحده, ولا تقيموها لقريب من أجل قرابته, ولا لصديق من أجل صداقته, ولا لغني من أجل غناه, ولا لفقير من أجل فقره, ولا لأمير من أجل إمارته, ولا لقاضٍ من أجل قضائه, ولا تقيموها على بعيد من أجل بعده, ولا عدو من أجل عداوته, أقيموا الشهادة لله الواحد القهار, أقيموا الشهادة كما أمركم بذلك ربكم وخالقكم، ومدبر أموركم، والحاكم بينكم، والعالم بسركم وعلانيتكم, أقيموها امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135].
أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم في تحملها وأدائها, فلا يحل كتمان الشهادة، ومصداق ذلك قول الحق سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283] ولا يحل أن يشهد إلا أن يكون عالماً بما يشهد به علماً يقيناً، وأنه مطابق للواقع تماماً، فلا يحل أن يشهد بما لم يعلم, ولا بما يعلم أن الأمر بخلافه، بل لا يحل أن يشهد بما يغلب على ظنه حتى يعلمه علماً يقيناً كما يعلم الشمس في رابعة النهار, إذا اتضح له الأمر مثل الشمس فليشهد أو فليترك.(103/3)
شهادة الزور بحسن النية
أيها المسلمون: إن من الناس من يتهاون بالشهادة، لمجرد وعد عند المحكمة أو عند الإمارة أو عند المركز يقول: ائتني بحفيظة النفوس أو ائتني بالهوية، فيجيب: على العين والرأس يا أبا فلان، هل هذا مطابق للشرع أم محاباة أم شهادة الزور؟! فيشهد بمجرد الظن أو بما لا يعلم أو بما يعلم أن الواقع بخلافه, ويتجرأ على هذا الأمر المنكر العظيم؛ مراعاة لقريب أو تودداً لصديق أو محاباة لغني أو عطفاً على فقير، يقول: إنه يريد الإصلاح بذلك، وقد زين له سوء عمله ورآه حسناً -والعياذ بالله- كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء أعمالهم فرأوه حسناً, فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فقال الله فيهم: {أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].
وعباد الأصنام زين في قلوبهم عبادة الأصنام، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وهي في الواقع أي الأصنام والأوثان لا تزيدهم من الله إلا بعداً.
أيها المسلمون: احذروا من كل مفسد يدعي أنه مصلح, أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح, أو بسبب إرادة سيئة زينت له فاتبع هواه, ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله وتنفيذ أحكام الله، والعمل بما يرضي الله.
أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه، بل بما يعلم أنه لا يستحقه, يدعي بذلك أنه عاطف عليه وراحم له، والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له, ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثماً بما شهد به، وأكسب المشهود له إثماً فأدخل عليه ما لا يستحقه, وظلم المشهود عليه فاستخرج منه ما لا يجب عليه.
ومن الناس من يشهد لبعض الموظفين المهملين بمبررات لا حقيقة لها, فيشهد مثلاً أن هذا الموظف مريض أو مشغول شغلاً قاهراً وهو ليس بمريض ولا بمشغول, أو يشهد له أنه استأجر سيارة تتبع عمله، ويزيد في الأجرة حتى يأخذ هذه الزيادة, أو يشتري قطع الغيار ويقول لصاحب المحل: زد في الثمن قليلاً ولا يأخذ هو الزيادة, كل هذه الحيل من الشهادة في الباطل، ومن الناس من يشهد لشخص أنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها, ولم يباشرها, ويزعم الشاهد له بذلك أنه يريد الإصلاح للمشهود له, ولم يدرِ أنه بهذه الشهادة أضر بنفسه وأضر بالمشهود له, وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه، وكل ذلك يعد من الشهادة بالزور.
كل ما سمعتم من هذه الحيل تعد من الشهادة بالزور التي حذر منها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وجعلها من أكبر الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت}.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله, وعقوق الوالدين, وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال: شهادة الزور}.
أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين بيّن بهما صلى الله عليه وسلم عظيم شهادة الزور، وحذر منها صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وقد عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئاً, فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها, وبين عظمها بقوله وذلك حين جعل يكرر القول بها حتى تمنى الصحابة أن يسكت.
أمة الإسلام: أيها المؤمنون بالله ورسوله! أيها الراجون لرحمة الله! أيها الخائفون من عذابه! أيها المؤمنون بيوم الحساب، يوم تقفون بين يدي الله عز وجل لا مال ولا بنون, ولا واسطة, ولا رشوة تؤخذ في ذلك اليوم، تنظرون أيمن منكم فلا ترون إلا ما قدمتم, وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم، وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم, إنكم في ذلك اليوم -يوم القيامة- ستسألون عما شهدتم به, وعن من شهدتم عليه أو شهدتم له, فاتقوا الله واحذروا مغبة ذلك اليوم.
أيها المؤمنون: تصوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله عز وجل، القائم بأمر الله تعالى، الناصح لأمته وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر, ليحذّر الأمة ليبتعدوا عنها.
أمة الإسلام! تصوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه أمامكم وكان متكئاً ثم جلس عند ذكر شهادة الزور, تصوروه وهو يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر, لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور.
فالحذر الحذر من شهادة الزور, والحذر الحذر من أن يزينها الشيطان في قلوبكم, ولا تأخذكم في الله لومة لائم, ولا تصدنكم عن الحق ظنون كاذبة, أو إيرادات آثمة؛ فتشاقَّوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين.
اللهم وفقنا لإقامة الحق والعدل والبيان, وجنبنا الباطل والجور والبهتان, واحمنا عما يضرنا في ديننا ودنيانا إنك جواد كريم.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(103/4)
شهادة الزور وعظم إثمها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: لقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرك وعقوق الوالدين وهو متكئ ولم يجلس؛ لأن الداعي إلى الشرك والعقوق ضعيف في النفوس, ومخالف للفطرة، لكنه صلى الله عليه وسلم جلس حينما تحدث عن شهادة الزور؛ لأن الداعي إليها قوي وكبير، فالقرابة والصداقة والغنى والفقر كلها قد تحمل ضعيف العقل والدين على أن يشهد بالزور, لكن المؤمن العاقل الذي يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من شهادة الزور هذا التحذير البليغ لا يمكنه أن يقدم على شهادة الزور مهما كانت الأسباب والدواعي.
أيها المسلمون: إن شهادة الزور مشكلة في الدين والدنيا، وللفرد والمجتمع، إنها معصية لله ولرسوله، إنها كذب وبهتان, وأكل للمال بالباطل, فالمشهود له يأكل ما لا يستحق, والشاهد يقدم له ما لا حق له فيه, إن شهادة الزور سبب لانتهاك الأعراض، وإزهاق النفوس، فإن الشاهد بالزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية, وإذا شهد بالصغير هانت عليه الشهادة بالكبير, لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر عن المعصية وتهابها, فإذا وقعت فيها هانت عليها وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه.
أيها المسلمون: إن شهادة الزور ضياع للحقوق, وإسقاط للعدالة, وزعزعة للثقة والأمانة, وإرباك للأحكام، وتشويش على المسئولين والحكام, فهي فساد للدين والدنيا والآخرة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه زاجر عن ذلك أنه قال: {لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار} اللهم إنا نعوذ بك من النار.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله امتثالاً للمولى جل وعلا حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً} اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الناصح الأمين, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحابه أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين عزاً عاجلاً غير آجل، اللهم يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض, يا ذا الجلال والإكرام, أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر صرح الشرك والمشركين ,اللهم دمّر الشرك والمشركين عن بلاد المسلمين أجمعين يا رب العالمين.
اللهم ودمّر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر من به عداوة للإسلام والمسلمين، وانصر من به نصر للإسلام والمسلمين يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا يا أكرم الأكرمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والشر والفساد والعناد، يا رب العالمين.
اللهم انشر رحمتك على العباد, يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب، اللهم إنا نستغيثك لا إله إلا أنت مفرج الكربات ومحيل الشدائد والبليات, لا إله إلا أنت يا سامع الصوت! ويا سابق الفوت ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت! يا حي يا قيوم! يا من بيده مقاليد السماوات والأرض! يا من إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون! اللهم أغثنا, اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار, اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم إنّا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون, وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها, واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(103/5)
صفات نار جهنم
إن الواجب على المسلم أن يتقي النار التي أعدها الله لمن عصاه وخالف أمره، وذلك بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ونار جهنم تزيد على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، فما هو طعام أهل النار يا ترى؟ وما هو شرابهم؟ وما هو لباسهم؟ وما هو طلب أهل النار في النار؟ هذا ما تجدون إجابته في كلام الشيخ.(104/1)
صفات جهنم وأهلها
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، خلق جهنم وأعدها للعصاة، وما ربك بظلام للعبيد، فهو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:131 - 132] اتقوا النار بطاعة الله، اتقوا النار بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا، اتقوا النار فإنها دار البوار، دار البؤس والشقاء والخزي والعار، دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، دار ساكنوها شرار خلق الله تعالى من الشياطين وأتباعهم، قال الله تعالى مخاطباً إبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ * أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85].
دار فرعون وهامان، وقارون وأبي بن خلف، وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم، دار المنافقين وأحزابهم وإخوانهم، هؤلاء سكان جهنم، كفار فجرة، وطغاة ظلمة، ومنافقون خونة، ولئن سألتم عن مكانها، فإنها في أسفل السافلين، وأبعد ما يكون عن رب العالمين، فهي دار عقاب لأعداء الله، فأبعدت عن رحمة الله، وعن دار أولياء الله، يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمان، مع كل زمان سبعون ألف ملك يجرونها.(104/2)
حر جهنم وبُعْد قعرها
ولئن سألتم عن حرها فهو شديد، ولئن سألتم عن قعرها فهو بعيد، ولقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {ناركم هذه -ما يوقد ابن آدم- جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم قالوا: يا رسول الله! إنها لكافية -يعنون نار الدنيا- قال صلى الله عليه وسلم: إنها فضلت عليها بتسع وستين جزءاً كلهن مثل حرها} وسمع الصحابة رضوان الله عليهم صوت وجبة -أي: شيء ساقط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدرون ما هذا؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حجرٌ أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً -أي: منذ سبعين سنة- فالآن حين انتهى} أي: إلى قعرها.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقال لليهود والنصارى: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم، ألا تردون؟! فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار} قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:86].(104/3)
تغيظ جهنم عند إلقاء أهلها
عباد الله: ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، قد تقطعت أكبادهم جوعاً، واحترقت أجوافهم عطشاً، ثم سحبوا إلى النار، وهم يطمعون في الشراب، فلا يجدون إلا النار يلقون فيها: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7] تشهق كما يشهق الحمار أو البغلة إذا رأى الشعير، قد ملأها الله غيظاً وحنقاً عليهم {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8] يلقون فيها أفواجاً يقابلون بالتقريع والتوبيخ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8 - 10].
هذا ما يقابلون به عند دخولهم النار، توبيخ وتقريع، وإهانة وتنديم، فتتقطع قلوبهم أسفاً، وتذوب أكبادهم كمداً وحزناً، ولكن لا ينفعهم ذلك.
فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم، وما أشد عقابهم، يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم يقول تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].(104/4)
طعام أهل جهنم وشرابهم
ولئن سألتم عن طعامهم وشرابهم، فهو الزقوم وهو شجر خبيث مر الطعم، نتن الريح، كريه المنظر، يتزقمونه تزقماً لكراهته وقبحه، ولكن يلجئون إلى ذلك لشدة جوعهم، فلا يسمنهم ولا يغني من جوع، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا؛ لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم}.
فإذا ملئوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، التهبت أكبادهم عطشاً، فلا يهيأ لهم الشراب، وإنهم ليستغيثون: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29].
ما هو الماء الذي كالمهل؟
إنه الرصاص المذاب الذي يَشْوِي الْوُجُوهَ حتى يتساقط لحمها، بئس الشراب الذي يشربونه على كره واضطرار، شرب الهيم وهي: الإبل العطاش التي لا تروى من الماء، فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم، فهو كالمهل في حرارته، وكالصديد في نتنه وخبثه، قال الله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].(104/5)
لباس أهل جهنم
ولئن سألتم عن لباس أهل النار فهو الشر والعار: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] على قدر أبدانهم تلك الثياب لا تقيهم حر جهنم، بل تزيدها حرارة واشتعالاً.(104/6)
عذاب جهنم مستمر
ولئن سألتم عن المدة فمدتهم مستمرة دائماً: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] *: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وكلما خبت النار زادها الله سعيراً، يرتفع بهم اللهب إلى أعلى، ثم يهوون إلى قعرها: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].(104/7)
ما يتمناه أهل جهنم
ثم يطلبون الراحة مما هم فيه، فيقولون لخزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] يوم من العذاب، وهم فيها سنين طويلة، ثم تجيبهم الملائكة: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالأدلة الواضحات، فيقولون: {بَلَى} فتقول الملائكة: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:50].
فلا يستجاب لهم، ولا يسمع لهم دعاء؛ لأنهم ما استجابوا للرسل حين دعوهم إلى الله، وإلى عبادته في الدنيا، فإذ لم يستجيبوا ولم يطيعوا الله، كان ذلك جزاءهم، يتعاوون ويصطرخون ويدعون بالويل والثبور، ثم يتمنون الموت حينئذٍ فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيرد عليهم خازن النار: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ثم يتوجهون إلى رب العالمين، ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
لا حجة لهم، بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، والآن لا حجة لهم في جهنم: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].(104/8)
حال أهون أهل النار عذاباً
لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: {أن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار، يغلي بهما دماغه كما يغلي القدر، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهون أهل النار عذاباً} ويقول صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار} من الذين أذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا واستمتعوا بها، من الذين عصوا الله في هذه الحياة الدنيا: {فيصبغ في النار صبغة} أي يغمس فيها {ثم يقال: يابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب!} أين الترف؟ أين المرح؟ أين الفساد في الدنيا؟
أجل -يا عباد الله- إنه نسي كل نعيم مر به في الدنيا، وقد غمس في النار غمسة واحدة، فكيف به وهو خالد فيها أبداً، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:168 - 169] ويقول تعالى: {ومَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] ويقول جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:64 - 66] ولن يجدي ولن يفيد ذلك.
يقولون في الدركات في جهنم: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] أجل من أطعتم؟ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] هذه خاتمة قرناء السوء والأشرار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68].
اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أنجنا من النار، اللهم أنجنا من النار، اللهم لا طاقة لنا بجهنم، اللهم لا صبر لنا على النار، اللهم أنجنا من النار، وأدخلنا الجنة دار المتقين الأبرار برحمتك يا رب الراحمين، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(104/9)
الإكثار من الأعمال الصالحة قبل فوات الفرصة
الحمد لله الذي حذرنا من النار في محكم التنزيل فقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، وأفضل المرسلين، المبلغ عن ربه شرعه المبين، والناصح لأمته، حيث يقول حتى سمعه من في السوق: {أنذرتكم النار، أنذرتكم النار}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واحذروا من أسباب سخطه وعذابه، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً.
عباد الله: تيقظوا من هذه الرقدات، واصحوا من هذه النومة، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين العباد، ويميز فيه بين المطيعين والعصاة، فالمطيعون سوف يساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والعصاة سوف يسحبون إلى النار وبئس المصير.
فاتقوا الله -يا عباد الله- قبل نزول الموت وانقضاء الأجل، ثم تندمون حينئذٍ ولات حين مندم، فبادروا بالتوبة عباد الله، ألقوا أسماعكم إلى المواعظ، بحضور قلب ورغبة، أقلعوا من الذنوب، توبوا إلى علام الغيوب، تزودوا من الأعمال الصالحات، فإنكم غداً يوم القيامة سوف توقفون بين يدي الله، ثم تسألون عن أعمالكم وتحاسبون، ثم تجزون عليها الجزاء الأوفى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وصلوا على خاتم الأنبياء والمرسلين اقتداء لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة؛ صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، اللهم وفقنا للتزود من الأعمال الصالحات، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، وتقبل منا يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين، واجمعنا وإياهم ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين في جنات النعيم، ونجنا من نار الجحيم، اللهم نجنا من نار الجحيم، اللهم لا طاقة لنا بجهنم، اللهم لا صبر لنا على النار، اللهم رحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم واقض الدين عن المدينين من المسلمين يا رب العالمين، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(104/10)
صفة الوضوء والغسل
الصلاة عمود الدين وثاني أركانه بعد الشهادتين، ولا يتم إسلام المرء إلا بتأديتها، وقد جعل الشارع الوضوء والغسل شرطاً لصحتها، وأمر الله تعالى عباده إذا أرادوا الصلاة أن يأتوا إليها متطهرين من الحدثين الأصغر والأكبر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان الصفة الكاملة لهاتين الطهارتين كما في حديث عائشة وعثمان، وفيهما بيان فضيلة هذه الأمة بالغرة والتحجيل.
فالواجب علينا تعلم أحكام الشرع والتفقه في الدين.(105/1)
صفة الوضوء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {الطهور شطر الإيمان} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل؛ وأطيعوا الله فيما أمركم به، وانتهوا عما ينهاكم عنه، فإنه ما أمر بشيءٍ إلا وفيه مصلحة ومنفعة، ولا نهى عن شيء إلا وفيه مضرة ومفسدة.
عباد الله: يقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] هذا أمرٌ من الله عز وجل لعبده المؤمن، إذا أراد أن يؤدي الصلاة التي فرض الله عليه، أو أراد أن يؤدي نافلة سنها له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف بين يدي الله عز وجل طاهراً متطهراً.(105/2)
الطهارة شرط لصحة الصلاة
والطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، فمن صلَّى بغير وضوءٍ والماء عنده وهو قادرٌ على استعمال الماء وصلى بدون طهارة فصلاته باطلة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ} والحدث نوعان: حدث أكبر، وحدث أصغر.
فالأكبر: يرتفع بالغسل.
والأصغر: يرتفع بالوضوء.(105/3)
الفرق بين الوضوء والاستجمار
قبل أن نبدأ بصفة الوضوء، يجب علينا أن نفرق بين الوضوء والاستجمار.
أما الاستجمار: فهو: قطع الأذى بالحجارة أو بشيءٍ طاهر من الورق والخرق، أو هو غسل القبل والدبر، يعني: تنقيتهما من الغائط والبول، إما بالحجارة أو بالخرق أو بالأوراق النظيفة أو بالماء، أو يجمع بينهما وهو أفضل.
ثم بعد ذلك الوضوء؛ وبعض الناس يجمع بين الاستجمار والوضوء ويقول: أتجدد، ويريد بذلك الوضوء، والتجدد هو: إذا كنت على وضوء ثم أردت أن تجدد وضوءك وأنت على وضوء، وقد ورد في ذلك ترغيب.
هذا هو (الجدود) الذي نسمعه كثيراً من إخواننا، أما الوضوء فهو غسل الأطراف الأربعة والصلاة لا تصح بدونه.(105/4)
صفة الوضوء الكامل
وصفة الوضوء عند الحدث الأصغر هي كما وصفه عثمان بن عفان رضي الله عنه: فإنه دعا بالماء الذي يتوضأ به، فأفرغ على يديه من الإناء فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الإناء ثم تمضمض واستنشق واستنثر -أي: نثر الماء من فمه ومن خياشيمه- ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلىَّ ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه} حديث صحيح متفقٌ على صحته.
فهذا يسميه العلماء الوضوء الكامل؛ لأنه غسل كل عضو ثلاث مرات، أما الوضوء الواجب فهو أن يغسل كل عضو مرةً واحدة، يفرغ على يديه مرةً واحدة، ويتمضمض ويستنشق مرةً واحدة، ويغسل وجهه مرة واحدة ويديه إلى المرفقين مرة واحدة، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه مرة واحدة، هذا هو الوضوء الواجب أما الثنتين والثلاث فهو سنة، والزيادة على الثلاث بدعة وإسراف، إلا إذا أحتاج إلى إزالة نجس أو غيره حتى لو زاد على سبعٍ أو على خمسٍ فلا بأس.
