أسباب السعادة وأسباب الشقاء
إن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور، ودار هموم وغموم، وإن السعادة الحقيقية هي في دار الاستقرار والخلود في جنات النعيم، ولكن إذا أردنا أن نعيش سعداء فلابد أن نعرف أسباب السعادة فنأتيها، وأسباب الشقاوة فنجتنبها، وقد تطرق الشيخ في هذا الدرس إلى أسباب السعادة وأسباب الشقاوة، وتكلم عن السعادة الحقيقية التي هي غاية كل المؤمنين في هذه الحياة الدنيا.(1/1)
التقوى وأسباب السعادة
إن الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الأحبة في الله: الله سبحانه وتعالى يحث على التقوى، وإذا وجدت عندك التقوى فإنك من السعداء كما يقول القائل:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد
التقي هو السعيد، السعادة كل السعادة، والخير كل الخير، والعز والشرف والرفعة في الدنيا والآخرة هي التقوى، ففيها راحة القلب، التقوى يا عبد الله فيها راحة القلب وسروره، التقوى بها تزول الهموم والغموم، إذا أتى الإنسان بعواملها الأربعة التي فسرها بها علي رضي الله عنه حيث قال: [[التقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والتزود ليوم الرحيل، والقناعة بالقليل]] سعد بها وأسعد غيره.(1/2)
حفظ الرأس وما حوى
الخوف من الجليل: هذا الخوف يحمل من التزمه أي أنه إذا كان الإنسان يخاف الله عز وجل في السر والعلانية فإنه يحفظ الرأس وما فيه من الحواس، فالرأس فيه دواهي إذا لم تحفظها دخل الشيطان معها، الشيطان يدخل من العينين، ويدخل من الأذنين، ويدخل من الفم، فتحفظ العين من النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، فإذا حفظت النظر صار عندك سببٌ من أسباب السعادة، وتحفظ الأذنين عن سماع ما لا يحل لك استماعه، تحفظ الفم عن الكلام بما لا يحل، لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة}.
اللسان الذي يوقع في المهالك، أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر رضي الله عنه وهو ممسكٌ بلسانه، قال: [[مه يا أمير المؤمنين! ما هذا يا خليفة رسول الله؟ قال: هذا الذي أوقعني في المهالك]].
إذاً: في الرأس ثلاثة مداخل، إذا لم يحفظها الإنسان فإن الشيطان يدخل منها؛ العينان والأذنان والفم، نعم فاللسان تحفظه عن الكلام بما يضر في الدين والدنيا والآخرة.(1/3)
حفظ الفرج
ثانياً: من الخوف من الجليل وهو من أسباب السعادة: أن تحفظ الفرج كما قال صلى الله عليه وسلم: {من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، من أي شيء يحفظ الفرج؟ يحفظ من اللواط ومن الزنا، نسأل الله العفو والعافية.
الخوف من الجليل الذي يحمل الإنسان على أن يطلب الحلال، أكلاً وشرباً ولباساً، وأيضاً من السعادة أن يحفظ الإنسان بطنه لا يدخل فيه حراماً، ويحفظ جلده أن لا يلبسه حراماً؛ فإنه عند ذلك إن دعا الله استجاب له دعاءه، لكن إذا كان يأكل الحرام والعياذ بالله، فإنه لا يستجاب له دعاء، {وأي جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به}.(1/4)
المحافظة على الفرائض والنوافل
من أسباب السعادة الخوف من الجليل بالمحافظة على أداء الفرائض، والمبادرة إليها، وهي أحب ما يتقرب العبد به إلى ربه، كما قال ربنا جل وعلا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه}.
ثم من السعادة التي تقربك إلى الله زلفى المبادرة إلى النوافل حتى تكون من أحباب الله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه} الله أكبر {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].(1/5)
القيام بأمور الدين وأركان الإسلام
من السعادة المبادرة إلى القيام بأمور الدين عموماً، وفي مقدمة ذلك أداء الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ثم والله إنها لسعادة عظيمة أن يكون الإنسان موحداً لله سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم من السعادة أيضاً أن يأتي بالركن الثاني: وهو الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان، والخامس: حج بيت الله الحرام إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، إذا التزم بهذه الأركان فإنه يعيش مسلماً، ويموت مسلماً، ويبعث مسلماً.
أيها الإخوة في الله: لا يحصل ذلك إلا بعد أن يحصل الإيمان، والإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الجوارح، فإذا حصل الإيمان حصلت المبادرة إلى الخيرات إلى رب العزة والجلال، الإيمان إذا رسخ في القلب لا تزلزله الجبال الراسيات، عند ذلك يتلذذ الإنسان بشرائع الإسلام التي جاءت في الكتاب والسنة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عليه السلام قال: {أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً قال: صدقت، أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن باليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، أخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك} إذا التزمت بهذه الأركان فأنت مسلمٌ مؤمنٌ بالله عز وجل.(1/6)
طاعة الوالدين
ثم من أسباب السعادة بعد التوحيد أمرٌ عظيم وهو: بر الوالدين كما قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] الأم والأب يوصي بهما رب العزة والجلال، وقرن حقهما بعد حقه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] الله أكبر هذه وصية من رب العالمين، الله أكبر يا عبد الله، قرن الله حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى.(1/7)
صلة الأرحام وبذل المعروف
ثم من أسباب السعادة: صلة الأرحام، والإحسان إلى الأرامل والأيتام، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، هذه كلها من أسباب السعادة التي تدخل تحت الخوف من الجليل، إذا عملها الإنسان خائفاً من الله عز وجل راجياً لثوابه، فإن الله سبحانه وتعالى يجزيه أتم الجزاء.
أيضاً من أسباب السعادة: بذل المعروف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق} ولكن كما قلت لكم في كثير من المناسبات أن المسلمين الآن أحوالهم يرثى لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، المسلم إذا ركب بجوار أخيه المسلم سواءً في الطائرة، أو في القطار، أو في سيارة ولم يكن بينهما معرفة ماذا يفعل فكل واحدٍ منهما يعطي صاحبه الجنب، نعم، لا يحصل سلام، ولا يحصل تعارف.
أجل أين الأخوة يا عبد الله؟ والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] كل المؤمنين إخوة، {مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} طبقوا هذا أيها الإخوة في الله! يروى في الأثر أنه يقول: [[في آخر الزمان يكون السلام للمعرفة]] إذا عرفه سلم عليه، وإذا لم يعرفه لم يسلم عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يحل لامرءٍ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} ثم يقول: {إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحاتّ الشجرة ورقها أو يغفر لهما قبل أن يفترقا} لما سمعها أحد السلف تعجب لها، قال له محدثه: كيف تعجب وربنا يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
انظر بعد الفرقة في الجاهلية جمعهم الله تحت راية وتحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أسباب السعادة: إذا لقيت أخاك المسلم أن تسلم عليه وأن تلقاه بوجه طلق.(1/8)
أداء حقوق المسلم
ومن أسباب السعادة: زيارة المريض، إذا زار المسلم أخاه المريض فإنه يقال له: {طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً}.
أيها الإخوة في الله: لما كثرت الغفلة، وكثر الإعراض والصدود يمرض المريض ويموت وقريبه لا يعلم عنه، إنما إذا حصلت حاجة أو ألمت به ملمة ذهب يسأل عنه، أين فلان؟ فلان مات منذ ثلاث سنوات، مات منذ سنتين، الله أكبر هذا واقعنا أيها الإخوان الكرام.
من حقوق المسلم على أخيه المسلم أن يزوره إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، من حقوق المسلم على أخيه المسلم إذا عطس فحمد الله أن يشمته، يقول له: يرحمك الله، ثم يقول له: يهديكم الله ويصلح بالكم، هذه لا توجد عند كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم إذا قلت: يرحمك الله، قال: عافاك الله أو يقول كلمات غير ذلك، فهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا عطس وحمد الله أن يقال له: يرحمك الله، ثم يقول العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وإفشاء السلام، ذكرت لكم السلام لكن نسينا أن نذكر كيف صيغة السلام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين، صيغة السلام أن يقول المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن قال: السلام عليكم، كتب له عشر حسنات، وإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، وإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، فاغتنم هذا الفضل يا عبد الله، وخيركم الذي يبدأ بالسلام.
من أسباب السعادة، وهي التي تدخل تحت مرضاة الجليل جل وعلا: الوفاء بالعهود، أن يأتي الإنسان بالعهد حتى يدخل مع الذين مدحهم الله في قوله تعالى في سورة (المؤمنون) وفي سورة (سأل سائل).(1/9)
أسباب أخرى للسعادة(1/10)
العدل
أيها الإخوة في الله: من السعادة التي تدخل صاحبها تحت الخوف من الجليل العدل في القسمة، فإن الإنسان إذا عدل في قسمته عاش عيشة حميدة، وحياة سعيدة، أما إذا كان يجور في القسمة فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه رجل يشهده على أنه منح أحد أبنائه منحة فقال: {وهل ساويت بين أولادك؟ قال: لا قال: لا.
أشهد على هذا} وفي رواية: {أشهد على هذا غيري} وفي رواية: {لا أشهد على جور} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند بعض المسلمين الذين عندهم تعدد في الزوجات، فإنهم لا يعدلون بين الزوجات ولا بين الأولاد فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولقد سمعنا من رجل له أولادٌ من زوجة أخرى يقول: أتمنى أن آخذ عقل فلان ابن الزوجة المطلقة وأجعله في ابن الزوجة التي في ذمتي، تعدى على الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي منح ذلك العقل -سبحانه وتعالى- والبعض من الناس إذا كان له عدد من الزوجات فإنه يميل للبعض ويترك الأخر، وهذا -أيضاً- فيه وعيد، نسأل الله العفو والعافية، فلذلك هذا الذي حصل منه التنفير من بعض النساء عن التعدد لما حصل من بعض الجهال الذين لم يعرفوا كيف جاءت الشريعة الإسلامية، وكيف أمرت بالعدل، فعند ذلك صار التعدد عند بعض النساء أمرٌ عظيم يخيفهن نسأل الله العفو والعافية، كل هذا مما جنى به بعض الذين لم يرتووا من آداب الإسلام ولا من الشريعة الإسلامية، وإلا لو حصل العدل من الرجال، أو من بعض الرجال الذين حصل عندهم التعدد لما حصل ذلك النفور من بعض النساء، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل ويعدل في قسمته؛ فإن ذلك من أسباب السعادة أيها الأخوة في الله! لأنك إذا عدلت بين الأولاد تكون بينهم محبوباً، ويجلونك ويوقرونك ويحترمونك، أما إذا وهبت بعضهم وتركت البعض فإنك تكون عند ذلك محزوناً ومهموماً لما ترى من بعضهم من العقوق نسأل الله العفو والعافية، فهذا ينافي الحياة السعيدة.(1/11)
حفظ القلب
من أسباب الحياة السعيدة حفظ القلب الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة} مضغة صغيرة، هذا القلب الذي بقدر ما يمضغ الإنسان قطعة اللحم {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله}.
بأي شيء يصلح هذا القلب؟
القلب يصلح إذا ملئ بالإيمان، إذا ملئ بذكر الله عز وجل، إذا استقام على طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن القلب هو الملك المسيطر على الأعضاء، القلب هو الذي تأتيه الإخبارية من العينين ومن الأذنين ومن اللسان، ثم القلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه نسأل الله العفو والعافية.
فالقلب يحتاج إلى حفظ، يحفظ من الشيطان؛ لأن الشيطان يدخل على القلب، الخناس قيل إنه مثل الحية يلتوي على القلب فإذا ذكر الله العبد انخنس أي: اختفى وابتعد عن القلب، أما إذا غفل فإن الغفلة تطم على القلب، وتزداد عليه الغفلة، وكذلك يطبع عليه ثم يكون من القلوب التي طُبع عليها في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
المكاسب لها دخلٌ في القلب يا عبد الله، المكسب الحرام له دخلٌ في القلب، فعليك أن تطيب مكسبك حتى تستجاب دعوتك كما ذكرت لك في الكلام السابق.
أيضاً: القلب جوهرة عظيمة منحها الله لبعض العباد، وحفظ القلب والله إنه من السعادة؛ لأنك إذا دخلت فيمن مدحهم الله في كتابه، حيث قال: أولو الألباب، ومن الأمور التي مدح بها أولو الألباب أنهم كانوا يتفكرون في خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191].
أولو الألباب: القلوب النظيفة، قلوبهم تدلهم على عظمة الله سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته، وعلى انفراده بالملك والخلق والإيجاد والتدبير {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:36 - 37].
فهنيئاً للمتقين فهم السعداء الذين يعملون بالتنزيل وهو القرآن العظيم، يؤمنون أنه كلام الله عز وجل وجل، منزل غير مخلوق، يعملون بالمحكم منه ويؤمنون بما تشابه منه، ويصدقونه على الوجه المطلوب، فهؤلاء يكونون من أهل السعادة؛ لأنهم التزموا بما التزم به أهل السنة والجماعة، مستسلمين ومنقادين لأوامر القرآن ولنواهيه استجابة لقول الحق جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ومستجيبين لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ومعتصمين أيضاً بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77 - 78].
فالسعادة -أيها الإخوة في الله- كل السعادة في التمسك بكتاب الله جل وعلا، والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم.(1/12)
القناعة والرضا بما قسم الله
ثم من السعادة التي تقر بها عين المؤمن: القناعة والرضا بما قسم الله له، فالمؤمن تجده قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمراًَ لم يقدَّر له، بل ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه، آخذاً بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} فيا لها من وصية نافعة، ويا لها من آدابٍ حميدة، فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل؛ رآه يفوق خلقاً كثيراً في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال، عند ذلك يزول القلق والهم والغم من قلبه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره.
أيها الإخوة في الله: في ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم} فهذا مشاهد وصحيح لو أخذ به كل إنسان ما تحمل الديون، ولا تحمل أكل الربا ومؤاكلة المرابين؛ لأنه إذا رضي بالله رباً، وقنع بما آتاه الله كما يقول العامة: اجعل لحافك على قدر رجليك، وهذا ناصح يقول:
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
لذلك لو نظرنا إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القدوة صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع، ويمضي عليه وعلى أهله ثلاثة أهلة ما أوقد في بيوته نار، وينزل عليه ضيف ولا يجد في بيوته إلا ماءً صلى الله عليه وسلم، وقد خيره الله جل وعلا أن يجري له بطحاء مكة ذهباً فأبى وقال صلى الله عليه وسلم: {أشبع يوماً فأشكرك وأجوع يوماً فأذكرك} فصلوات الله وسلامه عليه.
أيها الإخوة في الله: إن كنتم تريدون القدوة الحسنة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو منهجه باقٍ إلى يوم القيامة، رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض الدنيا كارهاً لها، وابتعاداً عن الركون إليها، وقناعة بما آتاه الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم بالفلاح والفوز في الدنيا والآخرة للمسلم الذي رزق رزقاً حلالاً بقدر الحاجة وقنع به؛ فقال عليه الصلاة والسلام: {قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه}.
البعض من الناس لا يعرف هذه القناعة نسأل الله العفو والعافية، حتى إنه ذكر أن رجلاً من الذين يبيعون ويشترون يقول: يا ليت الليل لم يأتِ حتى يبقى في لهوه وغفلته، إنا لله وإنا إليه راجعون!
فالقناعة -أيها الإخوة في الله- كنز لا يفنى، لو قنع كل إنسان بما رزقه الله لارتاح قلبه، ولأقبل على الله سبحانه وتعالى بقلبه وقالبه، ولكن الآن انظروا كيف نأتي إلى الصلاة وقد تشعبت أفكارنا في أودية الدنيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا والله ينبئ أننا لم نقنع بالقليل، فنسأل الله أن يرزقنا القناعة إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله: إن من أعظم أسباب السعادة الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
إن كان فقيراً، لكن حصل عنده الإيمان والعمل الصالح، فهو في نعمة وفي راحة بال وهدوء وطمأنينة، لذلك كانت الدنيا لا تزن عند الصحابة رضي الله عنهم جناحاً وطلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجودوا بشيء من أموالهم في غزوة تبوك، فأخذوا يتسابقون رضي الله عنهم، أما أبو بكر الصديق فقد أتى بجميع ماله رضي الله عنه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله} وأما عثمان فجاء بألفي ناقة، وأما عمر بن الخطاب فجاء بنصف ماله رضي الله عنه، تتابعت التبرعات السنية من أولئك الرجال الذين تسكن في قلوبهم الدنيا، أما نحن إذا طلبت منَّا التبرعات فلا تسأل ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ كأننا نقطع من لحمنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله كان يطوف بالبيت ويقول: [[اللهم قني شح نفسي، اللهم قني شح نفسي، اللهم قني شح نفسي ويسأله بعض الصحابة: أما تعرف غير هذا الدعاء؟ فيقول إذا وقاني الله شح نفسي فأكون من المفلحين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]]].
أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
أيها الإخوة في الله: وعد الله سبحانه وتعالى من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الحياة الدنيا، وبالجزاء الحسن في دار القرار والنعيم واللذة والبهجة والسرور، فالمؤمن يتلقى المحآبّ والمسارّ بقبولٍ لها وشكرٍ عليها، واستعمالٍ لها فيما ينفع، فإذا استعملها المؤمن على هذا الوجه أحدث له من الابتهاج بها، والطمع في بقائها على هذا الوجه سروراً؛ لأنه يعلم أنه إذا شكر الله فإن الله سبحانه وتعالى يزيده كما قال تعالى: {ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
كذلك المؤمن يتلقى المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنه مقاومته، وتخفيف ما يمكنه تخفيفه، وكذلك الصبر لما ليس عنه بدٌ، ولذلك يحصل له من آثار المكاره والصبر واحتساب الأجر والثواب أمور عظيمة، تضمحل معها المكاره وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، لذلك أخبر صلى الله عليه وسلم وهذا خاص بالمؤمن -أيها الإخوة في الله- قال صلى الله عليه وسلم: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن}.(1/13)
ذكر الله والتحدث بنعم الله
أيها الأحبة في الله: من أسباب السعادة الإكثار من ذكر الله عز وجل، وفي مقدمة ذلك تلاوة القرآن العظيم، الذي من قرأ منه حرفاً فإن الله يجزيه بعشر حسنات، القرآن يا عبد الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا أقول الم حرف ولكن ألفٌ حرف، ولام حرف، وميمٌ حرف} ثلاثة في عشرة بثلاثين حسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
في مقدمة الذكر تلاوة كتاب الله العزيز، فإن له نتائج كثيرة، يشرح الله بها الصدر، ويطمئن بها القلب كما قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ومن أسباب السعادة الإكثار من التحدث بنعم الله جل وعلا، فإن ذلك يحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} وهذا فضلٌ عظيم يا عبد الله، فالغنيمة الغنيمة، لذلك يقول محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، ثم قال رحمه الله: فإن هذه الثلاثة عنوان السعادة.(1/14)
تقوى الله وقصر الأمل في الدنيا
أيها الإخوة في الله: من أسباب السعادة: الاستعداد ليوم الرحيل وتقصير الأمل، ليس من السعادة الفرحة بالأموال وغيرها، لا.
السعادة كل السعادة هي التقوى، وإذا أردت أن تزداد في التقوى فقصر من أملك في الدنيا، يقول بعض الناس: لماذا تقول هذا؟ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر رضي الله عنه: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وماذا يقول ابن عمر رضي الله؟ يقول: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]] لو أًخذنا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لرقت القلوب، ولأقبلنا على طاعة الله عز وجل، ولكن لما امتلك حب الدنيا القلوب، وسكن فيها قست، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن دعاء لا يستجاب له} من منّا يبكي إذا تليت عليه آيات الله؟ ندعو الله عز وجل، كم دعونا الله! وكم اسغثنا ولم يستجب لنا، لأننا منهمكون في حب الدنيا، وصار البعض منَّا لا يبالي ما أخذ؛ أمن الحلال أم من الحرام، أكثر ما استحوذ على الناس اليوم أكل الربا أيها الإخوة في الله! البعض من الناس يأخذ أجرة ولم يقابلها بعمل، فإنا لله وإنا إليه راجعون {يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا والذي لم يأكله يأتيه من غباره} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً لو خلصنا قلوبنا من هذه الشوائب وأكلنا الحلال الطيب، ثم رفعنا أيدينا لرب العزة والجلال لاستجاب لنا؛ لأن الله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:55 - 56].
وأي فسادٍ أكبر من إعلان الربا، أي فسادٍ أكبر من إعلان الأغاني في البيوت والشوارع، أي فسادٍ بعد إعلان التبرج من النساء في الشوارع، أي فسادٍ بعد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي فساد وأي فساد وأي فساد، ثم نخرج ونستغيث، وابن عباس رضي الله عنه في القرون المفضلة يقول: [[أنتم تنتظرون المطر وأنا أنتظر حجارة تنزل من السماء]] الله المستعان! الله المستعان أيها الإخوة في الله! فما أكثر أسماء السعادة الآن، الحلاق كتب على دكانه عنوان: حلاق السعادة، لماذا؟ لأنه يفتخر بحلق اللحى، ويضع التوليت، ويضع حلاقة مايكل وما إلى ذلك من أسماء أعداء الإسلام التي دخلت علينا، أما المطاعم تجد عنوانه: مطعم السعادة؛ لأنه أعد فيه المأكولات، بايع أشرطة الفيديو تجده تسجيلات السعادة للفيديو كذا وكذا، وهو يروج سعادة الشيطان، يروج الأفلام الخبيثة، يروج أفلام الشر والعار فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/15)
السعادة الحقيقية
كثرت أسماء السعادة، ولكن ما هي السعادة الحقيقية؟ السعادة الحقيقية هي: الفرح إذا قيل له يوم القيامة سعد فلان ابن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبداً، ثم ماذا يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:19 - 21].
اسمع السعادة يا عبد الله! في قول الله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:10 - 11].
ثم ماذا يقال لهم في دار السعادة؟ {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
هذه السعادة يا عبد الله، هذه السعادة، سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، على رءوس الخلائق، كل الأولين قد جمعوا في يومٍ واحد، في صعيد واحد، وينادى على اسمك يا عبد الله هذه هي السعادة يا عبد الله، السعادة إذا قيل لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
فيا لها من سعادة إذا دخلوا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [محمد:12] {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] ليس اللبن الذي ببقالة السعادة الآن، لا، هذا يعتريه الحموضة ويعتريه الخراب والفساد وإنما هذا لبن في الجنة، {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15].
وخمر الجنة لا يذهب العقول، ولا يذهب الشرف، ولا يقضي على المروءة والشيمة، لا يحملها على أن يفعل بأمه أو محارمه، خمر الجنة خمر التلذذ والنعيم يا عبد الله قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15].
ولهم فيها من جميع الثمرات، يا لها من سعادة عندما يحلون فيها من أساور من ذهب، ويلبسون فيها ثياباً خضراً من سندسٍ واستبرق، فيا لسعادتهم وهم في تلك القصور المبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، ولهم فيها حورٌ حسان، اسمع يا عبد الله الحور الحسان نسأل الله الكريم من فضله أن يجعلنا من أهل الجنة إنه على كل شيء قدير، نسأل الله أن يزوجنا من تلك الحور الحسان التي ما عرفت الأسواق ولا تبرجت ولا ظهرت على الشاشة.
أيها الإخوة في الله: والله لو تصورنا تلك الحوراء لما نظرنا إلى نساء الدنيا، ما بالك بامرأة إذا تبسمت أضاء القصر من تبسهما، ما ظنك بزوجة تنظر إلى وجهك في صحن خدها، اللهم إنا نسألك من فضلك الله أكبر! لكن ما وضعت المكياج ولا الحاموراء تفتن الناس في الأسواق، لا.
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] اللهم إنا نسألك من فضلك، المهر موجود في هذه الحياة الدنيا، لا يوجد أحد يقول: المهر صعب، في أمريكا في الاتحاد السوفيتي من أين نستورد وليس عندنا مال، لا.
مهرها العمل الصالح بعد أن يرضى الله عليك ويدخلك الجنة برحمته إنه أرحم الراحمين.
عند ذلك تتكئ مع تلك الزوجة على الأريكة سبعين عاماً وأنت سعيد، الله أكبر اللهم إنا نسألك من فضلك، ومع ذلك {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ومع ذلك لا تحيض، ولا يصيبها النفاس، ولا تمتخط ولا تبول، ولا يخرج منها غائط، نظيفة طاهرة عفيفة، إذا قمت منها عادت بكراً، ومع ذلك لا تحتاج إلى مقوي من الصيدلية، قد أعطاك الله قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع، لكن احفظ هذه القوة يا عبد الله، احفظها بطاعة الله حتى تتمكن من ذلك النعيم الذي لا يزول ولا يحول، أما الذين يذهبون الطيبات في حياتهم الدنيا، فلا تسأل عنهم في أي وادٍ يهلكون.
أيها الإخوة في الله: من السعادة الأبدية أن تكون بجوار رب العالمين في تلك الجنة، ما تسمع أخبار الحرب القنبلة الذرية التي يفجرونها في اليوم كذا، الصاروخ الذي يوجهونه إلى كذا، أبداً آمن في جنات النعيم في جوار أرحم الراحمين.
أيها الإخوة في الله: البدار البدار إلى ذلك النعيم إلى تلك اللذة في جوار أرحم الراحمين.
ثم أنت بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، في تلك الجنة التي فيها مالا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
عبد الله تسمّع في دار السعادة إذا قيل هلموا إلى زيارة رب العالمين، ووضعت المنابر والكراسي، وجلست أدناهم وما فيهم دني؛ على كثبان المسك، فيا لها من فرحة وسرور إذا خاطبهم رب العزة والجلال في ذلك الوادي الأفيح! ثم يا لها من الفرحة والسرور إذا قيل لهم: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت؛ فإنها والله ثم والله هي السعادة، وليست السعادة كما يزعم البعض من الناس أنها بجمع الأموال، وبعضهم يراها في صحة البدن والأمن والاستقرار، وبعضهم يرى أن السعادة تكون في المساكن الواسعة، والمآكل اللذيذة، والزوجة الحسناء، وكل ذلك لا يمنع من التمتع بها إذا كانت حلالاً طيباً، ثم إذا استعان بها على طاعة الله.(1/16)
أسباب الشقاوة
أيها الإخوة في الله: ننتقل إلى أسباب الشقاء ونسأل الله العفو والعافية قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أخبر العاصي يا عبد الله، بقول الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:124 - 125] لإعراضك عن الله عز وجل وابتعادك عن ذكر الله، قال تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:11 - 13].(1/17)
عدم الخوف من الله والتكذيب بما جاء في القرآن
من أسباب الشقاوة أيها الإخوة في الله: عدم الخوف من الله جل وعلا، مثلما يعمل المنافقون تجدهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والعياذ بالله، الآن يوجد منافقون، لا تظنون أن المنافقين انتهوا؛ وأنه لا يوجد منافقون الآن، إذا جلسوا مع الناس أظهروا التنسك والعبادة، وإذا خلوا برب العالمين بارزوه بالمعاصي فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من أسباب الشقاوة عدم الخوف من الله جل وعلا، لذلك الذي هذه حياته أورثه الله سبحانه وتعالى ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيقٌ حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، لبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن الشقي قلبه قلق؛ لأنه لم يَخلص اليقين إلى قلبه فهو في شكٍ وفي ظلمات يتخبط بها، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
من أسباب الشقاوة -أيها الإخوة في الله- التكذيب والإعراض عن اتباع ما جاء القرآن العظيم، قال الله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه:100 - 101].(1/18)
عدم الانتفاع بالأذان وارتكاب الكفر والمآثم والعظائم
أيضاً من أسباب الشقاوة: عدم الفقه بالقلب، ومن الشقاوة عدم النظر إلى آيات الله والاعتبار.
ومن الشقاوة أيها الأحبة في الله: عدم الانتفاع بالآذان فلما أضاعوا هذه الحواس واستخدموها في غير مرضاة الله توعدهم الله قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
من أسباب الشقاوة: ارتكاب الكفر والمآثم والعظائم التي توبق أهلها في نار الجحيم بإعراضهم عن آيات الله، وتكذيبهم بها، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] واسمعوا إلى عذرهم وهم في دركات الجحيم، قال الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] ثم هم ينادون في فجاج جهنم وهم يسحبون في أوديتها: يا ويل أهل الشقاوة، ينادون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] يا لطول مكثهم، ويا لكثرة همهم وغمهم، ويا لكثرة بكائهم وارتفاع أصواتهم، وهم ينادون بأعلى أصواتهم {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فأي شقاءٍ أشد من شقائهم؟! وأي عناءٍ أشد من عناهم؟! وهم كما أخبر الله عنهم: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:16 - 17] وقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ:33] فلو رأيتهم والأغلال في أعناقهم يسحبون في نار جهنم قد اسودت عيونهم، طعامهم الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم في الجحيم، أتظن يا عبد الله أن الشقاوة أمرها سهلٌ، بل أمرها عظيم، انظر إلى من أضاع الصلاة واتبع الشهوات، فسوف يلقى غياً، وما أدراك ما غيٌ، هو وادٍ في جهنم شديدٍ حره، وبعيدٌ قعره، منتنٌ ريحه، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
يا تارك الصلاة! هل لك جلدٌ على سقر؟ إنها طبقة من طباق جهنم.
يا تارك الصلاة! ما بالك إذا مت من غير توبة، هل لك جلدٌ على سقر؟(1/19)
الشرك بالله وارتكاب المعاصي والمحرمات
من الشقاوة الإشراك بالله، وقتل النفس وارتكاب الزنا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
ومن الشقاوة استماع الأغاني وضياع الأوقات بغير ذكر الله، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
ومن الشقاوة: أكل الحرام، من الشقاوة: الغيبة، ومن الشقاوة: النميمة، ومن الشقاوة: الغش، ومن الشقاوة: أكل الربا، فهل لك على النار جلد يا عبد الله؟
فالحذر الحذر، من نارٍ وقودها الناس والحجارة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7] هل يستوي ذلك يا عبد الله؟ و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:8 - 16].
هل يستوي ذلك يا عبد الله؟ {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] يا لها من شقاوة، يا لها من شقاوة {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:36 - 38] أي: تمادى في الطغيان والشقاوة {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:39 - 40] أي: عمل بأعمال أهل السعادة {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار؛ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/20)
إليك أختي المسلمة
على المسلم أن يؤمن بكل ما أخبر به الله عز وجل في كتابه وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته من الأمور الغيبية، كالإيمان بما بعد الموت أو في حال الموت من السكرات التي تحصل لكل من أشرف على الموت والتي لم ينج منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة في الدنيا حتى يختم له بالخاتمة الحسنة، وحتى ينجو من أهوال يوم القيامة الذي تشيب لهوله الولدان، وتضع فيه كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.(2/1)
الحاجة إلى الموعظة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعل هذه الندوة مباركة على من سعى فيها, وعلى من اجتمع فيها, وعلى من سعى إلى الوصول إليها, وأسأل الله رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن نسمع بمثلها في جميع بلادنا, وجميع بلاد المسلمين, وأسأل الله رب العرش العظيم أن ينفع بها وأن يوقظ بها القلوب النائمة, وأن يعزز بها الأقدام العاثرة, إنه على كل شيء قدير, وأن يجعلها زيادة في تثبيت المهتدين إنك على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله: يقول الصحابي الجليل رضي الله عنه: {وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب, وذرفت منها العيون, فقلنا: يا رسول الله! كأنها وصية مودع -أو كما قال رضي الله عنه- فأوصنا يا رسول الله! قال: عليكم بالسمع والطاعة ثم قال صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة}.
أيها الإخوة في الله: ما أحوجنا إلى أن نتعظ, وبأي شيء نجد المواعظ, مهما بحثنا، ومهما ذهبنا وجئنا، لن نجد ذلك إلا في القرآن العظيم، الذي هو كلام رب العالمين، الذي أنزله على رسوله الأمين ليبلغه، فصلوات الله وسلامه عليه, ما مات حتى بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وتركها على البيضاء ليلها كنهارها, ثم أنزل الله -جل وعلا- عليه قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم في آخر لقاء لقي فيه المسلمين في حجة الوداع, أنزل الله عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
فيا ويل من ابتغى غير الإسلام ديناً, اسمع ماذا قال الله جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(2/2)
سكرات الموت وحسن الخاتمة
أيها الإخوة في الله: أسأل الله عز وجل أن ينمي شجرة الإيمان في قلوبنا، حتى نتصف بهذه الصفات، التي ذكرها الله في كتابه, في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3] ثم ختم الله لهم بهذا الختم فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:3] نسألك اللهم من فضلك, اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين, نؤمن بالأمور الغيبية، التي ذكرت لنا ولم نرها حقيقة، ولكن نؤمن بها وأننا سوف نعاينها, ومن ذلك -أيها الإخوة في الله- هادم اللذات, كم ذكر لنا مما فيه من السكرات, ومن الغصص التي ذاقها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسوف نذوقها إذا انطرحنا على الفراش، وأصبحت الأيدي تقلبنا يميناً وشمالاً، ولا حول لنا ولا قوة, قد أغرورقت العينان بالدموع, ويبس اللسان, فلا تسأل عن أحوالنا في تلك الأحوال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أعطونا الطبيب، أعطونا المداوي، أعطونا الراقي: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] فهنيئاً لمن كان آخر كلامه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] إن المؤمن إذا قيل له: قل لا إله إلا الله, يبتسم وتظهر على وجهه البشرى، ويقول: لا إله إلا الله؛ لأنه أحب لقاء الله, فأحب الله لقاءه, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ثم استقاموا على طاعة الله, ما جزاؤهم عند الوفاة، قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30] يا لها من بشرى! {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31] ورب العزة أيضاً يقول في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}.
فالبدار البدار -أيها الإخوة في الله- إلى هذه المنازل العالية, قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:8 - 16] هذا الذي في الجنة -يا عبد الله- لا سخط ولا إزعاج, نسأل الله الكريم من فضله.
أيها الإخوة في الله: المؤمن عند حالة الاحتضار له حالات طيبة، منهم من يقرأ كتاب الله, ومنهم من يكرر كلمة التوحيد: لا إله إلا الله, ومنهم من يؤذن: الله أكبر، ولكن المصيبة الذي يختم له بسوءٍ والعياذ بالله, الذي يقول عند الموت: تانا لاتانا تانا!! الذي عاش مع الأغاني, أو الذي يقول: تتنٌ حار تتنٌ حار الذي أتعب نفسه مع شرب الدخان, أو الذي يقول: ناولونا الكأس ناولونا الكأس أو الذي عاش مع المخدرات، أو الذي عاش يغازل النساء، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله: أن رجلاً خرجت روحه وهو يكرر بيتاً من الغزل والعياذ بالله, قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] انظر الفرق -يا عبد الله- وفرق يا أخي بالجوهرة التي رزقك الله إياها بهذا العقل، بين أولئك وبين هؤلاء: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7] نسأل الله العفو والعافية, هذا والله الفرق أيها الإخوة في الله.(2/3)
سبب خلق الله للعباد
نحن الآن في زمن الإمكان، في دار المزرعة في هذه الدنيا, والله سبحانه وتعالى خلقنا لأمر عظيم، خلقنا لعبادته, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] خلقنا في هذه الدنيا لنعمل الصالحات، ثم وُكِل بنا ملائكةٌ كرام عن اليمين وعن الشمال قعيد قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18] هذا يكتب الحسنات وهذا يكتب السيئات, ثم إذا متنا وانتهينا من هذه الدنيا ووضعنا في القبور؛ ففريق في روضة من رياض الجنة, وفريق في حفرة من حفر النار, هؤلاء ينعمون في تلك الحفرة، وهؤلاء يعذبون.
ثم إذا أراد الله لهذا العالَم انتهاءً كلياً أمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ نفخة الصعق؛ فيموت من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ثم يموت ملك الموت الذي وُكِل بقبض الأرواح يموت ولم يبق إلا الله, ثم ينادي رب العزة والجلال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [غافر:16] ذهبت الملوك والوزراء والأمراء والرؤساء: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ثم يأمر إسرافيل عليه السلام فينفخ في الصور، فتخرج منه الأرواح تتوهج وتذهب إلى أهلها، ليبعث الله من في القبور قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] ثم قمنا ننفض التراب عن رءوسنا, لا إله إلا الله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] أين آلاف السنين التي مضت عليكم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] ثم يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله أن يخلق الخلق عبثاً.(2/4)
أهوال يوم القيامة
ثم يبعثهم ليوم القيامة وذلك اليوم العظيم فيه أمور عظيمة، وشدائد وأهوال: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] يتذكر ما سعى في هذه الحياة الدنيا.
الله أكبر -يا عباد الله- يا ويل من أضاع هذه الحياة الدنيا باللهو والغفلة والإعراض, وهنيئاً لمن اشتغل في طاعة الله وفي ذكر الله وخاف مقام رب العزة والجلال, هنيئاً لمن اتقى الله عز وجل.
أيها الإخوة في الله: اسمعوا {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:34 - 39].(2/5)
الوقوف بين يدي الله
اسمعي أيتها الأخت المسلمة! اسمعي يا أختي في الله! إن أمامكِ أمر عظيم، سوف تخرجين من القبر حافية، عارية، أنت والرجال جميعاً في موقف واحد, فاتقي الله وخافيه أيتها المرأة فإنك سوف تقفين في يوم عظيم، بين يدي رب العزة والجلال, كما وصف الله سبحانه وتعالى حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] متى؟ {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} [الحج:2] يا له من يوم عظيم, الله أكبر لو نتفكر في ذلك اليوم العظيم: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] والله ما بهم سُكَار، والله ما فيهم من سكارى {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
عباد الله: تذكروا ذلك الموقف العظيم, عندما تخرجون من القبور, حفاة عراة غرلاً, قالت عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك} إي والله إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك, كيف ينظر بعضهم إلى بعض؟! وقد خشعت الأبصار للحي القيوم, كيف ينظر بعضهم إلى بعض والشمس قد نزلت عليهم كمقدار ميل؟ كيف ينظر بعضهم إلى بعض والعرق بلغ منهم مبلغه, والعرق ذهب في الأرض سبعين ذراعاً؟ كيف ينظر بعضهم إلى بعض وقد جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها؟ كيف ينظر بعضهم إلى بعض وقد أحاطت بهم الأملاك سبعة صفوف؟ ونزلت الملائكة ليحيطوا بأهل الموقف فأين المفر؟ أين المفر يا عبد الله وأنت على صعيد مستوٍ, ليس فيه جبال ولا وهاد, أين المفر يا عبد الله؟ لا إله إلا الله, اللهم ارحم ضعفنا, إذا وقفنا حفاة عراة وقد خشعت منا الأبصار في ذلك اليوم العظيم, اللهم ارحم ضعفنا يا رب العالمين، اللهم ارحم ضعفنا يا أرحم الراحمين.(2/6)
الشفيع يوم القيامة
عباد الله: تذكروا إذا ماج الناس في ذلك اليوم العظيم, إذا اختلطت الأقدام, واشتد الزحام, وقالوا: {انظروا إلى من يشفع لنا عند ربنا, الله أكبر الله أكبر -يا عباد الله- تذكروا عندما يأتي الناس إلى آدم عليه السلام فيقولون: يا أبا البشر ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: لست لها لست لها اذهبوا إلى غيري فيعتذر آدم, ويعتذر نوح, ويعتذر إبراهيم, ويعتذر موسى, ويعتذر عيسى ويقول لهم عيسى: اذهبوا إلى محمد فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فيأتون إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم لك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد, اللهم اجعلنا من أمة الإجابة, الذين أجابوا داعي الله, اللهم اجعلنا ممن يقتدي على أثره إلى أن يلقاه على الحوض يا رب العالمين، ثم يأتون إلى رسول الله فيقولون: يا محمد! ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ اشفع لنا إلى ربك، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا لها، أنا لها، أنا لها صلى الله عليه وسلم, فيخر تحت العرش ساجداً ويقول الله له: ارفع رأسك يا محمد! -يا لها من فضيلة, يا لها من نعمة يا أمة الإسلام، اعرفوا قدر هذا الإسلام, اعرفوا قدر هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم- وقل يسمع, وسل تعط, واشفع تشفع, ماذا يقول صلى الله عليه وسلم؟ فيرفع رأسه فيقول: يا رب! أمتي أمتي -هنيئاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, عندما يقول: يا رب! أمتي أمتي - فيقول الله عز وجل: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من باب الجنة الأيمن} الله أكبر نسأل الله الكريم من فضله, أو كما ورد في الحديث الصحيح.
ولكن المصيبة -يا عباد الله- والكسر الذي لا يجبر، الذي ابتعد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم, الذي عصى ولم يطع ويمتثل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم, ماذا يقال له إذا ورد الحوض؟ {يرد أناس من أمته الحوض، فتردهم الملائكة -تذودهم-, فيقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك, إنا لله وإنا إليه راجعون, فيقول: سحقاً سحقاً} لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/7)
المرور على الصراط
عباد الله: تذكروا الصراط إذا نصب على متن جهنم, ثم تذكروا الأنبياء وهم على جنبتي الصراط, ودعاؤهم يومئذ: اللهم سلم سلم, ثم تذكر يا عبد الله ممن أنت؟ هل من الذين ينجون كالبرق الخاطف, أو كأشد الرجال عدواً, أو كأشد الرحال, أو ممن يزحف زحفاً, أو يهوي في نار جهنم وبئس المصير, هل تدري من ينجو يا عبد الله على ذلك الصراط؟ هم المتقون, قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] اللهم اجعلنا من المتقين.(2/8)
نصائح للنساء
أيها الإخوة في الله: الله الله في طاعة الله, أيتها الأخت المسلمة، أحذركِ بحديث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أحذركِ مما ورد في هذه الأزمنة المتأخرة, من التشبه بالكافرات العاهرات، حديث وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر لنا رأي العين في هذه الأزمنة المتأخرة، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار وذكر من هذا الصنف: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة, لا يدخلن الجنة, ولا يجدن ريحها, وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} كاسيات عاريات: يلبسن الثياب الضيقة التي تصف أحجام المرأة, أو يلبسن الثياب الشفافة التي تصف ما تحتها.
أيتها المرأة: اتقِ الله عز وجل, وكوني داعية إلى الله, وأنا إن شاء الله واثق بالله عز وجل، ثم بك يا من جئتي إلى هذه الندوة المباركة أنك لست من الذين يلبسون هذه الثياب، ولكن أقول لك: قد سمعت هذا الحديث فبلغيه أولئك اللواتي هن في الليل والنهار في الأسواق متبرجات متعطرات فاتنات مفتونات, أخبريهن بهذا الحديث, أسأل الله ألا يحرمنا الجنة ولا والدينا, ولا والد والدينا.
أيتها المرأة: أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط، لعنتها الملائكة حتى تصبح} فالله الله أطيعي زوجك, وأرضيه إلا إذا أمركِ بمعصية؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, واحذري من كثرة الخروج إلى الأسواق, ولا تغتري بتلك السائبات اللواتي لا يرتحن إلا في الخروج إلى الأسواق, فإنهن كما ورد {إذا خرجت المرأة متعطرة وشمها الرجال فإنها زانية} والعياذ بالله, فأحذركِ أيتها الأخت في الله من كثرة الخروج إلى الأسواق, ومن التبرج.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه, وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/9)
وقاية الأسرة من النار
لقد أكثر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من الحث على التقوى في أكثر من موضع، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وهذا نداء تشريف ينادي الله به عباده المؤمنين؛ ليجعلوا بينهم وبين النار وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي وأن يهتموا بتربية الأولاد والأهل، وتذكر الآخرة والاستعداد للسؤال بين يدي الله.(3/1)
قوا أنفسكم وأهليكم ناراً
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه، ترك أمته على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عن أمته خير ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله: حياكم الله في بيت من بيوت الله، ومع آية في كتاب الله العظيم، يقول الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
يا أيها الذين آمنوا! هذا النداء من الله جلَّ وعلا، نداء من الكريم سبحانه وبحمده، ينادي به المؤمنين، وهذا النداء نداء تشريف ينادي به المؤمنين سبحانه وبحمده فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] أي: اجعلوا بينكم وبين هذه النار وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى، أكثر من الحث على التقوى في عدة آيات من القرآن العظيم؛ لأن تقوى الله سبحانه وتعالى فيها السعادة، والفلاح، والنجاح، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] هذا النداء من الله، يا أيها الذين آمنوا.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأرع لها سمعك -أصغ لها سمعك- إما خيراً تدعى إليه أو شراً تحذر عنه]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
والنداءات التي فيها الحث على تقوى الله سبحانه وتعالى كثيرة في القرآن منها قوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:102 - 103] ومنها قوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].(3/2)
فوائد التقوى
من اتقى الله عز وجل فليبشر بالخير الكثير، يجعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، كما قال الرب جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
أيضاً من يتقِ الله ييسر الله أموره، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
أيضاً من يتق الله يكرمه الله بكرامة لا تنال بحسب ولا بنسب ولا بكثرة أموال، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] لتعارفوا لا ليفخر بعضكم على بعض، ولا ليتكبر بعضكم على بعض {كلكم لآدم وآدم من تراب} لكن الله جل وعلا الحكيم العليم، الخبير البصير سبحانه وتعالى فصلها، وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] الله أكبر! إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
ثم يا إخواني في الله! من يتق الله جل وعلا يرزقه الله علماً نافعاً، يفرق بين الحق والباطل، يعرف الحلال من الحرام، يقول الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
اتقوا الله، افعلوا الأوامر، واجتنبوا النواهي؛ ينور الله قلوبكم وبصائركم بالعلم النافع الذي تعرفون به الحق من الباطل، وتفرقون وتميزون به بين الحلال والحرام، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
وما أحوج الأمة في هذه الأزمنة إلى العلم الشرعي -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يقبض العلم الشرعي في آخر الزمان ويكثر الجهل ويظهر -نسأل الله العفو والعافية- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من العباد، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا} إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! علينا أن نغتنم الفرصة في طلب العلم النافع والتفقه في دين الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} فإذا أردنا أن نحصل على العلم النافع، علم الشرع الذي تستنير به القلوب، فعلينا بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] سبحانه وتعالى.
إخواني في الله: أيضاً بتقوى الله جل وعلا، ينال العبد محبة الله سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] نسأل الله من فضله.
ما ظنك إذا أحبك الله جل وعلا؟ ما ظنك إذا أحبك الله يا عبد الله؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} والحديث متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: {وإذا أبغض الله عبداً -نسأل الله العافية- نادى جبريل: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض}.
ويخبر الرب جل وعلا في الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرب جل وعلا: {وما تقرب عبدي إليَّ بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} فضل عظيم لمن أحبه الله جل وعلا.
إخواني في الله: من فوائد تقوى الله عز وجل -أيضاً- أن الله سبحانه وبحمده يكون مع العبد، وإذا كان الله معه فلن يهزم، ولن يغلب، ولن يضام، يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وييسر أمره، ويكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، نسأل الله التوفيق والسداد، يقول الرب جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] ويقول سبحانه وبحمده: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
إذاً: فعليك بتقوى الله مجيباً لداعي الله سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:278].
أيضاً يقول الرب جل وعلا مخبراً أنه سبحانه وتعالى إنما يتقبل من المتقين، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].(3/3)
الطرق التي أرشد إليها الإسلام للوقاية من النار
ثم يقول سبحانه وبحمده: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] إذا اتقيت الله عز وجل أيضاً عليك بهذا المسئولية العظيمة، ليس الأمر يقتصر على النفس، لا.
قوا أنفسكم وأهليكم أيضاً، احرصوا على وقاية الأهل والأولاد من هذه النار التي وصفها الله بهذا الوصف الفظيع -نسأل الله العفو والعافية- {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] تقيهم من هذه النار بالنصح والإرشاد وتوضيح طرق الخير لهم، لكن قبل كل شيء -من باب الفائدة- إذا أراد الإنسان أن يوفق أيضاً بهذا الفعل الطيب وهو وقاية نفسه وأهله من النار عليه أولاً أن يسلك الطرق التي أرشد إليها الإسلام:(3/4)
اختيار الزوجة الصالحة
أولاً: اختيار الزوجة ذات الدين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع: لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها -ثم قال صلى الله عليه وسلم- فاظفر بذات الدين تربت يداك}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة} وأول الطريق أن تختار الزوجة الصالحة ذات الدين التي تعينك على طاعة الله سبحانه وتعالى.(3/5)
الذكر عند الجماع
ثانياً: الأخذ بالإرشاد الآخر الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: إذا أراد الإنسان أن يجامع أهله أن يقول: {باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان} الله أكبر! فإذا صار البيت فيه زوجة ديّنة، ثم رزقك الله بأولاد لم يضرهم الشيطان، تكون الحياة سعيدة بإذن الله تعالى، ويكون البيت عامراً بطاعة الله، وأسس على ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً تذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}.(3/6)
العمل بأسباب التوفيق والهداية
ما الذي يصلح الأولاد بعد توفيق الله سبحانه وتعالى؟ التوفيق بيد الله جل وعلا، والهداية بيد الله سبحانه وتعالى، لكن على العبد أن يفعل الأسباب.
فما الذي يصلح الولد بعد توفيق الله سبحانه وتعالى؟ هل يصلح الولد تركه كسائمة الأنعام يهيم في أودية الغي والضلال؟ في المقاهي والمسارح وعند الأفلام والمسلسلات والدخان والمخدرات والمسكرات! هل يصلح إذا ترك له الحبل على الغارب؟
لا.
بل يضيع، ثم تكون المسئولية أعظم عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأب لم يفعل الأسباب، ولو فعل الأسباب وبذل جهده وأخذ بإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم لحصل الخير الكثير بإذن الله تعالى، والهداية بيد الله جل وعلا.
وإنما عليك أن تفعل الأسباب والهداية بيد الله، أما أنك تترك الحبل على الغارب للأولاد ولا تسأل عنهم، وهذا طريق كثير من الناس -نسأل الله أن يعفو ويسامح- يترك الحبل على الغارب للأولاد، لذلك إذا مررت بالمقاهي في آخر الليل الساعة الواحدة والثانية من الليل تجد غلماناً صغاراً من العاشرة، إلى الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة في المقاهي، تجده ممسكاً بالشيشة وعيونه طائرة بالأفلام والمسلسلات، فأين الآباء يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! فعند ذلك يصبح عضواً فاسداً وفاشلاً في المجتمع، بسبب تضييع الأب، لكن إذا فعل الأب أسباب وقايته من النار، وهي بنصحه وإرشاده وتوجيهه بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.
يكون عضواً ناجحاً فعّالاً في بناء المجتمع.
وللأسف تجد البعض من الآباء يدخل آلات اللهو ويتعذر والعذر أقبح من الفعل، تقول له يا أبا فلان هذه الآلة تدمر الأخلاق والآداب والعفة والشرف، قال: والله أنا لا أود أن يذهب الولد إلى الجيران ويؤذي الجيران، ثم يأتي هذا الأب بماله الذي سوف يسأل عنه يوم القيامة ويدخل هذه الآلة، ويفسد بها البيت -نسأل الله العفو والعافية- إنا لله وإنا إليه راجعون!
ماذا تكون الأحوال إذا نشأ الأولاد على هذه الآلات؟ والمصيبة يا إخواني هي الإناث، المصيبة كل المصيبة الأنثى، المرأة المسكينة، هذه الأمانة التي هي آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أن قال وهو يلفظ آخر أنفاس الحياة: {وما ملكت أيمانكم} عندما أوصى بالصلاة قال: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} هذا المرأة التي أؤتمنت عليها، أمانة في عنقك سوف تسأل عنها يوم القيامة.
ما ظنك إذا نشأت هذه البنية على مشاهدة الأفلام، وهذه الأفلام تعلم الحب والغرام، وأحياناً ينشر فيها فضائح لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى يخبر عنها من يشاهدها ممن ابتلي بها -نسأل الله العفو والعافية- ناهيك عن تلك الأفلام التي تنشر -أيضاً- تعليم السرقة والسطو والقتل ودعايات للمخدرات والمسكرات، وقنواتنا الآن التي تبث في هذا الدش -الغش- وتشكك في عقائد المسلمين -مع الأسف الشديد- كيف ينتج الابن والبنت إذا عاشوا على هذه الأفلام؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!
أين أسباب الوقاية يا عباد الله؟! {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولذلك الآباء نسوا أو تناسوا تلك المسئولية التي علقها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظن أخي في الله أن المسألة زواج وإنجاب أولاد ثم تترك لهم الحبل على الغارب، لا، المسئولية عظيمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والراجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.(3/7)
التفكر في عظم المسئولية
الأمر عظيم يا إخواني! فهي مسئولية، لكن تفكر فإن الله أعطاك العقل وميزك وأكرمك بهذا العقل، ميز وتذكر متى تكون المسئولية ومن الذي سوف يلقي عليك السؤال؟ لا إله إلا الله! أما المسئولية تكون يوم القيامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم القيامة، يوم الطامة الكبرى، قال الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] ومتى سعى هذا السعي؟ سعيه في الدنيا {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:35] ثم المصيبة الكبرى والعظمى {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36] النتيجة؟ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
المسئولية يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].
المسئولية يوم القيامة {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] ومن الذي سيلقي عليك السؤال؟ الله جل جلاله.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان} هناك أربعة أسئلة: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به} مسئولية يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
يقول بعض العلماء: على العاقل أن يتذكر ذلك الموقف إذا وقفت الزوجة والابن والبنت كل منهم يدلي بحجته يقول: يا رب! خذ مظلمتي، لا إله إلا الله الزوجة تقول: يا رب! خذ مظلمتي من زوجي، والابن يقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، البنية تقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، لا إله إلا الله، حتى الجار كما يروى في الحديث: {الجار يقف يخاصم جاره يقول: يا رب! خذ مظلمتي من جاري، رآني على المنكر ولم ينهني ولم يأمرني} إنا لله وإنا إليه راجعون! يا رب! الطف بنا بلطفك.(3/8)
ظاهرة السهر الطويل
الأمر جد عظيم يا عباد الله! قال الله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قبل سنين كنا لا نعرف الأفلام والمسلسلات يوم كنا لا نسهر طول الليل، يجلس الأب مع أولاده يعلمهم، يا ولدي! من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يا بنت! يا زوجة! كم أركان الإسلام؟ كم أركان الإيمان؟ كم أركان الإحسان؟ ما هو أكبر شيء أمر الله به؟ وما هو أعظم شيء نهى الله عنه؟ فيتفقّهون في البيت على العقيدة، ويحصل الخير الكثير وهم لا يشعرون، الملائكة تحفهم، ورب العالمين يذكرهم فيمن عنده سبحانه وتعالى، وتنزل السكينة، وتغشاهم الرحمة، لماذا؟ لأنهم في مجلس علم وذكر.
يا إخواني في الله: ما يضرك أن تجلس مع أولادك وتعلمهم، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ كم أركان الإسلام؟ كم أركان الإيمان؟ كم أركان الإحسان؟ ما هو أول شيء أمر الله به؟ وما هو أعظم شيء نهى الله عنه؟ فيعرفون ذلك ويتفقّهون في دين الله سبحانه وتعالى.
لكن الآن كيف أحوال بيوت المسلمين؟ مع ما أحدث الناس من هذه البدعة الشنعاء ألا وهو السهر الطويل الذي يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذه بدعة تشتمل على أمور أيضاً محرمة عند الكثير، لا نقل عند القليل من الناس بل والله عند الكثير.
أولاً: إن السهر بدعة ابتدعها الكثير من الناس؛ لأنها مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهديه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، ثم جاء أقوام فأحدثوا هذا السهر وناهيك عن هذا السهر بماذا يقرأ؟ إذا قضى هذا السهر مع الأفلام والمسلسلات والأغاني الماجنات والبلوت والملاهي وغيرها كيف تكون الأحوال يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
ويا ليت هذا الذي يقضي ليله مع هذه المصائب والمعائب يا ليته يفكر ولو قليلاً، ويتفكر من الذي يكتب هذه المجالس وما فيها؟ وهو يؤمن إيماناً لا شك فيه أن الله وكل به ملك عن اليمين وملك عن الشمال، هذا يكتب الحسنات وهذا يكتب السيئات، من الذي يكتب تلك الجلسات -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- مع الأفلام والمسلسلات والبلوت والقيل والقال حتى ينتهي الليل، من الذي يكتبها يا إخواني في الله؟ هل يكتبها ملك اليمين أو يكتبها ملك الشمال؟ يكتبها ملك الشمال، وهل توضع في ميزان الحسنات أو توضع في ميزان السيئات؟ والله إنها توضع في ميزان السيئات -إي والله- إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً سبحانه وبحمده.
ملك اليمين لا يكتب والله جلسة مع المسلسل ولا مع التمثيلية ولا مع الأغنية ولا مع البلوت ولا مع الكنكان ولا يكتب الغيبة والنميمة، فكل هذه يكتبها ملك الشمال.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ويلٌ لمن غلبت آحاده عشراته]] السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها، لكن الآن أكثر الأعمال بالسيئات -مع الأسف الشديد- إنا لله وإنا إليه راجعون!
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! انظروا الآن إلى أحوال المسلمين، الكثير من نساء المسلمين لما ترك لهن الحبل على الغارب ينظرن إلى هذه الأفلام والمسلسلات! انظر كيف حالهن؟ هل نساؤنا في هذه الأعوام المتأخرة مثل نساء المسلمين قبل ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة؟ لا والله يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قبل ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة لا ترى هذه العباءة الخفيفة، ولا ترى العباءة توضع على الكتف، ولا ترى هذا البرقع الفاسد الذي يظهر نصف الخدين، ولا ترى هذه الملابس المشقوقة عن اليمين والشمال والأمام، لا ترى هذا المظهر الفاضح، الذي أظهر العنق والذراعين واليدين والشعر، إنا لله وإنا إليه راجعون!
هل سمعنا يا إخواني بعدسات زرقاء وعدسات حمراء وخضراء وبيضاء؟!
هل سمعنا بها قبل سنوات؟! هل سمعنا بقصة الإفرنج تعملها المرأة المسلمة؟! لا والله ما سمعنا بهذا، ما الذي حلّ بالناس؟ لما رأوا هذه الأفلام والمسلسلات بدأ الكثير من الناس يجرون وراءها -نسأل الله العفو والعافية- إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
لذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح، قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما، رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} والله لقد شاهدنا هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! لكن أخي في الله! اعمل جهدك لتقي زوجتك وابنتك من هذه النار: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
بيِّن لها يا أخي في الله! تجلس مع أهلك كما كان الآباء يجلسون مع أهلهم وأولادهم قبل سنين، اجلس يا أخي واعقد جلسة، اقطع العلاقات مع ذلك الجهاز الخبيث الذي أغفل الكثير من الناس، اقطع معه المجلس، وأتِ بكتاب من كتب أهل العلم واقرأ على الأهل والأولاد حتى يعمر البيت بذكر الله عز وجل، وتهرب منه الشياطين نسأل الله التوفيق والسداد.
ماذا فوت هذا السهر على الكثير من الناس من الخير؟! فوت عليهم فضائل عظيمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يسأل الله إلا أعطاه الله من خير الدنيا والآخرة} نسأل الله التوفيق والسداد.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل نزولاً يليق بجلاله وعظمته فيقول: {هل من سائل فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه} من يغتنم هذا يا إخواني في الله؟ من يحوز على هذا الفضل العظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ الليل له فرسان يمشون على طريقة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مستضيئين بنور القرآن الكريم، وفرسان يقودهم الشيطان في غياهب الهواء والضلال، نسأل الله العفو والعافية.
أما الفرسان الذين اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين قال الله عنهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات:17 - 18] وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] أما الفرسان الذين يقودهم الشيطان فهم الذين يتابعون تلك الأمور الفظيعة، نسأل الله العفو والعافية.(3/9)
أسباب الوقاية من النار
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ألا نستثير الهمم ونعرف قيمة الوقت -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- الذي والله سنسأل عنه يوم القيامة فإنه مسطر علينا ومسجل يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وسوف نسأل عنه يوم القيامة قال الله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
تكون الوقاية بعدة أمور:(3/10)
اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: نأخذ بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، نترك هذا السهر، ننام مبكرين ونجعل لنا ساعة نقوم بها آخر الليل -نسأل الله التوفيق والسداد- يا ألله نسألك من فضلك.
الله أكبر إذا قام الرجل وأيقظ أهله وصليا ما كتب الله لهما، كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وحازا على ذلك الفضل العظيم الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.(3/11)
ترك السهر
نعم، أولاً نترك السهر، ثم نأخذ بالأسباب التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن الإنسان إذا نام عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة: عليك ليلٌ طويل فارقد} نسأل الله العافية.
ما هو العلاج؟ العلاج يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإذا صلى انحلت عقده الثلاث، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلاناً} نسأل الله العافية.(3/12)
المحافظة على الأذكار
نأخذ بهذا التوجيه يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ننام مبكرين، نترك السهر، ونقطع العلاقات مع ذلك الجهاز الخبيث، ونأخذ بالأسباب التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما نستيقظ نذكر الله، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور} إذا قلت هذا الذكر، فإذا دعيت الله استجاب لك، وإن قمت وتوضأت وصليت قبل الله صلاتك، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.(3/13)
الصلاة في جوف الليل
ثم يقوم الإنسان ويصلي ما كتب الله له في تلك الساعة المباركة التي ينزل فيها الرب إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله وعظمته، فيحظى على هذا الوعد الرباني، والله لا يخلف الميعاد سبحانه وتعالى، الله أكبر! من يسألني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له، من يتوب فأتوب عليه، لا إله إلا الله!(3/14)
الاهتمام بتربية الأولاد
ثم -أيضاً- نحافظ على الأولاد ولا نترك لهم الحبل على الغارب، نسأل عنهم، أين ذهبوا، ومتى جاءوا، ومع من يذهبون، ومن يجالسون؟ حتى نخرج من المسئولية يوم القيامة.
أما أنك تتذكر بعدما يشب ويكبر، وعند ذلك تندم وتعض على أكف الندم فهذا لا تستفيد منه.
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب
إخواني في الله: إن الزائر لدور الملاحظة -الآن هناك دور ملاحظة وتربية وسجون نسأل الله العفو والعافية- يرى الكثير من الشباب، ووالله يا إخواني إن القلب ليتقطع حسرات، عندما تنظر فلذات أكباد المسلمين في تلك المحلات -إنا لله وإنا إليه راجعون- ما الذي أتى بك؟ قال: سرقة، وأنت ما الذي أتى بك؟ قال: أخلاقيات، وأنت؟ قال: سكر -نسأل الله العفو والعافية- شباب صغار يا أمة محمد، اللهم لا شماتة، اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا يا رب! اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.
والله إنه شيء يدمي القلب -يا إخواني في الله- أن ترى فلذات أكباد المسلمين، وإذا سألته ما الذي أتى بك؟ قال: سرقة، وهذا مخدرات ومسكرات، وهذا أخلاقيات إنا لله وإنا إليه راجعون!
-أيضاً- نأخذ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ قال: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} الله أكبر، اللهم صلِ على محمد، لا إله إلا الله {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع}
الآن انظر إلى مساجد المسلمين في صلاة الفجر، أين من عمره عشر سنوات أين من عمره خمس عشرة سنة؟ أين من عمره عشرون سنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ المساجد منهم خالية، لكن الصباح، والابتدائي، والمتوسط، والثانوي، والجامعة، تجد الشوارع ملأى، لا إله إلا الله.
إن المصيبة إذا اجتمعت الأم والأب على غش هذا الابن، هذه هي المصيبة؛ لأن بعض الآباء يريد أن يوقظ ابنه، لكن تقف أمه في وجهه تقول: اترك الولد فإنه تعبان، البارحة نازع الكرة هذا المسكين، دعه ينام، وتقول: باسم الله عليك وتغطيه، وبعد ربع ساعة إلا والأم عند رجليه، والأب عند رأسه قم قم لا يفوتك المستقبل، لا إله إلا الله! الله أكبر المستقبل.
المستقبل والله في جنة عرضها السماوات والأرض، المستقبل في النجاة من النار يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ليس والله المستقبل في شهادة دنيوية أو مرتب أو مرتبة أو غيرها فإنه سوف يذهب عنها ويتركها، إي والله! بل والله إن المستقبل في جنة عرضها السماوات والأرض، هذا والله هو المستقبل يا إخوان! لكن على الأب أن يتقي الله عز وجل.
يقول بعض الشعراء النبطيين:
أدب وليدك من أجل تبغاه يشفيك لو زعلت أمه لا تخليه ياليك
انظر حتى العرب جزاهم الله خيراً، أباؤنا وأجدادنا كانوا مهتمين بهذا، فيا أخي: أدب ولدك، أدبه بالآداب الإسلامية التي يحبها الله ويرضاها، لو زعلت الأم لا تخليه يهلك الأم، المرأة ناقصة عقل ودين، لكن الرجل هو الذي له القوامة وعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ثم يأمر، ولذلك نحن في هذه البلاد في نعمة ولله الحمد، في غير بلادنا إذا أمر الرجل ابنه الكبير وهو في سن خمسة عشر أو عشرين يرفع به إلى العدالة، أو ابنته ترفع به إلى العدالة، وليست عدالة ولكنها قانون خائب -نسأل الله العافية- ثم يؤدب الأب، لماذا تأمره ولماذا تنهاه، إنا لله وإنا إليه راجعون!
لكن نحن في هذه البلاد ولله الحمد لك السيطرة على أهلك وأولادك تأمرهم وترشدهم إلى طاعة الله ولا أحد يقف بوجهك، بل والله إن هناك من يشجعك على ذلك ولله الحمد، إن أدخلته في حلقات القرآن هناك من يشجعك ويعينك على ذلك، وإن أدخلته في المؤسسات العلمية كذلك مكافآت وغيرها، نسأل الله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا، وأن يحرس بلادنا من الحاسدين إنه على كل شيء قدير.
إذاً أخي في الله: احمد الله عز وجل، وخذ بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع}.
ثم أيضاً نحذر من الخطر الذي داهمنا، وهو ترك الحبل على الغارب للمرأة، تسافر وتركب مع السائق، وتذهب حيث شاءت، إنا لله وإنا إليه راجعون! هل سمعنا بهذا قبل سنين يا إخوان؟! لو قيل لكم: إن فلان بن فلان يترك زوجته أو بنته مع السائق يذهب بها هل تصدقون هذا؟ والله لا نصدق، تقول: هذا في عقله شيء، وإلا فإن الرجل ذو الشهامة والمروءة والأصالة لا يترك زوجته أو ابنته يذهب بها السائق بدون محرم.
إي والله يا إخوان! ولذلك الآن يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تجد بعض الرجال قد ترك الحبل على الغارب يذهب السائق بالمرأة إلى السوق إلى المستشفى والمدرسة ولا شعرة أو شعيرة من الغيرة تتحرك، فإنا لله وإنا إليه راجعون! والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} الرسول يخاطب الصحابة رضي الله عنهم، الصحابة أفضل وأطيب الأمة، أفضل الأمة بعد نبينا، وبعض الناس يقول: هذا السائق أنا أعرفه إنه ابن حلال، لا يرفع رأسه، وما أدراك يا مسكين؟ لا يرفع رأسه عندك، لكن عندما يركب ويذهب بعيداً انظر ماذا يفعل؟ بدأ يكد شعره، وهذا يقول: دابة سليمة والله لم نر عليه شيء، ونعمة أعطانا الله إياها، يدخل آخر البيت ويحضر القهوة ويقول: هذه نعمة ساقها الله لنا، لا والله نقمة ساقها الله عليك، والله إنها نقمة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
لكن نسأل الله أن يوقظ الغيرة في قلوبنا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} ثم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: {وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} هذا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخاطب الصحابة رضي الله عنهم، وبعض الناس يقول: القلوب سليمة، هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! لا والذي رفع السماء بلا عمد والله إنها ليست بأطهر من قلوب الصحابة رضي الله عنهم، بل هذا اتهام للصحابة رضي الله عنهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} {وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
ثم الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! قال: الحمو الموت} هذا القريب، فكيف بأجنبي لا تمت له بصلة يدخل البيت ويذهب بها العزبة ويذهب بالبنات، إنا لله وإنا إليه راجعون!
والله يا إخواني! والله الذي لا إله غيره، إني جلست في إحدى المستوصفات، ورأيت السائق عند البنات إحداهن عمرها تسع سنين، والثانية ست سنين كلهن جالسات على فخذ السائق وكأنه أبوهن، نسأل الله العافية.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
يا أخي! فقط انظر في الصباح، انظر أحوال المسلمين، أين الغيرة على المحارم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ما هو عذرك أمام الله عز وجل؟ لا يوجد عذر إلا مجاراة الآخرين والتقليد الأعمى، نسأل الله العفو والعافية.
فينبغي لنا أن نتقي الله في هذه النسوة، ولنعلم أنها أمانة في أعناقنا سوف نسأل عنها، فكيف يترك لها الحبل على الغارب تذهب أينما شاءت، قفوا عند المستوصفات وانظروا ما الذي حصل، السائق يأتي بالمرأة في الضحى وفي غيره، إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله!
عباد الله: المسئولية عظيمة سوف نسأل بين يدي الله سبحانه وتعالى عنها: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] لكن المرأة ماذا تقول يوم القيامة؟ أتظن أنها تعذرك يوم القيامة؟ لا.
تقول: يا رب! خذ مظلمتي من زوجي، رآني على المنكر ولم ينهني ولم يأمرني، أي والله إنه منكر، والله الذي لا إله غيره إنه منكر، كون المرأة تركب مع السائق بدون محرم، منكر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] بعض الرجال الآن تجده يدخل السوق مع زوجته، والزوجة متعطرة متبرجة قد لبست أحسن الثياب وكأنها سوف تدخل ليلة زفاف، تدخل في السوق وهي متبرجة متعطرة أمام الرجال فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وقد ورد أن واحداً من رجال الهيئة، قال لأحد الرجال -مع الأسف الشديد- يا أخي! قل لزوجتك تتستر، قال: اذهب أنت وقل لها.
كيف يذهب إليها؟! ألست أنت زوجها أخذتها بكلمة الله عز وجل، وصارت أمانة في عنقك، اتق الله، إنا لله وإنا إليه راجعون! فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! علينا أن نتقي الله عز وجل.
ثم أيضاً {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] نقي أنفسنا، بعض الرجال يترك المرأة تدخل على الطبيب بدون محرم، أو معها طفل صغير لا يعتبر محرماً لها، ولا يدافع عنها، هل هذا خطأ أو صواب يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! إنه خطأ.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] بماذا نقي أنفسنا وأهلينا؟
بإرشادهم ودلالتهم على الخير.
بعض البيوت يوجد فيها أولاد لا يصلون، ذكوراً وإناثاً لا يصلون فيا ترى على من تقع المسئولية؟
على الأب.
ثم بعد ذلك على الأم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم {والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها} نسأل عنهم يوم القيامة، الابن لا يصلي، والبنت لا تصلي، لا إله إلا الله! إنا لله وإنا إليه راجعون! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(3/15)
وصف النار
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] إذا أردنا أن نقي أنفسنا من هذه النار فعلينا أيضاً أن نتذكر تلك النار، التي قال عنها ربنا جل وعلا: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هذه النار التي وصفها ربنا في القرآن، ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فقال: {يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} يا رب نستجير بك من النار، يراها أهل الموقف كلهم، فتزفر زفرة حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، نفسي نفسي، لا إله إلا الله، هذه النار يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قبل أن ندخل في أوصاف النار، نأخذ أول الآية يوم أن قال الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] لمن هذا النداء يا إخواني؟ {يا أيها الذين آمنوا} لم يقل يا أيها اليهود والنصارى، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقف أمام الصحابة رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة، خير القرون بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار} حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه صلى الله عليه وسلم، وسمعه أهل السوق يحذر الصحابة رضي الله عنهم، لا إله إلا الله، وربنا جل وعلا يقول: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] نعوذ بالله من النار.
أما إن سألت أخي في الله عن ملابس أهل النار التي أعدت لهم، فاسمع خبر الجبار جل جلاله يقول: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19]-نعوذ بالله من النار- ثم هم يريدون الخروج من النار، يتطلعون إلى الخروج من النار، ولكن هيهات هيهات، لماذا؟ لأنهم أغضبوا الجبار جل جلاله، يقول الرب جل وعلا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] أعوذ بالله {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ثم تصورهم في النار، يقول الرب جل وعلا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] أما إن سألت عن طعامهم الذي يطعمون في النار، فقد بينه الله جل وعلا في محكم البيان فقال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46] ثم إذا شربوا ذلك، وغليَ في بطونهم كغلي الحميم، اشتعل في بطونهم، يريدون أن يطفئوا هذه النار الذي اشتعلت في بطونهم، بماذا يسقون؟ لا إله إلا الله! يقول الرب جل وعلا: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] ويقول جل وعلا: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:16 - 17] أين هم؟ في نار جهنم والعياذ في الله.
تلك النار التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ناركم هذه}.
أي والله إنها تذكرنا الآن، إذا جلسنا الآن عند الدفاية البسيطة، بالله عليك أدخل إصبعك في هذه النار، انظر كيف سيكون الأمر، أو إذا جلست عند (المشب) ووقعت عليك شرارة ووقعت على فخذك تطمر وكأنه وقع فيك شيء لا تطيقه كالجبال، ثلاثة أيام أو أربعة أيام وأنت تعالجها، يا الله نسألك النجاة من النار، شرارة من شرارة نار الدنيا، الذي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: {ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم قال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله! إنها لكافية، أي: نار الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها}.
ولذلك يقول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] يعني نار الدنيا {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة:72] ثم قال جل وعلا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] بدأ بالتذكر قبل التمتع بهذه النار، نحن جعلناها تذكرة، تذكروا، إذا رأيت هذه النار نار الدنيا، تذكر نار جهنم -نعوذ بالله من نار جهنم- اللهم إنا نستجير بك من نار جهنم يا رب العالمين.
أيها الإخوة في الله: يقول الرب جل وعلا: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة، -أي: سمعوا صوت شيء سقط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً، فالآن انتهى إلى قعرها} نسأل الله العفو والعافية، قعرها بعيد، وحرها شديد، نسأل الله العفو والعافية.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو أن قطرة من الزقوم سقطت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم} يا رب نستجير بك من النار.
يقول الحسن البصري رحمه الله في هذه الموعظة: [[ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية، قد آن حرها واشتد نضجها]] كيف حالهم؟ ماذا تعمل بهم النار؟ وقفوا على أرض القيامة خمسين ألف سنة، ثم انصرف بهم إلى النار، نعوذ بالله من النار، اللهم إنا نستجير بك من نار جهنم يا أرحم الراحمين!
فيا إخواني في الله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ما دمتم في زمن الإمكان.(3/16)
التوبة النصوح
يا إخواني في الله: كما سمعنا في بداية الكلام إن الله يحب المتقين، فمن أسباب تقوى الله والوقاية من عذابه التوبة النصوح، ولذلك يقول الله جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] يا رب نسألك توبة نصوحاً، فعلينا يا إخواني في الله! إن كان فينا شيء من الأمور التي ذكرتها آنفاً أن نتوب إلى الله عز وجل ونبتعد عنها.
وأكبر ما أُصبنا به في هذه الأوقات هو الدش هذا الغش يا إخوان! هذا الغش الذي انفتح على الناس في هذه الآونة المتأخرة، وفيه والله الشر المستطير.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من ابتلي به فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، يتوب إلى الله ويكسر هذه الآلة قبل أن يموت وقد خلفها وراء ظهره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} فيا إخواني في الله إن الذي يخلف خلف ظهره هذا الغش، ثم يترك أولاده ينظرون إلى تلك الأفلام والمسلسلات الفاضحة الخبيثة، هل فيها نصح أو غش؟ والله إن فيها غشاً، فكلما نظروا إليه في هذه المسلسلات والأفلام وغيرها يأتيه من الوزر من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا، نسأل الله العفو والعافية.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، فنسأل الله جل وعلا أن يرزقنا توبة نصوحاً، وأبشر يا من تاب إلى الله ورجع إلى الله، أبشر إن الله يبدل السيئات حسنات، وأنك تكون من أحباب الله، وأبشر يوم أن تأتيك المنية وقد تبت ورجعت إلى الله، لا إله إلا الله!
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
الحقيقة أن الإخوان أرسلوا أسئلة، وأنا لست ممن يجيب عن الأسئلة، ولكن أقول لكم ولله الحمد: الآن الدروس قائمة في المساجد يقيمها علماء، فعليكم أن ترتادوا هذه المجالس تشحذوا الهمم وتذهبوا إلى تلك المساجد وتجلسوا في تلك المجالس مجالس العلم، ومجالس الفقه في الدين، ومن كان لديه أسئلة فليلق أسئلته عليهم.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أقر أعيننا وأفرح قلوبنا بصلاح أولادنا ونسائنا، اللهم اجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم أجمعنا ووالدينا ووالد والدينا في جنات الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وقاداتنا ووفقهم يا ألله لتغيير المنكرات، اللهم وفقهم لإزالة المنكرات، اللهم أعنهم على إزالة المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في الشيشان، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، وأمدهم بقوة من قوتك، وجند من جندك، فإنه لا يهزم جندك يا قوي يا علي يا عظيم.
اللهم وحد صفوفهم واجمع كلمتهم على الحق والدين، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين، اللهم عليك بالروس المعتدين ومن عاونهم من اليهود والنصارى وأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اقطع دابرهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلماتهم، واجعل بأسهم بينهم يا قوي يا علي يا عظيم، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/17)
صور من نعيم الجنة وعذاب النار
لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين، ليزدادوا لها شوقاً ومسابقة وعملاً، فوصف لهم ما فيها من الأنهار والأشجار، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من النعيم الأبدي، ووصف لهم ما فيها من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة، وما لهم من الزوجات الحسان، وبالمقابل وصف لهم مقام أهل المعاصي والآثام وما يلقونه من الإهانة والنكال.(4/1)
وصف الجنة
الحمد لله رب العالمين الذي خلق الجنة وأعدها لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار وأعدها لمن عصى وتكبر وابتعد عن طاعة الله، أحمده سبحانه أوضح لنا طريق الحق وأمرنا باتباعه، ونهانا أن نسلك سبل الغواية والضلال، لأجل الأمر والنهي أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
يا من تريدون النجاة من النار والفوز بدار القرار: يا من يريد أن يسكن في الجنة ويبعده الله عن النار! فالبدار البدار إلى الإيمان بالله والأعمال الصالحة التي تقرب من الله زلفى! قال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76] وأيضاً يصدر الخبر اليقين بأن الله أعد الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات فيقول وقوله الحق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:107 - 108].
أيها الإخوة في الله: بادروا بالمنافسة والمسارعة إلى الجنة، ليقم القائمون، وليصم الصائمون، وليتصدق المتصدقون، أقبلوا على اللطيف الخبير، وأصلحوا ما دام في العمر فسحة، فإنكم والله لا تدرون لعلكم لا تصبحون بعد أن تمسوا، ولا تغتروا بهذه الحياة الدنيا فإنها دار غرور، خداعة مدبرة فانية، فالله الله فيما يقربكم من الله والدار الآخرة! فإن الآخرة مقبلة باقية ثم فريق في الجنة وفريق في السعير.
أيها الإخوة في الله: لقد وصفت لنا الجنة ووصفت لنا النار، وصفها الله جل وعلا في كتابه، ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فالمؤمن بالله حقاً إذا سمع تلك الأوصاف في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد شوقاً وفرحاً إلى الجنة، وخوفاً وهروباً من النار، فالجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.
نعم -يا عبد الله- إنها دار الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.(4/2)
صفة الجنة ودرجاتها
فإن سألتم عن سعة الجنة فاسمعوا إلى المولى جل وعلا وهو يصفها لنا في كتابه العزيز ويقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ويقول أيضاً جل وعلا وهو يصف لنا سعة الجنة: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21].
ثم لنتفكر في هذه الجنة ما هو بناء هذه الجنة، هذه الجنة دار؛ قصورها مبنية بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، هذه الجنة فيها خيام اللؤلؤ المجوفة قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة:72] ثم يخبر الله جل وعلا أن لهم نعيماً آخر وهو الرضوان من الله فيقول: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
وأيضاً يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم الجنة عندما أسري به فيقول: {ثم أدخلت في الجنة فإذا بها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك} وأيضاً يقول الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم: {جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن} متفق عليه.
عباد الله: إن الجنة درجات وما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، من هذه الدرجات مائة درجة للمجاهدين في سبيل الله، ودرجات أخرى للمؤمنين والعلماء قال الله تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].
وأيضاً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الدرجات فيقول: {من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض -ثم يقول الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم-: فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة -قال راوي الحديث- أراه قال: وفوقه عرش الرحمن ومنه تتفجر أنهار الجنة}.
وقد بيَّن لنا رب العزة والجلال في محكم البيان درجات المجاهدين فقال: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:95 - 96].(4/3)
وصف الحور العين
يخبر صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عن نعيم آخر في الجنة فيقول: {إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً، ثم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن فيها للمؤمن أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً} متفق عليه، ثم يخبر الله عز وجل: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48] في تلك الخيام: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:48 - 49] ويقول الله تعالى في وصف تلك العرائس الحسان: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ويقول أيضاً في وصف تلك العرائس الحسان: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23].
ثم يقول صلى الله عليه وسلم عن هذه الزوجات الحسان: {ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض؛ لأضاء ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} الله أكبر! البدار البدار يا من تحب الجمال الطبيعي! يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة} ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يبصقون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، قالوا: يا رسول الله! فما بال الطعام -أجل أين يذهب الطعام يا رسول الله؟ - قال صلى الله عليه وسلم: جشاءٌ ورشح كرشح المسك}.
أيها الإخوة في الله: ثم إن سألتم عن تلك الآنية التي يأكلون ويشربون فيها، فقد وصفها الله ورسوله في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] من هؤلاء العباد؟: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] ماذا يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70] ثم اسمعوا إلى الكرامة يا عباد اللهّ! اسمعوا إلى الآنية والتي فيها {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] خالدون لا يموتون لا يخرجون منها، لا يأتي صاحب المكتب العقاري فيقول: انتهت المدة، لا.
بل هم في نعيم دائم أبدي سرمدي في تلك الجنة.
ثم يصف رب العزة والجلال نعيماً آخر، يخبر الله عنه فيقول: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:17 - 19] هذا خمر الجنة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19].
وماذا عندهم من الفواكه؟: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] وأيضاً: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21].(4/4)
صفة أنهار الجنة وحللها
ومن نعيم الجنة أيضاً نعيم آخر في الجنة، وهو الأنهار التي تجري من دون أخدود، وفيها اللذة والنعيم، اسمعوا إلى وصفها في كتاب الله عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] اسمع يا عبد الله! حرك الهمة إن كنت تريد الدار العامرة وما فيها، فإن فيها أنهاراً، اسمع إلى هذه الأنهار يصفها الجبار جل وعلا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] مسكين الذي أضاع عقله بالمسكرات الدنيوية، مسكين الذي أضاع عقله بالمخدرات وأصبح بمنزلة المجانين والحيوانات، لقد أضاع نصيبه من هذا الخمر {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15].