عباد الله: اشتمل هذا الحديث الذي ذكره الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على الصفة الكاملة لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان رضي الله عنه من حسن تعليمه وتفهيمه؛ ولأنهم تعلموا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقٌ عليهم أن يبلغوا هذا العلم إلى الناس فهو رضي الله عنه وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بطريقٍ عملي؛ ليكون أبلغ تفهماً وأتم تصوراً في أذهان الحاضرين، فإنه رضي الله عنه دعا بإناء فيه ماء وصب على يديه منه ثلاث مرات، وذلك قبل إدخالهما في الإناء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الإنسان لا يدري أين تبيت يده إذا نام، فأمرنا صلى الله عليه وسلم إذا انتبهنا من النوم أن نغسل أيدينا ثلاث مرات قبل أن ندخلهما في الإناء، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسمية عند الوضوء يقول: (بسم الله) ومن ترك التسمية عناداً فلا وضوء له، أما إذا تركها ناسياً أو سهواً فلا إثم عليه ووضوؤه صحيح إن شاء الله، ثم بعد ذلك يأخذ ماء ويتمضمض ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح جميع رأسه مرة واحدة يدبر بيديه ويقبل بهما، ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاث مرات، هكذا صفة الوضوء الكامل.(105/5)
الغُرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة
وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن الله سبحانه وتعالى يخصهم بعلامة فضلٍ وشرفٍ يوم القيامة من بين الأمم، حيث ينادون فيأتون على رءوس الخلائق تتلألأ وجوههم وأيديهم وأرجلهم بالنور، وذلك من آثار هذه العبادة العظيمة.
عباد الله: لا تفوتنا هذه البشارة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن الله سبحانه وتعالى يخصهم بعلامة فضل وشرفٍ يوم القيامة من بين الأمم حيث ينادون فيأتون على رءوس الخلائق تتلألأ وجوههم وأيدهم وأرجلهم بالنور، وذلك من آثار الوضوء، هذه العبادة العظيمة وهي الوضوء الذي كرره على هذه الأعضاء الشريفة ابتغاء مرضاة الله وطلباً لثوابه، فكان جزاؤهم هذه المحمدة العظيمة الخاصة، ومصداق ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح {إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل}.
عباد الله: احذروا أن تتركوا من أعضاء الوضوء شيئاً، فإنه ورد التحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار} والأعقاب: هي العراقيب في مؤخرة الرِجل، والمراد بذلك أصحابها فإنهم المتوعدون بالويل، وكثيرٌ من الناس لا يبالون بذلك فلو وقفت عند دورة المياه لرأيت العجب العجاب من الكثير من الناس، وكأنهم لم يتربوا في البلاد الإسلامية، وكأنهم لم يطرق أسماعهم قول الله وقول رسوله؛ لابتعادهم عن حِلق الذِّكر، وابتعادهم عن مجالس العلم ويا للأسف الشديد!
عباد الله: المتوعد بالويل أصحاب الأعقاب من الناس؛ لأنهم لا يبالون في ذلك، فإنه يغسل اليدين ولا يصل الماء إلى المرفقين، وبعضهم يغسل الرجل ولا يغسل العراقيب، فليحذروا من هذا الوعيد {ويلٌ للأعقاب من النار}.(105/6)
صفة الغسل الكامل
عباد الله: لقد سمعتم صفة الوضوء أما صفة الغسل من الحدث الأكبر مثل الجنابة للرجال والنساء، ومثل الحيض والنفاس للنساء، فعن عائشة رضي الله عنها تصف لنا الغسل قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه}.
هكذا تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها صفة الغسل من الجنابة، للمرأة والرجال، والمرأة كذلك إذا كان رأسها مظفر فلا يجب أن تنقضه، بل يكفيها أن ترويه من الماء وهذا هو الغسل الذي وصفته عائشة رضي الله عنها؛ لأنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد.
وفي رواية ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الغسل تنحى فغسل رجليه} أي: أبعد عن مكان الغسل وغسل رجليه لأنه كان متوضأ قبل الغسل ولم يبقِ إلا رجليه، هكذا الغسل يا عباد الله.(105/7)
الحذر من الإسراف بالماء في الطهارة
واحذروا -يا عباد الله- من الإسراف الذي وقع فيه الكثير من الناس، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع، ونحن لا يكفينا إلا خزان كامل -والعياذ بالله- من الإسراف، والبعض من الناس يفتح الصنبور ويجلس تحته، وهذا إسرافٌ وتبذيرٌ من الشيطان، وقد ورد أن في آخر الزمان يأتي أناس يغالون في الوضوء -أي يسرفون- وقد ورد أن للوضوء شيطان اسمه: (الولهان) فكلما كان الإنسان مسرفاً في وضوئه، فإن الشيطان عنده والعياذ بالله يقول: إنك لم تبالغ في ذلك، ولم يصل الماء إلى ذلك ولمْ ولمْ، حتى ينتهي أجرك وأنت في دورة المياه، نعوذ بالله من شر الوسواس الخناس.
عباد الله! احذروا من الوسواس في الوضوء، احذروا من الإسراف، حذروا أهليكم، علموهم طريقة الوضوء.(105/8)
استحباب الدعاء عقب الوضوء
يا عباد الله: إذا انتهى المتوضأ وخرج من محل الوضوء ومن دورة المياه يسن له أن يستقبل القبلة، ويقول كما ورد في الحديث الذي رواه لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً، قال: {ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} حديث رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي، وزاد الترمذي أن يقول بعد هذا التشهد: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين}.
وبعض الناس يقول: وهل للوضوء دعاء؟
نقوله له: اتقِ الله يا أخي! الدعاء عبادة، والعبادة لا تنبغي في دورة المياه، فلا تدعو وأنت في دورة المياه، وادعو الله وأنت واقف بين يديه خاشعاً متخشعاً، أما الوضوء فلم يذكر له إلا أن تقول: (بسم الله) عند بداية الوضوء، وتمسك عن الكلام حتى تخرج من دورة المياه، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، وأسأله بمنه وكرمه أن يرزقنا التفقه في الدين، اللهم ارزقنا التفقه في الدين، واجعلنا على منهج رسول الله سائرين، ولا تجعلنا من المبتدعين، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(105/9)
شروط التيمم وصاحب الجبيرة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل واعرفوا ما أوجبه الله عليكم من أحكام دينكم، فإنه لا قوام للآخرة، بل ولا للدنيا إلا بالتمسك بدين الله والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
البعض من الناس لبعدهم عن تعاليم الدين -نسأل الله العفو والعافية- تجده في الأسواق العامة، فإذا حان وقت الصلاة تيمم ودخل إلى المسجد وقال: هذا يكفيني، فمن أين له هذه الفتوى؟! ومن أين له هذا الوحي الشيطاني الذي جرأه على ذلك؟ والله لا تقبل له صلاة حتى يتوضأ، حتى حراج ابن القاسم إذا حان وقت الصلاة، وقال رجال الهيئة الصلاة، ضرب البعض الأرض بيده ومسح بهما وجهه ودخل المسجد، وهو في داخل البلد، والماء موجود ولا عذر له في ذلك، فأخبروا من رأيتم يفعل ذلك أن صلاته باطلة، وأن صلاته مردودة عليه.
فإنه لا يعدل إلى التيمم إلا إذا عدم الماء، وكيف يعدل إلى التيمم وهو في بلاد واسعة الأرجاء والماء موجودٌ ولله الحمد، وكذلك الذين يذهبون إلى الرحلات في البر، تجد الماء معهم كثير، ويعدلون إلى التيمم وهذا لا ينبغي، فلا يعدل إلى التيمم إلا من كان في حاجةٍ ماسة إلى الماء، أو كان الماء لا يكفيه إلا لطعامه وشرابه، أما إذا كان معه (وايت) من الماء ثم يعدل إلى التيمم وإذا انتهى من رحلته فتح الماء وأضاعه في الأرض، فهذا من التهاون في الدين وعدم المبالاة في أمر الله، فاحذروا -يا عباد الله- أن تتهاونوا في أمر الله فتسقطوا من عين الله، تعلموا أحكام دينكم، تفقهوا في دين الله، اقتربوا من حِلق الذكر، اقتربوا من مجالس العلماء، حتى تكونوا على بصيرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذِّكر}.
أوجب الله عليكم الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، إذا أردتم القيام إلى الصلاة فمن أراد منكم أن يصلي فليتوضأ كما أمره الله، وصفة ذلك: أن ينوي، ثم يذكر اسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه كله من منابت شعر الرأس إلى الذقن، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح رأسه كله من مقدمه إلى قفاه، ومنه الأذنان، ثم يغسل رجليه ثلاثاً مع الكعبين -انتبهوا إلى هذه العبارة - ومن كان لديه في عضوٌ من أعضاء الوضوء جرح يضره الغسل فلا يغسله، فإن وضع عليه رباطٌ أو غيره فيجب أن يكون بقدر الحاجة لا يتعدى موضع الجرح، ثم يمسح على المحل المربوط عند الوضوء، ولا يحتاج إلى تيمم بعد ذلك.
اللهم ارزقنا التفقه في ديننا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واجعلنا هداةً مهتدين.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين آجلاً غير عاجل، اللهم يا واحدٌ أحد! يا فرد يا صمد! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء! حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم انصر من نصر الإسلام، اللهم انصر من نصر الإسلام، في كل مكان يا رب العالمين! اللهم انصر من نصر الإسلام في كل مكان واجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءً عافية، ويسر أمره حيث ما كان يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم وفقهم إلى الجلساء الصالحين الناصحين الذين يذكِّرونهم إذا نسوا ويعينونهم إذا ذكروا.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعينٌ لنا يا رب العالمين.
اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في مستقر رحمتك يا رب العالمين! وأظلنا تحت ظل عرشك، يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم اسقنا من حوض نبيك صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عنا وعن جميع المسلمين عامةً يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(105/10)
عاقبة الزنا
إن الله سبحانه وتعالى اختار هذه الأمة واصطفاها لتكون تابعة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وجعلها أمة وسطاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لكن قد أخبر المصطفى أنها في آخر الزمان ستترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستنتشر على إثر ذلك المنكرات ويعم الفساد.
ومن أعظم ما عم في زماننا هذا: الزنا ومقدماته ودواعيه، وقد تطرق الشيخ في هذا الدرس لهذا المنكر العظيم، وذكر أسباب انتشاره، وآثاره السلبية على الأمة جميعاً، وذكر حرمته من الكتاب والسنة.(106/1)
التحذير من الزنا
الحمد لله الذي أحل الحلال، وأمر به في محكم البيان، وحرم الحرام وصوره في أبشع صوره؛ حتى ينتهي عنه أولو العقول والأفهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، المتمم لمكارم الأخلاق، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه على التمام وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن من واجب كل مؤمن أن يسعى دائماً في تقوية إيمانه, وبأي شيء يسعى في تقوية إيمانه؟
يقوي عمله بعمل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
عباد الله! لقد جاء القرآن مصرحاً، وبأسلوب في غاية الشدّة، وبعبارة تقشعر منها جلود الذين يخشون ربهم ويخافون عذابه الأليم، محذراً من الزنا ومقدماته, ومعللاً ذلك ومخبراً بأنه عملٌ إجراميٌ فاحش في غاية القبح والفحش والشناعة، فقال جلَّ وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويشمل هذا الإنذار فعل الفاحشة الشنعاء حقيقة.(106/2)
التحذير من مقدمات الزنا
أمة الإسلام! لقد جاءت الشريعة الإسلامية محذرةٌ أشد تحذير من الزنا ومقدماته، ومن مقدمات الزنا: مغازلة النساء والتعرض لهن بالطرقات والخلوة بهن بدون محرم، وإن كانت خادمة، أو مربية.
أمة الإسلام: لقد جاءت الشريعة الغراء بتحريم لمس المرأة ممن لا تحل له, كذلك حرمت النظر إلى من ليست له بمحرم وبالعكس.
وكذلك حرمت الشريعة الإسلامية استماع ما فيه فتنة، ويشمل ذلك تليين الكلام من المرأة، وكذلك يحرم استماع الأغاني التي تدعو إلى الافتتان بالنساء، وقد جاء في الأثر: [[الغناء بريد الزنا]] وورد في الأثر أيضاً: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل]] كل هذا من مقدمات الزنا، زيادةً على ذلك: التبرج، وهو: خروج المرأة متعطرة ومتجملة بأحسن الملابس، تتجول في أسواق المسلمين بدون وازع ولا رادع.(106/3)
حكم الله في الزناة
ولقد ورد حكم الله في من اقترف الزنا إذا كان أعزب؛ فإنه يجلد مائة جلدة، ويُغرَّب عام، هذا شاملٌ في الرجل والمرأة إذا لم يكونا متزوجين، أما إذا كانا متزوجين ولو في العمر مرة، فإن الشريعة الإسلامية أمرت برجمهما بالحجارة حتى يموتا، وهكذا جاءت السنة النبوية عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: {فإن لم يستوف فالقصاص منهما في الدنيا، وما جاء من غير توبة، فإنهما يعذبان في النار بسياطٍ من نار}.
ثبت عن رسولكم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} وقال -أيضاً0 صلى الله عليه وسلم: {من زنا أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم، وذكر منهم: شيخٌ زان} أي: شيخُ كبيرٌ في السن، نسأل الله حسن الخاتمة.
وفي صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل وميكائيل، قال: {فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع, فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، فإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب، ضوضوا - أي: صاحوا من شدة حره- فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني -أي: من الرجال والنساء- فهذا عذابهم إلى يوم القيامة}.
قال عطاء رحمه الله في تفسير قوله الله تعالى عن جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر:44] قال: [[أشد تلك الأبواب غماً وحراً وبرداً وأنتنها ريحاً للزناة, الذين ارتكبوا الزنا بعد العلم]]-أي: بعد العلم بتحريمه- وجاء عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، قال: {يا معشر المسلمين! اتقوا الزنا؛ فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فذهاب بهاء الوجه، وقصر العمر، ودوام الفقر} كيف لا! إنه لا ينطق عن الهوى، ودوام الفقر الأربعين الألف، والثلاثين الألف، والستين الألف، ليس لها واقفٌ في فرنسا، ولندن، وفي غيرها من دول أوروبا الفاسدة! إنها تذهب هباءً منثوراً، ولذلك يخبرنا صلى الله عليه وسلم: {وأما التي في الآخرة: فسخط الله تبارك وتعالى، وسوء الحساب، والعذاب بالنار} هكذا يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عاقبة الزنا ينادي: {يا معشر المسلمين! اتقوا الزنا, فإن فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فذهاب بهاء الوجه، وقصر العمر، ودوام الفقر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله تبارك وتعالى، وسوء الحساب، والعذاب بالنار}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما من ذنبٍ بعد الشرك بالله أعظم عند الله من نطفةٍ وضعها رجل في فرج لا يحل له} وورد أيضاً: {أن من وضع يده على امرأة لا تحل له بشهوة، جاء يوم القيامة مغلولةً يده إلى عنقه}.
فيا عباد الله! هذه العناية بقطع الطرق والأسباب التي قد توقع في الزنا رحمةً بالإنسانية، وحفظاً للمجتمعات والأفراد من مغبة الزنا ووخامته وشر عقباه.
في الزنا من الأمراض الخلقية والاجتماعية والصحية والأضرار ما يكفي أقلها لتحريمه, والابتعاد عنه, إذ أنه مدعاةٌ لضياع الأنساب واشتباهها، فربما أدَّى- عياذاً بالله- إلى أن يتزوج الرجل بذات محرمٍ له في باطن الأمر.(106/4)
آثار الزنا السلبية على الفرد والمجتمع
والزنا مدعاة لغرس الأحقاد، والتباغض، والتنازع، وسفك الدماء، ومدعاة لاختلال نظام الأسرة، ولا سيما بين الزوجين الذين أراد الله منهما أن يتعاشرا بالحسنى والمعروف.
الزنا مدعاةٌ لهتك الأعراض، وتلويث الأسر، وفساد النساء.
الزنا مدعاةٌ لخلط الأمراض المستعصية المتنوعة، فكم من مروءةٍ وفضيلة دفنها، وعفافٍ واحتشامٍ قضى عليه الزنا, لذا فغيره جاءت الحكمة الإلهية بتحريمه -كما تقدم- ومحاربته بالشرائع السماوية منذ القدم.
لقد جعلت شرائع لمرتكبيه أقسى العقوبات الدنيوية من قتل وجلد وتشريد بحسب الزاني من إحصانٍ وغيره، كما أن الشريعة الإسلامية توعدت الزناة بألوان العذاب المضاعف في الآخرة، فقال جلَّ وعلا بعد أن ذكر معاصي آخرها الزنا، قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]-لا إله إلا الله رحمة ربنا واسعة، أرحم الراحمين اللطيف بعباده يستثني- {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70].(106/5)
دعوة إلى التوبة وغض البصر
اتقوا الله -أيها المسلمون- وابتعدوا عن هذه الجريمة العظمى، واحذروا من مقارفة الزنا، فإنه عارٌ في الدنيا، ونارٌ في الآخرة، احذروا فإن لكم عواطف ومحارم، يروى في الأثر: [[عفوا تعف نساءكم]] ولا عجب فإن الجزاء من جنس العمل! ربما يزني في أوروبا ويُزنى بزوجته في بلاده، ربما يزني في أوروبا ويزنى ببناته في بلاده، ربما يزني بالخادمة بعرض الطريق، ويزني بابنته المتحصنة بين الجدران، ربما يزني بالخادمة وقد وضع الستار في السيارة أمام أعين الخلق، وابن الجيران يزني بابنته وتحصنه الجدر في فراشه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
يا عباد الله! لعل من يخفى عليه هذا الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد أن يقلع عن هذه المعصية، ويتوب إلى الله عز وجل، ويرجع ويندم على ما فات، فإن الله يتوب على من تاب، وباب التوبة مفتوح، والتوبة تجبُّ ما قبلها و {التائب من الذنب كمن لا ذنب له}.
اللهم إنا نسألك توبةً نصوحاً, تُطِّهر بها قلوبنا، وتمحِّص بها ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا, وطهِّر قلوبنا, وحصّن فروجنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:30 - 31].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(106/6)
أسباب الزنا ودواعيه
الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه, واحذروا أسباب سخطه, فإن الله يغار على محارمه: ومن محارمه أن يزني العبد أو تزني الأمة، وكلنا -عباد الله- يعلم بشاعة هذه الفاحشة، ولا يرضاها لأهله ولا لمحارمه، فعلينا -جميعاً- بمحاربة هذه الجرثومة الفتَّاكة، والداء الخطير، الذي ما حدث في شعب من الشعوب إلا دهورها ورداها إلى الهاوية.
عباد الله! إن من أسباب الزنا ودواعيه: تبرج النساء في الأسواق، وخروجهن متعطرات فاتنات مفتونات.
وكذلك اختلاط الرجال بالنساء من غير محرم.
ومن أسباب الزنا ودواعيه، الخلوة بالنساء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يُحذِّر أصحابه من الخلوة بالنساء، وهم أنظف منا قلوباً، وأتقى لله، أما نحن، فنقول: قلوبنا نظيفة، والله إنها ليست بأنظف من قلب رسول الله، ولا من قلوب صحابة رسول الله، كيف بنا نقف أمام الناصح ونقول: قلوبنا نظيفة؟ ألا نتقي الله ونبتعد عن العادات الفاسدة التي تؤدي بنا إلى الشر والعار والفساد وهذا الوعيد الشديد؟ إن الزناة معلقون بفروجهم في النار يُضربون بسياطٍ من حديد، فإذا استغاث من الضرب، نادته الزبانية: أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح؟ أين هذا الصوت؟ ألا تراقب الله وتستحي منه.
فاتقوا الله عباد الله! {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وصلوا على رسول الله كما أمركم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا, واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم زلزل أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم يدك، اللهم مزّقهم كل ممزق، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم حبّب إليهم الحكم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اهدهم لتطبيق الشريعة بحذافيرها، اللهم اهدهم لتطبيق الشرعية بحذافيرها، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا وإياهم اجتنابه يا رب العالمين.