ثم لهم في الجنة حلل وملابس وذلك من كمال النعيم في الجنة، اسمعوا إلى المولى جل وعلا يصف لنا تلك الحلل وتلك الملابس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] اسمع يا عبد الله! إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين يحوزون على هذا النعيم، ما لهم؟: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:31] تصور إلى ولي الله وهو متكئ على الأريكة، وفي جواره تلك الزوجة الحسناء، وهو بين تلك الأنهار الأربعة، وعند الثمار اليانعة.
ثم يلفت نظرك القرآن الكريم يا من تؤمن بالله ورسوله وبما جاء عن الله وعن رسوله، يلفت نظرك القرآن إلى نعيم آخر فيقول الله جل وعلا مخبراً عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً} [الإنسان:12 - 19] اسمع يا من تحب ساعات المجالس والأماكن: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:20 - 21].
ثم لهم مكان يستريحون فيه في الجنة، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {إن في الجنة شجرة يسير فيها الراكب الجواد المضمر مائة عام ما يقطعها} شجرة لأهل الجنة يستريحون تحتها، ويلتقون تحتها، ويجتمعون تحتها، نعم إنها في الجنة التي قال الله عنها: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30].
ثم إن في الجنة سوقاً لا بيع فيها ولا شراء، يأتونه كل جمعة وتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وفي ثيابهم؛ فيزدادون حسناً وجمالاً، ويرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، ويقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً كما يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/5)
صفة أول أهل الجنة دخولاً
أيها الإخوة في الله: إن أهل الجنة يتفاوتون في دخلوها، فأول من يدخل الجنة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بذلك وقال: {آتي باب الجنة يوم القيامة واستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك} ثم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول زمرة يدخلون الجنة فيقول: {إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، وأما آخر من يدخل الجنة هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربي كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟! فيقول: رضيت ربي، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت ربي}.(4/6)
أعظم نعيم لأهل الجنة
وأخيراً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة: {يا أهل الجنة: فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا! وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربِ! وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً} وأيضاً {ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً} وأخيراً وليس آخراً يا عبد الله! وأخيراً لم يعطوا أفضل من النظر إلى وجه الله الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.(4/7)
صفة عذاب النار
أما عذاب أهل النار في النار.
نستجير بك اللهم من النار، اللهم أجرنا من النار.
عباد الله: الله عز وجل قد بين لنا أوصاف النار وبينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله عز وجل في محكم البيان: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَاْ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:64 - 68].
وأيضاً يصف لنا ربنا جل وعلا نوعاً آخر من تعذيب أهل النار: {وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ:33] ثم إليكم هذه الصورة من أنواع العذاب في النار يصفها لنا القرآن، فتصوروا أهل النار وهم يصطرخون فيها قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36 - 37].
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت وإنهم ليبكون الدم} يعني مكان الدمع، وهذا أيضاً نوع من العذاب لأهل النار يذكره الله في كتابه فيقول: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [إبراهيم:49 - 50].(4/8)
طعام أهل النار
ثم إليكم هذا الخبر اليقين الذي فيه بيان نوع من طعام أهل النار، قال الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:62 - 65] هذا الفرق يا عبد الله! أهل الجنة بين أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وهؤلاء يأكلون من الزقوم، ويسقون من الحميم، اسمع شراب أهل النار {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].
ثم اسمعوا إلى ثياب أهل النار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ثياب من نار، ما أشدها وما أنكدها! اسمعوا إلى هذا النوع الآخر من التعذيب في النار قال الله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20].
ثم اسمعوا إلى النوع الآخر من العذاب في نار جهنم: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:21 - 22] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا؛ لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم} فكيف بمن يكون طعامه.
وهذه صورة من عذاب النار تبين لنا عذاب الذين يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر} والله إنها مصيبة! نسأل الله ألا يجعلنا منهم، اللهم لا تجعل أقوالنا حجة علينا، اللهم اجعلها حجة لنا يا رب العالمين، {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى.
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه} اللهم رحمتك يا أرحم الراحمين.(4/9)
تفاوت أهل النار في العذاب وصفة خلقهم
ثم إنهم في النار يتفاوتون في شدة العذاب؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته} إنها النار تأكل لحومهم وعروقهم، وعصبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك، وهم في ذلك لا يموتون فيها ولا يحيون، اسمعوا إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
وأما أوصافهم فإن الله خلقهم بهذه الصفة التي سوف يبينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث} رواه مسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع} متفق عليه.
وأما بعد النار يا عباد الله! فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا ويل من كانت النار مثواه! يا ويل من كانت النار مثواه! يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً -أي: منذ سبعين سنة- فالآن انتهى إلى قعرها}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا؛ لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم} رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وصحح هذا الحديث الألباني.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن أهون أهل النار عذاباً رجل له شراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، يرى أنه أشدهم عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً} رواه مسلم وللبخاري نحوه، ويروى: {أن الله عز وجل ينشئ لأهل النار سحابة، فإذا أشرفت عليهم ناداهم يا أهل النار! -هذا الفرق يا عبد الله! أهل الجنة ينادون للكرامة وأهل النار ينادون للإهانة- يا أهل النار! أي شيء تطلبون وما الذي تسألون، فيذكرون بها سحائب الدنيا والماء الذي كان ينزل عليهم، فيقولون: نسأل يا رب الشراب! فيمطرهم أغلالاً، فيقولون: نسأل يا رب الشراب فيمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمرة يلهب النار عليهم}.(4/10)
الذنوب الموجبة لدخول النار
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر، ومن مات -أي: من غير توبة- مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة قيل: وما هو نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن} وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: {إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال، قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار} فيا من هو مكب على المعاصي والذنوب! بادر بالمتاب إلى علام الغيوب، ارجع إلى ربك عز وجل، اسمع وصف النار إن كان لك قلب إن كان لك سمع يسمع.
قال الحسن رحمه الله يصف أهل النار: [[ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية، قد آن حرّها واشتد نضجها]].
وقال ابن الجوزي رحمه الله في وصف النار: "دار قد خص أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد، بُدِّلت وضاءة وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد، لو رأيتهم في الحميم يسبحون، وعلى الزمهرير يطرحون، فحزنهم دائم فما يفرحون، مقامهم محتوم فما يبرحون.
المشرك مخلد في النار والمنافق والكافر مخلدان في النار، أما أهل التوحيد الذي يموتون على الكبائر فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلدهم في النار، من مات وهو يعبد الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، أما الذي يموت على الكبائر، فإن الله سبحانه وتعالى إن شاء عذبه في النار ومحصه على قدر ذنوبه وأخرجه من النار، وإن شاء الله غفر له".
فيا أهل الكبائر: توبوا إلى الله، يا أهل التوحيد! اسألوا الله الثبات وجدوا واجتهدوا على التوحيد لعل الله يدخلكم الجنة بغير حساب ولا عذاب، يا أهل التوحيد! الله الله بالمحافظة على التوحيد! الله الله بالمحافظة على العقيدة! فإن من مات وهو محقق للتوحيد لم يشرك بالله شيئاً؛ فإن الله يدخله الجنة بغير حساب، واحذروا من النار فإن توبيخهم أعظم من العذاب وهم يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] لكن يرد عليهم بالتوبيخ، وتوبيخهم أعظم من العذاب، وتأسفهم أقوى من المصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب، وكلما جاء البكاء زاد.
إنها النار عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق جل وعلا، يا حسرتهم لغضب الجبار، يا محنتهم لعظيم البوارق! يا فضيحتهم بين الخلائق إذا سحبوا على وجوههم إلى نار جهنم! يا فضيحتهم على رءوس الأشهاد! أين كسبهم للحطام؟ أين سعيهم في الآثام؟ كأنه أضغاث أحلام، ثم أُحرقت تلك الأجسام بالنار، وكلما أحرقت تعاد إنها نار جهنم عليها ملائكة غلاظ شداد.
أيها الإخوة في الله: آمنوا بالله جل وعلا واعملوا الصالحات، فإن من آمن بالله وعمل الصالحات فإن الله يدخله الجنة، وأما من كفر وعمل بالمعاصي والسيئات فإن موعده النار، اللهم نجنا من النار، وأعذنا من دار الخزي والبوار وأسكنا برحمتك دار المتقين الأبرار، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
عباد الله: حافظوا على هذا التذكار، واجعلوه دائماً نصب أعينكم، وعوه في قلوبكم، وفقني وإياكم للقول والعمل والإخلاص إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/11)
دعوة للبذل والعطاء للمجاهدين والفقراء
يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فينبغي لنا -يا إخواني- أن ننمي في قلوبنا الرحمة، نتراحم فيما بيننا كما قال صلى الله عليه وسلم: {الرحماء يرحمهم الرحمن} وقال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} فعلينا -أيها الإخوة في الله- أن نبذل شيئاً من أموالنا، والله ثم والله إن كانت خالصة لوجه الله؛ فلن تضيع عند الله عز وجل، فإن التمرة يربيها رب العزة والجلال، يقبلها بيمينه إذا كانت من كسب طيب، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوَّه ثم تكون مثل جبل أحد، هذه التمرة إذا قبلها الله عز وجل، فكيف إذا أنقذت أخاك المسلم، بسد جوعته وكسو عراه، أو بلحاف يلتحف به من البرد، فإن إخوانكم الأفغان يعانون الآن من برد شديد، السماء تحلب عليهم، وهم يلتحفون السماء ويفترشون الأرض ولا يجدون إلا ما عند الله، ثم ما عندكم أيها الإخوة في الله! فلا تغفلوا عن إخوانكم جزاكم الله خيراً، واعلموا أن الله جل وعلا وعد والله لا يخلف الميعاد، قال وقوله الحق: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما نقص مال من صدقة} فأسأل الله عز وجل أن يقينا شح أنفسنا، وأن يوفقنا أن نتعاون على البر والتقوى.
ثم لا ننسى كذلك الفقراء في هذه البلاد، فإن فيها فقراء، لكم إخوان يعانون من غلاء الأجور، يعانون من النفقة، ومرتباتهم ضعيفة، ولهم أولاد، فقد ذكر لي بعض الإخوان أن واحداً من جيرانه قد باع المكيف وباع الثلاجة، كل ذلك ليسدد إيجار البيت، فأين الرحمة أيها الإخوة في الله؟! أين التعاون على البر والتقوى؟! والله ليست هذه أحوال المؤمنين التي طُلِبت منهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فعلينا -يا إخواني- أن نبادر بالمعاونة لإخواننا، سواء في هذه البلاد أو في أفغانستان أو في فلسطين أو في أي مكان، كما أمرنا الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكونوا عباد الله إخواناً} وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد.(4/12)
الأسئلة(4/13)
حكم زيارة من يدعي الإسلام وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر
السؤال
يوجد في هذا الزمان أناس لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ويدّعون الإسلام، فهل يجوز زيارتهم ومحادثتهم ومعاملتهم، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: لنتساءل ما هو الإسلام؟!
الإسلام عرفه العلماء فقالوا: هو الاستسلام لله في التوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، هذا الإسلام أما كون الإنسان يدعي الإسلام وهو لا يؤمن بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر، فهذا بعيد عن الإسلام وهذا دهري والعياذ بالله، وهذا الذي يريده الشيوعيون قاتلهم الله، فهذا مذهب الشيوعية الذين بثوه ويريدون أن يعتمده كل إنسان، نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
فمثل هؤلاء يدعون إلى الله عز وجل، ليجددوا إسلامهم، ليؤمنوا بالله عز وجل وبملائكته وكتبه وبرسله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فهم إخواننا نزورهم في الله ونحبهم في الله، وإن لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا كما أخبر بذلك عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
أما إذا لم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، ولم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر فهم دهريون -نسأل الله العفو والعافية- يجب مقاطعتهم وبغضهم لله، بل يتقرب ببغضهم إلى الله عز وجل.(4/14)
حكم الاستهزاء بالصالحين
السؤال
ما حكم من يستهزئ باللحى ويتهجم على الشباب المستقيم؟
الجواب
أيضاً دليل آخر على السؤال الأول قوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] أما الذي يستهزئ باللحى ويتهجم على الشباب المستقيم، فهؤلاء يخشى عليهم من النفاق، والمنافقون توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار، أما الذي يستهزئ باللحية فهو يستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمنافقون لما استهزءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم الله عز وجل: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ففيه شبه أو هو منافق إذا لم يتب إلى الله ويرجع ويقلع عن فعله هذا؛ لأن الذي يستهزئ باللحية، أو يستهزئ برفع الإزار أو يستهزئ بشرائع الإسلام، فهو يستهزئ بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان الذي يخاف العقوبة أن يقلع ويتوب إلى الله عز وجل قبل أن يهجم عليه هادم اللذات وهو على هذه الذنوب مصر فيحشر مع المنافقين والعياذ بالله نسأل الله العفو والعافية.(4/15)
توجيه من يريد الاستقامة
السؤال
أنا فتاة أريد أن أستقيم فما الذي تأمرني بفعله؟
الجواب
أسأل الله عز وجل أن يطهر قلبك، ويغفر ذنبك، ويثبتنا وإياك على قول الحق إنه على كل شيء قدير، فالاستقامة إذا أردتيها فهي واضحة وطريقها بيِّن ولله الحمد، ما عليك إلا أن ترجعي إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبتعدي عن طرق الغي والضلال، ابتعدي عن مشاهدات الأفلام والتمثيليات، وعن سماع الأغاني الماجنات، وابتعدي عن مجالس اللهو، وتقربي إلى الله عز وجل بكثرة النوافل، وبادري إلى أداء الفرائض بأوقاتها، ثم حافظي على النوافل وأكثري من قراءة القرآن إذا كنت تقرئين القرآن، وأكثري من ذكر الله ومن التسبيح والتهليل والتحميد ومن كثرة الاستغفار، فإن بهذه العوامل ينمو الإيمان ويزداد، وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه وجميع المسلمين والمسلمات إنه على كل شيء قدير.
وبقي جواب للأخت وهي: أني أنصحها نصيحة لله عز وجل ألا تخرج متبرجة في الأسواق، فإن المرأة إذا خرجت متبرجة لعنتها الملائكة حتى ترجع، ثم أنصحها نصيحة لله أن تبتعد عن الملابس الضيقة، وعن التشبه بالكافرات، وعن الملابس الشفافة والقصيرة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه يأتي صنفان من أهل النار لم يرهم صلى الله عليه وسلم وذكر من هذا الصنف: {نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يرحن رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}.
فأيتها الأخوات: أحذركنَّ من هذه الفتن التي ظهرت، والتي تلاطمت أمواجها، والتي أقبلت من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، سواء في المجلات أو في التمثيليات، أوفي المسلسلات أو في الأفلام، أحذرك أيتها الأخت من هذه الفتن التي أقبلت، سواء ما يعرض مع الدعايات التي تعرض كل ليلة على المسلمين أو غيرها، أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.(4/16)
زيارة من لا يصلي
السؤال
فضيلة الشيخ/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إني أحبك في الله، أنا شاب أبلغ من العمر عشرين سنة وعندي أصدقاء يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكن لا يصلون هل يجوز لي أن أزورهم أم لا، وإذا كانت زيارتي لنصيحتهم، فما الحكم في ذلك أفيدوني مأجورين؟
الجواب
أما الجواب لأخينا السائل الذي يبلغ من العمر عشرين سنة ويقول: إن له أصدقاء وأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر ولكنهم لا يصلون فهل أزورهم وأناصحهم أماذا أعمل؟
نقول لك: يا أخي! إن كانت زيارتك لهم تفيد ونصحهم يفيد؛ فزرهم ولكن لا تزرهم وحدك، بل زرهم برفقة بعض الإخوان الطيبين الذين يُؤَثرون عليهم، أما وحدك فأخشى عليك أن يفتنوك كما فتن غيرك من الإخوان، فأصبحوا يشربون الدخان وأصبحوا الآن يستمعون إلى الأغاني، وينظرون إلى الأفلام، وكانوا قبل ملتزمين ولكن لما خالطوا الأشرار أثروا عليهم وحسبنا الله ونعم الوكيل!(4/17)
الغرام بلعب الكرة
السؤال
أنا شاب مبتلى بحب الكرة إلى درجة الغرام مما يسبب لي تضييع الوقت في مشاهدتها ومتابعتها واللعب يومياً بعد العصر؟
الجواب
اعرض إيمانك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن كان إيمانك يزيد بكثرة اللعب فاستمر على اللعب، وإن كان إيمانك ينقص واللعب يبعدك عن الله وعن طرق الخير وعن مجالسة أهل الخير فأنصحك أن تقلع عن هذا، ولست مفتياً ولكن أوجِّه إلى الخير، أسأل الله التوفيق والسداد.(4/18)
مشاهدة المرأة التلفاز
السؤال
ما حكم مشاهدة المرأة للتلفاز ومشاهدة المباريات وتشجيعها؟
الجواب
المرأة لا يجوز أن ترى الرجال، وكذلك الرجل لا يجوز له أن يرى المرأة كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31] فالنظر سهم مسموم من سهام إبليس، النظر بريد الزنا نسأل الله العفو والعافية، النظر هو الذي يثير الشهوة في القلوب، فما الذي أخرج النساء، وما الذي جعلهن يضيعن الحياء إلا النظر إلى الرجل وإلى غيرهم من أفلام وتمثيليات، لما كانت المرأة مصونة لا ترى الرجال ولا يرونها كانت أشد حياءً من الآن، ولكن انظروا الآن مع الأسف الشديد لما أطلقت بصرها وصارت تنظر إلى كل شيء، صارت قليلة حياء إلا من رحم ربك، وأسأل الله عز وجل ألا يطيل هذا على المسلمين، فإنه إن طال هذا على المسلمين فإنه والله يبشر بعذاب أليم، يبشر بزوال النعم وحلول النقم إذا لم تنته عن هذه المنكرات، إذا لم نرجع إلى الله عز وجل، لماذا انقطعت عنا الأمطار؟ لماذا قلت البركات؟ لماذا ارتفعت الأسعار؟ لماذا كثرت الزلازل؟ لماذا كثرت العواصف والرياح؟ إلا بسبب الذنوب والمعاصي، ولكن هل نفكر بذلك يا عباد الله؟! أسأل الله عز وجل أن يوقظ قلوبنا من رقدات الغفلة حتى نرجع إلى الله عز وجل، وننهى عن المنكر ونأمر بالمعروف، ننهى عن المنكر ونبتعد عنه ونأمر بالمعروف ونفعله.
أيها الإخوة في الله: حافظوا على أبصاركم، وعلى أسماعكم، وعلى قلوبكم، فإنكم مسئولون عن ذلك، يقول الله عن ذلك: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].(4/19)
تأخير الزواج بحجة الدراسة
السؤال
ما رأيك فيمن يقول: لا أتزوج حتى أكمل دراستي وهو راغب في الزواج، ويخشى على نفسه من الفتنة؟
الجواب
هذا غاش لنفسه، وهذا لم يذق طعم الحياة ولم يذق لذة الحياة، هذا يريد أن يعذب نفسه بالعزوبة نسأل الله العفو والعافية، كما تفعل بعض الفتيات التي عذبت نفسها لتكمل دراستها وأصبحت الآن عانساً، وأصبحت عالة في بيت أهلها، نعم.
إذا تأخر زواج المرأة فمن يريدها، هل يأتيها شاب أصغر منها لا.
الشاب لا يريدها، ثم هي إذا أرادها الرجل الكبير قالت: لا أريده ثم المسكينة تذهب حياتها بين هذا وهذا، لا هي تزوجت في أول عمرها بشاب يصونها ولا هي قبلت بهذا الزوج الأخير الذي إن شاء الله يعفها بإذن الله، ولكنها غشت نفسها والعياذ بالله وأصبحت عانساً وعالة على أهلها، وهذا من عدم تدبير ولاة أمور الفتيات، وإلا لو كان الرجال عندهم رشد، وعندهم نصح لبناتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ومعنى الحديث: {من عال جاريتين رباهن وأقام بتربيتهن وإصلاحهن حتى يجعل الله لهن سبيلا كنت أنا وهو كهاتين في الجنة}.
لكن الذي يقول: أنا أريد البنت أن تدرس وتتوظف حتى آخذ حقي منها حق المصروف، أجل، ما بذلت لله، ما بذلت لوجه الله، لم تبذلت للأجر يا مسكين! حتى إن بعض الرجال لمَّا خُطِبَ منه ابنته قال: نعم أزوجك ولكن أريد أن آخذ مرتبها من البنك أنا، ولا لك دخل بهذا، الله أكبر أين الغيرة؟ أين حب الخير لبناتكم يا عباد الله؟!
بنت كبيرة مرضت بلغت من العمر تقريباً أربعين سنة ولما أتى أخوها يزورها في المستشفى قال: سلامات سلامات، والتفتت وأعطته جنبها، وقالت: أخي أسأل الله ألا يبيحك، وأسأل الله أن يحرمك من الجنة كما حرمتني من لذة الزواج، وكما جعلتني أموت بدون أولاد، وأصبح والحسرة تقطع قلبه، وأصبح يطرق أبواب العلماء ماذا أعمل ماذا أفعل ماذا وماذا، فحينئذ لا ينفع الندم، وماتت المسكينة وهي تلفظ آخر أنفاس الحرج على أخيها، الله أكبر يا مسكين! فيا أخي! هذه خير لها، أن تزوجها تبحث عن زوج صالح، تتعاون معها -لأنها امرأة- وتنصحها، وتدلها على الخير، تخبرها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والله سوف تكون فتنة وفساد كبير إن استمر الناس على هذه الحالة، فالمرأة تريد زوجاً فلديها شهوة، والشاب يريد زوجة ولديه شهوة، فإذا ثارت هذه الشهوة من هذا وهذه الشهوة من هذه؛ فإنها سوف تكون حرباً شعواء وفساداً كبيراً في الأرض، فاعتبروا بالمجاورين اعتبروا بمن حولكم يا عباد الله! زوجوهم وأعينوهم عليهن، ابذلوا لهم نصف المهر ليكفلها ليأخذها رجل صالح، حتى إذا أتاك الأجل وإذا أنت مطمئن ومرتاح أن ابنتك أو أختك عند رجل صالح، وفقني الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
أيها الأخ السائل: بادر إلى الزواج إن كنت تستطيع، وإن لم تبادر وأنت تستطيع فأخشى أن تكون قد عصيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقول: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فبادر للزواج وسوف تحمد عقباه بإذن الله تعالى، وسوف تكون لك عوناً على دينك وعلى دراستك إن اخترت فتاة دينة.(4/20)
حب الغناء ومشاهدة الأفلام والمسلسلات
السؤال
قد مَنَّ الله علي بالهداية ولله الحمد، ولكن ما زال حب الغناء في قلبي وكذلك مشاهدة المسلسلات وأشرطة الفديو الخليعة، فهل أعتبر منافقاً أم ناقص الإيمان؟ أرشدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
الله المستعان! الإمام مالك يقول: الغناء لا يستمعه إلا الفساق، والإمام أحمد رحمه الله يقول: الغناء لا يعجبني فإنه ينبت في القلب النفاق، ويقول بعض العلماء: الغناء بريد الزنا، والغناء رقية الزنا، فيا عبد الله! إن كنت صادقاً في قولك وقد من الله عليك بالهداية فالزم الهداية، ومن الهداية أن تبتعد عن طريق الغواية، وطرق الغواية في كل الذي ذكرت يا أخي! في الأغاني وفي التمثيليات وفي المسلسلات، أسأل الله أن يطهر قلوبنا وقلبك، وأن يمحص ذنوبنا وذنبك وأن يغفر لنا ولك إنه على كل شيء قدير.(4/21)
أسباب زيادة الإيمان
السؤال
أرجو أن تدلني على ما يزيد إيماني ويثبته، فمغريات هذا العصر وفتنته كثيرة وأخشى من الانحراف؟
الجواب
الذي يزيد الإيمان قد ذكرته لأختك المسلمة التي سألت قبل قليل عن السؤال، الذي يزيد الإيمان كما قال العلماء: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وإذا أردت ذلك فابحث عن مجالس الذكر؛ فإنها تنمي الإيمان في القلب، فهي رياض الجنة، وأكثر من قراءة القرآن، ومن ذكر الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ومن الاستغفار، {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} وأكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا صليت عليه مرة صلى الله عليك عشر مرات.
وبادر إلى أداء الفرائض وحافظ على الصف الأول كما حث على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، معنى الحديث: لو يعلمون ما فيهما من الأجر لجعلوا بينهم القرعة، فيقفون عند الأبواب ويختصمون أيهم الذي يدخل الأول، لكن ما يعلمون ما فيها من الأجر، الله غيَّب هذا الأجر، وسوف يكشفه الله يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون، فالبدار البدار إلى طاعة الله عز وجل! والابتعاد عن جلساء السوء، وعن قرناء السوء عن الأشرار، ثبتنا الله وإياك على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(4/22)
شراء ثوب بربع الراتب
السؤال
أنا موظفة وراتبي في الشهر أكثر من ستة آلاف ريال، أرغب في شراء ثوب بألف وخمسمائة ريال ما الحكم في ذلك؟
الجواب
الحكم لا يجوز، وما الذي أحل الثوب بألف وخمسمائة ريال، لو تلقاه العنزة أكلته -نسأل الله العافية- فينبغي لك أن تتقي الله عز وجل، وألف وخمسمائة ريال تدفعيها إلى أحد الفقراء يشتري بها عشرين ثوباً أو أربعين ثوباً، أو يشتري له بطانيات، أو ربما يدفعها إيجار شهرين، أما ألف وخمسمائة ريال ويخلولق ثم يرمى في الزبالة، فهذا وبال عليك، فاتقي الله واقتصدي، أسأل الله أن يدلني وإياكِ على الصواب إنه على كل شيء قدير.(4/23)
سبب انحراف بعض المجتمعات
إن الناظر بعين البصر والبصيرة في أحوال المجتمع الإسلامي ليأخذه الأسى مأخذاً بعيداً، وذلك بسبب ما حل بالأمة الإسلامية من فتن وبعد عن الله سبحانه وتعالى وانحراف عن منهجه.
فما هي أسباب الانحراف؟ وما هي عاقبته؟ وما هو الواجب علينا نحو هذا الانحراف؟
كل هذا ستجده في طيات هذا الموضوع.(5/1)
عاقبة الإفساد في الأرض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
عباد الله: اسمعوا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت فقال صلى الله عليه وسلم: {بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا} لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأيضاً يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً} يخاطب الصحابة رضي الله عنهم، في القرن الأول، في القرون المفضلة التي هي خير القرون بعد نبيها صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور -وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر هذه الأزمنة المتأخرة ويحذر منها- فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} وفي رواية النسائي {وكل ضلالة في النار} نعوذ بالله من النار.
والله عز وجل يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
نعم.
أيها الإخوة في الله فالله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن وبعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأرسله ليخرج العباد من الظلمات إلى النور، فمن أخذ بهديه صلى الله عليه وسلم فقد نجا وأفلح، ومن أعرض فقد خاب وخسر، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله! -لا يوجد أحد لا يريد الجنة، هل هناك أحد لا يريد الجنة؟ لا يوجد أحد، لكن نسأل الله العفو والعافية- قال: إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى} الله أكبر، فالله سبحانه وتعالى أرسل إلى من قبلنا من الأمم الرسل، وأنزل أيضاً معهم الكتب، فبينوا للأمم فاستجاب من استجاب وعصى من عصى، وأعرض من أعرض، وكان عاقبة من أعرض وعصى وخيمة شديدة.
أيها الإخوة في الله: يقول الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94 - 95] ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99].
هذه إنذارات من الله عز وجل، إنذار يا أمة الإسلام: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
الله أكبر، أيها الإخوة في الله! أما سمعنا أن أقواماً أتاهم الزلزال في ضحى من النهار، وذهبت فيه عدة قرى؟!
أما سمعنا بعدة فيضانات أغرقت الكثير من الناس؟!
أما سمعنا بأعاصير شردت الكثير من الناس وتركتهم بدون مأوى وبدون أكلٍ وشرب، فرقت بين الوالد وولده، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته؟!
ماذا نسميها في هذه الأزمنة التي طغى فيها علم الإلحاد (علم الطبيعة) نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
نعم.
كل هذه لا يعترف بها كثير من الناس، لا يقول هذه عذاب من الله، وقد عذب الله بها أمماً من قبلنا، وهذه إنذارات للأمة الإسلامية لما يحصل لمجاورينا.
أيها الإخوة في الله، إنها إنذارات لنا يا عباد الله.(5/2)
أسباب انحراف المجتمعات
وأسباب انحراف بعض المجتمعات ولا حول ولا قوة إلا بالله كثيرة منها:(5/3)
البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه
أولاً: بُعد الناس عن تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، هذا من أسباب انحراف كثير من المجتمعات وبعدهم عن الإسلام، وعن آداب الإسلام، وعن أخلاق الإسلام، وعن تعاليم الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/4)
التشبه بأهل الكفر
ثانياً: أيضاً من أسباب انحراف بعض المجتمعات: تقليد أهل الشرق والغرب، تقليد الإفرنج الذي نهانا صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وهذا هو التشبه الذي وقع فيه كثيرٌ من الناس الآن سواء في منازلهم، أو في مآكلهم، أو في مشاربهم، أو في لباسهم، أو في كلامهم، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/5)
البدع والمحدثات
ثالثاً: من أسباب انحراف بعض المجتمعات فتح الأبواب والقلوب لتقبل البدع والمحدثات التي غُزي بها الناس من قبل أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، والمصيبة إذا كانت في العقائد من طريق الشعوذة، أو الخزعبلات، أو السحرة، أو الكهنة، أو المنجمين، الذين من أطاعهم فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن صدَّقهم فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن والسنة، فأي انحراف أشد من هذا يا عباد الله.(5/6)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رابعاً: من أسباب الانحراف ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمثلاً في البيوت تجد بعض الآباء يرى الأولاد بنين وبنات لا يعرفون الصلاة، فلا يأمرهم ولا ينهاهم، وأدخل عليهم آلات اللهو التي أضلتهم عن الطريق المستقيم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أدخل عليهم هذه الآلات التي تعلم السرقة، وتعلم الغزل، وتعلم الحب وتنشئ الطفل من صغره حتى يهرم على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(5/7)
ترك الصلاة
خامساً: من أسباب الانحراف: ترك الصلاة يا عباد الله وهذا انحراف ليس بعده انحراف، وترك الصلاة كفر والعياذ بالله، كما قال صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} والعياذ بالله، ويقول -أيضاً- صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة}.
نعم.
أيها الإخوة في الله، كم نسمع فلاناً وفلاناً لا يصلي ولا يعترف بالصلاة، وزيادة على ذلك يقف ويعلم أولادنا، يقف معلماً يعلم الأولاد وهو لا يصلي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأين التعاون على البر والتقوى حتى نرفع بهذا حتى لا يعلم أولادنا، وهو لا يعرف المساجد، وهو لا يعرف الصلاة، أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند البعض من الناس؟!(5/8)
التنكر للدين
سادساً: من أسباب انحراف بعض المجتمعات تنكر أولاد المسلمين -سواء ذكوراً أو إناثاً- لهذا الدين، هذا الدين الإسلامي الذي قال الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] تنكر البعض لهذا الدين، الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ما هذا التنكر الذي حصل من بعض الأولاد البنين والبنات، والمصيبة الذين اعتادوا الذهاب إلى الخارج، أتدرون ما هذا التنكر؟
إنهم رموا هذا الدين بالرجعية، وقالوا: هذا دين قديم، دين رجعية ولا يصلح لعصرنا، فتنكروا لدينهم، نسأل الله العفو والعافية ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأي انحراف أكبر من هذا أيها الإخوة في الله؟!
وإذا رأوا المتمسك بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا متجمد، هذا متزمت، هذا رجعي، هذا ليس باجتماعي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما أسهل الرجعة إلى الطريق المستقيم أيها الإخوة في الله، فالحق واضح ليس عليه غبار، ويجب علينا أن نرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(5/9)
استقدام الأجانب للخدمة والإهمال في المراقبة
سابعاً: من أسباب انحراف بعض المجتمعات: استقدام السائقين والمربين والمربيات والخدم والخادمات، وترك الحبل لهم على الغارب في البيوت، وهذه مصيبة كبيرة، ولا يحس بها إلا من كان في قلبه إيمان، أما الذي ليس في قلبه إيمان فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله أن يشفي مرض قلبه، وأن يرده إليه رداً جميلاً إنه على كل شيء قدير.
وتجد في بعض المجتمعات يدخل السائق على النساء وهن جالسات وكأنهن له أخوات أو أمهات، فأين الغيرة يا عباد الله؟! لقد ضاعت الغيرة في كثير من الناس، فنسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً.(5/10)
الأفلام الخليعة
ثامناً: من أسباب انحراف بعض المجتمعات: وجود الأفلام الخليعة في البيوت، الله أكبر وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم} يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ثم يقول سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء الفيديو ورأينا ما فيه من البلاء -أيضاً- ننتظر إلى ما هو أدهى وأمر، وهو البث المباشر الذي نسأل الله العظيم رب العرش العظيم ألا يتمم لهم ذلك، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
اللهم يا علي! يا عظيم! يا حليم! يا عليم! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أجعل بثهم المباشر في نحورهم، اللهم دمره تدميرا، اللهم دمره تدميراً، اللهم لا تتم لهم ذلك يا رب العالمين، إنك حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الإخوة في الله إن وجود الأفلام الخليعة في البيوت، مصيبة عظمى، ولقد سمعتم أيها الإخوة في الله بالقصة التي ذكرها بعض الثقات في بعض الأشرطة أن رجلاً كان من الأثرياء، وكان إذا أراد أن يجامع زوجته أشغل آلة التصوير -تصوير الفيديو- حتى يصور حالته وحالة زوجته وهو يجامعها، وفي يومٍ من الأيام كانت جارتها في البيت أو القريبة منها قد استعارت منها شريطاً وطلبت منها هذه الجارة الشريط، وبسرعةٍ أخذت ذلك الشريط الذي كان فيه الشر والعار والشنار، والشر المستطير الذي كان فيه المرأة هي وزوجها يجتمعون، ولا شك أن المرأة وزوجها في حلال؛ ولكن كيف يستره الله ويفضح نفسه بين العالمين، أتدرون ماذا حصل من هذا الشريط لمّا ناولته جارتها بسرعة؟ إذا بذلك الشريط ليس بالشريط الذي أعارته إياها، إنه الشريط الذي تجتمع فيه هي وزوجها، ولما شغلت الشريط بين زوجها وإذا فيه لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: هذا أبو فلان، قالت: هذا أبو فلان، تقول الزوجة: هذا أبو فلان، يقول الزوج: هذا أبو فلان، تقول: هذا أبو فلان، وهذه زوجته، فما الذي حصل بعد ذلك؟
هذا الرجل الذي كان يعمل هو وزوجته وتسبب في تسجيل هذا الشريط اطلع على هذه الفضيحة التي علم بها من علم، فآل به الأمر أن يؤدي بنفسه إلى الانتحار -والعياذ بالله- فقتل نفسه.
إيه نعم.
هذه هي أسباب الأفلام الخليعة، وهذه من جرائها، وهذا من تعاليمها التي دخلت على البيوت.
يا أخي! حتى لا تخجل كيف تعمل هذا، أو كيف تشغل هذه الآلة الخبيثة بين الأطفال، لا حول ولا قوة إلا بالله، أما علمت أنك مسئول أمام الله يوم القيامة عن هذه المرأة، يقول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}
نعم.
هذه المرأة إذا خرج الزوج واطّلعت على هذه الأفلام الخبيثة واشتعلت عندها نار الشهوة، ماذا تعمل؟
إنها سوف تبحث في الأرض؛ لتسعى في الأرض فساداً -والعياذ بالله- والسبب الزوج الذي أتى بهذه الأفلام الخليعة في بيته، فنسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.
الفيديو وما أدراك ما الفيديو! لقد أتانا بشر مستطير، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الإخوة في الله: إن الله سبحانه وتعالى قص علينا في القرآن ما حصل في الأمم من قبلنا، لما عتوا وعصوا الله عز وجل، فهذا أبونا آدم عليه السلام أُخرج من الجنة بذنب هو وزوجته حواء، نهاهم الله عن الشجرة فأكلا منها فأهبطهما الله إلى الأرض بسبب هذه المعصية.
نعم.
وهذا إبليس لما تكبر؛ طرده الله من ملكوت السماوات والأرض، فبعد أن كان من المقربين صار طريداً شريداً ملعوناً قواداً لكل شرٍ -والعياذ بالله- وفي آخر المطاف يجتمع في جهنم هو ومن دعاهم فاستجابوا لدعوته، نسأل الله أن يعيذنا من الشيطان الرجيم إنه على كل شيء قدير.
وذكر لنا رب العزة والجلال قوم نوح لما انحرفوا وابتعدوا عن الطريق المستقيم، وأبوا أن يجيبوا نوحاً عليه السلام، أبوا أن يجيبوا دعوته عليه السلام، وقد مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، ولم يستجيبوا لدعوته، فعند ذلك أغرقهم الله سبحانه وتعالى؛ حتى علا الماء رءوس الجبال وأغرقهم الله سبحانه وتعالى، ولم ينجِّ إلا نوحاً ومن آمن مع نوح.
أتدرون ما سبب انحراف قوم نوح؟
ذكر البخاري رحمه الله: أنهم كان عندهم أناس صالحون فأخذوا لهم صوراً وقالوا: نتذكرهم وإذا رأينا هذه الصور نتذكر عبادتهم ونتقوى على العبادة، ومات الذين أخذوا هذه الصور وأتاهم الشيطان وهذه الصور موجودة قال لمن بعدهم إن أولئك لم يصوروا هذه الصور إلا أنهم إذا أصابتهم مصيبة أو قحطٌ أو غير ذلك لجئوا إلى هذه الصور واستغاثوا بها فعند ذلك دخل الشرك إلى قوم نوح عن طريق الصور والتماثيل.
والآن يوجد في البيت صور محنطة لطيور ولحيوانات ولغيرها، وصور -أيضاً- مكبرة فلأي شيء هذه الصور يا إخواني في الله؟ أتدرون أنها تطرد الملائكة؟ وإذا طردت الملائكة حلت بعدها الشياطين والعياذ بالله، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعنة الله على المصورين} ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: {أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون} فتيقظ -يا أخي- من رقدتك! وتب إلى الله عز وجل، وأخرج هذه الصور من بيتك، وتب إلى الله، فباب التوبة مفتوح، فبادر قبل أن يأتيك هادم اللذات، عند ذلك لا تستطيع التوبة، ولا تستطيع الرجوع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيضاً ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن قصة ثمود، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل عليهم الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؛ لأنهم عصوا الله وعصوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن أمة من الأمم انحرفت انحرافاً لم تنحرف قبلها أممٌ بمثل هذا الانحراف ألا وهم قوم لوط، نسأل الله العفو والعافية، كانوا يأتون الذكران من العالمين، الذكور يركب بعضهم بعضاً، اللواط الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به} نسأل الله العفو والعافية.
أتدرون ما هي العقوبة التي أرسلها الله على هؤلاء القوم الذين أرسل الله إليهم لوطاً عليه السلام فلم يستجيبوا لدعوته؛ بل قابلوها بالامتناع وقابلوها بالاعتراض حتى أنهم أرادوا أن يؤذوا الملائكة؟ لكن الله سبحانه وتعالى منع ذلك عنهم وخرج عليهم جبريل عليه السلام، وضربهم بجناحه حتى اختلطت الأبصار بوجوههم، نسأل الله العفو والعافية، والمهم أن الله سبحانه وتعالى أمر جبريل عليه السلام -وجبريل له ستمائة جناح- أن يقتلع ديارهم ويرفعها حتى سمع الملائكة صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها عليهم -والعياذ بالله- لماذا؟ لأنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، فتنوا بأدبار الرجال، فتنوا بمحل الحش نسأل الله العفو والعافية.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [[اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً]] والعياذ بالله، فهذه عقوبة ما أشدها!
لما قلب عليهم ديارهم أرسل عليهم حجارةً من سجيل، وأصبحت ديارهم بحيرة منتنة لا يستفاد منها، فهذه عقوبتهم أيها الإخوة في الله، ثم قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] يعني الذين يعملون عمل قوم لوط نسأل الله العفو والعافية، علينا أيها الإخوة في الله أن ندعو إلى الله عز وجل، وأن نبين مضار هذه الجرائم، وندعو إلى الله عز وجل، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وكذلك نحافظ على الأولاد والأبناء، ونسألهم أين ذهبت؟ من ترافق؟ من تخالل؟ من تصاحب؟
نعم.
فإن قرناء السوء كثير، أيها الإخوة في الله، فكم أغروا من شاب كان طيباً وملتزماً وكان ذا عقلٍ، ولكن -نسأل الله العفو والعافية- بمجرد ما صحب أولئك الأشرار صار سكيراً شريراً عربيداً -والعياذ بالله- ومن أراد أن يصدق هذا فليزر تلك المحلات الآن التي هم فيها، نسأل الله العفو والعافية، كل هذا بسبب إهمال الآباء، فالآباء أكثرهم مهملٌ لأولاده لا يسأل عنهم أين ذهبوا وأين أتوا؟
وتجد بعض الناس يتصل به رجال الشرطة أين ابنك؟
يقول: والله لا أدري، له ثلاثة أيام أو أربعة أيام لا أدري والله أين ذهب.
كيف لا تدري عن ولدك؟
أما علمت أنك مسئول عنه يوم القيامة؟
سوف يقف بين يدي الله يخاصمك، فتقول: أتيت بالطعام والشراب والملابس وأمّنتُ له المسكن، فيقول: نعم، ولكن رآني على المنكر ولم ينهني ولم يأمرني بالمعروف، فأنت مسئول عن هذا الابن.
نعم أيها الإخوة في الله فالله سبحانه وتعالى أخبرنا بما أنزل على الأمم التي سلفت من العقوبات.(5/11)
المخدرات
تاسعاً: فكذلك أيها الإخوة في الله من أسباب الانحرافات كثرة المخدرات، وهذه هي التي يعاني منها كثيرٌ من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد سمعنا في بعض البلاد أن النساء تروج المخدرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: انتشار المخدرات في أي مجتمع يؤدي إلى تدمير المدمنين صحياً وبدنياً وذهنياً، ويقود ذلك أيضاً إلى الموت، وبالتالي لا يستطيع مثل هؤلاء المدمنين القيام بالأعباء الأسرية الملقاة على عواتقهم؛ مما يؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة لتلك الأسر، وانتشار الفقر والجهل والأمراض، وبالتالي يحتاج المدمنون إلى أموالٍ يتحصلون بها على تلك المخدرات والمسكرات، وبذلك تنتشر الجريمة والفساد الأخلاقي، والسرقة والنهب، وجرائم هتك الأعراض وغيرها.
ولماذا تحصل هذه؟ لأن المدمن صار مسعوراً لا يرتاح حتى يحصل على هذه المخدرات والعياذ بالله، فعند ذلك يؤل به الأمر إلى السرقة، أو أن يبيع عرضه والعياذ بالله، فينبغي لنا أن نتواصى بالحق كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] فبأي شيء يأتي التواصي بالحق؟
هل هو في المجالس إذا جلسنا قلنا: فلان بن فلان سكير؟ فلان بن فلان يسكر؟ فلان بن فلان يروج المخدرات؟ هل هذا هو المطلوب؟
لا.
المطلوب إما أن نناصحه ونبذل النصيحة لله سبحانه وتعالى أو نرفع به إلى ولاة الأمور حتى يقطع دابر هذا الشر، وهذا الفساد أما إذا تركنا ذلك فهو ينتشر في البلاد ويؤدي إلى سوء الحال والمآل نسأل الله العفو والعافية.(5/12)
نسيان الموت
عاشراً: من أسباب الانحرافات أن الكثير من الناس نسي الموت، فصار يهيم في هذه الدنيا ولا يفكر أنه سوف ينتقل منها على رغم أنفه: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29] نعم إن الموت آتٍ لا محالة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] هذا كلام الله عز وجل في القرآن، فإذا قرأنا القرآن وتدبرنا معانيه وجدنا أن القرآن يحضنا لاغتنام العمر بالأعمال الصالحة، وإلا سوف ننتقل من هذه الدنيا على شر حال والعياذ بالله قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ثم بعد الموت أيها الإخوة في الله ينتقل الإنسان إلى دار البرزخ، ودار البرزخ معروفة والذي ينكر ذلك فهو كافر والعياذ بالله، إما في نعيم وإما في جحيم، إما في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من فر النار قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [آل عمران:196 - 198] الله أكبر! هذا الفرق يا عباد الله! {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198].(5/13)
الغفلة عن الآخرة
الحادي عشر: من أسباب الانحراف هو أن الناس أعرضوا عن تذكر الآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة} إذا تذكر الإنسان الآخرة وتذكر أنه سوف ينتقل من هذه الدنيا، وسوف يوقف بين يدي الله عز وجل، وسوف يحاسب على القليل والكثير هل يحصل عنده هذا الانحراف؟ لا.
ولكن لا يحصل عنده الانحراف إلا إذا وجدت الغفلة وكثرة الشهوات، كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] نسأل الله العفو والعافية.
سبحان الله! هذا نتيجة الإعراض عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
أكبر سبب للانحراف هو الإعراض عن طاعة الله قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
لذلك بعكس الانحراف وهو الإقبال على الله عز وجل، والتمسك بطاعة الله والالتزام بطاعة الله، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها} الله أكبر، لا إله إلا الله {ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه} الله أكبر أيها الإخوة في الله، فرق بين هذا وذاك ولكن كما يقول الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
أيها الإخوة في الله: إذا أردنا أن نعيش في هذه الحياة عيشة طيبة، فعلينا أن نرجع إلى الله عز وجل، وإذا جلسنا في المجالس فلا نتلاوم، نقول: مكان كذا صار فيه زلازل، مكان كذا صار فيه فيضانات، مكان كذا صار فيه رياح مدمرة، أولاً قبل أن نتحدث بهذه الأشياء نرجع إلى أنفسنا، ونحاسبها، بأي شيءٍ أصيبت هذه الأمم، بهذه الأنواع من عذاب الله سبحانه وتعالى، والله لم تصب إلا بسبب انحرافها وبعدها عن الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] صدق الله، وما ربك بظلام للعبيد، وليس بين الله وبين خلقه نسب كما قال صلى الله عليه وسلم: {من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}.
فمن أطاع الله سبحانه وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فاز وسعد في الدنيا والآخرة، ومن أعرض وعصى فيا لها من عقوباتٍ ما أشدها يا عباد الله! ولكن متى يتذكر هذا المعرض عن الله عز وجل، أيتذكر عندما يرى جهنم؟ -والعياذ بالله- قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} [الفجر:23] قال الله تعالى: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23].
لا يمكن الآن التذكر، ذهبت الدنيا دار العمل، هذه الدنيا التي أيامها قليلة خلقنا فيها للابتلاء؛ لنعمل الصالحات فمن عمل صالحاً فلنفسه، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(5/14)
لابد من محاسبة الإنسان لنفسه
نعم.
نحاسب أنفسنا أيها الإخوة في الله، لأن بعض الناس إذا نهيته عن شيءٍ قد ارتكبه يعارض ويقول: التقوى هاهنا، يضرب صدره الله المستعان! ويقول: التقوى هاهنا، وبعض الناس تقول له: يا أخي! صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء يقولون: إن حلق اللحية حرام، مستدلين يقوله صلى الله عليه وسلم: {أكرموا اللحى، وفروا اللحى، أرخوا اللحى، أعفوا اللحى، لا تتشبهوا باليهود والنصارى} هكذا يقول صلى الله عليه وسلم: {ليس منا من تشبه بغيرنا} وقال: {من تشبه بقوم فهو منهم} ثم يقول: لقد سمعنا المعلم الفلاني، يقول: أنها سنة، إذا تركتها تثاب عليها وإذا حلقتها لم تعاقب، نقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: قال المعلم الفلاني مع الأسف الشديد والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] انتهوا مباشرة، يقول: فإذا نهاكم الرسول عن شيء فانتهوا وابتعدوا.
نعم تجد بعض الناس تقول له يا أخي! الإسبال حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، اسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم؟ خابوا وخسروا يا رسول الله! من هم، يكررها ثلاث مرات، وذكر منهم صلى الله عليه وسلم: المسبل} وفي رواية: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} ثم يأتي بعض الناس، ويقول: لم أجره خيلاء، ولا إسبال، إنما أريد زينة، ونقول له: الزينة للنساء هن اللواتي أُمرن أن يرخينه شبراً، ولكن عكس الأمر فبعض الناس ترك المرأة تذهب إلى الخياط، ويفصل عليه الثوب القصير، أو يشق الثوب من الناحيتين أو يشقه إلى الفخذين مع الأسف الشديد، وصار بعض الرجال يسحب ثوبه، وإذا قيل له، قال: ما أجره زينة ولا خيلاء، نقول له: اسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار} هل لك طاقة يا عبد الله على النار؟! ما هذه النار؟ أتظن أنها هذه النار التي تراها في الدنيا؟ لا.
اسمع وصفها، قال تعالى: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فيا أيها المسلم: انتهِ عن الإسبال واتق الله واتبع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس تقول له: يا أخي! اتقِ الله لماذا تقضي هذا الوقت في غير طاعة الله؛ لأن بعض الناس قد فتنوا بلعب الورقة وهي البلوت والكنكان، ومع الأسف الشديد والله المستعان، يقول: والله أنا أحب أن أصلي الفجر، ولكن لا أستطيع أن أقوم، نقول له: ماذا تعمل يا عبد الله، ما هو منهجك في هذه الحياة؟ يقول: إذا انتهيت من العشاء -لا ندري هل يصلي أو لا يصلي- أذهب إلى الشلة وأجلس معهم فيلعبون البلوت والكنكان إلى وقت النزول الإلهي ولا نقوم حتى تسقط الورقة من أيدينا، فإذا انتهينا من هذه الورقة، وإذا نحن جيف والعياذ بالله، يقول: نحب أن نصلي الفجر ولكن لا نستطيع، ماذا تعمل؟ قال هذا عملنا؟ نسهر طول الليل مع البلوت والكنكان، نسأل الله العفو والعافية، ولقد صدرت فتوى -وبعض الناس لا يحب هذا الكلام أنا أعلم أنه لا يحبه، لكن أنا سوف أجيبه بالذي سمعناه ويلزم علينا أن نقول له هذه؛ لأننا مسئولون عنها يوم القيامة؛ لأن بعض الناس لم يسمع هذا، وأنا أخبر أن بعض الناس لم يسمع- فقد صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء: أنه يحرم اللعب بالورق، وإن كان على غير عوض، لماذا؟ لأنها تصد عن ذكر الله، وهي تقضية للوقت في غير ذكر الله عز وجل، وأنت يا أخي مسئول عن هذا الوقت.
وبعض الناس يقول: أنا والله قتلني الفراغ، يحسب إنه مخلوق لهذه الدنيا يأكل ويشرب وينام، ولا يدري أنه سوف يموت وينتقل إلى هذا القبر، والقبر صندوق العمل، إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، ثم إذا كان يوم القيامة تعرض عليه هذه الصحف التي أمضاها في الحياة الدنيا، هذه الخزائن تفتح له يوم القيامة، فإن وجد فيها خيراً، فعند ذلك يحمد الله وإن وجد عليها غير ذلك فترى الكآبة والحزن والهم والغم والعياذ بالله، فما بالك لو عرضت عليك هذه الصحائف يوم قضيته مع البلوت والكنكان ويوم مع الأفلام ويوم مع التمثيلية، ويوم مع الأحاديث الفارغة، لا تجد في هذه الصحائف كلمة تستفيد منها ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقولون: قتلنا الفراغ، أتدري أيها الإنسان لماذا خلقت؟
اسمع لماذا خلقت، اسمع لماذا خلقك الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] الله أكبر، لا ليلعبون فلذلك يقول الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:42 - 44].
ياله من يوم عظيم إذا فتحت فيه تلك الخزائن يا عبد الله، أتظن أنه مغفول عنك؟ لا والله ما غفل عنك يا عبد الله، تذكر الذي عن اليمين، والذي عن الشمال، هذا يكتب الحسنات، وهذا يكتب السيئات، تذكر ذلك يا عبد الله، إذا تذكرت أن عليك ملائكة يكتبون، هذا يكتب الحسنات وهذا يكتب السيئات؛ فعند ذلك لعلك ترتدع عن قضاء الوقت فيما يغضب الله عز وجل، فابتعد عما يغضب الله وبادر إلى طاعة الله عز وجل، وأدِّ ما أمرك الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكرت لك الحديث القدسي الذي قال الله فيه: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} أتدري ما هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نعم.
أنا أخبرك بذلك وإن كنت أكرر ذلك في كل جلسة، {هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها}.
الله أكبر، الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الحديث وينام مبكراً ليستيقظ مبكراً؛ ليحظى بالوعد الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: {ينزل ربنا جل وعلا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟}.
فأين أنت يا عبد الله! في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم، يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه.
الله أكبر!
كيف نضيع هذا يا عباد الله؟!
كيف نضيع هذا يا أمة الإسلام؟
أين العقول؟
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، إنه على كل شيء قدير.
وأقول للذي يترك الزوجة والبنت والأخت مع السائق، وإذا قيل له من بعض الناس: إنا نرى من السائق بعض المخالفات مع أهلك إذا رضي بذلك، فأقول له: احذر أن تكون ديوثاً؛ لأن الديوث حرام عليه الجنة، والديوث: هو الذي يرضى في أهله الخبث -نسأل الله العفو والعافية- وتجد بعض الناس يقال له: لقد رأينا الزوجة مع السائق، قال: بس أم فلانة عارفها أنا، أم فلانة خبز يدي، أنا أعرفها، كيف تقولون كذا وكذا، طيب البنت الأخت قال: كل شي لا تكلمني أنا أعرف الأولاد وأعرف أهلي، فهذا -نسأل الله العفو والعافية- إذا رضي بهذا فهو ديوث، والديوث حرامٌ عليه الجنة، فنسأل الله أن يوفقنا لنغار على محارمنا، ونسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغفلة وأن يهدينا إلى ما يحبه ويرضاه.
وكذلك أقول لكم: لا تنسوا الأولاد عن أمرهم بالصلاة، وقد قلت لكم في بداية الكلام أن من أسباب انحراف بعض المجتمعات ترك الآباء أولادهم ترك الحبل على الغارب، فلا يأمرهم بالصلاة ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر والعياذ بالله، فهذه أمانة ائتمنك الله عليها، واسمع ماذا قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وبعض الآباء إذا قام الفجر يغطي الولد، يقول: باسم الله عليك وفتح له المكيف يحسب إنه يرحمه -وهذا المسكين لا يعرف أنه غشه، وسوف يمسك على ناصيته يوم القيامة بين يدي الله ويقول: يا رب ظلمني أبي- باسم الله عليك، ثم يمضي من الوقت نصف ساعة إلا ويقول: قم يا وليدي المستقبل أمامك، قم المستقبل أمامك، مستقبل الدنيا.
والآخرة لا.
الآخرة باسم الله عليك يغطيه في البطانية ويفتح له المكيف، خليه يتلذذ في نومه، سبحان الله العظيم! إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله!!
فنقول: احرصوا على الأولاد جزاكم الله خيراً، ونسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى إنه على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأعتذر عن الإجابة عن الأسئلة؛ لأني لست من أهل الفتوى، والحمد لله العلماء كثير، فينبغي لكم أن تعرضوا عليهم أسئلتكم، أما نحن فاسمحوا لنا جزاكم الله خيراً.
فأقول سبب بعض الانحرافات هو الغفلة والابتعاد عن كتاب الله عز وجل وهذا لا شك فيه، ولقد قرأت قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] ولا شك أن الإعراض عن كتاب الله سبحانه وتعالى من أسباب انحراف المجتمعات، فعلينا أن نرجع إلى كتاب الله وأن نهتم بقراءة القرآن والحمد لله الآن مدارس تحفيظ القرآن انتشرت، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم بالعلم النافع، إنه على كل شيء قدير.
فالقرآن أيها الإخوة في الله! لو يعلم الأب ما له من الكرامة والأجر لحرص على ابنه، ويوم القيامة يلبسان تاجين، ويقولان: من أين لنا هذين؟ فيقال: بسبب تعليمكما لابنكما القرآن، أو كما ورد في الحديث، والمهم أن معنى الحديث أنه بسبب تعليم ابنك القرآن في الدنيا أن الله يلبسك تاجاً يوم القيامة فهل أحد لا يريد هذا التاج؟
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، ويجنبنا ما يبغضه ويأباه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(5/15)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات هذا الدين، وبه يقوم، ومن هنا تظهر أهميته، ولابد فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، وقد تحدث الشيخ في هذا الدرس عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أنه لابد أن يكون معه الحكمة والموعظة الحسنة.
وذكر صوراً لذلك.(6/1)
التذكير بنعمة الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103].
بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً.
أيها الإخوة في الله: علينا أن نتذكر هذه النعمة التي حبانا الله بها؛ إنها نعمة الإسلام, قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] يا لها من نعمة! جمعت بين الناس جميعاً؛ وهذا بفضل الله ثم بفضل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله إلى الناس جميعاً ليخرجهم به من الظلمات إلى النور.
فاعرفوا هذه النعمة -نعمة الإسلام- وقدروها حق قدرها, ثم اعرفوا فضل هذا النبي الأمي الذي ختم الله به الأديان, ونسخ به جميع الأديان, قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ثم أخبر الله جل وعلا أنه لا يقبل يوم القيامة -يوم لا ينفع مال ولا بنون- إلا هذا الدين الإسلامي، فلا يقبل الله ديناً سواه، حيث قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
إذا عرفنا هذا؛ فإن الدين الإسلامي يدعو إلى كل خلُق كريم يدعو إلى الآداب الحميدة, ويدعو إلى مكارم الأخلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جاء بهذا الإسلام ليمحو به الجاهلية, وليخرج الناس به من الظلمات إلى النور, ومن الجهل إلى العلم, فأخرج الله هذه الأمة بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جاء بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك, بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.
وفي رواية: وكل ضلالة في النار} فعلينا -أيها الإخوة في الله- أن نقتدي ونهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] أجل! إن الذي لا يرجو الله ولا اليوم الآخر لا يهتم ولا يقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم، القائل: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان}.(6/2)
الغاية من وجودنا
أيها الإخوة: قبل أن نتكلم في هذا الموضوع، يحلو لنا أن نستمع إلى بعض المواعظ، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يوقظ بها قلوبنا؛ حتى نهتم بهذا الأمر، وهو الأمر، بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى خلقنا في هذه الحياة الدنيا للابتلاء والامتحان؛ حيث قال: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ثم في هذه الحياة الدنيا نعيش ما كتب الله لنا, فمن عاش هذا العمر في طاعة الله سبحانه وتعالى فهنيئاً له عند الموت, وهنيئاً له بعد الموت, وهنيئاً له في قبره, وهنيئاً له في حشره ونشره, وهنيئاً له حين يدخل الجنة أما من أضاع هذا العمر في المعاصي والسيئات، وتعدى الحدود، وعصى المعبود، فيا ويله عند الممات! ويا ويله في قبره! ويا ويله في حشره ونشره! ويا ويله عندما يُسحب إلى نار جهنم نسأل الله العفو والعافية.(6/3)
المبادرة بالأعمال الصالحة
فعلينا -أيها الإخوة- أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يدركنا الموت؛ لأن الإنسان إذا نزلت به سكرات الموت، وذاق غصص الموت، وبدأ به كرب السياق؛ عند ذلك يتمنى كما قال الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] لكن هل يجاب إلى هذا حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويغير أحواله من حال إلى حال؟ لا يستجاب له, بل يقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(6/4)
المبادرة بالتوبة النصوح
وعلينا -أيها الإخوة- أن نبادر بالتوبة النصوح إلى الله عز وجل, فنحن الآن ممهلون ولسنا مهملين, نحن الآن في وقت الإمهال، قد خلقنا الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا وعندنا فرصة نغتنمها في الأعمال الصالحة، قال الله تعالى حاثاً على التوبة النصوح وعلى الإنابة إليه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] وقد يظن بعض الناس أن هذا الخطاب للصحابة فقط، فتمادوا في المعاصي والذنوب ألا يعلمون أن هذا الخطاب للأمة جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟ فليستمع إليه من كان في قلبه إيمان: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:54 - 55] ووالله ما أصيبت الأمة، ولا حصل عندنا الإعراض والغفلة إلا عندما ابتعدنا عما أنزل إلينا من ربنا، فنسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] فعندما يحضر العذاب, ويفوت الأوان, يحصل التحسر والتأسف، ولكن هيهات هيهات!!
واسمعوا إلى خبر العليم الخبير بالعباد حيث يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:55 - 58] فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق عبثاً, ولم يتركهم هملاً، بل أرسل إليهم الرسل, وأنزل معهم الكتب, فبينوا وبلغوا، وتركوا أممهم على البيضاء ليلها كنهارها فعند ذلك يتبين من اهتدى ممن أعرض؛ أما من اهتدى فله من الله سبحانه وتعالى خير كثير, وأما من ضل وتحسر عند الموت فلن يقبل منه؛ لأنه قد قامت عليه الحجة, قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] فيا لها من خيبة! ويا لها من حسرة وندامة في ذلك اليوم العظيم! يوم لا ينفع مال ولا بنون, عندما تعلو وجوه العصاة القترة والذلة, ويفضحون على رءوس الأشهاد قد كبلوا بالأغلال والسلاسل يسحبون بها على وجوههم إلى نار جهنم وبئس المصير ذلك جزاؤهم؛ لأنهم عصوا الله ورسله، وكذبوا بالحق لما جاءهم قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60].(6/5)
سبب الغفلة والإعراض
لقد حصلت عندنا الغفلة والإعراض وموت القلوب؛ لأننا نسينا القيامة يا عباد الله! وقد قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:34 - 38] تعدى الحدود، وعصى المعبود, ولم يقم بما خلقه الله له, فما هي نهايتهم ومصيرهم في ذلك اليوم؟! قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] فهل ينكرون هذا؟ حتى لو أنكروا سوف تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون -نسأل الله العفو والعافية- فإذا سحبوا إلى النار وقيل لهم: ألم يأتكم الرسل؟ وأنزلت معهم الكتب؟ لا يستطيعون أن ينكروا هذا, بل يقولون: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] فما هي النهاية؟ {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:72] المتكبرين على الانقياد لله ولرسله المتكبرين عن قبول الحق(6/6)
حال المؤمنين يوم القيامة
أما الذين قاموا بطاعة الله عز وجل فلهم البشرى في الحياة الدنيا فهنيئاً لمن أطاع الله وأطاع الرسل وقام بما أوجب الله عليه، ففي الحياة الدنيا يعيش عيشة طيبة, ويحيا حياة سعيدة, قال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ويوم القيامة ينجيهم الله من كُرب القيامة ومن أهوالها وشدائدها, وتُبيَّض وجوههم، ويأخذون صحائفهم بأيمانهم، قال الله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] الله أكبر! هذه البشرى لهم يوم القيامة, وكذلك عندما تخرج أرواحهم تنزل عليهم البشرى من رب العزة والجلال لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله واستقاموا على طاعته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وفي قبره يقول له عمله الصالح: أبشر بالذي يسرك أنا عملك الصالح يا لها من فرحة! ويا لها من تجارة رابحة! ويا له من سرور وغبطة ومستقبل لا يدانيه مستقبل! لأولئك الذين أطاعوا الله ورسله, وقاموا بما أوجب الله عليهم فهنيئاً ثم هنيئاً لهم إذا قيل يوم القيامة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
تذكر يا عبد الله! إن كنت مع هؤلاء الزمرة كيف تدخل ووجهك مشرق بياضاً فرحاً, وتذكر إن كنت مع أولئك الذي عصوا الله، فتب إلى الله عز وجل إذا كانت أحوالك مثل أحوال السابقين الذين يساقون إلى نار جهنم؛ فبادر إلى التوبة قبل أن يحول بينك وبينها هاذم اللذات, ومفرِّق الجماعات وإن كانت أحوالك طيبة فزد من ذلك، واسأل الله الثبات.
فعند ذلك أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يحمدون الله جل وعلا أن سلمهم من نار جهنم، وما فيها من الأنكال والأغلال والزقوم والصديد والغِسلين والضريع, وما فيها من الأودية والمقامع والعقارب والحيات, والزبانية الشداد الغلاظ يحمدون الله أن أورثهم الجنة بما فيها من النعيم المقيم الذي لم تر العيون, ولم تسمع الآذان مثله, ولم يخطر على بال، فيها الأنهار والحلل والقصور والحور العين واللذة والسرور، بجوار مالك الملك، وبصحبة الأنبياء المقربين, ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اسمعوا إلى أهل الجنة ماذا يقولون وهم في تلك المحلة الآمنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] الله أكبر! هي تلك النهاية -يا عباد الله- عندما يؤتى بالموت في صورة كبش أملح, ثم يذبح بين الجنة والنار, ثم يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود فلا موت! ويا أهل النار خلود فلا موت!
فإذا تذكرنا تلك الأهوال, وتذكرنا الموت وما بعده, وتذكرنا القبر وما فيه؛ وأنه إما روضة من رياض الجنة, أو حفرة من حفر النار ثم إذا تذكرنا المنصرف يوم القيامة، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] إذا تذكرنا من يُركبون على النجائب إلى الجنة, وتذكرنا من يسبحون إلى النار؛ فعند ذلك يحصل عندنا الاهتمام لما أمامنا.(6/7)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: إذا أحببنا النجاة فعلينا أن نسعى في طلبها, ومن ذلك القيام بما أوجب الله علينا, بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, ومن ذلك ما نحن بصدده والكلام عليه، وهو الموضوع المقصود في هذه الكلمة، ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ضعف جانبه، وتخاذل عنه الكثير من الناس, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أمة الإسلام: إذا قمنا بالأمر بالمعروف حصل الأمن -بإذن الله تعالى- على الأخلاق الفاضلة والآداب من الذهاب والانحلال, وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نأمن على الدين من الاضمحلال والتلاشي.(6/8)
سبب الخيرية في هذه الأمة
والله سبحانه تعالى خاطب الأمة بهذا الخطاب الرائع، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بماذا؟ إن طبقتم هذه الشروط كنتم خير أمة أخرجت للناس {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فقد وصف الله الأمة بهذا الوصف؛ بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلى وأعز مجتمع في العالم حاضره وماضيه لماذا؟ لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة, والأخلاق العالية, والغيرة الصادقة على حدود الله كانوا متمسكين بتعاليم دينهم, وكانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم, وكان الإسلام وبهاؤه يلوح في أعمالهم ومعاملاتهم وأخلاقهم فلا غش، ولا خداع، ولا كذب، ولا خيانة، ولا غدر، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا ظلم، ولا نفاق، ولا رشوة، ولا ملق، ولا رياء، ولا بهت، ولا سخرية، ولا عقوق، ولا قطيعة رحم لماذا؟ لأنهم ما عاشوا على الأفلام والتمثيليات والأغاني الماجنة, بل كان همهم وهدفهم القضاء على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين المسلمين وهذا يدل على قوة إيمانهم, وشدة تمسكهم به، ورغبتهم في النجاة التي وعد الله بها الناهي عن السوء.
وكان كلٌ منهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه, وكانوا يتراحمون بينهم, ويوقر الصغير الكبير, حتى إنهم ينصفون الأعداء من أنفسهم, فالقوي عندهم ضعيف حتى يستوفى منه الحق, والضعيف عندهم قوي حتى يؤخذ حقه كانوا إذا فقدوا أخاهم بحثوا عنه؛ فإن كان مريضاً عادوه, وإن كان محتاجاً واسوه, وإن نزل عليهم أكرموه؛ مطبقين لتعاليم المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فهل يوجد هذا الشعور في مجتمعنا اليوم؟
لقد كانت الأمة آخذة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً}.(6/9)
واقعنا الذي نعيشه ووجود المنكرات
أيها الإخوة: إننا إذا نظرنا إلى الواقع الذي نعيش فيه الآن فسنجد بيننا وبين أحوال السلف الذين ذكرت سابقاً بوناً شاسعاً لقد انتشرت المنكرات في مجتمعنا, وظهرت في البيوت والأسواق وفي البر والبحر, فالمنكر نراه بأعيننا, ونسمعه بآذاننا, بل وفي بيوتنا فهل بيتك -أيها الأخ- خالٍ من الصور ذوات الأرواح؟! من المستحيل اليوم أن يخلو بيت من هذه الصور, فإن البعض من الناس في بيوتهم صور محنطة على شكل أصنام وطيور, وقد نصبوها في محلاتهم, وحاربوا ملائكة الرحمة حتى لا تدخل عليهم وإذا خرجت ملائكة الرحمة فمن الذي يخلفهم؟ لقد حلت محلهم الشياطين, فأصبحت البيوت كلها صخب ولغو ولهو, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لعنة الله على المصورين} ويقول صلى الله عليه وسلم: {أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة} فأين نحن من هذه الإرشادات النبوية يا عباد الله؟!(6/10)
صور للمنكرات الموجودة في المجتمع
ثم نلتفت يميناً وشمالاً، فنرى بعض المسلمين قد ارتكب منكرات بشعة قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد النهي.
من ذلك: إتيان الكهان والسحرة والمشعوذين والمنجمين، الذين من أتاهم وصدقهم فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن ذلك: حلق اللحى, وإعفاء الشوارب, وهذا -والله ثم والله- معاندة لله ولرسوله, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} ويقول صلى الله عليه وسلم: {جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس} ويقول: {خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب} ولكن قال البعض من الذين يدعون الإسلام: لا سمع ولا طاعة يا رسول الله, بل نتبعهم ونقتدي بهم! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعضهم يتعدى في الجواب ويقول: هذا دين قديم وهذه رجعية هذا تزمت والنظافة من الإيمان! يحلق لحيته ويقول: النظافة من الإيمان!!
والبعض من المسلمين قد حبب إليه التشبه بأعداء الله ورسله جميعاً, فمنهم من تخنفس, ومنهم من أطال الأظفار، حتى انزلق بعض النساء في متاهات وضلالات مبتدعة, دسها الإفرنج وعملاؤهم من اليهود والنصارى والمجوس في أفلام ومجلات قضت على الآداب والأخلاق والفضيلة والعفة, حتى آل الأمر إلى انتهاك الشرف نسأل الله العفو والعافية.
وانظروا إلى ما تلبسه بعض النساء من ملابس شفافة, وضيقة وقصيرة, فإلى الله المشتكى.
ومن المنكرات التي ارتكبها بعض من المسلمين: ترويج المسكرات والمخدرات بأنواعها, حتى قضت على العقول, والعقل أهم ميزة ميز الله بها الإنسان وفضله على سائر المخلوقات، فعندما يفقد هذا العقل فإنه يبتعد عن الدين وعن تعاليمه؛ مما يجعله يعصي الله في كل شيء, ويأتي الفواحش، ويرتكب الموبقات وبسبب هذه المسكرات والمخدرات ينتشر الفساد في الأسرة والمجتمع, فالمدمنون على المخدرات لا يتورعون عن الإتيان بأنواع الجرائم من سرقة، ونهب، وسلب، وقتل، واغتصاب؛ لأجل الحصول على المخدرات, وربما باع بعضهم شرفه وعرضه، وربما مكَّن بعضهم من فعل الفاحشة به كما تنكح المرأة -والعياذ بالله- وهذا واقع في بعض الشباب, فنسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً.
ومن المنكرات التي فشت: الأغاني بأنواعها في البيوت، وفي الحوانيت، وفي السيارات, وقد امتلكت قلوب الكثير من الناس، وقد قال ابن مسعود: [[إن الغناء ينبت في القلب النفاق كما ينبت الماء البقل]] والغناء بريد الزنا.(6/11)
كثرة المنكرات وعدم إنكارها
أيها الإخوة: إن المنكرات كثيرة، ولكن مع وجود هذه المنكرات لا ألسنة تنطق, ولا وجوه تتمعر, إلا النادر، ويوجد فيما بيننا التلاوم والقيل والقال والمداهنة مع الأسف الشديد, فتجد البعض إذا جلسوا في المجالس يجمعون بين أمور كثيرة؛ فيغتابون الناس ويتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيجمعون بين ترك هذين الأمرين وبين الغيبة, ولا حول ولا قوة إلا بالله فإذا جلسنا في البيوت قلنا: فلان حلق لحيته وجعلها كذا وكذا لا شك أن الذي حلق لحيته ارتكب منكراً, ولكن نقول للذي أتى بهذا الكلام: هل نصحت هذا؟ قال: لا إنما أتى به ليغتابه ويخفف من ذنوبه فلو نصحه وجلس معه وقال: يا أخي! أما علمت أن حلق اللحية حرام؟
وقد صدرت من هيئة كبار العلماء فتاوى قالوا فيها: يحرم حلق اللحية، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ شيء منها, والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن حلق اللحية، وأمر بإعفائها, وإكرامها, وإرخائها, وأمر بقص الشارب أو حفه فهذا هو الذي ينبغي لنا, أما أن تكون مجالسنا مجالس غيبة فهذا لا ينبغي.
ثم البعض من الناس يجلس ويأتي بقصة أخرى فيقول: فلان لا يأتي إلى المسجد لا هو ولا أولاده، فنقول له: أيها الأخ في الله! هل طرقت عليه الباب؟ هل دعوته إلى الله؟ هل أمرته بالمعروف؟ فيقول: لا إنما أتى في هذا المجلس ليغتابه أمام الحاضرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(6/12)
الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذاً: ما هو الذي ينبغي لك أيها المسلم؟ ينبغي لك إذا رأيت المقصر أن تجلس معه قليلاً وتقول له: يا أخي! اتق الله, أما علمت أن الصلاة هي عمود الدين, وهي الصلة العظيمة بين العبد وبين ربه؟ أما سمعت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة} ويقول أيضاً: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} أما علمت -يا أخي- أن تارك الصلاة لا يغسل إذا مات, ولا يكفن, ولا يصلى عليه, ولا يدفن في مقابر المسلمين, ولا يدعى له بالرحمة فلعله إذا سمع هذا الكلام أن يرعوي وأن يتوب إلى الله عز وجل من تقصيره، ويبادر إلى أداء الصلوات, ويكون هذا برفق ولين، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
أما إن كان يصلي ولكنه يتهاون بها, فقل له: يا أخي! أما سمعت الله عز وجل بماذا توعد المتهاونين عن الصلاة؛ توعدهم بويل، وهو شدة العذاب، أو وادٍ في جهنم, وأنا أسأل الله عز وجل ألا تكون معهم في هذا الوادي، فبادر يا أخي بالصلوات الخمس.
وهذا رجل من إخوانكم -جزاه الله خيراً- سكن بجوار رجل من الناس، وإذا بهذا الجار لا يصلي ولا يعرف المسجد, ففكر هذا الرجل بأي شيء يأتي به إلى المسجد؟ فطرق عليه الباب وجلس عنده قليلاً، ودار الحديث بينهما، حتى عرف كل واحد منهما صاحبه, ولما استأنس به قال له: يا أخي! أنا جارك منذ شهر، وتفوتني الصلاة -مع أنه لا تفوته الصلاة، لكن اسمعوا إلى النهاية- وأريد منك أن توقظني لصلاة الفجر.
وهذا لا يعرف الصلاة أبداً ولا يعرف المسجد, فعند ذلك أصيب بحيرة, ماذا يعمل؟ هل يقول: أنا لا أصلي؟ لا يمكن أن يقول: أنا لا أصلي، ولا أعرف المسجد ولكن قال: إن شاء الله.
فسهر الليل كله حتى يوقظ هذا الجار ليذهب هو وإياه إلى المسجد, مع أن جاره مستيقظ ولله الحمد، ولكن انظروا -أيها الإخوة- إلى فائدة الدعوة بالحكمة, فلما أذن الفجر طرق عليه الباب وخرجا إلى المسجد جميعاً، فاستمرا على هذه الحال, وبعد مدة اجتمع به جاره الذي كان لا يصلي وقال: يا أخي! جزاك الله خيراً، والله إني كنت لا أعرف المسجد ولا أصلي، والآن قد صرت عوناً لي على طاعة الله.
قال: وأنا -ولله الحمد- أخبرك أني لست بحاجة إلى أن توقظني، ولكن أردت أن أتعاون أنا وإياك على الخير فنعم هذا التعاون، ولو سلكه الجميع لانتشر الخير والبركة.
وإذا أتينا إلى الآخر وهو في المجلس وجدناه يقول: رأيت فلان بن فلان يسحب ثوبه وراءه كأنه امرأة ماذا قلت له؟ قال: والله لم أقل له شيئاً, إنما أتى ليغتابه في المجلس, مع أن الواجب عليه لما رأى هذا المنكر أن يأمره بالمعروف, والمعروف أن يبين له أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم فجعل يكررها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ فذكر منهم: المسبل} وقال صلى الله عليه وسلم: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه} وقد يقول البعض: أنا لم أسحبه خيلاء.
وإذا قيل له: لماذا إذاً؟ قال: من أجل الزينة.
والزينة من عادة النساء، فاتق الله يا عبد الله! إن كنت تريد الزينة فأنت تشبهت بالنساء؛ لأنهن أمرن أن يرخين ذيولهن شبراً, فإذا أرخيت الثوب فقد تشبهت بالنساء وإذا قال: لا أنا لم أجره خيلاء, فنقول له: اسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار}.
نعوذ بالله من النار، والنار لا تأكل الخرق ولكنها نار وقودها الناس والحجارة فلعله أن يتوب ويرعوي ويقصر ثوبه ويهتدي؛ فيكون في ميزان حسناتك يوم القيامة, وتحظى أيضاً بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
وبعض الناس إذا جلسوا في المجالس تحدثوا: رأينا زوجة فلان! ورأينا بنت فلان مع السائق! ماذا يريدون من هذا؟ يريدون التشهير بهذا الرجل, فلو أخذوا بيد هذا الرجل وقالوا له: اتق الله يا فلان! لماذا تدع الحبل على الغارب لابنتك وامرأتك مع السائق؟ أما علمت أن هذا منكر؟ وأن هذا لا يرضاه الله بل يبغضه ويأباه, أما سمعت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} وقد يقول هذا الرجل الذي أتى بالسائق: أنا أتيت بهذا السائق، وهو رجل طيب ذو دين.
فنقول له: اسمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب الصحابة رضي الله عنهم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} يخاطب الصحابة الذين هم أطيب منَّا قلوباً، وأفضل القرون بعد نبينا صلى الله عليه وسلم, يخاطبهم ويقول: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فإن أبيت ورأيت المنكر بأهلك وأقررت ذلك فسوف تحرم من الجنة, لماذا؟ لأن الجنة لا يدخلها ديوث, والديوث: هو الذي يقر الخبث في أهله, نسأل الله العفو والعافية.
قل له هذا الكلام؛ لعله أن يرعوي ويتوب إلى الله عز وجل.
والبعض من الناس إذا جلسوا في المجالس قالوا: سمعنا فلان بن فلان يسمع الأغاني.
فنقول لهم: أيها الإخوة في الله! هل جلستم معه قليلاً فنصحتموه في الله؟ قالوا: لا.
ما جلسنا معه، فلو جلستم معه قليلاً وقلتم له: يا أخي! اتق الله.
فإن الغناء بريد الزنا، والغناء ينبت في القلب النفاق كما ينبت الماء البقل, ولا تكن ممن أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحصل منهم هذا الأمر الخطير في آخر الزمان حيث قال: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} فلا تكن منهم يا عبد الله, بل كن من خير أمة أخرجت للناس كن من الطائفة الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله كن من الغرباء الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {فطوبى للغرباء! قيل: من هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس, أو يُصلحون ما أفسد الناس}.(6/13)
عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: ينبغي لنا أن ندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة, ولا نغتاب الناس إذا جلسنا في المجالس, وإذا قيل للبعض: هل نصحتهم؟ قال: لا.
ما نصحتهم.
لماذا يا أخي؟ أما علمت أن الجار سوف يتعلق بجاره يوم القيامة ويقول: يا رب ظلمني، لقد رآني على منكر ولم ينهني، ولم يأمرني بالمعروف فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وإذا كان الجار سوف يتعلق بك؛ فما بالك إذا تعلق بك الأولاد والزوجة ومن تحت يدك في البيوت، وأنت تخرج تصلي الفجر وهم في فرشهم نائمون, ما هو الخلاص يا عبد الله؟ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
فعلينا -أيها الإخوة- أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونسلك طرق السلف الصالح , ونصدع بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم, وليكن هذا باللين والحكمة والموعظة الحسنة, ونعتصم بحبل الله جميعاً ولا نتفرق, كما قال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وكونوا عباد الله إخواناً قبل أن يحلَّ بكم ما حل بمن قبلكم فإن ما نسمعه من الحوادث والزلازل والفيضانات والمجاعات وغيرها كلها موعظة لنا يا عباد الله, لعلنا أن نتعظ ونرجع إلى الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
فعلينا أيها الإخوة! أن نسلك سبيل الذين اتقوا الله عز وجل, ووالله ثم والله لا يضرنا ذلك, ولا ينقص من أعمالنا ولا من أموالنا شيئاً, بل يزيدنا شرفاً عند الله سبحانه وتعالى, قبل أن تضرب قلوب بعضكم على بعض, قبل أن تصيبكم فتنة {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] لأن العذاب إذا نزل عم الصالح والطالح.
يقول الله عز وجل في قومٍ تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
أمة الإسلام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن أعظم الشعائر الإسلامية, وأقوى الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمعات النزيهة الراقية, فإذا لم يكن أمرٌ ولا نهي، أو كان ولكن كالمعدوم؛ فعلى الأخلاق والمثل العليا السلام, وإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيومئذٍ ويلٌ للفضيلة من الرذيلة.
أمة الإسلام! تداركوا الأمر قبل أن يفوت الأوان, وتعضوا على البنان، فقد حثكم نبيكم صلى الله عليه وسلم على تغيير المنكر.
فالله الله في الحكمة والموعظة الحسنة, والله الله في الرفق يا عباد الله واعلموا أن مراتب التغيير ثلاث كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {من رأى منكم منكراًَ فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.
وإليكم هذا الخبر الذي ينبئ بوخامة عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقول عائشة رضي الله عنها: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حفزه الناس، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء, فما تكلم حتى توضأ وخرج، فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أيها الناس! إن الله عز وجل يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم, وتستنصروني فلا أنصركم, وتسألوني فلا أعطيكم} ألا نفكر لماذا انتزعت البركات؟ ولماذا نستغيث ولا يستجاب لنا؟ لكثرة المنكرات, لقد انتشرت المنكرات بين الناس, فنسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً.(6/14)
الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: لو أن كلاً منَّا عمل بما في وسعه من المناصحة، ولا نقول لك: يا عبد الله خذ السيف وقاتل الناس، ولكن انصح وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, واجلس مع جارك وبين له ما ينفعه وما يضره, لعلَّ الله أن يهديه, وإذا رأيت امرأة سافرة فقل لها: اتقي الله عز وجل، وتكلم معها بالكلام الطيب اللين لعلَّ الله أن يهديها, وإذا رأيت شارب الدخان فتكلم معه بما يفتح الله عليك به لعلَّ الله أن يهديه, وإذا رأيت من يسمع الأغاني فعظه وخوفه من الله، وأخبره أن عاقبة ذلك وخيمة, وإذا رأيت من يترك امرأته وبناته مع السائق فعظه بالله، وأخبره أن عاقبة ذلك وخيمة لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يهديهم وأن يردهم إليه رداً جميلاً, وإذا رأيت من يترك الصلاة فادعه إلى الله عز وجل, فإن أبى بعد المرة والمرتين والثلاث, فارفع به إلى هيئة الأمر بالمعروف, وإلى رجال الحسبة, فعند ذلك تبرأ ذمتك، وإذا رأيت من يروج هذه الأفلام الخبيثة في أسواق المسلمين فعظه وخوفه من الله، فإن ارتدع وإلا فارفع به إلى ولاة الأمور حتى يطبق عليه الجزاء؛ ليرتدع وينكفَّ عن هذا المنكر الذي بانتشاره ذهبت الغيرة, وقتلت الآداب والفضيلة، وذهب الحياء من بعض الرجال والنساء.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تأخذ بأيدينا إلى كل خير.
اللهم وفقنا ووفق ولاة أمورنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللهم حبب إلينا وحبب إلى ولاة أمورنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, اللهم وفقنا ووفق ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين أجمعين لما تحبه وترضاه.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل, اللهم طهر قلوبنا من النفاق, وأعمالنا من الرياء, وألسنتنا من الكذب, وعيوننا من الخيانة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/15)
تذكروا هاذم اللذات
الموت حق كتبه الله على العباد، فمنا من يختم له بخاتمة حسنة ومنا غير ذلك، والموت ممر إلى الدار الآخرة لابد من دخوله.
وفي هذا الدرس قصص عن سوء الخاتمة لبعض الموتى، وذكر علاج للغفلة المنسية للموت، وخطوات في طريق العودة إلى الله.(7/1)
أحوال بعض المحتضرين عند الموت
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله ربه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: حياكم الله في بيت من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولامنا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً يا رب العالمين.
إخواني في الله: رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروى عنه، قال: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} والله سبحانه وتعالى -أيضاً- أكثر من ذكره في القرآن مما يدل على عظم هذا الخطب.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هاذم اللذات ومفرق الجماعات وميتم الأطفال ومرمل النساء ومفرق الجماعات هو الموت {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
ثم إن هذا الخطب الفادح إذا نزل يحتار فيه الطبيب ويبطل مفعول الدواء، كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:26 - 28] عند ذلك ييئس من الحياة ومن أهلها؛ لأنه دنا فراقه من الدنيا، ودنا توديع الأهل والأقارب والأصحاب، ودنا انتقاله من هذه الدار لينتقل إلى عالم آخر إلى عالم القبور، فيا ليت شعري ماذا يكون بعد هذا الانتقال؟ وعلى أي حال يكون؟
إخواني في الله: ذكر بعض العلماء رحمهم الله تعالى حالات كثيرة لكثير من المحتضرين الذين ينتقلون من دار الدنيا إلى دار البرزخ وإلى عالم القبور.
منها ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: احتضر بعض الناس، أي: نزل به الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله، وكان من الذين يدمنون المسكرات والعياذ بالله، يقول: فجعل يقول: ناولني الكأس ناولني الكأس نسأل الله العافية! ومات وهو يقول: ناولني الكأس، لقد فاضت روحه وهو يطلب الكأس المسكر.
يقول: واحتضر آخر فقيل له: قل لا إله إلا الله، وكان من الذين يستمعون الأغاني، يقول: فأخذ يغني ويدندن حتى خرجت روحه نسأل الله العفو والعافية.
وقيل للآخر: قل لا إله إلا الله، وكان من الذين يتعاملون بالربا، فيقول: اثنا عشر بأربعة عشر، إحدى عشر باثني عشر، ومات وهو يتلفظ بهذه الألفاظ التي كان يتلفظ بها عند الربا نسأل الله العفو والعافية.
يقول: وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، وكان مولعاً بالتغزل بالنساء، وذكر لهذا قصة أن امرأة خرجت تريد حماماً يسمى حمام منجاب، وكان هذا الرجل عند داره، فسألته هذه المرأة، قالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا هو، فأدخلها في بيته، فلما أدخلها في بيته وجلس معها، قالت: لا يهنأ لنا المكان والحال حتى تأتينا بفاكهة، قال: أنا آتيك بكل ما تطلبين، فخرج ليأتي بفاكهة، ولكن من حسن حظها أنه لم يغلق الباب، وخرجت على أثره، فلما جاء إلى البيت، وإذا بالمرأة ليست في البيت -نسأل الله العافية- فأصابه الهيمان حتى كاد أن يجن، فجعل يتغزل:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ
ومر بطريق وهو يهيم ويتلفظ بهذه الأبيات، فطلت عليه جارة من أعلى مكان، وقالت:
هلا جعلت لها إذ ما ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
يقول: فازداد هيمانه وجنونه، ولما احتضر ونزل به الموت قيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يردد هذه الأبيات:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
ومات وهو يردد هذه الأبيات نسأل الله العفو والعافية.
وذكروا أيضاً قصة لرجل -وهذه القصة لم يذكرها ابن القيم رحمه الله لكن ذكرها غيره- ذكروا أن رجلاً كان مؤذناًٍ يؤذن في مصر، وكان بجوار المسجد بيت لنصراني، فلما صعد المؤذن يؤذن نظر في بيت هذا النصراني، فرأى فيه جارية جميلة فنزل، ثم طرق عليها الباب، قالت: ماذا تريد؟ قال: أريدك! أخذت بمجامع قلبي، قالت: أنا لا أطاوعك على ما تطلب، قال: أتزوجك، قالت: إن أبي لا يزوجك وأنت مسلم، قال: أتنصر، فتنصر -والعياذ بالله- فلما دخل بها، صعد إلى مكان في البيت فسقط ومات، وقد خسر دينه ولم يظفر بالمرأة نسأل الله العفو والعافية.(7/2)
سوء الخاتمة وحسنها
إخواني في الله: سوء الخاتمة وحسن الخاتمة له أسباب، فالله جل وعلا يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] ويقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] إي والله؛ فالله تعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وقد قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] فمن شب على الإيمان والعمل الصالح فليبشر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:30 - 31] ويقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
يا إخواني! هذه قصة محزنة، يقول لي أحد الثقات: كان لي قريب لا يصلي -وهذه القصص والله مما يحزن القلب، ولكن نريد بها الذكرى، نسأل الله ألا يجعلنا من الشامتين، اللهم لا تجعلنا من الشامتين، اللهم اجعلنا من المعتبرين، ولا تجعلنا من الشامتين يا رب العالمين- فيقول هذا الرجل: كان لي قريب وكان لا يصلي، فأصيب بمرض، يقول: فأتيته، فقلت: يا أخي لعل هذا المرض يكون لك موعظة، تب وارجع إلى الله، صل يا أخي، يقول: فانتهرني وأخرجني من البيت، يقول: فازداد به المرض حتى أضجعه على السرير الأبيض في المستشفى، يقول: فأتيته، وقلت: أخي ماذا بقي؟ تدارك بقية العمر، تب إلى الله وصلِّ، يقول: وبعد إلحاح شديد، قال: ائتني بتراب يريد أن يتيمم، يقول: ففرحت وذهبت وأتيت إليه بتراب، لعل الله أن يهديه ويصلي قبل أن ينزل به هاذم اللذات، يقول: فلما أتيت إليه بالتراب ووضعته بين يديه، يقول: والله إنه يريد أن يمد يديه إلى التراب وما استطاع أن يمد يديه، كأنها مقيدة، يا رب نسألك العافية، يقول: والله ما مست يده التراب، ومات ولم يسجد لله سجدة والعياذ بالله، اللهم إنا نسألك حسن الختام، ففي ذلك عبرة يا إخواني في الله!(7/3)
التحذير من سوء الخاتمة
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام، وإن كان الخطاب لجميع الأمة: {بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل}.
ولقد -والله- سمعنا بهذا في هذه الآونة الأخيرة بسبب القنوات الفضائية التي انهمك فيها كثير من الناس، يقول لي بعض الثقات: هناك رجل من أقاربي يبلغ من العمر ستين سنة، اللهم لا شماتة، اللهم إنا نسألك العافية، يقول: والآن ترك الصلاة بسبب متابعة القنوات الفضائية، اللهم رده إليك رداً جميلاً، اللهم اهد ضال المسلمين يا رب العالمين.(7/4)
النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه بالثبات
فيا إخواني في الله: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في صحيحه: {اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول: {اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} وروى البخاري -أيضاً- في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {والله إني لأستغفر الله في اليوم وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة} ولقد حث صلى الله عليه وسلم أمته كما في صحيح مسلم، بل حث الناس جميعاً فهو الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة}.(7/5)
التأهب والتزود للآخرة
يا عباد الله: اغتنموا أوقات الفضائل قبل فواتها، وتأهبوا لما أمامكم، وما أنتم قادمين عليه بلا محالة ألا وهو الموت، فقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35].
لقد كتب الله الموت على جميع مخلوقاته قال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
عباد الله: إن الموت تبدلٌ من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار، فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل.
فيا عباد الله! ما هذه الغفلات والاغترار؟! وما هذا الإنكباب على الدنيا، وقد رأيتم تصرم الأعمار؟! وما هذا التفريط وأنتم على الآثار وقد أيقنتم أن دار الفناء ليست لكم دار قرار؟!
يذكر لنا أحد الإخوان في إحدى الدوائر، يقول: استلم أحدهم راتبه يوم الأربعاء، وخرج وقد استلم الراتب وصلى العصر وتوضأ لصلاة المغرب، ولما أراد أن يخرج لصلاة المغرب، قال: والله كأني أحس أني تعبان، أظنني لن أصل المسجد، والله ما أكمل كلامه إلا وقد فاضت روحه.
الآخر بعده بيومين -كلهم في دائرة واحدة- كانت عنده مناسبة، تعشى وأكل من تلك المناسبة واجتمع مع ضيوفه، ولما تفرقوا بعد المناسبة بقليل، قال: لعلكم تذهبون بي إلى المستشفى! إني أحس بفتور، والله ما وصل المستشفى إلا وقد خرجت روحه، لا إله إلا الله.(7/6)
الاعتبار بالأولين
عباد الله: أين الأولون ومن مضى من الآخرين؟
أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان؟
أين الذين قهروا الأبطال والشجعان؟
خالد بن الوليد رضي الله عنه في إحدى المعارك تنكسر في يده تسعة أسياف، وما بقي بيده إلا حديدة يمنية، ويقول وهو على فراش الموت: [[لا نامت أعين الجبناء أموت كما يموت البعير]] لا إله إلا الله.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ
أين الذين قهروا الأبطال والشجعان؟
أين الذين ملئوا ما بين الخافقين فخراً وعزاً؟ أين الذين فرشوا القصور خزاً وقزاً؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبةً وهزاً؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
أفناهم والله مفني الأمم، وأبادهم مبيد الرمم، أخرجهم من سعة المساكن والقصور، وأسكنهم في ضيق اللحود والقبور، تحت التراب والصخور ولم يدفع عنهم ما جمعوه من الحطام، ولا أغنى عنهم ما كسبوا من الأموال، أسلمهم الأحبة والأقرباء، وهجرهم الإخوان والأصفياء، ونسيهم القريب والبعيد، فهم الآن في بطون الألحاد رهائن الأعمال.(7/7)
الموت حق على العباد
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا مات الميت تبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل} لا إله إلا الله! يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل، اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين.
فيا أخي في الله! مثل نفسك وقد حلت بك السكرات {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
مثل نفسك وقد نزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلان قد أوصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، ولا يكلم أهله ولا إخوانه، ومع ذلك هو يسمع الخطاب ولا يقدر على رد الجواب {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
فيا عباد الله: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنةً عرضها السماوات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قضى نحبه وانقضى أجله، فتدعونه في صدعٍ من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، القبر أول منازل الآخرة، فاتقوا الله عباد الله.(7/8)
الغفلة هي الداء العضال
ابن آدم: يا مدعواً إلى نجاته وهو يتوانى! يا مأموم الهوى كم أورث الهوى هواناً! يا هائماً في فيافي الغفلات كم أورثت الغفلات صاحبها حرمانا!
ابن آدم! أما أخبرت أن رحيلك إلى الآخرة قد أزف وتدانى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتجمع في لوح حفيظ وتكتبُ
وقلبك في سهو ولهو وغفلة وأنت على الدنيا حريص معذبُ
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ
الله أكبر! كأنه والله يخاطبنا في هذا الزمان يا إخوان!
لا إله إلا الله كيف لو رأى زماننا! زمان الربا والغش والمخادعات والخيانات والرشوة وبيع آلات اللهو والمخدرات والمسكرات وبيع الدخان، وبيع مجلات الصور الخليعة التي فيها الضلال والغواية نسأل الله العافية! كيف لو رأى هذا الزمان رحمه الله!
أما تذكر الموت المفاجيك في غد أما أنت من بعد السلامة تعطبُ
أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ
أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسط للوفاء سينصبُ
تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنشبُ
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحم ينجي ولا ثم مهربُ
وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ
وقاموا سراعاً في جهازك أحضروا حنوطاً وأكفانا وللماء قربوا
وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وقد بخروا منشورهن وطيبوا
وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيهن وعصبوا
وفي حفرة ألقوك حيران مفرداً تضمك بيداء من الأرض سبسبُ
إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ
وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلمات غيهب ثم غيهبُ
وهول وديدان وروع ووحشةٌ وكل جديد سوف يبلى ويذهبُ
فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهاذم لذات الفتى سوف يقربُ
فيا عباد الله: احذروا من الغفلة، وتذكروا هاذم اللذات.
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقةً عليه مضى طفل وكهل وأشيب
فيا من شغلته الدنيا عن طاعة الله، وأغفلته ذكر الله! استيقظ ما دمت في زمن الإمكان.(7/9)
الإكثار من ذكر هاذم اللذات
أخي في الله: تذكر حين ينزل بك الموت، يوم يجلسون حولك وأنت تعاني من سكرات الموت، وهم يبكون وينادون بصوت يقطع نياط القلوب.
يقول الولد: هل تعرفني يا أبتاه؟ والأقارب يقولون: هل تعرفنا يا فلان؟ والميت ينظر إليهم وعيناه قد اغرورقت بالدموع، ولكن لا يستطيع الرد عليهم فقد تعذر عليه الكلام {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]
ثم لم يلبثوا إلا قليلاً، وإذا بملك الموت قد قبض الروح ومال الأنف، وانفتح الفم، وشخص البصر.
فيا عباد الله! يا لها من ساعة يتكدر فيها الصفاء! ويتنغص فيها العيش! إذا نزل هاذم اللذات، فإنه والله أمر جلل وخطب فادح، لا بد منه لكل مخلوق.
عباد الله: اعلموا علم اليقين أنه لا بد من السفر من هذه الدار، ومن شك في ذلك فليتذكر من سبقه من الأولين والآخرين.
وكيف يحصل التذكر؟
الجواب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة}.
فيا من اغتر بطول الأمل! ويا من غفل ولها وسها! تذكر هاذم اللذات، الذي ما طلب أحداً فأعجزه، ولا تحصن منه متحصن إلا أخرجه وأبرزه، قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] إنه الموت يأتي على غرة وبدون إنذار، إنه هاذم اللذات يأتي على غرة وبدون إنذار، أما أخذ الآباء والأجداد؟ أما أخذ الشباب والأولاد؟ أما ملأ القبور والألحاد؟ أما أرمل النساء وأيتم الأطفال؟
إنه هاذم اللذات!(7/10)
فوائد تذكر الموت
قال أحد العلماء رحمه الله تعالى: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة.
لا إله إلا الله.
اسمع أخي في الله: احفظ هذه الثلاثة، فإذا نسيت هاذم اللذات، فتذكر هذه الكرامة لمن أكثر من ذكره، الأولى: تعجيل التوبة، والثانية: قناعة القلب، الثالثة: النشاط في العبادة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} رواه البخاري.
ماذا قال ابن عمر رضي الله عنه؟ قال: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]].(7/11)
عواقب قلة ذكر الموت
ويقول: من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، يقول: سوف أتوب، أنا الآن في عنفوان الشباب -الله المستعان- كأن عنده وثيقة أن الموت سوف يأتيه في وقت كذا وكذا؛ لا إله إلا الله! وما يدري إلا وقد هجم عليه هاذم اللذات، فنشبت المنية أظفارها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
المصيبة الثانية لمن ابتلي بعدم الإكثار من ذكر الموت، يقول: يصاب -أيضاً- بعدم الرضا، تجده الليل والنهار يلهث ويركض وراء هذه الدنيا، ووالله لن يحصل إلا ما كتب الله له.
والعقوبة الثالثة لمن نسي الموت: التكاسل في العبادة، كلما قيل له شيء، قال: الله غفور رحيم، وتمضي عليه الأيام، الله سبحانه وتعالى لا شك أنه غفور رحيم، لكنه شديد العقاب.(7/12)
أحوال الناس مع ذكر الله
يا عباد الله: علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، ووالله الذي لا إله غيره، إن الأحوال يرثى لها في هذه الأزمان، أزمنة الفتن والمغريات والشهوات والماديات التي طغت.
يا عباد الله! من المؤسف أنك تجلس في كثير من المجالس لا تسمع من يذكر الله ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا يا رب العالمين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] انظر الخطاب للمؤمنين، (يا أيها الذين آمنوا) ثم قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11] الله أكبر! لا إله إلا الله، اللهم اهدنا وسددنا، اللهم أيقظنا من رقداتنا يا رب العالمين.(7/13)
على فراش الموت
اسمع يا أخي في الله! إلى هذه الحالات التي والله ستمر بنا جميعاً نسأل الله حسن الختام، يا رب اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله.
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شِرا الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجل إلى المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
وألبسوني ثياباً لا كموم لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
اللهم ارحمنا بواسع رحمتك يا أكرم الأكرمين! ويا أجود الأجودين!
وأنزلوني في قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخٌ يؤنسني(7/14)
حال الميت في قبره
اسمع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، يقول صلوات ربي وسلامه عليه كما في حديث أنس بن مالك المتفق على صحته، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً، وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت! ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين} والحديث متفق عليه.(7/15)
خطوات في طريق العودة إلى الله
يا إخواني في الله: ماذا بقي وقد سمعنا هذه الأخبار من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام العلماء جزاهم الله خيراً؟ وكما قيل: المواعظ للقلوب كالسياط للأبدان.
إخواني في الله: علينا أن نجدد صفحة جديدة، نقلب صفحة جديدة ونتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وكما قلت لكم في بداية الكلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: {والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} صلى الله عليه وسلم.
فيا أخي في الله: حاسب نفسك ما دمت في زمن الإمكان، هل تكثر من تلاوة القرآن؟
هل أنت تكثر من ذكر الله؟
هل أنت تكثر من الاستغفار؟
هل أنت تبادر إلى أداء الفرائض وتتبع ذلك بالنوافل؟
أبشر أخي في الله! يقول الرب جل جلاله في الحديث القدسي: {وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه إلخ} رواه البخاري.
أيضاً: أخي في الله إذا حصلت محبة الله جل وعلا فأبشر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل عليه السلام، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} والحديث متفق عليه، وفي رواية مسلم: {وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه} يا رب نسألك العافية، لا حول ولا قوة إلا بالله.
لماذا أحب الله هذا ولماذا أبغض هذا وليس بينهم وبين الله نسب فكلهم عباده خلقهم لعبادته جل وعلا؟! لأن ذلك امتثل أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأهانه الله {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] إذا أهانه الله فوالله لو اجتمع أهل السماوات والأرض ما أكرموه.
يقول صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: {وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه؛ فيبغضه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض}.
أيضاً انتبه إلى هذا الحديث: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً مع أصحابه فمر بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بالأخرى فأثنوا عليه شراً، قال: وجبت، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! مرت الأولى فقلت: وجبت، ومرت الأخرى فقلت: وجبت، قال: أما الأولى أثنيتم عليها خيراً، فوجبت له الجنة، وأما الأخرى فأثنيتم عليها شراً، فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينتفع بالذكرى، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح مقبول، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى يا ألله أن تحسن ختامنا، اللهم أحسن ختامنا، واجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
الله أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا جميعاً هداة مهتدين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واشف مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين، اللهم عافنا في أبداننا وأسماعنا وأبصارنا، لا إله إلا أنت.
اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفقر ومن عذاب القبر لا إله إلا أنت، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وقاداتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، وجزاكم الله خيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.(7/16)
بداية ونهاية
ونهايته هي يوم القيامة، والاغترار بالحياة الدنيا مذموم، وينبغي للعاقل أن يعد العدة لما بعد الموت، والقبر أول منازل الآخرة، وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، فإذا قامت القيامة فمصير الإنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار، بعد يوم عسير فيه من الأهوال ما تشيب له الولدان.(8/1)
أهمية التقوى
الحمد لله خلق الإنسان من سلالة من طين، خلق الإنسان من تراب، وجعل مرجعه ومآله إلى التراب، الحمد لله هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله، جعل لكل شيء نهاية كما أن له بداية، وأصلي وأسلم على نبينا محمد نبي الرحمة وقائد الغر المحجلين، جعلنا الله وإياكم منهم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! إنه لمن دواعي الفرحة والسرور والغبطة أن نلتقي مثل هذا اللقاء الإيماني، وأن تلتقي هذه الوجوه المؤمنة بالله سبحانه وتعالى طلباً للخير، وحباً للفائدة، طلباً لما عند الله سبحانه وتعالى وخوفاً مما عنده، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن نرى مثل هذا الجمع يجتمع في مجال الدعوة إلى الله، وعلى كلمة الحق، وكما تعرفون معنا في هذه الليلة رجلٌ نذر نفسه لله سبحانه وتعالى، وللدعوة إليه، وهو معروف للجميع وهو فضيلة الشيخ/ عبد الله بن حماد الرسي، ولا أريد أن أطيل في تعريفه، فهو معروف للجميع، وأنا أعرف أنه لا يرضى بالثناء والحمد، فلا أستطيع أن أقول إلا تقديم الشكر الجزيل لفضيلته، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الخطوات وهذه الجلسة في ميزان حسناته، كما أدعوه جل وعلا أن يجعلها أيضاً في ميزان حسناتكم جميعاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الهدى وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وكما تعرفون أن المحاضرة بعنوان: بداية ونهاية، ومع فضيلة شيخنا ومحاضرته.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، نصح لأمته وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يحثنا على التقوى في كتابه العزيز، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم يحثنا على التقوى، يقول ربنا جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] والتقوى هي التجارة الرابحة التي سوف يجدها المتقون {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اتق الله حيثما كنت}.(8/2)
التقوى هي الحصن الحصين من النار
أيها الإخوة: إن التقوى هي الحصن الحصين من نار وقودها الناس والحجارة، ولله در القائل حيث يقول:
حياتك في الدنيا قليل بقاؤها ودنياك يا هذا شديدٌ عناؤها
ولا خير فيها غير زاد من التقى تُنال به جنات عدن وماؤها
بلى إنها للمؤمنين مطية عليها بلوغ الخير والشر داؤها
ومن يزرع التقوى بها سوف يجتني ثماراً من الفردوس طاب جناؤها
من التقوى أن يتقي العبد ربه، ويتوب إلى الله عز وجل، ويبادر بالتوبة النصوح {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2].
وتب مما جنيت وأنت حي وكن متنبهاً قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد؟(8/3)
ذم الدنيا والاغترار بها
هل ترضى أن تأتي يوم القيامة مفلساً، وقد أضعت هذه الحياة الدنيا التي هي متاع الغرور؟
قال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] ثم ضرب الله مثلاً فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] هذه هي الآخرة، إما عذاب شديد في نار جهنم، أو مغفرة ورضوان في جنات النعيم.
فاحذروا الحياة الدنيا فإنها غرارة خداعة، وكم يمر بالأسماع من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الدنيا.
فإن الله جل وعلا يحذرنا من الدنيا ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] هذه الحياة الدنيا التي حصل بيننا بسببها البغضاء والشحناء والتقاطع والعداوة فقطيعة الأرحام وعقوق الوالدين كل هذا بسبب الدنيا، الحياة الفانية الدنيئة، التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، يقول صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة ماء} ولكنها مطية للآخرة إذا عرف الإنسان كيف يتصرف بها.(8/4)
الدنيا مطية للآخرة
أيها الإخوة: إن الدنيا مطية للآخرة، والمطية هي التي يركبها الراكب ويتخذها راحلة، والمطية يقضي عليها الإنسان حاجاته في الدنيا، فهذه الدنيا إذا استعملها الإنسان في طاعة الله وذللها لمرضاة الله، فإنها تكون له في ميزان حسناته يوم القيامة، وسوف يكون في قبره وعندما يبعث يوم القيامة أحوجَ ما يكون إلى تلك الأموال، إذا انقلبت حسنات ورآها في ميزان حسناته.
والإنسان إذا طلب منه الآن بذل شيء قليل لمشروع من المشاريع الخيرية، تثاقل عن ذلك، نسأل الله العفو والعافية، ولكن إذا رأى يوم القيامة ذلك الفضل العظيم، وذلك الجزاء الوافر، تمنى أنه أنفق كل أمواله في تلك المشاريع الخيرية، والأمر كما قال الله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فالنفس -أيها الإخوة- تحتاج إلى جهاد، فيجاهدها على فعل الخيرات وبذل المعروف في سبل الخير، وسوف يجدها يوم القيامة، وبعكس ذلك الذي يستعمل الدنيا في مشاريع الشر؛ فإنه سوف يجد ذلك يوم القيامة {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:6 - 8].
أيها الإخوة: إن الدنيا مزرعة للعبادة، والله سبحانه وتعالى خلقنا وأوجدنا في هذه الحياة لنستكثر من الأعمال الصالحة، ونحن في دار الابتلاء {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1 - 2] ليبلوكم أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً، أيكم أحسن العمل وأخلص العمل لله، واتبع في أعماله وأقواله وأفعاله نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمله وفقاً لكتاب الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكمله بالإخلاص لله رب العالمين.
فهذه الحياة الدنيا سوف يقضيها الإنسان إما بالأعمال الصالحة، وسوف يجد غب ذلك، وإما بالأعمال السيئة وسوف يجد ذلك {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(8/5)
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، والله تعالى أعلم بعباده، يقول صلى الله عليه وسلم: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنا لنكره الموت.
قال صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه} فهذا الذي عمل الصالحات أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عند وفاته؟ {اللهم في الرفيق الأعلى} حباً لمجاورة الله عز وجل، وبلال بن رباح لما جلست زوجته عند رأسه تقول كلمات، قال لها: [[لا تقولي هكذا، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه]] الله أكبر! المؤمن يفرح بلقاء الله عز وجل، ويفرح بالموت، ولكن الكافر على خلاف ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: {وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه} رواه البخاري ومسلم.(8/6)
حال المؤمن والكافر عند خروج الروح
المؤمن -أيها الإخوة- له أحوال طيبة عند خروج الروح، تتنزل عليه الملائكة بالبشرى، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فما ظنكم بما يحصل له من البشرى والفرح والسرور إذا قالت له الملائكة ذلك؟ يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: استقاموا على طاعة الله عز وجل؛ تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا مما أمامكم، فإن الطريق لكم مذللة معبدة، القبر لكم روضة من رياض الجنة، وفسح لكم فيه مد البصر، وفتح لكم منه باب إلى الجنة، ويأتيك العمل الصالح بصورة شاب حسن لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلفتم من الأهل والأولاد والأموال {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] الله سبحانه وتعالى معهم، برعايته وحفظه وعنايته.
وأما الكافر -والعياذ بالله- فإنه عند خروج الروح يقول الله تعالى عنه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] هل ظلمهم الله عز وجل؟ لا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود:101] ثم يقال لهم أثناء ذلك الضرب: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] ثم يقال لنفسه: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فلا تسأل عن تلك الروح ماذا تعمل بذلك الجسد، فتقول: يا ويلها إلى أين؟ إلى حفرة من حفر النيران، إلى قبر يضمك فتختلف فيه الأضلاع ويفتح فيه باب إلى النار، ويأتيه العمل الخبيث الذي كان يعمله في الحياة الدنيا، يأتيه بأكره صورة وأكره رائحة وأبشع منظر، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، نسأل الله العفو والعافية.(8/7)
حياة البرزخ وما فيها من نعيم أو عذاب
أيها الإخوة: هذه الحياة الدنيا تنتهي إما على روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وهذه هي الدار الثانية دار البرزخ؛ لأن دار الدنيا دار العمل والابتلاء والاختبار والمزرعة، ثم ينتقل إلى الدار الثانية وهي دار البرزخ، ولهم فيها أحوال وقد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال لما رأى رؤيا، ورؤيا الأنبياء وحي من الله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: {فأتينا إلى رجل مستلق لقفاه، وإذا برجل آخر معه حجر يضرب به رسه، فيتدهده الحجر، فيذهب يأتي بالحجر وإذا بالرأس قد صح فيضرب به، وكلما تدهده الحجر ذهب يأتي به وإذا بالرأس قد صح} وهذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ ولأي شيء يفعل به هذا؟ فأخبراه أنه أخذ القرآن ورفضه، ونام عن الصلاة المكتوبة والنوم عن الصلاة المكتوبة خطر عظيم على صاحبه.(8/8)
عذاب القبر حق
يذكر في بعض كتب السير أن ابن عباس رضي الله عنه كان في سفر إلى الحج، وكان معه رفقة فمرض منهم رجل، فجلس معه رفقته ليمرضوه ثم مات هذا الرجل، فحفروا له قبراً، فلما أرادوا أن يجعلوه في ذلك القبر، وإذا بتنين يخرج في ذلك القبر، فحفروا قبراً آخر وإذا به يخرج فيه، وحفروا ثالثاً وإذا به يخرج في القبر الثالث، ثم ذهب رجل منهم مسرعاً إلى ابن عباس رضي الله عنه ليخبره بهذه الحادثة، فقال: لو حفرتم جميع الأرض لوجدتموه، ادفنوه في أحد هذه القبور فإن هذا عمله.
ودفنوه في أحد هذا القبور، ولما سألوا زوجته عنه قالت: إنه رجل كان كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة، إلا إنه رجل تاجر وكان يشتغل أحياناً بتجارته ثم ينام عن صلاة الفجر.
رجل في عهد ابن عباس رضي الله عنه، ما عاش مع البلوت ولا مع الكينكان ولا مع الدمنة ولا مع الميسر والقمار، عاش في تجارته {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ولكنه لما اشتغل به عن طاعة الله، وصده عن ذكر الله وهي الصلاة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] ذكر بعض المفسرين أن ذكر الله في هذه الآية هو الصلاة، فهذا الرجل لما اشتغل بتجارته وبحسابه سلط الله عليه هذا التنين في قبره نسأل الله العفو والعافية.
فعذاب القبر حقٌ، وكذلك نعيم القبر حق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مر على رجل من الصحابة قال: {أفٍ! قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: إن الشملة أو العباءة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره} لأنه أخذها قبل أن تقسم الغنائم، فهي تشتعل عليه في قبره ناراً نسأل الله العفو والعافية.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير} أي: ليس كبيراً في أعين الناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله} أي: لا يتنزه من بوله، ولذلك يعذبان في القبر، فشق رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة وغرزها على قبر كل واحد منهما لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا.
وبعض الناس يأتي ويأخذ ويشقها ويضعها على القبر، فنقول له: هذا فعل يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى أطلعه على ما في هذين القبرين من أن اللذين في قبريهما يعذبان، فلذلك لا ينبغي لأحد أن يتعدى أو يخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كما يفعل بعض الناس إذا دفنوا الجنازة وقفوا صفوفاً، وقالوا: ماذا تقولون في فلان؟ وقد تواطئوا على هذا الخبر، فيقولون: فلان بن فلان رجل طيب، ويمكن أنه لا يعرف الصلاة في بيوت الله، لكنهم قالوا: فلان طيب أخذاً بالحديث الذي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت، ومر عليه بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر رضي الله عنه: كيف ذلك يا رسول الله؟ أثنوا على الأولى خيراً، فقلت: وجبت، وأثنوا على الأخرى شراً، فقلت: وجبت؟ قال: أثنيتم على الأولى بخير، فقلت: وجبت، أي: وجبت له الجنة، وأثنيتم على الآخر بشر، فقلت: وجبت، أي: وجبت له النار فأنتم شهود الله في أرضه}.
لكن ينبغي أن تكون شهادة حقيقية على إنسان متق لله عز وجل، صاحب تقوى ودين، أما من لا يعرف الصلاة، أو من هو منهمك في المسكرات والمخدرات، أو من يرتكب اللواط والزنا، ثم يقف الناس في جنازته صفوفاً ويقولون: فلان بن فلان نعم الرجل فهذا خلاف الواقع، وسوف يسألون عن هذه الشهادة يوم القيامة.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يحكم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار، ولكن يرجى للمحسنين الثواب، ويخاف على المسيئين العقاب.
وهذا الذي رآه صلى الله عليه وسلم هو أن الله وكل بالرجل الذي كان يتثاقل عن الصلاة، ملكاً يضربه بذلك الحجر هو من عذاب البرزخ.
كذلك مر برجل آخر وهو مستلق لقفاه، وإذا بآخر قائم عليه بكلوب، وإذا هو يشرشر شدقه ومنخره وعينيه إلى قفاه، وكلما صحا هذا الجانب أتى إلى الجانب الآخر، فسأل عنه صلى الله عليه وسلم، ما هذا؟ قالوا: هذا الرجل الذي يغدو فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق نسأل الله العفو والعافية.
ولذلك حذر صلى الله عليه وسلم من الكذب، فقال: {إياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
ثم مر صلى الله عليه وسلم بأناس في مثل التنور أسفله واسع وأعلاه ضيق، فيأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم هذا اللهب ارتفع بهم، وضوضوا من شدة ما يأتيهم من هذا الحر، وهم عراة في ذلك التنور، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الزناة والزواني الذين يفعلون جريمة الزنا، الذين يرتكبون الجريمة الشنعاء، والذين يرتكبون الجرثومة الخطيرة التي تسبب الأمراض في الدنيا، عقوبتهم في الدنيا الفقر وتسويد الوجه، ومرض الزهري والسيلان والإيدز وغيرها من الأمراض المستعصيات، التي حصلت في آخر الزمان بسبب هذه الجرثومة الخطيرة التي انتشرت، نسأل الله جلت قدرته أن يبعدها عن بلادنا وعن بلاد المسلمين أجمعين، إنه على كل شيء قدير.
ففي الدنيا يجازون بهذه المصائب فقر وتسويد للوجوه، ويصابون بهذه الأمراض الخطيرة المتسعصية، التي لم يوجد لها علاجٌ حتى الآن، وفي البرزخ يعذبون في مثل التنور، ويوم القيامة لا تسأل عن أحوالهم في جهنم، نعوذ بالله من جهنم.
ومر صلى الله عليه وسلم على أناس -وهذا ليلة أسري به صلى الله عليه وسلم يقول: {مررت بأناس لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} أهل الغيبة الذين لا تطيب مجالسهم إلا بأكل لحوم الناس، ولا تطيب مجالسهم إلا بالاستهزاء والسخرية بعباد الله ومع الأسف الشديد يحدث من بعض الناس استهزاء بأهل الدين، حيث يقولون: هذه مطوع له لحية مثل لحية التيس، أو له لحية مثل المكنسة وهذا لبس ثوب أخيه الصغير، أي: قصر ثوبه اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أخطأ ولبس ثوب أخيه الصغير يستهزئون به؛ لأنه اتبع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقولون: هذا متجمد هذا متزمت هذا رجعي ويا وليهم إذا لم يتوبوا من هذه الألفاظ! وكم مرة أقول هذا الكلام، وهو من باب النصيحة، وقد يقع هذا الأمر من أناس كبار في السن، يقولون: ما هذا الدين الذي أتى به هؤلاء الشباب؟ لأن بعض هؤلاء الكبار عاش بين الشيشة والتتن والدخان وغيرها، ولما رأوا بعض الشباب التزم وتمسك بدين الله؛ قالوا: ما هذا الدين الذي أتى به هؤلاء الشباب ويظنون أن هذا الدين جديد، وهذا هو دين الله الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكن نشكر الله عز وجل على هذه الصحوة واليقظة، ونسأل الله عز وجل الثبات على دينه.
صحيح أنه قد مرت بنا سنون غفلنا وابتعدنا وأعرضنا، ولكن هذا من فضل الله سبحانه وتعالى أن وفقنا ورجعنا، فنسأل الله عز وجل أن يتم علينا هذه النعمة، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8].
فمع الأسف الشديد تجد شاباً متمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو واضع يديه على صدره في الصلاة مثلما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا برجل آخر من المعرضين الذين لم يعرفوا هدي الرسول، يقول: ما هذا الدين الجديد الذين جئتم به لنا؟ هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! قيل: ومن الغرباء؟ قيل: الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يُصلحون ما أفسد الناس}.
فيا أيها الشباب: الله الله في الرجوع إلى دين الله وكتاب الله، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفوا إلى المستهزئين فقد استهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأني أنظر إليه وهو يصلي عند الكعبة، لما وضعوا على رأسه سلا الناقة، واقرءوا هذا في سيرته صلى الله عليه وسلم، وما سئم ولم يضره ذلك، وما ضعف عزمه عن الدعوة إلى الله عز وجل، وعن طاعته سبحانه، وكم مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام من الابتلاء والامتحان فما ضرهم ذلك، كان منهم من تحمى الحديدة وتوضع على رأسه تفوح رائحة لحم رأسه، ومنهم من يسحب على الرمضاء، ومنهم من توضع عليه الصخرة الكبيرة، ولم يرده ذلك عن دين الله عز وجل، ومنهم من ضرب حتى اختلط أنفه بوجهه، ويحمل وهو يقول: كيف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولم يضرهم ذلك أبداً.
أما البعض منّا في هذه الأزمنة المتأخرة والمظلمة، إذا سمع كلمة بسيطة من بعض المستهزئين ابتعد عن الدين وانحرف والعياذ بالله، فلو رسخ الإيمان في قلبه، لما ضره ألقاب الملقبين، ولا ضره استهزاء المستهزئين، فلقد كان في من كان قبلنا يوضع المنشار على مفرق رأسه، ويوضع على الأرض قطعتين، ولم يرده ذلك عن دينه؛ لأن الإيمان ثبت في قلوبهم ثبوت الجبال الراسيات، فالله الله أيها الإخوة في الله!
وهذه بشارة يزفها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسطر لكم في كتب الأحاديث، ويدونها لكم علماء الإسلام، خدمة ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، هذه البشارة التي يزفها لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله حيث يقول: {وشاب نشأ في عبادة الله}.
أيها الإخوة: يقول ابن عباس رضي الله عنهما عن عذاب البرزخ: [[إن اللوطي إذا مات من غير توبة مسخ في قبره خنزيراً]] نسأل الله العفو والعافية اللوطي الذي يأتي الذكران من العالمين دون النساء، الذي يهجر ما أحل الله له من الزوجة الطيبة ثم يرتكب هذه الجريمة الشنعاء؛ جريمة اللواط التي إذا فعلت في مكان هربت الشياطين منه، تخشى أن ينزل عليهم العذاب مع أولئك المفسدين الذين يفسدون في الأرض، وتكاد الجبال أن تقتلع من أصولها؛ لأنها جريمة نكراء، وما عذب الله أمة أشد عذاب مما عذب به قوم لوط، حيث أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع قراهم ويرفعهم إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح الديوك ونباح الكلام، ثم قلبها عليهم، ثم أتبعهم الله بحجارة من سجين.
تلك القرى التي كانت تغط بالناس، أصبحت الآن بحيرة ميتة منتنة لا يستفاد منها، ثم عقب الله بذلك، وقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
وأبو بكر رضي الله عنه أحرق اللوطي في النار، وكذلك عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وقال: ابن عباس رضي الله عنه: [[أرى أن ينظر أعلى مكان في البلد، ثم يرمى منه ويتبع بالحجارة]].
هذا اللوطي الخبيث صاحب الجرثومة الشريرة التي تنشر الشر والعار في الأرض نسأل الله العفو والعافية.(8/9)
حكم المنكر لعذاب القبر ونعيمه
أيها الإخوة: عذاب البرزخ ونعيمه حق، والذي ينكر ذلك كافرٌ والعياذ بالله، ومن عمل صالحاً واتقى الله عز وجل وبادر إلى طاعته فهنيئاً له في قبره؛ أن يكون له روضة من رياض الجنة، ومن عمل السيئات واقترف الجرائم والموبقات؛ فسوف يكون عليه قبره حفرة من حفر النيران.(8/10)
النفخ في الصور وما بعده
ثم يمكثون في القبور وتنتهي الحياة الثانية وهي حياة البرزخ، ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل لينفخ في الصور، قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] فإذا نفخ إسرافيل في الصور مات كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله سبحانه وتعالى، وبقي الله سبحانه وتعالى الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الحي القيوم الذي لا يموت أبداً.
قال الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ثم ينادي {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}} [غافر:16] فلا يجيبه أحد، ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفح في الصور حتى تخرج الأرواح من ذلك الصور إلى أهلها في القبور ليقوموا من قبورهم، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:68 - 69].(8/11)
أهوال يوم القيامة
قال القائل:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رأس العباد تفور
وإذا النجوم تكدرت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور
الله أكبر! جنين صغير لم يقترف ذنباً واحداً!
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
مثل لنفسك يا عبد الله! إذا قامت القيامة، وشاب الولدان، وكثر الزحام، وارتفعت الأصوات بالبكاء، وعنت الوجوه للحي القيوم، وقد خاف من حمل ظلماً يوم القيامة نقوم وقد تغير علينا هذا العالم بما حدث فيه من انقلاب {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] فكم من شيخ كبير ينادي في ذلك اليوم العظيم: واشيبتاه! ينادي على ما أضاع من عمره في الحياة الدنيا، وكم من كهل ينادي: واكهلاه! واعمراه! يبكي على عمره الذي أضاعه في غير طاعة الله، وكم من شاب ينادي: واشباباه!
أيها الشاب! تذكر ذلك اليوم العظيم، تذكر ذلك العمر الذي تضيعه عند الأفلام والتمثيليات، وعند الألعاب المخزية، وعند الشنار والعار في الدنيا، وسوف تذكر ذلك الشباب إذا وقفت في ذلك الموقف العظيم {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] نعم سوف تذكر ذلك العمر -يا عبد الله- في ذلك اليوم {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان:25] نزلوا ليحيطوا بالعالمين، سبعة صفوف من الملائكة، فهل لك من مفر يا عبد الله؟!
تلك هي النهاية في ذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:18].
الأولون والآخرون يجتمعون في صعيد واحد وعلى أرض واحدة ليس فيها جبال ولا وهاد: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:18 - 20] هذه الجبال العظيمة التي نجلس سنين لنفتح نفقاً فيها! ولكن بقدرة الله عز وجل تأتي يوم القيامة كأنها سراب {كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] قال الله: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:19 - 20].(8/12)
الاستعداد ليوم القيامة
فيوم القيامة يحتاج إلى عدة واستعداد وتقوى، فالمسألة مسألة عظيمة، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} [النبأ:38 - 39] فالملائكة على قدرهم وجلالتهم لا يتكلمون، فإن كنتم تؤمنون بذلك اليوم الحق فاستعدوا له {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40].
في ذلك اليوم العظيم، إذا حشرت الوحوش، واقتص لبعضها من بعض، وهذا من عدل رب العزة والجلال أنه يأخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حقها، ثم يقول لها: كوني تراباً، فيقول الكافر في ذلك اليوم: يا ليتني كنت تراباً.
أيها الإخوة: في ذلك اليوم العظيم نأتي حفاةً عراةً غرلاً؛ لذلك تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: {يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! قال: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} فهل تفكرنا في ذلك اليوم أيها الإخوة؟ هل تذكرنا ذلك اليوم العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون؟ إن القلوب لمريضة، وإلا كيف يمر بنا سماع ذلك اليوم العظيم مر الكرام، ونحن لاهون غافلون.(8/13)
شدة العرق في يوم القيامة
أيها الإخوة: مشهد عظيم يصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم} لماذا يا رسول الله؟! اسمعوا الخبر يا عباد الله! لأن الشمس قد أدنيت منهم بمقدار ميل، فيكون الناس في العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، قال الله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
لا إله إلا الله! رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها فمن حقق ذلك دخل الجنة على ما كان له من عمله.
أيها الإخوة! يا أهل لا إله إلا الله! يا خير أمة أخرجت للناس! يا أمة محمد! الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لنستعد لذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله عز وجل، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يعبرون على الصراط.(8/14)
المرور على الصراط
أيها الإخوة: ثم يمر الناس على الصراط يوم القيامة، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأشد الرحال، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من هو كأشد الرجال عدواً، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يزحف على الصراط، فتأخذه كلاليب جهنم فتقذف به في وسطها، إنه لمشهد عظيم ومزعج، ورسل الله صلى الله عليهم وسلم واقفون على جنبتي الصراط يقولون: يا رب سلم سلم.(8/15)
دعوة للرجوع إلى كتاب الله
أيها الإخوة! يا أمة محمد! يا من قرأتم كتاب الله! ارجعوا إلى كتاب ربكم؛ لتنظروا ما فيه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ولتعرفوا ما فيه مما أعد الله لأوليائه في الجنة، وما أعد لأعدائه في نار جهنم، وتذكروا يوم تقسم الصحائف، فآخذ باليمين وآخذ بالشمال أو آخذ من وراء ظهره نسأل الله السلامة.
أيها الإخوة: وفي نهاية المطاف لا شك أن الناس -وكلنا نؤمن بذلك- ينقسمون إلى قسمين: قسم إلى دار السعادة والأفراح، إلى دار النعيم، إلى الجنة، إلى دار السعداء، وقسم يذهب بهم إلى النار، ويسحبون على وجوههم إلى نار جهنم.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، وارزقنا نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير اللهم اجعلنا من أهل الجنة، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا تجعلنا من أهل النار {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، وارزقنا استعمالها في طاعتك وفي رضاك وفيما تحبه وترضاه يا رب العالمين اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا ارحم الراحمين اللهم دعوة من أعماق قلوبنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/16)
علامات الساعة الصغرى والكبرى
إن العلم بأشراط الساعة من العقائد الإسلامية التي يجب على المسلم معرفتها والإيمان بها، وعلامات الساعة قسمين: علامات صغرى وعلامات كبرى.
وفائدة هذه العلامات بيان للناس بقرب قيام الساعة.
فالواجب على المسلم أن يبادر بالتوبة قبل أن يحال بينه وبينها، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، فعندها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.(9/1)
الحث على التوبة والتمسك بدين الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
أيها الإخوة في الله: مرةً أخرى أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يدخلنا الجنة، وأن نتبادل هذه التحية في جنات النعيم، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
أيها الإخوة في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل خاصةً في هذه الأزمنة المظلمة، التي تتلاطم فيها الأمواج، فالوصية في التقوى هي وصية الله في الأولين والآخرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
أمة الإسلام: الله الله بالتمسك بدين الإسلام، واسألوا الله الثبات على ذلك.(9/2)
العلم بأشراط الساعة
أيها الإخوة في الله: اعلموا أن العلم بأشراط الساعة من العقائد الإسلامية التي يجب على المسلم معرفتها والإيمان بها.
عباد الله: إن للساعة علامات صغرى وعلامات كبرى، يقول الله جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ويقول جل وعلا: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63].
نعم.
إن للساعة أشراطا، ومعنى أشراطها أي: علاماتها المؤذنة بقرب قيامها، وأول علامات الساعة: بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى ثم موته صلى الله عليه وسلم.
والساعة -أيها الإخوة في الله- من علم الغيب الذي لم يطلع عليه أحدٌ من الخلق لا ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسل {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].(9/3)
علامات الساعة الصغرى والكبرى
أيها الإخوة في الله: أذكر ما تيسر من علامات الساعة الكبرى والصغرى، ولكن سوف يكون على غير ترتيب، فربما قدمت، وربما أخرت، وذلك حسب اطلاعي وعلمي القاصر، فمن علامات الساعة -أيها الإخوة في الله- ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، وتسمى بغير اسمها.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ظهر الجهل في كثيرٍ من البلدان، ومع الأسف الشديد حتى التي تدعي أنها بلدان إسلامية، وشربت الخمور وسميت بغير اسمها، سميت حشيشاً وسميت (وسكي) وسميت غير ذلك من الحبوب المخدرات والمسكرات، التي ابتلي بها كثيرٌ من الناس، أضاع بها عقله وشرفه وماله وحياته، فنسأل الله العفو والعافية، ونسأل الله الثبات على دينه.
ومن علامات الساعة أن يفشو الزنا، ويقل الرجال، وتكثر النساء حتى يكون للخمسين امرأة قيمٌ واحد.
أيها الإخوة في الله: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان تكون بينهما مقتلةٌ عظيمةٌ دعوتهما واحدة} فسر العلماء هذا الحديث العظيم بما وقع في زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما، حيث كانت كل من الفئتين تدعو إلى ما تراه أنه الحق حيث نتج عن تلك المقتلة نحو سبعين ألفاً على ما قيل.
وأيضاً أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يخرج بعده دجالون كذابون قريبٌ من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وقد ظهر كثيرٌ منهم، ولا رسول ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:40].
وأيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الساعة لا تقوم حتى يقبض العلم، فالمراد بالعلم هو العلم الشرعي علم الكتاب والسنة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأيضاً قبض العلم يكون بموت العلماء كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل، وهي نوعان:
زلازل حسية تهز الأرض هزاً، فتدمر القرى والمساكن.
وزلازل معنوية تزلزل الإيمان والعقيدة، والأخلاق والسلوك، حتى يضطرب الناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكم.
نسأل الله العفو والعافية، اللهم إنا نسألك الثبات على دينك، اللهم إنا نسألك الثبات على دينك، إنها فتنٌ يصبح العاقل الحليم فيها حيراناً.
أيضاً يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره، وذلك بكثرة الغفلة، وفشل الأعمال والأوقات حتى يمضي الزمن الكثير، والإنسان ما صنع إلا شيئاً قليلاً، أو يحتمل معنىً آخر وهو: سرعة إنجاز الأمور التي لا تنجز إلا بزمنٍ كثيرٍ كما يشاهد اليوم في وسائل النقل ووسائل الإعلام، فكم من بلدٍ لا يوصل إليه إلا بعد أشهر، والآن يوصل إليه بزمن قليل، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور حين سأله جبريل عليه السلام عن الساعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأخبرك عن أماراتها: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان}.
وأيضاً يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه حذيفة بن أسيد قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه، فاطلع علينا، فقال: ما تذكرون؟ قلنا: الساعة، قال: إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب، وخسفٌ في جزيرة العرب، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونارٌ تخرج من قعر عدن تُرحِّل الناس} أي: تأخذهم بالرحيل وتزعجهم.
يا عباد الله! يا أمة الإسلام! بادروا بالتوبة إلى الله، بادروا بالأعمال الصالحة، فإنها إذا حصلت العلامات الكبرى أغلق باب التوبة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وذلك قبل يوم القيامة كائنٌ من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئاً من أشراط الساعة، وكما قال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً}.
عباد الله: البدار البدار بالتوبة النصوح.
أيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، فتن الدين والدنيا، أما فتن الدين فكل ما يصد عن الإيمان بالله، والقيام بأمره، واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم من العقائد الفاسدة والأفكار الهدامة، والسلوك المنحرف، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بالاشتغال بالشهوات واللذائذ المحرمة، وأما فتن الدنيا، فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب، وظهور الفتن دليل على ضعف العلم الصحيح والإيمان الخالص، ويقول صلى الله عليه وسلم: {بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا}.
وأيضاً يخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر القتل، سواءٌ كان ذلك بالحروب، أو بالاغتيالات، وقد حصل ذلك أيها الإخوة في الله.
فنسأل الله الكريم رب العرض العظيم أن يجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية.
أيضاً يخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، ويهم الرجل من يقبض صدقته، وحتى يعرض الرجل على الرجل هبةً أو صدقةً فيقول: لا حاجة لي بها.
وأيضاً يخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان، وذلك دليلٌ على اشتغال الناس في أحوال دنياهم دون أحوال دينهم؛ لأن التطاول في البنيان يشغل القلب والبدن، فيلهو به الإنسان عن مصالح دينه.
وأيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: ليتني مكانه، وذلك لما يرى من الأمور العظام، التي يفضل الموت عليها من عظيم البلاء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم، واستحلال الحرام.
وأيضاً يخبر صلى الله عليه وسلم في قوله: {ليكونن في آخر الزمان أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} وقد حصل هذا، فنسأل الله جلت قدرته أن ينجينا من مضلات الفتن إنه على كل شيءٍ قدير.
وأيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الساعة لا تقوم حتى تطلع الشمس من المغرب، ويختل نظام سيرها، فحينئذٍ يعلم الناس أنها تسير بتقدير الله وأمره فيؤمنون، ولكن لا إيمان ينفع في تلك اللحظة إلا من كان مؤمناً من قبل، أو كسب في إيمانه خيراً، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أمثال تبين أن الساعة تقوم بغتة، فقال صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والرجلان بينهما ثوبٌ قد فلاه يتبايعانه، فلا يمكنهما البيع ولا طي الثوب، وتقوم والرجل قد انصرف بلبن ناقته ليشربه، فلا يتمكن من شربه، وتقوم والرجل يصلح حوض إبله ليسقيها، فلا يسقي فيه، وتقوم وقد رفع اللقمة إلى فمه، فلا يطعمها}.
الله أكبر -يا عباد الله- ومن علامات الساعة الكبرى التي أسأل الله بمنه وكرمه أن يجيرنا منها إنه على كل شيءٍ قدير، ألا وهو الدجال، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه وأرضاه قال: {ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما ذهبنا إليه، عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداةً، فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال صلى الله عليه وسلم: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم.
إنه شابٌ قطط عينه طافئة، كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنه خارجٌ خلةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، يا عباد الله فاثبتوا، يا عباد الله فاثبتوا} هكذا يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروج هذه الفتنة الكبيرة وهو الدجال، يأمر بالثبات.
اللهم إنا نسألك الثبات، اللهم إنا نسألك الثبات، اللهم إنا نسأل الثبات، قلنا: {يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يومٌ كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره.
قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم -اسمعوا يا عباد الله، يا لها من فتنة! يا لها من محنة! نسأل الله الثبات- فيأتي على القوم، فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرا، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم، ويمر بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزكِ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه -يدعو هذا الشاب- فيقبل ويتهلهل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك} وفي رواية: {ثم يقول لهذا الشاب: أوما تؤمن بي؟ قال: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيأخذه ليذبحه، فلا يستطيع عليه}.
{فبينما هو كذلك يعيث في الأرض فساداً، إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه، تحدر منه جُمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه في لج -عيسى بن مريم عليه السلام يطلب المسيح الدجال- فيدركه بـ باب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يَدَان لأحدٍ بقتالهم، فحرِّزْ عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدبٍ ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماء، ويُحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرٌ من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفسٍ واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله جل وعلا، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكنّ منه بيت مدر، ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذٍ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون في الأرض تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة}.(9/4)
النفخ في الصور وقيام الساعة
بسم الله الرحمن الرحيم.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] ويقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:96 - 97] ثم تقوم القيامة الكبرى التي أخبر الله عنها:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] ويقول جل وعلا: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] وذلك عندما يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة البعث التي يخرجون منها من القبور لرب العالمين، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51].
أيها الإخوة في الله: عند ذلك إذا أمر الله سبحانه وتعالى، أو قبل أن يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور يأمر الله ملكاً ينادي على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14].(9/5)
الوقوف بين يدي الله يوم القيامة
أيها الإخوة في الله: إنها أمور عظيمة عندما تحين قيام الساعة الكبرى، فعند ذلك يحين للقيامة القيام، فتذكر يا ابن آدم! ذلك الموقف العظيم، عندما تكون حافي القدمين، عاري الجسم، حاسر الرأس، تعلوك المذلة وأنت منفردٌ بأحزانك وهمومك وغمومك، القلب خائف والبصر خاشع: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] فتذكروا -يا عباد الله- وقوفكم يوم القيامة، ثم تذكروا إقبال الوحوش في ذلك اليوم العظيم منكسة رءوسها، ثم تذكروا هذه الشمس التي تشرق وتضيء العالم عندما تكور، والقمر عندما يخسف به، والنجوم عندما تتنثر وتنكدر، والسماء عندما تتشقق: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] قيل: تذوب كما تذوب الفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ من شدة الأمر وهول يوم القيامة، حقاً إنه يوم يجعل الولدان شيباً.
يا ابن آدم! تذكر شدة الوقوف وقد أدنيت الشمس من رءوس الخلائق، يا ابن آدم! يا من اغتر بإمهال الله له! يا من اغتر وتمادى بالغفلة والعصيان!
يا ابن آدم! أتظن أنك مهمل؟ لا ورب العزة والجلال.
يا ابن آدم! تذكر شدة الوقوف وقد أدنيت الشمس من رءوس الخلائق، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وزحام الأجسام، وقد ذهب العرق منهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم فاض عليهم، فمنهم من يبلغ منهم العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.
وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس، وانضاف إلى كثرة الأنفاس ازدحام الأنفاس والعطش، ولا نوم ولا راحة، ثم تذكر يا ابن آدم في ذلك الموقف العظيم قول الملك العلام: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] تذكر يوم أن يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يجره سبعون ألف ملك، في ذلك اليوم العظيم لا يبقى ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسلٌ إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي نفسي.
ثم تذكر عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل والأهوال، التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
أيها الإخوة في الله: لا أنسى أن أذكركم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني آليت على نفسي ألا أجلس مجلساً مثل هذا المجلس إلا ذكرته لإخواني؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} فالحديث -أيها الإخوة في الله- يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه}.
هؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أيها الإخوة في الله: متى؟ في ذلك اليوم العظيم الذي ظهرت فيه المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والذعر.
اسمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم {كان رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، فنعس، فتذكرت الآخرة، فبكت، فسالت دموعها على خد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة.
هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإنه لا يذكر أحدٌ أحداً إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط}.(9/6)
الغفلة عن يوم القيامة
عباد الله: لو تذكرنا ذلك اليوم العظيم؛ لقَوِيَ الإيمان عندنا، ولكن -مع الأسف الشديد- الغفلة طمت على القلوب -يا عباد الله- كل يوم نسمعها، كل يوم نسمع هذا اليوم العظيم يكرر علينا ونكرره أيضاً في كل نافلة وفي كل فريضة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ما هو يوم الدين؟ يوم الجزاء والحساب -يا عباد الله- يوم القارعة، يوم الصاخة، يوم الحاقة، يوم الطامة الكبرى، يوم الواقعة، يا له من يوم عظيم!
يا ابن آدم! تذكر وأنت واقفٌ في ذلك الموقف العظيم، مع الخلائق الذي لا يعلم عددهم إلا الله، إذا نودي باسمك على رءوس الخلائق من بين الأولين والآخرين، فقمت ترتعد فرائصك، فهنيئاً إن كنت من أصحاب اليمين، عندما ترفع هذه الصحيفة التي سوف تأخذها بيمينك، هنيئاً لك عندما تقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] ثم هنيئاً لك في جنةٍ عالية قطوفها دانية، يقال لأهلها: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ويالها من حسرةٍ وندامة، عندما يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، عندما يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] يالها من حسراتٍ لا تنقضي إذا قال الجبار جل جلاله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] هنيئاً لأهل الجنة عندما يذبح الموت، ويقال لهم: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا ويل أهل النار عندما يقال: يا أهل النار خلود ولا موت.
عباد الله: في نهاية هذا الكلام الذي أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم به، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، في نهايته أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وكثرة قراءة القرآن، وكثرة ذكر الله عز وجل، فإنه بكثرة ذكر الله تحيا القلوب وتلين، أما إذا غفلت عن ذكر الله وأعرضت وصدت، فلا تسأل عنها بأي وادٍ تهلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة في الله: قووا عزيمتكم وإيمانكم، وتوكلكم بالله جل وعلا، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى هو النافع والضار بيده الملك وهو على كل شيء قدير، هو المحيي وهو المميت، وهو المعز والمذل، وهو الخافض والرافع، يعطي ويمنع، يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، لا إله إلا هو، ولا رب لنا سواه.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بالمبادرة إلى أداء فرائض الله عز وجل، وإتباعها بالنوافل حتى تكونوا من أحباب الله، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه -ثم يقول جل وعلا-: وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} {وإذا أحبك الله -يا عبد الله- ينادي الله في ملكوت السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، وينادي جبريل في ملكوت السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض، ولكن الأخرى -يا عبد الله- إذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، وينادي في ملكوت السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء وتوضع له البغضاء في الأرض}.
فالله الله يا إخواني في الله بالمبادرة بطاعة الله عز وجل وإلى كثرة ذكر الله وبر الوالدين وصلة الأرحام، وإفشاء السلام فيما بيننا، يقول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم} أفشوا السلام بينكم يا عباد الله.
اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام واجعلنا هداةً مهتدين، متحابين فيك متراحمين، اللهم اجعلنا ممن ذكرهم رسولك صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله} اللهم اجعلنا من الذين قال فيهم رسول الله: {فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس} اللهم اجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.(9/7)
وقفات
إن العبد المؤمن لا بد أن يكون له وقفات يحاسب فيها نفسه، وينظر إلى أعماله ويتدبر آيات الله الشرعية والكونية، ومآله ورجوعه إلى ربه سبحانه وتعالى، وأن يتذكر اليوم الآخر والبعث والنشور، وما أنزل الله في كتابه من ذكر الجنة والنار.(10/1)
وقفة مع التقوى والثمار المترتبة عليها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:102 - 103] فبتقوى الله عز وجل يجعل الله للمرء من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ويرزقه من حيث لا يحتسب، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وبتقوى الله عز وجل ييسر الله للمرء أموره، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] وإذا رزق الله المرء التقوى فإنه يفرق بين الحق والباطل, والنافع والضار، ويمشي ويسير على نور الله عز وجل الذي من اهتدى به فلن يضل أبداً يقول تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
بالتقوى تيسر الأمور، وإذا التزم الإنسان التقوى، وسار على نور من الله، فلا تسأل عن أحواله، فإن الله سبحانه وتعالى يلحقه بالسعداء، أما من أعرض عن التقوى، وأعرض عن الله عز وجل، وأعرض عن ذكر الله وصدَّ وابتعدَ عن الله فلا تسأل عنه بأي وادٍ هلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
موقف: إذا سار الإنسان في الحياة على تقوى الله عز وجل، فإنه في هذه الحياة يسير على نور من الله عز وجل، ثم إذا أتاه هادم اللذات، ومفرق الجماعات فإنه يموت على حسن الخاتمة، ويقال لروحه: أيتها الروح الطيبة! أخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
إذا استقام الإنسان على طاعة الله وآمن بالله فإن البشرى تنزل عليه عند هذا الموقف -أي: عند الموت- تبشره برضوان الله عز وجل قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] لماذا؟ لأنه سار في حياته على تقوى الله عز وجل، لأنه اتخذ من التقوى مطية له أوصلته إلى رضوان الله عز وجل.
ومن تفسير التقوى عند العلماء، قال بعضهم هي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وما أحسن ما فسرها به الإمام علي رضي الله عنه! حيث قال: [[الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والتزود ليوم الرحيل]] أربعة عوامل إذا التزمها الإنسان فهنيئاً له في حياته، وهنيئاً له عند موته، لنزول البشرى له من رب الأرض والسماوات.
أما من أهمل التقوى، ونزلت به سكرات الموت، فلا تسأل عن حاله -نسأل الله العفو والعافية- إذا كان قد أضاع عمره، في اللهو واللعب, وفي غير طاعة الله؛ فإنه عند ذلك يندم ويتحسر في ذلك الموقف عند خروج الروح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] نسأل الله العفو والعافية.(10/2)
وقفة مع روح المؤمن والكافر
أيها الإخوة في الله! سوف يندم من أضاع عمره في غير طاعة الله، سوف يندم عند خروج الروح, وعند معاينة ملك الموت ومن معه من الملائكة الذين ينزلون لقبض روحه، يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] معنى الآية: أن الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم لتخرج تلك الروح وتتمزق في ذلك الجسم، ويقال لها: اخرجي إلى سخط من الله وغضب، نسأل الله العفو والعافية.
أيها الإخوة في الله! هذا موقف يحتاج لنا أن نتفكر فيه, فعلى أي شيء تخرج الروح؟! هل تخرج على طاعة الله ومرضاة الله والبشرى أم تخرج على سخط الله وغضب الله والإهانة، والملائكة يضربونها ثم توضع في تلك الأكفان التي جاءت بها ملائكة العذاب؟
ينبغي لنا أن نطيل الفكر في ذلك الموقف.(10/3)
كيفية خروج روح المؤمن
موقف آخر: يقال لروح المؤمن -وهي تصعد في السماوات ويفتح لها- من هذه الروح؟ فيقال: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، ثم يقال لها: أعيدوها إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى.
ثم يفسح له في قبره مدّ البصر، ويفتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وطيبها، ويأتيه عمله الصالح بصورة شاب حسن الوجه طيب الريح، يقول له: أبشر بالذي يسرك! فيقول له: من أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فهذا موقف طيب ليسر به أحسن مما كان عند أهله وأولاده، فعند ذلك يقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة؛ لأنه عندما نجح في هذا الموقف مع الملكان عندما سألاه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وبادر بالإجابة، وأعطي تلك الكرامات في هذا القبر, وكان قبره روضة من رياض الجنة, فعند ذلك ضمن ما بعده، وهي الدرجات العلا في جنات النعيم.
هذا الموقف أيها الإخوة في الله! يحتاج للإنسان أن يتفكر فيه، وهل كل إنسان يحوز على هذا الموقف؟! الله سبحانه وتعالى يقرر هذا في كتابه الكريم ويقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فثبته الله في الموقف الأول عند خروج الروح أن خرجت روحه على كلمة التوحيد، على شهادة أن لا إله إلا الله، وثبته الله سبحانه وتعالى في قبره عندما سأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
أما غير المؤمن فإنه إذا قيل له: قل لا إله إلا الله عند خروج الروح، فإنه لا يأتي بلا إله إلا الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يثبته على القول الثابت، وتخرج روحه على ما عاش عليه في هذه الحياة الدنيا من اللهو والعبث والإعراض عن طاعة الله عز وجل.(10/4)
من أحوال المحتضرين
لقد ذكرت لكم في غير موقف ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى عن بعض المحتضرين -نسأل الله العفو والعافية- أنه كان شارب الخمر، فلما قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: ناولوني الكأس، وخرجت روحه وهو يقول: ناولوني الكأس!! فبئس الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية.
والذي عاش على الغناء وشب على الغناء لما قيل له: قل لا إله إلا الله عند خروج الروح، جعل يردد الغناء، وخرجت روحه على تلك الحال، نسأل الله العفو والعافية.
والذي يشرب الدخان لما قيل له: قل لا إله إلا الله، بعضهم يقول: تتن حار، تتن حار! وخرجت روحه وهو يقول هذه العبارات، نسأل الله العفو والعافية.
وحادثة قريبة حدثت في بعض المستشفيات، أن بعض الشباب كان جالساً عند والده، ولما قال له يا أبت! قل لا إله إلا الله، قال: أشعل لي سيجارة، وخرجت روحه وهو يقول: أشعل لي السيجارة ولم يقل: لا إله إلا الله، نسأل الله العفو والعافية.
أيها الإخوة في الله! نسأل الله حسن الختام, وعلى الإنسان أن يسأل -الله دائماً حسن الختام، ولا يُعجب- بعمله ولا يمنَّ به على الله، بل يحمد الله الذي هداه.
احتضر رجل، فقالوا له: قل لا إله إلا الله، قال: هو كافر بلا إله إلا الله! وأتوا بالقرآن، فقالوا: هذا كتاب الله، قال: هو كافر بالقرآن! وخرجت روحه على تلك الحال.
أيها الإخوة في الله! إن حب الكفار وموالاة الكفار له تأثير عظيم على حياة الإنسان، فإن من أحب قوماً حشر معهم, نسأل الله العفو والعافية.(10/5)
حال العاصي بعد خروج روحه
أيها الإخوة في الله! وبعد خروج هذا الذي مات على سوء الخاتمة فلا تسأل إذا حملت الجنازة وحملها الرجال على أعناقهم، تقول عند ذلك: يا ويلها أين تذهبون بها؟! -نسأل الله العفو والعافية- أما جنازة المؤمن فتقول: قدموني قدموني! أما هذا فتقول هذه الجنازة: يا ويلها أين تذهبون بها؟! يسمعها كل شيء إلا الإنس والجن، ثم يُصعد بروحه إلى السماء فتغلق دونه أبواب السماء، وترد روحه إلى الأرض، ويبدأ به الامتحان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك، فيقول: هاه هاه لا أدري! فيضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل من جبال الدنيا لتفتت نسأل الله العفو والعافية.
وينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوه من النار, وألبسوه من النار, وافتحوا له باباً إلى النار، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يأتيه عمله الخبيث، ويقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، هذا العمل الذي دأب به في الحياة الدنيا، هذا العمل الذي عاش به في الحياة الدنيا عيشة الإعراض، وحياة الصدود عن رب العالمين, الذي خلق فسوى وقدر فهدى، هذا عمله الذي كان يمارسه في الحياة الدنيا قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ماذا يقول؟ يقول: رب لا تقم الساعة، لماذا؟ لأن بعد هذا ما هو أفظع وأشد وبعده نار جهنم، نسأل الله العفو والعافية.(10/6)
وقفة مع عذاب البرزخ
مواقف أيضا تحتاج إلى التفكر أيها الإخوة في الله، وهي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه آتيان فانطلقا به، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {أتينا على رجل مستلقٍ وإذا رجل آخر معه حجر، فيضربه بهذا الحجر، فيتدهده الحجر، ثم يأتي بالحجر وإذا بالرأس قد صحا فيضربه بالحجر، فكلما صحا ضربه بالحجر} -ونختصر الحديث- ثم سأل صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي يضرب بالحجر، فقال: من هذا؟ فقالا: هذا الرجل الذي يأخذ القرآن ويرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، فهذا عذابه في البرزخ إلى يوم القيامة نسأل الله العفو والعافية.
ومرّ صلى الله عليه وسلم على رجل آخر مستلقٍ لقفاه، وإذا رجل آخر معه مثل الكلوب يشرشر عينه ومنخره إلى قفاه، ثم يذهب إلى الجانب الآخر، ثم يعود إلى الجانب الأول فإذا به قد عاد، صحا كما كان، فهذا عذابه في البرزخ إلى يوم القيامة.
ثم سأل صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قالا: هذا الذي يغدو بالكذبة فتبلغ الآفاق، هذا الكذاب الذي توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فقال: {وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا} نسأل الله العفو والعافية.
ثم مرّ في موقف آخر صلى الله عليه وسلم، وإذا هما يقفان به على مثل التنور، وإذا به رجال ونساء عراة، وإذا هذا التنور أعلاه ضيق، وأسفله واسع، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم هذا اللهب ارتفع بهم، ضوضوا، قال: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني، هذا عذابهم في البرزخ قبل يوم القيامة، الذين يمارسون جريمة الزنا الجرثومة الخطيرة التي ضررها في الدنيا وضررها في البرزخ وعذابها يوم القيامة، أما ضررها في الدنيا، فهي فقر ويسود وجهه، ويصاب بالأمراض التي تسمعون بها، كمرض الإيدز والهربز والزهري والسيلان، كل هذا من أسباب مرض الجريمة البشعة جريمة الزنا -نسأل الله العفو والعافية- هذا في الدنيا مع ما يصاب به من الفقر وسواد الوجه، أما في البرزخ إذا مات من غير توبة، فإنه يوضع في مثل التنور، أسفله واسع وأعلاه ضيق، نسأل الله العفو والعافية, اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً.
ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موقف آخر، ويقف على رجل، وإذا هو يسبح في نهر مثل الدم، وإذا على ساحل النهر رجلٌ قد جمع عنده من الحجارة، وإذا بذلك السابح يسبح، ويأتي إلى هذا الرجل الذي على حافة النهر، فيلقمه حجراً، ثم يذهب ويسبح ويأتي ويلقمه حجراً، فقال: من هذا؟ قالا: هذا آكل الربا، قال بعض العلماء في شرح هذا الحديث: إن هذه الحجارة التي جمعها ويلقمها إياه، هي الأموال التي جمعها من الربا، ثم لا تسأل عن حاله إذا قام يوم القيامة، كالذي يتخبطه الشيطان من المسَّ -نسأل الله العفو والعافية- هذا آكل الربا أيها الإخوة في الله.
ومن المواقف التي ينبغي للإنسان أن يأخذ حذره منها، وهي الغيبة -أيها الإخوة في الله! - فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به رأى أناساً أظفارهم من نحاس, يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويأكلون لحومهم نسأل الله العفو والعافية.
وأيضاً وردت النصوص في التحذير من الغيبة؛ لأنه موقف بشع، ينبغي للمسلم أن يتحاشى عنه ويبتعد، ومرَّ صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: {إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة -ينقل الحديث بين الناس لقصد الإفساد- وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله} ويكفي للنمام وعيداً قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام} نسأل الله العفو والعافية.
أيها الإخوة في الله! مواقف يحتاج الإنسان أن يتفكر فيها ليبتعد عنها، ويحذر من وقع فيها.(10/7)
وقفة مع يوم القيامة
أيها الإخوة في الله! بعد هذه المواقف، سوف يحدث لهذا العالم انقلاب يتغير فيه، قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] لماذا؟ ليقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، ليقفوا في عرصات القيامة.
أيها الإخوة في الله! إنه موقف عظيم يحتاج للإنسان أن يطيل التفكر فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] متى؟! {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] متى؟! {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] إذا جاء الله عز وجل يوم القيامة لفصل القضاء بين العباد.
أيها الإخوة في الله! إنه موقف عظيم يحتاج للإنسان أن يتفكر فيه، وهذا الموقف والله ثم والله لا ينجو منه إلا من تزود بالتقوى، قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197] فمن جاء بالتقوى نجح في ذلك اليوم العظيم {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة:18] على تلك الأرض المستوية التي ليس فيها جبال ولا أودية {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] عند ذلك يحصل تقسيم الشهادات في ذلك اليوم العظيم، ولكن متى؟! بعدما يصيب الناس الهمَّ والغمَّ والكرب، ويحتاجون إلى من يشفع لهم، حتى ينزل رب العزة والجلال لفصل القضاء بين العباد، ويقولون: من يشفع لنا في هذا اليوم العظيم الذي دنت فيه الشمس قدر ميل، وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعا؟! من يشفع لنا في هذا اليوم العظيم الذي شخصت فيه الأبصار للحي القيوم؟
فيقول بعضهم لبعض: اذهبوا إلى آدم أبي البشر، فيأتون آدم عليه السلام، فيقول: لست لها، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، ومن الذي أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟! فيقول: إنه كان لي دعوة فدعوت بها على قومي، اذهبوا إلى غيري، نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.
فيذهبون إلى موسى عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: لست لها, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى, نفسي نفسي.
فيأتون إلى عيسى عليه السلام، فيقولون له: اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيعتذر ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
الله أكبر! يا لها من مواقف عظيمة!
يقول صلى الله عليه وسلم: فيأتون إلي، فيقولون: ألا ترى إلى ما نحن فيه اشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا لها أنا لها, فيخر تحت العرش ساجداً، ويفتح الله عليه من محامده، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع، فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم، ويقول: يا رب! أمتي أمتي!
الله أكبر! اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة.
أيها الإخوة في الله! إن مواقف القيامة عظيمة تحتاج إلى أن يتفكر فيها الإنسان، ويقف مع نفسه قليلا مع تلك الآيات العظيمة ليتفكر فيها، ليقف مع قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:34 - 41] يقف قليلاً ويتفكر، هل هو من أهل الجحيم؟! أعطى نفسه هواهها، وتمنى على الله الأماني، أو من أهل الجنة الذين خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى، واتبعوا طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتزموا الصراط المستقيم؟
ثم ينتقل ويتفكر أيضا في موقف آخر، يرتل ويردد: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].(10/8)
وقفة مع سورة القارعة
ثم يتفكر، هل هو من الذين وجوههم مسفرة أم من الذين وجوههم ترهقها قترة؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:38 - 42] نسأل الله العفو والعافية.
وإن كان الوقت معه ضيق، والمشاغل كثيرة، والهموم طويلة، فنقول له: يكفيك أن تنتقل إلى سورة قصيرة وترددها، وهي قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11].
سورة قصيرة فيها الأخبار العظيمة، أخبار أسماء القيامة، وفيها خروج الناس كالجراد المنتشر، وفيها صفة الجبال إذا صارت هباءً منثوراً، ثم خروج النتيجة هذا إلى الجنة في عيشة راضية، وذاك إلى النار، نسأل الله العفو والعافية.(10/9)
وقفة مع سورة الزلزلة
ثم ينتقل -أيضاً- إلى سورة قصيرة ويكررها، ونحن إنما ينقصنا التكرار -أيها الإخوة في الله! - ولو أننا وقفنا مع القرآن وكررنا السور القصيرة لحصل عندنا من الخير الكثير، وحصل عندنا من قمع هذه النفس الأمارة بالسوء، اقرأ قول الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:1 - 3] ما لها؟! لتفضحك يابن آدم, لتخرج أثقالها, الأعمال التي عملتها عليها من خير وشر، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:4 - 6] ليكشف لهم عن تلك الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] عند ذلك نرجع إلى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وهو يوم تقسيم الشهادات.(10/10)
وقفة مع آيات الحاقة والواقعة
اسمعوا إليهم يا عباد الله وهم يقتسمون الشهادات، فمنهم الفرح المسرور، ومنهم المغموم المحزون {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24] وهو عملك الصالح الذي قدمته في الدنيا، والذي جاءك في قبرك، وقال: أنا عملك الصالح, أبشر بالذي يسرك، فهو قد بشرك في القبر وجزيت به خيراً يوم القيامة.
أما الآخر الذي قال لعمله الذي جاء في قبره: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فقال له عمله: أنا عملك الخبيث، فاسمعوا ماذا يقول يوم القيامة قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28] أين المليارات والملايين؟! أين العقارات؟! كلها تذهب وتضمحل يوم القيامة {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] هلك السلطان والجاه، أين الملك؟!
أين الرتبة؟!
أين الوزارة؟!
أين العمارة؟!
كلها ذهبت واضمحلت.
هل تنفع هذه المعاذير أيها الإخوة في الله؟!
والله لا تفيد ولا تنفع، يقول الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] تصور هذا الموقف يا عبد الله! إذا أدخلت السلسلة من الفم وأدخلت إلى الدبر، وكبل بها ثم سحبته الزبانية إلى النار، والله إنه موقف عظيم: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:31 - 32] إلى أين؟ إلى جهنم وبئس المصير، قعرها سبعون خريفاً, إنها مواقف تحتاج إلى تفكر.
ثم يتفكر إذا انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام من أي قسم هو، هل هو من أصحاب اليمين، أم من السابقين، أم من أصحاب الشمال؟ نسأل الله العفو والعافية، اسمعوا إلى الله عز وجل وهو يقسمهم في هذه السورة، وهذا كله بعد القيامة {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:1 - 12] نسأل الله عز وجل أن يرزقنا التفقه في الدين، وأن يردنا إليه رداً جميلاً.(10/11)
دعوة إلى تدبر القرآن في شهر رمضان
أيها الإخوة في الله! أنتم الآن في هذا الشهر المبارك، وتتلون كتاب الله عز وجل، فإذا مررتم بهذه الآيات العظيمة التي فيها أسماء القيامة فيقف الإنسان عندها، فإنها التي تهز القلوب هزاً.
قف عند قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3] قف عند هذا الاسم العظيم، ثم ارجع إليه في التفسير، وانظر ماذا يقول العلماء في تفسير هذه الكلمات، قف عند قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8].
متى هذا يا أخي؟! هذا يوم القيامة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] يوم تختبر السرائر وتظهر علانية على رءوس الأشهاد.
ثم تفكر -يا أخي- في هذا الصراط هل أنت من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل البرق الخاطف، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاود الخيل، ومنهم كأشد الرجال عَدْواً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يحبو حبواً} ولا يستطيع العبور على الصراط بسرعة إلا الذي يسارع بالأعمال الصالحة إلى الله عز وجل.
وكما قلت لكم في أول الكلام: إن التقوى هي الزاد الذي ينجو به الإنسان يوم القيامة، اسمع قول الله تعالى، اسمع الصراط يا عبد الله! {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] كلنا علمنا الورود لكن ما علمنا الصدور، ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر من الذي يصدر ممن وردوا قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72].
تذكر -يا عبد الله- جهنم وهي تزفر تحت الصراط، تذكر تلك الكلابيب التي يختطف بها من يزحف على الصراط زحفاً، تذكر جنهم، وأهل جنهم وهم في أوديتها يهيمون، يأكلون الزقوم والضريع الذي ينشب بالحلوق، تذكر أهل جهنم وهم يشربون الصديد، تذكر أهل جهنم وهم يسحبون في أوديتها بالأغلال، تذكر أهل جهنم وعندهم الحيات والعقارب التي هي أمثال البغال، تذكر أهل جهنم وهم في أوديتها يهيمون ويصرخون والملائكة تضربهم بمقامع من حديد وهم ينادون: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! اشتد علينا العذاب، ثم يجيبهم الله بعد زمن فيقول: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
ثم تذكر -يا عبد الله- أهل الجنة وهم في ذلك النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول، تذكر وهم يفجرون تلك الأنهار, وهم في تلك القصور العالية، وعندهم الحور الحسان، وتذكر زيارتهم للملك العلام، تذكر ذلك اليوم العظيم إذا كشف الرب لهم عن وجهه لينظروا إليه، فهو والله يوم المزيد.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة, ولا تجعلنا من أهل النار برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/12)
اذكر مصابك بالحبيب
لقد أرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وكان أول ما بدئ به هو الرؤيا الصالحة، ثم أعقبه بنزول الوحي، وفيه أمره الله بالصدع بالدعوة والصبر على الأذى في ذلك، وقد عرض الرسول نفسه على القبائل، ولما بدأت دعوته تنتشر أجمعت قريش على التخلص منه بتدبير مؤامرة اغتيال، فنجاه الله منها، وانتقل إلى المدينة، فكان النصر والتأييد، حتى أتم الله النعمة وأكمل الدين ثم توفاه الله تعالى.(11/1)
الرسول في بداية الدعوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه لم يمت إلا وأكمل الله به الدين، وأتم الله به النعمة كما أخبرنا ربنا في محكم البيان: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فلله الحمد والمنة، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
يا أيها الإخوة في الله: في هذا الموضوع -الذي نسأل الله جل وعلا أن يجعله مباركاً إنه على كل شيءٍ قدير- نتناول من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الشيء اليسير، لن نستطيع أن نحيط بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن نأخذ منها اليسير الذي نستطيع عليه.