اللهم تُب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى جميع المسلمين يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط وسوء الفتن ما ظهر منا وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(106/7)
عَدَاوَتهم لنا قديمة
منذ أن أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وُجِد له من يعاديه ويعادي دعوته، وما نعيشه نحن الآن من عداء من الكفر وأهله إنما هو امتداد لذلك العداء القديم المستمر إلى أن ينتصر الحق وأهلُه.
وقد تحدث الشيخ عن هذا العداء في القديم وضرب له أمثلة في السابق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لاقوه من عذاب.
ومن أساليبهم الحديثة في عداوتنا اكتساحهم لمجتمعاتنا بالمخدرات والمسكرات والمجلات الخليعة والأفلام الماجنة.(107/1)
من مميزات دين الإسلام
فيا أيها الإخوة في الله! اتقوا الله عز وجل، وأكثروا من حمد الله وشكره على أن أنعم عليكم بنعمة الإسلام، إن نعمة الإسلام نعمةٌ كبيرة، أخرجنا الله بها من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضيق إلى السعة، ومن الجور إلى العدل، ومن أحكام الطواغيت من الكهان والسحرة والمشعوذين إلى أحكام القرآن والسنة، ومن الجفاء والغلظة إلى الحلم والرحمة، ومن عبادة المخلوق والجمادات إلى عبادة الواحد القهار.
فأنعِم به من دينٍ يدعو إلى كل خير، ويُحذِّر من كل شر، دين يدعو إلى التراحم والتودد والتعاطف، يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وينهى عن مساوئ الأخلاق وسفاسفها، دينٌ حث على أداء الأمانة، ونهى عن الخيانة، حث على الصدق، ونهى عن الكذب والغش والخداع، دينٌ أمر بحفظ الجوار، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوث، دينٌ أمر بإنظار المعسر والتيسير عليه حتى لا ينتشر الربا، ووعد أن من يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، دين التكافل والتضامن، دين من أوعاده الجميلة أن من نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة.
ومن توجيهاته السامية: أنه حث على طلب العلم الشرعي الذي فيه حياة القلوب، الذي هو ميراث الأنبياء والمرسلين، فقال صلى الله عليه وسلم: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة} دين يوجه الأمة ويذكرها الحال التي مضت، وما فيها من الشقاء والبؤس والعناء والتردي والانحطاط والتفرق والشتات وعبادة الأوثان والأصنام.
فإذا ذكروا تلك الحال، ازدادوا تمسكاً بهذا الدين وحباً له؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103].
نعم، هذا دين الإسلام الذي ختم الله به جميع الأديان، وأَتَمَّ به النعمة على الأمة الإسلامية، حيث قال جلَّ من قائلٍ عليماً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فهنيئاً للأمة الإسلامية بهذا الدين الذي لا يقبل الله يوم القيامة ديناً سواه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(107/2)
دور الشباب في بناء الإسلام
فيا أمة الإسلام! ويا أمة التوحيد! ويا خير أمة أخرجت للناس! اعرفوا قدر هذا الدين، وخاصةً شباب الإسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرِصَ كل الحرصِ على تكوين الشباب وإعدادهم لحمل المسئولية، وتهيئتهم لأداء الأمانة، وحثهم على اغتنام الفرص، فقال صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك} فإذا اغتنم هذه الخمس في هذا التوجيه النبوي، سهَّل عليه الجواب عند السؤال، ما هو هذا السؤال؟ إنه كما قال صلى الله عليه وسلم: {يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به} فإذا أخذ الشباب بهذه التوجيهات النبوية، وبهذه الإرشادات، يتكون المؤمن -وخاصةً الشباب- التكوين الذي يتحمل معه المسئولية ويقدر على حمل الأمانة وأداء المسئولية، ثابتاً راسخاً مؤمناً مجاهداً، فلا يستكين، ولا يضعف، ولا يتقهقر، ولا يميل مع رياح الفتنة، ولا يستسلم لإغراء الفساد، وخاصةً في هذه الأزمنة، ولعلَّ هذه الأزمنة هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويسمي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا}.
هذه الأزمنة التي كثرت فيها الدعوات إلى المخططات الشريرة الحنقة الحاقدة على الإسلام وأهله، إنها المخططات الصهيونية والماسونية والصليبية والشيوعية والنصرانية والاستعمار، وكل هذه الأسماء توجد في هذه المجلات التي تنشر في أسواق المسلمين، وتباع مع المواد الغذائية في البقالات وغيرها.
ولا شك ولا ريب يا أمة الإسلام! أن هذه المخططات كلها تستهدف إفساد الأمة الإسلامية عن طريق الخمر، والمخدرات، والمسكرات التي ذهب ضحيتها أناسٌ كثيرٌ، وكذلك الجنس، من انتشار الزنا واللواط وإطلاق عنان الغرائز والشهوات، وما يكمن في الأفلام والمسرحيات، والأغاني الماجنات، وما يبث في المجلات كلها -والله ثم والله- تستهدف إفساد الأمة الإسلامية والسيطرة على بلاد الإسلام، وصرف الشباب المسلم عن مهام أمور دينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما حل بـ الأندلس ما حل؛ إلا لما دخل عليها النصارى واستعبدوا أهلها وباعوا المسلمين بالحبال في الأسواق.
يا شباب الإسلام! الحذر الحذر من أعداء الإسلام، فعداوتهم قديمة وليست حديثة، فهذا إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم كم لقي في سبيل الدعوة إلى الله من أذىً وأساليب متباينة؛ كل هذا ليثنوا من عزمه صلى الله عليه وسلم، ويصدوه عن أداء رسالته، فما ضعف وما استكان، بل بقي صلى الله عليه وسلم يكافح ويناضل في سبيل الله، ويجاهد لإعلاء كلمة الله، وصبر على الأذى وعلى المؤامرات التي حيكت له حتى حبس في الشعب ثلاث سنوات صلى الله عليه وسلم، وما ثنى عزمه ذلك، رجم بالحجارة حتى سالت كعبيه وما ثنى عزمه ذلك، كسرت رباعيته، وشج رأسه، وما ثنى عزمه ذلك عن الدعوة إلى الله.
فصلوات الله وسلامه عليه، جاهد في الله حق جهاده، حتى جاء نصر الله والفتح، وقامت دولة الإسلام عزيزة كريمة، فما مضت الأيام والليالي إلا وقد تخرَّج من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم شباباً يُحبِّون التفاني، ويبذلون الجهد حتى بلغ هذا الدين مبلغه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أُوحي إليه بتبليغ الرسالة كان في سن الأربعين صلوات الله وسلامه عليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات.
وكان عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه وأرضاه عمره حين أسلم سبعاً وعشرين عاماً، وعثمان رضي الله عنه وأرضاه كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه وأرضاه كان أصغر من الجميع، وهكذا بقية الصحابة رضي الله عنهم كانوا شباباً مثل: عبد الله بن مسعود، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وبلال بن رباح، ومصعب بن عمير، وكثيرٌ وكثير من أولئك الشباب الذين حقق الله على أيديهم النصر؛ ففتحوا الفتوحات، ومصَّروا الأمصار أولئك الشباب، فطريقهم واضح يا شباب الإسلام! يا من هجرتم بيت الله! يا من ودعتم المساجد؛ إلا القليل.
أسأل الله الذي رد القليل أن يرد الكثير إنه على ذلك قادر.(107/3)
نماذج ممن أقاموا الإسلام
يا شباب الإسلام! انهجوا نهج السلف الصالح، فإن طريقهم واضح كما أخبر الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] متأسين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ امتثالاً لأمر الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فهنيئاً لأولئك الذين مدحهم الله في محكم البيان: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22].
فيا شباب الإسلام! ارجعوا إلى سيرة السلف الصالح، لتجدوا فيها العزة والشرف وهم الذين أعدوا للصبر والابتلاء والثبات على المبدأ نفوساً مؤمنةً صامدة، لا تجزع أمام أحداث الليالي، ولا تتزعزع أمام نوازل الأيام.(107/4)
صمود بلال بن رباح أمام التعذيب
هذا بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم كم لقي في سبيل الدعوة من أصناف العذاب والبلاء! فكلما اشتدت عليه وطأة الألم، ونزلت به المحن، ووضعت على بطنه الحجارة الثقيلة في وهج الظهيرة المحرق، ازداد إيماناً وتَثَبُتاً، ونادى من الأعماق: [[أحدٌ أحد فردٌ صمد]] الله أكبر يا شباب الإسلام! ولكن بعضها في هذه الأزمنة بمجرد سماعه الكلمة يقول: أنت موسوس، أو متزمت، أو رجعي، ينبذ الإسلام ويعاديه وأهله.(107/5)
ابتلاء وصبر أسرة آل ياسر
الله أكبر يا شباب الإسلام! إليكم هذا النموذج أيضاً، هذا عمار وأمه سمية وأبوه ياسر رضي الله عنهم، تحملوا في سبيل إسلامهم ما لم يتحمله إنسان، وما إن علم بنو مخزوم بإسلامهم حتى انقضوا عليهم يذيقونهم أشدَّ العذاب؛ ليفتنوهم عن دينهم، ويرجعوهم كفاراً بعد أن هداهم الله إلى الإسلام، وفي بطحاء مكة حيث ترسل الشمس بحرارتها الملتهبة، يُقضى على ياسر أياماً في عذاب مقيم، ويمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون وسمع ياسراً وهو يئن في قيوده وهو يقول له: الدهر هكذا يا رسول الله، الدهر هكذا يا رسول الله، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء ونادى: {أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة} فعندما سمع آل ياسر النداء، هدأت نفوسهم، وسكنت قلوبهم.
لقد استُشهِدَت سمية رضي الله عنها على إثر طعنةٍ من فرعون هذه الأمة أبي جهل لعنه الله، وكانت أول شهيدةً في الإسلام، ثم تبعها ياسر وكان أول من استشهد من الرجال، وبقي عمار رضي الله عنه وأرضاه يغالب العذاب ويصابر الألم حتى بلغ به الجهد مبلغه.
الله أكبر يا أمة الإسلام! الله أكبر يا شباب الإسلام! أين الاقتداء؟! أين الاهتداء؟! أين النهوض؟! أين التشمير إلى تلك السير الحميدة؟!
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يوفقنا جميعاً للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(107/6)
مصعب بن عمير يترك نعيم الدنيا
الحمد لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من خالف أمره وعصاه، الناصر لمن ينصره من أهل طاعته وأوليائه -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لك الحمد يا ربنا كما تُحب وترضى، وشكراً لك على صوابغ نعمك وآلاءك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
وأشهد أن محمداًَ رسول الله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، لقد سمعتم من أخبار السلف الصالح وإليكم هذا الخبر نكمل به ما تقدم، هذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، أسلم مع الأوائل في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وهو شاب في عنفوان الشباب، ولما كشفوا أمره وأخذوه؛ حبسوه وعذبوه، فلم يزل محبوساً معذباً حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، وهاجر مع من هاجر إلى المدينة، بل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً للأنصار يعلمهم القرآن، ويعلمهم الدين، وفي غزوةٍ من الغزوات قُتل هذا الشاب رضي الله عنه وأرضاه، خرَّ صريعاً شهيداً.
وكان في مكة مدللاً عند والديه، يلبس أحسن الثياب، ويتطيب بأحسن الطيب، ولكنه ترك زينة الحياة الدنيا، وأقبل على الله رضي الله عنه وأرضاه، ولما قتل، لم يجدوا شيئاً يكفنونه فيه سوى بردة، فكانوا إذا وضعوها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعوها على رجليه خرج رأسه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر} ثم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشاب وهو مقتولٌ مسجىً في بردته، فيقول والدموع تنزل من عينيه: {لقد رأيتك بـ مكة وما بها أحدٌ أرَقَّ حُلةً، ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة، وقرأ عليه صلى الله عليه وسلم عليه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]}.
إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها أعمالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فاقتدوا بهم يا أمة الإسلام، وأكثروا من ذكرهم في المجالس، كم تتلى هذه الآيات! " رجال" يمدحهم الله في محكم البيان، فأنتم لا تنسوهم في مجالسكم، أكثروا من ذكرهم، وعلموا أولادكم أولئك الرجال.(107/7)
صور من عداوة أعداء الله للإسلام
يا شباب الإسلام! أين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام؟!
البعض يتساءل: لماذا حصل البعد وحصلت الجفوة عن تعاليم الإسلام؟!
فأقول لك أيها الأخ المسلم: أحضر القلم والورقة في قلبك بكل صدقٍ وصراحة، حصل هذا لما حصلت الأسباب الآتية: الغش، والخداع، والكذب، والخيانة، والغدر، والنميمة، والغيبة، والظلم، والنفاق، والرشوة، والسخرية، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وانتشار الأفلام.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم الذي وفق خادم الحرمين لإصدار ذلك الأمر بالقضاء على مروجي المخدرات، أن يصدر أمراً حاسماً على القضاء على من يروج الأفلام الخبيثة التي تنشر الدعارة بين المسلمين، ووالله ثم والله؛ إنها لا تقل خطراً عن المخدرات إن كان المخدر يضر ببعض العائلة، لكن هذه الأفلام تضر بكل العائلة إذا كان عندهم هذا الجهاز.
قولوا: آمين، أن الله يقيض ولاة أمورنا لمحاربة هذه الأفلام كما حاربوا تلك المخدرات والمسكرات، نعم يا شباب الإسلام! الذي حصل: هو انتشار الأفلام التي ميَّعت الأخلاق والآداب، وسببت السرقة والمغازلة والمعاكسة، إذا كان شريط الجنس يُهدى إلى المرأة عن طريق الخياط، فإلى الله المشتكى، إذا كان الفيلم في هذا الشريط الخبيث يُهدى بين الطالبات عن طريق الطالبات وتجدون ذلك في حقائب بعض الفتيات، فالله المستعان.
يا أمة الإسلام! استيقظوا وفقني الله وإياكم! لماذا تركنا الحبل على الغارب للأولاد والبنات؟ إنكم والله مسئولون عنهم يوم القيامة، زيادةً على ذلك انتشار المخدرات والمسكرات.
ومن الغش للمسلمين بيع الدخان علانية بين أظهر المسلمين مع المواد الغذائية، بيع الدخان الذي نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير لسهولة تناوله بين أيدي الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يا ليتنا نقاطع تلك المحلات التي تبيع الدخان وتتجر فيه حتى تستقيل، وتبتعد عن هذا الخطر الذي داهم البيوت صغيرها وكبيرها.
ومن الغش -أيضاً- لأمة الإسلام الذي فيه من المحاربة لله ولرسوله وللآداب والأخلاق هو: بيع المجلات السافلة الهابطة الخبيثة لما فيها من الصور لبعض النساء شبه العاريات التي تعرض على أبنائنا وبناتنا، واللواتي قُصِد بهن من أعداء الإسلام والعقيدة والأخلاق والآداب إفساد القلوب والناشئة من البنين والبنات، زيادةً على ذلك؛ ما يوجد في بعض المجلات من الإلحاد والمحاربة لله ولرسوله بالقول والفعل.
فانتبهوا يا أمة الإسلام من رقدتكم!! وأفيقوا من غفلتكم!! حاربوا هذه المجلات، وقاطعوها، وقاطعوا المحلات التي توجد فيها إن كان فيكم حباً للخير وغيرةً على دينكم.
اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد، اللهم اجعلنا من الهداة المهتدين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم وفقنا -جميعاً- لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
عباد الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله، الذي ترككم على البيضاء ليلها كنهارها، فقد أمركم الله سبحانه وتعالى بالصلاة عليه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، وكما قلت وقولك الحق: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] اللهم وفقنا لتحقيق هذه الخيرية، واجعلنا ممن يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه الخير والصلاح، اللهم سدد خُطاهم، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم أبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم أقرَّ أعيننا بصلاح أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا وإخواننا وأخواتنا واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن أسواقنا السفور والتبرج، الله نظِّف بيوتنا وقلوبنا من آلات اللهو يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن اهتدى بهدي رسولك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا ممن اقتدى برسولك صلى الله عليه وسلم، وأحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله! أكثروا من ذكر الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله.(107/8)
عم يتساءلون؟!
إن النظريات الملحدة ما زالت يتلو بعضها بعضاً من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا، والمجرمون وأهل الإلحاد يتواصون بها.
ومن تلكم النظريات إنكار البعث والنشور، وقد رد الله عليهم في غير ما موضع من القرآن الكريم، ومن هذه المواضع سورة النبأ، حيث دلل سبحانه بآياته الكونية على قدرته على البعث والنشور، وحذر المشركين من أليم عقابه إن هم أصروا على إنكارهم وعدم استجابتهم لرسوله.(108/1)
تدبر معاني سورة النبأ ودلالاتها
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:(108/2)
الرد على من أنكر البعث
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل.
عباد الله! لنتدبر معاني سورة من القرآن لنقف معها قليلاً؛ لتنبأنا عن الحقائق وتكشف لنا من أسرار العجائب, فهذه سورة النبأ التي تنبئ عن خبر هام, عن يوم القيامة وما فيه, وفي ذلك رد على من زعم أن لا بعث ولا نشور, قال الله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:1 - 5] و (كلا) هذه كلمة ردع وزجر لأولئك المكذبون, وكرر الردع بقوله: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5] تأكيد للوعيد مع التهويل, أي: سيعملون ما يحل بهم من العذاب والنكال في ذلك اليوم الذي أنكروه واستبعدوا وقوعه, ولكن القادر الذي أوجد المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم, فهو الذي جعل للخلق هذه الأرض التي يسكنون عليها ممهدة, ليستقروا عليها, ويتقلبوا في نواحيها, وبسطها لهم كالفراش, ليستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المزروعات ويضربوا عليها للابتغاء من فضل الله, وثبتها بالجبال, وجعلها كالأوتاد لئلا تميد بمن عليها, ثم أوجد على هذه الأرض الممهدة أصنافاً ذكوراً وأناثاً, لينتظم أمر النكاح والتناسل ولا تنقطع الحياة حتى يأتي أمر الله, ثم جعل الله لهم نظاماً يسيرون عليه في هذه الحياة.
ومن ذلك: النوم ففيه راحة للأبدان, وتخلص لمشاق العمل بالنهار, وجعل النهار سبباً لتحصيل المعاش, اسمعوا يا من عكستم فطرة الله! فالله إنما جعل النهار سبباً لتحصيل المعاش, فالنهار جعله مشرقاً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه بالذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك.(108/3)
التفكر في آيات الله
ثم يخبر الله تعالى أنه بنى فوق الناس سبع سماوات محكمة الخلق بديعة الصنع, متينة في إحكامها وإتقانها ومع ذلك فهي لا تتأثر بمرور العصور والأزمان, جعلها الله بقدرته لتكون كالسقف على الأرض, لكن من يتفكر في هذا؟! إلا الذين ذكرهم الله في سورة آل عمران.
ثم سخَّر للناس شمساً منيرة ساطعة يتوهج ضوؤها, وجعلها لهم كالسراج, ثم أنزل الله بقدرته على الناس من السحب التي حان وقت إمطارها ماءً دافقاً منهمراً يخرج به أنواع الحبوب والزروع, التي فيها غذاء للإنسان والحبوب, وينبت به الحدائق والبساتين, نسأل الله أن يغيثنا برحمته, اللهم أغثنا برحمتك إنك أنت أرحم الراحمين, اللهم احيي بلدك الميت وانشر رحمتك على العباد.
اسمعوا قول الحق جل وعلا: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:5 - 16] كل ذلك من أجلك يا بن آدم.