فأولاً: -أيها الأحباب- أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية الله للأولين والآخرين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] ويقول جل من قائل عليماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم قال جلَّ وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] ثم قال: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} [الحشر:20].
إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم رب محمد النبي صلى الله عليه وسلم اغفر لنا ذنوبنا، وأذهب غيظ قلوبنا وأجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك على كل شيء قدير.
أحبابي في الله! أكثروا من الحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، الذي بعث فينا هذا النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرج الله به من الظلمات إلى النور، وهدى به من الضلالة، وأخرج به من الجهل إلى العلم، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الظلم إلى العدل، إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي بشرت به الأنبياء قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/2)
نزول الوحي وموقف خديجة
أمة الإسلام: لقد بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، بعثه الله على رأس الأربعين من عمره، فأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء صلى الله عليه وسلم، وكان يخلو بـ غار حراء فيتحنث فيه -أي: يتعبد الليالي- ثم يأتي إلى أهله، ويتزود لذلك أيضاً، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها- أول ما تزوج من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها- ويتزود لتلك الأيام التي يخلو بها بربه، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، جاءه الملك جبريل عليه السلام فقال: {اقرأ، قال: ما أنا بقارئ} أي: لست أجيد القراءة؛ لأنه أميٌ صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب {فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة رضي الله عنها، فقال: {زملوني زملوني فزملوه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا.
والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد فقد بصره فقالت له خديجة: يا بن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي ينزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي: أكون حياً- إذ يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفارق الحياة}.(11/3)
الدعوة سراً وإسلام أبي بكر الصديق
توفي ورقة وفتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7].
هذه الدعوة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! يا خير أمة أخرجت للناس! هذه الدعوة تحتاج إلى صبر وتحمل، (ولربك فاصبر) فقام صلى الله عليه وسلم بأمر ربه تبارك وتعالى، فبشر وأنذر، وكان أول من أجابه من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان صديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فلما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم بادر أبو بكر إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال: [[أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله بأبي وأمي أنت أهل الصدق يا رسول الله]].
وصار أبو بكر رضي الله عنه من الدعاة إلى الإسلام حينئذٍ، فأسلم على يديه عثمان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.(11/4)
الصدع بالدعوة والصبر على الأذى
مكث نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً، حتى نزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فصدع بأمر الله تعالى وجهر بدعوته صلى الله عليه وسلم، فجعل المشركون يسخرون ويستهزءون به، ويؤذونه بالقول وبالفعل، وكان من أشد الناس له إيذاءً وسخرية عمه أبو لهب الذي قال الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] وأيضاً كانت امرأته تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واشتد أذى قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى حبسوه في الشعب ثلاث سنوات وأكل ورق الشجر، وألقوا عليه فرث الناقة وسلاها وهو ساجد صلى الله عليه وسلم بجوار بيت الله الحرام، فلم يقدر أحد على رفعه عنه، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة رضي الله عنه فألقته عن ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم.(11/5)
دعوة الرسول لأهل الطائف ومبايعة الأنصار
لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الاستهانة وكثرة الأذى له ولأصحابه؛ خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام، وقابل رؤساءهم وعرض عليهم الإسلام فردوا عليه رداً قبيحاً، وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم، فرجع مهموماً مغموماً مكروباً، ماداً يد الافتقار إلى رب العزة والجلال، فيأتيه ملك الجبال فيقول: يا محمد! إن شئتَ أطبقت عليهم الأخشبين، فماذا يقول صلى الله عليه وسلم؟ يقول: {لا.
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً} الله أكبر، لا إله إلا الله، صدق الله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
يقول بعض المفسرين: ما وصف نبي من الأنبياء بمثل هذا الوصف الذي وصف الله به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رءوف بالمؤمنين.
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف ومد يد الافتقار إلى الله جل وعلا فقيض الله له الأنصار، فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعوا منه نساءهم وأبناءهم.(11/6)
تآمر قريش على قتل الرسول
عندما علمت قريش بخبر المبايعة ترصدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا على التخلص من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما يروي أهل السير أنهم اجتمعوا في دار الندوة واجتمع معهم الشيطان -قاتله الله- فجاءهم في صورة رجل نجدي، فاجتمع معهم في دار الندوة فصدر رأيهم على أن يخرجوه من بلدته، وكل رأيٍ لا يوافق الشيطان يعترض عليه، ويقول: هذا ليس برأي، وآخر رأي اجتمعوا عليه، قالوا: نجمع من كل قبيلة شاباً ويضربوه ضربة واحدة ويتفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو هاشم أو بنو طالب أن تطالبنا بدم، فقال هذا الشيطان: هذا هو الرأي -قاتله الله- فاجتمعوا على ذلك، وجمعوا من كل قبيلة شاباً على أن يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم ويتفرق دمه بين القبائل، وترصدوا له عند الباب.(11/7)
الهجرة إلى المدينة
خرج صلى الله عليه وسلم من بيته -وهم ينتظرون خروجه- صلى الله عليه وسلم وأخذ التراب وجعل يضعه على رءوسهم وهو يتلو قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] وخرج من بين أيديهم صلى الله عليه وسلم سالماً، في ذلك الحين أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فهاجر في شهر ربيع الأول، وكان في صحبته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه، حتى وقفوا على الغار الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فيقول أبو بكر: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} الله أكبر، لا إله إلا الله ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وسارا إلى المدينة بحفظ الله ورعايته، فلما سمع الأنصار بذلك المقدم المبارك، جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم هو النور بإشراقته.
اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطين به متقلدين سيوفهم، وخرج النساء والصبيان وكل واحدٌ منهم يأخذ بزمام ناقته يريد أن ينزل عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {دعوها فإنها مأمورة} حتى إذا أتت إلى محل مسجده -المسجد النبوي الشريف- بركت فيه فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكن في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، حتى بني المسجد ومساكنه صلى الله عليه وسلم.(11/8)
الرسول يقيم دولة الإسلام في المدينة
ثم لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت تنتشر دعوته دعوة الحق التي أنقذت العالم من هُوَّة ساحقة، دعوة أخرجتهم من الظلمات إلى النور، دعوة أخرجتهم من عبادة الأوثان والأصنام والأشجار والأحجار والقبور والشمس والقمر إلى عبادة الله الواحد القهار الذي لا يموت أبداً.
فأكرم وأنعم بهذه الدعوة التي يدخل فيها العربي والعجمي كما قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] اللهم وفقنا لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة قبلها من قبلها، ووقف في وجهها من لم يرد الله له الهداية، وانتشرت دعوة الإسلام في مراحلها التي أراد الله لها في خلال ثلاث وعشرين سنة في مكة والمدينة، كلها جهاد ودعوة وعملٌ دءوب لترسيخ جذور الإسلام.
الصحابة رضي الله عنهم هاجروا إلى المدينة، خرجوا بأنفسهم وأهليهم مهاجرين لله الواحد القهار، بل بعضهم خرج بدون ماله فاراً بدينه، والتقى المهاجرون بإخوانهم الأنصار الذين آمنوا بالله وبرسوله، عند ذلك اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إعداد المسلمين إعداداً قوياً، يعلمهم الإسلام ويدرسهم القرآن ويربيهم على المحبة والأخوة الإيمانية، وينزع من نفوسهم العصبيات، وعادات الجاهلية، وفي نفس الوقت علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يواجهون الأعداء؛ فعودهم على الرماية والفروسية والاستعداد لمنازلة الأعداء، يقول لهم: {ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي} أخذاً بالتوجيه الرباني الذي قال الله فيه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].(11/9)
الدعوة تجني الثمار
ولله الحمد والمنة، لم تمض فترة قصيرة على المسلمين في المدينة إلا وقدم انتظم عقدهم وقامت دولتهم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجني الثمار وهو يرى الدعوة تتحرك وتنتقل إلى كل مكانٍ، ثم تتحرك بكل يسر وسهولة، وقد وجد المؤمنون متنفساً لهم، وحرية لدعوتهم وحصانة لأنفسهم، وانطبق فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} الله أكبر، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
هكذا اجتمعت كلمة المسلمين في ذلك الوقت، واتحدت صفوفهم وصاروا صفاً واحدا، خاضوا غمار المعارك في بدر وأحد، والخندق، ومع اليهود قاتلهم الله وقطع دابرهم، ومع غيرهم من المشركين كل ذلك بقيادة القائد الشجاع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(11/10)
إكمال الله الدين وإتمام النعمة
ولما شعت شمس الهداية وأشرقت؛ أنزل الله على رسوله آيةً فيها مسك الختام، كان الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك العام حاج وسميت بحجة الوداع، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وفي ذلك العام الذي نزلت فيه هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم واقفاً في عرفة بيَّن مناسك الحج فقال صلى الله عليه وسلم: {خذوا عني مناسككم} وخطب في ذلك اليوم خطبةً كافيةً شافية شاملة، بيَّن فيها ما تحتاجه الأمة من أمور الدين والدنيا والآخرة.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نعم أيها الأحباب! لقد أكمل الله به الدين صلى الله عليه وسلم وأتم الله به النعمة، سميت أمته خير أمة أخرجت للناس، ياله من وسام -لمن التزم به- خير فيه النجاة قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
محمد صلى الله عليه وسلم ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وسلامه عليه.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم موجود، فالله الله بالاهتداء بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، والله الله بالاقتداء بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي ترك أمته على المحجة البيضاء يقول صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}.(11/11)
الإسلام يعود غريباً كما بدأ
بيَّن صلى الله عليه وسلم الطريق الواضح، فمن اتبعه فليبشر بالنجاح، ومن خالفه فلا يلومن إلا نفسه، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: {أنه بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} وسئل عنهم صلى الله عليه وسلم: من الغرباء؟ قال: {الذين يصلحون عند فساد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس} وفي هذا علمٌ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان يحصل الفساد والشرُ المستطير، نسأل الله أن يعصمنا وإياكم.
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته فقال: {بادروا بالأعمال الصالحة فتن كقطع الليل المظلم يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(11/12)
افتراق الأمة وبقاء الطائفة المنصورة
أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هذه الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي} ففتشوا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وطبقوا هذا الحديث {من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي}.
ثم أبشروا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله}.
الله أكبر! قد حصل التخذيل والمخالفة، والتشويه بهذا الدين من أعداء الإسلام والمسلمين، لكن نسأل الله جل وعلا أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، قد سمعنا من يسمي هذا الدين بالرجعية، وبالجمود، وبالأغلال، وبالتطرف، فإنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا إنك على كل شيء قدير.(11/13)
ظهور البدع في الدين
إخواني في الله: الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وأدى الرسالة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ومع الأسف الشديد الآن كثرت المخالفات التي نراها ونحسها ونلمسها، البارحة تسمع كثير من الإذاعات تسمع كثير يحتفلون بمعراج الرسول صلى الله عليه وسلم.
بدع حدثت للمسلمين، ولكن نسألهم ونقول: هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بيوم المعراج أو ليلة المعراج؟
هل احتفل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة بذكرى معراج الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كل هذا ليس موجود في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} مردود على صاحبه نسأل الله العفو والعافية.
الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن للصحابة، بل وللأمة جميعاً قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضو عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور} انظروا ماذا أحدثوا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذا يحتفل بذكرى المعراج، وهذا يحتفل بعيد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} من هم؟ اليهود والنصارى نسأل الله العفو والعافية.
فالذين يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم يتشبهون بأعداء الإسلام والمسلمين، وكم يحدث في ذلك الاحتفال من أمور تغضب الله وتغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.
من ذلك خطابات يرفعون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكانته التي أنزله الله فيها، وقد سمعنا بعضهم يقول: محمد صلى الله عليه وسلم بيده ملكوت السماوات والأرض، إنا لله وإنا إليه راجعون!
والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولا أتألى على الله- حياً لجاهدهم على هذا؛ لأن هذا رفع لمنزلته صلى الله عليه وسلم، وإطراءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(11/14)
انتشار الخرافات
انظروا إلى الخرافات كيف تدخل على أناس منحهم الله عقولاً، ميزهم الله بعقول، نسأل الله أن يبصرنا في ديننا وأن يفقهنا في ديننا، وأن يكفينا شر مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
بعضهم يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره يدور على نسائه ويجامعهن هو في قبره، وهل هذا يدخل في فكر أحد عاقل؟!
وبعضهم يقول: إذا بقي ثلث الليل الآخر خرج الرسول من قبره وصار المسجد له نور وتوضأ بإبريق عند قبره ثم يدخل إلى القبر.
انظروا يا إخوان! انظروا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! والرسول كما أخبر الله عنه ميت: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر:30] ويقول صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا يدلنا على أنه مات صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يمت إلا وقد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، هذه وظيفته التي بعث من أجلها هو تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة ونصح الأمة والجهاد في سبيل الله، وقد بذل ذلك كله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله عن أمته خير الجزاء، ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا تحت لوائه وأن لا يحرمنا من شفاعته صلى الله عليه وسلم.(11/15)
مصيبة وفاته عليه الصلاة والسلام
نعم.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! لقد والله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلى الله عليه وسلم.
في آخر شهر صفر وأول ربيع الأول ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض وهو الصداع، كما روى ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بُدِأَ فيه فقلت: وارأساه، فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتكِ ودفنتكِ فقلت: غير كأني بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه.
وخرج صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه بخرقة، فجلس على المنبر فقال صلى الله عليه وسلم: إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال راوي الحديث: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر} وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: {ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه، ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله يوم القيامة فيها، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر} وفي هذا الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده صلى الله عليه وسلم، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحاً أن يصلي أبو بكر بالناس، فرجع في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: {مروا أبا بكر فليصل بالناس}.
وتتام به وجعه صلى الله عليه وسلم، وهو يدور على نسائه حتى اشتد به المرض، وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها، فدعا نساءه فاستأذنهن وقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، سأكون عند عائشة.
واشتد به الصداع صلى الله عليه وسلم مع الحمى، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحل أوكيتهن يتبرد بذلك صلى الله عليه وسلم، وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك، فقال: {إنا كذلك -أي: معشر الأنبياء- يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر} وقال صلى الله عليه وسلم: {إني أوعك كما يوعك رجلان منكم} ومن شدة مرضه كان يغمى عليه ويفيق صلى الله عليه وسلم، دخل عليه عبد الرحمن أخو عائشة رضي الله عنها ومعه سواك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك، فأخذته وطيبته وأعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يستاك به.(11/16)
من وصايا الرسول في مرضه
جعل صلى الله عليه وسلم، وهو على فراش الموت يحذر أمته من اتخاذ القبور مساجد، يقول صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} وأخبرت عائشة رضي الله عنها قالت: {لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة -أي: لما نزل به الموت- له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر ما صنعوا صلى الله عليه وسلم، وأيضاً وهو في سياط الموت يوصي أمته فيقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم}.
الله أكبر هذه آخر وصية محمد صلى الله عليه وسلم لما حان انتقاله من هذه الدنيا وهو على فراش الموت صلى الله عليه وسلم {الصلاة الصلاة وما ملكت} فلله درك، لقد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده إنه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو على فراش الموت يوصي ويحث على التمسك بعقيدة التوحيد ويحث على المحافظة على الصلاة، الصلاة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومع الأسف الشديد إننا في هذه الآونة الأخيرة نرى الصلاة قد خف ميزانها عند كثير من الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، فيالها من وصية أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} ويحث على رعاية تلك الأمانة.
يحث على المرأة، وعلى صيانتها وحفظها، يوصي بذلك وهو يعاني من سكرات الموت صلى الله عليه وسلم، يوصي بهذه المرأة التي أضاعها كثير من الناس في هذه الآونة الأخيرة؛ لأجل الدنيا وحب الدنيا أضاع كثيرٌ من الناس هذه الأمانة، ترك لها الحبل على الغارب تركها تسافر وحدها وبدون محرم، تركها تجوب الأسواق متعطرة سافرة متبرجة، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذه وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وما ملكت أيمانكم، فاتقوا الله في هذه المرأة، وجهوها التوجيه السليم، احفظوها في حصنها الحصين، احفظوها عن متناول يد الأشرار، عن متناول أهل الأفكار الخبيثة الذين يريدون لها أن تخرج سافرة متبذلة ليلعبوا بها في المسارح والطرقات وغيرها.
احفظوا هذه المرأة فإن في تركها تسافر بدون محرم خطر عظيم، وتركها تجتمع مع السائق بدون محرم خطرٌ عظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن هناك مسئولية عظيمة قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} متى يكون هذا السؤال؟ ومن الذي سوف يلقي علينا السؤال؟
إن السؤال سوف يكون يوم القيامة إذا وقفت بين يدي الله عز وجل، والسائل هو الله جل جلاله، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا ينظر إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} الله أكبر! وقد وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر يحذر أمته من هذه النار.
إخواني في الله: الويل لمن ضيع هذه الأمانة، الويل لمن أخل بوصية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(11/17)
اللحظات الأخيرة من موته صلى الله عليه وسلم
والله ما مات محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقد فارق الحياة صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي الله عنها وهي مسندةٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها: {ما أغبط أحداً يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكان عنده قدحٌ من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت، قالت: وجعل يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات} ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اللهم إنك تأخذ الروح من بين القصب والعصب والأنامل، اللهم فأعني على الموت، وهونه عليَّ} ولما جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا كرب على أبيك بعد اليوم} تقول عائشة رضي الله عنها: {فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قد قضى، قالت: فعرفت الذي قاله فنظرت إليه حتى ارتفع بصره، فقال: مع الرفيق الأعلى} في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجاءت التعزية من السماء يسمعون الصوت والحس ولا يرون الشخص، السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].
إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب.(11/18)
موقف الصحابة من موت الرسول صلى الله عليه وسلم
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخلط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، منهم عمر رضي الله عنه وبلغ الخبر أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وكان خارج المدينة فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى، فكشف عن وجهه الثوب، وكب عليه وقبل جبهته مراراً وهو يبكي ويقول: [[طبت حياً وميتاً إنا لله وإنا إليه راجعون]] مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: [[والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها]] ثم دخل المسجد، وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون عليه، فتكلم أبو بكر وتشهد وحمد الله، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]] فلما تلا أبو بكر هذه الآيات استيقن الناس كلهم بموته صلى الله عليه وسلم، فتلقاها الناس من أبي بكر رضي الله عنه فما يسمع أحد إلا يتلوها، قالت فاطمة رضي الله عنها: [[يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه]] فغسل صلى الله عليه وسلم في ثيابه وكفن وصلي عليه ثم دفن ليلة الأربعاء صلوات الله وسلامه عليه، وما مات صلى الله عليه وسلم إلا وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، أي مصاب أشد من هذا المصاب يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا أصابتك مصيبة فتذكر مصيبتك بالحبيب صلى الله عليه وسلم، فكما سمعتم لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله به الدين وأتم الله به النعمة وإن كان قد مات فشرعه والحمد لله واضح إلى يوم القيامة.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا ويوفقنا لاتباع هدي محمد، والحمد لله رب العالمين.(11/19)
ليس الغريب
ليس الغريب في الدنيا البعيد عن وطنه وأهله أو أنه في بلاد غير بلاده، إنما الغريب غريب اللحد والكفن، وليس المحروم الذي حرم المال والأولاد والجاه والسلطان، إنما المحروم من حرم البكاء من خشية الله لقسوة قلبه وبعده عن الله تعالى، وليست المصيبة في الدنيا بضياع الأموال أو فقدان الأولاد، إنما المصيبة الفشل في ساعة الاحتضار، ساعة الخروج من دار الدنيا إلى دار الآخرة، عندما توضع في قبرك وحيداً، ليس لك زاد.
والإنسان لا ينفعه ماله ولا أهله ولا وساطته التي كانت معه في الدنيا يوم أن يوضع في قبره، وإنما ينفعه ما قدم من عمل صالح في الدنيا.(12/1)
خطاب أبي الدرداء لأهل الشام
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فالمؤلف جزاه الله خيراً لم يألو جهداً في أن يوسع هذا الكتاب من المواعظ التي فيها خيرٌ كثير إن شاء الله لمن وفقه الله عز وجلَّ، لقد قرأنا قي الليلة الماضية قصدية فيها موعظة، وقد طلب بعض الإخوان إعادتها نسأل الله بمنِّه وكرمه أن يرزقنا التوفيق والسداد، وأن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيءٍ قدير.
روى أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تفرغوا من الدنيا، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه، فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة أكبر همه، جمع الله له أموره، وجعل غناه في قلبه، وما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تَفدُ إليه بالمودة والرحمة، وكان الله عز وجل إليه بكل خير أسرع}.
ولما دخل أبو الدرداء الشام، قال: يا أهل الشام! اسمعوا قول أخٍ ناصح، فاجتمعوا إليه، فقال: [[ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون! وتجمعون ما لا تأكلون! وتؤملون ما لا تدركون! إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، وجمعوا عتيداً، فأصبح أملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً]].(12/2)
البكاء من خشية الله وفضله
القصيدة تنسب إلى زين العابدين، أو إلى إبراهيم بن أدهم رحم الله الجميع، ورحمنا الله وإياهم بواسع رحمته، وهو يقول فيها:
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن
تمر ساعات أيامي بلا ندمٍ ولا بكاءٍ ولا خوفٍ ولا حزن
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبني ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلةً كتبت يا غفلةً ذهبت يا حسرةً بقيت في القلب تحرقني
دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرةٌ منها تخلصني
في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت تحرس في سبيل الله} وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -منهم- ورجلٌ ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه} فجازاه جلَّ وعلا أن يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولن يبكِ إلا قلبٌ رقيقٌ قريبٌ من الله عز وجلَّ، أما القلب القاسي-والعياذ بالله- فهو بعيدٌ من الله، القلب القاسي الذي تراكمت عليه الشهوات، وطمت عليه الغفلة وبنت عليه جدرانها، فهو قاسٍ لا يتعظ ولا يلين، أما القلب اللين الخاشع القريب من الله، فهو الذي يلين، وتسيل منه الدمعة بعد الدمعة، فكم دمعةٍ ثم دمعة ترضي الله عز وجل، وتدفع عن صاحبها العذاب.
نعم يا عباد الله! سبعة يظلهم الله في ظله منهم الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فالإكثار من ذكر الله واستغفاره عز وجل، وإحضار القلب دائماً بين يديه عز وجل يجلو صدى القلب، وكذا التذكر في الخلوات، إذا كنت خالياً لست في حضرة الناس تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وتتقرب إلى الله عز وجل، فهذه عادة السلف الصالح رحمة الله عليهم، كانوا يحيون ليلهم بالتهجد والتقرب إلى الله عز وجل، فهذا الزاهد يقول في كلامه:
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرةٌ منها تخلصني(12/3)
حال الإنسان في ساعة الاحتضار
تلك الساعة -يا عباد الله- ساعة نزول ملك الموت ليجتذب الروح من العروق والعصب، يا لها من ساعةٍ يا عباد الله! ينسى فيها الإنسان كل شيء، حتى المفاتيح التي كان مغلق عليها، كجده يريد شربة ماء ولا يفقهون ماذا يريد؟ يريد أن يقول: أتحلل من فلان، أو أؤدي حق فلان، أو أرد مال فلان الذي أخذت، أو أصلي الصلوات التي تركت، أو أؤدي زكاة مالي الذي منعت، ولكن لا يستطيع، بصره شاخص ينتظر خروج الروح؛ لأن الروح إذا خرجت يتبعها البصر، لذلك يُسنُّ تغميض عين الميت إذا خرجت روحه، اسمعوا إلى هذه اللحظة يصفها لنا كأنها رأي عين، كأننا جميعاً يفعل بنا هكذا.
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍ ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا كفني
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
وقال: يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كموم لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسدل الدمع من عينيه أغرقني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقني وفارقني
الآن سكن في مسكن فرشه التراب، وصف عليه اللبنات، سبحان الله العظيم! انفرد بعمله إن كان صالحاً فهو له، وإن كان سيئاً فيا ويله من ذلك العمل السيء، ويا ويله من طول مكثه، نسأل الله العفو والعافية.
وقال: هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن(12/4)
القبر وفتنته
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخٌ يؤنسني
ولا تلفاز، ولا جرائد، ولا مجلات، ولا تلفون، ولا شيء، صف عليك اللبن ووضعك، عندك عملك فإن كان صالحاً فهو شابٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح -نسأل الله من فضله- ثم يقول له: أبشر بالذي يسرك، ثم ينبسط وينسى أهله وماله وينسى الدنيا كلها، يستقبل شيئاً آخر عندما بشره هذا العمل الصالح، ماذا يستقبل؟ يستقبل الجنة، الآن هو في روضة من رياض الجنة، ولكن يستقبل الجنة عالية الدرجات بجوار الله عز وجلَّ.
وإن كان عمله سيئاً -والعياذ بالله- فهو شاب أسود الوجه منتن الريح، ثم ماذا يقول له: أبشر بالذي يسوؤك أنا عملك السيء، ثم يزداد غماً وحزناً، ويقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه إذا كان هذا أول مبتدأ العمل، فما بعده إلا جهنم والعياذ بالله.
نسأل الله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ولا يجعلها حفرةً من حفر النار إنه أرحم الراحمين.
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخٌ يؤنسني
وأودعوني ولجوا في سؤالهمُ ما لي سواك إلهي من يخلصني
وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت من هول مطلع ما قد كان أدهشني
من منكرٍ ونكيرٍ ما أقول لهم إذ هابني منهما ما كان أفزعني
الله أكبر! من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ إن كان مؤمناً وإن كان لم يقرأ ولا حرفاً، قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان غير ذلك، يقول: هاه، هاه، لا أدري، ثم يقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمرزبة من حديد والعياذ بالله.
نعم -يا عباد الله- قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] لا معقب لحكمه يا عباد الله، ما أحد يعقب على حكم الله؛ لأنه أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، ولا يظلم ربك أحداً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فمن أراد النجاة عباد الله، فليطلبها ويلتمسها ويسعى إلى طرق الخير ما دام في الحياة، ما دام في زمن الإمكان، ما دام في زمن دار المزرعة، نحن الآن في دار المزرعة، لكن سوف ننتقل إلى درا الحصاد، فإن زرعنا خيراً حصدنا حسنات، وإن زرعنا شراً حصدنا سيئات والعياذ بالله.
وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت من هول مطلع ما قد كان أدهشني
من منكرٍ ونكيرٍ ما أقول لهم إذ هابني منهما ما كان أفزعني
فامنن عليَّ بعفوٍ منك يا أملي فإنني موثقٌ بالذنب مرتهني(12/5)
تقاسم الأهل للمال بعد الموت
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني
الله أكبر! يجنون الثمار وأنت عليك الحساب، هم يجنون المال الذي حصلت عليه سواء كان من حرام أو من حلال، فهم ليس عليهم حساب إنما الحساب عليك أنت لأنك الذي جمعت، إن كان حلالاً فسوف تحاسب عليه، وإن كان حراماً فهو زادك إلى النار والعياذ بالله.(12/6)
الحذر من الدنيا
ثم ينصحنا ويرشدنا جزاه الله خيراً ويقول:
فلا تغرَّنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
انظر إلى آدم وذريته أين هم؟ إلى نوح وقومه، وعاد وقومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وقريش، إلى آبائنا، وأجدادنا إلى آخر ذلك أين هم؟! فهذه الحياة ممر، كلنا نمر ونمشي حتى يأتينا هذا الحتم ثم نموت، ولكن المحظوظ -يا عباد الله- الذي يعمل صالحاً: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ولا تغرنكم الحياة الدنيا -يا عباد الله- فإنما هي أيامٌ قلائل وسوف تنتهي.
فلا تغرَّنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن
نعم.
نخرج مع الملوك والأمراء، والتجار، والفقراء إذا ماتوا فما نرى أحد منهم أُدخل معه في قبره شيء، ولكن ماذا لو أخذ معه مال؟ مليار، أو عشرة ملايين، أو مليون هل يعطي منكر ونكير رشوة قد يخففوا بها عنه؟ لا.
كلهم لم يذهبوا إلا بالكفن، ثم الكفن بعد أيام تأكله الأرض، والبطن تفقع ثم تلقى الدود -نسأل الله العافية- ثم يكون رفاتاً، ثم يكون تراباً، وفي يومٍ من الأيام يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، فتجتمع تلك الأجسام كما خلقها أول مرة جلَّ وعلا، ثم يبعثون إليه، ثم يحاسب كلٌ بعمله إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
يا نفس كُفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
اللهم ارحمنا جميعاً بواسع رحمتك، اللهم ارحمنا جميعاً بواسع رحمتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم أيقظنا من غفلاتنا بفضلك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم تجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، اللهم ألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك، وارزقنا ما رزقتهم من لذيذ مناجاتك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات واجمعنا اللهم جميعاً في مستقر رحمتك، واجعلنا من الواردين على حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واسقنا اللهم شربةً هنيئةً مريئةً، لا نظمأ بعدها أبداً، وأظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك إنك أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/7)
من آثار الذنوب والمعاصي
إن الذنوب والمعاصي إذا انتشرت وعمت في هذه الأمة، ولم يردعها رادع غار الله جل وعلا من فوق سبع سماوات، وأنزل عقابه الأليم وسخطه الشديد على عباده لتماديهم في ارتكاب المنكرات.
وفي هذه المادة تحذير من الذنوب والمعاصي وبيان أنواعها وتأثيرها على الأمة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(13/1)
المعصية الأولى: الشرك بالله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداًَ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ترك أمته على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فأكثروا عليه من الصلاة والتسليم امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: حياكم الله في بيت من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
اللهم لا تجعل منا ولا فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً يا رب العالمين.
إخواني في الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني في الله: الموضوع كما علمتم هو: (التحذير من آثار الذنوب والمعاصي).
الذنوب والمعاصي -أيها الإخوة في الله- لها تأثير على الأبدان، ولها تأثير على القلوب، ولها تأثير على الأرض في نقص البركات، وغور المياه، وحلول الأمراض المستعصية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا حصلت الذنوب والمعاصي وانتشرت، فإنها تحل أمراض مستعصية تستعصي على الأطباء، فلا يوجد لها علاج، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حصل -والله- ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأول ذنب، بل أعظم ذنب عُصي الله به في أرضه هو الشرك يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الشرك الذي من ارتكبه لا يغفر الله له ذنوبه إلا أن يتوب توبة نصوحاً، وإن مات من غير توبة فإنه مخلد في النار والعياذ بالله، يقول الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذراً من الشرك: {من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار} نعوذ بالله من النار.
إذاً: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! الله جل جلاله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ومعنى يعبدون أي: يوحدون، والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر -والعياذ بالله نسأل الله العفو والعافية- مثل: دعاء الأموات، والتوسل بالأموات، والطواف بالقبور، والنذور لأهل القبور، وصب العسل والسمن على القبور، وطلب الحاجات، وطلب تفريج الكربات، وطلب شفاء الأمراض من أهل القبور، هذا شرك؛ لأنه صرف شيئاً من أنواع العبادة لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
فالله هو الذي يشفي المرضى، ويقضي الحاجات، ويفرج الكربات، ويغيث اللهفات، ويحيل الشدائد والبليات.
لذلك يقول إبراهيم خليل الرحمن كما حكى الله عنه لما كسَّر الأصنام، ووثبوا عليه ليُحرقوه في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، وفوض أمره لله الواحد القهار، وتبرأ من أولئك، قال الله جل وعلا مخبراً عنه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:77 - 81].
آمنا بالله وعليه توكلنا.
الله جل جلاله الذي قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] سبحانه وبحمده!
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً في هذا، وكذلك الأنبياء والمرسلين، والله جل وعلا طلب من أممهم أن يقتدوا بهم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
إخواني في الله: نحن ولله الحمد والمنة لا يوجد بين أظهرنا قبور يُطاف بها، ولا يُتوسل بها، ولا يُذبح لها، ولا يُنذر لها، إنما هذا يوجد إذا خرج الإنسان من هذه البلاد، نسأل الله أن يحرسها بعينه التي لا تنام، وأن يحفظها من كيد الأعداء، إنه على كل شيء قدير.
فإذا خرج إنسانٌ من هذه البلاد وجد أناساً يصلون في المسجد، ثم لم يلبثوا قليلاً إلا وقد انصرفوا يميناً أو شمالاً إلى بعض القبور، فتجدهم يطوفون بها، وقد يدعون أهلها ويتوسلون بهم، ويطلبون منهم الغوث والمدد إلى غير ذلك.
فهذا لا يوجد في بلادنا -نحمد الله ونشكره- لكن الذي يوجد في بلادنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو أيضاً خطر على العقيدة، وهو إتيان الكهان والعرافين والمنجمين والمشعوذين، وهذا فيه خطر على التوحيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدَّقه لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً يُروى عنه أنه قال: {من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد} نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إن بعض الناس إذا تأخر عليه النسل أو الأولاد يذهب إلى أولئك -والعياذ بالله-.
يطلب منهم أن يُرزق أولاداً، وهذا بيد الله عزَّ وجلَّ، وليس بيد أحد من الناس، ولكن ماذا يقولون له نسأل الله العافية؟
يقولون له: إذا كنت تريد الأولاد فأتِ بشاة سوداء أو عنز سوداء، وتذبحها ولا تذكر اسم الله عليها، إنا لله وإنا عليه راجعون، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
وقد والله فعل هذا أناس في بلاد التوحيد يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، دجَّل عليهم أولئك المشعوذين، فذبحوا للجن والشياطين, والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم وقال: {لعن الله من ذبح لغير الله}.
ثم إن ذبح لغير الله ومات على هذه الحال ولم يتب إلى الله، فإنه يكون مخلد في النار، لماذا؟ لأنه صرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله جل وعلا، وقد سمعنا قول الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
أيضاً: هناك أناس إذا أصيبوا بأمراض نفسانية، والأمراض النفسانية يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تحصل إلا لمن أعرض عن الله، وابتعد عن طاعة الله، وغفل عن ذكر الله، فإن الشياطين تشن عليه الغارة، تهجم عليه والعياذ بالله، فعند ذلك يضيق من نفسه، حتى من أهله وأولاده، وعند ذلك يبحث عمن يصف له العلاج، ولو أنه التجأ إلى الله عزَّ وجلَّ وتاب ورجع إلى الله لتاب الله عليه، وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، قال سبحانه: {ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ولكنه -والعياذ بالله- يلتجئ إلى أولئك الكهنة والعرافين والمنجمين والمشعوذين، فعند ذلك يُدَجلون عليه، وأول دجلهم أن يقول أحدهم: ائتني بطاقيتك أو فانيلتك، أو ما اسم أمك؟ وما اسم أبيك؟ ثم لماذا تسأل عن هذه الأشياء؟ إذا قال لك هذه الأشياء، فاعرف أنه من الكهنة الدجالين المشعوذين، ابتعد عنه يا عبد الله، تُب إلى الله، وارجع إلى الله، حتى إذا أتتك المنية فأنت تائب راجع منيب إلى الله عزَّ وجلَّ.
الرسول صلى الله عليه وسلم ترك أمته على المحجة بيضاء نقية، وأخبرهم بأدعية وأذكار، يقولونها في كل حال من أحوالهم، حتى إذا فقد الإنسان شيئاً من أمواله يقول: اللهم رب الضالة، رد الضالة، اللهم رب الضالة، رد الضالة.
ولكن هناك أناس غفلوا عن الرب جل جلاله، غفلوا عن الله سبحانه وتعالى، فبمجرد ما يفقد شيئاً من أمواله يذهب إلى أولئك المشعوذين الدجاجلة فيدجلون عليه، كما دجلوا على مَن سَلَفَ مِن قبله، أسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله: إن أعظم ذنب عُصي اللهُ به في الأرض هو الشرك والعياذ بالله، فالحذر الحذر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الشرك وأهل الشرك.(13/2)
المعصية الثانية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إخواني في الله: من الأمور التي عُصي الله بها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمر خطير جداً يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن البعض من الناس يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص برجال الحسبة ورجال الهيئة وهذا خطأ، وظن خاطئ؛ لأن الله جل وعلا قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فمن أراد هذه الخيرية، فما عليه إلا أن يلتزم بما وعد الله به سبحانه وتعالى، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عن درجات تغيير المنكر، قال صلى الله عليه وسلم يخاطب الأمة جميعاً: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} نقول: التغيير باليد لولاة الأمور، ولمن ولاهم ولي الأمر، مثل رجال الحسبة، أما التغيير باللسان، فكل إنسان -ولله الحمد- يستطيع أن يغير بلسانه.
أيضاً يستطيع الإنسان تغيير المنكر في بيته على أهله وأولاده إذا رأى منهم منكراً؛ لأن له السيطرة على أهله وأولاده؛ ولأنه مسئول عنهم أمام الله جل جلاله، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته} الله أكبر!
إخواني في الله: استمعوا إلى هذا الحديث، واستمعوا له بقلوبكم قبل أن يدخل آذانكم؛ لأن هذا الحديث -والله- إذا تمعن به المؤمن وجد أن الأمر جد عظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فاسمع إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها -إلى أن قال صلى الله عليه وسلم-: ألا فكلكم راعٍ، ومسئول عن رعيته} ثم تمعن معاني الحديث، وتذكر: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته} فكر يا عبد الله! من الذي سوف يسألك؟ ومتى يكون هذا السؤال؟
أما الذي سوف يسألك: فإنه الله جل جلاله.
وأما زمان
السؤال
فإنه سوف يكون على أرض القيامة.
فماذا أعددتَ للسؤال من جواب يا عبد الله! إذا قامت الزوجة تخاصمك بين الله، بأنك رأيتها على منكر ولم تنهها عنه ولم تأمرها بالمعروف؟
ما هو الجواب إذا وقف الابن يخاصمك بين يدي الله؛ لأنك رأيته على منكر، بل ربما أتيت له بالمنكر في قعر بيته ولم تأمره بالمعروف؟
ما هو الجواب إذا وقفت البُنيَّة بين يدي الله عزَّ وجلَّ تخاصمك؛ لأنك أدخلت عليها المنكرات أو رأيتها تعمل المنكرات ولمن تنهها ولم تأمرها بالمعروف؟
ما هو الجواب بين يدي الله عزَّ وجلَّ؟ وربنا جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ما هو الجواب بين يدي الله عزَّ وجلَّ؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: انظر الخطاب، النداء لأهل الإيمان ليس لليهود ولا للنصارى ولا لغيرهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يقول ابن مسعود: [[إذا سمعتَ الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأصغِِ لها سمعك، فهو إما خيراً تُدعى إليه، وإما شراً تُحذَّر منه]] فالله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} بماذا نقي أنفسنا وأهلينا من هذه النار؟
بماذا نقيها؟ أبتوسيع الفلل؟ أم بتشييد القصور؟ أم بكثرة المأكولات والمشروبات والملبوسات؟ هذه كلها من ضروريات الحياة يا مسكين، والحياة الدنيا لا بد لها من زوال، لا بد لها من دمار، ولكن تقي نفسك وأهلك من نار جهنم، تقيها بما يُرضي الله جل وعلا وبالأعمال الصالحة، تأمر أهلك بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتوجههم التوجيه السليم، وتراقب ذهابهم وإيابهم، وأين يذهبون؟ وبمن يجتمعون؟(13/3)
حال بعض الناس مع إنكار المنكرات
مع الأسف الشديد: انظر الآن إلى أحوال الكثير من الناس -اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردناً إليك رداً جميلاً- تجد بعضهم الآن في غفلة وإعراض، الزوجة تذهب مع سيارة الأجرة، ولا يدري أين تذهب، أو ربما أتى لها بسائق وربطه عند البيت، وقال لهذا السائق: افعل ما تشاء، فيذهب بالزوجة والبنات إلى الأسواق، وإلى المدارس، وإلى المستشفيات، والرجل أين هو؟
الرجل مشغول بدنياه، وهل هذا يُعذر بين يدي الله عزَّ وجل؟ لا.
والله لا يُعذر؛ لأنه عصى الله، وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: أن الله جل وعلا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] فترك هذا الرجل هذه الآية، وضرب بهذا القول عرض الحائط.
ثانياً: اسمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} فقال: هذا السائق أجْوَدِي، مُتَخَيَّر من تلك البلاد البعيدة، هذا وجه إنسان مِحْذاق، الله أكبر! أمَخْصِيٌّ هو يا مسكين؟ لا.
وأيضاً له شهوة أشد منك؛ لأنك أنت بين أهلك وأولادك، أما هو فله ثلاث سنوات أو سنتين وهو بعيد عن أهله، أين تذهب هذه الشهوة يا مسكين؟ ولكن قل بين يدي الله عزَّ وجلَّ: هذا والله أجْوَدِي، ابن حلال، مُتَخَيَّر من تلك البلاد.
الله أكبر! لماذا ما قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والصحابة أجمعين، لماذا لم يقولوا هذا الكلام بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الرسول يخاطب الصحابة، أبر الأمة قلوباً وأزكاها، وأكثرها علماً رضي الله عنهم وأرضاهم يخاطبهم الرسول ويتحدث بين أيديهم ويقول: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم}.
ويقول: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
فبعض الناس ضرب بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
علامَ يدل هذا يا عباد الله؟ هذا يدل على أن الناس انهمكوا في حب الدنيا، وهذا الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {ما الفقر أخشى عليكم} ولكن خشي علينا صلى الله عليه وسلم مما يُفتح علينا من زهرة الحياة الدنيا، فننهمك في الدنيا، ونغفل عن أنفسنا، وعن أهلنا، وعن أولادنا، حتى إن البعض من الناس لحبه للدنيا صار يبارز الله بالمحاربة، ولا يبالي والعياذ بالله.
فمتى نستيقظ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
إذا حُملنا إلى القبور؟ أم إذا صفَّت علينا اللبنات؟
متى نستيقظ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ إذا وقفنا للعرض على جبار الأرض والسماوات؟
متى نستيقظ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
إخواني في الله: المسئولية عظيمة بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وأيضاً: أكرر وأقول: اسمع إلى حديث الرسول، مرة ثانية وثالثة ورابعة، لعل شجرة الإيمان أن تنمو في قلبك وتعظم شعائر الله، يقول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
ثم أيضاً: أقول لك مرة أخرى: تذكر من الذي سوف يلقي السؤال، ومتى يكون السؤال؟
أما الذي سوف يلقي عليك
السؤال
فهو الله جل جلاله.
ووقت
السؤال
هو يوم القيامة.
قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(13/4)
مراتب إنكار المنكر
أمة محمد صلى الله عليه وسلم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عده بعض العلماء ركناً سادساً من أركان الإسلام، فأقول لكم: لما قلنا: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} أن الرجل له سلطة على أهله وأولاده، فله أن يغير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} هذه من إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا لم نستطع باليد، فإننا ننتقل إلى اللسان، واللسان -لله الحمد والمنة- كلٌ منا يستطيع بلسانه.
أقول لأهل الدكاكين: يا أهل الدكاكين! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، إذا رأيتم امرأة متبرجة قولوا لها: يا أمة الله! اتقي الله، تَسَتَّري.
فكونوا عوناً لرجال الهيئة.
نعم أيها الإخوة في الله: إذا رأيتم إنساناً يعاكس النساء، فقفوا في وجهه، وقولوا له: اتق الله فإن لك محارم، هل ترضى لأحدٍ أن يعاكس أمك أو زوجتك أو أختك أو ابنتك؟ فإن كان فيه غيرة، فإنه يخجل ويبتعد عن هذا الفعل السيء، وإذا لم يكن فيه غيرة -والعياذ بالله- فنتصل برجال الهيئة، ونكون لهم عوناً على ذلك حتى يَنْكَفَّ الشر والفساد، ويُقضى عليه، أما إذا تُرك الحبل على الغارب، وأصبحنا نتهاون في الأمر فإن الشر يستطير والعياذ بالله، فإذا حصلت المداهنة، فما الذي يحصل؟ يحصل والله العار والشر العظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(13/5)
عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أخبر ربنا جل وعلا عن بني إسرائيل أنهم لما تركوا هذا الأمر، وتهاونوا فيه، ما الذي حل بهم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال الله جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] لماذا لُعنوا؟ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
اسمع: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
إذا حصلت المداهنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وترك الحبل على الغارب لأهل المعاصي ينشرون معاصيهم، ويبدون سيئاتهم ومعايبهم ومثالبهم عياناً بياناً، فما الذي يحصل؟ تحل اللعنة بدل الرحمة ولا حول لا قوة إلا بالله.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان فيمن قبلكم إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيراً، فقال: يا هذا اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه، كما يراه على خطيئته بالأمس، فلما رأى الله عزَّ وجلَّ ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داوُد وعيسى بن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]}.
وكما يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنه كان صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم} إذا حلت اللعنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرحمة تُرفع ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن اللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
فنقول لأهل الدكاكين: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتعاونوا مع رجال الهيئة على إزالة المنكر.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
إخواني في الله: نحن والله على خطر خاصة في هذه السنين القليلة التي كثرت فيها آلات اللهو، وكثر فيه تبرج النساء وسفورهن، وكثرت فيه المخدرات والمسكرات، وظهرت فيه القَينات -أي: الأغاني- وكثر فيه قطيعة الرحم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك اسمع هذا الحديث الذي يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب فيصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير،} اللهم سلِّم سلِّم، يصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير!
قال بعض العلماء: إذا لم يُمسخوا حسياً مُسخوا معنوياً، إذا لم يُمسخ جسمُه مُسخ قلبه، صار قلبه كالخنزير أو كالقرد -والعياذ بالله- حتى يفقد الغيرة، لا يغار على محارمه، وتجده -والعياذ بالله- في أودية الهوى والغي يهيم، أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، إنه على كل شيء قدير، ثم قال أيضاً صلى الله عليه وسلم: {وليصيبنهم قذف وخسف حتى يصبح الناس فيقولون: خُسف الليلة بدار بني فلان، وخُسف الليلة ببني فلان، ولتُرْسَلَن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط، على قبائل فيها، ولتُرْسَلَن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عاداً} لماذا يُفعل بهم ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: {لشربهم الخمر، وأكلهم الربا، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم} نسأل الله العفو والعافية، إذا حصلت هذه الأمور فلا يأمنوا.
وفي يوم الثلاثاء (13/ ربيع الثاني) نشرت إحدى الجرائد المحلية أن بلدة تسمى تشيلي أُمْطِرت عليها حجارة من السماء، وقد قرأها من قرأها، وأنا والله ممن قرأ هذا، وقتل منهم (17) ويقول أحد المشاهدين وهو ينظر إلى تلك الحجارة تنزل، يقول: اندس تحت سيارة شاحنة، ورأى تلك الحجارة تنزل، ورأى امرأة تهرب من تلك الحجارة حتى أوت إلى جدار لتختفي تحته، فسقط عليها الجدار، وسقطت عليها الحجارة، وخرجوا من بيوتهم مذعورين يصيحون ويصرخون، حتى الحجارة سقطت عليهم وهم في بيوتهم؛ لكن بماذا حلَّلوها؟ ماذا قالوا؟
قالوا: احتار الخبراء مع الأسف الشديد، وإلا لو سألوا علماء الشريعة، لو سألوا العلماء المحققين لأخبروهم أن هذا عقاب من الله جل جلاله، وهو والله عبرة لنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فعلينا أن نتقي الله جل وعلا، ونحذر من التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولنسمع إلى هذا الأثر يا عباد الله! كما يُروى: [[أوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي]]
وأقول: يُخشى أيضاً والله على بعض الناس الآن، الذين يُوجد في بيوتهم الكثير من الأولاد لا يعرفون الصلاة، يُخشى والله أن يصيبهم العذاب.
تجد الآن البيوت فيها خمسة أو ستة أو ثمانية أو أكثر من ذلك لا يعرفون الصلاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أردتَ أن تختبر هذا الوضع فانظر في صلاة الفجر، أين أولاد المسلمين؟
أين مَن سنه عشر سنوات أو خسمة عشر؟ بل أين ذو العشرين؟
لكن انتظر بعد ساعة وربع، تجد الأرض ملأى، الله أكبر! إلى أين؟ إلى المدارس، والصلاة؟ الصلاة غُفل عنها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الصلاة أمرها عظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الصلاة، الصلاة، ولعلنا إن شاء الله بعد قليل نتكلم عن الصلاة إذا انتهينا من الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها الإخوة في الله: لا شك أنه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سوف يكثر الشر وينتشر، ويكثر الفسقة، فإذا حصل ذلك فلا تسأل عن أحوال المجتمع وما يحل فيه من النقمات، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: [[دخلتُ أنا ورجل على عائشة رضي الله عنها، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين! حدثينا عن الزلزلة، فقالت رضي الله عنها: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عزَّ وجلَّ في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمهما عليهم]] اللهم سلِّم سلِّم، اللهم احفظنا بحفظك يا رب العالمين، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إنك على كل شيء قدير.
فيا عباد الله! احذروا مما يغضب الله عزَّ وجلَّ، فإن الذنوب والمعاصي هي والله من أسباب الشقاء، ولذلك جاء التحذير منها في كتاب الله؛ لِمَا فيها من الإضرار بالفرد والمجتمع، فهي سبب يؤدي إلى غضب الله جل وعلا وإلى عقابه لمن ارتكبها، ثم إن العقوبة المترتبة على هذه المعاصي تختلف، فأحياناً تكون بالأنفس، وأحياناً بالأموال، وأحياناً بالأولاد، وأحياناً تكون بالمدمرات العامة، مثل: الفيضانات، أو الرياح المدمرة، أو القحط، أو الزلازل، أو بالحروب الطاحنة، أو بالأمراض المستعصيات، كما سمعنا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وربنا جل وعلا حذر من المعاصي والذنوب في كتابه العزيز وأخبر في محكم البيان عن الأمم التي حلت بهم العقوبات، ونحن نقرأ القرآن يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تَرْعَوِيَ القلوب؟
يكفيك أن تقرأ سورة الفجر، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:1 - 12] ماذا حل بهم؟ قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13] ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
وقال تعالى في سورة أخرى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
فلنحذر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الله جل وعلا: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99] نعوذ بالله من غضب الله.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم احذورا من غضب الله جل وعلا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.(13/6)
المعصية الثالثة: عدم إقامة الصلاة
ثم ننتقل أيضاً إلى منكر عظيم تهاون فيه بعض الناس وهو الصلاة، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
المجتمع الآن انقسم على ثلاثة أقسام، نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً:(13/7)
القسم الأول: قسم تركوا الصلاة بالكلية
وهؤلاء بين مجتمع المسلمين وبين أظهرهم، بل بعضهم يأكل معهم ويشرب -والعياذ بالله- وهو لا يصلي، وهؤلاء أفتانا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} هل تريدون فتوى غير هذه يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
أيضاً: أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة}.
لذلك يقول العلماء رحمهم الله: تارك الصلاة، يستتيبه إمام المسلمين أو نائبه ثلاثة أيام، فإن تاب وصلى وإلا قتل مرتداً، ويقتل حداً، يقطع رأسه بالسيف لماذا؟ لأنه تارك للصلاة، وإذا قتل ماذا نعمل به؟ قالوا: لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدعى له بالرحمة، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، مع الأسف الشديد.
وقالوا: إذا كانت المسلمة مع إنسان لا يصلي فإنها تُخلع منه على رغم أنفه، قال الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
إذاً: تارك الصلاة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجوده في المجتمع خطر عظيم، فهذا القسم الأول، قسم تركوا الصلاة بالكلية، وهم بين أظهرالمسلمين.(13/8)
القسم الثاني: قسم ضيعوا الصلاة
أما هؤلاء فقد وقعوا في قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
قال بعض العلماء: ما أضاعوها بالكلية، ولكنهم تهاونوا بها، وهذه هي حال الكثير من الناس، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، انظر إلى أحوال الكثير من الناس، مع أنهم ارتكبوا هذا الذنب العظيم، وهو إضاعة الصلاة مع أي شيء عاشوه، فهم يعيشون مع المسلسلات طوال الليل، ومع الأغاني الماجنة، ومع الدخان، والشيشة، والبلوت، والقيل والقال، وإذا جاءت صلاة الفجر إذا هم جِيَفٌ في فرشهم، نسأل الله العفو والعافية، هذه حال كثير من الناس، صلاة الفجر نوم، وصلاة العصر إذا جاء من العمل أو الشغل وأكل الغداء اتكأ ونام، وربما نام قبل أن يغسل يديه من الغداء، وفوت عليه صلاة العصر، وربما أتبعها بصلاة المغرب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول سعيد بن المسيب عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] يقول: [[لا يصلي الصبح حتى تطلع الشمس، ولا يصلي الظهر حتى يدخل عليها وقت العصر، ولا يصلي العصر إلا وقت المغرب]] وهذه يا إخواني حال كثير من المسلمين في المجتمع الآن، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما صلاة العصر: فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري، قال: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله} ما ظنك يا عبد الله! إذا جاءك قائل وقال: أهلك هلكوا، أموالك هلكت؟
ما هي الحال عندك؟ وما هو رد الفعل عندك؟ الله أكبر! ولكن بعض الناس يفوت صلاة العصر ولا يبالي {من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله}.
وفي الحديث الذي رواه البخاري أيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ترك صلاة العصر فقد حبط عملُه}.
ما ظنكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإنسان يضع المنبه على الساعة السابعة، لا يقوم من الليل إلا وقت الساعة السابعة، وقت العمل، هذا يقول بعض العلماء فيه: تعمَّد تأخير صلاة الفجر حتى هذا الوقت، ولذلك يقول الشيخ عبد العزيز بن باز حفظنا الله وإياه: عند جمع من العلماء: أن من تعمد تأخير صلاة الفجر عن وقتها حتى يدخل عليها وقت الأخرى فهو كافر، أو كما قال رحمه الله تعالى.
فنقول: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! نرجع إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: {من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله}.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: {من صلى البردين دخل الجنة} يا رب! لا تحرمنا فضلك، اللهم لا تحرمنا فضلك، اللهم لا تجعل منا ولا فينا شقياً ولا محروماً يا رب العالمين {من صلى البردين دخل الجنة} والبردان هما: الفجر، والعصر.
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً -وكل هذه أحاديث صحيحة-: {لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} يقصد: الفجر والعصر، ولذلك وعد ربنا جل وعلا المحافظين على الصلاة أن يكرمهم بجنة الفردوس، وهي أعلى منازل الجنة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تُفجر أنهار الجنة} قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11].
وتوعَّد ربنا جل وعلا أقواماً إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى بالدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله من النار، أخبر الله عنهم أنهم يصلون؛ ولكن لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وفي الآية الأخرى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] أين موعدهم؟ قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
هذا القسم الثاني الذين تهاونوا بالصلاة في المجتمع.(13/9)
القسم الثالث: قسم يحافظون على الصلاة
وهم الذين يحافظون على الصلاة، أين نجد هذا القسم يا عباد الله؟
إذا أردتم أن تنظروا إلى هذا القسم فانظروا إليه في صلاة الفجر، تجد القلة من الناس في العشاء وفي المغرب والعصر والظهر، ربما أربعة صفوف، أو خمسة صفوف في بعض المساجد، ثم في صلاة الفجر صف أو صف ونصف، الله المستعان! أين بقية الصفوف؟ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
أقول لكم: إن المجتمع انقسم على ثلاثة أقسام؛ ولكن هل نسكت على هذا الأمر؟ لا.
إن سكتنا على هذا الأمر فإننا والله نخشى من العقوبة ولكن نكون دعاة إلى الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونتعاون على البر والتقوى، إذا كان جارك يا أخي -كما يُروى في الحديث- أنه يتعلق بك يوم القيامة، فما هو الخلاص؟
جارك يتعلق بك يوم القيامة يقول: يا رب، خذ مظلمتي من جاري، فتقول: ما ظلمتُه! فيقول: إنه رآني على المنكر ولم ينهاني، ولم يأمرني بالمعروف، فلنستعد لذلك يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(13/10)
المعصية الرابعة: عدم إيتاء الزكاة
من المعاصي أيضاً التي تلبس بها بعض الناس: منع الزكاة، وهي تنقسم إلى قسمين:
الأول: إن كان أنكر هذا: فهو كافر والعياذ بالله.
الثاني: وإن كان بخل بها: فهو عاصٍِ لله ولرسوله.
إن أنكر المرء الزكاة، وقال: ليس في الإسلام زكاة، فهو كافر حلال الدم والمال، يستتاب فإن تاب وإلا قُتل، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
أما إذا تهاون بالزكاة ولم يخرجها، فإنه ارتكب معصية من المعاصي التي سوف يُعاقَب عليها، إن لم يتب ويرجع إلى الله عزَّ وجلَّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولا صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحت له صفائح من نار، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار} وربنا جل وعلا يقول في محكم البيان: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
أي وعيد أعظم من هذا يا عباد الله؟! اللهم اشف مرض قلوبنا يا أرحم الراحمين، أي وعيد هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا إله إلا الله {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
فيا من أعطاه الله هذا المال الكثير، وطلب منك القليل، فلا تبخل يا أخي، أنفق ما دمت في زمن الإمكان قبل أن يحل عليك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
فالبِدار البِدار ما دمتَ في زمن الإمكان، قبل أن تطلب الرجعة ولا تُجاب يا عبد الله.
البِدار البِدار ما دمتَ في زمن الإمكان، قبل أن يأخذ الورثة هذه الأموال وتصير عليك الأوزار.
اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا إنك على كل شيء قدير.(13/11)
المعصية الخامسة: الزنا
هناك معاصي انتشرت في المجتمع والعياذ بالله، ولعلنا لا نتطرقها كثيراً؛ لأن الجميع يعرف حُرمة تلك المعاصي والعياذ بالله، فمثلاً: الزنا.
هذا الزنا شر مستطير والعياذ بالله، وداء خطير، وبلاء لا يعلم مداه إلا الله عزَّ وجلَّ، فلعلنا نسمع ماذا يحل في البلاد المجاورة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من جراء تلك الجرائم -والعياذ بالله- من الأمراض التي انتشرت واستعصت على الأطباء.
وقد سمعتم في بداية الكلام، أن من آثار الذنوب والمعاصي حصول أمراض مستعصية تستعصي على الأطباء فلا يوجد لها علاج، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسمع بمرض الإيدز، والهِرْبِس، والسيلان، والزُهري، وغيره من الأمراض التي انتشرت في أقطار العالم بسبب هذه الجرثومة الخبيثة، بسبب هذا الجُرم العظيم وهو الزنا والعياذ بالله.
الزنا إذا انتشر في بلد فلا تسأل عن خطره، يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله} والحديث رواه: الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.(13/12)
عواقب الزنا وأضراره
فيا عباد الله: إن الزنا له عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة:
الأولى: يسوِّد الوجوه.
الثانية: يجلب الفقر.
الثالثة: يسبب الأمراض المستعصيات.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزُّناة والزواني يُعذبون في البرزخ في مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع، يأتيهم لهب من أسفل منهم، هذا عذابهم في البرزخ -نسأل الله العفو والعافية- فكيف إذا سيقوا إلى نار جهنم، نعوذ بالله من نار جهنم.
أيها الإخوة في الله: الزنا ذكر بعض العلماء أن الزنا له أضرار كثيرة:
إن الزنا عاره يهدم البيوت الرفيعة.
يطاطئ الرءوس العالية.
يسوِّد الوجوه البيض.
يبدل أشجع الناس من شجاعتهم جبناً لا يدانيه جُبن.
يهوي بأطول الناس أعناقاً، وأسماهم مقاماً، وأعرقهم عزاً إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة، ليس لها من قرار.
الزنا لُطْخَةٌ سوادء إذا لحقت تاريخَ أسرةٍ غَمَرَتْ كلَّ صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سواداً حالكاً.
أمة الإسلام: احذروا من جريمة الزنا، فإن الزاني يحط نفسه من سماء الفضيلة إلى حضيض الرذيلة، ويصبح بمكان من غضب الله ومقته، الزاني يكون عند الخلق ممقوتاً، وفي دنياه مهين الجانب، عديم الشرف، منحط الكرامة، ساقط العدالة، ويكفيه وعيداً، وتحذيراً ما قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].(13/13)
دواعي وبواعث الزنا
عباد الله: دواعي الزنا كثيرة، من دواعي الزنا:
- خروج النساء إلى الأسواق وهن متبرجات ومتعطرات.
- اختلاط الرجال بالنساء بدون مَحْرَم، اسمعوا إلى هذا الأثر يُروى: {يُروى أن الزناة معلقون بفروجهم في النار، يُضربون بسياط من حديد} نعوذ بالله من النار، نعوذ بالله من النار.
- كثرة مشاهدة الأفلام الخليعة، التي يُوجد فيها النساء الكاسيات العاريات.
- استماع الأغاني الماجنة.
- قراءة القصص الغرامية، وأيضاً قراءة المجلات السخيفة التي تحمل صور النساء العاريات.
- مغازلة النساء ومعاكستهن.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم بحفظه، اللهم استر عوراتنا، اللهم استر عوراتنا، اللهم استر عوراتنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا، إنك على كل شيء قدير.(13/14)
المعصية السادسة: المخدرات والمسكرات
المخدرات والمسكرات أضرارها عظيمة، فكم أذهبت من أخلاق وعقول، وأهانت أهلها، وأودت بهم في الحضيض، حتى صاروا من الأرذال لما سببوا على أنفسهم وعقولهم وأعراضهم وشرفهم وأموالهم بسبب هذه المخدرات والمسكرات، وكم أضاعوا من أسر، وكم خسروا من أوقات سوف يُسألون عنها يوم القيامة، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار} نعوذ بالله من النار.(13/15)
المعصية السابعة: عمل قوم لوط
وهناك أيضاً جريمة شنيعة بشعة، يقول بعض السلف: لولا أن الله ذكرها في القرآن ما صدقت أنها تحصل، الله أكبر! رحمة الله عليه.
هذه الجريمة يا إخواني جريمة قوم لوط والعياذ بالله، نسأل الله العفو والعافية، ويكفي بها جريمة ويكفي بها تحذيراً أن نذكر ماذا حصل لقوم لوط.
جبريل عليه السلام جاء إلى لوط عليه السلام بعد أمر الله سبحانه وتعالى له أن يأمر لوطاً أن يخرج هو وبناته من تلك القرية حتى يحل بها عذاب الله.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهي أن الله سبحانه وتعالى أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع ديارهم بجناحه، ثم رفعها إلى عنان السماء حتى سمع الملائكة صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها عليهم وأتبعهم حجارة من سجيل منضود، فتلكم قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة، بطريق مهيعٍ مسالكه مستمرة إلى اليوم، وهي المعروفة بـ البحر الميت، الذي لا يعيش فيه شيء، نسأل الله العفو والعافية؛ ولكن الله جل وعلا ذكرها في محكم البيان، حتى تحذر هذه الأمة من تلك الفعلة الخطيرة الشريرة.
لذلك يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أخوف ما أخاف على أمتي من عمل قوم لوط}.
ويُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله مَن عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله مَن عَمِل عَمَل قوم لوط، لعن الله مَن عَمِل عَمَل قوم لوط} ثلاث مرات.
ويُروى عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها}.
ويُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من مات من أمتي يعمل عمل قوم لوط، نقله الله تعالى إليهم حتى يُحشر معهم}.
ويقول ابن عباس رضي الله عنه: [[اللوطي إذا مات من غير توبة مُسخ في قبره خنزيراً]].
ويُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به}.
ولذلك اجتمع رأي الصحابة رضي الله عنهم في عهد أبي بكر رضي الله عنه؛ لما ذكر له خالد بن الوليد أن هناك رجل يُعمل به كما يُعمل بالنساء أمر بإحراقه بالنار رضي الله عنه وأرضاه.
أما بعض العلماء فقالوا: ينظر إلى أعلى مكان في البلد فيُرمى منه، ثم يُتبع بالحجارة، نعوذ بالله من غضب الله.
فالحذر الحذر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الجريمة الوخيمة! وحافظوا على أولادكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! الآن بعض الناس، لا يدري أين أولاده يذهبون، أو مع من يذهبون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنقول: الله الله بالمحافظة على الأولاد، فإنك مسئول عنهم يوم القيامة، والمغريات الآن كثيرة، تجد بعض الأشرار يأخذه معه بحجة أنه يعلمه قيادة السيارة، أو يعطيه سيجارة من دخان أو غير ذلك، فيفعل به جريمة قوم لوط، وعند ذلك والعياذ بالله ينهمك في هذا الجُرم العظيم، ولا تسأل عن أحواله، أسأل الله أن يصلح أولادنا ونساءنا.(13/16)
المعصية الثامنة: الربا
وهناك أيضاً من المعاصي والذنوب التي انتشرت في المجتمع: أكل الربا، والتعامل بالربا.
ولا شك أن هذا كلنا نعرفه، أنه من أكبر الذنوب والعياذ بالله، وأنه محاربة لله ولرسوله.(13/17)
المعصية التاسعة: الغيبة والنميمة
والنميمة هي: نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد والعياذ بالله.
والغيبة وهي: أكل لحوم الناس في المجالس، فهي -يا أخي في الله- خسارة لمن ابتلي بها؛ لأنه يخسر الحسنات، يوزع حسناته على الغافلين الذين يأكل لحومهم.
نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاًَ.(13/18)
نداء التوبة لأهل الذنوب والمعاصي
فيا أهل الذنوب والمعاصي! توبوا إلى الله عزَّ وجلَّ، أحد السلف رحمه الله، يذكرك يا من ابتليت بالذنوب والمعاصي، يقول رحمه الله:
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتُجمع في لوح حفيظ وتكتبُ
وقلبك في سهو ولهو وغفلة وأنت على الدنيا حريص معذبُ
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ
أما تذكر الموت المفاجئك في غدٍ أما أنت من بعد السلامة تعقبُ
أم تذكر القبر الوحيش ولحدَهُ به الجسم مِن بعد العمارة يخربُ
أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسط للوفاء سينصبُ
تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنشبُ
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحم ينجي ولا ثَم مهربُ
فبادر بالتوبة النصوح، بادر قبل أن يحل بك هادم اللذات.
وغمضت العينان بعد خروجها وبسِّطت الرجلان والرأس يعصبُ
وقاموا سراعاً في جهازك أحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا
وقد نشروا الأكفان من بعد طيّها وقد بخروا منشورهن وطيبوا
وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيَّهن وعصبوا
وفي حفرة ألقوك حيران مفرداً تضمك بيداءٌ من الأرض سبسبُ
إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكل ومشربُ
وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ
وهولٌ وديدانٌ وروعٌ ووحشةٌُ وكل جديد سوف يبلى ويذهبُ
فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقربُ(13/19)
بلوغ الروح الحلقوم
ثم أقول لكم في نهاية الكلام: أبشروا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله قد فتح بابه للسائلين، فمن تاب تاب الله عليه، بشرط قبل أن يقع أمران:
الأمر الأول: أمر خاص: وهو بلوغ الروح الحلقوم:
فإذا بلغت الروح الحلقوم عند ذلك لا تُقبل التوبة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} إذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم، وانطرح على فراش الموت، عند ذلك ما تنفعه التوبة؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أخبر عنه في محكم البيان، فقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا يطلب الرجعة؟ حتى يتزود من الدكاكين، حتى يتزود من البضاعة، كل هذا سوف يذهب ويتركه؛ لكن ليتزود من العمل الصالح، لكن مدة إقامتك في الدنيا يا عبد الله قد انتهت أيها المفرط، أيها العاصي، فعند ذلك يحصل الندم والتحسر والتأسف: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيسمع الرد الإلهي: {كَلَّا} لن تُجاب إلى هذا المطلب، انتهت مدتك في هذه الحياة الدنيا، الآن حان انتقالك إلى البرزخ، إلى بيت الدود، إلى بيت الوحشة، إلى بيت الوحدة، الذي سوف تجد أمامك فيه العمل {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
وما يدرينا متى يأتينا الموت؟! فبعض الناس يفتح عليه الشيطان باب التسويف، يقول: سوف تتوب فيما بعد إذا بلغت الذروة في التجارة، أو في العمر، أو في كذا وكذا، فيمكنك أن تتوب، وما يدريك -أخي في الله- متى ينزل بك هادم اللذات؟
فكم والله من إنسان أصبح مُعافىً سليماً، وفي لحظة من اللحظات يُقال: فلان مات، وكم من إنسان بات مُعافىً سليماً، ويقال: فلانٌ أصبح ميتاً.
فيا إخواني في الله، بادروا بالتوبة قبل نزول الموت.(13/20)
طلوع الشمس من مغربها
الأمر الثاني: أمر عام: وهو طلوع الشمس من مغربها:
إذا طلعت الشمس من مغربها فعند ذلك لا تُقبل التوبة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها}.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترزقنا توبة نصوحاً.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً.
اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولوالدِي والدِينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلحنا، وأصلح أئمتنا، وولاة أمورنا، وقاداتنا.
اللهم أصلح أولادنا، ونساءنا.
اللهم أصلح تجارنا، اللهم أصلح تجارنا، حتى لا يستوردوا لنا ما فيه تشبه باليهود والنصارى والمجوس، اللهم وفق تُجَّارنا في إزالة ورد البضائع التي فيها فتن وصور وتشبه باليهود والنصارى إلى أصحابها.
اللهم اجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعلنا جميعاً ممن يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/21)
أختاه تذكري الموت
يجب على الإنسان أن يكثر من ذكر الموت وما بعده من نعيم القبر وعذابه وأن يجعل آخرته نصب عينيه؛ فإن ذلك يحثه على التزود والاستعداد ليوم الرحيل بالمسارعة بالأعمال الصالحة والإقلاع عن الآثام والذنوب بالتوبة النصوح.
وعلى المرأة المسلمة مراقبة الله وعدم التبرج والسفور وعدم التشبه بالكافرات.(14/1)
حقيقة الموت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات: حياكم الله في بيت من بيوت الله، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً إنك على كل شيء قدير.
إخواني في الله: لقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تذكر الموت فقال: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} والله جل وعلا -أيضاً- أكثر من ذكره في القرآن؛ لأنه الخطب الفادح، وهو الذي لا تغلق دونه الأبواب، ولا تمنع منه الحصون المشيدة، إنه الموت، يقول الله جل جلاله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول الله جل وعلا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:77 - 78] ويقول جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] ويقول سبحانه وبحمده: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ويقول سبحانه: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29].
والموت كتبه الله على الخليقة أجمعين {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] فيا عباد الله! اغتنموا أوقات الفضائل قبل فواتها، وتأهبوا لما أمامكم وما أنتم قادمون عليه لا محالة ألا وهو الموت.
والموت كما قال بعضهم: تبدل من حال إلى حال -من حال الحياة إلى حال الموت- وانتقال من دار إلى دار من الدور إلى القبور.(14/2)
الاستعداد للموت
إن الموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره وقلة التفكر فيه وترك العمل.
فيا عباد الله: ما هذه الغفلة والاغترار؟!
وما هذا الإكباب على الدنيا وقد رأيتم تصرم الأعمار؟ وما هذا التفريط وأنتم على الآثار وقد علمتم أن دار الفناء ليست لكم دار قرار؟
فاحذروا من هذه الغفلة، واستعدوا لهذا الخطب الفادح والحدث الجلل
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى طفل وكهل وأشيب
فيا من شغلته الدنيا عن طاعة الله، وأغفلته عن ذكر الله! استيقظ مادمت في زمن الإمكان، وبادر قبل نزول الموت، قال الله جل جلاله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
عباد الله: إن الموت فيه عظة وعبرة لمن أراد أن يتذكر، فتصوروا أحوال الميت يوم أن ينزل به الموت
يعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحم ينجي ولا ثم مهرب
وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصب(14/3)
حالة الاحتضار
إخواني وأخواتي في الله: تذكروا عندما يجلس الأبناء حول أبيهم وقد نزل به هادم اللذات، يبكون وينادون بصوت يقطع نياط القلوب، الولد يقول: هل تعرفني يا أبتاه؟ والأقارب حوله يقولون: هل تعرفنا يا فلان؟ وهو ينظر إليهم وعيناه قد اغرورقت بالدموع، ينظر إليهم وقد نزل به هادم اللذات، فلا يستطيع الرد عليه، قد تعذر عليه الكلام، يرونه منطرحاً بين أيديهم، يعالج سكرات الموت وهم لا يشعرون {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]
ثم لا يلبثون إلا قليلاً وهم ينظرون إليه وإذا بملك الموت قد قبض الروح، ومال الأنف وفتح الفم وشخص البصر {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فيا لها من ساعة يتكدر فيها الصفا، ويتنغص فيها العيش، إذا نزل هادم اللذات فإنه والله أمر جلل، وخطر هائل، وخطب فادح لابد منه لكل مخلوق.
يقول بعضهم رحمه الله:
ليس الغريب غريب الشام واليمن ِ إن الغريب غريب اللحد والكفنِ
تمر ساعات أيامي بلا ندمٍ ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تبصرني
يا زلةً كتبت في غفلة ذهبت يا حسرةً بقيت في القلب تقتلني
دع الملامة عني يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيدهم تقلبني
إخواني: تذكروا ذلك المصرع الذي سوف يمر بنا جميعاً.
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفق ولا هونِ
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شر الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
أما المرأة فتأتيها امرأة فتجردها وتغسلها، وتقلبها على اللوح لا حول لها ولا قوة، فلا إله إلا الله!
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
ثم بعد ذلك ما هي آخر كسوة يلبسها من هذه الدنيا؟
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلُّوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أبٌ شفيق ولا أخ يؤنسني(14/4)
حال العبد إذا وضع في القبر
أيها الإخوة في الله: ويا أختي في الله! تذكروا من هو الأنيس في القبر؟ ومن هو الموحش في القبر؟
إنه العمل، فإما أن يكون العمل صالحاً؛ فيكون نعم الأنيس في القبر، وإما أن يكون سيئاً خبيثاً فإنه موحش في القبر والعياذ بالله.
فيا أيها الإخوة والأخوات: مثلوا أنفسكم وقد حلت بكم السكرات ونزل الأنين والغمرات.
مثلوا أنفسكم وقد أخذتم من الفرش اللينة ثم نقلتم إلى التراب، إلى بيت الوحشة والوحدة، إلى بيت الضيق والظلمة إلا من وسعه الله عليه، فهنيئاً لمن وسع الله عليه قبره، فإنه إذا سُئل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن أجاب وقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم؛ نادى من السماء منادٍ إن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح طيب الثياب فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وإن كان بعكس ذلك خرج من الدنيا وقد تحمل الأوزار والسيئات وسُئل: من ربك؟ فتلجلج ب
الجواب
هاه، هاه، لا أدري.
ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري.
من نبيك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري.
نادى منادٍ إن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح المنظر كريه الرائحة خبيث الثياب فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بهذا الحديث الصحيح فيقول: {إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيقعدانه ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً.
وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقوله الناس.
فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين} متفق عليه.
فيا أيها الإخوة والأخوات!
تنبه قبل الموت إن كنت تعقل فعمَّا قليل للمقابر تنقل
وتمسي رهيناً في القبور وتنثني لدى جَدَثٍ تحت الثرى تتجندل
فريداً وحيداً في التراب وإنما قرين الفتى في القبر ما كان يعمل(14/5)
فوائد تذكر الموت
أيها الإخوة والأخوات: لما سمعنا هذه الموعظة أرجع إلى الأخت المسلمة وأذكرها وأسألها وأقول: يا أمة الله! ماذا نستفيد من التذكير بالموت؟
و
الجواب
أن تعلمي -أختي في الله- أنه لابد من الانتقال من هذه الدار، ثم بماذا ننتقل من هذه الدار؟ لن ننتقل رجالاً ونساءً من هذه الدار إلا بالأعمال، فإن كانت صالحة؛ فقد سمعت -أختي في الله- ما الذي يكون في القبر، وإن كانت الأعمال سيئة خبيثة؛ فقد سمعتِ -أيضاً- ما الذي يحصل في القبر.(14/6)
المرأة قبل الإسلام وبعده
أختي في الله: لكنني بعد أن ذكرتك بالموت أذكرك بالنعمة التي منَّ الله بها عليك خاصة أيتها المسلمة! ولعلنا نرجع قليلاً لنرى أحوال المرأة قبل الإسلام.
لقد كانت قبل الإسلام في أتعس حال، فهي مهضومة الحقوق بين صفوف الجاهلية، تعد كأتفه الأشياء، بل وأعظم من ذلك وأطم أنها توأد وتقتل وتدس في التراب أحياناً وهي حية، فأعزها الله بالإسلام.
فيا أمة الله: لقد أعزك الله بالإسلام، ورفع قدرك فصار القرآن ينوه باسمك، ويناديك باسم الإيمان والإسلام، وورثك بعد أن كانت المرأة في الجاهلية محرومة من الإرث، وأخبر الله جل وعلا أن المؤمنة التي تطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي تؤدي حقوق الله تعالى كما أمرها؛ فإن الله سوف يكرمها في جنته فالجنة الجنة يا أمة الله!
يقول الله جل جلاله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
أختي في الله: أسمعتي وعد الله الذي قال الله جل وعلا فيه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72] لماذا أعد الله لهم هذا الجزاء؟ لما اتصفوا به من الصفات التي سمعتموها أيها الرجال والنساء! قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].(14/7)
الاستعداد بالأعمال الصالحة
فيا أمة الله: ما عليك إلا أن تقومي بما أوجب الله عليك، ثم تفوزي بهذا الفوز العظيم الذي لا يماثله فوز ثم يقول الله جل وعلا، والخطاب ليس للرجال فقط بل للرجال والنساء: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] هذا في الحياة الدنيا حياة الإيمان والطاعة، حياة القرب من الله جل جلاله.
يقول الله جل جلاله في الحديث القدسي: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه}.
أختي في الله: ما أحسن أحوال من أطاع الله واتقاه في الدنيا! يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ويقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].
ومن اتقى الله أحبه الله، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] ومن اتقى الله فإن الله يكون معه، ومن كان الله معه فوالله لن يغلب ولن يهزم ولن يضام {وَاعْلَمُو أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123] أما في الآخرة فيقول الله جل جلاله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97](14/8)
من وصايا الإسلام للمرأة
أختي في الله: إن في القرآن العظيم وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصايا كثيرة للمرأة، وعلينا جميعاً أن نرجع إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أقول لك: احذري -يا أمة الله- قبل أن ينزل بك هادم اللذات، احذري من المخالفات التي تخالف أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكوني كما أراد الله لكِ وكما أراد لكِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
أختي في الله! كوني حرة، ودرة مصونة، فعملك بدين الإسلام كله؛ عقيدة، وعبادة، وأحكاماً، وأخلاقاً، وآداباً، هو والله عزك وفخرك وسعادتك في الدنيا والآخرة.(14/9)
محافظة المرأة المسلمة على حجابها
إن مما أمر الله به وكذلك أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاب فحافظي -يا أمة الله- على الحجاب والتستر والحشمة والعفة، حتى إذا جاءك هاذم اللذات فأنت تعيشين في طاعة الله وفي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلمي أن هناك فساقاً وأنذالاً وأرذال وهم من جيوش الشيطان، استعملهم الشيطان، وليس لهم هم إلا الإفساد في الأرض، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
أيتها المرأة المسلمة: احذري من دعاة الشر والفساد، فإنهم أعداء لك خاصة وأعداء للمسلمين عامة، وهم أعداء لعقيدتك، ولدينك، ولأخلاقك، ولشرفك، يدعونك إلى السقوط في الهاوية، ويدعونك إلى السقوط في المستنقعات الوبيئة من حيث لا تشعرين.
أيتها المسلمة: افتخري واعتزي وارفعي رأسك بهذا الدين دين الإسلام، ثم احذري أعداء الإسلام، فإنهم يدعونك إلى الرمي بالعباءة وتمزيق الحجاب، ويدعونك إلى التبرج والسفور، ويدعونك إلى الاحتكاك والاختلاط بالرجال في المصنع والمتجر والمكتب وغير ذلك، والله قد رفع قدرك وأعز من شأنك رفعك عن هذا المكان، وهم يدعونك -فيما يزعمون- باسم الحرية والتقدم والمدنية والحضارة والمشاركة في الحياة الاجتماعية، وهذا -والله الذي لا إله غيره- كذب وغش وخداع وتزوير من دعاة الشر والفساد والإلحاد، فكم من جرائم ارتكبت، وكم من أعراض انتهكت، وحاصل ذلك الأحزان والمصائب والمآسي، وذلك بسبب السفور والاختلاط الذي دعا إليه المنحطون.
أيتها المسلمة: أما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} فيا أمة الله! لا تغتري بالسواد الكثير من الناس، ثم أقول لك لا تغتري أيضاً بالنساء المتمردات على شرع الله وأحكامه، ولا تغتري بالمتبرجات الداعرات الماجنات السافرات المتفرجات، يقول الله تعالى في التحذير من طرق أولئك: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فاحذري أختي في الله!
أيتها المرأة المسلمة: احذري من الذين يتبعون الهوى، من الذين قادهم الهوى إلى المهالك فعصوا الرحمن وأطاعوا الشيطان، وهكذا من اتبع هواه سوف يضل ويقع في مزالق الهلكة، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] ويقول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
وبعض النساء اللواتي اتبعن طريق الشيطان مع اللهو والملاهي، والأفلام والمسلسلات، واستماع الأغاني الماجنات، فضاعت أوقاتهن بغير طاعة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيتها المسلمة: يجب علينا جميعاً إذا أردنا أن نحوز على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال فيها: {فطوبى للغرباء} فإننا في زمن الغربة، وفي زمن كثرت فيه الفتن والمغريات والشهوات والشبهات، ولقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: {فطوبى للغرباء قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يُصلحون ما أفسد الناس، أو يَصلحون إذا فسد الناس}.
فإذا أردنا أن نحوز على هذه الدعوة؛ فلنكن من الصالحين المصلحين، فإذا جهل الناس فلا نجهل، وإذا عصى الناس فلا نعصي.
أختي في الله: لعلك سمعت حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها التي أخبرت به فقالت: {دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج! وحلق بالإبهام والتي تليها.
فقالت زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث} اللهم سلِّم سلِّم، فيا أمة الله! كوني من الصالحات المصلحات، حتى إذا نزل العذاب نجاك الله من ذلك العذاب؛ لأنك من الصالحات المصلحات، فأمري بالمعروف وانهي عن المنكر.
أسأل الله جل وعلا للجميع التوفيق والسداد.
أختي في الله: إذا أردت العز والفخر والشرف في الدنيا والآخرة فافعلي الواجبات واتركي المحرمات، ومن المحرمات: التبرج والسفور، ولا شك أن من وسائل الزنا التبرج والسفور، ولا شك ولا ريب أن بالزنا فساد المجتمعات، وبالزنا كل شر وعار ومحنة وفساد وبلاء، ووالله ثم والله، ما سرى داء السفور والتبرج في أعضاء أمة ومفاصلها؛ إلا أوردها موارد الهلاك والتلف والفناء، والانحطاط والذل والشقاء، والتعاسة والانهيار والسقوط.