عباد الله! لقد ذكر الله جلت قدرته هذه الأشياء التسع دلالة على قدرته كبرهان واضح على إثبات البعث والنشور, الذي أنكره من أنكره من الكفار, ولا يزال الكفار يتتابع نسلهم إلى يوم القيامة, فمنهم الآن من -ومع الأسف الشديد- تتلمذوا على أيدي الشيوعية، وعلى أيدي الملاحدة والزنادقة, ويعيش بين أظهر المسلمين من ينكر البعث والنشور, وينكر الجنة والنار -فلا حول ولا قوة إلا بالله- ولكن قولوا لهم: سيعلمون متى يوم البعث والنشور, إنه يوم الفصل بين الخلائق، إنه يوم القيامة, يوم ينفخ الصور للقيام من القبور, فيحضرون جماعات جماعات وزمراً زمراً للحساب والجزاء.(108/4)
متى يكون يوم البعث؟
في ذلك اليوم الرهيب الذي تتشقق فيه السماء وتفتح فيه كالأبواب في الجدران من هول ذلك اليوم الذي تسير فيه الجبال فتكون كالعهن المنفوش, قال رب العزة والجلال: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17] متى؟! {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:18 - 20].(108/5)
جهنم ومدة المكوث فيها
في ذلك اليوم الرهيب -الذي هو يوم القيامة- قسم من الذين عصوا وكذبوا وعاندوا في جهنم تنتظرهم وترتقب إليهم, لتلتقطهم إليها ليسجنوا بها أحقاباً لا انقضاء لها, ولا انقطاع, لا راحة لهم فيها, عذابهم دائم أبداً, لا يذوقون في برودة تخفف عنهم حر النار, ولا شراباً يسكن عطشهم فيها إلا ماءً حاراً بالغ الغاية في الحرارة, وغساقاً أي: صديد يسيل من جلود أهل النار {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13].
ومع ذلك يقال لهم: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30] يقرر هذا رب العزة والجلال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:21 - 30] يا لها من حسرات تتابع! يا لها من ذنوب تتراكم! إذا قال لهم الجبار: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30].(108/6)
الجنة وما أعد للمتقين فيها
عباد الله: اسألوا الله جل وعلا أن ينجيكم من النار, واسألوه أن يدخلكم الجنة دار المتقين, فإن الله أعد للمتقين الأبرار الذين أطاعوا ربهم في الدنيا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهذا هو موضع الظفر وموضع الفوز بجنات النعيم, وخلاصهم من عذاب الجحيم, أورثهم الجنة بما فيها من الحدائق الناظرة, وما فيها من الأطعمة الطيبة المتنوعة من كل ما تشتهيه النفوس, وما فيها من الحور العين, وما فيها من الأشربة الطيبة وهم في ذلك النعيم المقيم لا يسمعون كلاماً فارغاً لا فائدة فيه ولا كذاباً, لأن الجنة دار السلام.
فكل هذا الجزاء العظيم تفضلاً من الله وإحساناً ومكافأةً على حسب أعمالهم, قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} [النبأ:31 - 32] لا يجف ماؤها, لا تتغير نضرتها إنها الجنة يا عباد الله.
اسمع أيها الشاب! الذي رجعت عن طاعة المولى جل وعلا, عندما كنت مشتاقاً إلى هذه القصور وما فيها من اللذة والنعيم, جالست الأشرار, جالست جلساء السوء, فحولوك من الراحة إلى الشقاء, حولوك من الراحة إلى العماء, حرموك هذا النعيم.
اسمع أيها الشاب! يا من استبطأت هذه القصور وهذه الحور وهذا النعيم ارجع إلى ربك جل وعلا.
أيها الشاب! أين ذهابك إلى المحاضرات؟ أين حضورك للندوات؟
أين ذهابك إلى مكة لتعتمر وتحج؟ كيف عكست الأمر وصار عليك وبالاً بذهابك إلى خارج البلاد؟ فهدمت ما بنيت في سالف الأزمان, ارجع إلى ربك ما دمت في وقت الإمكان, ارجع إلى ربك ولا تغتر بقرناء السوء أعوان الشيطان, واسمع إلى ما عند الرحمن: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:31 - 33].
اسمع أيها الشيخ الكبير يا من فتنت بالدنيا, وبما فيها من البساتين التي سوف تخرب وتذهب جثاءً, سوف تمر عليها الأيام وتيبس فيها كل شيء, وهذه حكمة الله في الدنيا أن مآلها إلى الدمار والخراب, ولكن اسمع أيها الشيخ يا من أضعت الليالي الطوال مع الكلام الفارغ, مع أكل لحوم الناس, ذهب فلان وقال فلان وقيل لفلان اسمع يا مسكين اغتنم باقي السنين إن كان لك باقي سنين وإلا والله فالموت يأتي بغتة لا مفر منه.
اسمع يا مسكين! يا من رضيت بالعاجل! يا من بعت الغالي بالرخيص! يا من جريت وراء الدنيا تجر أذيال الغفلة, اسمع -يا عبد الله- قليلاً مما عند الله في تلك الجنة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ:31 - 36] من هذا الرب؟ هذا ملك الملوك، جبار السماوات والأرض الذي إذا قال لشيء كن فيكون {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} [النبأ:37].
عباد الله: إن أمامكم يوم القيامة وأكرر كما كرر الله في هذه السورة، يوم القيامة الذي غفل عنه الكثير, وعن ما فيه من الأهوال والشدائد الصعاب, يوم أن يقتص الله فيه لأهل المظالم ممن ظلمهم, حتى يأخذ للشاة الجماء حقها من الشاة القرناء, ثم يقول لها رب العزة والجلال: كوني تراباً, عند ذلك يتمنى الكافر الذي أضاع أوقاته في الحياة الدنيا في المعاصي والفجور ولمحادة الله ورسوله أن يكون تراباً.
اسمعوا إلى قول الله الجبار جل وعلا: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} [النبأ:38] يا له من موقف نزلت فيه أملاك السماوات السبع وصفت صفوف سبعة, أحاطت بأهل الموقف جميعاً {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:38 - 40].
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل, قبل أن ينظر المرء ما قدمت يداه, اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة, اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(108/7)
الوصية بقراءة القرآن وتدبر معانيه وأحكامه
الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً, والحمد لله الذي جعل القرآن للمؤمنين هدى وشفاءً ورحمة, والحمد لله الذي اختار لنا الإسلام من بين الأديان, والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس, والحمد لله الذي أرسل إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجنا به من الظلمات إلى النور, فلك اللهم الحمد دائماً أبداً حمداً كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب للوجود سواه, هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم, خلق فسوى، وقدر فهدى, وهو الفعال لما يريد, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق, فبلغ رسالة ربه، ونصح الأمة، وتركها على البيضاء, وقال صلى الله عليه وسلم: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله عز وجل, وتدبروا القرآن فإن فيه الهدى والنور, قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16].
فيا أمة الإسلام! ويا أمة القرآن! ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! ويا خير أمة أخرجت للناس! عليكم بقراءة القرآن الكريم واستماعه, وتدبر معانيه, والتفكر فيه، عليكم باتباع أوامره, واجتناب نواهيه, عليكم بتعلم القرآن {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} هكذا يخبركم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عليكم بتعلم تفسيره ومعرفة أحكامه, والعمل به لتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195].
أنزله الله تعالى ليكون دستوراً للأمة الإسلامية, وهداية للخلق, وليكون آية على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وبرهاناً ساطعاً على نبوته صلى الله عليه وسلم, وحجة قاطعة قائمة إلى يوم الدين.
أنزله الله ليعمل به المسلم, فيحل حلاله ويحرم حرامه, ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه, ويتلوه حق تلاوته, فيكون حجة له عند ربه وشفيعاً له يوم القيامة, يقول الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم: {القرآن حجة لك أو عليك} رواه مسلم.
وقد تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة, قال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] فنعوذ بالله من الإعراض عن كتاب الله.
عباد الله! انفضوا الغبار عن كتاب الله, ارجعوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلوا على من أرسله الله رحمة للعالمين, صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلّى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك, نواصينا بيدك, ماضٍ فينا حكمك, عدلٌ فينا قضاؤك, نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك, أو أنزلته في كتابتك, أو علمته أحداً من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا وغمومنا, اللهم اجعله حجة لنا, اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بالإسلام, واجعل مآلنا إلى جنات النعيم يا رب العالمين, اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعلنا وإياهم هداة مهتدين, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره, واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء, اللهم دمِّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك عليهم, اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك, اللهم مزّقهم كل ممزق يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا, وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم آمنا في أوطاننا, ولا تسلط علينا أعداءنا, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن, عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين, اللهم اهد ضال المسلمين, اللهم أصلح شباب المسلمين, اللهم رد شاردهم, وثبت مهتديهم يا رب العالمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وصلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(108/8)
عواقب المعاصي
إن للمعصية أثراً في مصير الإنسان في دنياه وآخرته، وإن من هذه المعاصي الكبر، وما عصى إبليس ربه إلا بالكبر على الله أن يسجد لآدم، ولهذا الكبر أسباب، وله علاج يدفعه عن الإنسان، ولن يسعد أحد إلا بتركه للمعاصي واتباعه كتاب ربه جلا وعلا.(109/1)
الكبر بطر الحق وغمط الناس
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له من بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الكبير المتعال ذو العظمة والكبرياء والجلال, والعزة التي لا ترام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله ليتمم به مكارم الأخلاق, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله حرم الكبر والإعجاب، لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل، وليس لمن استوليا عليه قبول النصح ولا قبول التأديب؛ لأن المتكبر يعتقد في نفسه أنه عظيم جليل متعالٍ عن رتبة المتعلمين، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه: {بطر الحق وغمط الناس} والكبر والعجب من الصفات النفسية المرذولة التي كثيراً ما تثير الغضب والحقد وتورث العداوة والبغضاء, وتورث الاحتقار والازدراء بالناس واغتيابهم.
الكبر يجافي ويباعد بين الصدق وكظم الغيث، ويجافي بين قبول النصح، الكبر يعمي المرء عن النظر على عيوبه, ويحول بينه وبين العلم، وبينه وبين الانقياد للحق، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الكبر بطر الحق} أي: رده ودفعه وعدم قبوله, وهو عالمٌ به, سواء كان من حقوق الله، أو من حقوق عباده، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {غمط الناس} أي: احتقارهم وتنقصهم، وذلك ناشئ عن عجب الإنسان بنفسه وتعاظمه عليهم، وتنقصهم بقوله وفعله.(109/2)
أسباب الكبر
للكبر أسباب كثيرة، فقد تكون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسلطان، وربما نشأ عن غرور ووهم بحيث يعتقد أنه أكمل من غيره خطأً وجهلاً، وهذا برهانٌ على نقص عقله، ولذلك يقول بعض العلماء: ما دخل قلب امرئٍ شيئاً من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل من ذلك الكبر قلَّ أو كثر.
فإن كان الكبر ناشئاً عن العلم، كان صاحبه مثالاً سيئاً، وقدوةً رديئةً خصوصاً إذا دفعه الكبر إلى صفة ذميمة كالحسد والحقد، أو أفضى به إلى ارتكاب مظلمة من مظالم ارتكبها بيده، أو لسانه، فإن ضرر هذا لا يقدر؛ لأن الناس يقتدون بالعلماء في أقوالهم وأفعالهم، فيستسهلون عند ذلك ارتكاب الجرائم وإشباع الصفات الذميمة.
كمن يرى بعض العلماء يصلي في بيته، فإنهم يقتدون به ويقولون: إن الشيخ فلان يصلي في بيته، أو كما يرون بعض العلماء يحلق لحيته، ويقولون: العالم الفلاني يحلق لحيته، أو يقولون: إن العالم الفلاني يستمع الأغاني، أو يقولون: إن العالم الفلاني يستعمل الربا، فإنه في هذا قد أصبح أشرَّ قدوة وأسوأها، وإذا صدر هذا من العلماء فإن فيه شراً عظيماً، وأيضاً فإنه لا ينتفع بعلومهم، لأنهم يكونون بعد ذلك ضعفاء الإرادة، ومن كان هذا شأنه، فإن علمه وبالٌ عليه, وسوف يسأل عن علمه ماذا عمل به؟
أما العلم النافع، فهو الذي يربي الأنفس ويطهرها من الصفات الرديئة، ويعرف العبد بربه وبنفسه وخطر أمرها، وهذا يورث الخشية والتواضع، فيكون صاحبه مثالاً حسناً بين الناس، وقدوةً صالحةً في الأقوال والأفعال، هذا إذا كان الكبر في العلماء.
أما إذا كان الكبر ناشئاً عن النسب، فإنه ربما يكون سبباً للطعن في أنساب الآخرين، وقد يؤدي إلى احتقارهم وازدرائهم، وقد فصل المسألة رب العالمين بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وفصلها رسول الهدى بقوله: {لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى} وذكر تمام الحديث.
أما إذا كان الكبر ناشئاً عن الجاه والسلطان، فإنه غالباً يفضي إلى شر أنواع الظلم، وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق خلقه مثل: ألّا يبالي بهم، ولا يسمع شكواهم، وخاصةً الضعفاء أو أن يعرض عن النصيحة، أو العمل بالحق، فإنه في هذه الحالة يكون متكبراً مذموماً ممقوتاً.
والكبر أنواع: وأعظم أنواع الكبر: الكبر على الله، وعلى رسله، وهذا من أشر أنواعه.(109/3)
علاج الكبر
ومن أراد علاج الكبر، فقد ذكره العلماء، فقال بعضهم: أولاً: أن يعرف الإنسان ربه عز وجل، ويعرف نفسه، فإنه إذا عرف ربه حق المعرفة، علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله جل وعلا، وإذا عرف نفسه، علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع لرب العالمين والذلة له، قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22] ويقول جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] ففي هذه الآيات إشارةٌ إلى بداية خلق الإنسان وإلى آخر أمره، وإلى وسط أمره، أما أوله، فإنه لم يكن شيئاً مذكوراً، وقد كان في حيز العدم دهوراً، ثم خلقه العزيز الحكيم من تراب -تفكروا في خلق أنفسكم يا عباد الله- ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعله عظاماً، ثم كسا العظام لحماً، ثم لما استتم الخلق، جعله سميعاً بعد أن كان أصماً، وبصَّره بعد أن كان فاقد البصر، وقوَّاه بعد أن كان ضعيفاً، وعلَّمه بعد أن كان جاهلاً.
فكيف من كان هذا أوله وهذه أحواله، فمن أين له البطر والأشر والكبرياء والخيلاء وهو الضعيف الحقير بالنسبة إلى قدرة الباري جل وعلا.
فليتأمل العاقل هل يليق الكبر بمن هذا أوله وآخره؟
فإن هذا الإنسان الذي يجول ويصول يسلب روحه في آخر الأمر، ويسلب سمعه, وبصره, وعلمه, وقدرته وحواسه, وإدراكه وحركاته, وجماله وجميع أحواله، فيعود كما كان أولاً جماداً, لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته ولا حركة فيه، ثم يوضع في التراب في مثواه الأخير في القبر، فيصير جيفة منتنة كما كان في الأول نطفةً مذرةً، فتبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه, ويصير رميماً رفاتاً, ويأكل الدود أجزاءه ويستقذره الإنسان، وأحسن أحواله أن يعود تراباً كما كان.
ثم يحييه الذي خلقه أول مرة، فيقاسي الشدائد وأهوالاً مزعجات، ويخرج من قبره كما أخبر الله تعالى بقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44] فينظر إلى قيامةٍ قائمة, وسماءٍ منفرجةٍ منشقة، وأرضٍ مبدلة، وجبالٍ مسيرة، ونجومٍ منكدرة، وشمسٍ منكسفة، وأحوالٍ مظلمة، وملائكةٍ غلاظٍ شداد، وجهنم تزفر، فيا ويل المجرمين مما أمامهم في ذلك اليوم العظيم!
اللهم اهدنا إلى أحسن الأعمال والأخلاق وأحبها إليك، فإنه لا يهدينا لأحسنها وأحبها إليك إلا أنت، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وأنت راضٍ عنا يا كريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(109/4)
التحذير الشديد من داء الكِبْر
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه.
عباد الله! إن سعادة المسلمين في أن يتبعوا الحق ويدعوا إليه، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، تلك سعادة المسلمين، ويقبلوا النصيحة ممن ينصحهم ويعملوا بها راضيةً نفوسهم, شاكرةً ألسنتهم, غير مستكبرين، ولا متعنتين، ولم يعمهم الهوى عن اتباع الحق, إذ ذاك تكمل لهم السعادة ويتم لهم النعيم.
رجل يأكل عند الرسول صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال له: {كل بيمينك, قال: لا أستطيع -متعافي ولكن منعه الكبر- فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا استطعت؛ فما رفعها إلى فيه} وما أكثر المتكبرين في وقتنا الحاضر عن قبول الحق.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدي الجميع إلى صراطه المستقيم.
أمة الإسلام! لا تكون السعادة في من فشا فيه داء الكبر, واستحكم وتكبر عن قبول النصح من الناصح, وإرشاد المرشد، فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح، كان راضياً عن نفسه، وإذا رضي عن نفسه، عميت عن عيوبها، فلا يؤثر فيها نصحٌ، ولا ينفع معها إرشاد؛ لأن الغرور متحكمٌ فيها، والشهوات محيطةٌ بها، فإذا أراد الله بعبده خيراً، بصَّره بعيوب نفسه فأصلحها، واتهمها دائماً بالنقص, وطالبها بالكمال حتى تلتحق بالنفوس الزكية, والأرواح الطاهرة، وهكذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[رحم الله امرئً أهدى إلي عيوب نفسي]] هذا دعاء من أمير المؤمنين إلى من يبصره بعيوب نفسه، إلى من يقول له: أخطأت في كذا، لماذا عملت كذا؟ رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم يفرحون إذا نبههم أحد بعيوب أنفسهم، ويعدون ذلك من باب النصيحة، ولم يتكبروا، وقد ورد في ذم التكبر آيات وأحاديث تبين أنه شر كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
في السنة أيضاً مما يحذر عن التكبر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يقول: {لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطراً} ويقول صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: العز إزاري, والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئاً منهما عذبته} ويقول صلى الله عليه وسلم: {يقول الله جل وعلا: الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما، ألقيته في النار} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظٍٍ مستكبر} رواه البخاري ومسلم.
والتقى عبد الله بن عمر بـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم على المروة، فتحدثا، ثم مضى عبد الله بن عمرو بن العاص، وبقي عبد الله بن عمر يبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا -يعني: عبد الله بن عمرو بن العاص - زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من كبر، كبه الله لوجهه في النار}.
وورد أيضاً في الحديث: {يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجنٍ في جهنم يقال له: بُلس, تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبةٍ من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس}.
عباد الله! إن الخير والهدى هو في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن أصحاب رسولك أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أدر عليهم دائرة السوء، اللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزّقهم كل ممزق، اللهم دمّر اليهود والنصارى المبشرين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أبعدهم عن بلدان المسلمين يا رب العالمين.
اللهم قاتل الشيوعيين وانصر المجاهدين عليهم يا رب العالمين, اللهم انصر المجاهدين في برك وبحرك، اللهم ثبت أقدامهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم سِلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يا رب العالمين، اللهم وأظهر بهم الدين والحق الذي رضيته يا رب العالمين.
اللهم أصلح إمام المسلمين وارزقه الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا, واجعلهم قرة أعين لنا، واجعلنا وإياهم هداةً مهتدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منا وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامةً يا رب العالمين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(109/5)
غزوة أحد
تطرق الشيخ في هذه المادة إلى بيان وقائع غزوة أحد مشيراً إلى زمن وقوعها، وما هو سببها، ولمن كانت الغلبة، والترتيب العسكري لكلا الجيشين، ومبيناً حب الصحابة للشهادة في سبيل الله وشدة تفانيهم في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبه إلى خطر مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل هذا أشار إلى خطر المنافقين على الصف الإسلامي وتخذيلهم لضعاف الإيمان، وختم هذه المادة بوصية العمل الصالح قبل هجوم هاذم اللذات ومفرق الجماعات.(110/1)
وقائع غزوة أحد
الحمد لله رب العالمين، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي ما طلعت الشمس ولا غربت على مثله، نبي أسس الله به ملة الإسلام، وشيد به دولة الإسلام {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله! لقد سمعنا في رمضان ما وقع في السابع عشر من الغزوة الكبرى التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسميت بذلك يوم الفرقان؛ لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، وفي هذه اللحظات نعيش دقائق أو بضع ساعة مع الغزوة التي تليها وهي غزوة أحد.
أيها الإخوة في الله! إن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غزوة بدر الكبرى، نعم.
إنها غزوة بدر الكبرى التي فرق الله بها بين الحق والباطل، الغزوة التي قتل فيها رءوس الكفر وصناديدهم، الغزوة التي حصل فيها النصر للإسلام والمسلمين، حيث مكن الله المسلمين من عدوهم فقتلوهم شر قتلة وأسروا منهم من أسروا، وولى بعضهم مدبرين منهزمين، مغمومين مقهورين.
ولكنهم مع ذلك إذا ذكروا تلك الهزيمة وتلك المقتلة أثرت عليهم، وأجاشت شرهم وحمستهم على أن يأخذوا بثأرها.(110/2)
سبب غزوة أحد
جعل أبو سفيان يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريباً من جبل أحد، وذلك في شوال قال بعض العلماء: إنها في اليوم السابع من شوال -توافق هذا اليوم- في السنة الثالثة من الهجرة.(110/3)
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
لما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة فكان رأيه صلى الله عليه وسلم ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي.
فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وألحوا عليه في ذلك وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، وألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض صلى الله عليه وسلم ودخل بيته ولبس لامته وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله! إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه}.
فخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي بـ المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤياً وهو بـ المدينة؛ رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح وأنه أدخل يده في درعٍ حصينة، فتأول الثلمة في سيفه: برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر: بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع: بـ المدينة.(110/4)
رأس النفاق ينخذل بثلث العسكر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عبد الله بن أبي رأس المنافقين بنحو ثلث العسكر وقال: تخالفني وتسمع من غيري فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام.
فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرة بني حارثة، وقال: {هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان صاحب هذا الحائط أعمى فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر} وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشِعْب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.(110/5)
الترتيب العسكري لجيش المسلمين
لما أصبح يوم السبت تعبأ الرسول للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة وكانوا خمسين عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم، فظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، يعني: لبس درعاً فوق درع وأعطى اللواء ذلك الشاب مصعب بن عمير رضي الله عنه، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو، واستعرض الشباب يومئذٍ -أيهم يريد أن يخرج للمباراة ليشجع على الشوط الأول والشوط الثاني، هل تظنون ذلك يا أهل الإسلام؟ لا والله، استعرض الشباب ليقفوا أمام الأعداء، ليصدوا عن دينهم وعن عقيدتهم.
استعرض الشباب يومئذٍ فرد من استصغره عن القتال، خرجوا لم يبلغوا من العمر الرابعة عشرة وكانوا يبكون لما ردهم عن القتال رضي الله عنهم وأرضاهم، أين نحن من شبابنا أو من بعض شبابنا؟ أين نحن من بعض الشباب الذين لم يهتموا بذلك وإنما اهتموا بأشياء تافهة دسها عليهم أعداء الإسلام وأعداء المسلمين؟
كان من هؤلاء الشباب: عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت، وغيرهم من الصحابة وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم من رآه مطيقاً، وكان منهم: سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهم من العمر خمس عشرة سنة فقيل: أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ.(110/6)
الترتيب العسكري لجيش المشركين
أيها المسلمون! أما قريش، أما المشركون فتعبأت للقتال، وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة، وكان شجاعاً بطلاً يختال في الحرب رضي الله عنه.(110/7)
نشوب المعركة
كان أول من بدر من المشركين: أبو عامر الفاسق وكان يسمى: الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف عليهم فقالوا له: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق.
فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً وكان شعار المسلمين يومئذٍ: أمت، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، لا لـ قومية، ولا لوطنية، ولا لجاهلية، وإنما يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا.
وأبلى يومئذٍ أبو دجانة، وطلحة بن عبيد الله، وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر، وسعد بن الربيع.(110/8)
مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونتيجة ذلك
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه.
هذه معصية وقعت عصوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مركزهم وقالوا: يا قوم! الغنيمة الغنيمة فذكَّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة وذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلو الثغر، وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرماة فجاوزوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، وقُتِل من المسلمين من قُتِل، أكرمهم الله بالشهادة وهم سبعون.(110/9)
إصابة النبي صلى الله عليه وسلم ودفاع الصحابة عنه
تولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته اليمنى وكانت السفلى، وهشموا البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي رضي الله عنه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتضنه طلحة بن عبيد الله.
وكان الذي تولى أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص.
وقُتِل مصعب بن عمير الذي معه لواء المسلمين، قتل ذلك الشاب وخر صريعاً شهيداً في سبيل الله، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه صلى الله عليه وسلم، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم وقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: مجه -أي: اتفل هذا الدم- فتحسف أن يتفل دم رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتلعه فقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
ياله من ابتلاء وقع للمسلمين، تكالبت أيدي المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون ما الله حائل بينهم وبينه، فحال الله عز وجل دونهم وما يريدون، حال دونهم الله عز وجل ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم حال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك رضي الله عنه وأرضاه، وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان وسقطت فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها بيده فردها مكانها وكانت أصح عينيه وأحسنهما.
وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثيرٍ من المسلمين وفر أكثرهم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشِعْب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصمة الأنصاري، وغيرهم.
فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف على جوادٍ له يقال له: العود، زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه عدو الله تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فخر عدو الله منهزماً، وكان يعلف فرسه بنفسه ويقول: أقتل عليه محمداً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: {بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى} فلما طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله؛ فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح فمات منه في طريقه وهو راجع إلى مكة.
وجاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماءٍ ليشرب منه، فوجده آجناً فرده وغسل عن وجهه الدم صلى الله عليه وسلم، وصب على رأسه فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك، فلم يستطع لما به من الجراح فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالساً صلى الله عليه وسلم.
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار.(110/10)
من محبة رسول الله الدفاع عنه وعن سننه
إنني أحس من نفسي أن بعض الإخوان تحمس وبوده أن يدافع في تلك اللحظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله قد مات ولكن سنته باقية، فالدفاع الدفاع عن سنة رسول الله إن كنت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت تحب الجهاد فجاهد نفسك يا عبد الله! على طاعة الله عز وجل، ما هذا الكسل؟ ما هذا الخمول يا أمة الإسلام؟ أين الصفوف المتراصة في رمضان في صلاة الفجر وغيرها؟ لماذا انهزمت هذه الصفوف؟ هل حضرت غزوة أحد وقتلوا في تلك المعركة؟ أم أغواهم الشيطان وصدهم عن سبيل الله؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أولئك الصحابة رضي الله عنهم الذين تفانوا تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لنصرة دين الله، فحيا بكم أيها المسلمون! انصروا دين الله عز وجل إن أردتم النصر من الله {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7].
هذه نبذة يسيرة عن أخبار أولئك الرجال الذين دافعوا عن دينهم وعن عقيدتهم، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى كتب أهل العلم، علماء الإسلام الذين خدموا العلم ودونوه جزاهم الله خير الجزاء.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(110/11)
حب الصحابة للجهاد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اعتبروا بأحوال أولئك الرجال، هذا أنس بن النضر لما انهزم الناس قال: [[اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم رضي الله عنه، فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واه لريح الجنة، واه لريح الجنة، واه لريح الجنة يا سعد! إني أجدها دون أُحد]] ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عُرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي: [[أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت: له ألم تقتل يوم بدر، قال: بلى.
ثم أحييت]] فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {هذه الشهادة يا أبا جابر!}.
وقال خيثمة رضي الله عنه وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: [[لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت ابني في الخروج أي: ضربت أنا وهو السهام فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً وقد والله يا رسول! أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة وقد كبر سني ورق عظمي]].
الله أكبر! لا إله إلا الله! هؤلاء الرجال يقول يا رسول الله: [[قد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله! أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة]] فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بـ أحد شهيداً.(110/12)
غسيل الملائكة
وهذا حنظلة بن أبي عامر، لما سمع الصيحة وهو على امرأته في ليلة عرسه قام من فوره إلى الجهاد وعليه جنابته رضي الله عنه، فلما انتهت المعركة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تغسله بين السماء والأرض بصحافٍ من ذهب بماء السلسبيل.
نعم.
أولئك الرجال الذين يستجيبون لداعي الله وأين هم منا؟ وفي مجتمعنا الذي يسمع بعض الناس (حي على الصلاة حي على الفلاح) ولا يجيب.
بعض الذين يتزوجون يجلس سبعة أيام لا يعرف بيوت الله، وبعضهم يسافر إلى الخارج ليتعرف على الكفار ويخالط الكفار؛ يشرب معهم الخمور ويأكل معهم لحوم الخنازير، وهذا شهر العسل الذي خالف فيه حنظلة بن أبي عامر الذي غسَّلته الملائكة بماء السلسبيل بين السماء والأرض.
أولئك الرجال الذين عرفوا المستقبل الحقيقي، إنه المستقبل الذي لا يبيد في جنات النعيم في جوار رب العالمين.
أما البعض من مجتمعنا يسمعون المنادي ينادي للصلاة وكأنهم لا يسمعون، فيالها من مصيبة وياله من كسر لا يجبر، نسوا أنهم سوف يهجم عليهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، سوف يخرجهم من القصور والفِلل العامرات وسوف يسكنون في حفر مدلهمة ليس فيها أنيس ولا جليس إلا الأعمال، فإن كانت صالحة فيالها من نعمة في روضة من رياض الجنة، وإن كانت الأعمال خبيثة فيالها من خسارة ويالها من حسرة، ما أعظمها إنه في حفرة من حفر النار.
فيا من أضاع العمر بالأعمال الخبيثة! بادر إلى المتاب قبل غلق الباب، وقبل طي الكتاب، وإسبال الحجاب إلى ما فيه.
يا عباد الله! الصلاة الصلاة! التي كان يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر أنفاسه في الحياة وهو يقول: {الصلاة الصلاة} التي أضاعها كثير من الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وارض الله على خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم رد المسلمين إلى دينهم الصحيح ليكونوا عباداً لك دائماً وأبداً، لا عباداً لرمضان، ولا عباداً للشهوة، يكونوا عباداً حتى يأتيهم اليقين أسوةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيقظنا من رقدة الغفلة، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، يا رب العالمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(110/13)
فراغ الشباب والحذر من الفيديو
إن الوقت الذي نعيشه في هذه الدنيا لا يقدر بالأثمان، من ربحه ربح عمره، ومن خسره خسر حياته، وخاصة أوقات الشباب، وستجدون في غضون هذه المادة الحث على اغتنام الأوقات، والتحذير من الفراغ وضياع الوقت فيما لا يعود بطائل نفع، والتحذير من الفيديو المهدم.(111/1)
التحذير من الفراغ والحث على اغتنام الأوقات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الوقت الذي تعيشونه في هذه الدنيا لا يقدر بالأثمان، فاحفظوه يا عباد الله! واغتنموا أوقاتكم بما يعود عليكم نفعه في الدنيا والآخرة، ولا تضيعوا أوقاتكم باللهو والغفلة؛ فتخسروا الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: في هذه الأيام يختتم أولادكم عامهم الدراسي الذي أشغلوه بالدراسة، وبعد الدراسة والجهد الكبير ماذا سوف يحصل من الفراغ يا عباد الله؟!(111/2)
حال الشباب مع الفراغ
إن هذا الفراغ الذي سيحصل للشباب بعد انقطاع العام الدراسي الذي كانوا فيه مجتهدين ومستغلين لأوقاتهم؛ لا بد أن تنعكس آثاره على نفوسهم وتفكيرهم وسلوكهم، فإما أن يستغلوه في خير وصلاح، فيكون ربحاً وغنيمة للفرد والمجتمع، ويعود نفعه على الجميع، وإما أن يستغلوه في شر وفساد، فيكون خسارة وغبناً للفرد والمجتمع، يخسر فيه نفسه ووقته، ويستغل قواه فيما يشقى به وتشقى به الأمة.
وإما أن يقضوا أوقاتهم ويضيعوها سدى، لا يعملون ولا يفيدون، أفكارهم متجمدة، وأذهانهم خاوية متبلدة، يصيرون عالة على أهلهم وعلى مجتمعهم، زيادة على ذلك إذا عدموا التوجيه السليم من الآباء والأمهات، بل بعض الآباء الذين طغت عليهم المادة هم السبب في انحراف أولادهم وفسادهم هدانا الله وإياهم، فتجد أولادهم في كل وادٍ يهيمون، ولكنهم لن يتركوا سدى، إنهم سوف يحاسبون على تفريطهم، وسوف يندمون حين لا ينفع الندم.
نعم يا عباد الله: هذا قسم من الناس فرطوا في أماناتهم وضيعوها، وعند الموت وسكراته سوف يقولون: ما أخبر الله عنهم في كتابه العزيز حيث قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:56 - 59].
نعم يا عباد الله! سوف يتمنى البعض من الناس الرجوع عند الموت؛ ليستدرك ما فات، ولكن هيهات أن يجاب إلى ذلك، اسمعوا إلى قول الحق جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] ويقول جل وعلا حاثاً على العمل الصالح قبل قرب الأجل وحلول الموت: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11].(111/3)
استغلال أوقات الفراغ
عباد الله: البعض من الشباب يتساءل في أي شيء أقضي أوقات الفراغ؟ نعم هكذا يتساءل البعض، ولكن الشباب المتطلع إلى المجد والعلا لا يتحير أبداً أن يستغل أوقات فراغه، يمكن أن يستغل أوقاته بعد أداء الفروض والواجبات بمذاكرة العلم ومدارسته، سواء في دروسه التي انتهى منها، أو فيما يستقبل، أو في كتب علم يتثقف بها ثقافة عامة، فيقرأ في كتب التفسير القيمة السالمة من الزيغ في تحريف معاني القرآن، ويقرأ في كتب الحديث الصحيح، وفي مقدمتها صحيح البخاري وصحيح مسلم، ويقرأ في كتب التاريخ المعتمدة، لا سيما تاريخ صدر الإسلام كسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؛ لأنها سيرة وسلوك، تزيد القارئ علماً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته، وتحببهم إليه.
وأحذرك يا أخي المسلم! أحذرك يا من تؤمن بالله واليوم الآخر من النظر أو القراءة فيما يخشى منه على العقيدة والأخلاق والسلوك، سواءً كانت كتباً مؤلفة أو صحفاً أو مجلات، فإن كثيراً من الناس ينظر في مثلها أو يقرؤها، يظن أنه يثق بنفسه، ثم لا يزال الشر يتجارى به فلا يستطيع الخلاص.
وكذلك من المهم -يا عباد الله- أن يشتغل المؤمن دائماً بذكر الله وبطاعته؛ لأن الله أمر بذلك فقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران:41] وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] لأن الإنسان مسئول عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.
فعمرك يا أخي المسلم هو أعز شيء لديك فلا تضيعه ولا تفرط فيه.
فيا أخي المسلم! احرص على نفسك وأهلك وأولادك، واحرص أن تقضي هذه العطلة الصيفية بتعليم أولادك القرآن، وتحضرهم معك إلى بيوت الله، وتراقب حضورهم وغيابهم، وتنصحهم وتسعى في إصلاحهم، ليكونوا عوناً لك في هذه الحياة، وخلفاً وذخراً لك بعد الممات، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، ووفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه إنك على كل شيء قدير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(111/4)
التحذير من الفيديو المهدم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
أمة الإسلام: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} حديث صحيح، أي: أن الكثير من الناس يظلمون أنفسهم ويهضمون حقوقهم ويهملون واجباتهم؛ بسبب لهوهم ولعبهم وتركهم الانتفاع الجدي بصحتهم وأوقات فراغهم.
والإسلام يا عباد الله! دينٌ يعرف قيمة الوقت، فهو يدعو إلى الانتفاع بكل لحظة من لحظات الحياة، ويحذر من الخوض في اللهو الباطل.
نعم أيها المسلمون: هذا هو الوقت في نظر الإسلام، جد واجتهاد، وعمل مبرور، وسعي مشكور، وصبر ومصابرة، وعبادة خالصة، واغتنام للوقت، وانتهاز للفرص، وإشفاق من قول الحق جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] هذا هو الوقت وقيمته الأعمال الصالحة التي سوف تجدونها يوم القيامة، أما الذين استرسلوا في شهواتهم وقتلوا أوقاتهم، من خمور يشربونها، وفواحش يرتكبونها من زنا ولواط، ومن قيل وقال؛ فسيجدون غبها يوم القيامة.
ويا للأسف الشديد على أوقات تقتل في لعب الورق، وسهر معها، ومع السلاح الفتاك الذي يستعمل لقتل الأخلاق، والقضاء على الفضيلة حتى تحل مكانها الرذيلة، مع السلاح الذي رومينا به في بلادنا، حتى تسلل إلى كثير من بيوت المسلمين، وصار في متناول النساء والأطفال وسفلة الرجال، ألا وهو جهاز الفيديو، ذلكم الجهاز الخبيث الذي تعرض على شاشته أفلام الدعارة والمجون، أفلام الزنا واللواط، أفلام الرقص والاختلاط، والأفلام التي تعلم السرقة والخيانة، وممارسة الجريمة.
إن هذا الفيديو الخبيث يقضي على الغيرة والحياء، ويجرئ على ارتكاب الفاحشة، فيا من عافاك الله منه! احمد الله واحذر أن يدخل بيتك، ويا من ابتليت به تب إلى الله وأخرجه من بيتك، ولا تفسد به أخلاق نسائك، وأولادك وجيرانك، فتكون مع الذين يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.
أمة الإسلام أخي المسلم! هل ترضى أن تكون ابنتك راقصة مغنية؟
هل ترضى أن تكون زوجتك راقصة مغنية؟
هل ترضى أن تغازل زوجتك الرجال الأجانب؟
هل ترضى أن يكون ولدك مغنياً يقضي وقته في معصية الله؟
إن كنت ترضى ذلك فالله يعينك على ما أمامك من السؤال والحساب الشديد، وإن كنت لا ترضى بذلك، فتب إلى المولى القدير، تب إلى عالم السر والنجوى، أخرج هذه الفتن من بيتك قبل أن يأتيك الأجل وهي في بيتك، ميراث لأولادك، يشبون عليها ويهرمون، ثم بعد ذلك تكون عليك حساباً ووبالاً يوم القيامة.
اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن أبداً ما أبقيتنا يا رب العالمين!
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين!
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
لا إله إلا أنت سبحانك، لا رب لنا سواك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، نسألك بأن لك الْحَمْدُ، لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! أن تعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك يا رب العالمين!
اللهم دمر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وارفع عنهم يدك وعافيتك، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، نأمر بالمعروف ونأتيه، وننهى عن المنكر ونجتنبه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم نفس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم واشفِِ مرضانا ومرضى جميع المسلمين، اللهم واغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم فاغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، وأغلسهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا، والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عنا وعن جميع المسلمين عامة يا رب العالمين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(111/5)
فضل القرآن الكريم
إن الله جل وعلا أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل له أعظم معجزة، وهي القرآن الكريم؛ وإن للقرآن فضائل شهد بها أعداء الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس فضائل القرآن الكريم وما يجب علينا نحوه.(112/1)
أكبر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، أحمدك اللهم وأشكرك على نعمة القرآن العظيم، وأشهد أن لا إله إلا أنت بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، جلَّ رباً وتعالى ملكاً {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأنزل على عبده ورسوله محمد: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وأشهد أن محمداً عبده رسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، فلقد أنعم الله عليكم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أنزل الله عليه القرآن الذي هو أكبر معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أتم الله نعمته الكبرى التي قشعت ظلام الجهل والشرك، نعمة الإسلام التي أخرج الله بها العباد من ظلمات الجهل والضلال، من عبادة العباد إلى نور الإيمان، إلى نور العلم والهدى، إلى الهداية السعيدة، إلى عبادة الواحد الديان.