وما لعن بنو إسرائيل إلا بعد أن تبرجت نساؤهم وتبخترت بالزينة.
أيتها المسلمة: احذري أن تكويني من هذا الصنف الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهنَّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} الله أكبر! هذا الحديث -يا أمة الله- معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأمور نشاهدها الآن في أسواق المسلمين، وفي حفلات الأعراس، وفي كثير من المجتمعات، فإذا لبست المرأة ثوباً رقيقاً أو ضيقاً أو قصيراً، أو لبست ما يُسمى (العاري) الذي يعلق بالكتفين، فإنها تخرج شبه عارية والعياذ بالله، فإن كان رقيقاً شفافاً؛ فهو يصف ما تحته من العورة، وإن كان ضيقاً؛ فهو يبين حجم المرأة، وإن كان قصيراً؛ فلا تسألي عن فظاعة ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وأفظع من ذلك اللباس العاري الذي يتعلق بالكتفين، ما فتح علينا أخيراً من هذا البنطلون الذي فيه تشبه بأعداء الإسلام والمسلمين.
أختي في الله: أسأل الله أن يفتح على قلوبنا وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وإلا فالأمر جد عظيم.
فيا أمة الله: ارجعي إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما التحذير من التشبه بأعداء الإسلام والمسلمين، ووالله الذي لا إله غيره إن نحن أخذنا بتعاليم الكتاب والسنة أفلحنا ونجحنا وشرف أمة الإسلام وزكاؤها بالأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة والفضائل العالية، وذلك لا يوجد إلا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: {كان خلقه القرآن}.(14/10)
تحذير المسلمة من تغيير خلق الله
أيتها المسلمة: اقتدي بأمهات المؤمنين، واقتدي بزوجات الأنصار والمهاجرين.
واحذري أن تغيري خلق الله؛ فقد حذركِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولعن من فعلت ذلك، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة}.
والواصلة: هي التي تصل الشعر بشعر آخر، والمستوصلة: هي التي تأمر من يفعل بها ذلك، فقد حلت عليها لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والواشمة: هي التي تفعل الوشم، والوشم: غرز الإبرة في الوجه أو في اليدين ثم يحش كحلاً أو غيره مما يظهر لونه، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلت ذلك، وأيضاً {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله}.
والنامصة: هي التي تنقش الحواجب حتى يكون رقيقاً دقيقاً أو ربما تزيله بالكلية، وتجعل بدله تلك الأصباغ، وقد لعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمتفلجة: هي التي تجعل الفلج في أسنانها، أي: تبرد من أسنانها ليتباعد بعضها عن بعض، وقد لعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيتها المسلمة: كوني خير خلف لخير سلف، كوني قدوة حسنة لأخواتك وزميلاتك وبناتك، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدوة الحسنة أن له أجراً عظيماً فقال صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء}.(14/11)
تحذير المسلمة من البدع
أيتها المسلمة: احذري من البدع، واحذري من المحدثات في الدين، واحذري من التقليد الأعمى الذي يدسه عليكنَّ أعداء الإسلام في التمثيليات والأفلام والمجلات والأزياء الخليعة، والأغاني الماجنة الخبيثة التي تميت القلوب وتفسد الأخلاق، ولا يخدعنك الدجالون والمزورون ودعاة التبرج والسفور.
أيتها المسلمة: كوني فطنة ويقظة، كوني على حذر من دعاة الشر والفساد؛ لأنهم دعاة هدم وتخريب ودمار، ويكفي فيهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من التشبه بهم فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تتشبهوا باليهود والنصارى} {لا تتشبهوا بالمجوس} {من تشبه بقوم فهو منهم} {ليس منا من تشبه بغيرنا} وهذه إنذارات محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
فاحذري ثم احذري من تخطيطات أعداء الإسلام والمسلمين.(14/12)
الترغيب في الزواج المبكر
أيتها المسلمة: لا تغتري بمن عزفن عن الزواج وضاعت أعمارهن بدون زواج، فبعضهن تقول: لا أتزوج حتى أكمل الدراسة، ثم تمضي عليها السنون ويتعداها الركب وتمكث عانساً، بدون زواج، وربما طال بها الأمد حتى تبلغ إلى سن ينقطع فيه الإنجاب، فعند ذلك فوتت على نفسها الزواج المبكر، وانقطعت من الذرية، وكم في التوجيهات الإسلامية من مصالح شتى للمسلمة في شئون حياتها، ولو أنها تزوجت مبكرة لأصبحت بذلك أُماً محترمة موقرة، وتكون مطمئنة مرتاحة قريرة العين، حيث أن الزوج يقوم بما أوجب الله عليه، ويوفر لها كل ما تحتاجه، من سكن وعطاء ووقاء وملبوس ومأكول ومشروب ومركوب، وحينئذ تعيش المرأة المسلمة مع زوجها وقرين حياتها ووالد أولادها عيشة الخير والهناء والسعادة تحت دوحات الإسلام السامقة، وفي ظله الظليل، بخلاف نساء الشرق والغرب اللواتي لم يعرفن الإسلام، فهن في غاية الإهانة والابتذال، يتمنين أن يكون لهن ما للمرأة المسلمة، فشتان ما بين أحكام القرآن والسنة، وأحكام الطواغيت من القوانين الوضعية، فاحمدي الله على هذا الدين الحنيف الذي أعطى المرأة حقها وأعزها وأكرمها.(14/13)
المبادرة بالتوبة النصوح
أيتها المسلمة: الله الله في التمسك بدين الإسلام، الدين الحنيف الذي ختم الله به جميع الأديان، وبادري بالتوبة النصوح إلى الله عز وجل إن صدر منك بعض المخالفات التي مر ذكرها، فتوبي إلى الله عز وجل وارجعي إليه قبل أن ينزل بك هادم اللذات.
واعلمن أيتها الأخوات في الله! أن الإنسان مهما عاش في هذه الحياة الدنيا فسوف ينتقل منها رغم أنفه، وسوف يهجم عليه هادم اللذات ومفرق الجماعات، وسوف يأخذه من قصره ومنزله ومن بين أهله وأولاده وأقاربه، ثم ينطرح جثة هامدة لا حراك فيها ولا إحساس، قال الشاعر:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همُ كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
أيتها الأخوات في الله: اعلمنَ علم اليقين أن التوبة إذا صحت بأن اجتمعت شروطها وانتفت موانعها قبلت بإذن الله تعالى، إذا وقعت قبل نزول الموت -مهما كان الذنب- وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فإذا بلغت الروح الحلقوم؛ فعند ذلك لن تقبل التوبة ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد سمعت -أختي في الله- الآيات حول المفِّرط إذا نزل به الموت ماذا يقول؟: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فهل يجاب على هذا المطلب؟ لا.
لأن الله سبحانه وتعالى حدد لهذا الإنسان عُمْراً، فالعمر محدود والأنفاس معدودة، وقد خلقه الله لعبادته وطاعته، وأرسل إليه الرسل وأنزل معهم الكتب لئلا يكون له على الله حجة بعد الرسل، عند ذلك يطلب الرجعة {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فكم من امرأة إذا نزل بها الموت سوف تقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، لأن الأوقات ذهبت في السفور والتبرج، وفي المعاصي والسيئات، فهي تريد أن تصلح ذلك، ولكنَّ الله جل وعلا يقول: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] فلن يجاب على هذا المطلب.
فيا أمة الله: الله الله في التوبة النصوح والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.(14/14)
قيام الليل
أيتها الأخوات في الله: إن مما اتبلي به كثير من الناس في هذه الأزمان المتأخرة، هذا السهر الطويل المفرط، والسهر يضيِّع ويفوِّت خيرات كثيرة مع الأسف الشديد، فإذا سهر الإنسان فاتت عليه أوقات الفضائل، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان أن يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله إلا أعطاه الله من خير الدنيا والآخرة، فإذا فوتنا هذه الأوقات في القيل والقال والأمور التي لا يرضاها الله عز وجل فقد فوتنا على أنفسنا خيرات كثيرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن أن الله جل وعلا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟}.
أختي في الله: هل لك حظ من قيام الليل؛ لتدركين هذا الفضل العظيم، حتى تكوني من الذين مدحهم الله بقوله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]؟ هل لك حظ من قيام الليل؛ لتحوزي على الفضل العظيم الذي أخبر الله به في الحديث القدسي حيث قال: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم يقول صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} وماذا كانوا يعملون؟ يا أمة الله! ارجعي إلى أول الآية وإذا ربنا يقول: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] فاحذري -يا أمة الله- من هذا السهر المفرط، وتوبي إلى الله عز وجل، واهتدي بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلي لك نصيباً من الليل، قومي آخر الليل، وصلي في تلك الساعة المباركة ليحصل لك الفضل العظيم.(14/15)
التوبة من الغيبة والنميمة
ومما ابتليت به كثير من النساء: الغيبة في المجالس فتجدين بعض النساء ليس لها هم إلا الغيبة، وأكل لحوم الآخرين قال صلى الله عليه وسلم: {رأيت ليلة أسري بي أقواماً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} وتحدثت عائشة رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [[حسبك من صفية أنها كذا وكذا]].
يقول بعض العلماء: إنها قالت: قصيرة فتغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب أشد الغضب، وقال: {يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته} أي: لغيرت لونه وريحه، فيا أمة الله! احذري من الغيبة فإن عاقبتها وخيمة، وإنها تقضي على الحسنات.
واحذري يا أمة الله: من النميمة، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: {إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله} وأخبر صلى الله عليه وسلم عن النمام فقال: {لا يدخل الجنة نمام}.(14/16)
التوبة من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم
واحذري -يا أختي في الله- من قطيعة الرحم، واحذري من عقوق الوالدين، واحذري من السباب والشتام، وعودي لسانك على كثرة ذكر الله والتسبيح والتهليل، ثم اسمعي إلى هذه الحالة التي ذكرها بعض الأطباء، يقول: كانت امرأة مريضة مرض القلب فدخل الطبيب يريد أن يأخذ الأجهزة التي عليها لأنها قربت وفاتها، وقرب وقت انتقالها من هذه الدنيا، فلما اقترب منها الطبيب وإذا هي تفتح عينيها وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك فاضت روحها وماتت رحمها الله، فتعجب منها الطبيب! وخرج من الباب وإذا بزوجها يقابله عند الباب، فقال: ما هي الأحوال؟ قال: أحسن الله عزاءك، ولكني رأيت منها أمراً عجبت منه! قال: ماذا رأيت منها؟ قال: وأنا آخذ الأجهزة منها وهي في آخر رمق فتحت عينيها وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فتعجبت من ذلك! قال: لا تعجب -يا أخي في الله- فهي معي منذ خمسٍ وثلاثين سنة ما تركت قيام الليل إلا من عذر الله أكبر!
فيا أمة الله: الله الله في تقوى الله، الله الله في طاعة الله عز وجل، حتى إذا نزل بك هاذم اللذات، وجاءك ملك الموت، وكانت معك أعمال صالحة ترضي الله عز وجل.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا جميعاً توبةً نصوحاً، وأن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم أقر أعيينا وأفرح قلوبنا بصلاح أولادنا ونسائنا إنك على كل شيء قدير.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وقاداتنا، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم وفق من سعى في هذه السلسلة واجعلها سلسلة مباركة، اللهم اجعلها سلسلة مباركة لمن قرأها وحضرها وسجلها ودعا إليها إنك على كل شيء قدير.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(14/17)
التذكرة بحال الدنيا والآخرة
لقد جعل الله هذه الحياة الدنيا داراً للابتلاء والامتحان، وحذَّر من الانغماس في ملذاتها والجري وراء حظوظها، وبيَّن حقارتها وسرعة زوالها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فعلى المرء المسلم ألا يغفل عما خلق له من عبادة الله تعالى، وعليه أن يكثر من التزود من الأعمال الصالحة، وأن يجعل الموت وقرب الرحيل نصب عينيه؛ فإن ذلك يعينه على التقلل من الدنيا والزهد فيها.(15/1)
حقارة الدنيا وقصر الأعمار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال وقوله الحق: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: {لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجعلنا نتبادل هذه التحية بدار السلام في الفردوس الأعلى.
أيها الإخوة في الله: لا يخفى عليكم أمر الدنيا وحقارتها، فهي حقيرة لا تزن عند الله جناح بعوضة ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى منها كافراً شربة ماء، ويبين ذلك قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197] فهذه الدنيا وإن تمتعوا بها ليلاً ونهاراً فعمرها قليل، وإن أرغدت عليهم فستنقلب، ولكم في ذلك عبرٌ كثيرةٌ تمر ليل نهار عبر ما تشاهدون وتسمعون، ولكن كما قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
ما أكثر المواعظ يا عباد الله! وما أكثر العبر! ولكن ينقصنا شيء وهو زيادة الإيمان، فإذا زاد الإيمان وتحقق في قلوبنا، عرفنا حقارة هذه الدنيا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات} وهو حديث صحيح يروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: {حجبت بالمكاره}.
ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: {ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ قال تحت شجرة، ثم تركها} هكذا الدنيا يا عباد الله!
ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربط على بطنه الحجر من الجوع؟ أليس هذا من حقارة الدنيا؟ بلى.
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل الخلق عند الله على الإطلاق، فلو كانت الدنيا خيراً لما زواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، ويستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفاً، ويرسل إلى إحدى زوجاته: هل عندك شيء؟ فتقول: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة وهكذا تسعة بيوت، كل واحدة تقول: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلق على الإطلاق.
ثم هو يقول لـ عبد الله بن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} ثم يقول هذا التلميذ الذي تتلمذ على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]] وهذا يدل على أن عمر الدنيا قصير.(15/2)
عمارة الدنيا لا تكون إلا بالأعمال الصالحة
المطلوب من العباد أن يعبروا هذه الحياة الدنيا، ويعمروها بالأعمال الصالحة كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] هل آمنا بهذا؟
إذا آمنا بهذا انكشفت عنّا الشكوك وانجلت عن قلوبنا، وما هي الشكوك؟
البعض من الناس يشك والعياذ بالله، فإذا قيل له: اتق الله، واعمر حياتك بطاعة الله، قال: أضيع المستقبل؟ ونحن نقول: هل عندك -يا أخي- قرارٌ معين يعين لك هذا المستقبل الذي سوف تعيشه؟ لا.
ليس عندك هذا، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:34] فافهم يا عبد الله! واسمع قول الله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] هل حققنا هذا؟ لا نقول: لا؛ لأن البعض فيه من الإيمان ما الله به عليم، أما البعض من الناس فلا حول ولا قوة إلا الله! ولقد سمعناهم يقولون: أثبتوا لنا وجود الله، فكيف صدرت منهم هذه الكلمة ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! لقد صدرت بتأثر من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين الذين يشنون على الإسلام والمسلمين حرباً شعواء، ولكن هل من مدَّكر يا عباد الله؟!(15/3)
من أسباب قسوة القلوب البعد عن القرآن
البعض من الناس يقول: أنا لا يلين قلبي، ولا أخشع لسماع كلام الله ولا عند المواعظ، ثم نأتي نختبره ونقول: أين تقضي أوقاتك؟ فيقول: الظهر مع جريدتين، والعصر مع الكرة، وفي الليل عند التلفاز، وآخر الليل بقليل أو قبل أن يأتي النزول الإلهي عند الورقة، وهي التي تسمى"البلوت والكيكان" أجل فمن أين يأتي لقلبك الخشوع يا عبد الله؟! أما علمت أن أبعد القلوب من الله القلوب القاسية، وهي التي اشتغلت بغير ذكر الله عز وجل؟
عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الثالث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب من عنده ويقول: [[لو طهرت قلوبكم، ما شبعتم من كلام ربكم]].
وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لما سأله بعض الناس في زمانه، قالوا: إنا نريد أن نقوم الليل ولا نستطيع، قال لهم: [[قيدتكم معاصيكم، أو قيدتكم خطاياكم]] يقول بعض الصحابة الذين تتلمذوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب من كان في زمانه في القرون المفضلة، ويقول: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] ولو رأى هذا الصحابي ما نحن فيه الآن، فماذا سيقول رضي الله عنه وأرضاه؟!
في الحقيقة أن الكثير من المسلمين ابتعدوا عن تعاليم الإسلام، ابتعدوا عن القرآن، ابتعدوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن سيرة السلف الصالح، فمن أين يكون الخشوع؟ من أين يكون الخشوع يا عبد الله وقلبك وأفكارك مزاحمةٌ بتلك المنكرات التي ابتدعها لك أعداء الإسلام، والتي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خاطب الصحابة فقال: {إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار}.
إذا كان هذا قد بيَّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، فمن أين لنا العذر يا عباد الله؟! إذا أردنا أن تحيا قلوبنا، وأن نتقرب من الله عز وجل، فما علينا إلا أن نبحث عن العلاج.
والعلاج يوجد في صيدلية معروفة أسسها محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيها الشفاء من كل داء، ومن أعظمها وفي مقدمتها المعجزة الكبرى التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن العظيم يا عبد الله!
فأين قراءة القرآن من المسلمين؟!
كنا نسمع قبل عشرين أو ثلاثين سنة في البيوت قراءة القرآن، وذكر الله عز وجل، أما الآن ماذا نسمع في بيوت المسلمين؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!
أيها الإخوة في الله: علاج القلوب واضح وميسر وسهل ولله الحمد، ما عليك إلا أن ترجع إلا ربك عز وجل وتقرأ القرآن، وتتدبر معانيه، وتقف عند آياته وتتفكر فيها، ثم تطبق ذلك في حياتك؛ في سلوكك، في آدابك، في أخلاقك؛ لتكون قدوة للآخرين؛ لتكون قدوة في أهل بيتك، في جيرانك، في أولادك، في أقاربك، ولا تضجر ولا تضق من الذين استعانوا بالشيطان على أن يحرفوك عن الطريق المستقيم.
يوجد الآن بعض الآباء -هداهم الله وردهم الله إلى دينه الصحيح، وردهم الله إلى رشدهم- يعاتبون الأولاد، ويشددون على الأولاد إذا رأوهم يصومون الإثنين والخميس، أو رأوهم يقومون الليل، ويشهِّرون بهم بين الأقارب، ويقول الأب: إنَّ ابني فلاناً أخشى عليه أن يصبح مجنوناً أو موسوساً! لماذا؟ لأنه يصوم الإثنين والخميس ويقوم الليل، الله أكبر! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس، أو الذين يصلحون ما أفسد الناس}.
لقد كان لبعض الصحابة عندما أسلم والدة، وتقول له: لا أذوق الطعام والشراب حتى ترجع عن دين محمد -وهذا في بداية الإسلام، في غربته الأولى- فقال هذا الابن جزاه الله جنة الفردوس الأعلى: [[كلي أولا تأكلي، فوالله لو كانت لك مائة نفس تخرج واحدة واحدة، ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم]].
هذا الإيمان يا عباد الله! هذا الإيمان الصحيح الذي رسخ في القلوب، لا تؤثر فيه مؤثرات الحياة، لا كما يفعل بعض الناس يستقيم شهراً أو سنة، ثم يصحب بعض قرناء السوء فيقولون له: أنت موسوس، أنت متزمت، نخشى عليك أن يصيبك الجنون، فيعمد إلى اللحية ويحلقها، وإلى الثوب ويطيله ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا ما يحدث من بعض جلساء السوء في هذه الدنيا.(15/4)
الدنيا دار بلاء وامتحان
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1 - 2] ويقول أيضاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] ما خلقت في هذه الحياة -يا عبد الله- إلا للابتلاء والامتحان، انظر إلى من قبلك من الأمم الذين ابتلاهم الله أما قرأت سورة البروج ثم رجعت إلى تفسيرها؟ تجد فيها حديثاً صحيحاً متفقاً على صحته، وفيه أنه كان للملك ساحر، وكان هذا الساحر قد كبر، فقال الساحر للملك: إنه قد كبر سني، وأريدك أن تبعث إليَّ غلاماً أعلمه السحر -وقصة الغلام طويلة- ولكنَّ الله جل وعلا أظهر هذا الغلام بقوة إيمانه حتى إن الملك بعثه مع رهط ليصعدوا به الجبل، فإذا وصلوا ذروة الجبل يلقوه منها، ماذا قال هذا الغلام؟ قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فسقطوا من الجبل، وجاء يمشي إلى الملك، قال: أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى.
ثم بعثه في قرقورة -سفينة صغيرة- مع جماعة أخرى، وقال لهم: إذا توسطتم البحر، فاقذفوه فيه، فلما توسطوا البحر وأرادوا أن يقذفوه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، هذا الاتصال بالله عز وجل، لا يحتاج إلى مقدمات، ولا إلى واسطات، الله سبحانه وتعالى قريب، يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت بهم السفينة وجاء يمشي إلى الملك، قال: أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، فهذه قوة الإيمان يا عباد الله!
ثم يؤتى بأناس آخرين قد آمنوا، فيقال لهم: ارجعوا عن دينكم وإلا فعلنا بكم كذا وكذا، فلم يرجعوا، ويوضع المنشار على مفرق رأس الواحد فيشق نصفين وما يرده ذلك عن دينه.
أما بعض الشباب -هدانا الله وإياهم لطاعته، ووفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه- لم يعلموا إلى الآن أنهم وجدوا في هذه الحياة الدنيا للابتلاء والامتحان، بمجرد ما يقول له الزميل أنت موسوس، أو مجنون، أو متزمت، يعمد إلى هذه اللحية التي كرمه الله بها، ثم يحلقها نعوذ بالله من الانتكاسة.
وهكذا ما يحدث من بعض النساء هدانا الله وإياهن لما يحبه ويرضاه، وأسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين أجمعين ذكوراً وإناثاً إنه على كل شيءٍ قدير.(15/5)
دعوة للمرأة أن تكون عوناً على الدين
ينبغي للزوجة المسلمة التي تؤمن بالله، وتؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، آيات الله وتسمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون عوناً لزوجها في هذه الحياة الدنيا، ليس عوناً له في جلب مصالح الدنيا فإن الرزق على الله، بل تكون له عوناً على طاعة الله تعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معناه: {رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ما كتب له، ثم أيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ثم قال: ورحم الله امرأة قامت من الليل، فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء} رحم الله رجلاً، ورحم الله امرأة، هذه دعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} ويقول صلى الله عليه وسلم: {الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة} المرأة الصالحة التي تعينك على طاعة الله، تذكرك بالله، إذا ذكرت أعانتك، وإذا نسيت ذكرتك، تعينك على صلة الأرحام، تعينك على برِّ الوالدين وتذكرك بذلك، وترعى الأولاد وتربيهم تربيةً صالحةً إسلاميةً، حتى تكون أنت وهي في الجنة سواء، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
فينبغي للمرأة المسلمة أن تكون عوناً لزوجها على طاعة الله، وإذا رأت منه خللاً في بعض الأحيان كأن يميل إلى بعض المنكرات، تذكره بالله عز وجل، وتقول له: اتق الله، وإذا جن عليهما الليل، تقول: يا زوجي! يا زوجي! قم فأمامنا مفازةٌ طويلةٌ تحتاج إلى زاد، أمامنا سفرٌ بعيد يحتاج إلى زاد، قم -يا زوجي- لنصلي أنا وأنت حتى يذكرنا الله ويكتبنا مع الذاكرين الله والذاكرات، هكذا ينبغي للزوجة، وهكذا ينبغي للزوج أن يكون عوناً لزوجته على طاعة الله، والبعض من الناس يتعذر بأعذارٍ واهيةٍ، ويقول: أنا أعاني من المشاق، وأعاني من كذا وكذا، فهذا يدل على عدم صبرك يا عبد الله! والله عز وجل يقسم فيقول:
بسم الله الرحمن الرحيم.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] هكذا ينبغي لك يا عبد الله! آمنوا، ثم اعملوا بطاعة الله، اعملوا الصالحات وتواصوا على ذلك بالحق، وتواصوا على ذلك بالصبر حتى تكونوا من الذين استثناهم الله من الخسران.(15/6)
الحذر من الانغماس في الحياة الدنيا
واعلم أن من آثر الحياة الدنيا، فإن له وعيداً شديداً، وقبل أن نقرأ هذا الوعيد الشديد يقول البعض من الناس: أتريدنا أن نلزم المساجد، ونقضي وقتنا في ذكر وقراءة قرآن ونموت جوعاً، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً]].
نقول لك: أنت أفتيت نفسك جزاك الله خيراً، صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: [[السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً]] وأمرت ببذل الأسباب، ولكن الذي أريد منك، وأريد من نفسي المقصرة الأمارة بالسوء أن نقتصد في طلب الدنيا، وأن نجعل الدنيا في أيدينا ولا نجعلها في قلوبنا، وإلا فما مرضت القلوب وقست إلا لأن الدنيا نزلت فيها، وصارت الآخرة في أيدينا.
نعم.
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] فعليك -يا عبد الله- أن تستعين بالله عز وجل، وأن تفعل الأسباب، وأن تطلب الرزق الحلال كما قال بعض السلف رحم الله:
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
ثم يقول الشافعي رحمه الله:
وما هي إلا جيفةٌ مستحيلةٌ عليها كلاب همّهنَّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
هذه الدنيا عرف قدرها السلف الصالح رحمة الله عليهم، فلماذا عمر رضي الله عنه وأرضاه يأكل خبز الشعير مع الزيت وهو الخليفة الراشد الذي مفاتيح خزائن بيت مال المسلمين بيده؟ ولماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وما شبع من الدقل يوماً؛ وهو رديء التمر؟
لماذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونةٌ على شعير عند يهودي؟ كل هذا لعدم الاعتناء بالدنيا، وهل ماتوا جوعاً قبل أن يأتيهم الأجل؟ لا.
والله ما ماتوا جوعاً قبل أن يأتيهم الأجل، لو كان الجوع يميت أحداً لمات أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، يقول: [[كنت أخر صريعاً من الجوع، ويطوى عنقي ويحسبون أن بي جنوناً ووالله ما بي إلا الجوع]].
الله أكبر! الله أكبر يا عباد الله! ومع هذا فتحوا الفتوحات وحفظوا لنا ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن ولا حولا ولا قوة إلا بالله! مع كثرة ما بسط لنا من زينة الحياة الدنيا تجدنا مقصرين في طاعة الله عز وجل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، وتقول له عائشة رضي الله عنها: {لمَ تفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً} ثم يقول صلى الله عليه وسلم في موعظة: {لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: {كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر} أي: متى يؤمر بنفخ الصور.
فيا عبد الله: قدر لهذه الدنيا قدرها، وأخرجها من قلبك، واحتقرها، واجعلها في يديك، واعمل واكتسب الأرزاق بقصدٍ، واعقد النية في عملك هذا أن تستعين به على طاعة الله عز وجل.
يقول البعض من الإخوان: لقد كان بعض الصحابة أغنياء، فلماذا تُحذِّرون من الدنيا؟
فنقول له: تعال -يا عبد الله- لنجلس قليلاً حتى نرى ما هي حالة الصحابة رضي الله عنهم، هذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أتته قوافلٌ كثيرةٌ من العراق، وقد أصاب المدينة مجاعةٌ عظيمةٌ، فأتاه التجار يريدون أن يشتروها منه بثمنٍ كثير، فقال: قد بعتها، ويريد أنه باعها من الله عز وجل، الذي من تاجر معه ربح، هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، أما نحن، فأغنياؤنا يتحيَّنون فرص الغلاء فيدخرون ما عندهم حتى يحتكروه ويضيقوا الخناق على الآخرين، والبعض من الأغنياء يحارب الله ورسوله علانيةً بالربا، كل ذلك حباً للدنيا والدينار -نسأل الله العفو والعافية- ونسي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرَّج الله عنه كربة من كرب الدنيا والآخرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ونسي قوله صلى الله عليه وسلم: {ومن يسر على معسرٍ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.
فهل تحققنا ذلك يا عبد الله؟ لو تحققنا ذلك وآمنا وملأ الإيمان قلوبنا لاشتقنا إلى الآخرة، واشتقنا إلى جنة عالية قطوفها دانية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تنسوا العظيمتين} وهل العظيمتان أمريكا والروس كما يزعم الناس؟
لا.
العظيمتان: الجنة والنار يا عبد الله! تذكر الجنة والنار، تذكر إذا انصرف الناس هل يؤخذ بك ذات اليمين إلى الجنة، أو يؤخذ بك ذات الشمال إلى النار تذكر يا عبد الله!(15/7)
التفكر في الموت يزهّد في الدنيا
ولن تتذكر ذلك حتى تتذكر هاذم اللذات، وتعرف أن الموت لا يستأذن على أحد، يأتيك على غرة وعلى حين غفلة، تجدك جالساً مع أهلك وأولادك متكئاً على الأريكة، فإذا بهاذم اللذات ينزل عليك، وتجمد العينان، ويشخص البصر وهيهات وحالك: ادع الطبيب، ولم أرَ الطبيب اليوم ينفعني، نعم يا أخي! أين فلان وأين فلان؟ فلان خرج في الصباح للعمل، وقد تجهز ولبس ما عنده من الزينة، ولما سار في الطريق، وقبل أن يصل العمل، وإذا بسائق طائش يجتاز الإشارة، ويصطدم به وإذا بالهاتف يرن: ألوه! أبوكم في الثلاجة، الله أكبر! كيف في الثلاجة، هل أبونا مات؟! نعم مات سبحان الله العظيم مات!
والآخر بات في الليل وقد سمر مع الأصحاب وأكل وشبع، وأرادوا أن يوقظوه لساعة العمل، وإذا هو جثة هامدة مات فلان؟ مات فلان، يا أخي! إن الموت لا يعطي إنذارات، بل يأتيك على غرة.
هل أنت شاكٌ في ذلك؟ اسمع قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] هذا كلام الله عز وجل، هذا مرسومٌ رسمه ربنا جل وعلا، وجاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو موجود إلى الآن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] نعم نموت، ولو كُنا في فلل ورفعنا السور، وأعمقنا للقواعد، ورفعنا القصور، نموت، وهذا من قول ربنا جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] فلماذا لا نستعد لهذا؟ ولماذا لا نعتبر؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة} قف على القبر الذي جلس عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى حتى بل الثرى، وقال: {هنا تسكب العبرات}.
المهم -يا عبد الله- أنه مطلوب منك أن تستعد لهادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتم الأطفال ومرمل النساء.
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] جاء ملك الموت لموسى كليم الرحمن فلطمه موسى ففقأ عين ملك الموت، فرجع الملك إلى الله عز وجل، فقال: إن عبدك موسى فقأ عيني، فقال الله: اذهب إلى عبدي موسى، ومره يضع يده على جلد ثور، فله بعدد الشعر سنين، أو كما ورد في الحديث الصحيح، ثم قال موسى: وبعد ذلك أموت؟ قال: نعم تموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:25 - 27] احضروا الطبيب، اذهبوا به إلى البلدة الفلانية، اذهبوا به بطائرة خاصة، ولكن هيهات، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:27 - 29] مات فلان، مات فلان، جمدت العينان، سكت القلب، شخص البصر، ثم يستعدون به ويأتون بالمغسل والمكفن.
ومع الأسف الشديد لقد سمعنا خبراً محزناً أن بعض المغسلين الثقاة لما أراد أن يغسل شاباً، يقول: انقلب أسود اللون، كان قبل أن يغسله أبيض فانقلب أسود اللون، وسأل والده عن ذلك، فقال: إنه لا يصلي.
ثم يذكر لنا هذا الثقة أنه أراد أن يقبر شيخاً كبيراً -أي كبيراً في السن- وفي ساعة متأخرة من الليل، ولم يجدوا إضاءة يستضيئون بها حتى يدخلوه في اللحد، فلما كشف عن وجهه، سطع القبر نوراً، ورآه من كان خارج القبر، انظروا إلى الفرق يا عباد الله! كلهم عباد الله، وأن الله جل وعلا ليس يبنه وبين خلقه نسباً {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
ثم يوضع هذا في القبر، وهذا القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ثم هذا في قبره قد فتح له باب إلى الجنة، وهذا فتح له باب إلى النار، هذا فرش له من فرش الجنة، وهذا فرش له من فرش النار، هذا عنده شاب حسن الثياب طيب الريح، وهذا عنده كريه المنظر خبيث الرائحة، فانظر الفرق -يا عبد الله- ووازن بينهما.(15/8)
تذكر الآخرة يحث على العمل الصالح
ثم بعد هذه المدة التي يعلمها الله {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:34 - 36] اسمع الفرق يا عبد الله، وهذه الحياة التي قضاها في الدنيا انظر إلى عاقبتها في الآخرة: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39] وانظر على الآخر: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ويكون ذلك إذا انتهت مدة الحياة، وأذن الله في خراب هذه الحياة الدنيا؛ لننتقل منها إلى دار الآخرة.
ثم يقول الله جل وعلا في محكم البيان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1] أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، اتقوا ربكم: تقربوا إلى الله بطاعته، أطيعوا الله، وعظموا أوامره، واجتنبوا نواهيه.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1] لأن أمامكم هولاً عظيماً {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
عباد الله: إنها لحظات عظيمة، في ذلك الموقف العظيم يقول تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] وجهنم يقول عنها صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} اضرب -يا عبد الله- سبعين بسبعين ألف، الله أكبر! إنها نار وقودها الناس والحجارة، في يوم القيامة في ذاك الموقف العظيم الرهيب، الذي يحتاج الناس إلى من يشفع لهم عند ربهم جل وعلا لينزل الله جل جلاله ليقضي بين العباد، ليستريحوا من ذلك الموقف.
ولكن تلك الشفاعة يعتذر عنها ويبتعد عنها أولوا العزم من الرسل، كلهم يقول: نفسي نفسي، ثم يرجع الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الموقف العظيم أناس اختصهم الله بكرامات عظيمة، أتدري ما هي يا عبد الله؟ هي أن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، الله أكبر! ولكن أسفٌ على الشباب الذين يضيعون هذه الفرصة، وهم الذين عدَّهم الرسول في الدرجة الثانية بعد أن قال: {إمام عادل} ثم قال: {وشاب نشأ في طاعة الله} فيا أيها الشاب! لا تضيعوا هذه الفرصة.
نعم.
إنهم سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ثم يأتينا تحذير بيّنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة يقول: {يَرِدُ أقوام من أمتي الحوض، ثم تردهم الملائكة فأقول: أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك}.(15/9)
نصيحة في المداومة على العمل الصالح وترك البدع
فيا عبد الله: ويا عباد الله جميعاً! إياكم ومحدثات الأمور! واللهَ اللهَ في طاعة الله، فوالله إن عمر الدنيا قصير، فلماذا لا نشغل أوقاتنا بقراءة القرآن، وطلب العلم النافع، وذكر الله عز وجل، ونوافل العبادات؟ لماذا لا نملأ هذه الخزائن التي سوف نجدها يوم القيامة؟ إما أن تجد في هذه الخزائن خيراً، وإما أن تجد فيها شراً يا عبد الله!
يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم: {من صلى لله في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة، بنى الله له بيتاً في الجنة} فكيف تضيع هذا الفضل يا عبد الله؟! ومع الأسف الشديد نرى من الناس الذين يصلون، يقولون: نريد إماماً يعجل في الصلاة، لماذا؟ لأننا نضيق في المسجد، نريد إماماً يقيم في المكبِّرة حتى نأتي ونصلي هذه الفريضة ونخرج، الله أكبر يا عبد الله! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أجل -يا عبد الله- إنك لم تخلق عبثاً {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] خلقك الله لطاعته، خلقك الله لعبادته، وقد تكفل برزقك {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فلماذا -يا عبد الله- هذا الانشغال في الدنيا؟ اثنتا عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة، يبنى الله لك بها بيتاً في الجنة.
ثم يقول في حديث، قال عنه رواة الحديث: إنه حسن صحيح: {من حافظ على أربعٍ قبل الظهر، وأربع بعدها، حرمه الله على النار} الاثنتا عشرة ركعة هي: أربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء ركعتان قبل صلاة الغداة، يعني: قبل صلاة الفجر.
واعلم -يا عبد الله- أن ركعتي الفجر التي هي النافلة خير من الدنيا وما فيها، فهاتان الركعتان تقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) (وقل هو الله أحد) فهما خير من الدنيا وما فيها، فلماذا -يا أخي- نضيع هذا الفضل؟! ثم إن البعض من الناس لا يهتم بالصف الأول الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعض من الناس لا يهتم بكثرة الخطى إلى المساجد، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة يا عبد الله! يرفع لك بالأولى درجة، ويحط عنك بالثانية خطيئة.
يا أخي: إذا أردت أن يحيا القلب وينتفع بالمواعظ، فبادر بالأعمال الصالحة؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، انظر إلى بعض الناس عندما يستقيم، في البداية تجد عنده رغبة وتجد عنده اشتياقاً لطاعة الله عز وجل، لكن ينبغي -يا عبد الله- أن تبادر إلى طاعة الله عز وجل.
أسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والتمسوا لهذا الفقير المسكين إلى الله، التمسوا له عذراً لقلة علمه وقلة تعبيره، فالمؤمن مرآة أخيه يستر على أخيه العيوب، ولا يفشيها ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، وأسأل الله أن يجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(15/10)
الأسئلة(15/11)
أسباب تقوية الإيمان
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هي الأسباب التي تقوي الإيمان؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، وقد أعلنت قبل هذا في جلسة مع الإخوان أني لست مفتياً، ولكن هذا السؤال مرَّ بنا كثيراً ونسمعه من بعض العلماء جزاهم الله خيراً، وقد سمع السائل هذا -جزاه الله خيراً- الإجابة عليه في أثناء الكلمة التي مضت، ويعرف أن العلماء رحمهم الله يقولون: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهذا شيء مجرب ومعروف، انظر الآن -كما قلت لكم سابقاً- أول ما يستقيم الإنسان تجد عنده رغبة؛ لأن الإيمان عنده قوي، فعنده رغبة، ويبادر إلى الأعمال، ثم لا يزال بمقارنة بعض الناس -نسأل الله العافية- الذين لا يعينونه على طاعة الله، يقولون له: يا أخي! الدين يسر، صحيح -والحمد لله- الدين يسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيقولون له: يا أخي! الدين يسر، صيام وصلاة وقيام، الحمد الله، فالله فرض علينا الفريضة، وإذا أدينا الفريضة يكفي، سبحان الله العظيم!
ثم هذا المسكين ينحط عزمه ويترك ما كان يعمل، تجد له في الصباح ورداً يقرأ القرآن، ويذكر الله ويسبح ويهلل ويحمد الله، وتجد بعض الإخوان أول ما يستقيم لا يخرج من المسجد إلا إذا طلعت الشمس، ثم يهون عليه هذا المسكين، ثم تجده في نهاية الأمر يتخلف شيئاً فشيئاً، ثم يعتذر بالجواب الذي أعطاه له السابق، ويقول له: يا أخي! الحمد لله الدين يسر.
وكما قلت لكم: إن الدين يسر ولله الحمد؛ لكن يا أخي أننا لا نرى في الصف الأول في بعض المساجد من أهل الخير الذين نحسن الظن بهم نعم، لا نجد هذا غالباً؛ إنا لله وإنا إليه راجعون! فلماذا؟ لأن بعض الإخوان يأتيه الشيطان يقول له: احذر الرياء! لأن الرياء يدخل وأنت لا تعرف، ثم المسكين يترك النوافل يقول: أخشى من الرياء، فترك العمل من أجل هذا القائل، وترك العمل للناس رياء والعياذ بالله فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
وبعض الناس يتصور في صورة شيطان والعياذ بالله ويقف حجر عثرة في طريق من أراد أن يهتدي، أو من أراد أن يلتزم الطريق المستقيم، ثم يأتيه بحجج واهية والعياذ بالله، ويبعده عن صراط الله المستقيم، أو يجلب عليه من أقاربه، ويقول: افطنوا لفلان ربما يوسوس، أو يصيبه خبل، إني أراه يجلس في المحاضرات، إني أراه يصوم الإثنين والخميس، حتى إن شاباً أتى إليّ وقال: إن أبي يضربني، لأني أصوم الإثنين والخميس، إنا لله وإنا إليه راجعون، يضربه حتى يفطر ولا يصوم الإثنين ولا الخميس.
فهذا -يا إخواني- من الردى والعياذ بالله، ومن عدم التعاون على البر والتقوى، فيجب على المسلمين جميعاً أن يتعاونوا على البر والتقوى، وإذا رأوا من التزم الطريق، يقولون له: يا مسكين! ما بلغت ما بلغ السلف الصالح ولو قليلاً، لو نرجع إلى سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، لرأينا الفرق بيننا وبينهم واسع، فبيننا وبينهم بونٌ عظيم، أعندما تتقدم للمسجد أو تقرأ شيئاً من القرآن تكون متزمتاً أو متجمداً؟!
هذا والله من أسباب الخذلان والتخاذل والعياذ بالله، فيا أخي! لا تلتفت إلى دعاة السوء، ولا تلتفت إلى المعرضين الذين يريدونك أن تكون معهم في الانحطاط والعياذ بالله، بل شمِّر في طاعة الله عز وجل، واستعن بالله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لو أمرك أبوك، أو أمك أن تعصي الله، وأن تبتعد عن طاعة الله، فلا تطعهما، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف، فعليك يا أخي! بمجالسة الصالحين والبحث عن حلق الذكر، والإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من نوافل العبادات، والإكثار من ذكر الله عز وجل، وسوف تجد لذلك إن شاء الله ثمرةً طيبةً ويحيا قلبك بإذن الله؛ لأن الإيمان في القلب مثل الشجرة إذا تواصل عليها الماء، حيت هذه الشجرة ونمت، وإذا انقطع عنها الماء يبست، فعليك بما ينمي هذه الشجرة من مجالسة الصالحين، ومن حلق الذكر وكثرة القرآن، واحذر أن تجالس الذين قست قلوبهم، والذين لا هم لهم إلا النكت وكثرة الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسِّي القلوب، وأبعد القلوب من الله القلوب القاسية، أسأل الله أن يقوي إيماننا إنه على كل شيء قدير.(15/12)
الطريقة المثلى للوصول إلى الخشوع
السؤال
هذه أسئلة أصحابها يقولون: إنا نحبك في الله يا شيخ/ عبد الله، وكلهم يسألون عن الطريقة المثلى للوصول إلى الخشوع في الصلاة؟
الجواب
أحبكم الله الذي أحببتموني فيه، وأسأل الله أن يظلنا تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إنه على كل شيء قدير، وأسباب الخشوع في الصلاة هو أن يفرِّغ الإنسان قلبه قبل الدخول في الصلاة، يفرغ قلبه من الشواغل، ويقبل على الله بقلبه وبقالبه، ويتدبر القرآن، ويصغي قلبه وسمعه لآيات الله إن كانت الصلاة جهرية، وإن كانت الصلاة سرية فهو أعرف بذلك كيف يتدبر معاني الآيات ويحضر قلبه عند الآيات التي يقرؤها وعند ذلك إن شاء الله يحصل الخشوع بإذن الله ويستعين بالله على ذلك.(15/13)
أسباب الانتكاسة
السؤال
ما أسباب انتكاس الشباب؟
الجواب
أسباب انتكاسة الشباب كثيرة، وهذه هي التي أشغلتنا الليل والنهار؛ نفكر فيها ونبحث عن العلاج، ولكن أنا أضرب لكم مثلاً: بعض القلوب الآن مثل خزان الماء الذي ترك بالفلاة مدة، ترك في البر، فهذا يأتي ويرمي فيه عجلة سيارة، وهذا يأتي ويرمي فيه (خيشة) وهذا يأتي ويرمي فيه جيفة، وهذا يأتي ويرمي فيه كذا، هذه القلوب الآن مثل الخزان، فيها التمثيليات والأفلام والمجلات والجرائد، هذه مثل جيفة، ومثل (الخيشة) ومثل عجلة السيارة، وغيرها وضعت في هذه القلوب، وصارت القلوب والعياذ بالله مزدحمةٌ بهذه البلوى، ولا تحمل شيئاً من ذكر الله، ولا من آيات الله، لقد اتصل بي شاب -وأبشركم أنه اهتدى ولله الحمد- يقول: كنت منذ التاسعة من عمري وأنا أجلس عند الأغاني، يقول: ولما بلغت الثامنة عشرة من عمري، كنت إذا سمعت الأغنية، صار عندي قشعريرة وبكاء وخشوع والعياذ بالله وإذا دخلت المسجد، يقول: أضيق حتى أخرج من المسجد أحياناً.
صدق ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله يقولان: لا يجتمع القرآن والغناء في قلب المؤمن، فقلبك هذا وعاء يا أخي! نعم.
عندك الآن قدر تضعه على النار تأتي بقالب ثلج وتضع ماء تنضج لك قطعة لحم، متى تنضج هذه اللحمة يا عبد الله؟ إذا كان هذا قالب ثلج، وهذه لحمة ما تنضج، هذا يضاد هذا، والغالب يطرد هذا، إما أن الثلج يغلب على هذه اللحمة ولا تنضج أو العكس.
فيا أخي: تعاهد قلبك بالقرآن، واحفظ سمعك {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] أنا أحذركم ونفسي من مشاهدة الأفلام، ومن مشاهدة التمثيليات، وأحذركم ونفسي من استماع الغناء، ومن قراءة المجلات الخبيثة التي رسموا عليها الفتاة الصناعية؛ ليجتذبوا بها قلوب بعض الناس والعياذ بالله.
انظر أعداء الإسلام من الذي يساعدهم ويخطط لهم؟ إنه الشيطان وهو الذي أخرج أبانا من الجنة، وأبونا تاب الله عليه ومرجعه إلى الجنة، ولكن هذا الخبيث الذي أخرج من ملكوت السماء وطرد منها مآله إلى النار، فهو حاقد علينا يريد أن يدخلنا معه في النار، فهو إذاً يخطط لأعداء الإسلام تلك المخططات التي تأتي لنا ليلاً ونهاراً، وملأت البيوت، فإذا أردنا أن تنظف قلوبنا، ننظف الخزان -الذي قلت لكم- من هذه الشوائب نزيل (الخيشة) وعجلة السيارة والجيفة، وهي المجلة والتمثيلية والفيلم، ثم إن شاء الله تصبح القلوب واعية، وتستقبل ما يلقى إليها من المواعظ.
وأخبركم أن الشاب الذي ذكرت لكم في التاسعة عشرة من عمره -انظروا كيف هداه الله، الله قادر سبحانه وتعالى ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء- يقول: دخلت في مجال عملي أراود امرأة فلبينية، يقول: أريد أن أفعل بها جريمة الزنا، يقول: ولما أقبلت إليها متحمساً، أريد أن أقول لها، وإذا هي تقول: فلان! أريد أن تشرح لي عن الدين الإسلامي، الله أكبر! يقول: وإذا أنا أصدم بصدمة، فأنا أريد أن أراودها للزنا وهي تقابلني وتقول: أريدك أن تشرح لي عن الدين الإسلامي، سبحان الله العظيم! الله أكبر! وإن من العصمة ألا تقدر على المعصية، الحمد لله، يقول: بينت لها الذي أعرف، يقول: أنا لا أعرف شيئاً كثيراً، أنا درست في الابتدائية أركان الإسلام، وعرفت لها شيئاً، لأنه يجيد اللغة، يقول: واشتاقت إلى الإسلام، وانظروا يا إخواني! إنما الأعمال بالنيات، هو يقول: حتى أنا فرحة فرحت مع الخجل، أنها قالت: اشرح لي عن الإسلام، يقول: وبينت لها عن الإسلام، واشتاقت إلى الإسلام، وأعلنت إسلامها ولله الحمد، والآن هو ولله الحمد يبحث في الطرق الخيرية، وهو الآن يجمع من الكتب الدينية، وأخبركم أنه في إقبال على طاعة الله.
أسأل الله أن يثبتنا وإياه يقول: إذا ذكرت حالتي الأولى، جعلت أبكي، فالحمد لله، وهذا من فضل الله {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] الله عز وجل أخبرنا وهو لا يخلف الميعاد: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
يقول بعض الناس: أنا أريد الله أن يهديني، نقول له: حسناً! ابحث -يا أخي- عن طرق الهداية، إذا مرض عندك مريض هل تتركه في البيت؟ لا.
بل تقوم وتذهب به إلى الطبيب الفلاني، ثم يذكر لك طبيب في البلد البعيد، يقول: هيا أعطنا تذكرة إلى البلد الفلاني، كل هذا لماذا؟
تبحث عن العافية من الله عز وجل، ثم من الطبيب لهذا المريض، فأنت لماذا لا تبحث عن الهداية يا عبد الله؟ توجد عند الله عز وجل، ولكن لها أسباب، ومن أسبابها: أن تبحث عن حلق الذكر، وعن مجالسة الصالحين، وعن الإكثار من قراءة القرآن، وترجع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكثر من ذكر الله عز وجل، ومن الاستغفار.
يقول بعض الناس: أنا عشت مدة طويلة مع الأفلام، فلذلك أضيق أحياناً لماذا؟ نقول له: ارجع إلى قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ارجع إلى ذكر الله عز وجل، ولقد ذكر لنا أن رجلاً لا ينام إلا على المخدرات، لا ينام إلا بالحبوب المخدرة، وبعضهم بمجرد ما يضع رأسه على الوسادة، ويقول: بسم الله ويسبح ويهلل، وإذا النوم داخل عيونه، ثم أتى إليهم، وقال: لماذا أنتم تنامون وأنا لا أنام إلا بحبوب مهدئة؟ أولاً: دعوه إلى الإسلام، وهداه الله عز وجل، وأخبروه بالأدعية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم كالتسبيح والتحميد والتكبير يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر الله أربعاً وثلاثين، فجعل يعمل بهذا، فما يكملها إلا وهو نائم، انظروا يا عباد الله! كان قبل لا ينام إلا بالمخدرات -نسأل الله العافية- والآن لما رجع إلى الله عز وجل، وإلى ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، صار ينام على مجرد ذكر الله عز وجل.
فأسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير.(15/14)
الطريقة في التخلص من الوسوسة
السؤال
كيف أستطيع أن أتخلص من وساوس الشيطان في الأعمال، حيث يوسوس لي بأن في عملي هذا رياءً أو سمعة؟
الجواب
يا أخي! والرسول صلى الله عليه وسلم قال قبل ذلك: {إنما الأعمال بالنيات} فأنا أخبرك بطريقة إن شاء الله إذا سلكت هذه الطريقة؛ سلمت من الرياء بإذن الله.
أولاً: تدعو بالدعاء الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه}.
ثم يا أخي! لا تنظر في أعمالك إلى مدح الناس ولا إلى ذمهم، بل يكون عندك المادح والذام سواء؛ لأنك تعمل هذا العمل لله عز وجل، إذاً لا يضرك الناس، ولا ينفعونك، فأقول لك يا أخي: الطريقة أنك تعيِّن لك قراءات مثل: أن تقرأ قبل أن تدخل المسجد بعض الإخوان يقولون: بدعة، الإخوان جزاهم الله خيراً يريدون العثرات ويريدون العيوب نسأل الله أن يهدينا وإياهم، فأنا بمجرد اجتهادي إن شاء الله، وليس أقول طريقة، أو سنة فأنا أعرف كثيراً من الإخوان جزاهم الله خيراً يريدون العثرات، ويبحثون عن عيوب إخوانهم نسأل الله العافية، فأنا أنصح إخواني المسلمين، أقول لهم: إذا رأيتم من أخيكم نقصاً أو عيباً فاتصلوا به سراً، وأخبوره ولا تشهروا به على رءوس العالمين، أو في المجالس: إن فلاناً قال كذا، وقال كذا، ثم والعياذ بالله تكون بغضاء وشحناء بين الناس، فتكون نماماً والعياذ بالله، والنمام لا يدخل الجنة.
أحذرك يا عبد الله! من هذا، كلٌ يخطئ ويصيب، فأقول لك الطريقة أنك إذا أردت أن تدخل المسجد تعين أنك إن شاء الله تصلي أربع ركعات، تقول: أقرأ في الركعة الأولى مثلاً تبارك، والثانية نون، والثالثة الحاقة، والرابعة سأل سائل، فأنت تقوم في صلاتك عندما ابتدأت الركعة بقراءة تبارك، فلو جاءك الشيطان، وقال لك: إن فلاناً ينظر إليك ويقول: والله هذا مطوع يطول بصلاته، ارجع إلى نيتك الأولى وهي أنك نويت أن تقرأ سورة تبارك، أو جاءك الشيطان يقول لك: لا تراءِ الناس انظر إلى نفسك وارجع إلى نيتك الأولى أنك أردت أن تقرأ سورة تبارك، فعند ذلك بإذن الله مع هذه المجاهدة يحصل لك ما أردت، ولا تلتفت إلى أحد أبداً {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وإنما الأعمال بالنيات.
إنما المصيبة يا عبد الله! هي أنك إذا دخلت المسجد، وبدأت في النافلة ثم كبرت تريد أن تقرأ (والضحى والليل إذا سجى) إذا بجانبك رجل ترى أن عنده نوعاً من التوظيف، ثم تقول: هذا ينظر ويقول: هذا يطِّول في الصلاة، ثم يقرأ من الضحى إلى سورة عمَّ، فهذا هو الرياء والعياذ بالله نعم، هذا هو الرياء فقد تحولت نيتك من هذا إلى هذا، فاحذر هذا! واعمل بالأسباب التي إن شاء الله ينجيك منها، والله أعلم بنية عبده.
أحد الإخوان جزاه الله خيراً علق على شريط هادم اللذات، وقال إن فيه كذا وكذا، وأنا لا أدافع عن الشريط، ولا أتعرض لأخي جزاه الله خيراً بكلمة، ولكن المشايخ جزاهم الله خيراً يقولون: إن الشريط عرض على الشيخ ابن جبرين جزاه الله خيراً، وسمعه من أوله إلى آخره، وقال: ليس به بأس، ومن قال فيه شيء فليتصل به، وأنا أخبره، وكذلك عرض على الشيخ/ عبد العزيز جزاهما الله خيراً وقال: لا بأس به، ولقد صارت ضجة عند مسجدنا لما تكلم هذا الأخ وكادوا يقتتلون والعياذ بالله، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، لأن الأخ جزاه الله خيراً شهَّر بهذا الشريط، وصارت فوضى، فالأخ جزاه الله خيراً، لو كان -مثلاً- اتصل بتسجيلات التقوى وتفاهم معهم حتى يقنعوه، أو يقنعهم هو وتكون المسألة سراً ودعوة إلى الله عز وجل.
ثم يا أخي! الناس فيهم بلاء أكثر من هذا الشريط، لماذا لا نبين لهم الفيلم الفلاني الذي يحارب الله ورسوله ويحارب حدود الله، لماذا لا نقول لهم إن هذا الفيلم فيه كذا وكذا، والتمثيلية فيها كذا وكذا، والأغنية الفلانية فيها كذا وكذا؟ هذه التي تضر المسلمين، أسال الله أن يهدي ضال المسلمين.(15/15)
حول صيام شهر شعبان
السؤال
هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صام شهر شعبان؟
الجواب
ما ورد عنه أنه استكمل شعبان، ولكنه صام أكثره صلى الله عليه وسلم، أما هو لم يستكمله صلى الله عليه وسلم، ومع الأسف الشديد ما تسمعون في هذه الأيام الرجبية -نسأل الله العافية- فهي بدعة محدثة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسأل الله جل وعلا أن يبصر المسلمين في دينهم، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وتسمعون في إذاعات بعض المجاورين لنا ما يقيمونه من الاحتفالات في المساجد بالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ثم إذا انتهوا من أحاديثهم ومن قصائدهم يقولون: تغنيكم المغنية فلانة، ثم تأتي بموسيقيتها وصوتها ولا حول ولا قوة إلا بالله، الله المستعان! الله المستعان! الله المستعان!
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، فاحذروا -يا إخواني- هذه البدع وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.(15/16)
سبب ذهاب الحماس بعد الموعظة
السؤال
فضيلة الشيخ! عندما تتكلم يأتينا حماس للعمل والجد والاجتهاد، وعندما نخرج من المحاضرة نتقاعس، فما العلاج؟
الجواب
السبب هو أننا لا نواصل مجالس الذكر، فأضرب لك مثلاً يا أخي: اغرس نخلة واسقها أول مرة، ثم اتركها أسبوعاً، تجدها يابسة، ولا تستفيد هذه النخلة، والوعظ للقلب مثل الغيث للأرض بإذن الله، الغيث إذا نزل على الأرض أنبتت، وأحياها الله بهذا الغيث، فكذلك الوعظ ينبغي لك يا أخي أن تتعاهد قلبك، وإذا غفلت فأكثر من الاستغفار؛ كما هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {والله إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة} فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة، فكيف نحن يا عبد الله؟ فعليك -يا أخي- أن تتعهد قلبك بالمواعظ، ومجالسة الصالحين، عليكم بحلق الذكر، ابحثوا عن حلق الذكر جزاكم الله خيراً ووفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أحيوا هذه السنة التي اندثرت من بعض المساجد، فإنها لا توجد إلا قليلاً، نشطوا أئمة المساجد ليقيموا حلق الذكر.
والله إني سألت رجلاً وهو من أهل نجد، قلت له: كم أركان الإيمان؟ قال: والله لا أعرف، رجل من أهل نجد، هذه التي كانت تُدَّرس في المساجد قبل سنين قليلة وهذا يقول: لا أعرف كم أركان الإيمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذا يدل على بعد الناس وانشغالهم بالدنيا ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فينبغي لنا -يا إخواني- أن نقلل من الإقبال على هذه الدنيا، ونقبل على الله عز وجل، ونثق تمام الثقة أن الأرزاق بيد الله عز وجل، ثم نثق أن رزق الله لا يأتي به حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ثم نؤمن بوعد الله وبوعد رسوله صلى الله عليه وسلم أننا إذا عملنا كذا؛ فلنا من الأجر كذا وكذا، إذا آمنا بهذا وصدقنا، فإنه يكون عندنا الحماس والمبادرة إلى العمل.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كأنه أعتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكان في يومه في حرزٍ من الشيطان، ولم يأت أحد يوم القيامة أفضل منه إلا إنسان قال أكثر منه} هذا فضل عظيم يا عبد الله! وهي لا يحتمل وقتها خمس عشرة دقيقة.
ثم في حديث صحيح أيضاً: {من قالها عشر مرات، فكأنما أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل} أو كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سبحان الله وبحمده مائة مرة، تغفر لك خطاياك وإن كانت مثل زبد البحر، ثم الذكر بعد الصلوات.
المهم -يا عبد الله- أن تؤمن بوعد الله وبوعد رسوله، ولا تنس العظيمتين، لا تنس الجنة والنار، لا تنس المنصرف الأعظم الذي لما دخل عمر بن عبد العزيز من صلاة العشاء وجلس في محرابه سمع له بكاء، واشتد بكاؤه حتى بكى أهل بيته، ثم بكى الجيران، فدخلوا عليه وسألوه: لماذا تبكي يرحمك الله؟ قال: ذكرت منصرف الناس يوم القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير، فجعلت أبكي؛ هذا أمرٌ عظيم يا أخي! فريق في الجنة وفريق في السعير.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وألا يجعلنا من أهل السعير، وأسأل الله أن يرزقنا إيماناً دائماً كاملاً يباشر قلوبنا ويقيناً صادقاً، ويرزقنا إخلاص العمل لوجهه الكريم، اللهم ارزقنا إخلاص العمل لوجهك الكريم، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(15/17)
أثر الإيمان بالله واليوم الآخر
الإيمان هو بلسم الحياة، ولاشك أنه يترك آثاراً إيجابية في حياة الفرد والمجتمع، وينال الإنسان أعظم ثماره في الآخرة.
والشيخ في حديثه هنا عن الإيمان عموماً وعن الإيمان بالآخرة خصوصاً يذكر مراتب الدين ومنها الإيمان، ويتحدث عن صفات ذلك اليوم الآخر وأحوال الناس فيه.
وفي إجاباته عن الأسئلة يطرق عدداً من المواضيع يغلب عليها حديثه عن المعاصي والتوبة.(16/1)
مراتب الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! أحييكم بتحية الإسلام؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا نتبادل هذه التحية في دار السلام.
أيها الإخوة في الله! وفي بيتٍ من بيوت الله لنتذاكر ركناً عظيماً ألا وهو الركن الخامس من أركان الإيمان الذي قال فيه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: مراتب الدين ثلاثة: الإسلام، الإيمان، الإحسان.
وكل مرتبةٍ لها أركان، فأركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة، والإحسان ركنٌ واحد، أخذها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به جبريل وبحضرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولما انتهى جبريل عليه السلام من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المراتب المهمة، قال للصحابة: {أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم}.
فينبغي للمسلم أن يحرص كل الحرص على تعلم هذه المراتب التي بينها شيخ الإسلام المجدد/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جناته إنه على كل شيء قدير حيث بين ذلك، ولقد حصل لي في مجلس أن سألت عنها بعض الإخوان، ومع الأسف الشديد فكل منهم يعتذر أن يعرف كم أركان الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اعتذر أن يجيب عن هذا السؤال، ويقول: عذره هذه الغفلة، وهذه الدنيا شغلتنا، فهل هذا العذر يفيده أمام رب العالمين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون؟ لا.
والله لا يفيده ذلك، والمجال مفتوح، والعلماء بكثرة -ولله الحمد- في كل مسجد من مساجد المملكة، كلها تزخر بالعلماء الذين تعلموا العلم، وهذه يعرفها أبناؤنا الصغار الذين يدرسون في الرابعة الابتدائية، فلو سئل أحدهم عنها لأجاب إذا كان متربياً على الدين، أما إذا كان متربياً على الملاهي مثل: الأفلام والتمثيليات، والشوط الأول والشوط الأخير، فإنه ربما يتلعثم ولا يجيب.
وهذه مصيبة يا عباد الله! أصيب بها المسلمون من وجود آلات اللهو في البيوت، حيث أعرض الكثيرون عن ذكر الله، صدتهم عن ذكر الله وعن القرآن العظيم، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يردنا إليه رداً جميلاً.(16/2)
صفات اليوم الآخر
أيها الإخوة في الله! لقد جمعت في وريقات صفةً لليوم الآخر، وقد طلب مني بعض الإخوان أن أقرأها على نمط آبائنا الأولين فأريد أن أقرأها عليكم قراءة تليق بالموعظة، أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
يا عباد الله! هل تدرون ما اليوم الآخر؟ هو يا عباد الله يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:18 - 20] إنه يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:38 - 40].(16/3)
نفخة الصعق ونفخة البعث
يوم القيامة، يوم تشقق فيه السماء بالغمام، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:25 - 26] الذي قال وقوله الحق: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل فينفخ في الصور نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد إله الأولين والآخرين الحي الذي لا يموت أبداً ينفرد بالديمومة والبقاء، وهو القائل جلت قدرته: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ثم يقول جل جلاله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه، فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ثم يحيي ربنا جلا وعلا إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة البعث التي قال الله فيها: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
تذكر يا عبد الله! إذا قمت من قبرك تنفض التراب عن رأسك مجيباً لداعي الله {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].(16/4)
أحوال الناس في المحشر
إنه يوم القيامة الذي قال الله فيه: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] إنه يوم القيامة، يوم الطامة الكبرى، يوم الصاخة، يوم القارعة، يوم الحاقة، يوم الزلزلة، يوم الواقعة، يوم الكرب والغم، يومٌ تشقق فيه السماء وتنتشر فيه الكواكب، يومٌ تطمس فيه النجوم، فيذهب ضوؤها وتفجر البحار، يومٌ يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، قالت عائشة: النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض}.
إنه موقفٌ عظيمٌ طويلٌ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم} في ذلك اليوم العظيم، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً}.
ولكن في ذلك اليوم العظيم، في ذلك اليوم الرهيب سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه}.
أيها المسلمون! سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله في ذلك اليوم العظيم، ما هو ذلك اليوم العظيم؟ اسمع يا عبد الله! قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام؛ مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} في ذلك اليوم الرهيب تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت.
كرر يا عبد الله اسم هذا اليوم إنه يوم القيامة، يوم الطامة الكبرى، يوم الصاخة {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] يوم القيامة {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] يوم القيامة يوم ينقلب فيه العالم ويتغير {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
اسمع يا أخي: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] ولكن لا يفيدها الندم يوم القيامة.(16/5)
نطق الجوارح ونصب الموازين
يوم القيامة، يوم تخرس فيه الألسن، وتنطق فيه الجوارح، نعوذ بالله من الخزي والندامة، ما بالك إذا نطق الفخذ ونطقت القدمان، ونطقت اليدان، ونطق الجلد، وقالت: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21].
عباد الله! تفكروا في الميزان حين ينصب، وتشخص الأبصار ينادي بلسان طلق: هذه حسنات فلان بن فلان، وهذه سيئاته، لسان الميزان يميل إلى جانب الحسنات، أو إلى جانب السيئات، ثم تفكروا في قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:102 - 104] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:7 - 11].(16/6)
توزيع الشهادات
في ذلك اليوم العظيم يعطى كل إنسان كتاباً يقرؤه وفيه إما الفرحة والسرور، وإما الندم والخزي، فمن أخذ الكتاب باليمين فهنيئاً له الرضا من رب العالمين، ومن أخذه بشماله فيا لها من ذلةٍ وندامة {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] ماذا يقال لهم: لا ترحموه {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:30 - 31].(16/7)
شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم تفكروا في الصراط الذي يؤتى به فيجعل بين ظهراني جهنم، ويمر الناس عليه وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعلى الصراط خطاطيف مأمورة، فمن الناس من ينجو، ومنهم من يُخدش، ومنهم الموبق بعمله، وفي ذلك اليوم العظيم يحتاج الناس إلى من يشفع لهم عند ربهم، فينطلقون يلتمسون الأنبياء والمرسلين لعلهم يشفعون، فإذا بكل رسول منهم يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى فلان، حتى يؤتى محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقول: {أنا لها، أنا لها} يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يأتوني ويقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك}.
إنه موقفٌ عظيم يا عباد الله! أطيلوا التفكير في ذلك اليوم {اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا، قال صلى الله عليه وسلم: فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه، ثناءً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب أمتي أمتي}
اسمع يا مسكين! يا من أضعت الطريق المستقيم! وابتعدت عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
ما هذا الإعراض يا عبد الله ورسول الله أول ما يرفع رأسه يقول: {يا رب أمتي أمتي}؟! ألا ترحم نفسك يا عبد الله! ألا تبتعد عن المخالفات التي سوف أخبرك عنها بعد قليل! {فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب} اسمع ماذا يقول رسول الله: {والذي نفس محمدٍ بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى}.(16/8)
الورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم
ثم تذكروا حوض نبيكم صلى الله عليه وسلم، الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ولكن هذا الحوض سوف يردُّ عنه أناس؛ لأنهم نكصوا على أعقابهم وغيروا بعده صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم! رجعوا القهقرى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا عبد الله! في يوم القيامة يردّون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب ما جنوا على أنفسهم؛ وبما أحدثوه من البدع والضلالات، فاحذر يا عبد الله من مضلات الفتن، فكيف بك يا عبد الله في ذلك اليوم، وقد لفظك القبر بعد طول بلاء، فنظرت في عملك الذي قدمت، فهنيئاً لك إن كان العمل صالحاً، وإن كان غير ذلك فيا ويلك، ثم يا ويلك.
اللهم اجمعنا في دار كرامتك، اللهم قَوِّ إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر، واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم ارزقنا القول والعمل، وارزقنا الإخلاص في أقوالنا، وفي أعمالنا، وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/9)
الأسئلة(16/10)
عقوبة تارك الصلاة والمقصر فيها
السؤال
ما هو العذاب الذي يتعرض له تارك الصلاة، أو المتهاون بها، أو الذي يجتهد في رمضان وبعده يترك الصلاة، أو يتهاون بأدائها جماعة، أفتونا مع الأدلة من القرآن والسنة؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، في الحقيقة أني لست أعلم من الشيخ جزاه الله خيراً، ولكن هذا من تواضعه جزاه الله خيراً، أما المتهاون في الصلاة، فله وعيدٌ شديدٌ كما أخبر الله تعالى في قوله:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] قال بعض العلماء: لأنهم يؤخرونها عن وقتها سماهم مصلين، ولكنهم لما تهاونوا بها وأخروها عن وقتها توعدهم الله بويل، وويل كما قال بعض العلماء: هو شدة العذاب في النار، وقال آخرون: هو وادٍ في جهنم، وأيضاً في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] كذلك هذا الغي وادٍ في جهنم لمن تهاون في الصلاة -والعياذ بالله- هذا الذي يتهاون بالصلاة، أما الذي يترك الصلاة، فقد توعده الله بسقر! وما أدراك ما سقر؟ هي طبقة من طباق النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] * {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.
مع الأسف الشديد بعض الناس الآن لا يصلي إلا في رمضان، ثم بعض الأوقات يتركها، فالعلماء يقولون: من ترك فريضة واحدة متعمداً فقد كفر -نسأل الله العافية- إذا تركها متعمداً، فكيف بمن لا يصلي إلا في رمضان، ثم بعد رمضان يترك السنة كلها حتى يأتي رمضان -نسأل الله العفو والعافية- وبعضهم لا يصلي إلا يوم الجمعة، فأخذوا ببعض الحديث وتركوا بعضه، قوله صلى الله عليه وسلم: {رمضان إلى رمضان} ومعنى الحديث أن رمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، ولكنهم تركوا باقي الحديث {والصلوات الخمس} هذا الذي يحضرني من هذا الحديث، ولا شك أن ترك الصلاة كفر، فينبغي للإنسان أن يبادر إلى الله عز وجل بالتوبة النصوح قبل أن يحل به الموت وينتقل إلى البرزخ، فالقبر يا إخواني أول منزلة من منازل الآخرة، إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، نسأل الله العفو والعافية.(16/11)
الواجب على من التزم وترك المعاصي
السؤال
أنا شابٌ متزوج ولدي أطفال سافرت خارج البلاد، إلى البلاد المبيحة للفساد، وعملت بعض المعاصي وكنت في طيش في الشباب، وتهاونت في أداء الصلاة، وكنت قبل السفر أصلي، وبعد السفر تركت الصلاة، وبعدما رجعت من السفر أمضيت مدة وأنا لا أصلي، ثم بدأت أندب نفسي لترك الصلاة وفعل المعاصي، والآن أحمد الله أني التزمت وأصلي وتركت المعاصي، ماذا يجب عليَّ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
يجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل وتسأل الله الثبات (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) تسأل الله الثبات، واعلم يا أخي ما مصيرك لو مت على تلك الحالة -نسأل الله العفو والعافية- ما مصيرك لو وافاك الأجل وأنت في تلك البلاد الفاسدة، فكر في نفسك يا أخي، ولكن ينبغي لك أن تكثر الآن من البكاء ندماً على ما فات منك، وعلى تقصيرك الذي قصرت به، ولا شك كما قلنا إن ترك الصلاة كفر، ولكن يا أخي كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} فبادر بالتوبة النصوح، واحذر يا أخي من عدوك الشيطان أن تتردى بالمعاصي والذنوب بعد أن هداك الله خشية أن ينزل بك هادم اللذات وأنت مصر على هذه الذنوب والمعاصي.
نسأل الله العفو والعافية، ونسأل الله أن يطهر قلوبنا وقلوبكم، وأن يثبتنا وإياكم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(16/12)
قسوة القلب بعد لينه
السؤال
يقول السائل: إنني ألحظ على نفسي أنني عندما أستمع الخطبة، أو الموعظة أجد نفسي متأثراً مدةً من الزمن، وبعد ذلك أعود على ما كنت عليه من المعاصي، فنرجو من فضيلتكم التكرم بوصف الداء والدواء والدعاء لنا بالهداية، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا يا أخي يرجع إلى بيئتك، البيئة الخبيثة، لو كانت صالحة ما رجعت لأعمالك الخبيثة، فالرجل الذي قتل تسعة وتسعين وجاء يستفتي الراهب، قال: أنا قتلت تسعاً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ قال: لا.
ما لك من توبة، فكمل به المائة، فذهب إلى عالم، وسأله: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ولكن عليك أن تخرج من بلدتك هذه فإنها بلدة سوء، فلما تاب وأقلع وأناب إلى الله، وخرج فاراً من بلدة السوء إلى البلدة الصالحة، فوافاه الأجل في الطريق -كما تعرفون الحديث الصحيح هذا- فنزلت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يختصمون فيه، ملائكة العذاب تقول: ما عمل خيراً قط، وملائكة الرحمة تقول: تاب وأقبل على الله عز وجل، فكل واحد منهم يريد أن يأخذه، فنزل عليهم ملك بصورة آدمي وحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيها كان أقرب فهو منها، فقاسوا، فإذا هو إلى الأرض الصالحة أقرب، فقبضته ملائكة الرحمة.
فكثير من الإخوان يستقيم ويتوب ويرجع، ولكن بمجرد ما يجلس مع الزميل والصديق، فإنه ينعكس عليه الأمر -نسأل الله العفو والعافية- هذا يقول له: موسوس، بمجرد ما يأتي الصباح متأثراً بالخطبة، وإذا بشيطان الإنس واقفٌ له عند الباب: هاه أراك وسوست يا فلان، أراك قصرت الثوب، وتركت اللحية أو ما وجدت أمواساً، ثم المسكين يصدم ويرى أن التمسك بالدين عيب لأن الإيمان ما تمكن من قلبه، وإلا لو تمكن الإيمان من قلبه لصبر على هذه الفتنة ودعا هذا العاصي إلى الله عز وجل، فإن أجاب فقد هداه الله على يده، وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه وأرضاه: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} ولكن هذا المسكين لم يفهم، فبمجرد سماع خطبة الجمعة، وبعد جلوسه مع هذا الزميل الخبيث ينحرف قبل أن يمضي عليه يوم.
فهذه يا إخواني بيئة السوء، وهذا الذي يضر الكثير الآن، الآن بعض الآباء يضرب ابنه إذا رآه يصوم الإثنين والخميس، والله إن شاباً أتاني يبكي يقول: انظر إلى ثوبي قصرته وضربني أبي حتى أطلت الثوب، بعض الآباء نقمة -نسأل الله العافية-
يا أخي! الإنسان يتمنى ويتمنى أن الهداية تُشترى، اشتراها بعض الناس بدراهم، وبعض الآباء يقف حجر عثرة في طريق الأولاد سواءً كانت أنثى أو كان ذكراً، حتى بعض البنات تجدها ملتزمة -نسأل الله أن يثبتنا وإياهن- فيجدن مضايقة من أهلهن في البيوت: الموسوسة المجنونة المتزمتة، وقد ورد في الأثر أنه في آخر الزمان يعير الرجل بدينه كما تعير الزانية بزناها فينبغي للإنسان إذا هداه الله أن يلتزم الصراط المستقيم، وأن يراقب الله عز وجل.
يا أخي من تعصي أنت؟! أنت تعصي الله عز وجل، لا تنظر إلى عظم الذنب، ولكن انظر إلى عظم من عصيت، إلى عظمة الله عز وجل، أو إذا أردت أن تعصي الله، فاخرج من بلاد الله، ولا تأكل من رزق الله، ولا تستظل بالسماء التي بناها الله، ولا تجلس على الأرض التي بناها الله، اخرج من أرض الله إن كان لك مخرج ومفر، وإلا فاعلم أنك في قبضة الله، وأنك لا تغيب عن الله طرفة عين، فاحذر أن يراك الله على ما يكره، وحاول وجد واجتهد على أن يراك على ما يحب، يا أخي هذه نصيحتي لك، ولا تلتفت لشياطين الإنس الذين هم عثرة في طريق المهتدين.
أسأل الله أن يهديهم، أو يبعدهم عن ديار المسلمين.(16/13)
توبة مرتكب الكبائر
السؤال
إني أحبكم في الله وبعد: إني شابٌ عرفت طريق الحق، وصرت ملتزماً ولله الحمد والمنة، ومع ذلك فإني أقع في كبائر الذنوب، وكلما تبت، عدت مرةً أخرى، فهل إذا تبت ورجعت إلى الله توبةً صادقةً تقبل توبتي؟ هل أكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله مع ما ارتكبت من الذنوب والمعاصي؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، ثانياً: أنت ما استقمت الآن يا أخي ما دام أنك تمارس الكبائر، لأن الاستقامة والتوبة الصادقة أن يعزم الإنسان على ألا يعود إلى المعاصي، ويندم على ما فات، ويقلع، أما أنك تتوب النهار ثم إذا جلست مع أهل البلوت والكينكان والذين عندهم خادمة -نسأل الله العافية- أو مع أهل الحبوب والمخدرات انزلقت معهم، فهذه ليست توبة، هذه توبة الكذابين، ما بالك إذا هجم عليك الأجل!
لو نفكر بالموت يا عباد الله دائماً، لكن نحن الآن مستبعدين للموت، نقول: ست سنوات في الابتدائي، وثلاث سنوات في المتوسطة، وثلاث سنوات في الثانوية، وأربع سنوات في الجامعة، ثم أتخرج، ثم نتطور، ثم نفسد في أرض الله، ثم نأتي ونتوب، من أين لك الأمل يا عبد الله؟ هل لك صك في هذا، والله لا نعلم هل نخرج من هذا المكان بعد أن نصلي فريضة العشاء، أم لا، والله لا ندري هل نصبح أم لا، الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب على منكب عبد الله بن عمر ويقول: {يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} ماذا يقول هذا التلميذ المجيد؟ يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء]] هؤلاء الرجال، أما نحن فعندنا أمل طويل طويل، وهذا هو الذي أنسانا الموت، وإلا إذا زرنا المقابر امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة} زر الثلاجة في المستشفى يا عبد الله تجد فلاناً خرج الصبح وذهب إلى المكتب وإذا هو يصطدم بالسيارة، وإذا هم يتصلون بأهله ويقولون: أبوكم في الثلاجة، وهذه نهاية الإنسان يا عبد الله، لكن النهاية نهايتين:
1 - نهاية على حسن عمل، وعلى حسن خاتمة، فهذا يبشر برضوان الله عز وجل.
2 - ونهاية على سوء خاتمة، وعلى أعمال خبيثة، فيا ويله مما أمامه.
فعليكم يا إخواني بالتوبة النصوح والمبادرة إلى الله عز وجل، أسأل الله أن يرزقنا توبةً نصوحاً إنه على كل شيءٍ قدير.(16/14)
هل تشهد جوارح التائب عليه؟
السؤال
فضيلة الشيخ: ذكرتم في معرض حديثكم أن الجوارح هي التي تتكلم عن صاحبها بأعماله الخبيثة يوم الحساب، هل جوارح التائب تتكلم مع أنه تاب قبل موته، أرجو الإجابة جزاكم الله خيراً؟
الجواب
التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه، يبدل الله سيئاتهم حسنات.
ربنا رءوف رحيم، ربنا كريم جواد، ما عليك إلا أن تتقرب إلى الله عز وجل وتلتجئ إليه، وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، الله أكبر لو تمسككُ امرأة في السوق ومعها ابنها ضمته إلى صدرها وتقول لها: أعطيني إياه أدوسه بهذه السيارة، ماذا تعمل؟ تصيح بكل ما تجد من الصوت، كل ذلك فزعاً لابنها هذا، فكيف بربك عز وجل يا عبد الله أرحم بك من أمك {لله أرحم بعبده من أمه} فعليك يا عبد الله أن تتقرب إلى الله، وأبشرك أن التوبة النصوح تجب ما قبلها، وربنا جل وعلا يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] هذا مرسومٌ ملكيٌ صدر منذ أربعة عشر قرناً أو تزيد، فعليك أن تبادر إلى الله بالتوبة النصوح والله غفور رحيم.(16/15)
القنوط من رحمة الله
السؤال
إن بعضاً من الناس إذا فعل المعاصي قال: لن يغفر الله لي، أو هل يقبل الله توبتي؟ أو كيف أصبر عن أصدقاء السوء؟ فما رأيكم في هؤلاء، وإني مع العلم هداني الله وأنا أنوي أن أتعلم الرقصات الغربية وأنا مع أسوء الأصدقاء، ولكن كنت أعق والدي، ومات قبل التوبة، ماذا أفعل؟
الجواب
بعض السؤال أجبنا عليه، أما بعض السؤال كذلك كما قلت من قبل أن من أراد أن يتوب ويصلح نفسه يخرج عن بيئة السوء، يا أخي! ادخل السجون واجلس معهم وتحدث، ماذا يقول؟ تجد أعصابه منهارة، وأفكاره منحطة، وأخلاقه مندثرة بسبب حشيشة أهداها إليه صديقه لا كثر الله أصدقاء السوء، نعم يا أخي أصدقاء السوء الذين لا يعينونك على طاعة الله ابتعد عنهم، رزقك على الله يا عبد الله ليس رزقك عليهم، أما عقوقك لوالديك، فعليك أن تستغفر لهم وتدعو لهم، لعل الله تعالى أن يتجاوز عنك ذلك السوء الذي فعلته بوالديك (والبر سلف) كما يقال، وكما تدين تدان، لكن على من أراد التوبة النصوح أن يخرج عن بيئة السوء ويهجر الأصدقاء هجراً تاماً، وإذا تقوى إيمانه وعرف الحق على بصيرة، فإنه ينبغي له أن يدعو أصدقاءه الذين كانوا منحطين، يدعوهم إلى الله عز وجل لعل الله أن يهديهم على يديه، أما ما دام الإيمان لا زال على الصفر فلا يقرب الأصدقاء، نعم الأصدقاء وباءٌ خطيرٌ الآن، والله يا إخواني إذا دخلت السجون الآن إنه يشمئز القلب، ويندى الجبين، ويقشعر الجلد، إذا سألت طفلاً لا يتجاوز الثامنة، ما الذي أتى بك؟ فيقول: صديقي أعطاني حشيشة، أعاطني حبة، أعطاني كذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقبل أن أختم هذه الكلمة أوصي أولياء أمور الأولاد أن يحافظوا على أولادهم، حافظوا على أولادكم يا إخواننا، اتقوا الله في أولادكم، الأولاد تُرك لهم الحبل على الغارب الآن، بعض الآباء لا يدري عن أولاده -نسأل الله العافية- نعم حتى أن شرطياُ سأل بعض أولياء الأمور، قال: أين ولدك؟ قال: لي يومين ما أدري أين هو؟ يا أخي لماذا لا تدري أين ولدك؟ هذا أمانة في عنقك سوف تسأل عنه يوم القيامة.
أسأل الله أن يعينا على تربية أولادنا تربيةً صالحة، وأن نختار لهم معلمي خير يدلونهم على الخير ويحذروهم من الشر إنه على كل شيءٍ قدير.(16/16)
والدي مقصر فماذا أفعل؟
السؤال
بادئ ذي بدئ أشهد الله على حبك، فضيلة الشيخ: سؤالي محزنٌ وواقع لكثيرٍ من الناس، وهو كون والدي مقصراً في أمور دينه، ونخشى أن يتوفاه الله وهو على هذه الحال، وعند التفكّر في حاله في القبر وفي عذاب يوم القيامة أكون حزيناً جداً، مع العلم أنني حاولت قدر المستطاع لإرجاعه إلى سبيل الرشاد، ولكن دون فائدة، ما هي نصيحتكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وأسأل الله أن يثبتنا وإياك على قول الحق إنه على كل شيء قدير، واعلم يا أخي أن الهداية بيد الله عز وجل، قال الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] إبراهيم عليه السلام بذل قصارى جهده مع والده، ولم يؤمن أبوه -نسأل الله العافية.