يا عباد الله! إنه الكنز العظيم وإنه القرآن العظيم {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1].(112/2)
حكمة إنزال القرآن
القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى للمؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
القرآن أنزله الله للعمل به، ولتدبر آياته، وللاتعاظ والتذكير {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
القرآن أنزله الله ليعرف الخلق بخالقهم جلَّ وعلا، ويُعرِّفهم أنهم مبعوثون، ولم يخلقوا عبثاً {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
القرآن نزلت فيه البشارة للمؤمنين, والنذارة للكافرين: {قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} [الكهف:2 - 3].
القرآن أنزله الله ليكون المُحكِّم الأول في جميع شئون حياة المسلمين: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
نزل القرآن عصمةً ونجاة لمن تمسك به، أنزله الله حجةً على العالمين، وعلامةً على صدق رسالة عبده ورسوله محمد.
نعم! أنزل القرآن بتلكم الأمور.(112/3)
بلاغة القرآن وشهود الأعداء له
نزل القرآن بأروع أسلوب وأروع بيان.
ولا عجب -أيها المسلمون- أن ينزل القرآن بأروع لفظ, وأجمل معنى, وأفصح بيان، وهو كلام الله جلَّ جلاله, الذي تكلم به، وأنزله تسبيحاً خالداً لا يغير ولا يتغير على مدى الزمان: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
لا عجب! فهو حجة الله على عباده، وآية رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة محمد التي تحدَّى الله بها عملاء الضلالة على أن يأتوا بمثله، فعجزوا، ثم بعشر سور مثله، فنكسوا على أعقابهم، ثم بآية، فانقطعوا، وصدق الله العظيم الذي أخبر: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
يروي أحد المفسرين أن الوليد بن المغيرة أحد المشركين استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الجبار: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3] فلما فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً لا هو من كلام الإنس ولا هو من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته".
هكذا يشهد هذا الطاغية الوليد بن المغيرة لكلام رب العالمين، لا عجب أن يشهد هذا الطاغية في هذه الحقيقة، فمستوى القرآن البلاغي فوق ذلكم، بل فوق كل معارضة ومعاندة، وهاهو يُتلى من مئات السنين، فلا يشبع منه عالم، ولا يمل منه تالٍ، أو سامع متدبر، لا مع كثرة الرد، بل يزداد كنوزاً ومعانٍ جديدة، وحكماً وأسراراً تتجلى بكثرة تكراره, أودعها فيه من جعله تشريعاً وديناً ونظاماً للبشرية جمعاء، أودعها فيه إلى أن تقوم الساعة.
أيها المسلمون! إن بين أظهركم لكنزاً عظيماً لا ينفد، ومنهلاً عذباًَ صافياً لا ينضب، ولا يسن أبداً، لا يقع فيكم قول الرسول عن ربه عز وجل: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
لقد علا الغبار كتاب الله، لقد تُرِكَ كلام الله، لقد نُهِبَ كتاب الله وعُزِلَ عنه الأكثرون، بين أظهرنا هذا القرآن الكريم الذي جعله الله مخرجاً من كل فتنة, ونجاة من كل بلية، جعله لكم هدىً ونوراً ورحمةً وشفاءً وبركةً، وجعله خيراً محضاً، إنه القرآن العظيم، ولكن لما تدهورت الأفكار، ونقصت العقول بما طمّ عليها وعمّ من بلايا الدنيا وفتنها نُسِيَ القرآن.(112/4)
التمسك بالقرآن والعمل به
أمة الإسلام! أمة القرآن! إن القرآن ما نزل على محمد وصحابته خاصة، بل نزل إلى كل من يدَّعي الإسلام، إلى كل من يقول: (لا إله إلا الله) إلى كل من يقول: آمنت بالله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر، إنه القرآن الذي أعرض عنه أكثر المسلمين، فأصابهم تشتتاً في أفكارهم, وميولاً عن الحق، وضياعاً عن طريق الحق والصواب، وهذه سنة الله على كل من أعرض عن كلام الله، فتلاوة القرآن واستماعة طاعة لله عز وجل، والعمل بالقرآن، والدعوة إلى القرآن طاعة لله عز وجل.
أمة الإسلام! إن المسلمين اليوم في زمن فتن عظيمة, تموج أعاصيرها كموج البحار، فتن شهوات وشبهات، فتن قيل وقال، فتن أعداء تكالبوا على الإسلام من شيوعية , ويهودية , ونصرانية قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أمة الإسلام! إنه لا سلامة لكم ولا نجاة إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التمسك بالقرآن الكريم قولاً وعملاً واعتقاداً، عملاً بمحكمه، وإيماناً بمتشابهه، وتصديقاً لأخباره، فهو حبل الله القائم بينكم وبينه، إن تمسكتم بالقرآن وصلتم إلى الله، وإذا انقطعتم عن القرآن انقطعتم عن الله، فاتقوا الله وتمسكوا بكتاب الله تمسكاً صادقاً تُرى آثاره في أعمالكم وأقوالكم, وفي آذانكم ومعاملاتكم، في إقبالكم عليه تلاوةً ودعوةً وتعليماً وتعلماً وتحاكماً وتحكيماً في كل شأن من شئونكم -يا أمة الإسلام- سواء كان اجتماعياً، أم اقتصادياً، أم ثقافياً، أم عسكرياً، فلا يصح أن يحكم بعض القرآن ويُعطَّل بعضه, كما لا يصح الإيمان ببعضه ويكفر ببعضه، فخذوا به جملةً وتفصيلاً، فما هو إلا التمسك بالقرآن والنجاة، أو الإعراض والهلاك، يقول صلى الله عليه وسلم: {إني تاركٌ فيكم ما لم تضلوا إذا اعتصمتم به: كتاب الله, وسنتي} ويقول جلَّ وعلا: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126].
اللهم ارزقنا التمسك بكتابك, لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا إله إلا أنت مغيث اللهفات, ومجيب الدعوات, ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، لا إله إلا أنت ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا للقرآن، اللهم ارزقنا العمل بالقرآن، اللهم ارزقنا اتباع القرآن، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وقائدنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم اقشع غيوم الغفلات والسهوات عن قلوبنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروا إليه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(112/5)
فضل قراءة القرآن وتعليمه
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء, وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا ونبينا وقدوتنا محمداً الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها المسلمون! اعلموا أن القرآن الكريم خير كتاب أنزل على أشرف رسول, إلى خير أمة أُخرجت للناس، بأفضل الشرائع وأسماها وأكملها، أنزل القرآن لكي يقرأه المسلم ويتدبر معانيه, ويتفكر في أوامره ونواهيه، ثم يعمل به، فيكون حجةً له عند ربه.
القرآن حجةً لك أو عليك, يقرأه المسلم, ويعمل بمحكمه, يؤمن بمتشابهه, ليكون شفيعاً له يوم القيامة، وقد تكفّل الله بمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: {يُؤتى يوم القيامة بالقرآن، وأهل القرآن الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما} ويقول صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب! حله -أي: ألبسه حلة صاحب القرآن الذي عمل بالقرآن- فيلبس تاج الكرامة، يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِ! ارض عنه، فيقال: اقرأ وارق -يعني: في درج الجنة- فيزداد بكل آية حسنة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من قرأ القرآن فاستغفره -أي: حفظه عن ظهر قلب- فأحل حلاله وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفِّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار} وقال صلى الله عليه وسلم: {من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها} وقال صلى الله عليه وسلم: {من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة} وقال صلى الله عليه وسلم: {وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده} {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
أيها المسلمون! هل بعد هذا الفضل العظيم فضلٌ أعظم من هذا؟
لنتساءل جميعاً هل بعد هذا الفضل العظيم فضلٌ أعظم من هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا والله، ثم لا والله، لكنَّ المسلمين -أسأل الله أن يردنا جميعاً إلى الحق- لما أعرضوا عن كتاب الله واستبدلوه بالمجلات والجرائد واستماع الملاهي! هان عليهم هذا الفضل العظيم، وسيكونون في خسارة وسفال، إن لم يرجعوا إلى ربهم وإلى دينهم القويم المستمد من هذا الينبوع العظيم، وهو القرآن الكريم.(112/6)
التمسك بالقرآن نجاة من الفتن
أيها المسلمون! لقد أخبرنا البشير، فقال: {إنها ستكون فتن! فَسُئِلَ صلى الله عليه وسلم: ما المخرج منها؟} هل هي الجريدة التي نجلس على قراءتها الساعة وتمام الساعة، وأكثر من الساعة؟
هل هو في الفيديو الذي يَعِرَض الخلاعة والشناعة والعار؟
أم في التلفاز الذي يُعَرض فيه البلاوي والسفور؟
أم في استماع الأغاني؟
لا.
لا يا أمة الإسلام! كل هذه حدثت بعد الرسول، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
{ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله! فيه نبأ ما قبلكم, وخبر ما بعدكم, وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أذله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه} , من الذي أخبرنا عن قوم هود, وقوم نوح، وقوم ثمود، وقوم عاد، وما أصابهم من العذاب إلا القرآن العظيم؟
{لا تنقضي عجائبه, ولا يشبع منه العلماء} , أين العلماء؟ لا إله إلا الله.
اللهم بَغِّض حب الدنيا في قلوب العلماء, حتى يرجعوا إلى كلام رب العالمين، وليبينوا ما فيه من الآيات والذكر الحكيم لعباد الله المؤمنين، اللهم أيقظ العلماء من سهاد الرقاد يا رب العالمين.
{لا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم}.
إذا علمت هذا أيها المسلم، فاعلم أن القرآن قد بين فيه كل ما يحتاج إليه العباد, من أصول الدين وفروعه, وأحكام الدارين، وفيه بيان الحلال والحرام, والثواب والعقاب, وهدىً من الضلالة, ورحمةً لمن صدق به وعمل بما فيه, وحكمه في الدقيق والجليل, والويل ثم الويل لمن رجع عن كتاب الله إلى تحكيم القوانين الوضعية, وترك القرآن وأعرض عنه, وأخذ في المجلات والجرائد الكاذبة، فكل حكم سوى حكم الله فهو باطل مردود، وكل حاكمٌ بغير حكم الله ورسوله فهو طاغوت كافر بالله.
فيا أمة الإسلام! يا أمة القرآن! ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! ويا خير أمة أخرجت للناس! انفضوا الغبار عن القرآن، وارجعوا إلى كلام الله.
عباد الله! إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ شذ في النار.
وصلوا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين, وأرشدنا برحمتك حتى نتبعهم.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اكفنا شر أعداء الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين، اللهم أذلهم بعز الإسلام والمسلمين، اللهم اخذلهم بعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين عليهم يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(112/7)
قبل أن تحاسبوا
الإسلام ليس بمجرد الاسم والدعايات الكاذبة، بل هو بالاستسلام والخضوع والانقياد لله رب العالمين، وأقوى عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن محادة الله ورسوله التكبر على أوامره وترك التحاكم إلى شريعته، والتغافل عن الواجبات وفعل المنكرات.
ولا تشيع المنكرات إلا إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(113/1)
أسس وقواعد الدين الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، الذي يسر لعباده حج بيته الحرام، وعادوا بسلامةٍ وأمنٍ وأمان، فلله الحمد والمنة، وله الشكر على كل حال، فهنيئاً لمن تقبَّل منه مولاه هذا الحج، فقد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهنيئاً لمن تقبل الله منه الحج، ولم يرفث، ولم يفسق، وكان حجه مبروراً، فإن مآله إلى الجنة، كما قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل.
عباد الله: هنيئاً لمن أسلم وعرف الإسلام حقيقة، فإنه يمشي على نورٍ وهدىً من الله عز وجل، وبالعكس فإن الذي لم يعرف حقيقة الإسلام، ولم يقبل هدى الله، فإنه كالمكب الذي يمشي على وجهه، نسأل الله العفو والعافية، اللهم إنا نسألك التوفيق والسداد والثبات على الإسلام.
عباد الله! لقد ضرب الله لذلك مثلاً، فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
عباد الله! إن الإسلام قد بُني على أسس ثابتة، وقواعدٍ متينة، بإقامتها تحصل الاستقامة، وبوجودها يكون القرب من الله عز وجل، قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {إن الله -تبارك وتعالى- قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله، تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه} رواه البخاري.
يقول ربنا جل وعلا: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22].(113/2)
الإسلام ليس بمجرد الاسم
الإسلام -يا عباد الله- ليس بمجرد الاسم، وليس بالدعايات الكاذبة، بل الإسلام هو: الاستسلام لله، والانقياد له سبحانه بالقول والاعتقاد والعمل، فلا يستقيم إيمانُ عبد بدون عمل، ولا ينفع عمل بدون إيمانٍ وعقيدةٍ صحيحة، كما أن العمل لا يقبل إلا إذا كان صالحاً خالصاً لله، جارياً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن المبعوث رحمةً للعالمين الأسس التي بُني عليها هذا الدين القويم، فقال صلى الله عليه وسلم: {بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام} رواه البخاري ومسلم.(113/3)
أسس الإسلام متضمنة للحب والبغض في الله
ثم يا عباد الله! ثم يا أمة الإسلام! اعلموا أن هذه الأسس التي أُسس عليها الإسلام هي أسس متلازمة، ووحدةٌ متماسكة، فحقيقة الدين الإسلامي أنه إيمانٌ بالله وبرسوله، وتوحيد الله، وإخلاصٌ لله، وزكاةٌ، وصلاةٌ، وصومٌ، وحجٌ، وفعلٌ للواجبات، وتركٌ للمحرمات، وامتثالٌ للأوامر، واجتنابٌ للنواهي، ومحبةٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبةٌ لعباد الله المؤمنين، وبغضٌ لما يبغضه الله ورسوله من الكفر والفسوق والمعاصي، فالحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وقد أخبر الله جلَّ وعلا أنه لا يجتمع إيمانٌ بالله ومحبة من عصى الله ورسوله ولو كان من أقرب الناس كالأب والابن والأخ والعشيرة، قال الله جلَّ وعلا: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22].(113/4)
بعض صور المحادة لله ولرسوله
إن من أعظم المحادة لله ولرسوله ترك الحكم بالكتاب والسنة، واستبدال الحكم بهما بالقوانين الوضعية -نسأل الله العفو والعافية.
ومن المحادة لله ولرسوله: ترك الواجبات، وفعل المحرمات؛ كالربا، والزنا، واللواط، وشرب الخمور، وعقوق الوالدين، وظلم العباد، وإسبال الثياب، وأكل مال اليتيم، وإتيان الكهان والسحرة والمشعوذين لا كثَّرهم الله.
أيها الناس! أيها المسلمون! اعلموا حق اليقين أن أعظم هدم للعقيدة هو وجود الكهان والسحرة والمشعوذين الآن لا كثَّرهم الله، ونسأل الله أن يبعدهم عن ديار المسلمين.
إن أعظم هدمٍ للعقيدة هم الكهان والسحرة والمشعوذين، وما يصدرونه من الكذب والدجل والخرافات والخزعبلات.
ومن المحادة لله ولرسوله: التكبر على الخلق، واستماع الأغاني والموسيقى، وتصوير ذوات الأرواح.
يا من تصور ذوات الأرواح! اعلم أنك عاصٍ لله ولرسوله، وأن أشد عذاباً يوم القيامة المصورون، واعلم يا أيها المسلم! أن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة.
ومن المحادة والمعاندة والعصيان لله ولرسوله: حلق اللحية التي تهاون بها أكثر الناس نسأل الله العفو والعافية.
ومن ذلك: إعفاء الشوارب التي يسمونها الشنبات، وقد أخبرتكم في خطبةٍ غير هذه أن في حديثٍ ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من لم يأخذ من شاربه، فليس منا}.
نعم! ومن أعظم المحادة والمعاندة والعصيان: التبرج والسفور من النساء الذي يوجد في أسواق المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كل هذا يا عبد الله! من اتباع الهوى، ومن طاعة النفس والشيطان، والنفس الأمارةٌ بالسوء إلى المعاصي.(113/5)
أسباب انتشار المعاصي والآثام
المعاصي والآثام التي عمت وطمَّت في بلاد الإسلام والمسلمين، وتلبَّس بها أكثر الناس، أتدري لماذا حصل ذلك يا عبد الله؟!(113/6)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لما تهاون المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزال عنهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً} هل يوجد فينا هذا الحديث -الآن- يا عباد الله؟
أنا أجاوبك من على هذا المنبر: لا، لا يوجد فينا.
{مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} لا يوجد فينا هذا -يا عباد الله- لو كان هذا يوجد بين المسلمين؛ لأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وأخذنا على يد السفيه، وأطرناه على الحق أطراً، ولكن هذا لا يوجد.
انظر ماذا أثر التلفاز من وقت وجوده حتى الآن والمسلمون ينقصون أفواجاً أفواجاً عن صلاة الصبح، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! فالتلفاز بينه وبين صلاة الفجر صراعٌ عظيم.
فمن سهر مع التلفاز، ومع الأفلام والتمثيليات، فحريٌ به ألا يعرف صلاة الفجر إلا في رمضان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لماذا يا عبد الله لا يكون عندك هذا الإحساس؟
جارك لا يعرف الصلاة في المسجد وأنت ساكتٌ عنه، ولا ترشده، ولا توقظه لصلاة الفجر، أما علمت أنه يوم القيامة سوف يمسك بتلابيبك بين يدي رب العالمين، ويقول: يا رب! إن فلاناً ظلمني، بماذا؟ ثم تقول: والله ما أخذت ماله، ولا هتكت عرضه، ولا، ولا، ثم يقول: صدق، ولكنه رآني على المنكرات، ولم يأمرنِ ولم ينهنِ، أولادك سوف يوقفونك بين يدي الله عز وجل لتركك إياهم لا يعرفون المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قد ملئت بطونهم بالمأكولات والمشروبات، وكسيت ظهورهم، وبنيت لهم الفلة، ووسعت لهم المساكن، ولكن قطعتهم من الغذاء الروحي -غذاء الإيمان- وهو تعليم الكتاب والسنة، فلو تعلموا الكتاب والسنة، ما اتخذوا الكرة لهم إلهاً من دون الله، ولما رأيتهم في الشوارع يهيمون ويسرحون ويعبثون، وأنتم عنهم لاهون.
يا أمة الإسلام! والله إنها عليكم مسئوليةٌ عظيمة، سوف يتمنى الإنسان يوم القيامة أنه ليس له أولاد، أمانةٌ في عنقك يوم القيامة سوف تسأل عنها بين يدي الله رب العالمين، تخرج إلى المسجد وأولادك في مضاجعهم نائمون، تخرج إلى المسجد وأولادك في الشوارع يهيمون ويسرحون وراء الكرة، وبالليل وراء التمثيليات والأفلام، سوف تسأل عنهم أمام رب العالمين، فأعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
نعم يا عبد الله! هذه حال الكثير من الناس.(113/7)
عدم معرفة الله حقيقة
والبعض منهم لا يعرف الله إلا في رمضان، تجدهم في رمضان يملئون المساجد ويقرءون القرآن، ويتصدقون، فإذا انتهى رمضان، ودعوا المساجد، وهجروا القرآن، هل عرفوا الإسلام حقيقة؟
أم هل عرفوا الله الذي خلقهم وأوجدهم من العدم إلى الوجود؟
أم هل عرفوا الله الذي يطعمهم ويسقيهم، وإذا مرضوا فهو يشفيهم؟
إنهم لو عرفوا الله حقيقة، لما اقتصرت طاعتهم لله في رمضان -فقط- ويعصونه ويجفونه في باقي السنة، والله يقول -وقوله الحق-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] هل أخبرت ابنك الصغير أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين؟
بعض الأطفال صار بينه وبين والده صراع، يقول: إن الذي يأتي في التلفاز -وهو من أفلام الكرتون- أنه أقوى من الله عز وجل!
انظروا إلى هذا الهدم من أعداء الإسلام والمسلمين كيف يهدمون العقيدة!
أبى الطفل الصغير أن يعترف بأن القوة لله، يقول: القوة للذي يأتي في التلفاز في أفلام الكرتون- نسأل الله العفو والعافية- وهذه هي التي يريدها أعداء الإسلام؛ لأن الطفل الصغير كالحجر إذا نقش فيه النقش، فإنه لا يتغير، فإن أفلام الكرتون تؤثر في الطفل الصغير، وتنقش في قلبه تلك الخرافات التي يبثونها لهذا الطفل الصغير، فأسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين.
نعم يا عبد الله! البعض من الناس يحج ويعتمر، وإذا رجع لم يزدد بحجه وعمرته قرباً من الله تعالى، بل يعتبر ذلك حملاً وضعه عن ظهره، ولم يفكر بما عند الله من الأجر والثواب العظيم.(113/8)
اعتبار العبادات عادات وتقاليد
الخلاصة يا عباد الله! أن البعض يعتبر الصلاة والصيام والزكاة والحج عادات وتقاليد ورثها عن الآباء والأجداد، ولم يعلم أنها أركانٌ تعبد الله بها الخلق، وأوجدهم لأجلها، فمن قام بها وأدَّاها امتثالاً لأمر الله عز وجل، فهو من الذين قالوا: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان:10 - 13].
تصورهم -يا عبد الله- وهم في ذلك المكان الآمن {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:13 - 21] وفي النهاية يقال لهم: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:22] هذا لمن أطاع الله ورسوله وقام بهذا الدين، أما الذين بعكس أولئك عصوا الله ورسوله، ولم يقوموا بهذا الدين، فاسمعوا ماذا يقول الله عنهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:12 - 14] فذوقوا، لا تحسبون أن الله غافلٌ عنكم، يا من أذهبتم حياتكم سُدى، وأوقاتكم قتلتموها في غير طاعة الله {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14].
أيها الإنسان! أنت في ميدان العمل، في الحياة الدنيا وعندك الإمكان.
أيها الإنسان! أنت في وقت الإمكان، فاختر لنفسك إحدى الدارين إما العمل الصالح وبعده الجنة، وإما العمل الخبيث وبعده النار.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأن يجعلنا من أهل الجنة، وألا يجعلنا من أهل النار اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(113/9)
جزاء من أطاع الله وجزاء من عصاه
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بلَّغ رسالة ربه، ونصح الأمة، وأدَّى الأمانة التي اؤتمن عليها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! أطيعوا الله ورسوله، فإن في طاعة الله وطاعة رسوله سعادة الدنيا والآخرة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] اسمع يا عبد الله! اسمع وعد الله الذي لا يخالف، ولا يمانع {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] واحذر -يا عبد الله- من معصية الله ومعصية رسوله، فإن فيهما العطب والهلاك، وعاقبة ذلك دخول النار التي وقودها الناس والحجارة -والعياذ بالله- {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23].
إن المجرم الذي يتعدى الحدود، ويقترف الموبقات، ويعص الله ورسوله في ضلال وسعر، اسمعوا قول الحق جلَّ وعلا: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47] تصور يا عبد الله! {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] أما المتقين الذي أطاعوا الله ورسوله، وعملوا الصالحات، وامتثلوا الأوامر، واجتنبوا المنهيات، اسمعوا قول الحق: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أين الاشتياق؟! أين الاشتياق إلى تلك المقاعد يا عبد الله؟! أين الاشتياق إلى القرب من الله عز وجل؟!
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] ولهم في الجنة، في دار النعيم من الكرامات ما لم تسمع به الآذان، ولم تر الأبصار، ولم يخطر على قلوب البشر، فهنيئاً لهم في دار الكرامة والنعيم المقيم التي قال الله فيها: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15] هؤلاء المتقون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأطاعوا الله والرسول.
اسمع يا عبد الله! هذا كتاب الله ينطق عليكم بالحق، فإن شئت فخذ، وإن شئت فدع، والموعد غداً {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] أما المجرمون فيقول الله عنهم: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
اللهم اجعلنا من المتقين المؤمنين، ولا تجعلنا من المجرمين، اللهم لا تجعلنا من المجرمين.
عباد الله! فضل الله واسع، والخير كثير، وما عليك -يا عبد الله- إلا أن تقبل على الله عز وجل، اسمع إلى هذا الفضل اليسير، طرفاً يسير يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى لله في اليوم والليلة اثنا عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة، بنى الله له بيتاً في الجنة} أي بيت يا عبد الله في الجنة! هل هي فلة تخرب؟
هل هي زوجةٌ تموت من زوجات الدنيا؟
هل هي الحياة الدنيا التي فيها التنغيصات والتنكيدات؟
لا.
في جنات النعيم التي لا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبانها، ولا تبلى ثيابهم، نعيمهم دائمٌ في حياةٍ أبدية بجوار أرحم الراحمين، فمن أراد ذلك؛ فلينافس بالأعمال الصالحة.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشر والزيغ والفساد والعناد.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم ارزق ولاتنا الجلساء الصالحين الناصحين.
اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين والعلماء العاملين، الذين يبينون لهم طرق الخير، ويحذرونهم من طرق الشر.
اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين الذين يعينونهم إذا ذكروا، ويذكرونهم إذا نسوا يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أبعد عنهم البطانة الفاسدة، اللهم أبعد عنهم البطانة الفاسدة.
اللهم أنزل في قلوب ولاة أمورنا بغض البطانة الفاسدة يا رب العالمين إنك على كل شيءٍ قدير وبالإجابة جدير.
اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين، اللهم اجمعنا في جنات النعيم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقاءك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(113/10)
قصة لوط
قصص الأمم السابقة هي مرآة لسنة الله في هذا الكون، وفيها آية للمؤمنين، وهذا النوع منها -أي قصص الأمم المجرمة وما حل بها من عذاب الله- جدير بالتدبر والتفكر في أعمالهم الخبيثة وعقوباتهم الشديدة، وما هي من الظالمين ببعيد.
وهنا في قصة لوط ظهور لجريمة بشعة، ثم ظهور لنبي ينذر ويحذر، ثم كيف كان تكذيبه وكيف كانت العاقبة، وتكتمل الصورة بذكر النظرة الخالدة لشريعتنا إلى مثل هذه الأعمال المشينة.(114/1)
رسل الله في بيت لوط عليه السلام
الحمد لله الحي القيوم، الباقي وغيره لا يدوم، رفع السماء وزينها بالنجوم، وأمسك الأرض بجبال بالتخوم، صور بقدرته هذه الجسوم، ثم أماتها ومحى الرسوم، ثم ينفخ في الصور فإذا الميت يقوم، ففريق إلى دار النعيم وفريق إلى نار السموم، اللهم اجعلنا من أهل دار النعيم ولا تجعلنا من أهل نار السموم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(114/2)
شناعة جريمة قوم لوط
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله! في هذه الخطبة نتحدث عن قوم أرسل الله إليهم رسولاً يدعوهم إلى الله عز وجل ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها ولم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم: ألا وهو إتيان الذكور دون الإناث، وهذا شيء لم يكن بنو آدم يعهدونه ولا يألفونه ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله، فأرسل الله إليهم لوطاً عليه السلام قال الله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:80 - 81] نعم يا عباد الله! كانوا يرتكبون ذنب اللواط، الذنب الذي يغضب رب العباد، إنها لفاحشة يضيق بها الفضاء، وتأُج لها السماء، ويحل بها البلاء، فكشف حال وسوء مآل، وداء عضال، وقبح فعال، عيب دونه سائر العيوب، جريمة اللواط، عيب تموت به الفضيلة، وتحيا به الرذيلة، اللواط عمل مسبوب ووضع مقلوب، اللواط فاعله ملعون، اللواط خلقٌ فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وعاقبته زهري وجرب ذو ألوان.
إنها الجريمة الشنعاء، إنها الجريمة البشعة، إنها الجريمة القبيحة، إنها اللواط، إنها ركوب الذكور بعضهم على بعض، اللهم إن في هذه الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، إنه فعل أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها، وهي مشهورة ببلاد " الغور " بناحية حيال البيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك إنها أمة ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة والجريمة الفظيعة علناً في نواديهم، ويذرون ما خلق الله لهم من أزواج ولا يبالون بمن يعتب ويشنع عليهم.
بالغ لوط عليه السلام في دعوتهم إلى توحيد الله عز وجل، وحذرهم من فعل الفاحشة وهي إتيان الرجال دون النساء، وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكان الجواب من أولئك العصاة الكفرة الفجرة على تلك النصائح أن قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] يقولون هذا ومقصدهم السخرية والتهكم بلوط عليه السلام، فلما أنذرهم بأس الله ونقمته ولم يلتفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه وتمادوا به؛ أرسل الله عز وجل إلى لوط عليه السلام ملائكة بصفة حسنة: جبريل، وميكائيل، واسرافيل في صور شباب مرد حسان وذلك محنة من الله واختبار لقوم لوط، فأضافهم لوط عليه السلام وهو خائف عليهم من قومه الذين يرتكبون جريمة اللواط.
وزوجته زوجة السوء العجوز الكافرة الخبيثة -زوجة لوط- أرسلت إلى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان يريدون أولئك الشباب المرد الحسان، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب وذلك عشية ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِين} [الحجر:71] {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] أي: ما يريدون الحلال، ما يريدون زوجاتهم أي: ليس لنا فيهن إرب {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيد} [هود:79].
ولما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول خرج عليهم جبريل عليه السلام وضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم يقال: إنها غارت، ويقال: إنه لم تبق لهم عيون بالكلية، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان عمياناً، ويتوعدون لوطاً عليه السلام إلى الصباح، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37] وقد جاءت الملائكة للوط عليه السلام تبشره بفرج الله القريب وتأمره بالخروج من بين أظهر أولئك الكفرة الفجرة؛ لأن العذاب قد حان نزوله بهم، قال الله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:65 - 66] هذا المرسوم الملكي نزل من رب العالمين، اخرج يا لوط.
فخرج لوط عليه السلام ومن معه آخر الليل فنجى مما أصاب قومه، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى امرأته أصابها ما أصابهم، وخرج لوط عليه السلام وبنات له من بين أظهرهم سالماً لم يمسسه سوء.(114/3)
عاقبة فعلهم والحكمة من إيراد أخبارهم
قال الله تعالى عن قوم لوط: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيل * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:74 - 77] يخبر الله جلَّ وعلا بالقدرة التامة أنهم أخذتهم الصيحة بأمره جلَّ وعلا، وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليها.
أمر الله جبريل ذي القوة المتين فاقتلع ديارهم من أصولها ورفعها إلى السماء الدنيا -حتى سمع الملائكة نباح الكلاب وصياح الديكة- فقلبها عليهم، ثم أتبعهم الله بحجارة من سجيل منضود فتلكم يا عباد الله! تلكم قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة في طريق مهلع، مسالكه مستمرة إلى اليوم وهو المعروف بـ البحر الميت الذي لا يعيش فيه شيء.
انظروا إلى قدرة الخالق يا عباد الله! بعد أن كانت أمم تعيث في الأرض فسادا أهلكهم الله وصارت مساكنهم بحيرة ميتة لا يعيش فيها شيء.
أيها المسلمون: أتدرون لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العظيم، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم؟
إنه والله ثم والله ما ذكر أخبارهم إلا لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كل الحذر مما كانوا عليه من سوء الحال وقبح الفعال، قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: العقوبة ما هي ببعيدة عمن يعمل عمل قوم لوط، سبحان الله! كيف يقع ذكر على ذكر وهو يعلم أن الله جلَّ وعلا يراه وقد نهاه، بل وهو يعلم ما في ذلك من مخالفة العقل والدين وما فيه من خطر وغضب وشر مستطير وخزي وعار؟! هذا في الحقيقة فعل تترفع عنه طباع الكلاب والبغال والحمير بل والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إلا ذلت وأخزيت وسلب عزها، وإذا أراد الله جلَّ وعلا إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار.
فانتبهوا أيها المسلمون! وتناصحوا، واحفظوا أولادكم، واعلموا أنكم مسئولون عنهم وعن إهمالكم لهم، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق وأحبها إليك، وأن تصرف عنا سيء الأعمال والأخلاق وأبغضها إليك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين يا رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(114/4)
نظرة الشريعة الإسلامية إلى هذه الجريمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، عباد الله! احذروا وحذروا من اللواط، وعجباً يا عباد الله! أن نرى تلك العادة الشائنة القبيحة تنتقل من أولئك الأشرار الذين خسف الله بهم إلى غيرهم من النوع الإنساني مع أنها لم تكد توجد في الحيوانات الأخرى، فإنكم لا تكادون تجدون حيوانا من الذكور يأتي ذكراً مثله اللهم إلا قليلاً نادراً.
إن جريمة اللواط فيها عار وخزي ودمار.
عباد الله: إن ما نسمعه من الذين قد أذهب الله عقولهم بما يستعملونه من المسكرات والمخدرات، أو انتزع الله منهم الحياء من فعلهم القبيح، فكيف يليق برجل يبلغ من العمر أربعين سنة أن يرتكب جريمة اللواط بطفل لا يبلغ الرابعة من عمره ثم بطفل لم يبلغ الخامسة من عمره ثم بطفل لم يبلغ السادسة من عمره؟ اللهم إنا نسألك العفو والعافية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب} [آل عمران:8].
ثم البعض من الذين انتزع الله منهم الحياء إذا عملوا جريمة اللواط؛ أتبعوها بجريمة القتل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اهدنا لسوء السبيل، اللهم اهدنا صراطك المستقيم، اللهم جنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
أمة الإسلام: أرشدنا الشارع الحكيم إلى قتل من ارتكب هذه الجريمة ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
عباد الله: كذلك يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط} وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله من عَمِلَ عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَل قوم لوط، لعن الله من عَمِلَ عَمَل قوم لوط، ثلاث مرات} وقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها} ويروي أنس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تعالى إليهم حتى يحشره معهم}.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار وصلوا على رسول امتثالا لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {من صلى علي صلاة الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن ترضى عن أصحاب رسولك أجمعين وفي مقدمتهم الخلفاء الراشين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، ودمر المفسدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة المسلمين أجمعين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ياذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وتر حمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اسقنا، اللهم أنت أرحم بنا من أمهاتنا، اللهم أنت أرحم بنا من أنفسنا يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين! يا أجود الأجودين! يا من خزائنه ملأى! لا تضره النفقات، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق يا أرحم الراحمين.
اللهم احيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم مفرج الكربات، مغيث اللهفات مجيب الدعوات، سامع الأصوات، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين! يا من قال وقوله الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60].
اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والسفور والتبرج والأفلام الخبيثة والأغاني الماجنة والأخلاق السافلة، اللهم ارفعها عنا بمنك وكرمك، واهدنا لطاعتك وجنبنا معاصيك، اللهم افتح على قلوبنا لقبول الحق يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(114/5)
قصة موسى عبرة للطواغيت
إن الله سبحانه وتعالى أورد قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه عبرة للمؤمنين وتسلية للعلماء والدعاة إلى رب العالمين، وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس قصة موسى عليه السلام وما حصل له مع فرعون من حوار وشجار؛ حين دعاه إلى الله سبحانه وتعالى، وكيف نصره الله عز وجل، وأغرق فرعون وجنوده، وجعل لهم النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ويوم القيامة لهم عذاب أليم.(115/1)
رؤيا فرعون وموقفه من بني إسرائيل
الحمد لله رب العالمين الذي أوجد جميع الكائنات بقدرته, وقهرها بقوته, أحمده سبحانه وأستغفره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من جميع بريئته ابتعثه الله رحمة لمن آمن به وأجاب دعوته, وحجةً على من أعرض عما جاء به وقطعاً لمعذرته, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وذريته ومن اقتفى أثره واتبع سنته.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عَزَّ وَجَلّ.
عباد الله: ودعتم عاما ًمضى وقد ظهر لكم ما فيه من العبر, وتستقبلون عاماً جديداً، الله أعلم ما أنتم فاعلون فيه, فإن الله سطر أعمالكم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقكم, فتستقبلون عاماً جديداً وشهراً مفضلاً حميداً أضافه نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى الله وعظمته فقال: {أفضل الصوم بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم}.
عباد الله: هذا شهر الله المحرم لقد وقع فيه نصرةٌ عظيمة لنبي من أنبياء الله ورسله وهو أحد أولى العزم من رسل الله إنه موسى عليه السلام, وكما مر عليكم في شهر ذي الحجة أن الله نصر إبراهيم عليه السلام وهو أمة واحدة، أيده الله ونصره, وقواه على إزالة المنكرات, وهدم الأوثان ومحق الأصنام, وكل ذلك بقدرة الله عز وجل.
وهذا موسى عليه السلام ذكر السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة بن مسعود رضي الله عنه: [[أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً قدمت من نحو بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل -هكذا رأى فرعون هذه الرؤيا- فلما استيقظ هاله ذلك, فجمع الكهنة والحذقة والسحرة وسألهم عن ذلك, فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يده, ويكون ذهاب ملكك على يديه أيضاً, وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه, فلهذا أمر الطاغية فرعون -لعنه الله- بقتل الغلمان وترك النسوان]].
والمقصود: أن فرعون احترز كل الاحتراز ألا يوجد هذا الغلام وهو موسى عليه السلام, ولكن قدرة الله تغلب كل شيء, حتى جعل فرعون -لعنه الله- رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى ويعلمون ميقات وضعهن فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته, حذراً من أن يوجد هذا الغلام موسى عليه السلام.(115/2)
موسى عليه السلام قبل الرسالة(115/3)
مولد موسى عليه السلام وترعرعه في قصر فرعون
إن القبط الذين كانوا يستخدمون بني إسرائيل شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور, وخشي أن تتنفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يقومون بما كان يقوم به بنو إسرائيل من الخدمة, فأمر فرعون بقتل الأبناء عاماً وأن يتركوا عاماً, فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في العام الذي سمح فيه من القتل, وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتل الأبناء, ما أعظم حكمة الله! وما أجلَّ قدرة الله!
ولد موسى عليه السلام في العام الذي تقتل فيه الأبناء, فضاقت أمه به ذرعاً، فأوحى الله إليها إلهاماً ألا تخافي ولا تحزني؛ لأن هذا المولود سيكون له شأن عظيم, وسيحفظه الله الذي خلقه وأوجده من العدم, سيحفظه من كيد فرعون, ثم يجعله من المرسلين, وقذف في قلب أم موسى السكينة وأمرها أن ترضعه حتى إذا خافت عليه تصنع له تابوتاً من خشب ثم تضعه فيه وتلقيه في البحر, وقد جعلت في التابوت حبلاً إذا جاءها أحدٌ أرسلت موسى الذي هو في التابوت في البحر, فإذا ذهبوا استرجعته إليها.
وتأتي الحكمة الإلهية والقدرة الربانية, فتأخذ التابوت بما فيه وتلقيه في دار فرعون, فتأخذه الجواري فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم رضي الله عنها, فلما فتحت التابوت وكشفت الحجاب, رأت في التابوت وجهاً يتلالأ بتلك الأنوار النبوية, فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حباً شديداً جداً, وهذا مصداق قول الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39].
فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه, فاستوهبته آسية رضي الله عنها وقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9] , فقال لها فرعون المحروم المطرود من رحمة الله: قرة عينٍ لك أما لي فلا حاجة لي فيه, قال بعض العلماء: لو قال قرة عين لي لهداه الله به كما هدى آسية رضي الله عنها, ولكن رفض ذلك فلم يسعد بل بقي شقيا.
وأخذت آسية زوجة فرعون تبحث لموسى عن مرضعة, واشتد به الجوع واشتد به البكاء وهو لا يقبل ثدي أحد, لأن الله قال: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] فهو لا يقبل ثدي أحدٍ من المرضعات, حتى خشيت عليه امرأة فرعون من الهلاك.
ورأت أخت موسى ذلك وهي ترقبه من بعد, فجاءت إلى آسية وعرضت عليها أن تأتي لها بامرأة مرضعة أمينة ناصحة تتعهد هذا الرضيع مقابل أجرٍ لها, فقالت لها امرأة فرعون: ائتيني بها فإن أخذ ثديها أكرمتها بأنواع من الإكرام.