الرسول صلى الله عليه وسلم بذل جهده مع أبي طالب، لأن أبا طالب كان يحوطه ويحميه من أذى المشركين، وتعرفون حالة أبي طالب عند الوفاة لما دنا أجله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه، وعنده صناديد قريش، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أبي طالب: {يا عم! قل لا إله إلا الله} كلمة بسيطة، ولكنه لم ينطق بها {يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله} فيقول قرناء السوء له: أترغب عن ملة عبد المطلب فيعيد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يعيدون عليه، ماذا قال في النهاية؟ قال هو على ملة عبد المطلب ملة الشرك والأوثان، فالرسول قال: {لأستغفرن لك ما لم أنه عنك} فنهاه الله، والله عز وجل أنزل في ذلك آية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
أبو طالب كان يحوط الرسول صلى الله عليه وسلم، فقيل: {يا رسول! نفعت عمك بشيء، قال: نعم.
إنه أهون أهل النار عذاباً} أتدرون ما هو أهون أهل النار عذاباً؟ من يلبس نعلين يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أهل النار أشد منه عذاباً، فالهداية بيد الله، أنت يا أخي اجتهد، وادع الله لأبيك أن يهديه، فإذا هداه الله، فبها ونعمت، وإلا فأنت والحمد لله ليس عليك شيء.
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، وثبت مهتديهم يا رب العالمين، اللهم صل على محمد.(16/17)
بعض مخالفات الناس
السؤال
فضيلة الشيخ! ذكرت في محاضرتك أنك ستذكر بعض المخالفات آمل ذكرها؟
الجواب
ذكرتها يا أخي الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ترد على الحوض ناس من أمتي، فتردهم الملائكة، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك} يا أخي! هل الفيديو ظهر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هذه الملاهي بأنواعها ظهرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟! لا.
ولكن نحن ملأنا بيوتنا منها، نعم.
وعصينا الرسول: حلقنا اللحى، وتركنا الشنبات عياناً بياناً قلنا: لا سمع ولا طاعة، نحلق اللحية ونترك الشنبات، أطلنا الثياب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أسفل من الكعبين ففي النار} وهذا خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمخالفات كثيرة جداً، أسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً.(16/18)
حكم مجالسة المردان
السؤال
سائل يقول: إن بعض الناس في زماننا هذا يتساهلون بمجالسة المردان، لا سيما الشباب وقد افتتن بذلك الكثير من الشباب، فنرجو من فضيلتكم إسداء النصيحة والتحذير من مجالسة هؤلاء الأحداث، لأن الأمر مهم جداً؟
الجواب
ليس هناك شك أن خطر المردان خطرٌ عظيم، بعض العلماء دخل عليه غلام في الحمام، قال: إني أرى مع المرأة شيطاناً، ومع الغلام بضعة عشر شيطاناً -نسأل الله العافية- فلا ينبغي للإنسان أن يتهاون في ذلك، فليحذر من ذلك أشد الحذر، أسأل الله أن يهدينا لما يحبه ويرضاه.(16/19)
حكم إيذاء الزوج
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو الوعيد الذي يقع على المرأة التي تؤذي زوجها بالدعاء عليه وسبه، ولو كان ظالماً، ولا يعطيها حقها، وهل يجوز لها أن تفعل ذلك، وما أجرها عندما تصبر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا السؤال للشيخ/ عبد العزيز يجيب عليه جزاه الله خيراً.
الشيخ عبد العزيز: كل الأسئلة موجهه إلى صاحب الفضيلة، لذلك أنا أعتذر عن الرد عن أي سؤال، وفي شيخنا إن شاء الله تعالى الخير والبركة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح عليه بكل خير، وبالمناسبة هذا السؤال وارد من أحد الإخوان ووالدته موجودة الآن في المسجد، ولعل السبب في إتيانه بها، لعلها تسمع هذه الموعظة ويكون لها أصداء في نفسيتها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بشيخنا الكريم.
الشيخ عبد الله: لا شك أن للزوج حقاً على زوجته، وكذلك الزوجة لها حقٌ على زوجها، وينبغي لكل إنسان أن يعطي الآخر حقه، فالزوج يعطي الحق الذي عليه من كسوة، ونفقة، وما إلى ذلك؛ لأنه مسئول عن ذلك يوم القيامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أتت زوجة أبي سفيان تشتكي أبا سفيان قال: {خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف}.
وحقوق الزوج كثيرة، فلا ينبغي للمرأة أن تطيل لسانها على زوجها، وكذلك يروى في الحديث أن الحور العين تدعو على الزوجة, زوجة الدنيا إذا كانت تؤذي زوجها في الدنيا، تدعو عليها وهي في الجنة وهذه في الدنيا، فينبغي على الزوجين أن يتعاونا على البر والتقوى، فالزوج يؤدي ما عليه حتى يكف عن نفسه الغيبة والملامة، والمرأة كذلك ينبغي عليها أن تؤدي ما عليها حتى ترضي الله عز وجل، وقد ورد في حديث: {أن من صامت شهرها وصلت فرضها وأطاعت بعلها وماتت وزوجها عنها راضٍ، تخير من أي أبواب الجنة الثمانية} أو في معنى الحديث، ينبغي للزوج والزوجة أن يتعاونا على التقوى، وكما يقول المتمدنون: إنها شريكة الحياة، فينبغي للإنسان ألا يؤذي هذه المرأة المسكينة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ورد في الأثر أنه قال: {اثنين أنا خصمهم يوم القيامة: المرأة واليتيم} أو قال: {أحرج حق المرأة واليتيم} فما بالك يا أخي؟! هل تخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؟! لا تستطيع ذلك، ولكن عليك أن تؤدي ما عليك من الواجب نحو هذه المرأة المسكينة؛ لأن المرأة ناقصة عقل ودين، ولا ينبغي لك أن تسيطر عليها، أو تجبرها إجبارات لا تستطيعها، فهذه نصيحتي لكل إنسان، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وهناك أشرطة للشيخ/ أحمد القطان اسمها لمسات مؤمنة، فهي أشرطة مفيدة تصلح للعائلة؛ لأنها تعالج مجتمع العائلة، وأسأل الله أن يجزيه عنا وعن المسلمين خيراً، وأن يكثر دعاة الخير إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(16/20)
تنبيه لجمع التبرعات للمجاهدين
بالنسبة للأخ الكريم الذي طلب جمع تبرعات للإخوان الأفغانيين، وذكر أن معه تصريح من الإمارة، حبذا لو أتى به هنا، لأن عندنا تعميم من وزارة الحج والأوقاف بعدم الجمع، يعني نحن نعظ ونوجه الإخوان، لكن ما نجمع إنما نوجههم لمن يقوم بالجمع للإخوان.
لا زال المجال مفتوحاً للمشاركة في الأعمال الخيرة التي هي الجمع للإخوان الأفغانيين، ولا شك أن الجميع يعرف ما يمر به المجاهدون في سبيل الله في العالم الإسلامي كله، ولا سيما في بلاد الأفغان، ولا شك أنكم تعلمون حاجتهم الماسة إلى المال، ونحن من باب التذكير نفتح المجال للإخوة الكرام لمن تجود نفسه، ولا شك أن كل واحد منكم سيكون سباقاً في هذا المجال الخير، فيتاح المجال بعد صلاة العشاء لجمع التبرعات، والأخ الكريم أتى بقسائم من فئات خمسين ريالاً وعشرة ريالات، ولستم بحاجة إلى التذكير بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي بينت فضل الإنفاق في سبيل الله، فأنتم لكتاب الله تالون ومتدبرون.
نعود إلى عرض الأسئلة على شيخنا الكريم.(16/21)
حكم مجالسة أهل السوء
السؤال
إن هناك بعض الشباب هداهم الله يكونون في أول الوقت مع الشباب الصالح، فإذا مضى زمن من الوقت تغيروا بسبب ذهابهم مع الشباب الطالح، نرجو منك أن تعظنا بنصيحة للشباب، وجزاكم الله خير الجزاء؟
الجواب
أنا أكرر وأقول: الابتعاد عن بيئة السوء هو الالتزام بطاعة الله، إذا أراد الإنسان أن يلتزم بطاعة الله، فليبتعد عن بيئة السوء ويترك رفقاء السوء، فللأسف الشديد أنا أذكر أناساً ملتزمين، وخالطوا أناساً، يقولون: حتى ندعوهم، فما مرت أيام إلا وهم يشربون معهم الدخان ويتركون الصلاة -نسأل الله العفو والعافية- فينبغي للإنسان أن يبتعد عن هؤلاء الجلساء السيئين، يا أخي! إبراهيم عليه السلام لما عجز عن أبيه، تركه وهاجر وابتعد عنه؛ فينبغي على الإنسان أن يبتعد عن قرناء السوء، ولست ملزماً بهم يا أخي.
الآن ولله الحمد القرناء الطيبون الصالحون موجودون بكثرة، فعليك أن تزور إخوانك في الله، وتجدهم في كل مكان، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
وكذلك لا ننسى أن الإنسان دائماً يلتزم بطاعة الله، ومن الالتزام بطاعة الله كثرة تلاوة القرآن وتدبر معانيه، وكثرة قراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثرة النوافل من العبادات مثل: الصيام، والصلاة، والصدقة؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فعلى الإنسان أن يبادر إلى طاعة الله عز وجل، ويبتعد عن قرناء السوء.(16/22)
كلام مقدم الأسئلة
جزاكم الله خيراً، في الحقيقة هذا السؤال هام جداً، والإجابة عليه من فضيلة الشيخ ذلك كما يذكر: السؤال متكرر، والإجابة متكررة، وفي الحقيقة هذه الحالة واقعة ومتكررة وبينة، إذ أن بعض الإخوان عندما يفتح الله سبحانه وتعالى على قلبه ويهديه ويدله إلى الصراط المستقيم يحصل عنده نوع من قصور النظر، فنجد لديه كما يقولون: ازدواج شخصية، يعني: أنه يجالس الطيبين ويجالس غير الطيبين أو الطالحين، وهذه من أخطر الأشياء على الإنسان، فالطيب الصالح يجب عليه أن يسير مع الطيبين ولا سيما إذا كان في أول الطريق؛ لأن بعض الناس الآن يكون عنده حماس وعنده غيرة، لكن لا يكفي هذا، فالحماس والغيرة لا تكفيان أبداً، فبعد أن يفتح الله سبحانه وتعالى عليه يكون عنده حرص على أن يهتدي إخوانه، لكن السلاح الذي معه يكون بدائياً، وكثيراً ما تردد عليه بعض الشباب وفقهم الله سبحانه وتعالى في مثل هذا السؤال، فرجل يدخل المعركة بدون سلاح هل يعقل هذا؟ لا يمكن أن يدخل الإنسان إلا ومعه سلاح، فتكون ثقافة هذا ضئيلة جداً، فقط عنده حب للخير، عنده حب للصالحين، إذا سمع بمحاضرة وبندوة سارع إليها، يسابق إلى المجالس الخيرة الطيبة ويظن أن هذا يكفي، لا يا إخوان، هذا فيه خطورة عليه، وهو أن هذا الشخص من الشباب المبتدئين ثم يأخذ في نقاش أناساً سيئين، هذا يخشى عليه أنهم قد يؤثرون عليه بدلاً من أن يؤثر عليهم، وعندئذٍ تحصل الانتكاسة والعياذ بالله.
فالإنسان ينبغي أن يكون فطناً وحذراً من هذه المزالق، يعني: أن يجالس الطيبين الصالحين، هذا ما أحببت أن أنوه عليه، وإن كان حقيقة غير زيادة، إنما وجدت شيئاً في نفسي أردت أن أنقله إلى مسامعكم.(16/23)
شاب نشأ في طاعة الله
السؤال
فضيلة الشيخ! في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله} ذكر شاباً نشأ في عبادة الله، هل يدخل في ذلك من هداه الله وفتح عليه بعد أن كان عاصياً، أم الذي نشأ عليها منذ الصغر، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن شاء الله إذا نشأ في طاعة وفي عبادة الله يكون منهم.(16/24)
كشف وجه المرأة
السؤال
حيث توجد ظاهرة كشف الوجه عند النساء في هذه الآونة، فنرجو نصيحتهن بعدم التبرج الذي يخالف القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نصيحتي لكل مسلمة إذا كانت تقرأ القرآن، أن تقرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} [الأحزاب:59] البعض من الناس يقول: هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كانت من المؤمنات، فلتكمل الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] هذا كتاب الله عز وجل واضح لا يحتاج إلى تفصيل، فينبغي للمسلمة التي تريد وجه الله والدار الآخرة أن تحتشم من أعداء الإسلام، الذئاب الضارية الذين يريدون أن يفترسوها، تحتشم وتحترز منهم بالحجاب وبكل ما أوتيت من ستر حتى لا تكون من اللواتي حرم الله عليهن الجنة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما -وذكر الصنف الأول ثم قال-: ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ لا يرحن رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة كذا وكذا} فلتحذر المرأة المسلمة التي تؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، تحذر من أعداء الإسلام ومن أزيائهم الخبيثة هم وسمومهم المنغومة التي يدسونها لها صباحاً ومساءً قاتلهم الله، وأبعدهم الله، وأعمى أبصارهم عن بلاد المسلمين، نعم فهم أعداء الإسلام، وأعداء الفضيلة والآداب والأخلاق، يريدون المرأة المسلمة المتحشمة أن تخرج من حشمتها وأن تكون مثل المرأة الغربية سلعةً يديرونها في المسرحيات وفي التمثيليات وغيرها.
فعليك أيتها المسلمة أن تحافظي على أخلاقك ودينك، وعلى مروءتك وكرامتك حتى تلقي الله عز وجل وهو راضٍ عنك، والله ولي التوفيق، وصلى الله على محمد.(16/25)
الروافض وخطرهم على العقيدة
السؤال
اشتد خطر الروافض في هذه الأيام بشكل واسع، ما واجبنا ودورنا تجاه هذه الفرقة الخطرة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأمر هذا خطير ينبغي أن يرفع فيه إلى الشيخ عبد العزيز بن باز حتى يرفع فيه إلى ولاة الأمور، نعم وخطرهم معروف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أشر من وقع على الحصى الروافض، أو كما قال رحمه الله، فينبغي للمسلمين أن يحذروهم، فيرفع إلى ولي الأمر بذلك، والمسلمون إذا لم يتمسكوا بدين الله وبالتوحيد والعقيدة، فسوف يفرخ عندهم الخميني، الآن الخميني يريد أن يمسك التوحيد ويمزقه بيده، لكن الحمد لله بقية التوحيد والعقيدة هذه ترد كيدهم في نحورهم بفضل الله وإحسانه، فينبغي على المسلمين أن يرتووا من العقيدة الصحيحة، وأن يحذروا من أعداء الإسلام في كل وقت، وفي كل زمان.(16/26)
حكم قول المصلي: (جل وعلا) بعد تكبيرة الإحرام
السؤال
يقول: أخي في الله بعض الناس يقول بعد تكبيرة الإحرام: جل وعلا، فما الحكم؟
الجواب
هذه لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه أخطاء يقع فيها الكثير من الناس مثل قولهم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة: أقامها الله وأدامها، واكفنا اللهم شر الحسرة والندامة، فهذه زيادات لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} فالذي ورد: أنه إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، تقول: أقامها الله وأدامها، وتسكت، وكذلك البعض من الناس يزيد في الاستفتاح، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ولا معبود سواك، فهذه زيادة أيضاً لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيادات كثيرة، وبعضهم إذا سلم الإمام، قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أدخلنا الجنة بسلام إلى غيرها، هذا لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنك تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وبعضهم يقول: أستغفر الله العظيم الجليل التواب الرحيم، هذه كلها زيادات ما وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فابحث عن الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإياك ومحدثات الأمور، الشيطان يحسن البدع للإنسان عن طريق الدين، مثل الوضوء، يأتي للإنسان يقول: أحسن الوضوء، أغسل من أصابع رجليك إلى الركب، ومن أصابع يديك إلى إبطك، وغسل سبع ثمان تسع -نسأل الله العافية- تفوته الصلاة وهو في الحمام -عزنا الله وإياكم- فهذا كله من الشيطان فينبغي للإنسان أن يبحث عن الدين الصحيح، وإياكم أن تأخذوا كل ما ورد في الكتب!!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/27)
النفس الأخير
إن الله جل وعلا خلق الكون وجعل له نهاية حتمية، وكل إنسان لابد أن يمر بالنفس الأخير الذي ليس بعده إلا الموت، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.
وفي هذا الدرس حديث عن الموت وسكراته وعن أحوال بعض المحتضرين من السلف الصالح ومن هذا العصر.(17/1)
الإكثار من ذكر الموت وثمرته
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] و {َسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:17 - 19].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلوات الله وسلامه عليه, أما بعد:
أيها الأحباب: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل, فهي وصية الله للأولين وللآخرين, نسأل الله أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى, اللهم اهدنا وسددنا, اللهم إنا نسألك الهدى والسداد, اللهم اهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخائم صدورنا يا رب العالمين.
أيها الأحباب: إن الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن يحثنا على التقوى ومع ذلك ينادي باسم الإيمان سبحانه وتعالى, لذلك بعض السلف يقول: إذا سمعت الله يقول: [[يا أيها الذين آمنوا فَاْرع لها سمعك, فهو إما خير تدعى إليه وإما شر تنهى عنه]] أو كما قال رحمه الله تعالى, فالله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أيها الأحباب: إن أصدق الحديث كلام الله سبحانه وتعالى، الذي لو أنزله على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله, وكفى بالقرآن واعظاً, ثم إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أيها الأحباب: الموضوع هو حالة المحتضرين أو بعض حالات المحتضرين نسأل الله جل وعلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة إنه على كل شيء قدير, فحالة الاحتضار سوف تمر بنا كلنا, ولكن السعيد من خرجت روحه على توحيد الله سبحانه وتعالى, على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, نسأل الله حسن الختام.
الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] ويقول جل من قائل عليماً: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] فالله هو الحكيم سبحانه وتعالى, قال بعض العلماء: إن من عاش على طاعة الله ومات على طاعة الله؛ فإنه يبعث على طاعة الله سبحانه وتعالى, ومن مات على ذلك؛ فإنه كما قيل: يبعث على ما مات عليه, نسأل الله العفو والعافية.
إذاً الموت هو نهاية كل إنسان، فعلينا أن نتق الله سبحانه وتعالى لعل الله جل وعلا أن يختم بالصالحات أعمالنا, كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} قال لي بعض الإخوان: أنت تكثر دائماً من هذه المواضيع: الموت, القبر, الجنة والنار, هل لا يوجد في هذا الوقت إلا هذه المواضيع؟! ويقول: الناس محتاجة لتبين تحريم الظلم, تحريم أكل الربا, تحريم الزنا, تحريم اللواط, تحريم التبرج, تحريم شرب الدخان وعدد أموراً كثيرة.
فقلت له: يا أخي! إذا حصلت عندنا الموعظة، وتذكرنا الموت، وعرفنا أننا سوف ننتقل من هذه الدنيا, وسوف نوضع أو سوف نجعل في تلك القبور التي ليس معنا فيها إلا العمل, ثم سوف نقف بين يدي الله جل وعلا, ثم في النهاية إما إلى الجنة وإما إلى النار, إذا عرفنا هذا فبإذن الله سبحانه وتعالى سوف تنكف الجوارح عما حرم الله جل وعلا, نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى ومن المتناصحين في الله امتثالاًَ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} والله جل وعلا يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] وقال سبحانه: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:10 - 13].(17/2)
كفى بالموت واعظاً
كفى بالموت واعظاً, كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه يقول: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} إي والله إنه هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم الأطفال, ومرمل النساء, هادم اللذات الذي يدخل بدون استئذان, ويأتي بدون إنذار, نسأل الله حسن الختام إنه على كل شيء قدير.
فالله تعالى يقول: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] ثم يقول جل من قائل عليماً: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ويقول أيضاً سبحانه وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ويقول سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85] ثم فصل الله جل وعلا أولئك الذين يموتون على تلك الأحوال قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:86 - 96].
فيا عبد الله: فكر في هذه الآية وممن تكون أنت، هل تكون من الصنف الأول أم من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث, يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].(17/3)
قصص وعبر من حال المحتضرين
الآيات كثيرة في ذكر الموت وحلول الأجل, فلنعتبر بذلك ولنستعد لهادم اللذات, الذي نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم, يكفي والله بذلك عبرة.
إذا تذكر الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل به، الموت صلى الله عليه وسلم وعنده ركوة فيها ماء، كان يأخذ الماء ويمسح به وجهه ويقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات} ذاقها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن للموت لسكرات، والله لو جلسنا عند المحتضرين، وشاهدنا تلك الأحوال عندما تخرج الروح؛ لرأينا أمراً عظيماً, ولانت القلوب ورجعت, ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كلنا والله نشكو من قسوة القلوب, لماذا؟ لأننا لا نحضر المحتضرين، وماذا يحصل لهم من الأمور العجيبة, فالله الله لنحرص على حضور المحتضرين عند حالة خروج الروح لنرى ماذا يحصل لهم.(17/4)
احتضار عمر بن عبد العزيز
هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة أخرج من كان عنده, قال: اخرجوا عني، إني أرى أناس لا هم جن ولا إنس -أو كما روي عنه رحمه الله- فلما خرجوا من عنده سمعوه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ولما دخلوا عليه فإذا هو ميت رحمه الله تعالى.(17/5)
احتضار رجل في مستشفى الرياض
هل يستوي هذا وحادثة حصلت في مستشفى الرياض في الرياض يقولون: إن رجلاً عندما نزل به الموت, كان عنده أولاده يقولون: يا أبت قل: لا إله إلا الله , ولكن الأمر صعب؛ لأن الأب كان مشغوفاً بحب الأغاني والعياذ بالله, فلما كرروا عليه قل: لا إله إلا الله, فجعل يتلفظ بأغنية يقول: حامض حلو يا لومي يا لومي نسأل الله العافية، وخرجت روحه على تلك الحال, هل يستوي هذا ومن يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
رجل آخر -أيها الأحباب- في المستشفى يقول: لما نزل به الموت ماذا قال لمن حوله؟ قال: أشعلوا لي سيجارة يريد دخان والعياذ بالله, يقول: فلما آذى المرضى بصوته أخذ بعض الحضور ورقة ولفها وجعلها في فمه ومات والعياذ بالله, نسأل الله العافية وحسن الختام.(17/6)
حادثتان وقعتا في القويعية
وآخر لما مات بحادث وانقلب اسود وجهه وصرف عن القبلة, وهذه الواقعة وقعت في القويعية , ويذكرها لنا أحد الإخوة الثقات وهو من الذين يغسلون الموتى, يقول: والله ما استطعنا أن نغسل صفحة العنق لأن وجهه منصرف عن القبلة, يقول: وسألنا ما حاله؟ قالوا: إنه مات بحادث وهو سكران, فانظروا أيها الأحباب كيف انقلب لونه إلى اسوداد، وصرف وجهه عن القبلة, نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
ويقول لنا هذا الرجل: وأوتي بثلاثة وقع عليهم حادث، اثنين كهول -أي: تعدى سنهم الثلاثين- أما الثالث فهو شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره, يقول: فلما أردنا أن نغسل الاثنان وإذا كل واحد منهما يرفع أصبعه يتشهد, يقول: ومات وأصبعه واقف بالتشهد, فغسلناهما, أما هذا الشاب فكلما أردنا أن نفتح درج الثلاجة لنخرج هذا الشاب وإذا هو يزداد نوراً وبياضاً, يقول: فلما رآه أحد إخوانه -وكان يبكي- سر بمنظره الطيب وأصبح يضحك، يقول: فأخرجناه وغسلناه وكلما غسلناه ازداد بياضاً ونوراً، لا إله إلا الله، نسأل الله حسن الختام.
فيا إخواني! حالة المحتضرين أمرها عظيم, ولها شأن عظيم, فما الذي يغفلنا عن هذا؟ يقول بعض القائلين:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشّحت من أثوابها الحسنا
اسمع يا أخي لا تغتر بهذه الخوّانة, لا تطمئن إلى هذه الشمطاء.
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشّحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
والموت -يا إخواني- يأتي في لحظة, قبل ثلاثة أسابيع، كان هناك ثلاثة في مكتب يتحدثون, فسقطت المروحة من السقف وضربت أحدهم فقطعت وريده، سبحان الله العظيم! وكأنها تذبحه بسكين, ومات بأقرب وقت, والثاني ضربته في يده ولكن الله سبحانه وتعالى كتب ألا يدنو أجله, أما الأول كأنها مرسلة إليه وضربته فمات مباشرة, سبحان الله العظيم! انظروا يا إخواني قرب الموت, نسأل الله حسن الختام.
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لنا سكنا(17/7)
تحذير الله ورسوله من الاغترار بالدنيا
عندما نرجع إلى هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولعلنا إذا ذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم خفف عنا من وطأة الدنيا -لأنه هو القدوة, وهو الذي أمرنا أن نقتدي به قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ولكن لمن؟ قال الله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فهو القدوة صلى الله عليه وسلم, وهو الذي قال: {اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة} وهو الذي ربط الحجر على بطنه من الجوع صلوات الله وسلامه عليه, هو الذي يمر عليه الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقد في بيته ناراً, وهو رسول الله أفضل الخلق على الإطلاق, وأحب الخلق إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه ضيف ويرسل إلى زوجاته: هل عندكن شيء؟ وكل واحدة تقول: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء, اللهم صلِّ على محمد, فيأتي أحد الأنصار ويستضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.(17/8)
تحذير الله من الاغترار بالدنيا
الله جل وعلا حذرنا من الدنيا ومن الاغترار بالدنيا فأسأل الله أن يفتح مسامع قلوبنا لقبول الحق إنه على كل شيء قدير, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] هذا كلام الله جل وعلا, هذا كلام ملك الملوك, هذا كلام الذي بيده أزمّة الأمور, هذا كلام من بيده مقاليد السماوات.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} انظروا لما انفتحت علينا الدنيا، وترك الحبل على الغارب لكثير من النساء, انظروا ماذا حصل أيها الإخوة في الله! نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً إنه على كل شيء قدير.
إخوتي في الله: احذروا من الدنيا, لا تنخدعوا بما فيها من الزخارف البراقة، التي هي عن قريب تزول وتضمحل، ويكفي بها ذماً ما ضربه الله لها في القرآن العظيم, فالله جل وعلا يضرب لها الأمثال في القرآن فيقول جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] استمعوا -يا إخواني- لهذه الآية، افتحوا مسامع قلوبكم لتعرفوا أن الدنيا والله لا تساوي عند الله شيئاً، فهذا المثل يضربه الله للدنيا.
ثم قال جل وعلا بعد ذلك: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] ومتى نلقى جزاء ذلك يا عباد الله؟ كل هذا في سورة واحدة يذكرها الله, قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:47 - 48] كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة عراة غرلاً, الآن تبعثون حفاة عراة غرلاً لتجزون على أعمالكم, فهنيئاً والله لمن أكثر من الباقيات الصالحات, أما من أضاع عمره في غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه, نسأل الله العفو والعافية.(17/9)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار بالدنيا
أيها الأحباب ومما يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرفع للدنيا رأساً, ولم ينظر لها بعين التقدير, هذا الحديث الذي تذكره لنا عائشة رضي الله عنها قالت: [[توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير]] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى ولم يوجد في بيته إلا شطر شعير, تقول عائشة رضي الله عنها: [[فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني]].
وهذا عمرو بن الحارث رضي الله عنه يقول: [[ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة]] صلى الله عليه وسلم.
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه تلميذ من تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لنا هذا المشهد فيقول: {نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير وقد أثر على جنبه قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً.
قال صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها} وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم محقراً للدنيا وذاماً لها: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {قد أفلح من أسلم ورزقه الله كفافاً وقنعه بما آتاه} وسوف تأتي قصيدة فيها كلام لـ زين العابدين رحمه الله يقول فيها:
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن(17/10)
حال السلف وموقفهم من الدنيا عند الاحتضار
ثم نرجع إلى أحوال بعض السلف رحمهم الله.
احتضر بعض السلف -أي: نزل به الموت- فقال: ما تأسفي على دار الهموم -يعني الدنيا- والأنكاد والأحزان والخطايا والذنوب, وإنما تأسفي على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيها عن ذكر الله، ولما قال هذه الكلمات مات رحمه الله تعالى, الله أكبر! سبحان الله العظيم! ما أجمل الهمم إذا كانت متعلقة بالله! ما أجمل الهمم إذا كانت عالية تنظر إلى المستقبل الحقيقي وإلى جنة عرضها السماوات والأرض.(17/11)
إبراهيم النخعي حال الاحتضار
لما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى, وقيل له في ذلك، فقال: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالجنة أو النار.
الله أكبر! لا إله إلا الله، الله سبحانه أخبر في محكم البيان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] يا لها من بشارة! ما ظنك يا عبد الله إذا نزلت عليك هذه البشارة, نسأل الله جل وعلا أن يختم بالصالحات أعمالنا.(17/12)
سلمان الفارسي حال الاحتضار
اسمعوا إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة بكى, فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: فوالله ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب} انظروا لما مات رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه ما الذي وجدوا عنده وهو يبكي؟ في جميع ما ترك فإذا هو ثلاثون درهماً، وكان أميراً على المدائن , وبعض الناس الآن عنده ملايين، وعنده عمال يموتون جوعاً, يظلون ستة أشهر أو أربعة أشهر لم يعطيهم الراتب, وإذا قيل له: يا فلان اتق الله! قال: لا.
يهتز الرصيد {كفى بالمرء إثماً أن يمنع قوت من يعول} والله وجد هذا -يا إخواني- مسلم سقط مغمياً عليه من الجوع قيل له: كم لك؟ قال: لي ثلاثة أيام ما ذقت الطعام, قيل لكفيله: لماذا؟ قال: أنا ما أصرف له حتى تصرف لي الوزارة التي تعطيني الراتب, يا أخي اتق الله أما عندك شيء؟ قال: عندي إلا أنني لا أريد أن يهتز الرصيد, ويذهب ويتركه, كيف لو مات هذا العامل جوعاً؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فهذا سلمان الفارسي يحمل هماً لأنهم وجدوا عنده ثلاثون درهماً, فكيف الآن بأهل الأموال الطائلة الذين لا يعرفون ولا يزكون نسأل الله العافية, كيف بهم لو كويت بها جباههم وجنوبهم وظهورهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
فأكرر قصة سلمان الفارسي: أُُحتضر سلمان الفارسي رضي الله عنه فبكى, فقيل له: ما يبكيك؟ فقال والله ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا ولكن عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب} فلما مات نظروا في جميع ما ترك فإذا هو ثلاثون درهماً, وكان أميراً على المدائن.(17/13)
أبو هريرة حال الاحتضار
ولما حضرت أبو هريرة الوفاة رضي الله عنه الذي كان يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحفظ كثيراً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما حضرته الوفاة بكى, فقيل له: ما يبكيك؟ ليس كبعض الناس الذين يقولون: أنا ملتزم أنا ملتحي أنا مقصر الثوب انظر للصحابة الذين جاهدوا في سبيل الله رضي الله عنهم، على قلة من العيش، وعلى ما فيهم من الحاجة والفاقة، وهو يقول هذا الكلام, فأنا لا أريد أن أسمعها من كثير من الإخوان, بعض الإخوان يقول: أنا ملتزم، الله أكبر! سبحان الله العظيم! الله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] , ويا أخي كيف ملتزم وأنت في زمن الفتن! الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق, الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يدعو بهذا الدعاء، وبعض الناس يقول: أنا ملتزم وتفوته صلاة الفجر الله المستعان! كيف التزمت وصلاة الفجر تفوتك، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم بواسع رحمته، وبعضهم يقول: أنا ملتزم ولكني مفتون بسماع الأغاني!
أقول: اسمع الرجال، اسمع أحوال الرجال، هذا أبو هريرة تلميذ من تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم, حفظ كثيراً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, ولما حضرته الوفاة جعل يبكي رضي الله عنه, فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [[يبكيني بعد المفازة، وقلة الزاد، وضعف اليقين، والعقبة الكؤود، التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار]] يا لها من أحوال!(17/14)
حذيفة بن اليمان حال الاحتضار
ولما حضرت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الوفاة قال: [[اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء]] اسمعوا أيها الأحباب، اسمعوا هذا الصحابي الجليل ماذا يقول-[[يقول: إني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، وقيام الليل، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في حلق الذكر]] لا إله إلا الله، مطالب جيدة، مطالب طيبة، يقول: إنما أحببت البقاء لظمأ الهواجر، فقد كان يصوم وقت الحر, وبعض الناس إذا جاء رمضان في الصيف قال: أذهب إلى بريطانيا , وإذا ذهب إلى بريطانيا قال: نحن مسافرون نؤخرها إلى السنة القادمة! الله المستعان! اللهم لا تحرمنا فضلك يا رب العالمين! [[ولكن لظمأ الهواجر، وقيام الليل، ومكابدة الساعات]].
قيام الليل.
نسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغفلة إنه على كل شيء قدير، بعض الناس لا يعرف قيام الليل إلا في رمضان وربما كلنا نسأل الله أن يرحمنا بواسع رحمته, إنه على كل شيء قدير [[وقيام الليل، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في حلق الذكر]] ولما اشتد به النزع جعل كلما أفاق من غمرة فتح عينيه وقال: [[رب اشدد شدتك واخنق خنقتك فوعزتك إنك لتعلم أني أحبك]].(17/15)
محمد بن المنكدر حال الاحتضار
ولما نزل الموت بـ محمد بن المنكدر بكى, فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [[فما أبكي حرصاً على الدنيا، ولا جزعاً من الموت، ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء, نحن الآن نفرح بطول ليالي الشتاء]] نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً، ولعله -إن شاء الله- ليس فينا من فيه تلك الخصال.
أيها الأحباب: لعل البعض مبتلى إما بجار أو بقريب -نسأل الله العافية- طوال الليل مع الأفلام والتمثيليات والبلوت والكنكان, وهذا يسب هذا وهذا يشتم هذا فأي أحوال أشرُّ من هذه الأحوال؟ نسأل الله حسن الختام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول بعض السلف:
من يرد ملك الجنان يدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليل إلى نور القران
وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فانِ
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.(17/16)
أبو عطية والفضيل حال الاحتضار
ولما احتضر أبو عطية أي: حضره الموت، جزع فقالوا له: أتجزع من الموت؟ فقال: وما لي لا أجزع وإنما هي ساعة فلا أدري أين يسلك بي.
ولما حضرت الفضيل بن عياض الوفاة غشي عليه، ثم أفاق وقال: يا بعد سفري وقلة زادي, السفر إلى الآخرة, والقبر أول منازل الآخرة, إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار, فرحمهم الله, رحم الله أولئك الرجال, استعدوا لتلك المواقف العظيمة فنسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغفلة، ونستعد لما استعدوا له فنقدم الزاد, يقول بعض السلف:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي سكنا
جعلوها لجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا(17/17)
ذم الذين يركنون إلى الدنيا
وبالعكس من أولئك, أناس جهال عمي البصائر، لم ينظروا في أمر الدنيا، ولم يكشف سوء حالها ومآلها, برزت الدنيا لهم بزينتها, ففتنتهم فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حتى ألهتم عن الله تعالى، وشغلتهم عن ذكر الله وطاعته, قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
يقول الشافعي في أبيات له -ولكن نقتصر على بيتين منها- رحمه الله في ذم الدنيا:
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همّهنَّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سِلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
أيها الأحباب: والله تعالى ذم الذين يركنون إلى الدنيا ويطمئنون إليها، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8] اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
أيها الأحباب: والله ما هناك ناصح أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا بعثه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة, فاسمعوا إلى هذا النصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول لأحد الصحابة: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} قال ابن عمر رضي الله عنه: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح, وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وخذ من صحتك لمرضك, ومن حياتك لموتك]].
فنهاية الدنيا الموت الذي يهجم على الإنسان وبدون إنذار, فالموت -يا إخواني- خطب فادح, نسأل الله حسن الختام إنه على كل شيء قدير.(17/18)
وصف الموت وسكراته
يقول بعض السلف يصف حالة الموت: "إنه الموت إذا نزل فلا تسأل عن كربه وآلامه، حتى قالوا: إنه أشد من ضرب بالسيوف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض, والسبب أنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الوجع والكرب" لماذا؟ لو ترك له المجال ما وقف إلا في آخر الدنيا إذا نزل به الموت, ولكن الموت قهر كل قوة, وضعف كل جارحة, فلم يبق له قوة, أما العقل فقد غشيه وشوّشه, وأما اللسان فقد أبكمه, وأما الأطراف فقد خدّرها وضعّفها, فإن بقيت فيه قوة سمعت له خواراً وغرغرة من صدره ومن حلقه حتى يبلغ بها الحلقوم, فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها, والله كم هناك من يريد أن يقول: أريد أن أفعل كذا وأفعل كذا ولكن هيهات فقد نزل به الموت, فكم من مفرط سوف يقول: {ربِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] ولكن والله لا يجاب على هذا.
أيها الأحباب! لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} قال بعض الناصحين رحمهم الله: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: "تعجيل التوبة, وقناعة القلب، والنشاط في العبادة" والمصيبة من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: "تسويف التوبة، وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة".(17/19)
قصيدة في وصف الموت وما بعده
إخواني: لنسمع هذه القصيدة وهي تصف لنا حال الإنسان, يقول رحمه الله:
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسب وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتب
وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلةٍ وأنت على الدنيا حريصٌ معذب
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنب
والله هذا واقع فيه كثير من الناس, جَمَع المال لا يبالي من أي وجه دخل عليه, وإذا قيل له: يا أخي اتق الله! إن هذا المدخل حرام قال: مازلتم تعلمونا، مازلتم توعظونا، نعم, قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275] انته إذا جاءتك الموعظة من الله، لا تعاند يا عبد الله! اتق الله عز وجل نسأل الله أن يبصرنا في ديننا, وأن يرزقنا التفقه في الدين إنه على كل شيء قدير, يقول رحمه الله:
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنب
أما تذكر الموت المفاجئك في غد أما أنت من بعد السلامة تعطب
أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخرب
أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسطٍ للوفاء سينصب
تروح وتغدو في مراحك لاهيا وسوف بأشراك المنية تنشب
ثم يذكر حاله وهو في حالة النزع نسأل الله حسن الختام, فيقول رحمه الله:
تعالج نزع الروح من كل مفصل فلا راحمٍ ينجي ولا ثَم مهرب
وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصب
وقاموا سراعاً في جهازك أحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا
وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمع غزير واكف يتصبب
وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وبخَّروا منشورهن وطيبوا
سبحان الله العظيم! يا لها من مواقف يا إخواني، بعد ما كان واقفاً تفصل له وتقاس عليه الملابس، صار الآن يلبس آخر كسوة من الدنيا, يلف بهذه الخرقة, الله أكبر، لا إله إلا الله، اللهم أيقظنا من رقداتنا يا رب العالمين, والله إن الموت أمره عظيم, والله لو تذكرنا دائماً الموت ما كان حالنا هكذا وما أكثر التذكار بالموت، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.
بعض الناس يقول: الآن الطب الحديث تطور, ولكن يا ليته ينظر إلى الموت الآن, الموت الآن يأخذ بالكمية نسأل الله حسن الختام، والله لو كانت القلوب واعية، والقلوب حية؛ لكفاها ما ترى في تلك الطرق, أحياناً تجد عائلة بأكملها يختلط الرجال والنساء لحومهم وعظامهم سواء, فأين الاعتبار؟ أحياناً يلتقط من الطريق جثث هامدة, اللهم اشف مرض قلوبنا يا رب العالمين.
كنا قبل سنين إذا رأينا الجنازة طار عنا النوم, وتكدر علينا الطعام والشراب ثلاثة أو أربعة أيام، والآن إنا لله وإنا إليه راجعون, في المقبرة الآن تجد هذا يشعل السيجارة وهذا يتحدث كم طول الأرض؟ وماذا فعلت اليوم وماذا حصل لك وماذا قالت الجريدة والمجلة؟! وهو في المقبرة! وهو والله لا يدري أيخرج منها أو يدفن بجوار من جاء يشيعه, نسأل الله حسن الختام.
فيا إخواني! علينا أن نتذكر هذه المواقف, يقول رحمه الله:
وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وبَّخروا منشورهن وطيبوا
وألقوك فيما بينهنَّ وأدرجوا عليك مثاني طيّهن وعصّبوا
وفي حفرة ألقوك حيران مفرداً تضمك بيداء من الأرض سبسب
إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكل ومشرب
وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلمات غيهب ثم غيهب
وهول وديدان وروع ووحشة وكل جديد سوف يبلى ويذهب
فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقرب(17/20)
حال الإنسان عند خروج الروح
أيها الأحباب: في الختام أسأل الله أن يختم بالصالحات أعمالنا, ونختم بحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث صحيح يبين لنا حالة الإنسان عند خروج الروح, يقول صلى الله عليه وسلم: {إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة, وحنوط من حنوط الجنة, حتى يجلسوا منه مد البصر, ويجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان, قال: فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن, وفي ذلك الحنوط, ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.
فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان, بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا, حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له, فيفتح له فيشيّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها, حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين, وأعيدوه إلى الأرض في جسده.
فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله, فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته, فينادي مناد من السماء, أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة, فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره, ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك, هذا يومك الذي كنت توعد, يقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة, حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر أو الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه ملائكةٌ سود الوجوه, معهم المسوح, فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول, فيأخذها, فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض.
فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له, ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] , فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجيل في الأرض السفلى ثم تطرح روحه طرحاً, ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فتعاد روحه في جسده.
ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري, فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري, فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري, فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من حرها وسمومها, ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب، منتن الريحة, فيقول: أبشر بالذي يسوءك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه القبيح الذي يجيء بالشر, فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: يا رب لا تقم الساعة}.
نسأل الله حسن الختام.
إخواني الخلق ليس بينهم وبين الله نسباً، من أطاعه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار, فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا على طاعته.(17/21)
قصيدة زين العابدين في الموت وما بعده
ولعلكم تسمحوا لي لأني وعدتكم في بداية الكلام أن أذكر لكم قصيدة زين العابدين بن علي بن الحسين فأذكرها لكم الآن, يقول رحمه الله:
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن
تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن
سفري بعيد وزادي لا يبلغني وقسمتي لم تزل والموت يطلبني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلةً كتبت يا غفلةً ذهبت يا حسرةً بقيت في القلب تقتلني
دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني
ما كان عنده أفلام ولا عنده تمثيليات, كيف لو رأى الآن أحوال بعض المسلمين التي يرثى لها؟ إنا لله وإنا إليه راجعون, كيف لو رأى أحوال نسائنا في الشوارع متبرجات سافرات فاتنات مفتونات؟!
وكيف إذا نظر أحوال الناس وهم يحلقون اللحى، ويقصون قصة الهر والأسد وغيرها؟!
كيف لو نظر أحوال الناس وهم يسبلون الثياب في هذه الأزمان؟!
كيف لو نظر أحوال الناس وهم لا يعرفون صلاة الفجر إلا في رمضان؟!
كيف لو نظر أحوال الناس وهم يتسابقون على الربا يحاربون الله ورسوله علانية؟!
كيف لو نظر إلى الناس وهم يتساقطون صرعى سكارى فدية للمسكرات والمخدرات؟! فيقول:
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرةٌ منها تخلصني
ثم يصف لنا الحالة التي سوف تمر بنا جميعاً, ويقول:
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغموضني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجل إلى المغسِّل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كموم لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهل وأنزلوا واحداً منهم يلحّدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلّوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤنسني
وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مطلع ما قد كان أدهشني
من منكر ونكير ما أقول لهم إذ هالني منهما ما كان أفزغني
فامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنني موثق بالذنب مرتهني
ثم قال رحمه الله:
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني
وزر الربا, والغش, والخداع, والمساهمات الربوية, وأشرطة الفيديو, وأشرطة الكاسيت الأغاني, وكتب الزندقة والإلحاد, والجرائد والمجلات صارت على ظهره، والورثة يأخذون الأموال, اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا, ثم يقول رحمه الله:
فلا تغرنَّك الدنيا وزينتُها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الزاد والكفن
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
ثم أيضاً أذكر البيتين لبعضهم, وهو يذكرنا ما الذي يحصل بعد الموت, يقول رحمه الله:
يوم القيامة لو علمت بهوله
يا إخواني! لو أن النهاية بالموت كان الأمر بسيط، لكن بعد الموت أمور عظيمة, القبر والوقوف بين يدي الله.
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطاني
يوم تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولداني
ثم يقول الآخر:
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور
اللهم ارزقنا الإيمان بعذاب القبر ونعيمه, وارزقنا الإيمان بيوم البعث والنشور, واجعلنا ممن يساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض يا رب العالمين.
اللهم اجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً, وتفرقنا من بعده تفرقا ًمعصوماً, ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً, اللهم أحسن ختامنا, اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان يا رب العالمين, اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة, ولا تجعلها حفرة من حفر النار يا رب العالمين.
اللهم اجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في جنات الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين, اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بتوبة نصوحاً يا رب العالمين, اللهم ارزقنا توبة نصوحاً تطهر بها قلوبنا وتمحص بها ذنوبنا وتحصن بها فروجنا يا رب العالمين, اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك, وأغننا بفضلك عمن سواك, اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا, اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم أصلحنا وأصلح أولادنا وزوجاتنا وإخواننا وأخواتنا, واجعلنا جميعاً هداة مهتدين, ندعو إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة، نأمر بالمعروف ونفعله وننهى عن المنكر ونجتنبه, إنك على كل شيء قدير.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان, وأغث أوطاننا بالقطر النافع يا رحمن, اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار, اللهم سقيا رحمة لا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/22)
عذاب القبر ونعيمه
التقوى جماع للأعمال الصالحة، وهي سبب للنجاة في الدنيا والآخرة، وسبب للرزق الحسن.
وعن التقوى وأهميتها استهلَّ الشيخ حديثه هذا، ثم دلف إلى موضوع نعيم القبر وعذابه مقتبساً ما يناسب المقام من نصوص الكتاب الخالد، ومن كلام النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
وقد تحدث عن الاحتضار وحياة البرزخ ويوم البعث وأوصافه.
ووجه رسالة هامة إلى المرأة المسلمة محذراً إياها من فتن العصر التي لم يعرفها السابقون.(18/1)
عاقبة التقوى وأهميتها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوان في الله! وأيتها الأخوات في الله! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، التي هي وصية الله للأولين والآخرين، فإن تقوى الله عز وجل هي الأساس وهي التي تتقدم الإنسان، وهي الزاد في مسيره من بعد موته إلى أن يبعث يوم القيامة، ولن ينجو إلا المتقون كما قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103].
التقوى يا عبد الله! -قبل أن ندخل في موضوع نعيم القبر وعذابه- حثنا عليها رب العزة والجلال فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] ثم يكرر ربنا جل وعلا في صدر هذه السورة الأمر بالتقوى ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
التقوى يا عبد الله! زادك في الحياة الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب:70 - 71] فبالتقوى تصلح الأعمال وتغفر الذنوب وتكفر السيئات، وبالتقوى تحصل الخيرات بأجمعها، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] وبالتقوى يحصل الفرقان بين الحق والباطل، فمن اتقى الله عز وجل بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وفق لمعرفة الحق من الباطل؛ فكان ذلك سبباً لنجاته في الدنيا والآخرة، ويقول الله جل وعلا حاثاً على التقوى لما فيها من الفضل العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] ويقول الله أيضا حاّثاً على التقوى لما يحصل فيها من الخروج من كل ضيق، ومن تيسير الأمور، وتفريج الكروب -ولعلكم تذكرون حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فكل واحد منهم تقرب إلى الله وتوسل إليه بصالح عمله ففرج الله عنهم، وتلك عاقبة التقوى يا عباد الله- قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ويقول الله أيضاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] ويقول جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5].
نعم.
إذا حصلت التقوى؛ حصل الإيمان، والإيمان بماذا يزيد؟ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.(18/2)
حال المؤمن والكافر عند الاحتضار
عليكم إخوتي في الله أن تؤمنوا بكل ما جاء في الكتاب والسنة، من آيات وأحاديث تبين حالة المحتضر عند خروج الروح من الجسد، فالمؤمنين لهم حالة، والكافرين لهم حالة، فالمؤمن عند خروج الروح من جسده له أحوال طيبة يستبشر بها ويفرح بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت إحدى زوجاته: يا رسول الله! إنا لنكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه؛ فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر -أي حضره الموت- بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله فكره الله لقاءه} رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري.
وأيضاً عند خروج روح المؤمن تنزل عليه البشرى من السماء مع رسل الله من الملائكة، فاسمع يا من تريد ذلك فاستقم على طاعة الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ما موقفك يا عبد الله! إذا أتتك هذه البشارة، وأنت في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، هذه ملائكة الرحمن، أرسلهم إليك وفوداً من السماء لتبشرك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ثم تقول لهم الملائكة أيضاً: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت:30 - 31] لأن الإنسان إذا فارق الأهل والأولاد عند ذلك يحزن الله أكبر! في الجنة يا عبد الله! {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32] أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن يبشر بهذه البشارة.
ولكن الكافر فإنه عند خروج الروح تنزل عليه ملائكة العذاب، يضربون وجوههم وأدبارهم، واسمعوا وصف الله تعالى لحالهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] ثم يقال لهم بعد هذا الضرب: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:51] إذا عرفنا هذا؛ فعلينا أن نستعد للموت؛ ونسأل الله حسن الخاتمة؛ ونحسن الظن بالله عز وجل، فقد قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله} رواه مسلم.(18/3)
حال المؤمن والكافر في القبر
إخواني: لقنوا من حضرتهم الوفاة لا إله إلا الله برفق، فقد ورد في الحديث: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} ثم بعد ذلك تخرج الروح، وبعد الفراغ من التجهيز والحمل على الأكتاف تقول هذه الجنازة إن كانت صالحة: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها؟! يسمع ذلك كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، وقبل أن يوضع في الحفرة يتبعه ماله وأهله وعمله، ثم يرجع أهله وماله، ولا يبق إلا العمل، ثم يوضع في تلك الحفرة وتنصب عليه اللبنات ويحثى عليه التراب.
كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر بكى حتى تبتل لحيته من الدموع رضي الله عنه، الله أكبر! ويقولون: لماذا تبكي يا عثمان؟ فيقول: كيف أتذكر الجنة والنار ولا أبكي!! فالقبر يا إخواني أمره عظيم.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك إلى النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً} قال: قتادة رحمه الله: [[وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خَضِراً إلى يوم يبعثون]] ثم رجع إلى الحديث السابق قال في تكملته: {وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة؛ فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين -يعني الإنس والجن-} وهذا حديث صحيح متفق على صحته.
فهنيئاً لمن أطاع الله ورسوله وقام بما أوجب الله عليه، فإن القبر يكون عليه برداً وسلاما وروضة من رياض الجنة، ويقال له: نم نومة العريس، الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، فتصور نفسك يا عبد الله! إذا قدمت إليك هذه البشارة، وأتاك عملك الصالح في صورة شاب حسن الثياب طيب الريح.
تذكر يا عبد الله! ذلك القبر الفسيح، إن كنت ممن أنعم الله عليهم بذلك القبر فجعله عليهم من رياض الجنة.(18/4)
صور من عذاب البرزخ
وأما من فرط وتعدى الحدود؛ فإنه يكون له حفرة من حفر النار، فويلٌ لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات، كيف حاله إذا ضغطه القبر وأقبل عليه منكر ونكير، ما الجواب يا من أضعت الصلاة! وأخرتها عن أوقاتها؟
كيف حالك إذا صرت بعد القبر في سقر مع الكافرين؟ كيف حالك يا من تكذب كلما غدوت؟! كيف حالك يا من اعتدت الكذب إذا صرت في البرزخ؟!
أيها الكذاب! يا من تقول: هذه كذبة سوداء، وهذه كذبة بيضاء، كيف حالك إذا صرت في البرزخ مستلقٍ لقفاك، وإذا آخر قائمٌ عليك بكلّوب من حديد، وإذا هو يأتي إلى إحدى شقي وجهك فيشرشر شدقك إلى قفاك ومنخرك إلى قفاك، وعينك إلى قفاك؟! فهذا عذاب الكذاب في البرزخ.
ويل لمن ارتكب الزنا من الذكور والإناث، فإن عذابهم في البرزخ في تنور أسفله واسع، وأعلاه ضيق، لهم فيه أصوات ولغط لما يذوقون فيه من أليم العذاب.
ويل لأكلة الربا، فإن آكل الربا في البرزخ يسبح في نهر أحمر مثل الدم، وعلى شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفتح له فاه فيلقمه حجراً، يا ويله من ذلك العذاب إلى يوم يبعثون.
ثم يا ويلك يا من تأكل لحوم الناس! ويل لمن اعتاد أكل لحوم الناس، فإنهم في البرزخ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم.
عباد الله! وكذلك من أسباب العذاب في البرزخ عدم التنزه من البول، والمشي بالنميمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله}.
عباد الله! ويلٍ لمن مات وهو يرتكب الجريمة الشنعاء جريمة اللواط، التي عذب الله بها قوم لوط، فقلب عليهم ديارهم بسبب هذه الجريمة الشنعاء، يا ويل من مات من غير توبة وهو يرتكب جريمة اللواط، فإنه بذلك أحل بنفسه سخط الله ومقته، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: [[أن اللوطي إذا مات من غير توبة فإنه يمسخ في قبره خنزيراً]] والعياذ بالله!(18/5)
بعث الخلائق بعد الموت
عباد الله! ثم تمضي السنون والأعوام والدهور والناس في قبورهم منهم المنعم ومنهم المعذب، حتى يأذن الله في خراب هذا العالم، فيأمر إسرافيل فينفخ في الصور، قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] هذه نفخة الصعق التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم يقبض الله أرواح الباقين، حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الباقي -لا إله إلا الله- المتصف بالديمومة والبقاء قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ثم يقول جل جلاله: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: لله الواحد القهار.
ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى وهي النفخة الثانية نفخة البعث، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: أحياء بعد ما كانوا عظاماً ورفاتاً، صاروا ينظرون إلى أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة.(18/6)
أوصاف يوم البعث في القرآن
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14].
وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَت وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5].
وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّك كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق:1 - 7] الله أكبر! اسمع يا عبد الله تقسيم الشهادات! {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق:7 - 12] ليس هناك دار أخرى، ولا واسطة، ليس هناك إلا الصحف، إما باليمين وإما بالشمال من وراء الظهر {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق:10 - 12].(18/7)
من مشاهد يوم القيامة
عباد الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟!! -يا ليتنا نتذكر هذا الكلام يا عباد الله! والله إن القلوب مريضة، ومستغرقة في غفلتها - فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} الله المستعان! الله أكبر يا عباد الله! ألا نتذكر ذلك دائماً، ألا نجعل ذلك دائماً في صك وفي جدار الفلة {الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} إنه موقف عظيم طويل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم} الله أكبر! الله المستعان! هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا قول رسول الله الذي أعرضنا عن سنته وعن القرآن، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
ولكن متى نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
إذا فرغنا قلوبنا من الملاهي، وبيوتنا من الملاهي ومن المجلات ومن القصص الغرامية ومن الأفلام والتمثيليات التي أخذت في قلوبنا أماكنها، وملأت القلوب، فلا يدخل فيها قول الله ولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه عائشة أم المؤمنين تقول: {يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! ويجيبها صلى الله عليه وسلم: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض} إنه موقف عظيم طويل، يبين ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فيقول: {يذهب عرق الناس يوم القيامة في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى آذانهم} ووالله ما ذهبت هذه الكمية إلا لطول المقام يوم القيامة يا عباد الله!
في ذلك اليوم العظيم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجلٌ قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} سبعة يظلهم الله في ظله في ذلك اليوم العظيم يوم يعرق الناس يوم القيامة، حتى يذهب في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
في ذلك اليوم العظيم الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق -وأولئك السبعه تحت ظل عرش الرحمن في غاية من الأمن والسرور، -مقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً!!} تفكروا يا عباد الله.
في ذلك اليوم العظيم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام -تقاد بسبعين ألف زمام- مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} في ذلك اليوم العظيم، في ذلك اليوم الرهيب، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
يوم القيامة، يوم يجعل الولدان شيباً، يوم القيامة يوم ينقلب فيه هذا العالم ويتغير: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] ثم بعد ذلك: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم القيامة تخرس فيه الألسن وتنطق فيه الجوارح، الله المستعان!
اسمع يا عبد الله! وارجع إلى ربك وتب قبل أن ينطق عليك اليدان والفخذان بالشهادة، قبل أن يقر عليك سمعك وبصرك بما ضيعت من أوامر الله، وارتكبت من المحارم.(18/8)
موازين الأعمال
عباد الله! تفكروا في الميزان حين ينصب وتشخص الأبصار، ثم لسان الميزان يميل إلى جانب الحسنات، أو إلى جانب السيئات، ثم تفكروا في قول الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] الله أكبر! يا لها من شهادة!! يا له من نجاح لا يعادله نجاح!! {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] بماذا تثقل هذه الموازين بالشوط الأول أو الشوط الثاني؟ أم بتضييع أوقات الصلوات على المدرجات؟
لا تثقل إلا بالأعمال الصالحة، التي أضاعها الكثير من الناس.
بماذا تثقل هذه الموازين بالأفلام والتمثيليات، وقضاء الوقت مع الورق وغيرها؟ لا.
إنما تثقل بالأعمال الصالحات.
هناك فرق بين أقوام يقضون أوقاتهم في اللهو واللعب، وبين أقوام يقضون أوقاتهم في طاعة الله، اسمعوا الفرق يا عباد الله! {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] واسمع المفرِّط: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:103 - 104] ثم اسمع إلى النتيجة أيضاً من البيان الذي بينه الله لنا في القرآن العظم: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11].
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، ولا يجعلنا من أهل النار، أسأل الله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وأن لا يجعلها حفرة من حفر النار، اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، اللهم اجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم صلِّ وسلم على نبيك وعبدك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/9)
رسالة إلى المرأة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأخوات في الله: أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكن لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير، الإسلام ولله الحمد أكرم المرأة وأعزها وشرفها، وأبرزها بالصفات الحميدة التي تنبغي لها وتليق بها، وأخرجها من براثن الجاهلية لأن الجاهليين كانوا يسومونها سوء العذاب، يبيعونها ويشترونها كما تشترى السلعة، أما الآن وبعد أن جاء الإسلام -ولله الحمد- فالمرأة صارت مكرمة معززة مشرفة، لها حقوق كما أن عليها واجبات ينبغي لها أن تقوم بها، فإذا قامت بهذه الحقوق وماتت والله راضٍ عنها؛ فإن الله يدخلها الجنة ونعم دار المتقين الجنة.
فقد ورد في الحديث: {إذا صامت المرأة شهرها، وصلت خمسها، وصانت عرضها، وأطاعت زوجها، دخلت الجنة} ولكن إذا فرطت والعياذ بالله، وصارت فتنة وآلةً بأيدي أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، يديرونها كيف شاءوا؛ فعند ذلك تضيع وتهين كرامتها وشرفها، وتكون في أسفل سافلين، وتكون في النار التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: {اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء -نسأل الله العفو والعافية- فقامت امرأة من أوسط النساء فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير} إلى آخر ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي لك أختي المسلمة: أن تصوني لسانك عن اللعن والشتم، والسب، والغيبة والنميمة، وأن تحتاطي وتخافي الله عز وجل في السر والعلانية.(18/10)
الحذر من التبرج
أيتها المسلمة: لا تكوني إذا كنتِ بحضرة الزوج، أو بحضرة الوالد والإخوان كنتِ عابدة، وإذا اختليتِ أو خرجتِ إلى الأسواق كنتِ شيطانية فاتنة والعياذ بالله؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما -وذكر من هذان الصنفان- نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يرحن رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} فاحذري أختي المسلمة أن تكوني من هؤلاء النساء اللواتي يخرجن إلى الأسواق يفتن الرجال متعطرات متجملات، حاسرات عن الذراعين مبديات للنحر، شاقّات حول الساقين الشقة الخبيثة التي أتى بها الخياطون -أسأل الله أن يزيلهم عن بلاد المسلمين- والله ما رأينا من مجيء الخياطين إلا أن المرأة بدأت تتكلم على الزوج كلاماً لا يرضي الله ولا رسوله؛ حتى إن بعضهن تمكث الوقت الطويل عند الخياط يعطيها المقاييس والمواصفات، ويطلعها على كتبٍ خبيثة أتى بها من تايلاند ومن فرنسا ومن أمريكا، ويحول هذه المرأة المسلمة إلى تايلاندية أو نصرانية أو فرنسية أو أمريكية أو يهودية، نعم.
هذا الذي يريده أعداء المسلمين، هل ترين أن ذلك رحمة ومحبة منهم؟ لا والله ثم لا والله، بل حسدوك على هذه الحشمة وعلى هذه الكرامة وعلى هذه العزة، فأرادوا أن يخرجوك من الحجاب، وأرادوا أن يخرجوك من هذه العباءة لتكوني لهم سلعة، يريدونك كيف شاءوا، إن شاءوا جعلوك في المسرح، أو المرقص، أو الشاشة، هكذا يريد منك أعداءُ الإسلام وأعداء المسلمين، فاحذري أيتها المسلمة! وحافظي على كرامتك وشرفك ومروءتك، فإذا أردتِ الجنة فإن الجنة عند الله وسلعة الله غالية، لا تُنال إلا بطاعة الله عز وجل، الجنة لا تُنال بتعدي الحدود وبالمعاصي وبارتكاب المحرمات.(18/11)
مسئولية المرأة في البيت
أيتها المرأة: إن عليك مسئولية قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها} أنتِ مسئولة عما استرعاك الله عليه من الأولاد، لا تسمعي الأولاد إلا كلاماً طيباً، ربيهم على دين الإسلام، وعلى القرآن وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذريهم من أعداء الإسلام ومن أعداء المسلمين، ولا تتركي لهم الحبل على الغارب، فإنك مسئولة عنهم أمام الله عز وجل.
ولكن مع الأسف الشديد، من المربية الآن؟! المربية نصرانية أو بوذية، أو يهودية أدخلوها على بلاد الإسلام والمسلمين، فالمرأة تخرج من البيت وتترك هذه المفسدة، إنها ليست والله مربية بل هي مفسدة تفسد هذا الطفل، وتنمي عقيدته على عقيدتها الخبيثة، إن كانت نصرانية أو بوذية أو يهودية، فاحذري أيتها المسلمة، إن عليك مسئولية عظيمة أمام الله عز وجل، ما الجواب إذا سألك الله عز وجل عن هذه الرعية التي تركتي لهم الحبل على الغارب؟
والبعض من الأمهات هداهن الله، إذا أراد الأب أن يوقظ ابنه للصلاة قالت: إنه تعبان، إنه مذاكر، وإذا أراد أن يوقظه للدراسة صارت هي أقوى عزماً من هذا الأب للدراسة، لماذا أيتها الأم؟ اتقي الله عز وجل، فطاعة الله وأداء فرض الله مقدم على كل شيء، وهو والله النجاح في الدنيا والآخرة، وخذي من ذلك المنهج الذي رسمه صلى الله عليه وسلم طريقاًَ لك عندما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع} هكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على هذه الأخلاق وعلى هذه التربية المفيدة، إن أخذنا بها نجحنا في الدنيا والآخرة وبلغنا المقصود، وإن تركناها وراء ظهورنا فسوف ينحط الأولاد ذكوراً وإناثاً وراء التيارات، ووراء المبادئ الهدامة التي أتى بها أعداء الإسلام وأعداء المسلمين.
أيها الإخوة في الله: أذكركم أن خادم الحرمين جزاه الله خيراً أصدر أمراً بمنع ثلاثة وعشرين مجلة فادعوا له بالتوفيق والسداد، واسألوا الله عز وجل أن يهديهم لما يحبه ويرضاه هو وولي عهده وجميع الأسرة، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا ما يبغضه ويأباه.
فأنتم كذلك تعاونوا مع ولي الأمر، لا تدخلوا إلى بيوتكم المجلات، فإنها تفسد الأخلاق والعقائد، والآداب، وتدمر كل شيء، ثم هي تطرد الملائكة عن البيوت، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة} يا من اتخذ التماثيل والصور! أخرجها من بيتك حتى تدخل الملائكة وتحل البركة، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير.(18/12)
طاعة المرأة لزوجها
عندما ذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلق بالمرأة، بعض النساء تخرج إلى الأسواق بدون إذن زوجها، وقد توعدها صلى الله عليه وسلم بوعيد شديد وهو: اللعن والعياذ بالله، واللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، قال صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة خرجت من بيتها بدون إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع} ثم أذكر النساء اللواتي يقضين أوقاتهن مع الأفلام والتمثيليات، وإذا دعاها زوجها إلى فراشها قالت: حتى تنتهي التمثيلية، حتى ينتهي الفلم، ربما يبيت الزوج وهو غضبان عليك أيهتا المرأة، يكون متعباً وهو يريد أن يقضي وطره من أهله، ثم أنتِ تمتنعين عند الفلم والتمثيلية يقول صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشها فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح} والعياذ بالله، فينبغي لك أيتها المرأة أن تكوني طوعاً لزوجك إذا أمرك بطاعة الله عز وجل، أما إذا أمرك بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة بالمعروف.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والسداد حتى نتعاون على البر والتقوى، فإن المرأة كما في الحديث: {إذا استيقظت من الليل وصلت ما كتب الله لها، ثم أيقظت زوجها وصلى ما كتب له، كتبهما الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات} فينبغي لنا أن نحوز هذا الفضل بحول الله وقوته، ونستعين بالله، نأخذ بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ننام مبكرين كما كان هديه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، فإذا نام الإنسان مبكراً قام مبكراً، فعلينا أن ننهج نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبتعد عن المحدثات وعن البدع، اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، اللهم اجعل أعمالنا وأقوالنا كلها صالحة، واجعلها خالصة لوجهك الكريم، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(18/13)
الأسئلة(18/14)
ما يشرع لأهل الميت
السؤال
إذا مات الميت يأتي أبناء الميت بالسلكة ويجعلونها في الماء ويشربونها لينسون الميت، هل السلكة حرام أم حلال جزاكم الله خيرا؟
الجواب
أنا لا أعرف السلكة، ولكن المطلوب من المؤمن إذا مات له ميت أن يسترجع ويحمد الله عز وجل، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يسترجع ويحمد الله عز وجل، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157] هذا الذي ينبغي، أما لطم الخدود وشق الجيوب، والنياحة، ودعوى الجاهلية؛ فهذه حرمها الإسلام -نسأل الله العفو والعافية- لكن لا بأس بأن تدمع العين، وأن يحزن القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: {العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا}.(18/15)
حكم زيارة القبور
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، سؤالي هو: كيف نجمع بين قول ابن عباس: {لعن الرسول صلى الله عليه وسلم زائرات القبور} وفي حديث آخر: {كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها} علماً أن في الحديث لعن، وفي الحديث الثاني أمر بزيارة القبور؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، أما حديث اللعن هذا خاص بالنساء، وأما الرجال فقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: {قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها -وفي رواية-فإنها تذكر بالآخرة} أما النهي فهو للنساء.(18/16)
حَدُّ الغيبة
السؤال
بالنسبة للغيبة هل هي باللسان أو مثل الذي يقول في نفسه هذا أعرج أو هذا كذا إلى آخره؟
الجواب
الغيبة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {ذكرك أخاك بما يكره قال: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.(18/17)
كيفية إجلاس الميت في قبره
السؤال
فضيلة الشيخ: نرجو الرد على الملحدين وخاصة الذين كثروا في هذا الزمن، الذين يقولون: كيف يقعد الملكان (منكر ونكير) الميت وقبره ضيق ولا يستطيع الجلوس جزاكم الله خيرا؟
الجواب
أولاً هذا أمر غيبي لا يعلم كيفيته إلا الله عز وجل الذي أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لنا أن نتكلف هذا، ينبغي لنا أن نؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة إيماناً جازماً ولا نسأل عن هذا إلا إذا ورد تبيان هذا الشيء فإنه يبين، أما إذا لم يبين فالأولى ترك هذا.(18/18)
حكم قراءة يس للميت
السؤال
ما حكم قراءة سورة يس عند الميت؟
الجواب
ورد فيها حديث ضعيف.(18/19)
طريق العودة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ عبد الله: حفظك الله، اعلم أننا نحبك في الله وبعد: بعد معرفتنا لمصيرنا بعد الموت، فما هو الطريق إلى العودة إلى الله في هذه الأجواء المملوءة بالمنكرات الظاهرة والله يحفظكم ويرعاكم؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، وقد بينت لك في بداية الكلمة التقوى، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها هي الطريق الموصل إلى الله عز وجل، وهي سبيل النجاة في الدنيا وعند الموت وفي الآخرة، فيلزم الإنسان أن يتقي الله عز وجل ويطيعه، هذه هي الزاد، أما كون الإنسان يتبع نفسه هواها -والعياذ بالله- ويتمنى على الله الأماني فهذا خاسر -نسأل الله العفو والعافية- فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يبادر بطاعة الله، ويتيقن حق اليقين أنه سوف يموت كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر، عندما ضرب على منكبه وقال: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال ابن عمر رضي الله عنه: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك]] نعم.
هذا الذي ينبغي للإنسان، أما كون الإنسان يتمادى -والعياذ بالله- في المعاصي، ثم يأتيه الموت على غرة فهذا يخشى عليه نسأل الله العفو والعافية!
ثم يعلم الإنسان أن الله عز وجل ما أوجده ليستكثر به من قلة، ولا ليتقوى به من ضعف، إنما خلقه لأمر عظيم، وهي طاعة الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] فكر يا عبد الله! لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا أنزل عليهم الكتب؟ إلا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أطاعهم وعمل بطاعة الله عز وجل؛ فهو من أهل الجنة، ومن عصى وتعدى فهو من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} ولا شك أن الأجواء مملوءة بالفتن، وهذا ابتلاء وامتحان للمؤمن، وبها يتبين المطيع من العاصي، ولولا هذه الفتن لما خلقت الجنة والنار، فإن الجنة لمن أطاع والنار لمن عصى.(18/20)
حكم التلاوة عند رأس الميت
السؤال
بعض الناس يقرأ قرآناً عند رأس الميت إذا دفنه في المقبرة؟
الجواب
نرجع هذا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا؟ لا.
هل كان الخلفاء الراشدون يفعلون هذا؟ لا.
إذاً هذا يعتبر بدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من البدع فقال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور} أي: أنه سيأتي أناس يحدثون بدعاً وخرافات، إياكم أن تكونوا مثلهم أو معهم {فإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار} والذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم إذا دفنوا قال: {ادعوا لصاحبكم بالثبات فإنه الآن يُسأل} هذا الذي ورد، أما قراءة القرآن في المقبرة أو عند رأس الميت فلم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء، فعند ذلك تكون بدعة.(18/21)
أهمية المداومة على الطاعة
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإنا عند سماع مثل هذه المواعظ نحس بأننا صرنا رقيقي القلوب وضعفاء إلى الله، وإذا خرجنا نسينا كل ما كان، فما هي نصيحتكم لنا جزاكم الله خيرا؟
الجواب
كثيرون يسألون عن هذه، ولكن العلاج لهذا أن الإنسان يكثر من مجالس الذكر وهي رياض الجنة، وكذلك الإيمان ينمو ويزداد إذا ثابر الإنسان على حلق الذكر، وكذلك إذا داوم على طاعة الله عز وجل، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي نسأل الله العافية، وكذلك يقرأ القرآن، يا أخي! أقل شيء أنت عندك سور قصيرة، اقرأ (القارعة) اقرأ (إذا زلزلت الأرض زلزالها) اقرأ هذه السور ويتبين لك أمر عظيم، لا تقرأ (البقرة) و (آل عمران) اجلس في زاوية البيت واقرأ.
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- صلى العشاء ودخل إلى محرابه في البيت، فجعل يبكي ويبكي، بعض الناس الآن إذا رأوا من يبكي ينكرون عليه وذلك لقسوة قلوبهم، يقول بعض الناس: لماذا هذا البكاء، هذا اصطناعي نسأل الله العافية، هذا والله قلبه قاس، ولما قسى قلبك ضربت الناس بهذا المثل، نسأل الله العفو والعافية، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا} وبعض الناس لقساوة قلبه وغروره يقول: هذا البكاء اصطناعي، لماذا هذا البكاء؟ الله أكبر!
هذا أبو بكر رضي الله عنه كان إذا قام في الصلاة كأنه عود من خشية الله، وعائشة تقول: لا يقدر أن يصلي ومعنى كلامها لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عنه في حال مرضه قالت: إنه لا يقدر أن يقرأ القرآن، أو كما قالت رضي الله عنها، فهذا أبو بكر رضي الله عنه، لكن هذا لا يأتي إلا عن قوة الإيمان.
كذلك عمر بن الخطاب كان في وجهه خطان أسودان من البكاء، عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه الذي ما سلك فجاً -أي: طريقاً- إلا وسلك الشيطان طريقاً آخر، الذي بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصر أحمر في الجنة.
وهاهم السلف الصالح يبكون ويتباكون عند قراءة القرآن، عمر بن عبد العزيز كان يجمع من حوله العلماء يقرءون القرآن ويتذاكرون الجنة ويبكون كأن بينهم جنازة، ونحن إذا رأينا أحداً يبكي أنكرنا عليه وقلنا: هذا بكاءٌ اصطناعي!
أما أن بعض الناس يغشى عليه أو يسقط، فهذا البكاء والتباكي لا ينبغي عند سماع كتاب الله عز وجل وعند سماع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووجد من السلف مَن إذا حدث بأحاديث الرسول جعل يبكي رضي الله عنه، ونحن الآن إذا دخل الشوط الأول أو الشوط الثاني سقط بعض الناس مغشياً عليهم، ولا ننكر عليهم نقول: يا سلام هذا يشجع، هذا بطل!! نعم.
هذا هو البطل الذي يغشى إذا دخل الشوط الأول والشوط الثاني، لكن إذا بكى أحد من خشية الله نقول: هذا اصطناعي!! فهل فتحنا قلوب الناس حتى نرى هل بكائهم هذا اصطناعي أو حقيقي؟ لا.
كذلك تكملة لحديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما دخل بيته بعد صلاة العشاء جعل يبكي في محرابه، فجعل أهله يبكون معه وهم لا يدرون لماذا يبكي! فسمع الجيران البكاء فبكوا، ماذا حصل؟ غلب الفريق الثاني أم دخل الشوط الأول؟! قال عمر بن عبد العزيز: لا.
تذكرت منصرف الناس يوم القيامة، فريق في الجنة وفريق في السعير فجعلت أبكي، الله أكبر! صحيح هذا هو الذي يبكى له، نعم يا أخي ينبغي لنا أن نبكي ونتباكى عند سماع كتاب الله عز وجل، ولكن من يحصل له ذلك؟ هذا لا يحصل إلا لنادر من الناس.
نسأل الله أن يلين قلوبنا القاسية، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] هذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الثالث الراشد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه رسول الله: {كيف لا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة}
فينبغي لنا أن نرجع إلى الأصل إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وننظر إلى أحوال السلف الصالح رضي الله عنه حتى نأخذ منهم منهجاً نقتدي به.(18/22)
حكم البرقع
السؤال
فضيلة الشيخ هل البرقع محرم؟
الجواب
البرقع الفتنة والبلية العظمى الذي بلينا به، صحيح البرقع كانت فتحاته صغيرة لما كان الناس يستحون، لكن الآن ماذا يراد من البرقع ويقصد منه؟ تفتح فتحة واسعة حتى يتبين الخد المحمر والمصفر والمخضر، هذا هو الفتنة وهذه هي البلوى، كانت تستعمله البادية، الآن يستعمله الحاضر والبادي، لماذا لأنهم سمعوا قصيدة:
ما هديت إلا البراقع يفتنني
نسأل الله السلامة، ولكنا نمشي وراء كل زاعق وناعق -نسأل الله العافية- هذا لا ينبغي لنا، ينبغي للإنسان أن ينهج منهج السلف الصالح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عليكم -يخاطب الأمة الإسلامية جميعاًَ وليس الصحابة فقط- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ} أتدري ما هو برقع السلف الصالح؟ كانت تفتح ثقباً صغيراً حتى ترى الطريق فقط، ليس مثل اليوم توسع الفتحة حتى يظهر الخد وتظهر العينان نسأل الله العفو والعافية، أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.(18/23)
حكم قص شعر المرأة
السؤال
ما حكم قصة المرأة؟
الجواب
المرأة إذا قصت رأسها متشبهة بأعداء الإسلام أو كانت متمثلة أو متشبهة بالمغنية أو بالممثلة فهذا حرام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليس منا من تشبه بغيرنا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: {لا تشبهوا باليهود والنصارى، لا تشبهوا بالمجوس} وكذلك هذا أذكر به الذين يحلقون لحاهم أن رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اعفوا اللحى، اكرموا اللحى، أرخوا اللحى لا تتشبهوا باليهود والنصارى، لا تتشبهوا بالمجوس} فإن حلق اللحية من التشبه بالنصارى والمجوس أسأل الله العفو والعافية.
فإذا كانت القصة هذه تشبه بأعداء الإسلام فهي حرام.(18/24)
صفات الميزان
السؤال
فضيلة الشيخ: جزاك الله خيراً على هذه الموعظة، ولقد ذكرت الميزان فما صفة هذا الميزان، وهل هو مثل ميزان الدنيا أم أننا لا نعرف صفته؟
الجواب
هذه من الأمور المغيبات، ينبغي للإنسان أن يؤمن بها كما جاءت في الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:9] وقد ورد في ذلك أقوال للعلماء رحمهم الله، لكن إذا كان القول صادراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على العين والرأس، أما قول البعض فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تؤمن بكل ما ذكره الله عز وجل وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.(18/25)
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
نريد أن نكون متعاونيين على البر والتقوى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا صحيح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وقد عده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حثت عليه نصوص الكتاب والسنة، فالله عز وجل يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:11] بماذا؟ بأكل المفطح؟ أم رصيد البنوك والكادلك والمزيل وما أدراك؟!! لا.
أو بسكن القصور؟ لا.
لماذا؟ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] إذا أتينا بهذه الشروط الثلاثة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله؛ كنا خير أمة أخرجت للناس، أما إذا ضيعنا هذا فقد ضيعته أمة قبلنا ولعنهم الله على لسان أنبيائهم كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] لماذا؟ {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] فلذلك لعنهم الله عز وجل، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كلا.
والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ويلعنكم كما لعنهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم رسم لنا الطريق الذي نسير عليه في تغيير المنكر، فقال صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} -نسأل الله العفو والعافية- فينبغي لنا أن نتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر.
حباً لأخيك، مره بالمعروف وانهه عن المنكر حتى تنقذه من عذاب الله بإذن الله يوم القيامة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي رضي الله عنه ويقسم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
فعليك بالدعوة إلى الله عز وجل برفق ولين بدون مداهنة، المداهنة ما هي؟ التي يفعلها البعض من الناس الآن؟ يقول بعض الناس: أنا أريد أن أكون داعية آتي إلى العصاة وألعب معهم ورقة، وأسمع عودهم وأشم الشيشت الذي معهم، هل هذا داعية يا إخواني؟ لا.
هذا منحط نسأل الله العافية.
الداعية هو الذي يبغض هذه الأشياء، نعم.
تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، تبين لهم أن هذا حرام، وهذا حلال، وهذا لا ينبغي والسلام عليكم، إن قبلوا فالحمد لله، وإلا فقل: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، أما كونك تجلس معهم تسمع الأغاني، حتى إن بعض الذين يقولون بهذا بدءوا الآن يشربون الدخان:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً: {مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير} فكيف بك يا أخي؟ هل أنت أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
لا.
لست أعلم، لكن عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر على بصيرة، كما قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] على بصيرة، على علم ونور، أما كونك تجلس مع الذين يغنون، وأهل التمثيليات والأفلام، ومع أهل البلوت والكنكان، وتقول: أدعوهم إلى الله! فهذه دعوة ليست صحيحة، هذه مداهنة والعياذ بالله.
واسمع ماذا حل ببني إسرائيل: كان الرجل يأتي ويقول لأخيه: اتق الله لا تفعل كذا وكذا، اتق الله، ثم لا يمنعه من الغد أن يكون جليسه وأكيله وشريبه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم كما سمعتم في الآية.
فينبغي لنا أن نكون على علم وبصيرة يا أخي، لا نفتح الباب للشيطان، فالشيطان له أبواب، وهو سياسي، إذا عجز عنك عن طريق المعصية، جاءك من طريق الطاعة، تركك توسوس وتسرف حتى تهلك والعياذ بالله، فاحذر! اعبد الله على نور وعلى بصيرة وعلى هدى، لماذا سمى الله عز وجل النصارى ضالين؟ لأنهم يعبدون الله على جهل وضلالة، نعم.
كن على نور وعلى هدى وعلى برهان من الله عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] إن قبلوا وإلا قل السلام عليكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وتوكل على الله لا تجلس معهم يا أخي.(18/26)
نصيحة للمدرسات
السؤال
نرجو أن توجه نصيحة لبعض المدرسات والطالبات اللاتي يطلبن من الطالبات إحضار مجلات فيها الكثير من المنكرات، والغرض أنه يرد فيها عمل مدرسي مثل طبق معين أو غير ذلك، نرجو توجيه نصيحة بذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
بينت في ذلك أن المجلات كلها مضرة.
فأولاً: ينبغي للمدرسة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحافظ على هذه الأمانة، وهذه هي فلذات أكباد المسلمين، وفتيات المسلمين تحافظ عليهن وتدعوهن إلى الله عز وجل، وتبين لهن طريق الخير وتنهاهن عن طريق الشر، تحذرهن من السفور ومن إبداء المفاتن والزينة للأجانب، وتحثهن على الحجاب الذي حث الله عليه في كتابه وحث عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.
وهذا المجلة: إذا لم يكن فيها كلام يضر العقيدة والأخلاق؛ فإنه ينبغي للطالبة أن تأخذ معها قلم أسود أو أي قلم، وتطمس على هذه الصورة كما قال صلى الله عليه وسلم لـ علي وعلي قال لـ أبي الهياج: {ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها} فإذا طمست الصورة فعند ذلك لا بأس، فإذا لم يكن في المجلة كلام يضر العقيدة والأخلاق والآداب، أما إذا كان فيها ما يضر بالعقيدة أو بالآداب أو الأخلاق فلا خير فيها.(18/27)
حكم مصافحة الأجنبية
السؤال
هل مصافحة المرأة الأجنبية حرام؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تصافح الرجل الأجنبي، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما بايع النساء ما صافح امرأة منهن، فينبغي للمرأة أن تحذر من هذا الخطر العظيم، وبعض القبائل عندهم عادة أخرى وهو أنه يقبل امرأة أخيه أو امرأة خاله أو امرأة عمه، وهذا لا ينبغي، هذه ليست من المحارم بل هي حرام عليك، اتق الله عز وجل ولا تقل هذه عاداتنا، هذه تقاليدنا، بل اضرب بعاداتك وتقاليدك عرض الحائط إذا كانت تخالف هدي الكتاب والسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم لماذا بعثه الله؟ ولماذا أنزل معه الكتاب؟! ألم يبعثه ليخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور؟ ليخرجها من الجهل إلى العلم؟ ليخرجها من الكفر إلى الإسلام؟ فينبغي للإنسان أن يتقي الله عز وجل، لا يصافح المرأة الأجنبية، ولا يقبلها إلا إذا كانت أمه أو أخته، كذلك بعض الناس يقبل الخد مع الفم، فلا ينبغي ولو كانت أمك أو أختك، فقبل مع الرأس تكريماً وصافح الأم والأخت والبنت أما غيرها فلا ينبغي لك أن تصافحها، أما زوجتك فقبلها، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.(18/28)
حكم الاجتماع عند أهل الميت
السؤال
فضيلة الشيخ عبد الله الحماد: إننا نحبك في الله، وبعد: فإن بعض الناس إذا مات الميت اجتمع أقاربه في بيته، ثم جلبوا معهم جيرانهم ووضعوا لهم وليمة فهل هذا حلال أم حرام، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا لا ينبغي، هذا يعتبر من النياحة، يقول الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: [[كنا نعد هذا من النياحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم]] الاجتماع على هذه يكون من النياحة والعياذ بالله.
فينبغي لنا أن نبتعد عن هذا، والتعزية أن تعزي أخاك: {من عزى مصاباً في مصيبته فله مثل أجره} والتعزية: أحسن الله عزاءك وجبر الله مصيبتك، وتدعو له بالدعاء وتخرج، أما كونك تجلس، وبعض القبائل تضرب الخيام الأيام الطويلة ويأكلون ويشربون، فهذا لا ينبغي، هذا فيه مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عليه السلف الصالح.(18/29)
أهوال يوم القيامة
لقد حذر الله تعالى من الاغترار بهذه الحياة الدنيا، وحذر من الركون إليها والانغماس في ملذاتها، فكم هم الذين صرعتهم الدنيا وأردتهم المهالك، والمسلم عليه أن يتذكر ما يقدم عليه من أهوال القيامة العظام، من طول الوقوف في شدة الحر، وعظيم الغبن، وأن يحذر من السيئات ويخاف من المؤاخذة بها.(19/1)
الإيمان باليوم الآخر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزنا بطاعتك, ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم ارزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً خالصاً لوجهك الكريم, وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام, وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعاً في دار السلام، في جنة الفردوس الأعلى إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله: إن موضوعنا الليلة وهو موضوع خطير, وعظيم, يحتاج إليه كل إنسان يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره, يحتاج إليه كل إنسان حتى يكمل إيمانه؛ لأنه الركن الخامس من أركان الإيمان, وهو اليوم الآخر.
ولما سأل جبريل عليه السلام نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام فأخبره بها, وسأله عن أركان الإيمان فقال له: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره}.
أيها الإخوة: لقد خلقنا الله جلَّ وعلا في هذه الحياة لأمرٍ عظيم وهو عبادته، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] خلقنا الله جل وعلا في هذه الحياة, ثم نعيش ما قدر الله لنا من العمر, ثم يأتينا هادم اللذات، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول الله في آيات أخرى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] هذه الدنيا -يا عبد الله- التي سببت لنا قطيعة الأرحام, والجفاء والبغض للإخوان, والتفريق بين الجيران، هذه الدنيا التي صارت أكبر همنا, فأضعنا لأجلها الصلوات, وفوتنا تكبيرة الإحرام التي هي خير من الدنيا وما فيها, ثم بعد ذلك يهجم علينا هادم اللذات، وينقلنا من هذه الدار إلى دار البرزخ في القبور.
فيا أخي المسلم: كلنا سوف ينزل به هادم اللذات، ولكنه نزول متفاوت فمنا من تستقبله ملائكة الرحمة بالتحية والسلام والبشرى من رب العالمين, ومنا من تستقبله ملائكة العذاب بالتهديد والوعيد لما أمامهم من سخط الله عز وجل, ثم نمكث في القبور ما كتب الله عز وجل لنا أن نمكث.(19/2)
حقارة الدنيا وذم الاغترار بها
وقبل أن نغادر هذه الحياة الدنيا نبين لك ما فيها من العيوب, وقد جمعت لكم كلمات كلكم يعرفها، ولكن من باب التذكير امتثالاً لقول رب العالمين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
إن الأجل منا قريب لا شك في ذلك, ولكننا اشتغلنا بالدنيا الدنيئة, فأشغلتنا عن الاستعداد لما أمامنا؛ فتركنا العمل وسوفنا بالتوبة، وكأننا لم نسمع ولم نقرأ قول الحق جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:1 - 4] وكأننا لم نسمع قول الله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ولكن الفرق -يا عبد الله- في الآخرة: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
ولنلق الأسماع لكلام ربنا، الذي نسمعه دائماً مرات وكرات، يحذرنا ربنا جل وعلا، ألا نغتر بهذه الدار الفانية فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
وكما حذرنا الله جل وعلا في كتابه من الاغترار بالدنيا؛ فقد حذرنا أيضاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في صائف فرفعت له شجرة فقال تحت ظلها -أي: نام تحت ظلها وقت القيلولة- ساعة ثم راح وتركها} ويقول صلى الله عليه وسلم لتلميذ من تلاميذه: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} فيقول هذا التلميذ: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وخذ من صحتك لمرضك, ومن حياتك لموتك]] ويقول في حديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} وهذا فيض من غيض مما جاء في ذم الدنيا التي سلبت عقولنا وأخذت أوقاتنا, وما جاء في حقارتها والتحذير من فتنتها, والتنفير من الانغماس في ملذاتها, ومن الاغترار بزخارفها البراقة التي أعْمَتْ الكثير عن الطريق القويم, وشغلتهم عن طاعة الله جل وعلا حتى جاءهم الأجل وهم في غيهم يعمهون.
وقد ذمهم الله تعالى بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وهل وجدنا أولئك؟ نعم لقد وجدناهم اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلوات, وإن ماتوا من غير توبة فموعدهم غياً, والغي هو وادٍ في جهنم.
فيا عباد الله! إن العاقل من يتعظ بغيره ممن صرعتهم الدنيا وأوردتهم المهالك؛ حتى إذا هجم على أحدهم هادم اللذات قال: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فماذا يقال له؟ {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(19/3)
أهوال اليوم الآخر
ثم تنتهي هذه الدنيا وننتقل منها إلى القبور، ثم ينفخ في الصور لقيام العباد ليوم القيامة، يقول رب العزة والجلال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70].
وقد ذكر هنا النفخة الثانية, وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت هو ملك الموت, وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء, قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ثم يقول جل وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] فقد زالت الملوك وزالت الرؤساء والأمراء, وبقي الواحد القهار ثم يكون أول من يقوم إسرافيل, فيأمره أن ينفخ في الصور نفخة أخرى, وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: أحياءً بعد أن كانوا عظاماًَ ورفاتاً, صاروا أحياءً ينظرون إلى أهوال يوم القيامة, وما يكون فيه من الأمور العظام قال سبحانه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14] كل هذه الأهوال سوف تحصل في ذلك اليوم الرهيب الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع فيه الحوامل حملها, وتشيب فيه الولدان، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.(19/4)
الوقوف الطويل في أرض المحشر
يقول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض}.
أيها الإخوة في الله: إنه موقف عظيم طويل, يقول فيه رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم} وفي ذلك اليوم العظيم وفي أرض المحشر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل, فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه, ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً} وفي ذلك اليوم العظيم يقول صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله}.
أيها الشاب: اغتنم فرصة العمر, اغتنم فرصة الشباب، ولا يفوتك هذا الفضل العظيم, فإن الناس قد نزلت عليهم الشمس مقدار ميل, وهؤلاء السبعة تحت ظل عرش الرحمن {شاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين} فلا يتكبد المشاق ويذهب ثمان ساعات عن طريق الجو ليبحث عن الشر والفساد, أين هذا من ذاك؟! فإن هذا إن مات على المعصية هذه "الزنا" فإن موعده تنور أسفله واسع وأعلاه ضيق, ويأتيه لهب من تحته يرفعه ذلك اللهب, حتى إذا أشرف على الخروج سقط في ذلك التنور, هذا للزاني, أما الرجل الذي يقول لما عرضت عليه هذه المرأة ذات المنصب والجمال والحسب: إني أخاف الله رب العالمين, يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه} فلا ينفق للرياء ولا للسمعة, ولا ليقال: فلان كريم وجواد, وإنما ينفق يبتغي بذلك وجه الله: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه}.
عباد الله: اغتنموا الأعمار لعلكم تحوزون على هذا الفضل العظيم، وتكونون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.(19/5)
انشغال الناس بأنفسهم وإنطاق الجوارح
تفكر -يا عبد الله- في ذلك اليوم العظيم, يوم القيامة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها} في ذلك اليوم الرهيب تذهل كل مرضعة عما أرضعت، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] انظر إلى الأم الحنون التي تحنّ على طفلها الصغير, تفارق هذا الطفل في ذلك اليوم العظيم, الطفل الذي لو تأخر عنها بضع دقائق لاشتغل قلبها وفكرها حتى يرجع إليها, ففي ذلك اليوم العظيم تنسى هذا الطفل, وتضع الحوامل ما في بطونها من الأجنة لهول ذلك اليوم العظيم.
أتدري ما ذلك اليوم يا عبد الله؟ قال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17] انظر إلى هذا الطفل الصغير الذي رأسه أسود يجعله أبيض من شدة الهول والجزع.
يوم القيامة يوم ينقلب فيه العالم ويتغير، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم القيامة يوم تخرس فيه الألسن وتنطق فيه الجوارح فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم, ونعوذ بالله من الفضيحة على رءوس الأشهاد فتقول اليد: أنا سرقت وتقول الأذن: وأنا استمعت إلى الحرام وتقول العينان: وأنا نظرت إلى الحرام وتقول الرجلان: وأنا مشيت إلى الحرام ويقول الفرج: وأنا فعلت كذا وكذا اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة, إنه يوم عظيم يا عباد الله!(19/6)
نصب الميزان للحسنات والسيئات
ثم ينصب الميزان، وتشخص الأبصار، ولسان الميزان إلى جانب الحسنات أو إلى جانب السيئات يقول الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] ولا تثقل بالملايين أو بالمليارات أو العقارات، لا.
بل بالحسنات أو السيئات {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:102 - 104].(19/7)
تطاير الصحف واجتياز الصراط
ثم بعد تلك المواقف العظيمة يعطى كل إنسان كتاباً يقرؤه، وفيه إما الفرحة والسرور أو الندم والخزي, فمن أخذ كتابه باليمين فهنيئاً له الرضا من رب العالمين, ومن أخذه بشماله فيا لها من ذلة وندامة!
ثم تفكروا في الصراط الذي يؤتى به فيجعل يبن ظهراني جهنم، ويمر الناس عليه، وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعلى الصراط خطاطيف مأمورة, فمن الناس من ينجو، ومنهم من يخدش, ومنهم الموبق بعمله.(19/8)
شفاعة الرسول لأهل المحشر
وفي ذلك اليوم العظيم يحتاج الناس إلى من يشفع لهم عند ربهم جل وعلا, فينطلقون يلتمسون الأنبياء والمرسلين لعلهم يشفعون, فإذا بكل رسول منهم يقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى فلان, حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها يقول صلى الله عليه وسلم: {فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعط, اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي أمتي} فينبغي للمسلم أن يكثر من الثناء على الله عز وجل أن جعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم يثني على الله أن جعله من أمة الإجابة الذين أجابوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم, ويسأل الله عز وجل أن يجعله من أمة محمد الذين أطاعوه, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}.
قال صلى الله عليه وسلم: {فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب, ثم يقول صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى}.(19/9)
ورود حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم
ثم تذكروا -يا عباد الله- حوض نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً, ولكن هذا الحوض سوف يُرد عنه أناس؛ لأنهم نكصوا على أعقابهم وغيَّروا بعده صلى الله عليه وسلم, وما أكثرهم في كل زمان, فالله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7] فلنتقِ الله يا عباد الله! وننتهي عن المناهي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد نهانا عن حلق اللحية فقال صلى الله عليه وسلم: {أكرموا اللحى} {وفروا اللحى} {أرخوا اللحى، وخالفوا المجوس} ويقول أيضاً في حديث رواه الإمام أحمد: {ليس منا من لم يأخذ من شاربه} وقد وقع في هذا الأمر الكثير من الناس ونهانا صلى الله عليه وسلم عن الإسبال فهو حرام, وأخبرنا -وهو الصادق المصدوق- أن من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة, وأيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل الكعبين ففي النار} والبعض من الناس يجر ثيابه وكأنه يقول: لا سمع ولا طاعة يا رسول الله!
ونهانا صلى الله عليه وسلم عن استماع الأغاني التي قال فيها: {ليكونن في آخر الزمان أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} والرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم, فتدخل تحت هذه المعازف جميع آلات اللهو, وكأن لسان حال البعض من الناس يقول: لا سمع ولا طاعة يا رسول الله! زيادة على أن نعصيك يا رسول الله! نأتي بالأفلام الخليعة والتمثيليات الشنيعة, والأغاني الماجنة، ونضعها في بيوتنا ولا سمع ولا طاعة!
ونهانا صلى الله عليه وسلم عن المسكرات والمخدرات، وقد نهى الله عنها في كتابه العظيم, ولكن البعض من الناس يستعملها، وكأنها حلال، وصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} فالبعض من الناس الآن باستعماله للمسكرات والمخدرات كأنه استحلها لكثرة استعمالها والعياذ بالله, فمن مات وهو يدمن على المسكرات والمخدرات؛ فإنه حق على الله أن يسقيه من طينة الخبال, وطينة الخبال عصارة أهل النار.
المخدرات التي قضت على المروءة وعلى الشرف، حتى إن البعض من السكارى يزني بأمه, ويزني بأخته وبعمته، وقد وُجد هذا كثيراً نسأل الله العفو والعافية, وهذا هو الذي يريده أعداء الإسلام والمسلمين, فإذا سكر المسلم أضاع الصلاة وترك الصيام، وفعل المحرمات، فربما زنى وحلف بغير الله عز وجل.
ولقد مرت على أسماعكم قصة ذكرها عثمان رضي الله عنه: أن امرأة اشتاقت إلى رجل وأرادت منه أن يفعل بها الزنا, فأدخلته في البيت وخيرته إما أن يشرب الخمر، أو يقتل صبياً عندها أو يزني بها, فاختار الرجل الخمر وهو يظن أنه أهون الجرائم, ولما شرب الخمر قتل الغلام وارتكب جريمة الزنا, فهذه عاقبة المسكرات والمخدرات.
أسأل الله عز وجل أن يطهر بلادنا وبلاد المسلمين عامة من هذا المرض الفتاك الذي فتك بالمسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله! فتك بالمسلمين إلا من رحم الله, وإني لأذكرهم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أن من مات وهو يدمن على هذه المسكرات أن الله يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار, الذي يخرج من فروج المومسات الزانيات في النار, يسقى به صاحب المخدرات والمسكرات, فالرسول نهانا عن ذلك, وكأن البعض قالوا: لا سمع ولا طاعة يا رسول الله! وما أكثر المنهيات التي ارتكبها الكثير من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله!(19/10)
إبعاد المبدلين والمغيرين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض
فإذا وردوا الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يشربوا منه تذودهم الملائكة وتطردهم عن الحوض, فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أمتي أمتي فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك} ماذا حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الآن أمور تساهل بها الكثير من الناس، وهي لعب الورق التي يسمونها البلوت والكنكان والدمنة وغيرها من الملهيات؛ التي قضت على الأوقات وقضت على الأعمال, وامتلأت صحائف الأعمال من هذه الأعمال الخبيثة، وتركوا ملك الحسنات يضع يداً على يد, وقد ذكر لنا أن بعض الشباب جلسوا يلعبون الورقة من صلاة العشاء، ولما خرج أحدهم يبول -أكرمكم الله- وإذا بالشمس قد طلعت طوال الليل وهم يلعبون الورقة! فما ظنكم بهم يا عباد الله؟ وماذا فوتوا؟
إنهم قد تعدوا الحدود التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كان صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها, وهؤلاء عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا ليتهم في حديث من حديث الآخرة، ولكنه على لعب البلوت والكنكان وغيرها من الملهيات, فهذا يشتم هذا وهذا يشتم والد هذا واستمروا في لعبهم حتى ذهبت الساعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة, وينزل رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا ويقول: هل من داعي فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وهؤلاء مصرون على لهوهم.
ومضت الساعة الخامسة ومضت راتبة الفجر، ركعتا الفجر التي هي خير من الدنيا، وهم في لهوهم, وقضيت صلاة الفجر وقرآن الفجر {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] وارتفعت الملائكة الذين يتعاقبون فينا, وعندما يسألهم الله عز وجل: كيف تركتم عبادي؟ وهو أعلم بهم فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، ولكن أولئك البؤساء جالسون على البلوت والكنكان وعلى أفلام الفيديو, فليس لهم نصيب من هذا الخير, ثم تطلع الشمس وقد ارتكبوا كثيراً من المنهيات والعياذ بالله إنها مصيبة عظمى يا عباد الله! والبعض من الناس يقول: أين نقضي أوقاتنا؟ لابد أن نغتاب أو نستمع الأغاني، أو نقضي الأوقات في الملهيات!! يا عبد الله! ما خلقت لهذا، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] يقال له: نم مبكراً, فيقول: لا يأتيني النوم, لماذا؟ لأنه اعتاد على هذه الملهيات, ويقول: أريد أن أتوب إلى الله عز وجل فماذا أصنع؟ إذا أردت أن تنام فنم مبكراً وتوضأ وضوء الصلاة، وقل أدعية النوم التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, واقرأ آية الكرسي والمعوذات وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وامسح بها سائر جسدك, ثم نم على بركة الله, فإن لم يأتك النوم فاذكر الله, وسبح الله واحمد الله، وكبر الله, فإن لم يأتك النوم فانهض وقل: يريد الله بي خيراً، فخذ كتاب الله واقرأ القرآن, فأنت مسئول عن وقتك وعمرك.
وكيف يقول المسلم: أين نقضي أوقاتنا؟! المسلم لا يسأل هذا السؤال أبداً, المسلم يكون شغله دائماً في ذكر الله عز وجل, أما سمعت الله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191] هؤلاء هم عباد الله، وهؤلاء هم أولوا الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتكفرون في خلق السماوات والأرض, لا يتفكرون في وجوه المومسات, ولا يتفكرون في الأفلام الخبيثة الخليعة التي ملأت بعض قلوب الناس، نسأل الله العفو والعافية!
فالمسلم مسئول عن وقته, ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه} أين أفنيت هذا العمر يا مسكين؟ أنت مسئول انتبه يا غافل! انتبه لا ينزل بك هادم اللذات وأنت على غفلاتك.
هذه الأمور التي ذكرتها لكم قد اقترفها كثير من الناس، فيخشى عليهم يوم القيامة إذا وردوا على حوض محمد صلى الله عليه وسلم, أن يردوا ويذادوا عنه؛ لأنهم خالفوا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم, أسأل الله أن يجعلنا على حوض نبينا من الواردين.(19/11)
انقسام الناس إلى أشقياء وسعداء
ثم بعد أن ينتهي الحساب بين العباد ينقسم الناس إلى قسمين: أشقياء وسعداء.(19/12)
عذاب الأشقياء
فأما الأشقياء فإلى جهنم التي حذركم الله في كتابه الكريم منها, فقال جل من قائل: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] ما هذه النار؟ إنها نار محرقة كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، في دار البوار, في دار البؤس والشقاء، دار العذاب الشديد, دار من تعدى الحدود وارتكب المحرمات, دار لا يسكنها إلا الأشرار من خلق الله الذين عصوا رسله ولم يمتثلوا أمره.
النار منزل أهل الكفر كلهم طباقها سبعة مسودة الحفر
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وتحت ذاك جحيم ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حر مستعر
فيها غلاظ شداد من ملائكة قلوبهم شدة أقسى من الحجر
يسحبوه إلى جهنم إذا قال الله: خذوه فغلوه, فيقول لهم: ألا ترحموني؟ فيقولون: لم يرحمك أرحم الراحمين فكيف نرحمك؟!
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة دهماء محرقة لواحة البشر
فيها العقارب والحيات قد جمعت جلودهن كالبغال الدهم والحمر
لها إذا ما غلت فور يقلبهم ما بين مرتفع منها ومنحدر
يروي لنا البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه من حديث طويل قال فيه: {ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم على واد فسمع صوتاً منكراً فقال: يا جبريل ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني، وقد بعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني, قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب}.
وعن عبد الرحمن بن مصعب أن رجلاً كان على شط الفرات فسمع تالياً يتلو قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74] فتمايل الرجل, فلما قال التالي: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] سقط في الماء فمات رحمه الله.
وعن لقمان الحنفي قال: {أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب ينادي في جوف الليل -هذا الفرق يا شباب الإسلام! هذا الفرق يا من أضاع عمره في الملهيات! - ينادي: واغوثاه من النار واغوثاه من النار فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم: يا شاب! لقد أبكيت البارحة ملأً من الملائكة كثيراً} اعتبروا بهذه الأحوال لسلفكم الصالح, فإنهم كانوا يخافون من النار, وأنتم -يا عباد الله- أما تشفقون من النار وما فيها من العذاب والنكال؟
أما تحذرون سلاسلها والأغلال؟
واعجباً لمن يقرع سمعه ذكر السعير, وهو من عذابها بالله غير مستجير!
فيا من تتعدون الحدود! ويا من ترتكبون الزنا واللواط! ويا من تشربون المسكرات! ويا من أعرضتم عن طريق الحق! ويا من تعصون الملك العلاَّم! أفيكم جلد على نار وقودها الناس والحجارة؟ أم رضيتم بأنفسكم لهذه الخسارة؟ فيا ويلاً لمن كانت النار له دار!
اللهم يا رب الأرباب! ويا مسبب الأسباب! ويا أرحم الراحمين نسألك أن تعيذنا من دار الهلكات من النار، يا رب العالمين.(19/13)
نعيم الأتقياء
عباد الله: سارعوا إلى مغفرة الله وجنته، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
اسمع يا عبد الله! حرك ذلك القلب الغافل, أخرج منه حب الفلل والقصور, وتذكر القصور العامرة، تذكر المستقبل الذي لا خراب بعده ولا دمار, تذكر إذا قيل لأهل الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:46 - 48] لا يأتي صاحب العقار ويقول: لقد اخرج لقد تمت المدة! لا.
هذا في أمان وفي جوار رب العالمين ويقال لأهل الجنة: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] أأمنتم من أمريكا والاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا التي أخذت قلوب الكثير من الناس, عندما نسوا رب العالمين وقالوا: الدول العظيمة الدول الكبيرة نسوا إله الأولين والآخرين, الذي هو قادر أن يسحقهم في طرفة عين.
فيا من خلا الإيمان من قلوبهم, والتفتوا إلى غير الله, والله إنهم ليس بأيديهم شيء يضرون به ولا ينفعون إلا بحول الله وقوته, أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ارسم هذا على قلبك -يا عبد الله- حتى يكون لديك اليقين, وغذ شجرة الإيمان، وأيقن بالله, أيقن أن القوة لله جميعاً, ثم اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بقنابلهم وصواريخهم ودباباتهم لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
وقد يقول البعض من الناس: أجل لماذا الدول بجوارنا تطحن حروباً؟ نقول: إن كنت عاقلاً فاستفت قلبك، إنهم لما أضاعوا أوامر الله عز وجل حكموا بغير ما أنزل الله أباحوا الزنا, وأباحوا المسكرات, والمخدرات, حتى إن الدولة التي نشبت فيها الحروب, قبل الحرب بأيام قليلة كانوا يفكرون أن يفتحوا شارعاً يسمونه (شارع الحمراء) وهو شارع النساء العاريات, وعجَّل الله لهم العقوبة قبل ذلك, فالحروب الآن تطحنهم ليلاً ونهاراً قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] هذا كلام الله عز وجل وهذا الدستور السماوي, فاحمدوا الله في هذه البلاد، احمدوا الله على هذه العقيدة عقيدة التوحيد, واحمدوا الله على تطبيق الحدود, فأنتم في نعمة في هذه البلاد, ولكن حافظوا على هذه النعمة لا تزول, ارجعوا إلى ربكم عز وجل, قبل أن يحل بكم ما حل بالمجاورين, إن الله عز وجل ليس بينه وبين خلقه نسباً, كل الخلق عبيده جلَّ وعلا, فمن شكر هذه النعم وأطاعه فالله سبحانه شكور حليم، ومن عصاه فهو المنتقم جل وعلا ولا تخفى عليه خافية.(19/14)
صفة نعيم الجنة
لنرجع إلى دار القرار, لنرجع إلى المستقبل, إلى دار النعيم التي ليست فيها حروب, إنما هي دار أمن وطمأنينة, يقول رب العالمين: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] من هم هؤلاء؟ لنرجع إلى كتاب الله عز وجل ونبحث عنهم, فإذا رب العزة والجلال يخبرنا أنهم هم الذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69] ماذا يقال لهم؟ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71] لماذا أورثهم هذه الجنة؟ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] بالأعمال الصالحة -يا عبد الله- بعد رحمة أرحم الراحمين, ثم يقول: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73] وهم في جنات النعيم في مقام أمين من الحوادث وغيرها، في أمان من تغير الزمان وتقلبات الحياة، في جنات وعيون، ولهم فيها من اللباس والسندس والإستبرق، متنعمين مع الزوجات من الحور العين الراضيات المرضيات الآمنات، التي لا تعرف أن تغازل الرجال بالتلفون, ولا تعرف أن تتبادل أشرطة الفيديو الخليعة، ولا لبست الأحمر والأصفر وفتنت المسلمين في أسواقهم.
إن تبرج النساء مصيبة عظيمة يا عباد الله! والمرأة التي تخرج متبرجة من بيتها وتمر بالرجال وهي متعطرة جاء في الحديث: إنها زانية, والتي تخرج من بيتها بغير إذن زوجها تلعنها الملائكة حتى ترجع نسأل الله العافية والمرأة إذا دعاها زوجها لحاجته وامتنعت لعنتها الملائكة حتى تصبح, لذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: إن المرأة إذا دعاها زوجها تلبي ولو كانت على التنور, تترك الأقراص تحترق وتأتي إلى زوجها وتلبيه, ويقول صلى الله عليه وسلم: {لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} وذلك لعظم حقه عليها.(19/15)
المحرومون من الجنة أصناف
ثم يحذر المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ويقول: {صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال من أمتي معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} كاسيات: أي: لابسة، تلبس ثوباً، ولكنه شفاف تُرى مفاتن المرأة, أو ضيق ترى كذلك مفاتن المرأة, أو الموضة الملعونة الأخيرة التي أتى بها لنا الخياطون وهي أن تشق اللباس من الجانبين وتشق عن الساقين حتى يخرج الساق والفخذ وتجد أن المسلم يعاني من الشدة ما لا يعلمه إلا الله, فإن غضَّ البصر عن الوجه وعن النحر وعن الذراعين وطأطأ برأسه رأى الثوب مشقوقاً على حد الساقين, وبعضهن على حد الفرج والعياذ بالله, وقد وجد هذا في أسواق المسلمين, وهذه مصيبة تعود على أولياء النساء وإلى الله المشتكى.
والله إن أخباراً نسمعها -يا إخوتي في الله- تحزن القلوب وتدمي العيون، ويندى لها الجبين، ولكن نستحي أن نذكرها في بيت الله عز وجل, ولا ينبغي لنا ذكر هذه الأمراض التي تفشت في المجتمع، بل نسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين مع ما ابتلي به المسلمون من السائق والطباخ, فإن بعض الناس يدخل السائق والطباخ إلى بيته، يقول لي رجل من الثقات: والله إن الطباخ جالس مع النساء في البيت, فأين الغيرة يا عباد الله؟!
أين الشيمة؟!
أين العروبة؟!
دفنها كثير من الناس, وذبحها بغير سكين, وأتى بسائق أجنبي، حتى ولو كان أقرب خلق الله لا ينبغي له أن يدخله على نسائه, لننظر إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل الخلق بعد النبيين, وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان الذي تستحي منه الملائكة, وفيهم علي بن أبي طالب، وفيهم الشجعان والأبطال، وكل الصحابة ثقات عدول رضي الله عنهم وأرضاهم, ويخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: {لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم} ولكن نأتي نحن ونقول: قلوبنا نظيفة التقوى هاهنا ونترك الزوجة تقبل الأخ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الحمو الموت} أي: أخو الزوج, فإذا تركته في بيتك وأنت لست معه فهو موت يا عبد الله؛ لأن الفتنة مأمولة, ولا تدري إلا والمرأة حامل من هذا الرجل, فما المخرج من هذه المصيبة العظمى؟ وتقول للزوجة: استقبلي الضيوف، قبليهم وصافحيهم وهذا منكر عظيم وحرام, والذي يرضى بهذا لأهله ديوث، والديوث حرام عليه الجنة, فالذي يقر الخبث في أهله حرام عليه الجنة.
ولكن -يا عبد الله- ارجع إلى هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم, وحافظ على هذه الأمانة, حافظ على هذه المرأة، والله إنك مسئول عنها بين يدي الله عز وجل؛ بإدخالك هذا السائق أو بإدخال الطباخ عليها، وأنت تخرج من الصباح ولا تأتي إلا في الساعة الثانية أو في الليل، وهذا الرجل عند نسائك وبناتك.
وأريد أن أذكر لكم مصيبة كبيرة لعل البعض يظنها صغيرة, فلما قبضوا على أحد السائقين وقال له الضابط: قف على رجلك! قال: أنا تعبان لماذا؟ يقول: أنا أفعل مع المرأة ومع البنات في البيت, يفعل بهن الزنا, ولذلك أصبح مخ الساقين فارغاً إنها مصيبة -يا عبد الله- ولكن هل ننتبه لهذا؟ والله لو ذكر لنا قبل سنين: أننا سوف نأتي بالسائقين والخدم وندخلهم في بيوتنا لما صدقنا, ولو قيل لنا: احلفوا بالله لحلفنا أنه لا يدخل بيوتنا السائق والخادم, ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون!
علام يدل هذا؟
يدل على ضعف الإيمان, وعلى أن الكثير فقد الغيرة, ودفن الشيمة, نسأل الله العفو والعافية!
وقد جاء في الحديث الصحيح -في ما معناه- أن الرجل إذا نظر في بيت الرجل فضربه في عينه وفقأها فلا شيء عليه, ولكن ما هو العمل الآن؟ إننا نأتي بالسيارة ونقول للسائق: خذ البنات واذهب بهن يشجعن اللاعبين!! وقبل أيام قليلة وفي شارع معروف اختلط الشباب مع البنات، وكل واحد يرفع يده يشجع الكرة أين الغيرة يا عباد الله؟! متى نستيقظ؟! هذه موعظة، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بها.
ونرجع إلى حديثنا وهو أن أهل الجنة منعمين فيها, أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة بمنه وكرمه وإحسانه إنه على كل شيء قدير, وأسأل الله عز وجل أن يصلح لنا نياتنا وذرياتنا, وأبشركم بخير وهو أن إمام المسلمين إمام الحرمين الشريفين -جزاه الله خيراً- سوف يمنع ثلاثة وعشرين مجلة من المجلات الخليعة, فادعوا له بالخير والسداد, واسألوا الله أن يعينه على أن يعمل بحكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وادعوا كذلك لولي عهده وللأسرة جميعاً أن يوفقهم الله لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم رعاة خير وأن يصلحنا جميعاً, فإن خير الولاة الذين يدعون لهم الرعية ويدعون لرعيتهم, فهم كذلك يدعون لكم في كل مناسبة, ويسألون لكم التوفيق ويحثونكم دائماً على التمسك بالعقيدة وبالشريعة الإسلامية, فأكرم بذلك! وادعوا لهم -جزاكم الله خيراً- أن يرزقهم الله الجلساء الصالحين الناصحين، وأن يعيننا وإياهم على طاعته, وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/16)
الأسئلة(19/17)
حكم حلق اللحية وإطالة الثوب
السؤال
أنا -ولله الحمد- مقيم للصلاة ومحافظ على الصوم، ولكني أحلق اللحية وأطيل الثوب, فأرشدنا بارك الله فيك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أولاً: أنا لست مفتياً، ولكن أذكرك بالله -يا أخي- وأسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياك على قول الحق, فالصلاة والصيام من أركان الإسلام، وبمحافظتك عليها يجزيك الله ما تستحق من فضله وإحسانه, أما حلق اللحية فكما ذكرت في الموعظة السابقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وفروا اللحى} {أرخوا اللحى} {أكرموا اللحى} وقد جاء فيها عشرة أحاديث عنه صلى الله عليه وسلم, وكل هذه الأحاديث يأمر فيها صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية, وقد صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء على أن حلق اللحية فسق, ونقص في الإيمان, فلذلك قالوا: يحرم حلقها أو نتفها أو قصها أو أخذ شيء منها, ولذلك لما وصف أحد الصحابة لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها مالئة ما بين منكبيه صلى الله عليه وسلم, ويمر يديه على عارضه.
ويذكر لي رجل كبير السن -وهو الآن مريض أسأل الله عز وجل أن يشفيه عاجلاً غير آجل, وأن يحسن لنا وله الخاتمة- يقول: كنت أحلق لحيتي, ونمت مرة من المرات -والذي يرى الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حق ولا يتمثل به الشيطان، يقول صلى الله عليه وسلم: {من رآني في النوم فكأنما رآني في اليقظة} وفي رواية: {فسوف يراني في اليقظة} - وإذا أنا بأناس مجتمعين، وإذا برجل حسن المنظر، وإذا رجل يضرب به المثل ويقول: هذا الذي يذكرونه, من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: وإذا هو يلوح بيده ويقول: لا يتبعنا حالق لحيته, يقول: فاستيقظت وأنا مرعوب, والآن إذا رأيتموه فستروه ولحيته مالئة عارضيه ووجهه، أسأل الله أن يحسن لنا وله الخاتمة.
فيا أخي! حلق اللحية أمر عظيم، ويخشى على حالق لحيته -كما قال بعض العلماء- يخشى عليه عند الموت، نسأل الله العافية.
أما إسبال الثياب فأرجو ألا تعرض نفسك لهذا الخطر العظيم وهو أن لا ينظر الله إليك يوم القيامة, فإن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء, وبعض الناس يقول: أنا لا أجر الثوب خيلاء إنما للزينة, فنقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الزينة وقال: {إن الله جميل يحب الجمال} ولكن بالشيء المعقول, قال صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر رضي الله عنه: {إزار المؤمن إلى نصف الساقين} ثم قال في الحديث الذي رواه البخاري: {ما أسفل من الكعبين ففي النار} ولا تظن -يا عبد الله- أن النار تأكل الثوب أو المشلح أو الإزار، لا.
بل تأكل اللحم، نار وقودها الناس والحجارة, فأُحذرك النار، وأدعو كل مسلم يخاف الله عز وجل أن يتوب إليه سبحانه, ويعفي لحيته امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قال الصحابة وهم حريصون على الخير: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى} فاختر لنفسك يا أخي ما تحب, وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه.(19/18)
حكم الغناء والتدخين والفيديو
السؤال
ما حكم الغناء والتدخين؟ وما حكم النظر إلى الفيديو؟
الجواب
الغناء حرام, قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] يقول ابن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل -الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: {من أراد أن يأخذ القرآن غضاً كما أنزل فليأخذه من ابن أم عبد} أي: من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وهو الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن فالتفت وإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان من الدموع, وهو الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من دقة ساقيه, إنها أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد} - يقول ابن مسعود: [[والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء, والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء, والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء]] فالغناء حرام، ولا تغتر بما ينشره دعاة السوء في المجلات، فقد قرأت في مجلة صدرت من إحدى الدول، وإذا بأحدهم وهو متخرج من جامعة فلان يسألونه عن الموسيقى فيقول: الموسيقى ما فيها شيء، نحن سنقوم إذا نفخ في الصور على صوت الموسيقى!! هؤلاء هم علماء السوء, الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {منهم تخرج الفتنة وفيهم تعود آخر الزمان} علماء السوء الذين هم في آخر الزمان أشر من تحت أديم السماء, منهم تخرج الفتنة وفيهم تعود, يقول: نحن سنقوم على صوت الموسيقى إذا نفخ في الصور!! هؤلاء هم علماء السوء، وهذه في المجلات التي غزت المسلمين, ووالله لا يأتيهم منها إلا الشر والعار والفساد, أسأل الله أن يطهر بلادنا، وأدعو لإمام المسلمين بالتوفيق والسداد حيث ألهمه الله جل وعلا ووفقه أن يمنع ثلاثة وعشرين مجلة في هذه البلاد، جزاه الله أحسن الجزاء, ووفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه, ووفق جميع الأسرة لما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير.
فالغناء حرام، وقد جاء في الحديث: {من استمع إلى قينة -أي: مغنية- صب في أذنه الآنك يوم القيامة} والآنك هو الرصاص المذاب والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل, وهو بريد الزنا فاحذر من الغناء.
وأما الدخان فقد صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء على أنه حرام, ويستدلون بقوله تعالى في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والدخان خبيث وكلنا نقر ونعترف أنه خبيث, مع أنه مضر بالصحة ومضر بالمال، إلى غير ذلك من الأضرار التي ذكرها العلماء المحققون, والأطباء المنصفون الذين ذكروا أنه السبب الرئيسي لمرض السرطان والعياذ بالله, فأحذرك من الدخان سلامة لصحتك وسلامة لنقودك وسلامة لدينك يقول بعض الثقات: إنه جالس مع والديه على السرير الأبيض ووالده في النزع الأخير, وله من العمر سبعون سنة, فقال له: يا أبتي قل لا إله إلا الله، فقال: اشعل لي سيجارة اشعل لي سيجارة حتى خرجت روحه وهو يقول: اشعل لي سيجارة! نعوذ بالله من سوء الخاتمة وبعضهم يقال له: قل لا إله إلا الله, فيقول: تتن حار تتن حار وخرجت روحه وهو يقول ذلك, وبعضهم يقال له: قل لا إله إلا الله، فيقول: بشر شارب النار بالنار, وخرجت روحه وهو كذلك, فأحذركم ذلك -يا عباد الله- وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
أما النظر إلى الفيديو فلا شك أن النظر إلى الصور الخليعة حرام, سواء في الفيديو أو في الشارع، أو أن تأتي بصورة وتلصقها على الجدار فتنظر إليها، فهو حرام؛ لأن الله عز وجل يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ولا شك أن النظر هو البريد وهو الذي يستحسن، وقد ورد في الحديث أن العين زناها النظر, فأحذرك -يا عبد الله- من النظر إلى الأفلام الخبيثة أو التمثيليات السخيفة، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.(19/19)
حكم الصلاة على تارك الصلاة
السؤال
لقد صليت على شاب لا يصلي، وإني خائف ماذا أفعل، مع أنه قد مات وهو يتعاطى المخدرات وغيرها من المعاصي؟
الجواب
العلماء رحمهم الله نهوا عن الصلاة على تارك الصلاة, فإذا كنت تعلم بذلك فأنت آثم، واستغفر الله وتب إليه؛ لأنك ارتكبت معصية، والعلماء رحمهم الله يقولون: تارك الصلاة كافر, وإذا مات على ترك الصلاة فهو يموت مرتداً والعياذ بالله, فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة, ولا يدفن في مقابر المسلمين, بل يوارى بعيداً عن البلاد, ولا يورث فيصير ماله فيئاً لبيت مال المسلمين, وزوجته إذا كانت مسلمة, فإنه يستتاب فإن تاب وإلا خلعت منه؛ لأنه كافر, والله عز وجل يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] وأنت بفعلك هذا عاص لله، فتب إلى الله عز وجل, وعلى المسلمين أن يتقوا الله عز وجل, ولا يغشوا إخوانهم المسلمين بتارك الصلاة, بل إذا مات يبينون لهم أنه تارك للصلاة, حتى يطبق فيه قول العلماء رحمهم الله.(19/20)
حكم لعب الورق
السؤال
ما حكم لعب الورقة؟ وما حكم من يجلس مع من يلعبون الورقة وهو لا يستطيع أن يغير ذلك؟
الجواب
بينا لك نبذة في عرض الموعظة, وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين -جزاه الله خيراً- أن لعب الورقة حرام أما الجالس معهم فإذا كان له سيطرة عليهم فينهاهم وإلا يبتعد عنهم؛ لأنه بجلوسه معهم لا يكون من عباد الله الذي إذا مروا باللغو مروا كراماً, فإن عباد الرحمن إذا مروا باللغو مروا كراماً, ويبتعدون, فما ظنك بهذه الورقة التي قتلت الوقت, وصار معها لغو من شتام وسباب ولعان, حتى إن بعض الرجال يلعب مع ابنه, فيقول له ابنه: انزل يا أبتي وأفعل بك!! لأنه استمر على هذه الألفاظ الخبيثة مع الزملاء، وتعود عليها ومع الأسف الشديد الآن رجال بلغوا الستين والسبعين، ومع ذلك يجلس أحدهم على هذه الورقة ويثني رجليه مع أناس سفهاء يا أخي ما بالك؟ أهل المدينة -رحمهم الله- كانوا إذا بلغ الرجل منهم أربعين سنة طوى فراشه واستعد للعبادة والله إنه منظر بشع أن ترى رجلاً عمره ستون أو سبعون سنة ثانياً لركبتيه ويلعب الورق والبلوت والكنكان, وإذا قيل له: اذهب إلى المحاضرة, قال: والله ما أستطيع أمشي من ركبتي أنا مريض! ولكن مع لعب الورقة يجلس إلى الصباح, لأن الشيطان قد أعماه عن الحق، أسأل الله أن يهدي ضال المسملين.
وهذه في الحقيقة فتكت بكثير من المسلمين, فقد ذهب الحياء منهم، فهم يجلسون على الشوارع ومعهم العود يغنون، ومعهم الورق، ومعهم الشيشة، ومعهم البلاء والجلاء في شوارع المسلمين لا حياء ولا غيرة ولا خوف, إنا لله وإنا إليه راجعون! على ماذا يدل هذا؟ إنه يدل على نقص الإيمان، وعلى أن بعض الناس مال إلى الصفر نسأل الله العافية أسأل الله أن ينمي شجرة الإيمان في قلوبنا إنه على كل شيء قدير.(19/21)
حكم مصافحة الأجانب
السؤال
هل يجوز لزوجة أخي أن تكشف وجهها لي أنا وإخواني وتصافحنا؟ وهل يجوز لأخواتي أن يكشفن وجوههن ويصافحن زوج أختي وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
قد بينت لكم أن هذا لا يجوز, والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الحمو الموت, وهو أخو الزوج وكل قريب من الزوج, فلا يجوز لها أن تكشف وجهها إلا لزوجها أو لمحارمها, ولا يجوز لها أن تكشف وجهها لأخي زوجها إلا إذا كان أخاً لها من الرضاع, أما إذا لم يكن أخاً لها من الرضاع فلا يجوز لها أن تكشف وجهها له، ولا يجوز لها أن تصافح غير المحارم من الرجال ومع الأسف الشديد أن هذا يحدث من بعض الناس، ومع ذلك يقولون: قلوبنا نظيفة وهذه عاداتنا وتقاليدنا وقد ذكرت لكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الصحابة الذين هم خير الأمة بعده صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجل مع امرأة إلا مع ذي محرم} ولما اكتتب رجل في غزوة وحجت زوجته وأخبر الرسول، قال له: {اذهب وحج مع امرأتك} اترك الغزو والجهاد في سبيل الله واذهب فحج مع امرأتك, وكن لها محرماً.(19/22)
حكم شراء المجلات الخبيثة
السؤال
ذكرتم أن ولاة الأمور منعوا المجلات الخبيثة, فهل يجوز للإنسان أن يشتري بعض المجلات التي يجدها في بعض المحلات, والنظر إليها وإدخالها بيته؟
الجواب
يجوز له إذا أراد أن يحرقها؛ لأنه بهذا يكون قد أزال منكراً, أما إذا اشتراها لينظر إلى صورة الغلاف, وإلى تلك المرأة الفاتنة التي دسها علينا أعداء الإسلام والمسلمين؛ فإنه يأثم بذلك، وهو مسئول عن نفقته عنها يوم القيامة: {وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه} فماذا ستقول لرب العالمين؟ والله لا يحب المفسدين, فاحذر -يا عبد الله- من هذه المجلات, أما إذا كنت تشتريها لتحرقها فجزاك الله خيراً، وأبشر بالعوض من الله عز وجل.(19/23)
بيان كفارة الظهار
السؤال
نشهد الله على حبك أنا كنت لا أصلي وأدخن وأستعمل المخدرات، وفي يوم قالت لي زوجتي وأنا أحبها حباً شديداً: دع التدخين، فقلت لها: أنت عليّ حرام مثل أمي إن شربته, ولكن عدت وشربته, وتبت الآن وأنا ملتزم ولله الحمد، فماذا يلزمني من قولي هذا؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه, وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, وما دمت تحب امرأتك حباً فزد على حبها أضعافاً كثيرة, لأن هذه هي التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} واحمد الله عز وجل الذي يسر لك هذه الزوجة, ولكن عليك كفارة ما دمت أنك قلت عند تركك للدخان: أنت عليّ حرام كظهر أمي, فعليك كفارة الظهار, وارجع إليها في سورة المجادلة, وهي عتق رقبة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع فإطعام ستين مسكيناً.(19/24)
حكم الجماع في نهار رمضان
السؤال
واقعت زوجتي في رمضان ثلاثة أيام، فما عليّ؟ ولا أعلم هل هو قبل توبته وقبل رجوعه إلى الله، أو بعدما هداه الله سبحانه وتعالى
الجواب
عليك كفارة وهي صيام ستة أشهر, كل شهرين متتابعين, سواء قبل التوبة أو بعدها، ما دام أنه صائم ووقع عليها وهو صائم فإنه يصوم ستة أشهر كل شهرين متتابعين, وإذا كانت هي راضية فعليها مثلك من الكفارة, أما إذا كانت غير راضية وأنت أجبرتها فالكفارة تخصك أنت, وتقضي أيضاً ثلاثة أيام غير الستة الأشهر.(19/25)
حكم الصوم بدون صلاة
السؤال
بعض الناس قد اعتادوا أنه إذا جاء رمضان سارعوا إلى صيامه, ولكنهم لا يصلون, فما حكم ذلك؟
الجواب
الصلاة ركن من أركان الإسلام, فالذي لا يصلي لا يفيده لا حج ولا صوم ولا زكاة ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر}.(19/26)
حكم خروج الفتيات لفتنة الرجال
السؤال
أنا فتاة لي زميلات نخرج إلى الأسواق لنفتن الرجال، فما هي نصيحتك لي ولزميلاتي؟
الجواب
تقدم في عرض الموعظة النصيحة, وينبغي لكن أن تتبن إلى الله عز وجل قبل أن ينزل بكنَّ الموت وأنتن على هذه الحالة, أسأل الله عز وجل أن يهديكنَّ ويصلحكنَّ, اللهم طهر قلوبهنَّ إنك على كل شيء قدير, وردهنَّ إليك رداً جميلاً, اللهم ارزقهنَّ توبة نصوحاً وجميع نساء المسلمين إنك على كل شيء قدير فعليكنَّ بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل, واحذرنَ من عواقب الأمور؛ لأن العاقبة وخيمة, كيف بك أيتها الفتاة إذا حملتي جنيناً في بطنك وأصبح عاراً عليك وعلى قبيلتك وعلى جميع من يعرفك؟ هذا ولد الزنا الذي أتت به فلانة بنت فلان! فهذا عار عظيم, ينبغي أن تتحاشي عن هذا الأمر، فتوبي إلى الله والزمي بيتكِ كما أوصى الله عز وجل نساء النبي بذلك وقال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] هذا الخطاب لنساء النبي رضي الله عنهن وأرضاهن أمهات المؤمنين, يقول الله لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى} [الأحزاب:33] وكذلك نساء الرسول في عهد الصحابة رضي الله عنهم, فما بالك بهذا الزمان الذي كثر فيه الفساد، فلا تعيني أنتِ وأخواتك على الفساد, فاتقي الله عز وجل، أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير.(19/27)
ما هو سبب عدم التأثر بالمواعظ
السؤال
نحن -يا شيخ- نسمع المواعظ، ونزور المقابر، ونرى الجنازة وهي توضع في اللحد ويحثى عليها التراب، ونعود بعد الزيارة وبعد سماع الموعظة، ونمارس حياتنا, ونعود إلى معاصينا وكأن شيئاً لم يكن، فهل من نصيحة لأصحاب هذه القلوب الميتة أو المريضة؟
الجواب
أنصحكم وأنصح نفسي -أولاً- بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل، وتدبر الآيات الكريمة، وكفى بالقرآن واعظاً, والبعض من الناس يقول: نسمع أهوال القيامة ولكن ننساها, فأذكر لك سورة قصيرة يعرفها كل إنسان جمعت أهوال القيامة, وهي سورة القارعة, فاقرأها وتدبرها فإذا ثابرت على قراءة القرآن وجعلت لك جزءاً في الصباح وجزءاً في المساء، أو عند النوم، وأكثرت من ذكر الله عز وجل، فإن الله يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] وأكثرت من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير, وسبحت الله وبحمده مائة مرة أو أكثر، وذكرت الله عز وجل مائة مرة أو أكثر، وثابرت على هذا الذكر، وأقللت من المأكولات, فإن الذي أمرض قلوبنا هو كثرة الأكل, ثم هل أكلنا هذا نقي أم غير نقي؟ فإن أكثر الناس لا يبالي في أكله سواءً كان من حلال أم من حرام، إنما الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما تعذر عليهم أخذه نسأل الله العافية, وقد وقع فينا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {يأتي زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، والذي لم يأكله يأتيه من غباره أو دخانه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فما بالك بالذين يأكلون الربا؟ وما بالك بالذين يأكلون الحرام؟ ما بالك بالذين امتلأت قلوبهم من غير ذكر الله عز وجل، هل يستفيدون بالمواعظ؟
ولكن إذا فرغنا قلوبنا، وثابرنا على قراءة القرآن وعلى ذكر الله عز وجل, وكان المأكل من حلال والمشرب من حلال والملبس من حلال؛ حتى إذا رفعنا أيدينا لربنا وقلنا: يا رب! يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك, وإذا بنا نحس بلذة, وإذا قلنا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب, نجد بذلك لذة؛ لأن المأكل حلال والمشرب حلال والملبس حلال.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا ذلك حين ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب يا رب لكن المأكل حرام والمشرب حرام والملبس حرام، قال عليه الصلاة والسلام: {فأنى يستجاب لذلك} بعيد أن يستجاب لذلك، وإلا فإن دعوته مستجابة ثلاثة لا ترد دعوتهم منهم المسافر, لكن إذا كان يأكل من حرام ويشرب من حرام ويتغذى بالحرام -والعياذ بالله- فإن الله لا يستجيب له.
فعلينا أن نفتش عن أنفسنا، عن مأكلنا ومشربنا، وليس المهم أن نملأ البطون من هذه المأكولات, المهم أن ننتقي شيئاً طيباً حلالاً, ولو أن الإنسان يأكل كفاً من تمر حلال خير له من أكل مفطحات وغيرها وهو لا يعلم مصدرها, فإن مصادر الناس -والعياذ بالله- تختلف اختلافاً كثيراً منهم من يأكل الربا، ومنهم من يغش، ومنهم من يخادع، ومنهم من يماطل، ومنهم من يأكل أجور العمال, يأتي بعمال ويضيعهم، حتى أنه وجد عامل لا يستطيع أن يمشي من الجوع، فلما سأله رجل وإذا به يبكي ويقول: منذ يومين لم أذق شيئاً, لماذا؟ قال: صاحب المؤسسة لم يعطني فلوسي.
فعلينا أن ننتقي المأكل والمشرب، وننقي قلوبنا، ونخرج منها كل هذه البدع والمحدثات, ونقبل على الله عز وجل، وسوف نجد لذلك لذة قل في الأسحار: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت, واخشع وانكسر بين يدي الله وتضرع إليه لا تفعل كما يفعل الذين يلعبون بالبلوت والكنكان ومشاهدة الأفلام والملهيات، بل خالفهم, وتضرع بين يدي الله عز وجل، وسوف تجد غب ذلك بإذن الله تعالى.(19/28)
حكم مجالسة من لا يصلي
السؤال
هل يجوز مخالطة الجيران إذا كانوا لا يصلون في المسجد؟ وما هو الواجب عند ذلك؟
الجواب
أما مخالطة الجيران فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالجار فقال: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره} وقال صلى الله عليه وسلم: {والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه} أي: غوائله وشروره, فالجار له حق عليك، ولكن إذا كان لا يصلي فانصحه وذكره بالله عز وجل, وقل له: أنا مستعد أطرق عليك الباب، وتحثه على أن يضع منبه, وترشده مرتين وثلاث وأربع، فإن أبى أن يصلي؛ فاهجره لله عز وجل ولا عليك إثم بذلك, وإن كان يجدي أن ترفعه به إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فارفع به، بعد أن تنصحه وتعظه مرتين وثلاث وأربع, فإذا لم يفده في الرابعة فارفع به إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن أصر على عدم الصلاة فلا تكلمه واهجره لله تعالى.
والحمد لله رب العالمين(19/29)
المرأة والتقليد
الرجال قوامون على النساء بما فضلهم الله عليهن، وهن أمانة في أعناقهم، يجب عليهم أن يراعوا هذه الأمانة وألا يضيعوها.
وقد عانت المرأة في الجاهلية الأولى معاناة شديدة حتى كرمها الإسلام، فعليها أن تحذر من السقوط في مستنقعات الجاهلية الحديثة، وأن تتمسك بالإسلام فإن فيه عزها وكرامتها.
وقد شرع الله لها الزينة والتجمل، ولكن لذلك ضوابط وآداباً يجب عليها أن تلتزم بها.(20/1)
معنى قوامة الرجال على النساء ولوازمها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله! ويا أيتها الأخوات في الله! حياكم الله في بيت من بيوت الله، ومع موضوعٍ يهم الجميع الرجال والنساء: التقليد والنساء.
أبدأ أولاً بالرجال الذين هم القوامون على النساء، الذين فضلهم الله عليهن بما ذكره في محكم الكتاب، يقول الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أن الرجال قوامون على النساء، أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن -أيضاً- بالإنفاق عليهن والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء، فقال تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] أي: بسبب فضل الرجال على النساء، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة، مثل كون الولايات، والنبوة والرسالة مختصة بالرجال، واختصاص الرجال بكثيرٍ من العبادات؛ كالجهاد والأعياد والجمع وبما خصهم الله به من العقل والرزانة، والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله، وكذلك خص الرجال بالنفقات على الزوجات، بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى.(20/2)
النساء أمانة في أعناق الرجال
أيها الرجال: اقرءوا قول الباري جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أيها الرجال: إن النساء أمانة في أعناقكم وسوف تسألون عن هذه الأمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب:7] فالنساء أمانة في أعناق الرجال وسوف يسألون عنها أمام الله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والرجل راع في أهل بيته، ومسئول عن رعيته}.
أيها الرجال: تذكروا متى تكون المسائلة والمناقشة، ثم تذكروا من الذي سوف يلقي عليكم الأسئلة، إنه الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، أما موعد السؤال والنقاش فهو يوم القيامة {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] اسمعوا أيها الرجال! {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فيا من أضاع الأمانة تذكروا ذلك اليوم العظيم، ومما أضاعه الرجال أن تركوا الحبل على الغارب للنساء؛ فتتوظف مع الرجال، وتختلط مع الرجال، بأعمالٍ ليس لها حقٌ بها.
ومن إضاعة الأمانة، أن بعض الرجال ترك المرأة تسافر بدون محرم، لا إله إلا الله، أين المروءة؟ أين الشيمة أيها الرجال؟ أين المسئولية التي ألقيت على أعناقكم؟ نعم.
إن بعض الرجال ترك الحبل على الغارب للمرأة أن تسافر بدون محرم، وتخالط الرجال ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن ذلك: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا مع ذي محرم}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت}.
أيها الرجال: يا من أضعتم الأمانة تذكروا الوقوف بين يدي عالم الخفيات، لا إله إلا الله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:34 - 36].
أيها الرجال: يا من أضعتم الأمانة، يا من تركتم الحبل على الغارب للنساء، يخرجن إلى الأسواق متبرجاتٍ متعطرات سافرات مفتونات، إنكم سوف تسألون عن هذه الأمانة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:3 - 7] يا من أضعت الأمانة تذكر الوقوف بين يدي الله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
أيها الرجال: تذكروا قول الجبار جل جلاله: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
أيها الرجال: يا من تفكرون بالمادة، يا من أضعتم النساء من أجل المادة؛ حتى إن بعض النساء صارت تتعذب في بعض البلدان وتمكث أسبوعاً كاملاً بدون محرم، لماذا؟ لأجل الدنيا، الله أكبر يا من أضعتم الأمانة من أجل الدنيا، تذكروا قول الرب جل وعلا: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].(20/3)
عاقبة تضييع الرجال لأمانة النساء
أيها الرجال: تذكروا يوم أن تقف المرأة بين يدي الله وتقول: يا رب خذ مظلمتي، إما من أبيها أو من زوجها أو من وليها الذي تولى أمرها وأضاعها في الدنيا.
عباد الله: اعلموا أنكم ستعرضون على محكمةٍ قاضيها الله، ولا إله إلا الله، أين المفر أيها الرجال؟ يا من أضعتم الأمانة إذا عرضتم على محكمة قاضيها الله؟ وشعارها العدل، ومحاميها العمل، وموظفوها الملائكة، وجنودها الزبانية، وساحتها القيامة، إنها محكمة عدل حسابها بالخردلة والذرة، وحكمها مشمول بالنَّصَب.
عباد الله: إنها محكمة عدل ليس فيها ضمانة، ولا كفالة ولا مراوغة ولا تأجيل ولا تضليل، إنها محكمة عدلٍ قاضيها الله.
أيها الرجال: يا من أضعتم الأمانة تذكروا من الذي سوف يشهد عليكم إذا عرضتم على محكمة قاضيها الله، إن الشهود هي: الجوارح والأعضاء والجلود، يقول الرب جل وعلا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:20 - 21].
يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! إنه أمر يحزن، إنه أمر يخيف من بعض الرجال الذين أضاعوا هذه الأمانة، وتركوا الحبل على الغارب للمرأة، تسافر وحدها، وتخالط الرجال، وتدخل الأسواق سافرة متعطرة فاتنة مفتونة، إنها -والله- سوف تكون مسائلة بين يدي أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].
أيها الرجال: إنها الأمانة التي ستسألون عنها يوم أن تقفوا بين يدي الله.
يقول ابن القيم رحمه الله جل وعلا:
ويأتي إله العالمين لوحده فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأخذ للمظلوم ربك حقه فيا بؤس عبدٍ للخلائق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع الموازين بالقسط الذي ليس يظلم
فلا مجرم يخشى ظلامة ذرة ولا محسن من أجره ذاك يهضم(20/4)
أثر الإسلام في حياة المرأة
أيتها المرأة المسلمة! إذا تولى عليك رجل اغتر بدنياه، وأغفلته حياته الدنيا عن مراعاة الآداب الشرعية والحقوق التي فرضت عليه، فلا تكوني كمثله، واتقي الله يا أمة الله! وراقبي الله يا أمة الله! إن التقليد الأعمى الذي بليت به المرأة المسلمة ما هو إلا مكر من أعداء الإسلام أعداء الفضيلة والعفة والشرف والحياء والآداب، بل أعداء العقيدة.(20/5)
حال المرأة قبل الإسلام
فيا أيتها المرأة المسلمة! اقرئي التاريخ بل اقرئي القرآن لتعلمي -علم اليقين- ما هو حال المرأة قبل الإسلام؟
لقد كانت قبل الإسلام في أتعس حالٍ، فهي مهضومة الحقوق بين صفوف الجاهلية، كسيرة الجناح، تعد في مجتمع الجاهلية كأتفه الأشياء، بل وأعظم من ذلك وأطم أنها توأد وتقتل وتدس في التراب -أحياناً- وهي حية، فهل قرأت ذلك في كتاب الله يا أمة الله؟: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9].(20/6)
المرأة في الإسلام
هكذا كانت حال المرأة في الجاهلية فجاء الإسلام، وأشرقت شمس الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأعز الله المرأة بالإسلام؛ ورفع قدرها، وصار القرآن ينوه باسمها ويناديها باسم الإيمان والإسلام، ويورثها بعد أن كانت محرومة من الإرث.
وأخبر الله جل وعلا أن المؤمنة التي تطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فتؤدي حقوق الله كما أمرها الله، فإن الله جل وعلا سوف يكرمها في جنته، فاسمعي أيتها المرأة المسلمة يقول الرب جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
يا أمة الله! اسمعي لوعد الله الكريم، حيث يقول جل جلاله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] ثم قال جل وعلا: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].(20/7)
واجبات المرأة في عصر الفتن والمغريات
وإن تساءلت -أيتها المرأة المسلمة- ماذا تعملين في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والمغريات والملذات والشهوات التي صدت عن سبيل الله، وأغفلت القلوب عن ذكر الله؟ فأجيبك يا أمة الله! بأنه ما عليك إلا أن تقومي بما أوجب الله عليك حتى تفوزي بهذا الفوز العظيم الذي لا يماثله فوز، يقول الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
أختي في الله! فكم في القرآن العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وصايا بالمرأة.(20/8)
الرجوع إلى الكتاب والسنة
أيتها الأخوات في الله! علينا جميعاً أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أقول لك: يا أمة الله احمدي الله واشكريه عز وجل على نعمة الإسلام وكوني كما أراد الله لك، وكما أراد لك رسوله صلى الله عليه وسلم، كوني غرة ودرة مصونة فعملك بدين الإسلام كله عقيدة وعبادة وأحكاماً وأخلاقاً وآداباً هو والله عزك وفخرك وسعادتك في الدنيا والآخرة.(20/9)
التمسك بالحجاب
أختي في الله! ومما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم الحجاب، يقول الرب جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] لو سألناك أختي في الله بأي شيء يعرف الإنسان؟ هل يعرف بقدمه؟ أم بيده؟ أم ببطنه؟ أم هل يعرف بظهره؟! لا.
إنما يعرف بوجهه، فلذلك أمر الرب جل وعلا بالحجاب، الله أكبر! {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] حتى لا يؤذيهن الفسقة والفجرة الذين ليس لهم همٌ إلا الإفساد في الأرض، نسأل الله العفو والعافية.
فحافظي على الحجاب والتستر والحشمة والعفة، واعلمي أن ترك الحجاب والتستر والحشمة والعفة إنما هو تقليد للكفرة نسأل الله العفو والعافية، وقد نهيت يا أمة الله عن تقليد الكفرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ليس منا من تشبه بغيرنا} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقومٍ فهو منهم}.
واعلمي يا أمة الله أن هناك فساقاً وأنذالاً وأرذالاً لا هم لهم إلا الإفساد في الأرض، فاحذري من دعاة الشر والفساد؛ إنهم يزعقون وينعقون، إنهم ينادونك أيتها المرأة المسلمة ويدعونك إلى السقوط في الهاوية، يدعونك أن تكوني ممثلة حتى يضحكوا عليك كما يضحكون على القردة، ويريدون أن يضعوا صورتك على غلاف الصابونة وغيرها، الله أكبر! حسبنا الله ونعم الوكيل! ويريدون أن يضعوا صورتك في المجلة وغيرها، إنها دعوة إلى الشر والمعاصي، يدعونك إلى الوقوع في المستنقعات الوبيئة من حيث لا تشعرين.
أيتها المرأة المسلمة! احذري من أعداء الإسلام، فإنهم يدعونك إلى الرمي بالعباءة، وتمزيق الخمار، ويدعونك إلى التفرنج والتبرج والسفور، ويدعونك إلى الاحتكاك بالرجال والاختلاط بهم في المصنع والمتجر والمكتب وغير ذلك، ويدعونك إلى ما يزعمون من الحرية والتقدم والمدنية والحضارة والمشاركة في الحياة الاجتماعية، وهذا والله هو الكذب والغش والخداع والتزوير من دعاة الشر والإلحاد والفساد؛ فكم من جرائم ارتكبت، ومن أعراض انتهكت، وحاصل ذلك الأحزان والمصائب والمآسي، بسبب السفور والاختلاط الذي دعا إليه المنحطون.(20/10)
عدم التأثر بالمتبرجات
أيتها المسلمة! رويداً رويداً ومهلاً مهلاً، لا يغرنك بالله الغرور، لا يغرنك السواد الكثير من الناس، ثم أقول لكِ: أيتها المسلمة لا تغتري بالنساء المتمردات على شرع الله وأحكامه، ولا تغتري بالمتبرجات الداعرات الماجنات السافرات المتفرنجات فلقد -والله- أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: {رأيتكن أكثر أهل النار} نعوذ بالله من النار، أعيذك بالله يا أمة الله من النار، إنهم دعاة على أبواب جهنم كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أمة الله! إن أولئك الذين يدعونك لاتباع الهوى، يدعونك إلى معصية الرحمن، إنهم -والله- أعوان الشيطان، وهكذا من اتبع هواه سوف يضل ويقع في مزالق الهلكة، يقول الرب جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
أيتها المسلمة! يجب علينا إذا أردنا أن نحوز على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال فيها: {فطوبى للغرباء} فلنكن من الصالحين المصلحين، فإذا جهل الناس فلا نجهل، وإذا عصى الناس فلا نعصي.
أختي في الله! إذا أردت العزة والفخر والشرف في الدنيا والآخرة فافعلي الواجبات، واتركي المحرمات؛ ومن المحرمات: التبرج والسفور، ولا شك أن من وسائل الزنا: التبرج والسفور، وكم نشم في بيت الله الحرام مع الأسف الشديد من كثيرٍ من النساء تأتي متعطرة فاتنة مفتونة، حتى إن الإنسان ليطوف في بيت الله، ولا يرتاح في طوافه ولا يرتاح في دعائه مما يرى من بعض النساء المتبرجات اللواتي أتين إلى بيت الله الحرام، نسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوال المسلمين إنه على كل شيء قدير، ولو علمت هذه المتعطرة ما عليها من الإثم لكفت عن هذا الإثم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا خرجت المرأة متعطرة أو متطيبة فشمها الرجال فهي كذا وكذا} يقول أبو هريرة: [[يعني: زانية]] نسأل الله العفو والعافية.(20/11)
محاذير تقع فيها النساء(20/12)
التبرج والسفور
أختي في الله! يا أمة الله! إن السفور والتبرج الذي ابتليت به الأمة في هذه الآونة الأخيرة، بعد أن دخلت علينا الموضات والأزياء والعباءات المختلفة في أشكالها، عباءة توضع على الكتف فيها تشبه بالرجال والعياذ بالله، وعباءة قد ضمت مع خصرها حتى تبين حجم المرأة، وعباءة مزركشة ومزخرفة كل هذا لأجل أن تفتن الرجال، فإنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
أيتها المرأة المسلمة! احذري أن تكوني من هذا الصنف الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلاتٌ مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} أسمعت يا أمة الله؟ إذا لم تدخلي الجنة فأين المصير؟ إنها النار التي سمعت وصفها في قوله تعالى: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
يا أمة الله! هل لك صبر على الوقوف في الشمس ولو بضع دقائق؟ هل لك صبرٌ على أن تضعي إصبعك على مصباح الكهرباء، ولو بضع دقائق؟ فكيف بتلك النار التي قال عنها الرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنها فضلت على ناركم هذه بتسعة وستين جزئا كلهن مثل حرها} هل لك صبرٌ وجلد على تلك النار التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك يجرونها}.
وقد سمعت ذلك الحديث الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ وهذا الحديث عظيم، ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى هذا الحديث نشاهده الآن في أسواق المسلمين، وفي بعض مجتمعاتهم، فإذا لبست المرأة ثوباً رقيقاً أو ضيقاً أو قصيراً أو ثوباً متعلقاً بالكتفين وهو الذي يسمى بالعاري أو ثوباً شق من اليمين والشمال حتى خرجت منه الساقان، أو ثوبٌ شق من الأمام أو الخلف، فهي فيه شبه عارية؛ فإن كان رقيقاً شفافاً فهو يصف ما تحته من العورة، وإن كان ضيقاً فهو يبين حجم المرأة، وإن كان قصيراً فلا تسأل عن فضاعة ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم إن بعض النساء في هذا الزمن تجمع شعر رأسها وتربطه في مؤخرة رأسها، فيكون في النظر لها رأسان، ثم نفكر -أخواتي في الله- من أين أتانا اسم الكعكع؟ وغيره من القصات الافرنجية؟ إلا من الكوفيرا، والكوفيرا من أين أتتنا وفيها التشبه باليهود والنصارى؟! فحسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم إنا نسألك العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
الله أكبر! من نظر إلى حال كثيرٍ من نساء المسلمين ضاقت به الأرض ذرعاً؛ لتسابقهن وجريهن وراء التقليد الأعمى، فإنا لله وإنا إليه راجعون!(20/13)
أمثلة على تغيير بعض النساء لخلق الله
يا أمة الله! لنرجع إلى الكتاب والسنة ونرى ما فيهما من التحذير من التشبه بأعداء الإسلام والمسلمين، فإن أخذنا بتعاليم الكتاب والسنة أفلحنا ونجحنا؛ فشرف أمة الإسلام وذكاؤها في الأخلاق الكريمة، والآداب الرفيعة، والفضائل العالية، وذلك لا يوجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيتها المرأة المسلمة احذري أن تغيري خلق الله، فقد حذرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ولعن من فعلت ذلك، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة}.
والواصلة والواشمة -أيتها الأخت في الله- هي: التي تصل الشعر بشعرٍ آخر، والمستوصلة: هي التي تأمر من يفعل بها ذلك.
أيتها الأخت في الله! الواشمة هي التي تقوم بالوشم، والوشم: غرز الإبرة في الوجه أو اليدين ثم يحشى فيها كحلاً أو غيره مما يظهر لونه، وبعد أن أتت هذه القنوات الفضائية المدمرة، وجد بعض النساء ترسم على يدها وعلى عمودها صورة رجل أو صورة صليب، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وأيضاً {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النامصات والمتنمصات والمتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله}.
أيتها الأخت في الله! النامصة هي التي تنقش الحواجب حتى يكون رقيقاً دقيقاً أو ربما تزيله بالكلية، وتجعل بدله تلك الأصباغ فهي ملعونة على لسان رسول الله، والتي تفعل بها ذلك ملعونة كذلك، ولقد ذكر لنا بعض المشايخ الثقات يقول: امرأة يعمل بها النمص، فتقول لها النامصة: ارفعي رأسك، اخفضي رأسك، افعلي كذا، فلما قالت لها في الثالثة: ارفعي رأسك إذا بروحها خرجت، الله أكبر! خرجت وهي تعمل النمص الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه.
اللهم إنا نسألك العافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
ثم أقول لك أختي في الله: أتدرين ما هي المتفلجة؟ المتفلجة: هي التي تفعل الفلج في أسنانها، أي تبرد من أسنانها ليتباعد بعضها عن بعض، فهذا فيه تغيير لخلق الله، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلت ذلك.
أختي في الله! نعم.
يوجد في المجتمع أيضاً من ابتليت بتقليد الغرب، الكفرة في إطالة أظفارها، أو تركيب أظفارٍ صناعية، إنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم إنا نسألك العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.(20/14)
نصائح جامعة للنساء
أيتها المرأة المسلمة! كوني خير خلفٍ لخير سلف، وكوني قدوة حسنة لأخواتك وزميلاتك، وبناتك في هذا الزمان الذي تلاطمت أمواجه بالفتن.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدال على الخير كفاعله} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً}.
أختي في الله! أختي المسلمة! احذري من البدع، واحذري من المحدثات في الدين، واحذري من التقليد الأعمى، الذي يبثه أعداء الإسلام في التمثيليات والأفلام والمجلات، والأزياء الخليعة والأغاني الماجنة الخبيثة التي ميعت الأخلاق، والتي قست القلوب.
أختي في الله! لا يخدعك الدجالون، والمزورون، ودعاة التبرج والسفور.
أيتها الأخت في الله! كوني فطنة ويقظة، وكوني على حذرٍ من دعاة الشر والفساد؛ لأنهم دعاة هدمٍ وتخريب ودمار.
اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميراً لهم يا سميع الدعاء!(20/15)
دعوة إلى التوبة النصوح
أختي في الله! ماذا بقي بعد هذه الكلمات التي فيها التحذير من أعداء الإسلام، فأوصيك بالبدار بالتوبة النصوح إلى الله عز وجل، واعلمي أيتها الأخت في الله أن الإنسان مهما عاش في هذه الحياة الدنيا فإنه سوف ينتقل منها على رغم أنفه، وسوف يهجم عليه هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فيأخذه من قصره ومنزله، ومن بين أهله وأولاده وأقاربه، ثم ينطرح جثة هامدة لا حراك فيها ولا إحساس، فماذا يأخذ معه أختي في الله؟ بالله عليك تذكري ماذا ستأخذين من هذه الدنيا؟ لمن تأخذي إلا ما عملت في هذه الدنيا، فإن كان العمل صالحاً فهنيئاً لك في روضة من رياض الجنة، وإن كان العمل خبيثاً فالأمر بعكس ذلك حفرة من حفر النار، نعوذ بالله من النار.
أيتها الأخت في الله! اعلمي أن التوبة إذا صحت بأن اجتمعت شروطها، وانتفت موانعها قبلت إن شاء الله، وإذا وقعت قبل نزول الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها، فإن الله جل وعلا يقبل توبة التائبين.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً.
الله أكبر! أختي في الله! لا يمكن للإنسان -ذكراً أو أنثى- التوبة إذا نزل به هادم اللذات، يقول الرب جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] بالله عليك -أختي في الله- هل يجاب على هذا المطلب؟ لا والله، يقول الرب جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فيا أختي في الله! بادري بالتوبة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فهذه الحالة حالة حضور الموت، فبعد حضور الموت لا يقبل من العاصين توبة، ولا من الكافرين رجوع، فقبول التوبة يرجى بإذن الله تعالى للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب قبل أن تنقطع الآمال، وتحضر الآجال، وتساق الأرواح سوقا، ويغلب المرء على نفسه، قال الرب جل جلاله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
أما الذين يستمرون على المعاصي والسيئات، ويتمادون في غيهم، فقد أخبر الله عن أحوالهم عندما ينزل بهم الموت، قال الله جل جلاله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:18].(20/16)
ترك التسويف في التوبة
أيتها الأخوات في الله! كم من إنسان يقول: سوف أتوب لكني الآن في عنفوان الشباب! فما يدري إلا وقد نزل به هادم اللذات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أختي في اللهَ! إن ملك الموت لا يستأذن على أحد، إن ملك الموت يأتي بغتة، ولا يستأذن من أحد، ولا يدخل من الأبواب، يقول الرب جل وعلا: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] فكم من إنسان أصبح معافى وأمسى ميتاً وكم من إنسان أمسى معافى وأصبح ميتاً، مجاوراً للموتى بعد ما كان مع الأحياء.
فيا أيتها الأخوات في الله! علينا جميعاً أن نستعد لهذا الخطب الفادح الذي يدخل من دون استئذان، فكم أخذ الآباء من بين أولادهم ولم يرحم بكاءهم، وكم أخذ الأم من بين أطفالها ولم يرحم صغيرهم، وكم أخذ الأطفال من بين يدي الأم والأب، إنه الموت هادم اللذات فكم فيه من الغصص والسكرات، ثم لا تنسي -أختي في الله- أين المصير بعد الموت، إنه إلى المقابر إما في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار، ثم لا تنسي سؤال منكرٍ ونكير، ثم بعد ذلك لا تنسي القيامة وما فيها من الأهوال، ثم لا تنسي الوقوف بين يدي رب العزة والجلال، حفاةً عراةً غرلاً، الرجال والنساء جميعاً، وقد خشعت الأبصار، وذلت الرقاب، لا تنسي أختي في الله ذلك اليوم العظيم، الذي قال الله عنه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
إنه ذلك اليوم العظيم الذي يشيب فيه الولدان، وتضع فيه الحوامل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتصيب الناس في ذلك اليوم من الأمر العظيم ما يدهش العقول.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم ألا يفرق جمعنا هذا إلا وقد استفدنا، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(20/17)
ضرورة التبليغ والدعوة بين النساء
ثم أقول: إنه بقي عليك -أختي في الله- أن تبلغي هذا الكلام في مجالسك الخاصة والعامة، في المناسبات بين النساء، وتتحدثي معهن بهذا الحديث، وتذكري أخواتك في الله، أسأل الله جل وعلا أن يجعلك ممن يحوز على هذا الوعد الكريم، يقول الرب جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية}.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يصلحنا جميعاً.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى يا ألله يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عليم، اللهم يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أقر أعيننا وأصلح قلوبنا بصلاح أولادنا ونسائنا، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلنا ممن يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/18)
الأسئلة(20/19)
حكم الدخان والشيشة
السؤال
بعض النساء يقلدن الرجال في الذهاب إلى الحدائق، ويشربن الشيشة والدخان، نرجو منكم توضيح هذه المسألة؟
الجواب
هذه للأسف الشديد ليست تقليداً للرجال، بل تقليداً للأرذال؛ لأن الدخان والشيشة ما يشربها إلا أناسٌ ما عرفوا حظهم من هذه الحياة، لأن الشيشة والدخان حرام، كما أفتى فيها كثيرٌ من العلماء، نسأل الله جل وعلا أن يعصم من ابتلي بهذا الدخان، اللهم من ابتلي بهذا الدخان فاعصمه يا حي يا قيوم، ودله إلى الحق يا رب العالمين، ولو علم المسلم ماذا يدفع للكفار بسبب هذا الدخان لأقلع عنه عاجلاً غير آجل، يقول بعض الإخوان ونحن في مجلس يقول: لو قدرنا أن الذين يشربون الدخان في المملكة ثلاثة ملايين، كل رجل يصرف في اليوم بكت بخمسة ريالات، فكم يصرف -يا إخواني- في اليوم؟ يصرف خمسة عشر مليوناً، اللهم سلم سلم، يعني: يومياً خمسة عشر مليوناً أليس هذا نقص يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان هذا يومياً فكيف بالسنة يا إخواني؟ كم يبلغ هذا المصروف على هذا الدخان سنوياً؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! ومن الذي يستفيد من هذه الأموال إلا أعداء الإسلام، يشترون بها الكنائس، ويشترون بها السلاح ليحاربوا بها الإسلام والمسلمين، فنسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، فمن ابتلي بهذا الدخان فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل.
ويا أمة الله! احذري أن تذهبي إلى المجالس التي فيها اجتماع مع الرجال، وقد سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.(20/20)
حكم العدسات اللاصقة بالعيون
السؤال
ما حكم العدسات اللاصقة للعيون التي تلصقها بعض النساء في عيونها بحجة الزينة؟
الجواب
إذا كانت للزينة فلا يجوز؛ لأنها تغيير لخلق الله عز وجل، أما إذا كانت للحاجة لقصر نظرها، فالضرورة لها أحكامها.(20/21)
حكم خروج المرأة بدون إذن زوجها
السؤال
ما حكم المرأة التي تخرج من بيتها من دون إذن زوجها؟
الجواب
نسأل الله العفو والعافية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة خرجت من بيتها بدون إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع}.
نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة، فنقول للمرأة: اتقي الله عز وجل، واعرفي حق الزوج واعرفي أن حقه عظيم، وإياك إياك والخروج بدون إذنه سواء للأسواق أو لقصور الأفراح أو لغيرها، فكل هذا لا يجوز، حتى ولو أمرها أبوها وأمها، لا يجوز أن تخرج بدون إذن زوجها.(20/22)
ضرورة المحرم في سفر المرأة
السؤال
رجل أرسل امرأته مع أولادها بدون محرم فما الحكم؟
الجواب
نسأل الله العفو والعافية، قد تقدم معنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم} وقال صلى الله عليه وسلم: {إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت} والحمو هو: قريب الزوج أخو الزوج، أو عم الزوج، أو خال الزوج، أو ابن عمه، أو ابن خاله ونحو ذلك، فلا يجوز أن يدخل على المرأة بدون محرم، فعلينا أن نتق الله عز وجل، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/23)
الجحيم والنعيم
إن الله سبحانه وتعالى خلق الجنة وجعل لها خلقاً، وخلق النار وجعل لها خلقاً، وحذر عباده من النار، وبشر المؤمنين بالجنة، وقد ذكر الله عز وجل وصف جنته وناره في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نعمل عملاً صالحاً يبلغنا جنته ويباعدنا عن ناره، ومن عصاه أو تكبر وتجبر فليعلم أن النار موعده.(21/1)
وصف نعيم الجنة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلوات ربي وسلامه عليه، ترك أمته على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فأكثروا عليه من الصلاة والتسليم كما أمر الله بذلك المؤمنين فقال قولاً كريماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ثم أبشروا معشر المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:18 - 20].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، اللهم اجعلنا من أهل الجنة، اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار يا أرحم الراحمين!
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، نعوذ بالله من الضلالة، اللهم أجرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إخواني في الله: إن موضوع الجنة والنار موضوع عظيم جد عظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وأول ما نبدأ بوصف ذلك النعيم الذي أعده الله لمن أطاع، وإن كنا لن نحط بذلك الوصف ولم يحط به الواصفون؛ لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر} ولكن العلماء جزاهم الله خيراً أخذوا بعض تلك الأوصاف من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيا عباد الله! سارعوا إلى الجنة دار السلام، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] نسأل الله من فضله الجنة، إي والله إنها دار السلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
قال بعضهم جزاه الله خيراً: يا عباد الله! هلموا إلى دارٍ فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها الأنهار المتنوعة، مما لذ وطاب، دارٌ جل من بناها، دارٌ طابت للأبرار، دارٌ تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، رياضها الناضرة مجمع الأتقياء المتحابين، بساتينها الزاهرة نزهة المشتاقين، خيام اللؤلؤ والدر على شواطئ أنهارها مبهجة للناظرين، فيها خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قد جمع الله لهن الجمال الظاهر والباطن من جميع الوجوه، أبكاراً عرباً أتراباً، كأنهن الياقوت والمرجان، قاصرات الطرف من حسنهن الذي قصر عن وصفه الواصفون، مقصورات في خيام اللؤلؤ والزبرجد عن رؤية العيون، إنها دار السلام، يتمتع أهلها بكرم الرب الرحيم، ينظرون بأبصارهم إلى وجهه الكريم، فإذا رأوا ربهم تعالى نسو ما هم فيه من النعيم.