فانطلقت أخت موسى حتى جاءت إلى أمه فأخبرتها الخبر, فأتت أمه فلما رأته كادت أن تقول: هذا ابني لولا أن الله ثبتها حتى لا يشعر آل فرعون بهذه؛ لأنها أمه، فلما وضعته في حجرها التقم ثديها وأخذ يرضع حتى ارتوى, ففرحت آسية فرحاً عظيماً, وطلبت منها أن تمكث في القصر عندها لترضع لها هذا الغلام, ووعدتها بالإعطاء والإكرام, قالت لها أم موسى: إن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب إلى بيتي وأتعهده بالعطف والرعاية, كما أتعهد ولدي، وأنا لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام.
فرضيت آسية أن تدفعه لها على أن تأتي به في كل فترة لتراه ثم تعيده لها, وهكذا حقق الله وعده فرد موسى إلى أمه لترضعه وهي آمنة مطمئنة بعدما كانت تضعه في التابوت وتخبيه في البحر خوفاً من فرعون صار يأكل ويصرف عليه من بيت فرعون, وأمه آمنة مطمئنة ولله في ذلك حكمة, قال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:10 - 12] صدق الله العظيم، لا يوجد أنصح من الأم لابنها: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:13] رضع موسى من أمه وتعطى الأجر على رضاع ولدها, ولله في ذلك حكمة.(115/4)
قتل موسى للقبطي وهروبه إلى مدين
شب موسى عليه السلام في بيت فرعون وعاش فيهم معززاً مكرماً حتى إذا بلغ أشده دخل ذات يوم من الأيام المدينة، وبينما هو يتجول في طرقها إذ هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر قبطي من آل فرعون وقد اعتدى القبطي على الإسرائيلي، فلما مر موسى استغاثه الإسرائيلي ليخلصه من شر ذلك القبطي، فأقبل نحوه موسى فوكزه أي: ضربه بجمع يده فقضى عليه, وخر القبطي على الأرض ميتاً, ولم يرد موسى قتله عليه السلام, إنما أراد إبعاده فكانت القاضية.
فحزن موسى على قتله, وندم على ما حدث, وتنحى يستغفر الله ويطلب من الله الرحمة والرضوان, فلما قتله أصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار, فأخبر فرعون بالخبر، فأمر جنده أن يبحثوا عن موسى ويأتوه به ليقتله حتى لا يتجرأ بنو إسرائيل على قتل أحد, فذهبوا يفتشون في طرقات المدينة عن موسى.
وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه فأخبر موسى الخبر, وأمره أن يخرج من أرض مصر؛ لأن الجنود يبحثون عنه يريدون قتله, فتوجه موسى إلى أرض مدين ودعا ربه أن يهديه الطريق وينجيه من شر فرعون, وبقي يمشي حتى وصل إلى مدين، قال ابن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة وترجمان القرآن ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينهما مسيرة ثماني ليال, لم يأكل إلا البقل وورق الشجر, وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء, وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه, وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع, وإنه لمحتاج إلى شق تمرة, وبينما هو جالس للاستراحة أبصر امرأتين ترعيان الأغنام تريدان سقاية أغنامهما من تلك البئر الكبيرة؛ لأن القوم إذا سقوا الأغنام جعلوا عليها حجراً لا يزلزله عشرات الرجال, ولكن لما رأى موسى عليه السلام ضعف هاتين المرأتين عليه أقبل إلى تلك المرأتين، ونزع تلك الحجر من البئر وسقى لأغنام تلك المرأتين, فعجبتا تلك المرأتان من صنع هذا الرجل الذي أعطاه الله القوة, فلما رجعت المرأتان إلى أبيهما أخبرتاه بخبر هذا الرجل, وطلبتا منه أن يكرمه على هذا الصنيع الجميل, وأن يستأجره لرعاية الغنم فأرسل واحدة منهن لتدعوه إلى أبيها, فجاءته وهي تمشي على استحياء فقالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, وإنما صرحت له بهذه لئلا يوهم كلامها الريبة, وهذا من تمام ذكائها وعفتها وصيانتها, فلما جاءه وقص عليه القصص, قال له شعيب: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] وزوجه ابنته وهو يرعى الغنم, حتى أتم المدة وهي عشر سنين، كما ورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحكمة في رعاية الغنم من جهة الأنبياء والمرسلين هي أن يتعودوا على السكينة والتواضع, وليكون ذلك مقدمة لسياسة الأمة وقيادتها, كما يقود الراعي غنمه, وهكذا الأنبياء الكرام انتقلوا من رعاية الغنم إلى قيادة الأمم, صلوات الله وسلامه عليهم.
وبعد أن قضى موسى الأجل الذي بينه وبين شعيب عزم على الرجوع إلى أرض مصر مع أهله, وبينما هو في الطريق في ليلة مظلمة باردة, تاه في الطريق, فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً, فلما وصل قريباً من جبل الطور رأى نوراً عظيماً ممتداً من عنان السماء إلى شجرة عظيمة هناك, فتحير موسى وارتعدت فرائصه, فسمع خطاب الله جلَّ وعلا يأمره أن يخلع نعليه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:12] ثم يدخل ذلك الوادي المقدس حتى يقترب من جبل الطور؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيكلمه وسيجعله رسولاً يرسله إلى فرعون, ليبلغه رسالة الله جلَّ وعلا, يقول الله جلَّ وعلا: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:9 - 14] لما تلاها عمر بن الخطاب دخل الإيمان في قلبه, {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
وللقصة بقية في الخطبة الأخيرة إن شاء الله.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(115/5)
دعوة موسى عليه السلام لفرعون إلى عبادة الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل, يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:15 - 25].
نعم.
يا عباد الله! إن موسى عليه السلام دعا فرعون إلى توحيد الله عز وجل, فقال فرعون منكراً وجاحداً: وما رب العالمين؟ فأجاب موسى عليه السلام {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] فأنكر فرعون رب العالمين, فأنكر فرعون الرب العظيم الذي قامت بأمره السماوات والأرض وما فيهن, وما بينهما من الآيات العظيمة, والمخلوقات الكثيرة, ثم قال فرعون ساخراً ومستهزئاً بموسى: ألا تستمعون؟
فذكَّره موسى عليه السلام بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائرٌ إلى العدم كما صار آباؤه الأولون, فحينئذٍ بهت فرعون فادعى دعوى المكابرة فقال: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.
فأخبره موسى بأمر الله عز وجل, وبين له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون.
فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى ما يلجأ إليه العاجزون المتكبرون, لجأ إلى الإرهاب فتوعد موسى عليه السلام بالسجن فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] فما أثرَّ ذلك بموسى, ولا تزعزع ولا رجع, بل بادر إلى الدعوة بعزيمة وجد وذلك بعون من الله جل وعلا, ولا يزال يأتي بالآيات الواضحات البينات وفرعون يحاول بكل مجهوداته أن يقضي عليها بالرد والطمس, حتى قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] وقال أيضاً: أنا ربكم الأعلى, قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].(115/6)
خروج موسى عليه السلام وقومه إلى الشام
فلما أطاعوه وتمادوا في كفرهم وطغيانهم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً, فخرج بهم فساروا مستمرين قاصدين بلاد الشام فلما علم فرعون بذهابهم غضب عليهم غضباً شديداً, وجمع جيشه وجنوده ليلحقهم ويمحقهم, فأخرجه الله من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم, ليجعلها ربنا جلَّ وعلا لموسى وقومه من بعد فرعون وقومه.
فركب فرعون في جنوده طالباً موسى وقومه, فأدركهم عند شروق الشمس, قريباً من البحر, وتراءى الجمعان ولم يبق إلا المقاتلة، فعند ذلك قال أصحاب موسى: إنا لمدركون, ذلك لأنهم انتهوا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوك البحر وخوضه, وهذا ما لا يستطيعه أحد, والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم، وهي شاهقة رفيعة، وفرعون قد غالقهم وسدَّ عليهم طريق الرجعة بجيوشه وجنوده, وقد عرفوا منه البطش والفتك فشكوا إلى نبي الله موسى عليه السلام, وقالوا: إنا لمدركون.
فقال موسى عليه السلام -الواثق بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد-: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فأوحى الله إلى موسى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] فتقدم صلوات الله وسلامه عليه إلى البحر, وهو يتلاطم بأمواجه, فلما ضربه انفلق وانفتح اثنتي عشرة طريقاً يابسة, لا وحل فيها, وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال.
الله أكبر لا إله إلا الله, اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً كاملاً, يباشر قلوبنا ويقيناً صادقاً.
فانحدر موسى هو وجنوده في هذه الطرق اليابسة التي كانت بحراً يتلاطم, وصارت بقدرة الله طرقاً يابسة فانحدر فيها موسى وقومه مسرعين مستبشرين مبادرين, ودخل فرعون وجنوده في أثرهم، فلما جاوز موسى وقومه وخرج آخرهم من البحر وتكامل فرعون وقومه في داخل البحر أطبقه الله عليهم, وعاد إلى حالته الأولى, مياه وأمواج فأغرقهم أجمعين, أجسامهم إلى الغرق, وأرواحهم إلى الحرق, {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46].
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الحدث العظيم, والنصر المبين الذي ظهر فيه الحق على الباطل في اليوم العاشر من المحرم, فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء, فقال: {ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون, قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا} فيستحب صيام اليوم العاشر شكراً لله تعالى فقد صامه موسى عليه السلام شكراً لله, وصامه محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه, وقال في فضله صلى الله عليه وسلم: {أحتسب على الله صيام اليوم العاشر أن يكفر السنة التي قبله}.
وينبغي للمسلم أن يصوم اليوم الذي قبله لتحصل مخالفة اليهود بذلك, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} فصوموا اليوم التاسع والعاشر, أو العاشر والحادي عشر.
واعلموا أن الخير كل الخير في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: {أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة}.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, كما دمرت فرعون وقومه يا رب العالمين, اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, كما دمرت فرعون وقومه يا رب العالمين, اللهم نصرك المبين لعبادك المؤمنين الموحدين المجاهدين منهم والقاعدين, اللهم انصرنا وانصر المجاهدين في سبيلك أجمعين الذين يريدون إعلاء كلمة الله, إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات, الأحياء منهم والأموات, برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى, وصفاتك العليا أن تصلحنا وتصلح ولاة أمورنا, وتصلح أولادنا وأزواجنا وجميع إخواننا المسلمين, في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم وحد صفوف المسلمين, واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين, واجعلنا جميعاً هداة مهتدين آمرين بالمعروف فاعلين له, ناهين عن المنكر مجتنبين له إنك على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عنا وعن جميع المسلمين يا رب العالمين, اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان, اللهم اجعلنا لا نتوكل إلا عليك, ولا نستعين إلا بك, اللهم ولا نستهدي إلا أنت, ولا نسترزق إلا أنت, يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, اللهم انصرنا ولا تنصر علينا, اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا, اللهم كن لنا ولا تكن علينا, اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(115/7)
لا إله إلا الله
خلق الله عز وجل عباده ليعبدوه وحده، ويفردوه بالمحبة والتعظيم والتذلل والخضوع والانقياد، وهو ما تضمنته كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فمن أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم الناس إلى مؤمنين وكفار؛ فريق في الجنة وفريق في السعير.(116/1)
شأن التوحيد ومكانته
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته, وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته, وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو, لما أودعها من عجيب صنعته, وبديع آياته, وسبحان الله وبحمده عدد خلقه, ورضا نفسه, وزنة عرشه, ومداد كلماته, ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته, كما لا شريك له في ربوبيته, ولا شبيه له في ذاته, ولا في أفعاله ولا في صفاته, والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها, والنجوم وأفلاكها, والأرض وسكانها, والبحار وحيتانها, والجبال والشجر والدواب والرمال, وكل رطب ويابس, وكل حي وميت، لا إله إلا الله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, كلمة قامت بها الأرض والسماوات, وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله, وأنزل كتبه, وشرع شرائعه, ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين.
لا إله إلا الله، لأجلها قام سوق الجنة والنار, ولا إله إلا الله، بها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار, تلكم شهادة أن لا إله إلا الله.
وهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب, وهي الحق الذي خلقت له الخليقة, وعن حقوق: لا إله إلا الله، ويكون السؤال والحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعن لا إله إلا الله يكون الحساب والثواب, وعليها يقع الثواب والعقاب, ولا إله إلا الله عليها نصبت القبلة, ولا إله إلا الله عليها أسست الملة, ولا إله إلا الله لأجلها جردت سيوف الجهاد, إنها كلمة لا إله إلا الله؛ حق الله على جميع العباد.
فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام, وعن شهادة أن لا إله إلا الله يسأل الأولون والآخرون؛ فلا تزول قدم العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله؛ معرفةً وإقراراً وعملاً, وجواب الثانية: تحقيق أن محمداً رسول الله؛ معرفةً وإقراراً وانقياداً وطاعة.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه, وخيرته من خلقه, وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم, والمنهج المستقيم, أرسله الله رحمة للعالمين وإماماً للمتقين, وحجة على الخلائق أجمعين, أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أعظم الطرق وأوضح السبل, وافترض على العباد طاعته وتعزيره، وتوقيره ومحبته, والقيام بحقوقه, وسدّ ربُّ العزة والجلال دون جنته الطريق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه صلَّى الله عليه وسلم -بعد الشفاعة الكبرى التي يتبرأ منها أولو العزم من الرسل- اللهم فصلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:(116/2)
حقيقة التوحيد ومعناه
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل, واعبدوه مخلصين له الدين.(116/3)
معنى لا إله إلا الله
عباد الله: حققوا التوحيد, واعرفوا معنى: لا إله إلا الله, واعرفوا ما لها من شروط وأركان, وما دلت عليه من إفراد الله بالعبادة, والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.
والله جلَّ وعلا ما خلق الخلق إلا ليعبدوه؛ قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].(116/4)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
ثم اعرفوا معنى شهادة: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمعناها: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر, وألا يعبد الله عزَّ وجلَّ إلا بما شرعه صلى الله عليه وسلم, وأن يجتنب كل ما نهى عنه وزجر, فرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب, بل يطاع ويتَّبع, شرَّفه الله بالعبودية الخاصة، والرسالة العامة إلى جميع الثقلين؛ من الجن والإنس قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بُعث بالحنيفية السمحة، وختم الله به الرسالات، وجعلت أمته خير أمة أخرجت للناس, فجزاه الله عن أمته خير ما جزى به رسولاً عن أمته.
لقد أوضح لنا الدليل, وأنار السبيل, ونصح لأمته، وتركها على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, بلَّغ رسالة ربِّه صلوات الله وسلامه عليه.
فواجب ثم واجب ثم واجب على كل مسلم يؤمن بالله ورسوله أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حباً من نفسه, وولده, ووالده, ومن الناس أجمعين، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين, ولما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي, قال صلى الله عليه وسلم: لا حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر رضي الله عنه: أنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي، قال: الآن يا عمر}.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها, فإنه يتحتم على من أراد الفلاح والسعادة والهداية في الدنيا والآخرة، أن يتبع هدي هذا الرسول النبي الأمي؛ الذي نوه الله بذكره في جميع الكتب المنزلة, وبشرت به جميع الأنبياء، وأمر الله باتباعه في محكم البيان؛ قال جلَّ وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].(116/5)
دعوة الرسول إلى محبة الله
أمة الإسلام: اتبعوا هذا الرسول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه, وأطيعوه فيما دعاكم إليه, فقد دعاكم إلى توحيد الله جلَّ وعلا, ودعاكم إلى إفراد الله بالعبادة, ودعاكم إلى محبة الله تعالى, فوالله ثم والله إن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها، وأعلاها وأجلها محبة الله الذي جبلت القلوب على محبته, وفطرت الخليقة على تأليهه؛ فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال, والتعظيم والذل, والخضوع, والتعبد والعبادة, ولا تصلح كل هذه إلا له وحده لا شريك له, فهو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير, وهو الذي يحي ويميت, ويُعز ويذل, ويعطي ويمنع, وينفع ويضر, ويعافي ويبتلي, ويقبض ويبسط, وهو الذي رحمته وسعت كل شيء, وإحسانه عم جميع خلقه, بَرَّهم وفاجرهم، ناطقهم وبهيمهم, فهو الله القادر؛ الذي يجيب الدعوات, ويكشف الكربات, ويغيث اللهفات, ويفرج الكربات من غير حاجة إلى عباده, بل هو الغني الحميد.
فكيف -يا عباد الله- لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يديم عليه النعم, بعدد الأنفاس, فالله يدر عليه النعم, والصحة والعافية بعدد الأنفاس، ومع ذلك العبد يسيء ويقصر, فخير الله إليه نازل وشره إليه صاعد, يتحبب إليه ربه بالنعم, وهو غني عنه, والعبد يتبغض إليه بالمعاصي, وهو فقير إليه, فلا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله أجود الأجودين, وأكرم الأكرمين, أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله, يشكر القليل من العمل وينميه, ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه, لا إله إلا الله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] لا يشغله سمع عن سمع, ولا يضجر بكثرة المسائل, ولا يتبرم بإلحاح الملحين, بل يحب الملحين في الدعاء, قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فهو يحب أن يُسأل, ويغضب إذا لم يُسأل, فهو الذي ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: {من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له} فلك الحمد -يا رب العالمين- فقد جبلت قلوب المؤمنين على محبتك, اللهم اجعلنا مؤمنين بك يا رب العالمين.
عباد الله: كيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو؟ ولا يذهب بالسيئات إلا هو؟ ولا يجيب الدعوات, ويقيل العثرات, ويغفر الخطيئات, ويستر العورات, ويكشف الكربات, ويغيث اللهفات, وينيل الطلبات إلا هو سبحانه وتعالى؟ فهو أحق من ذكر, وأحق من شكر, وأحق من عبد, وأحق من حمد, وأرأف من ملك, وأعز من التُجئ إليه, ورب العزة والجلال أرحم من استرحم, أرحم بعبده من الوالدة بولدها, وهو الذي أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا, يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم, يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم, يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم, يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم, يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني, ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم, ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً, يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر, يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها, فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه} رواه مسلم.
اللهم ارزقنا حق معرفتك, وأذقنا حلاوة الإيمان بك وبملائكتك وكتبك ورسلك, وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(116/6)
الإخلاص شرط لقبول الأعمال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد؛ الذي بلغ البلاغ المبين, فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: تعرفوا إلى الله عز وجل, وأخلصوا له الأعمال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه} رواه مسلم , فأخلصوا لله الأعمال, واطلبوا ثوابها من الله جلَّ وعلا فإنه الكريم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: {يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه, والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض} رواه البخاري ومسلم , وقال أبو موسى رضي الله عنه: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: {إن الله تعالى لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار, وعمل النهار قبل عمل الليل, حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} رواه مسلم.
عباد الله: تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة.(116/7)
سعة رحمة الله
عباد الله: توبوا إلى الله عز وجل, والتجئوا إليه, وأقلعوا من جميع المعاصي فهو يحب التوابين, وهو أشد فرحاً بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة, إذا يئس من الحياة ثم وجدها, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على التوبة: {إن الله جلَّ وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل, حتى تطلع الشمس من مغربها} رواه مسلم , ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي} رواه البخاري , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله, والنار مثل ذلك} رواه البخاري , فتعرفوا إلى ربكم -يا عباد الله- وتقربوا إليه بصالح الأعمال, واحذروا السيئات قبل أن يفاجئكم هادم اللذات, قبل أن تغتنمكم المنية، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا, وتأهبوا للعرض الأكبر على الله فقد قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
عباد الله: إن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] , ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين, وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم يا قريب مجيب لمن دعاك اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام والمسلمين, اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين, اللهم سدد خطاهم, اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين, اللهم وحد صفوفهم, اللهم سدد رميهم, اللهم الطف بنا وبهم يا رب العالمين, اللهم أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين وأجود الأجودين لا إله إلا أنت ولا رب لنا سواك.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين بالحكم لكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم, اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه, وجنبنا وإياهم ما تبغضه وتأباه.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.(116/8)