ينادي المنادي في أرجاء الجنة مبشراً لأهلها بدوام النعيم سرمداً، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تناموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن يحل عليكم الكريم رضوانه فلا يسخط عليكم أبداً.
إنها الجنة دار السلام، إنها الجنة دار السلام، يتزاور فيها الأصحاب، ويلتقي فيها الأقارب والأحباب، ويجتمعون في ظلها الظليل، ويتعاطون فيها كئوس الرحيق والتسنيم والسلسبيل، ويتنادمون بأطيب الأحاديث متحدثين بنعم المولى الجليل، قد نزع من قلوبهم الغل والهم والأحزان، وتوالت عليهم المسرات والخيرات والكرم والإحسان، لمثل هذه الدار فليعمل العاملون، وفي أعمالها فليتنافس المتنافسون.(21/2)
أدنى أهل الجنة منزلة
عباد الله: سابقوا -رحمكم الله- إلى جنة لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبانها، ولا يتغير حسنها وإحسانها، هواؤها النسيم، ماؤها التسنيم، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الرحمين، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] هنيئاً لهم في تلك الدار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجلٌ يخرج من النار حبواً، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول: الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا -الله أكبر- فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟! قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقول صلى الله عليه وسلم: فذلك أدنى أهل الجنة منزلة} متفقٌ عليه.(21/3)
نفي الغل والتعب عن أهل الجنة
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً} متفقٌ عليه.
هنيئاً لهم في الجنة!
يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:45 - 48] لا يجدون في الجنة نصب وتعب، نسأل الله من فضله الجنة {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ما يأتيه صاحب العقار ويقول: انتهت المدة جدد أو اخرج.
في الدنيا -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- إما أن يكون مستأجراً ويأتيه صاحب العقار ويقول: سدد أو اخرج، وإن كان مالكاً لهذا المنزل، فإنه قد شيد هذا المنزل وتعب عليه في الدنيا، فوالله لا بد أن يخرج منه، بماذا؟
بالموت، مفرق الجماعات، ميتم الأطفال، ومرمل النساء ولابد؛ لأن هذه الدنيا دار الهموم والغموم والأنكاد والأحزان، أما الجنة فهي دار السلام يقال لهم فيها: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].(21/4)
نعيم أهل الجنة
ثم يخبر الله جل وعلا عن وصف نعيمهم في الجنة فيقول جل جلاله: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:53] ثم يخبر الله عز وجل أنهم في ذلك المكان في غاية من الأمان، فيقول جل وعلا: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
أما الدنيا: فلو لم يكن فيها إلا الموت لكفى به منغصاً يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! الموت ينغص على أهل الدنيا معايشهم، ويكدر صفوهم، الموت الذي طالما غفلنا عن ذكره، وطالما نسينا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} الموت يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! نسأل الله حسن الختام إنه على كل شيء قدير.
لكن أخي في الله: تذكر ما الذي تخرج به من الدنيا بعد الموت إذا خرجت الروح؟ هل تخرج بالأموال والعقارات والأهل؟ لا.
لا تخرج إلا بالعمل أخي في الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر وقال: {إذا مات الميت تبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله، يرجع الأهل والمال ويبقى العمل}.
أما الجنة فليس فيها موت -نسأل الله الجنة- اللهم إنا نسألك الجنة يا أرحم الراحمين!
ويخبر الله جل وعلا أيضاً بما أعد لهم في الجنة فيقول سبحانه وتعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17 - 18] ومع ذلك: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] هذه عيوب خمر الدنيا، فيه صداع وفيه نزيف، أما خمر الجنة: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] ومع ذلك أعد الله لهم في الجنة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] وأيضاً: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] وأيضاً {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] لكن بماذا حصلوا هذا؟ قال الله جل جلاله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24] ينادي المنادي في ذلك اليوم العظيم {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ:40] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
ينادي المنادي: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69] اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
أيها الإخوة في الله: بعض العلماء وصف الجنة بما ورد في الكتاب والسنة من الأوصاف، أو كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه جل وعلا: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر}.
فمن أوصاف الجنة التي وردت في الكتاب والسنة، قال بعض العلماء رحمه الله: فإن سألتم عن أرض الجنة وتربتها؛ فهي المسك والزعفران.
وإن سألتم عن سقف الجنة؛ فهو عرش الرحمن، وإن سألتم عن بلاط الجنة؛ فهو المسك الأذفر.
وإن سألتم عن حصبائها؛ فهي اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألتم عن بنائها؛ فلبنة من فضة ولبنة من ذهب.
وإن سألتم عن أشجار الجنة؛ فما منها من شجرة إلا وساقها من ذهبٍ وفضة، لا من الخشب.
وإن سألتم عن ثمارها؛ فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألتم عن ورقها؛ فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألتم عن أنهار الجنة؛ فكما وصفها الله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وإن سألتم عن طعامهم وشرابهم في الجنة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] يشربون فيها الرحيق المختوم بالمسك، الممزوج بالزنجبيل والكافور.
وإن سألتم عن تلك الآنية التي يشربون بها؛ فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألتم عن عدد أبواب الجنة؛ فأبوابها ثمانية، وإن سألتم عن سعة أبوابها؛ فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام.
وإن سألتم عن تصفيق الرياح لأشجار الجنة؛ فإنما تستفز بالطرب لمن يسمعها.
وإن سألتم عن ظلها؛ ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السير في ظلها مائة عام لا يقطعها.
وإن سألتم عن خيامها وقبابها؛ فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام.
وإن سألتم عن ارتفاعها؛ فانظروا إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار، والجنة درجات، وما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، الله أكبر!
وإن سألتم عن لباس أهل الجنة؛ فهو الحرير والسندس والإستبرق.
وإن سألتم عن حليهم في الجنة؛ فالذهب والفضة.
وإن سألتم عن فرشهم في الجنة؛ فبطائنها من إستبرق، مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألتم عن أرائكها؛ فهي الأسرة عليها المشْغَامات.
وإن سألتم عن وجوه أهل الجنة وحسنهم؛ فهي على صورة القمر ليلة البدر.
وإن سألتم عن أبناء أهل الجنة؛ فأبناء ثلاثة وثلاثين على صورة آدم أبي البشر.
وإن سألتم عن سماع أهل الجنة؛ فهم يسمعون فيها غناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب رب العالمين.
وإن سألتم عن مطايا أهل الجنة التي يتزاورون عليها؛ فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاءوا من الجنان.
هذه بعض أوصاف الجنة، واسمع إلى هذا الخبر من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يقول لأهل الجنة -اللهم اجعلنا نسمع هذا منك يا رب العالمين! يا أكرم الأكرمين! يا أجود الأجودين! -: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً}.(21/5)
أول زمرة يدخلون الجنة
يقول صلى الله عليه وسلم: {أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكبٍ دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة -يعني عود الطيب- أزواجهم الحور العين، على خلق رجلٍ واحد على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء} متفقٌ عليه، وفي رواية للبخاري ومسلم: {آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يُرى مخ ساقيهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرةً وعشياً}.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى.
والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين}.
إنها الجنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقاب قوس في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس أو تغرب} متفق عليه، الله أكبر! {لقاب قوس في الجنة} مقداره متر ونصف كما قال بعض العلماء.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهليهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً}.
اللهم إنا نسألك الجنة يا أكرم الأكرمين! يا أجود الأجودين!(21/6)
وصف غلمان الجنة وحورها
وإن سألتم عن غلمانهم الذين يخدمونهم في الجنة؛ فولدانٌ مخلدون كأنهم لؤلؤٌ مكنون.
وإن سألتم عن عرائسهم وأزواجهم في الجنة؛ فهن الكواعب الأتراب التي جرى في أعضائهن ماء الشباب، كأن الشمس تجري في محاسن وجهها إذا برزت، وكأن البرق يضيء من بين ثناياها إذا ابتسمت، يرى وجهه في صحن خدها، ويرى مخ ساقيها من وراء اللحم من حسنها وجمالها، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما عليها، ومع ذلك لا تزداد مع طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحيض والنفاس، ومطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، قد قصرت طرفها على زوجها، لا تطمح لأحدٍ سواه، وقصر طرفه عليها، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته ومع ذلك لم يطمثها قبله إنسٌ ولا جان، لونها كأنه الياقوت والمرجان.
فيا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
اللهم إنا نسألك الجنة.
البدار البدار يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
ولا يفوت أن أذكر بعض الأخوات اللواتي جزاهن الله خيراً حضرن هذه الدروس أقول: أبشرن أيتها المؤمنات؛ فإن المؤمنة إذا دخلت الجنة فإنها تكون أفضل من الحور العين، فيا أمة الله! الله الله في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم!(21/7)
رؤية المؤمنين لربهم في الجنة
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ينادي المنادي يا أهل الجنة! إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيا على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، ويستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجمعوا هناك لم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دنيٌ- على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟
فبينما هم كذلك إذا سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه تعالى، أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة! إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه؟
فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه يقول: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكره ببعض غدراته في الدنيا، ويقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً تطهر بها قلوبنا، وتمحص بها ذنوبنا يا أرحم الراحمينّ! يا أكرم الأكرمين! اللهم اغفر لنا!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فيا لذة الأسماع لتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، وربنا جل وعلا يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] هنيئاً لأهل الجنة ما هم فيه من النعيم المقيم نسأل الله من فضله الجنة، يا أكرم الأكرمين! ويا أجود الأجودين! اللهم اجعلنا من أهل الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين!(21/8)
الأعمال التي تدخل العبد الجنة
إخواني في الله: إن الجنة دار الأبرار، دار من أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، فالبدار البدار! ما دمتم في زمن الإمكان، ولله الحمد مهرها يسير، وثمنها يسير ما دمتم في زمن الإمكان: توحيد الله عز وجل، وتخليص التوحيد من شوائب الشرك والبدع والمحدثات، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يحافظ على عقيدة التوحيد.
اللهم اجعلنا من المحافظين على عقيدة التوحيد؛ لأننا يا إخواني في هذه الأزمنة كثير من يدعو إلى الإخلال بعقيدة التوحيد، حسبنا الله ونعم الوكيل! أهل الشعوذة، والكهانة، والعرافين والسحرة كل أولئك يهدمون عقيدة التوحيد، نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولئك وأخبر أن من أتاهم وسألهم لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديينا.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أتاهم وسألهم عن شيءٍ فصدقهم فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم احذروا من أولئك الكهنة والعرافين والمنجمين والمشعوذين، الذين همهم دمار العقيدة نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم.
وأيضاً يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إذا حققتم التوحيد فالله الله! في اتباع هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي بشر أمته، فقال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} وقد حذركم وقال: {إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}.
ومن الأعمال التي توصل إلى الجنة: المحافظة على الصلاة، فمن حافظ عليها فليبشر بأعلى درجات الجنة، التي حث على طلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة}.
يقول ربنا جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] الله أكبر! الفردوس يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الأعمال التي توصل إلى الجنة؛ أداء الزكاة، وكثرة النفقات والصدقات والصيام، والحج يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! من الأعمال التي تدخل الجنة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والمساكين.
واعرف وقتك -يا أخي في الله- فالوقت ثمين، عليك بقضاء هذا الوقت بما يقربك من الله جل وعلا ما دمت في زمن الإمكان، واعلم أنه والله! ثم والله! سوف يأتيك يومٌ من الأيام تنتقل من هذه الدار وتتمنى التزود من الأعمال وهيهات هيهات! يقول الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث} الله أكبر! بماذا يكون انقطاع العمل؟
بالموت يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فالبدار البدار قبل أن يهجم هادم اللذات، قبل أن يهجم مفرق الجماعات، قبل أن يهجم ميتم الأطفال ومرمل النساء، الموت الموت يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! قال صلى الله عليه وسلم: {إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم وهدايتهم واستقامتهم يا رب العالمين!(21/9)
وصف النار
إخواني في الله هنيئاً لمن أطاع الله فإن مأواه الجنة، نسأل الله من فضله الجنة، وأما من عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يلومن إلا نفسه، فإن مصيره إلى النار، نعوذ بالله من النار!
فإن سألتم عن تلك النار؛ فقد وصفها الجبار جل جلاله فقال سبحانه وبحمده: {نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وإن سألتم عن وصف ملابس أهل النار؛ فقد أخبر الله عنها فقال: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] وقال تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50].
إنها النار! كلما أحرقت تلك الأجسام تعاد، كما أخبر الباري جل جلاله {نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:56].
أما إن سألتم عن طعام أهل النار؛ فقد قال الله جل جلاله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46] يشتعل في بطونهم فيطلبون الشراب، بماذا يسقون؟
اسمعوا إلى وصف شراب أهل النار، قال الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] ويقول تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:16 - 17].
ومن أوصاف النار ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {يؤتى بالنار يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها}.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن نار جهنم: {ناركم هذه -ما يوقد ابن آدم- جزءٌ واحدٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! إنها لكافية، قال صلى الله عليه وسلم: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها}.(21/10)
وصف قعر نار جهنم
أما وصف قعر جهنم؛ فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: {كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة، أي: صوت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا حجرٌ أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً -يعني سبعين سنة- فالآن حين انتهى إلى قعرها}.(21/11)
طعام أهل النار
وأيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لنا طعام أهل النار بأبشع وصفٍ فيقول: {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم} الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية!
قال الحسن البصري رحمه الله: "ما ظنك بقومٍ قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أجوافهم جوعاً، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية، قد آل حرها واشتد نضجها! " إي والله كيف تعمل بهم يا إخواني؟! نسأل الله العفو والعافية، اللهم إنا نستجير بك من النار يا أرحم الرحمين!
النار النار يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وقف نبيكم صلوات ربي وسلامه عليه على المنبر يوماً من الأيام فقال: {أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار} يخاطب أفضل الخلق بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، يخاطب الصحابة رضي الله عنهم، يقول الراوي: {وكانت على عاتقه خميصة سقطت عند رجليه، حتى سمعه من في السوق وهو يحذر أمته من النار}.
يا ويل أهل النار! فقد باءوا بالخيبة والخسران، لقد حق عليهم العذاب، إنهم في نار جهنم، قد غلت أيديهم وأرجلهم إلى النواصي بالأغلال، إنهم في نار جهنم، أمانيهم فيها الهلاك، وليس لهم من أسر جهنم فكاك، يسحبون في أودية جهنم على وجوههم صماً وبكماً وعمياً، وقد ترادف عليهم العذاب.
عباد الله: تصوروا أهل النار وقد وصلت النار إلى أفئدتهم! تصوروا أهل النار وقد أطبقت عليهم النار! تصوروا أهل النار وهم يضربون بمقامع من حديد! تصوروا أهل النار وقد ازرقت عيونهم من شدة العذاب! تصوروا أهل النار وقد أحرقت وجوههم النار! تصوروا أهل النار والحيات تنهشهم، والعقارب تلدغهم! تصوروا أهل النار وقد نضجت جلودهم، وكلما نضجت جلودهم تعاد، فيا ويلهم من نار جهنم! {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] لهم فيها زفيرٌ وشهيق، قد ارتفعت أصواتهم بالبكاء يبكون على تضييع أوقات العمر في غير طاعة الله، وكلما جاء البكاء زاد، ينادون مالك كما أخبر الله جل جلاله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77].
فتصوروا تلك الدموع التي لو أجريت بها السفن لجرت، ثم يرد عليهم بعد زمان طويل: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].(21/12)
أوصاف أهل النار
فإن سألتم عن أوصاف أهل النار؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع} متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث} رواه مسلم.
وإن سألتم عن ثيابهم التي يلبسونها في النار؛ فكما سمعتم في آيات القرآن نسأل الله العفو والعافية!(21/13)
أحوال أهل النار
وإن سألتم عن أحوالهم في النار فكما وصفها الجبار: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:104 - 107] ثم يأتيهم الرد الإلهي {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ثم يرجعون على أنفسهم باللوم كما أخبر الله جل جلاله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] ومع ذلك الشيطان يخاطبهم في نار جهنم فيقول: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22].
اللهم إنا نستجير بك من النار، اللهم إنا نستجير بك من النار.(21/14)
اللحظات الأخيرة
اللحظة الأخيرة هي لحظة الوداع لكل ما في الدنيا من متع ومتاع، وأموال وضياع، وأهل وأتباع.
وتذكر هذه اللحظة والتفكر فيها يدعو إلى الزهد في الدنيا، والإقبال على الله بكل الجوارح.
ومن غفل عن هذه اللحظة أو نسيها عوقب وتضرر.
والتفكر في هذه اللحظة يدعو إلى الاستعداد للموت، والتزود لهذه الرحلة بزادها.
وبيان ذلك الزاد، وكيفية التأهب للموت والاستعداد، هو محور هذه المادة وموضوعها الأساس.(22/1)
فضائل الإكثار من ذكر الموت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراًَ.
أما بعد:
إخواني في الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
إخواني في الله! إنها اللحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان هذه الدنيا، يودع الأهل والأولاد والأصحاب والأقارب، يودع القصور (والفلل) والدور، وينتقل إلى عالم القبور.
تذكر أخي في الله بأي شيء تنتقل من هذه الدار!
قال بعضهم: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
الأولى: تعجيل التوبة.
الثانية: قناعة القلب.
الثالثة: النشاط في العبادة.
الله أكبر!(22/2)
تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على قصر الأمل
ولقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام حتى الشباب على قصر الأمل، وعلى الحذر من هذه الدنيا، فقال لـ ابن عمر رضي الله عنهما: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} ماذا قال ذلك الشاب الذي تخرج من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] هكذا رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
دخل عليه الصحابة رضي الله عنهم وقد نام على حصيرٍ أثَّر بجنبه الشريف فقالوا: {يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً لينا؟ قال: ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم قال وتركها}.
ربى زوجاته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن، فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ما وقِدَ في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار} له تسعة أبيات، فما أدراكم ما تلك الأبيات! إنها حجيرات.
نزل به ضيفٌ -صلى الله عليه وسلم- فيسأل تلك الزوجات كل واحدة يقول لها: {هل عندك شيء؟ فتقول: والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء} الله أكبر! لا إله إلا الله! أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحدة تقول: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فهذا يدلك أخي المسلم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرفع بالدنيا رأساً.
يقول رحمه الله: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
أولاً: تعجيل التوبة:
إذا ذكر الإنسان أنه سوف يموت ولا يدري متى يموت، لأن البعض من الناس مع الأسف الشديد يغتر بطول الأمل، حتى أنه ربما يربي أهله وأولاده على طول الأمل، وربنا جل وعلا يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] والبعض من الناس يربي أهله وأولاده على طول الأمل، ويحدثه بالمستقبل، لا إله إلا الله! الله أكبر! وما درى هذا المسكين أن الموت قد يختطفه إما صباحاً وإما مساءً {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
فيا من ابتلي بطول الأمل! تذكر أخي في الله تلك النُّقلة يوم أن تنقل من هذه الدنيا، من عالم الدور إلى عالم القبور، إذا تذكرت ذلك وفقك الله جل وعلا بتعجيل التوبة، تبت إلى الله، ورجعت إليه، أخذت الاستعداد والأهبة لذلك النازل ألا وهو الموت.
الأمر الثاني: قناعة القلب.
الأمر الثالث: النشاط في العبادة.(22/3)
عواقب نسيان الموت
لكن إن أصبت بهذه المصائب قال رحمه الله: ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
أولاً: تسويف التوبة: كما هو حال الكثير من الناس الآن، وتسويف التوبة بابٌ يفتحه الشيطان للعبد نعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
ذكر لنا بعض الإخوان يقول: زرنا أحد المفرطين في طاعة الله، تاركاً للصلاة؛ فقلنا له: يا فلان، ألا تتقِ الله؟! ألا تصلي؟! ألا تتوب؟! ألا ترجع إلى الله؟!
بماذا رد عليهم؟! نسأل الله العفو والعافية! قال: جدي مات وهو في مائة سنة، ووالدي مات وهو في التسعين من عمره، وأنا عمري الآن أربعون سنة، لا تكلمني عن الصلاة إلا إذا بلغتُ ستين سنة.
الله أكبر! لا إله إلا الله! ألم يقف هذا المفرط عند قوله جل وعلا: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]؟! يقول: لا تكلمني عن الصلاة إلا إذا بلغت من العمر ستين عاماً، ويخرج من عنده الإخوة وقد انكسرت قلوبهم أسفاً، فلما أصبحوا من الغد، وإذا بزملائه يعزي بعضُهم بعضاً، بوفاة فلان الذي يقول بالأمس: لا تأمرني بالصلاة إلا إذا بلغت من العمر ستين سنة، كم يبلغ من العمر؟ لم يبلغ من العمر إلا أربعين سنة ويوم واحد، وقد اقترنته المنية، لا إله إلا الله!
ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
أولاً: تسويف التوبة: سوف أتوب، إذا بلغت من العمر كذا أتوب، الله أكبر! أين الوثيقة التي تعتمد عليها أنك تموت إذا بلغت من العمر كذا وكذا؟!
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: الرضا بالكفاف.
الأمر الثالث: التكاسل في العبادات.(22/4)
كيفية الاستعداد للموت
إخواني في الله! تذكروا تلك اللحظة اللحظة الأخيرة التي تنتقلون بها من هذه الدنيا.(22/5)
كتابة الوصية من الاستعداد للموت
أخي في الله! هل استعددت لهذا النازل العظيم؟! هل كتبت الوصية؟! هل أوصيت أخي في الله؟! هل كتبت وصيتك عند رأسك كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أم هو التسويف والتفريط والإضاعة حتى إذا جاء الموت أحدهم يقول كما قال الرب جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] الله أكبر! لا إله إلا الله! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] ما هو الجواب؟ {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فلا يُجاب إلى هذا المطلب؛ لأن العمر محدود، والأنفاس معدودة.(22/6)
التوبة واغتنام الأوقات
أخي في الله! تب إلى الله عز وجل ما دمت في زمن الإمكان، اغتنم أوقات الفضائل قبل فواتها، وتأهب لما أمامك، وما أنت قادمٌ عليه لا محالة ألا وهو الموت، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث} لا إله إلا الله! ينقطع العمل بالموت، تُطْوَى صحائفُه بالموت الذي كان يسطر فيها أعماله في الدنيا، إذا نزل به الموت طويت صحائفه على ما فيها.
أخي في الله: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} أما الصلاة فقد انتهى وقتها بالموت، الصيام انتهى وقته بالموت، الحج انتهى وقته بالموت، إلى غير ذلك من الأعمال التي كان يقدر عليها يوم أن كان حياً معافىً، أما إذا مات فإنه ينقطع عمله، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(22/7)
حقيقة الموت
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:77 - 78] لا بد من الموت! لا إله إلا الله! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] الموت الذي كتبه الله على جميع مخلوقاته: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
عباد الله! استعدوا للموت، فإنه تبدُّلٌ من حال إلى حال، وانتقالٌ من دار إلى دار.
فالموت هو المصيبة العظمى، والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفَكُّر فيه، وترك العمل.
فيا عباد الله! ما هذه الغفلات والاغترار؟! وما هذا الإكباب على الدنيا وقد رأيتم تصرم الأعمار؟! وما هذا التفريط وأنتم على الآثار؟! وقد أيقنتم أن دار الفناء ليست لكم دار قرار؟!
فيا عباد الله! تأهبوا للموت الذي ما طلب أحداً فأعجزه! إي وربي، ما طلب أحداً فأعجزه! إي والله، ما طلب أحداً فأعجزه! ولا تحصن منه متحصنٌ إلا أخرجه وأبرزه! فأيُّ عيشٍ صفا وما كدَّره؟! وأي قدمٍ سعى وما عثره؟! وأي غصنٍ علا وما كسّره؟! وأي بناءٍ أشيد وما دمّره؟! وأي غافلٍ لاهٍ وما ذكّره؟! وأي ملِكٍ آمرٍ ناهٍ عالٍ وما حذَّره؟! وأي متعنتٍ جائرٍ وما نكَّسه وأصغره؟! وأي غنيٍّ ما سلب ماله وأفقره؟!
فيا عباد الله! إنه الموت، إنه الموت يأتي على غِرَّة وبدون إنذار، أما أخذ الآباء والأجداد؟! أما أخذ الشباب والأولاد؟! أما ملأ القبور واللحود؟! أما أرمل النساء، وأيتم الأطفال؟!
عباد الله! إلى متى هذه الغفلة وقد علمتم المصير؟! قال ربنا جل جلاله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].(22/8)
كيفية تذكر الموت
عباد الله! اعلموا علم اليقين أنه لا بد من السفر من هذه الدار، ومن شك في ذلك فليتذكر من سبقه من الأولين والآخرين.
وكيف يحصل التذكر؟!
الجواب
{ زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة} لا إله إلا الله! {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة} قف على قبر فلان بن فلان الذي كان يأكل معك ويشرب، ويبيع ويشتري ويعمل، أين هو الآن؟ صُفَّت عليه اللبنات، وحُثِي عليه التراب، وتُرِك في قبره وحيداً فريداًَ، لا إله إلا الله!(22/9)
قصيدة زين العابدين في وصف الموت
يقول بعضهم رحمه الله تعالى:
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍ ولا هونِ
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدُّوا في شرا الكفني
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسِّل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطنِ
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
لا إله إلا الله! إنها الحالة التي سوف تمر بنا جميعاً يا أمة محمد، فتذكر أخي في الله إذا وُضِعْت على المغسَّل، وشُقَّ الثوب ليغسلوك، ويجردوك من ملابس الدنيا التي كنت تتعب فيها.
لا إله إلا الله!
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خريرُ الما ينظفني
وألبسوني ثياباً لا كِمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
ثم بعد ذلك أين المستقر؟! إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
أين المثوى؟! لا إله إلا الله! أين النُّقْلة؟!
إلى عالم القبور، إلى بيت الوحدة، إلى بيت الغربة، إلى بيت الوحشة، إلى بيت الدود، إلاَّ من وسعه الله عليه، لا إله إلا الله!
وأنزلوني إلى قبري على مَهَلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
من ينزل معه؟! من يسكن معه في ذلك القبر الضيق؟! لا إله إلا الله! يتبعه في قبره عمله كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يتبع الميت ثلاثة؛ يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل} لا إله إلا الله!
وأنزَلوني إلى قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هُلُّوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المننِ
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخ يؤنسني(22/10)
حال المؤمن في القبر
اسمع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول صلوات ربي وسلامه عليه في الحديث المتفق على صحته: {إن العبد إذا وُضِع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، قال صلى الله عليه وسلم: يأتيه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال صلى الله عليه وسلم: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله} لا إله إلا الله! صدق الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] الله أكبر!
{ما تقول في هذا الرجل؟ قال صلى الله عليه وسلم: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً} الله أكبر! لا إله إلا الله! أما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: معنى أشهد أنه عبد الله ورسوله، معناها: تصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع.(22/11)
الذين يأبون دخول الجنة
قال صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}.
من حلق لحيته؛ فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من أسبل ثيابه؛ فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من اهتدى بغير هديه صلى الله عليه وسلم؛ فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
من أكل الربا، من تعامل بالربا؛ فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
من اقترف الزنا، من ارتكب جريمة الزنا وجريمة اللواط؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
من أوقع نفسه في وحل المخدرات والمسكرات؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
من عقَّ والديه؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
من قطع أرحامه؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
من مشى بالنميمة؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
من اغتاب الناس وأكل لحومهم؛ فقد عصى الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم.
{كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}.(22/12)
حال المنافق والكافر في القبر
ثم قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: {وأما المنافق والكافر -أي: إذا وضع قبره وتولى عنه أصحابه- فيأتيه ملكان فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين} والحديث متفقٌ عليه.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إن نهاية الدنيا، نهاية القصور والدور والفلل، النهاية فيها القبور، إلى أن يأذن الله يوم البعث والنشور؛ ليقوم الناس لرب العالمين.
فماذا أعددنا لتلك القبور يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!(22/13)
قصيدة وعظية في وصف الموت والحشر وزوال الدنيا
بعضهم وكأنه يعني أهل زماننا:
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقةً عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيبُ
ولكن علا الرانُ القلوبَ كأننا بما قد علمناه يقيناً نكذبُ
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخربُ
ونسعى لجمع المال حلاً ومأثماً وبالرغم يحويه البعيد وأقربُ
نحاسَب عنه داخلاً ثم خارجاً وفيما صرفناه ومن أين يُكسبُ
الله أكبر! لا إله إلا الله! هذا المال الذي نجمعه يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
نحاسب عنه داخلاً ثم خارجاً وفيما صرفناه ومن أين يُكسبُ
ويسعد فيه وارثٌ متعففٌ تقيٌ ويشقى فيه آخر يلعبُ
وأول ما تبدو ندامة مجرمٍ إذا اشتد فيه الكرب والرُّوح تُجْذَبُ
ويشفق من وضع الكتاب ويمتني لو أن رد للدنيا وهيهات مطلبُ
ويشهد منا كلُّ عضوٍ بفعله وليس على الجبار يخفى المغيَّبُ
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌ في الكتاب مرتبُ؟
وماذا كسبتم في شبابٍ وصحة وفي عمرٍ أنفاسكم فيه تحسبُ
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به والأمر إذ ذاك أصعبُ
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندبُ
ولله كم غادٍ حبيبٍ ورائحٍ نشيعه للقبر والدمع يسكبُ
أخٌ أو حميمٌ أو تقيٌ مهذبٌ يواصل في نصح العباد ويدأبُ
نهيل عليه التربَ حتى كأنه عدوٌ وفي الأحشاء نارٌ تلهَّبُ
وما الحال إلا مثل ما قال من مضى وبالجملة الأمثال للناس تضربُ
لكل اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ ولو بينهم قد طاب عيشٌ ومشربُ
ومن بعد ذا حشرٌ ونشرٌ وموقفٌ ويومٌ به يُكسى المذلةَ مذنبُ
إذا فر كل من أبيه وأمه كذا الأم لم تنظر إليه ولا الأبُ
وكم ظالمٍ يدمَى من العض كفه مقالته يا ويلتا أين أذهبُ
إذا اقتسمت أعماله غرماؤه وقيل له هذا دماكم فتكسبُ
وصُك له صكٌ إلى النار بعدما يحمل من أوزارهم ويعذبُ
وكم قائلٍ واحسرتا ليت أننا نرد إلى الدنيا ننيب ونرهبُ
ثم قال رحمه الله:
فحثوا مطايا الارتحال وشمروا إلى الله والدار التي ليس تخربُ(22/14)
زاد المؤمن في رحلته إلى الله
بماذا يتزود المؤمن في رحلته إلى الدار الآخرة؟
بتحقيق توحيد الله عز وجل.
بتخليصه من الشرك والبدع والمحدَثات.
بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ببر الوالدين.
بصلة الأرحام.
بالإحسان إلى الفقراء والمساكين.
بكثرة تلاوة القرآن.
بكثرة ذكر الله عز وجل.
بكثرة الاستغفار.
بكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
بالدعوة إلى الله عز وجل.
تلك الأعمال التي تجدها في رصيدك، وفي ميزان حسناتك {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المشمرين إلى طاعته ما دمنا في زمن الإمكان، ممتثلين أمر الكريم جل جلاله {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] مَن هُمُ المتقون؟
هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية؛ بفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
إخواني في الله، الله جل وعلا أمرنا بالتزود من التقوى، فقال جل جلاله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].(22/15)
الأمور التي أمر الله سبحانه بالتزود منها
ولذلك أخي في الله إذا قرأت القرآن وتصفحت آياته وجدت أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر بالتزود من هذه الدنيا إلا من أمرين:
الأمر الأول: العلم النافع:-
قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
الأمر الثاني: التقوى:-
قوله جل جلاله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
أ- فضل العلم النافع:
أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما أحوجنا إلى العلم النافع خاصة في هذه الأزمنة المظلمة، أزمنة الفتن والمغريات.
العلم النافع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} الله أكبر!
وربنا جل وعلا يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
ووعد الله العلماء بالرفعة، قال جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
إذاً، بأي شيء نتحصل على هذا العلم النافع، العلم الشرعي بعد تقوى الله جل وعلا، كما قال سبحانه وبحمده: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
إذا أردت العلم النافع، العلم الشرعي، الذي تستنير به القلوب، الذي يعرف به الحلال من الحرام، والحق من الباطل، فالله الله بتقوى الله، التزم تقوى الله، التزم تقوى الله، حتى يرزقك الله العلم النافع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} اللهم ارزقنا علماًَ نافعاً.
إخواني في الله: ثم تذكروا ذلك الفضل العظيم الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جلس يطلب العلم، قال صلى الله عليه وسلم: {ما جلس قومٌ مجلساً يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده}.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: الله الله بالعلم النافع! الله الله بالعلم النافع! تعلموا العلم النافع، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ما الذي يحصل في آخر الزمان، يقول صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من العباد، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا}.
ولقد خاف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة المضلين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم نور بصائرنا بالعلم النافع، اللهم نور بصائرنا بالعلم النافع.
ب- ضرورة تبليغ العلم بعد تحصيلة:-
أخي في الله: إذا رزقك الله العلم النافع، أيضاً مطلوبٌ منك أن تبلغ هذا العلم، قال صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} ثم أنت مسئولٌ عن هذا العلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسال عن أربع: وعن علمه ماذا عمل به} لا إله إلا الله!
أخي في الله: بلغ هذا العلم ما دمت في زمن الإمكان قبل أن توقف بين يدي الله جل وعلا، ويسألك عن هذا العلم: هل بلغت هذا العلم؟
اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً.
ثم أخي في الله: تذكر يوم أن تنتقل من هذه الدار، هل أنت ممن اقتديت بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم؟ ودعوت إلى الله جل وعلا؟ لأن الله جل وعلا يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم وقد أمره جل وعلا بهذه الدعوة التي إن سلكت سبيل نبيك محمد صلى الله عليه وسلم؛ حزت على خيرٍ كثير: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108].
إن كنت من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وترجو أن تَرِدَ عليه الحوض وتشرب منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً؛ فاقتدِ بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قال ربنا جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وما أحوجنا في هذه الأزمنة إلى الدعوة إلى الله جل وعلا.
يا من رزقه الله العلم! بلغ هذا العلم، حتى إذا جاءتك اللحظة الأخيرة فتكون قد بلغت هذا العلم مقتدياً بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا من الدعاة إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
جـ- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-
ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تقاعس عنه الكثير، ذلك الأمر العظيم الذي وَهَى جانبه، وكثر مجانبه، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي عده بعض العلماء الركن السادس لأركان الإسلام، ذلك الأمر الذي فرط فيه الكثير من الناس، وربنا جل وعلا قال في صفة هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب الأمة جميعاً، فقال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} ثم يأتي بعض الناس ويقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصٌ برجال الحسبة أو برجال الهيئة سدد الله خطاهم، ورفع قدرهم، وأعزهم بطاعته، وحفظنا الله وإياهم بحفظه، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
إن هذا الظن الذي يظنه بعض الناس أن الأمر خاصٌ برجال الحسبة، أو رجال الهيئة، هذا ظنٌ خاطئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال يخاطب الأمة جميعاً: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
وإن تقاعست الأمة وأبت إلا التخاذل، ولم تأمر بالمعروف ولم تنهَ عن المنكر، فليسمعوا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يخاطب الصحابة على المنبر صلى الله عليه وسلم، يقول: {يا أيها الناس! إن ربكم تبارك وتعالى يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجِب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أُعْطِكم} لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وما لُعِنَت بنو إسرائيل إلا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] قرئت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {كلا والذي نفس محمدٍ بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم}.
اللهم سلِّم سلِّم!
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، ونعوذ بك اللهم من جميع سخطك.
وهذه زينب رضي الله عنها تقول: {استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمرَّ الوجه يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلَّق بالإبهام والتي تليها، فقالت رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث}.
اللهم سلِّم سلِّم!
اللهم احفظنا بحفظك، وارعنا برعايتك، واكلأنا بعنايتك يا أرحم الرحمين!
قال: {نعم، إذا كثر الخبث} لا إله إلا الله!(22/16)
التناصح سبيلٌ للنجاة
أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر؛ حصلت النجاة التي وعد الله بها كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] فمن أراد النجاة فعليه أن يمتثل أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يدعو إلى الله عز وجل ثم إخوانه في الله، يتبادل النصيحة، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينصح بعضُنا بعضاً، قبل أن تحل اللحظة الأخيرة، قبل أن ننتقل من هذه الدار يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
اللهم اجعلنا من المتناصحين فيك.
اللهم اجعلنا من المتحابين فيك.
اللهم اجعلنا من المتراحمين والمتعاطفين فيك يا رب العالمين!
الله أكبر! إذا حصل هذا حصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن وصف المجتمع المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان، وشبك بين أصابعه}.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العُلا؛ أن تختم بالصالحات أعمالنا.(22/17)
الإيمان والاستقامة سبب لتبشير المؤمن بالجنة
لا إله إلا الله! الله أكبر! تذكر اللحظة الأخيرة أخي في الله، إذا نزل الموت وأنت على عمل صالح يُرضِي الله سبحانه وتعالى كيف تكون الخاتمة؟! لا إله إلا الله! تكون الخاتمة بإذن الله حسنة كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] الله أكبر! {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم، لماذا؟
لأنهم آمنوا بالله، واستقاموا على طاعة الله، فإن أمامهم القبر روضة من رياض الجنة، وقد أحب الله لقاءهم، وأحبوا لقاء الله، فهنيئاً لهم ذلك المسكن وذلك القبر يوم أن ينادي رب العزة والجلال: {أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من رَوحها وطيبها ويُفتح له في قبره مد بصره، ثم يأتيه ذلك العمل الذي عمله في الدنيا بصورة مفرحة، تبشر بخير، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح} لا إله إلا الله! هنيئاً له {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ولا تحزنوا على ما خلفتم لماذا؟ {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31].
وهناك بشارة أخرى من الله جل وعلا، يقول الله سبحانه وبحمده: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
اللهم اجعلنا ممن يقال له ذلك، اللهم اجعلنا ممن يقال له ذلك، يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين!
وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم توبة نصوحاً.(22/18)
التوبة النصوح إجابة لنداء الله
أيها الإخوة في الله! لا شك أن التفريط يحصل من الكثير، لكن نتلافى ذلك -ولله الحمد- بالتوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد ندب الله جل وعلا عباده إلى التوبة، بل ناداهم سبحانه وبحمده بأشرف الأسماء وهو اسم الإيمان، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأحبهم إلى الله، الذي غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول: {والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} رواه البخاري.
الله أكبر! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
وفي رواية لـ مسلم قال: {يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيا أخي في الله: الله الله! بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ما دمت في زمن الإمكان، قبل أن تحل بك اللحظة الأخيرة، ثم بعد ذلك يحصل التحسر والندم، وهيهات هيهات! كما قال الله جل وعلا عن أحوال الذين يتحسرون عند اللحظة الأخيرة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] قال جل وعلا: {كَلَّا} [المؤمنون:100] كلمة ردع وزجر، لن يجاب على هذا المطلب؛ لأن العمر محدود، والأنفاس معدودة، انتهت إقامته في هذه الدنيا، ونزلت به اللحظة الأخيرة، فهو ينتقل من هذه الدنيا.
فيا إخواني في الله: بادروا بالتوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، يقول ربنا جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها} لا إله إلا الله!
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(22/19)
أهوال الساعة [1، 2]
الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وعلم الساعة علم غيبي لا يعلمه إلا الله، لكن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن علامات كثيرة صغرى وكبرى تدلنا على قرب قيام الساعة.
وهنا تجد بياناً لذلك مع ذكر لأهوال الساعة وأحداثها.(23/1)
علامات الساعة الكبرى والصغرى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات! حياكم الله في بيت من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجمعنا جميعاً في جنة عرضها السماوات والأرض، إنه على كل شيء قدير.
إخواني في الله: هأنتم تتابعون هذه السلسلة التي نسأل الله جلت قدرته أن يجعلها مباركة.
هذه السلسلة المهمة في عقيدة المسلم.
أيها الإخوة في الله: ينبغي للمسلم ألا يغفل عن هذا الموضوع العظيم؛ موضوع أشراط الساعة، وعن أهوال يوم القيامة، بل أقول لك أيها المسلم: لا تغفل عن ذكر الموت، عن ذكر هادم اللذات، وما بعد الموت، وما الذي يحصل للمؤمن في القبر، وما الذي يحصل للكافر والمنافق والفاجر في القبر، وتذكر -أيضاً- أخي في الله -ما الذي يحصل يوم القيامة، يوم الوقوف بين يدي رب العالمين جلَّ جلالُه، ثم تذكر ذلك المنصرف العظيم، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
إخواني في الله: الإخوان ذكروا جزاهم الله خيراً هذه الأشراط -أشراط الساعة- والموضوع الذي سوف أذكره أنا لا يختلف عما ذكره الإخوان؛ إلا أنني سوف أمر على أشياء مر عليها الإخوان جزاهم الله خيراً، وهذا من ضرورة الموضوع.(23/2)
علم الساعة علم غيبي
قال الله جلَّ وعَلا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
واسمع أخي في الله ويا أختي في الله إلى دليل آخر من كتاب الله عزَّ وجلَّ يبين فيه ربنا جلَّ وعَلا أن علم الساعة عند الله تعالى، لم يُطْلِع عليه أحداً، لا ملَكٌ مقرب، ولا نبيٌ مرسل: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63].
ويقول جلَّ جلالُه: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42 - 46].
إخواني في الله: من علامات الساعة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما هو قد مضى وانتهى، ومنها ما هو على وشك الخروج، لا إله إلا الله!
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا خَيْراً} [الأنعام:158] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها، حين يرون شيئاً من أشراط الساعة.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {بُعِثْتُ والساعة كهاتين}.(23/3)
حدوث فتنة عظيمة والتطاول في البنيان
وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة} قال بعض العلماء: حصل ذلك في زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما؛ حيث كان كل من الفئتين يدعو إلى ما يراه أنه الحق رضي الله عنهما وأرضاهما، ونتج من جراء ذلك قتل كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع كما نشاهده الآن: {أن تلد الأَمَة ربَّتَها، وأن ترى الحفاة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان}.(23/4)
عشر علامات لقيام الساعة
ومن علامات الساعة: ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: {إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونار تخرج من قعر عدن}.(23/5)
كثرة الدجالين
ومن علامات الساعة: ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجَّالون كذَّابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ظهر منهم كثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: مسيلمة الكذاب، وغيره، وظهر بعده، وصدق ربنا جلَّ وعَلا حيث قال: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] يعني محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم النبيين، لا نبي بعده ولا رسول، صلى الله عليه وسلم.(23/6)
تقارب الزمان
ومن علامات الساعة: ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره} لا إله إلا الله! اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
إخواني في الله! وأخواتي في الله! أكرر وأقول: على المسلم ألا يغفل عن هذه الأحاديث، بل يكررها مراراً وتكراراً؛ حتى يزداد عنده الإيمان؛ لأن هذا علامة من علامة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكل الذي قرأناه قد حصل منه ما حصل.
يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره} قال بعض العلماء: وذلك يحصل بكثرة الغفلة، وضياع الأوقات، حتى يمضي الزمن الكثير، والإنسان ما طمع إلا شيئاً قليلاً، قال: أو يحتمل معنىً آخر، وهو: سرعة إنجاز الأمور التي لا تنجز إلا في زمن طويل، كما يُشاهد اليوم في وسائل النقل ووسائل الإعلام، فكم من بلد كان لا يوصَل إليه إلا بعد الأشهر، والآن يوصَل إليه في زمن قليل، فصدق الله، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم.(23/7)
انتزاع العلم بقبض العلماء
ومن علامات الساعة: ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رءوساً جُهَّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.(23/8)
فُشُوُّ الربا
ومن علامات الساعة: فُشُوُّ الربا: {يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، والذي لم يأكله يأتيه من دخانه}.
ولي وقفة قصيرة مع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما انهمك فيه الناس في هذه الآونة من أكل الربا، والتهاون بالربا، فأخبرهم ببعض العقوبات، التي أخبر بها ربنا جلَّ وعَلا، وأخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومُوْكِلَه، وكاتبه، وشاهدَيه، وقال: هم سواء} أي: في الإثم سواء، آكل الربا حلت عليه اللعنة في الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال بعض العلماء رحمهم الله: جُرِّب لأَكلة الربا سوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ، أَمِن الحلال أم من الحرام؟!} الحلال ما حلَّ بأيديهم، والحرام ما تعذَّر عليهم أخْذُه.
ومن العقوبات التي جُرِّبَت لأكلة الربا: ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة الذي رواه البخاري، حديث الرؤيا؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: {وأتيت على رجل يسبح في نهر مثل الدم، وعلى شاطئ النهر رجل قد جمع عنده من الحجارة، وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي إلى هذا الرجل الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً، قلت: من هذا؟ قال: هذا آكل الربا} قال العلماء: هذه الحجارة التي يلقمه إياها هي الأموال التي جمعها من الربا.
العقوبة الثالثة: أخبر الله جلَّ جلالُه عن آكل الربا، أنه يقوم من قبره كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
العقوبة الرابعة: ويا لها من عقوبة! آكل الربا إن مات من غير توبة، فإن مصيره إلى النار، وهذا خبر الجبار جلَّ جلالُه في القرآن.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! من ابتلي بهذا الجرم العظيم، من ابتلي بهذا الخطر، فعليه أن يتوب إلى الله ما دام في زمن الإمكان قبل أن يقول كما أخبر الله جلَّ جلالُه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].(23/9)
انتشار الزنا وظهوره
ومن أشراط الساعة: أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، ويُشرب الخمر، ويَظهر الزنا.
الدش: هذا الغش الذي غشنا به أعداء الإسلام، وأعداء المسلمين.
إذا سمعت أنهم قالوا: أن فلاناً زنا بأخته ألا يتمنى الإنسان أنه ما سمع هذا الخبر؟! أي خبر أفظع من هذا أخي في الله؟! أي خبر أفظع من هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ماذا بقي؟! ماذا بقي يا أمة محمد؟! ماذا بقي من الأخلاق؟! وماذا بقي من الآداب؟! وماذا بقي من الحياء؟! تسمع أن فلاناً جلس عند الفيلم الفلاني، واشتعلت فيه نار الشهوة، وما ملك نفسه إلا أن زنا بأخته، ماذا بقي من الحياء يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده! لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر، فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين، ما به إلا البلاء} يتمنى الموت يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!!
فيا ليتنا نقف وقفة صادقة لله جلَّ وعَلا مغتنمين هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
يا ليتنا نقف وقفة صادقة مع إخواننا الذين ابتلوا بهذا الدش، ونقول: أخي في الله! إذا جلست في أحد المجالس، وبدءوا يتحدثون: إن فتاة خرجت آخر الليل تريد مَن يفعل بها الزنا إن رجلاً فعل الزنا بأخته إن ما حصل وحصل وحصل أخي في الله! ألا تطأطئ رأسك في المجلس تخاف أن تكون من هذا النوع، وقد ابتليت بهذا الغش؟!
أخي في الله! إذا لم تنتهِ بهذا فاسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته}.
تذكر -أخي في الله- من الذي سوف يلقي عليك السؤال؟! ومتى يكون هذا السؤال؟! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! اسمع أخي في الله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان} فأعد للسؤال جواباً إذا وقفتَ بين يدي الله عزَّ وجلَّ، ثم تذكر أولئك الخصوم الذين يقفون بين يدي الله يخاصمونك، وكل منهم يدلي بحجته، كل يقول: يا رب! خذ مظلمتي، الزوجة تقول: يا رب! خذ مظلمتي من زوجي؛ لأنك أدخلت عليها المنكر، وظلمتها بهذا المنكر، والابن يقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، والبنت تقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، حتى الجار يخاصم جاره يوم القيامة، فماذا أعددتَ لهذا السؤال إذا وقفتَ بين يدَي جبار الأرض والسماوات؟! لا إله إلا الله!
يا من غش أهله وأولاده بالمغنين والمغنيات، والمطربين والمطربات، والممثلين والممثلات!
يا من غش أهله وأولاده، اسمع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة} اللهم لا تجعلنا من المحرومين من الجنة يا رب العالمين.(23/10)
ظهور الفتن
ثم ننتقل إلى خبر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إنه لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن} يقول بعض العلماء رحمهم الله: وهذه الفتن تتنوع، فتن تدع الحليم حيران، فتن في الدين، وفتن في الدنيا.
أما فتن الدين: فكل ما يصد عن الإيمان بالله، والقيام بأمره، واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، من العقائد الفاسدة، والأفكار الهدَّامة، والسلوك المنحرف، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، بالاشتغال بالشهوات، واللذائذ المحرمة.
وأما فتن الدنيا: فما يحصل من القتل، والخوف، والسلب، والنهب.
ولا شك يا عباد الله: أن ظهور الفتن دليل على ضعف العلم الصحيح، والإيمان.
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.(23/11)
خروج المسيح الدجال
إخواني في الله! أيضاً: من علامات الساعة: علامة مهمة: روى النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: {ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفَّض به ورفَّع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رُحنا إليه، عرف ذلك فينا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله! ذكرتَ الدجال غداةً، فخفَّضتَ ورفَّعتَ، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غير الدجال أَخْوَفُنِي عليكم؟! إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم} لا إله إلا الله! الله أكبر! يقول صلى الله عليه وسلم: {إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولستُ فيكم فامرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم} الله أكبر! لا إله إلا الله!
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
إخواني في الله! اسمعوا إلى وصف هذا الدجال، يصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: {إنه شابٌ قطط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا -هذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم- يا عباد الله! فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا.
اقدروا له قدراً، قلنا: يا رسول الله! ما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتُمْطِر، والأرض فتُنْبِت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى، وأسبغه ضروعاًَ، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاًَ شباباً، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك}.
وفي رواية في الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يخرج الدجال، فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فيتلقاه المسالح -مسالح الدجال- فيقولون له: إلى أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه، فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس! إن هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر الدجالُ به فيُشَبَّح، فيقول: خذوه وشُجُّوه، فيُوَسَّع بطنه وظهره ضرباً، فيقول: أو ما تؤمن بي؟! فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فيُنشر بالمنشار من مفرقه حتى يُفْرَق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم.
فيستوي قائماً -يا ألله! يا لها من فتنة! اللهم ثبتنا على قولك الثابت، اللهم ثبتنا على قولك الثابت، يا ألله! يا رحمن! يا رحيم- ثم يقول له: قم.
فيستوي قائماً، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددتُ فيك إلا بصيرة، ثم يقول المؤمن: يا أيها الناس! إنه لا يفعل فعلي بأحد من الناس، فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل الله ما بين رقبته إلى ترقوته ذحافاً، فلا يستطيعوا إليه سبيلاًَ، فيأخذوا بيدَيه ورجلَيه، فيغدقوا به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فبينما هو كذلك -أي الدجال- إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، بين مهرودتين واضعاً كفَّيه على أجنحة ملكَين، إذا طأطأ رأسَه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جُمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلب الدجال، حتى يدركه بباب لُد، فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم عليه السلام قوماً قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة}.(23/12)
قتال المسلمين لليهود
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن المسلمين يقاتلون اليهود، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا عبد الله! يا مسلم! تعال، خلفي يهودي فاقتله، إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود} {فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويُحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابُه، حتى يكون رأس الثور بأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم -هكذا الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة رضي الله عنهم- قال صلى الله عليه وسلم: فيرغب نبي الله عيسى وأصحابُه إلى الله عزَّ وجلَّ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسنى، كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابُه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عزَّ وجلَّ، فيرسل الله طيراً كأعناق البُخت، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يُكَنُّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها -لا إله إلا الله! - ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك، إذ بعث الله ريحاً طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحُمُر} -يعني: كالحمير- لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً نسأل الله العفو والعافية! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أمثال للساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والرجلان بينهما ثوب قد سلاه يتبايعانه، فلا يمكنهما البيع ولا طي الثوب} لا إله إلا الله! المثال الثاني: {وتقوم والرجل قد انصرف بلبن ناقته ليشربه، فلا يتمكن من شربه} الثالث: {وتقوم والرجل قد رفع اللقمة إلى فمه، فلا يطعمها} الرابع: {وتقوم والرجل يصلح حوض إبله، ليسقيها، فلا يسقي فيه، وذلك عندما يأمر الله عزَّ وجلَّ إسرافيل فينفخ في الصور نفخة الصعق، وهي التي يموت فيها من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].(23/13)
أهوال الساعة
وهناك أمور يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هناك سورة أخبر الله بها عن حال زوال الدنيا، فقال جلَّ جلالُه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] تصور هذا الحادث العظيم أخي في الله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] ما الذي يحدث لهذا العالم أخي في الله وقد أمر الله جلَّ جلالُه إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق؟ التي يموت فيها من في السماوات ومن في الأرض؟! كيف الأحوال يا عبد الله؟! {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] عند ذلك ينادي الرب جلَّ جلالُه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فلا يجيبه أحدٌ، فيجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
أخي في الله: اسمع هذا الحديث الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين النفختين -يعني: نفخة الصعق، ونفخة البعث- أربعون، قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوماً؟ قال: أبيتم، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيتم، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيتم} ثم واصل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْبَ الذنب، فيه يُرَكَّب الخلق -لا إله إلا الله! - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ينَزِّل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل} متفق عليه.
وفي رواية لـ مسلم: {ثم يرسل الله، أو قال: ينَزِّل الله مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور أخرى نفخة البعث} قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].(23/14)
الخروج من القبور
ساسمع أحوالهم! قال الله جلَّ وعَلا: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
وقال جلَّ جلالُه: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:42 - 44].
في ذلك اليوم يأمر الله ملَكاً ينادي على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14] أي: على أرض القيامة.
كيف أحوالهم يوم أن خرجوا من قبورهم؟!(23/15)
حشر الناس يوم القيامة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُحشر الناس يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرْلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضُهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك} لا إله إلا الله! كيف ينظر بعضُهم إلى بعض وربنا جلَّ وعَلا يقول: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أين هم؟
على أرض القيامة، على الأرض التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يُحشر الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد}.
موعظة! فتذكر يا بن آدم ذلك الموقف العظيم عندما تكون حافي القدمين، عاري الجسم، حاسر الرأس، وأنت منفرد بأحزانك وهمومك وغمومك، القلب خائف، والبصر خاشع: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108].
ثم تذكر إقبال الوحوش في ذلك اليوم العظيم منكسة رءوسها.
ثم تذكر هذه الشمس التي تشرق وتضيء العالم، عندما تُكَوَّر، والقمر عندما يُخسَف به، والنجوم عندما تتناثر وتنكدر، والسماء عندما تتشقق فتكون وردة كالدهان.
إنه يوم القيامة، قال الله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17].(23/16)
شدة الوقوف في المحشر
ابن آدم! تذكر شدة الوقوف، وقد أُدنيت الشمس من رءوس الخلائق، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس، وازدحام الأجساد، وقد ذهب العرق منهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم فاض عليهم العرق، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس، وازدحام الأجساد، والعطش تضاعف، ولا نوم ولا راحة، فيا له من يوم عظيم شأنُه! يوم ترى السماءُ فيه قد انفطرت، والكواكب انتثرت، والبحار سُجِّرت، والنجوم انكدرت، والشمس كوِّرت، والجبال سيِّرت، والعشار عُطِّلت، والوحوش حشرت، والنفوس زوِّجت، والجحيم سعِّرت، والجنة أزلفت، والجبال نسفت، والأرض مُدَّت؛ مُدَّت كالأديم.
ذلك يوم القيامة، وقد أخبر الله جلَّ جلالُه فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
ابن آدم! تذكر ذلك اليوم العظيم، قال بعضهم رحمه الله تعالى:
مثل لقلبك أيها المغرورُ يوم القيامة والسماء تمورُ
قد كُوِّرت شمس النهار وأضعفت حراً على رأس العباد تخورُ
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسيرُ
وإذا النجوم تناثرت وتكدَّرت وتبدلت بعد الضياء كُدورُ
وإذا العشار تعطلت عن نغلها خلت الديارُ فما بقى مغرورُ
وإذا الوحوش لدى القيامة أُحضرت وتقول للأملاك: أين نسيرُ؟!
فيقال: سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد حضرت الأمورُ
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ خوف الحساب وقلبه مذعورُ(23/17)
مجيء جهنم
ابن آدم! تذكر مجيء جهنم، تُقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها، قال الله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] ففي ذلك اليوم لا يبقى ملَك مقرب، ولا نبي مرسل إلا جثى على ركبتَيه، يقول: يا ربِّ، نفسي!! نفسي!!
فتذكر عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب، لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.
يُروى: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسُه في حِجر عائشة رضي الله عنها، فنعس صلى الله عليه وسلم، فتذكرت الآخرة، فبكت رضي الله عنها، فسالت دموعُها على خد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: يا رسول الله! ذكرتُ الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟! قال: نعم والذي نفسي بيده إلا في ثلاثة مواطن، فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه: إذا وُضعت الموازين، ووُزنت الأعمال؛ حتى ينظر ابن آدم، أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف؛ حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند عبور الصراط}.(23/18)
تطاير الصحف وتوزيع الكتب
ابن آدم! تذكر وأنت واقف في ذلك الموقف العظيم مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله، إذ نودي باسمك على رءوس الخلائق، من الأولين والآخرين، فقمتَ ترتعد فرائصُك، فهنيئاً لك إن كنت من أصحاب اليمين، عندما يقال: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، أو يقال: سعدت فلانة بنت فلان سعادة لا تشقى بعدها أبداً، فتأخذ الكتاب رافعاً رأسك مسروراً فرحاً: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
أما إن كانت الأخرى، ونودي باسمك: شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، أو شقيت فلانة بنت فلان شقاوة لا تسعد بعدها أبداً، فيُعطى كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، يا لها من خسارة! لا تشبهها خسارة! يوم أن ينادي بقلب حزين، يوم أن ينادي في ذلك اليوم العظيم: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:25 - 32].
اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، اللهم بيِّض وجوهنا يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه، اللهم بيِّض وجوهنا يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه.
اللهم ثقل موازيننا، ويمِّن كتابنا.
اللهم اجعلنا على حوض نبينا من الواردين، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك في ختام هذه الكلمة، ونحن في استقبال فريضة من فرائضك يا ألله! يا رءوف! يا رحيم! اللهم املأ قلوبنا من محبتك، ومن خشيتك، ومن معرفتك، ومن الأنس بقربك، واملأها حكمة وعلماً.
اللهم املأ قلوبنا من الإيمان والحكمة.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم رب محمد النبي صلى الله عليه وسلم اغفر لنا ذنوبنا، واكظم غيظ قلوبنا، وأجرنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أقر أعيننا، وأفرح قلوبنا بصلاح أئمتنا وولاة أمورنا، وقاداتنا.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
إخواني في الله! نعم يذكرني أخي بأحوال إخوانٍ لنا ولكن قبل أن ندعو لهم نتذكر هذه النعمة التي نرفل فيها يا إخواني في الله، نعمة الأمن والاستقرار نعمة الدين الذي نعيش فيه ولله الحمد، ونعمة العقيدة فنسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ويا إخواني في الله! الله الله بالنصح لإخواني المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسال الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه.
إخواني في الله! الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على زينب محمر الوجه وهو يقول: {لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوم ومأجوج هكذا -وحلق بالإبهام والتي تليها- فقالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث} لكن إذا كثر المصلحون والدعاة إلى الله عز وجل؛ فإن الله ينجي العباد ويرحم العباد.
فالله الله أن نبذل النصح فيما بيننا، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر متبعين بذلك الحكمة والرفق لعل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا وإياكم من عذابه، إنه على كل شيء قدير.
أما في الختام فنسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وكذلك ندعو لإخواننا في كوسوفا الذين شردوا من بلادهم.
لا إله إلا الله! تصور -يا أخي- الأب والأم يوم أن فرق بينهم وبين أولادهم.
لا إله إلا الله! تصور أولئك الأطفال وهم ينظرون إلى تلك الأشلاء والمذبوحين كما تذبح الشياة.
لا إله إلا الله!
اللهم انصر إخواننا في كوسوفا وفي كل مكان يا أرحم الراحمين، اللهم انصر المجاهدين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم عليك بالصرب النصارى الظلمة، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم، اللهم أيتم أطفالهم، ورمل نساءهم واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود وأعوانهم يا رب العالمين، اللهم اقطع دابرهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(23/19)
جولة في رياض الجنة
الجنة هي الهدف الذي يطلبه كل مؤمن ويسمو إليه، وهي دار النعيم والخلود.
وفي هذا الدرس بدأ الشيخ بقراءة أبيات من نونية القحطاني تحكي رحلة المؤمن إلى الجنة، وإلى الدار الآخرة والنعيم الذي سيحصل عليه في تلك الدار، وفيها حذر الشيخ من الشركيات والذنوب والمعاصي، ودعا إلى التوبة منها.
وبدأ يذكر نعيم أهل الجنة وما أعد الله لهم فيها من نعيم مقيم: عن النساء، والولدان، وعن المنازل والغرف، وذكر أن أفضل نعيم لأهل الجنة هو رؤية الله جل وعلا.(24/1)
نونية القحطاني تتحدث عن مصير المؤمن بعد الموت
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراًَ.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله! ويا أيتها الأخوات في الله: حياكم الله في هذا المخيم الذين نسأل الله جلَّ وعلا أن يجعله مباركاً، وهذا اللقاء الثاني بعد اللقاء الأول الذي كانت فيها ساعة الصفر، وللموضوع تكملة لساعة الصفر، حتى ندخل في موضوعنا الذي نريد.
أخي في الله! هناك أبياتٌ قالها بعضهم، أبياتٌ شيِّقة، فيها الحث على طاعة الله سبحانه وتعالى، يقول فيها رحمه الله تعالى:
يا من يتابع سيِّد الثقلانِ كن للمهيمن صادق الإيمانِ
واعلم بأن الله خالقك الذي سوى ولم يحتَج إلى إنسانِ
خلق البرية كلها من أجل أن تدعوه بالإخلاص والإذعانِ
قد أرسل الآيات منه مخوفاً لعباده كي يخلص الثقلانِ
وأبان للإنسان كل طريقة كي لا يكون له اعتذارٌ ثاني
ثم اقتضى أمراً ونهياً علها تتميز التقوى عن العصيانِ
ووُلِدْت مفطوراً بفطرتك التي ليست سوى التصديق والإيمانِ
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل مولودٌ يولد على الفطرة}.
وبُلِيت بالتكليف أنت مخيرٌ وأمامك النجدان مفتتحانِ
فعملت ما تهوى وأنت مراقبٌ ما كنت محجوباً عن الديَّانِ
ثم انقضى العمر الذي تهنا به وبدأت في ضعفٍ وفي نقصانِ
ودنا الفراق ولات حين تهربٌ أين المفر من القضاء الثاني؟
والتفَّ صحبُك يرقبون بحسرة ماذا تكون عواقبُ الحدَثانِ
واستل روحَك والقلوبُ تقطعت حزناً وألقت دمعها العينانِ
فاحتلَّ أهلَ الدار حزنٌ بالغٌ واجتاح من حضروا من الجيرانِ
فالبنت عَذرا للفراق كئيبة والدمع يملأ ساحة الأجفانِ
والزوج ثكلى والصغار تجمعوا يتطلعون تطلع الحيرانِ
والابن يذهب في جهازك كاتماً شيئاً من الأحزان والأشجانِ
وترى الحديث وقد تساءل بعضهم أوما سمعتم عن وفاة فلانِ؟
قالوا سمعنا والوفاة سبيلنا غير المهيمن كل شيء فاني
وأتى الحديثُ لوارثيك فأسرعوا من كل صوبٍ للحطام الفاني
وأتى المغسل والمكفن قد أتى ليجللوك بحلة الأكفانِ
ويجردوك من الثياب وينزعوا عنك الثياب وحلة الكتَّانِ
وتعود فرداً لست حامل حاجة من هذه الدنيا سوى الأكفانِ
وأتى الحديثُ لوارثيك فأسرعوا فأتوا بنعشٍ واهن العيدانِ
صلوا عليك وأركبوك بمركبٍ فوق الظهور يُحَف بالأحزانِ
حتى إلى القبر الذي لك جهزوا وضعوك عند شفيره بحنانِ
ودنا الأقارب يرفعونك بينهم للحْدِ كي تمسي مع الديدانِ
وسكنت لحداً قد يضيق لضيقه صدر الحليم وصابر الحيوانِ
وسمعت قرع نعالهم من بعدما وضعوك في البيت الصغير الثاني
فيه الظلام كذا السكون مخيمٌ والروح رُدَّ وجاءك الملَكانِ
وهنا الحقيقة والمحقق قد أتى هذا مقام النصر والخذلانِ
إن كنت في الدنيا لربك مخلصاً تدعوه بالتوحيد والإيمانِ
فتظل ترفل في النعيم مرفهاً بفسيح قبر طاهر الأركانِ
ولك الرفيق عن الفراق مسلياً يغني عن الأحباب والأخدانِ
يعني: العمل الصالح.
فتحت عليك من الجنان نوافذٌ تأتيك بالأنوار والرَّيحانِ
وتظل منشرح الفؤاد منعَّماً حتى يقوم إلى القضا الثقلانِ
تأتي الحساب وقد فتحت صحيفةً بالنور قد كتبت وبالرضوانِ
وترى الخلائق خائفين لذنبهم وتسير أنت بعزة وأمانِ
ويظلك الله الكريم بظله والناس في عَرَقٍ إلى الأذقانِ
وترى الصراط وليس فيه صعوبة كالبرق تعبر فيه نحو جنانِ
فترى الجنان بحسنها وجمالها وترى القصور رفيعة البنيان
طب في رغيد العيش دون مشقة تكفي مشقةُ سالف الأزمانِ
والبس ثياب الخلد واشرب واغتسل وابعد عن الأكدار والأحزانِ
وانظر إلى الأنهار واشرب ماءها من فوقها الأثمار في الأفنانِ
والشهد جارٍ في العيون مطهرٌ مع خمرة الفردوس والألبانِ
والزوج حورٌ في البيوت كواعبٌ بيضُ الوجوه خوامص الأبدانِ
أبكارٌ شِبْه الدر في أصدافه واللؤلؤ المكنون والمرجانِ
وهنا مقرٌ لا تَحُوُّل بعده فيه السرور برؤية الرحمنِ
أما إذا ما كنت فيها مجرماً متتبعاً لطرائق الشيطانِ
نعم.
أي: في الدنيا.
نسأل الله العفو والعافية، هذه حال الكثير من الناس في هذه الأزمنة تتبعوا طرائق الشيطان والعياذ بالله!(24/2)
تحذير من الشركيات
أخي في الله: إن الأمر جد خطير، حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، اجلس مع نفسك قليلاً، وذكرها أخي في الله بما أمامها، هناك طرقٌ متعددة ارتكبها الكثير من الناس لا بد من بيانها في هذه الجلسة.
أخي في الله! هناك أناس فُتنوا بالتوسل بالقبور، ودعاء القبور، وطلب المدد والغيب وتفريج الكربات من أهل القبور.
فبالله عليك هل طريقتهم هذه صحيحة أم خطأ؟
خطأ.
لماذا؟
لأنها شرك بالله والعياذ بالله.
هذه حال الجاهلية الأولى؛ كانوا يعبدون الأصنام، يعبدون الأشجار، يعبدون الأحجار، يعبدون القبور من دون الواحد القهار، نسأل الله العفو والعافية.
البعض منا يقول: الحمد لله، نحن لا نعمل هذا ولا نقره ولا نعترف به.
أقول: جزاك الله خيراً، لكن هناك أيضاً طرق ليست بعيدة عن هذا، وهي: إتيان الكهان والسحرة والعرافين والمنجمين والمشعوذين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلة.
وفي رواية: أربعين يوماً}.
وفي الحديث الآخر: {من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
قال عمران بن حصين يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس منا من تَطَيَّرَ أو تُطِيِّرَ له، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له، أو سَحَرَ أو سُحِرَ له} نسأل الله العفو والعافية!
أيضاً: السحر هذا الذي كنا لا نعرفه قديماً لما كانت العقائد سليمة، أما لما دُخِلَت العقائد، واختلط الحابل بالنابل؛ صار السحر الآن موجودا، خاصة بين صفوف النساء، أسأل الله أن يهديهن إنه على كل شيء قدير.
ومن تعلَّم السحر فهو كافر كما بيَّن ربنا ذلك في القرآن: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] نسأل الله العفو والعافية!
فعلى مَن هذه طريقته، عليه أن يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن ينتقل من هذه الدينا، ويوضع في قبره وحيداً فريداً، قبل أن يقف على أرض القيامة بين يدي الله جل وعلا.(24/3)
تحذير من بعض الذنوب والمعاصي
ومِن الناس أيضاً مَن ابتُلِي بأكل الربا والتعامل بالربا.
ومِن الناس مَن ابتُلِي ببيع (الدخان) وقد أفتى علماؤنا -جزاهم الله خيراً- بتحريم (الدخان) تحريم زراعته، وبيعه، وشرائه، وشربه.
ومِن الناس مَن ابتُلِي ببيع المجلات الخليعة التي فيها الشر والفساد، وفيها المقالات التي تحارب الله وتحارب رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومِن الناس مَن يبيع أيضاً (الشِّيشة) المسماه بـ (الجِراك) التي والعياذ بالله هي قرينة (الدخان) وقد أفتى علماؤنا بتحريمها، نسأل الله العفو والعافية!
ومِن الناس مَن ابتُلِي أيضاً بفتح محلات لحلق اللحى، والقصات الإفرنجية، وقد أفتى علماؤنا أنه يحرم حلق اللحية أو نتفها أو قصها أو أخذ شيءٍ منها، وأخذ الدراهم في حلق اللحى والقصات الإفرنجية لا يجوز.
فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل قبل أن يقع في هذا الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ، أمِن الحلال أم مِن الحرام!} والحديث في صحيح البخاري ليس لهم همٌ إلا الحصول على هذه الأموال من أي طريقٍ كان.
فيا أخي في الله: تب إلى الله ما دمت في زمن الإمكان قبل أن توضَع في قبرك وحيداً فريداً.(24/4)
أحوال أهل النار بعد الموت
قال رحمه الله تعالى مخبراً عن أحوال أولئك الذين يتتبعون طرائق الشيطان في الدنيا، يخطط يرسم لهم، وهم يمشون في مخططاته، نسأل الله العفو والعافية، وقد حذر الله من خطوات الشيطان، حذر منها في عدة آيات من القرآن:
أما إذا ما كنت فيها مجرماً متتبعاً لطرائق الشيطانِ
ثكلتك أمك كيف تحتمل الأذى؟! أم كيف تصبر في لظى النيرانِ؟!
فإذا تفرق عنك صحبُك وانثنى حُمَّالُ نعشك جاءك الملَكانِ
يعني: إذا وضعوك في قبرك، وتفرقوا عنك -لا إله إلا الله- لن يسكنوا معك في القبر، الله أكبر!
جاءاك مرهوبين من عينيهما تُرمى بأشواظ من النيرانِ
سألاك عن ربٍ قديرٍ خالقٍ وعن الذي قد جاء بالقرآن
فتقول لا أدري وكنتُ مصدقاً أقوال شبه مقالة الثقلانِ
فيُوَبِّخانك بالكلام بشدةٍ وسيضربانك ضربة السَّجانِ
فتصيح صيحةَ آسِفٍ متوجِّعٍ ويجي الشجاعُ وذاك غولٌ ثاني
ويجي الرفيق فيا قباحة وجهه فكأنه متمردٌ من جانِ
أي: العمل الخبيث، يأتيه في قبره.
وتقول يا ويلاه مالي رجعةٌ حتى أحل بساحة الإيمانِ
الله أكبر!
أخي في الله! تب إلى الله عز وجل قبل أن تقول ذلك كما قال الله سبحانه وبحمده مخبراً عن أحوال أهل التفريط: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لماذا؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100].
ولن يجاب إلى هذا المطلب: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].(24/5)
حث على التوبة والرجوع إلى الله
فيا أخي في الله! ويا أختي في الله! البدار البدار بالتوبة النصوح {ومن تاب تاب الله عليه} من تاب صار من أحباب الله، يقول الرب جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] إذا تبت إلى الله، وإذا تبتي إلى الله أمة الله؛ فإن الله يبدل السيئات حسنات، الله أكبر!
الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غُفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: {والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة}.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غَفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد نادى الناس جميعاً وهو الرحيمٌ بأمته صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والحديث في صحيح مسلم.
فيا أخي في الله! ويا أختي في الله! الله الله بالتوبة النصوح ما دمتم في زمن الإمكان، قبل أن يحصل التحسر والتأسف إذا نزل هاذم اللذات.
ثم يا أخي في الله: إذا وفقك إلى التوبة النصوح بادر بالأعمال الصالحة التي تقربك من الله جل وعلا.
يقول الرب جلَّ وعلا في الحديث القدسي: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمعه به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}.
ثم أخي في الله: إذا مت على حالة ترضي الله عزَّ وجلَّ، وترضي رسوله صلى الله عليه وسلم فأبشر، فإن الله أعد لمن أطاعه وأطاع رسوله الجنة، نسأل الله من فضله الجنة، يقول الله جلَّ وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
ويقول جلَّ وعلا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124].(24/6)
جولة في رياض الجنة اليانعة
(جولة في رياض الجنة) نسأل الله الجنة.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل.
أخي في الله! يقول الرب جلَّ وعلا في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي روى الحديث عن ربَّه عزَّ وجلَّ: {اقرءوا إن شئتم في كتاب الله قوله جل وعلا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.(24/7)
إحلال رضوان الله على أهل الجنة
(جولة في رياض الجنة) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً} أين هم؟
في الجنة، في دار الأبرار، في دار اللذة والنعيم، يقول الرب جلَّ وعلا: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:22 - 26].
إي وربي: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] متى تحصل المنافسة أخي في الله؟ هل تحصل في القبر؟ أم على أرض القيامة؟ لا.
تحصل في الدنيا، بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة مادمت في زمن الإمكان.
أخي في الله! أختي في الله! الفرصة مهيأة، والمجال مفتوح: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:26 - 28].(24/8)
صور أهل الجنة وخصائصهم
(جولة في رياض الجنة) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكبٍ دري في السماء إضاءة} ثم أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأُلُوَّة -أي: عود الطيب- أزواجهم الحور العين، على خلق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء}.
وفي رواية في الصحيح: {آنيتهم الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحدٍ منهم زوجتان يرى مخ ساقيهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم كقلب واحدٍ، يسبحون الله بكرة وعشياً}.
يا أمَة الله! أختي في الله! بشراكِ بشراكِ، أبشري! فإن المؤمنة إذا دخلت الجنة فإنها تكون أفضل من الحور العين، الله أكبر! لا إله إلا الله! نعم.
إذا دخلت الجنة المؤمنة تكون أفضل من الحور العين.
فيا أمة الله! الله الله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم!(24/9)
منازل أهل الجنة
(جولة في رياض الجنة) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة منازلهم رفيعة، وأنهم تتفاوت منازلهم في الجنة -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة- يقول صلى الله عليه وسلم: {إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب -لماذا؟ - لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى.
والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين}.(24/10)
صفات نساء الجنة في سورة الرحمن
(جولة في رياض الجنة) هنيئاً لمن خاف الله، هنيئاً لمن خشي الله، هنيئاً لمن راقب الله في الدنيا، فقد أعد الله له الكرامة في دار الكرامة.
يقول الرب جلَّ وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 61].(24/11)
سوق الجنة
(جولة في رياض الجنة) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً}.(24/12)
نداء لأهل الجنة في الجنة
(جولة في رياض الجنة) هنيئاً لأهل الجنة يوم أن يسمعوا هذا النداء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ ينادي منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً}.
(جولة في رياض الجنة): هناك الخدم يخدمونهم في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ولدانٌ مخلدون كما وصفهم ربنا في القرآن: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19] الله أكبر! إذا كان هؤلاء الخدم الذين يخدمونهم فما بالكم بالزوجات؟! الله أكبر!(24/13)
زوجات أهل الجنة وعرائسهم
(جولة في رياض الجنة): قال بعض العلماء رحمه الله تعالى: وإن سألتم عن عرائسهم وأزواجهم في الجنة؛ فهن الكواعب الأتراب التي جرى في أعضائهن ماء الشباب، كأن الشمس تجري في محاسن وجهها إذا برزت، وكأن البرق يضيء من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حِبَّها فقل ما تشاء في تقابل النَّيِّرين، يَرى وجهه في صحن خدها، ويَرى مخ ساقيها من وراء اللحم من حسنها وجمالها، لو اطَّلَعَت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومع ذلك لا تزداد طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحيض والنفاس، ومطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، قد قصَرت طرفَها على زوجها، لا تطمح لأحدٍ سواه، وقصَر طرفه عليها، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، ومع ذلك لم يطمثها قبله إنسٌ ولا جان.
أقول لكِ مرة أخرى يا أمة الله: أيتها المرأة المؤمنة! أبشري، فإن المؤمنة إذا دخلت الجنة فإنها تكون أفضل من الحور العين؛ لأنها صامت في الدنيا وصلت، وأطاعت الله عزَّ وجلَّ، ووحدت الله سبحانه وتعالى، واتبعت هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبشري يا أمة الله!
يقول الرب جلَّ وعَلا عن تلك الأزواج الحسان في الجنة: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:48 - 49].
ويقول جل وعلا: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23].
هنيئاً لأهل الجنة في الجنة، نسأل الله من فضله الجنة.(24/14)
آخر رجل يدخل الجنة
(جولة في رياض الجنة): هذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، يخبرنا بأدنى أهل الجنة منزلة يقول صلى الله عليه وسلم: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجلٌ يخرج من النار حبواً فيقول الله عزَّ وجلَّ له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟! قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة} لا إله إلا الله! اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل.(24/15)
ميمية ابن القيم في نعيم الجنة
(جولة في رياض الجنة): ومع ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول:
فلله ما في حشوها من مسرة وأصناف لذات بها يُتَنَعَّمُ!
ولله برد العيش بين خيامها وروضاتها والثغر في الروض يبسُمُ
ولله واديها الذي هو موعدُ المز يد لِوَفْدِ الحُبِّ لو كنت منهمُ
بذَيَّالِك الوادي يهيم صبابة محبٌ يرى أن الصبابة مغنمُ
ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويسلمُ
ولله أبصارٌ ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأمُ
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة أمن بعدها يسلو المحب المتيمُ؟!
ولله كم من خيرة إن تبسمت أضاء لها نورٌ من الفجر أعظمُ
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ويا لذة الأسماع حين تكلَّمُ
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت ويا خجلة الفجرين حين تبسمُ
فإن كنت ذا قلبٍ عليلٍ بحبها فلم يبقَ إلا وصلها لك مرهم
ولا سيما في لثمها عند ضمها وقد صار منها تحت جيدك معصم
يراها إذا أبدت له حسن وجهها يلذ به قبل الوصال وينعمُ
تَفَكَّه فيها العين عند اجتلائها فواكه شتى طلعها ليس يعدمُ
عناقيد من كرمٍ وتفاح جنةٍ ورمان أغصانٍ به القلب مغرمُ
فتقسم منها الحسن في جمع واحدٍ فيا عجباً من واحدٍ يتقسمُ
لها فرقٌ شتى من الحسن أجمعت بجملتها أن السُلُوَّ مُحَرَّمُ
تذكر بالرحمن من هو ناظرٌ فينطق بالتسبيح لا يتلعثمُ
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها تولى على أعقابه الجيش يُهْزَمُ
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدمُ
ولما جرى ماء الشباب بغصنها تيقن حقاً أنه ليس يهرَمُ
وصُم يومك الأدنى لعلك في غدٍ تفوز بعيد الفطر والناس صُوَّمُ
وأقدم ولا تقنع بعيشٍ منغصٍ فما فاز باللذات من ليس يُقْدِمُ
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ولم يكُ فيها منزلٌ لك يعُلمُ
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ
إلى أن قال رحمه الله:
وحي على السوق الذي فيه يلتقي المـ ـحبون ذاك السوق للقوم يُعْلَمُ
فما شئت خذ منه بلا ثمنٍ له فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
وحيَّ على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسمُ
وحيَّ على وادٍ هنالك أفيَحٍ وتربته من إذخر المسك أعظمُ
منابر من نورٍ هناك وفضة ومن خالص العقيان لا يتقصَّمُ
وكثبان مسكٍ قد جعلن مقاعداً لمن دون أصحاب المنابر تُعْلمُ
سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يُسَلِّمُ
يسلم عليهم الكريم جلَّ وعلا، يتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.(24/16)
أفضل النعيم رؤية الله جل وعلا
فإذا جلس أهل الجنة في تلك المجالس، وفي ذلك الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجُمِعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه، فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دني- على كثبان المسك.
ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا: {حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار -جل جلاله وتقدَّست أسماؤه- قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، اللهم اجعلنا معهم يا أكرم الأكرمين، لا إله إلا الله! - وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى ويضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه؟ فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكِّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب! ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى.
بمغفرتي بلغتك منزلتك هذه}.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
(جولة في رياض الجنة): إنها الجنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن سألتم عن سعة تلك الجنة، فقد قال الرب جل وعلا: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133].
أما إن سألتم عن أبوابها فهي ثمانية.
أما إن سألتم عن سعة تلك الأبواب: فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام وليأتين عليه يومٌ وهو كضيضٌ من الزحام.
اللهم اجعلنا من الداخلين من تلك الأبواب يا أرحم الرحمين!
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم اجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم اجمعنا ووالدِينا ووالدِ والدِينا وزوجاتنا وإخواننا وأخواتنا وأولادنا جميعاً، وإخواننا المسلمين والمسلمات في جنة عرضها السماوات والأرض يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين!
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين.
اللهم اجزِ القائمين على هذا المخيم خير الجزاء، اللهم اجزِ القائمين عليه خير الجزاء.
اللهم أصلح نياتهم وذرياتهم، اللهم وفقهم لفعل الخيرات، اللهم كما سخرتهم لهذا المخيم وهم يريدون الخير لإخوانهم فاجعل لنا ولهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية.
اللهم ارفع درجاتهم يا رب العالمين!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(24/17)
لحظة الفراق
إننا لو علمنا حقيقة وجودنا، وفراقنا فيما بعد من هذه الحياة الدنيا؛ لرجعنا إلى الله رجعة صحيحة، ولتبنا إليه توبة صادقة نصوحاً، وإن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما ذكرنا في كتابه العزيز بالموت ولحظة الفراق، وعذاب القبر والنار وما يلقاه العبد من هول، وجاءت كذلك هذه الأوصاف على لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.(25/1)
الموت هو المصيبة العظمى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
نسأل من الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم ما يبغضه ويأباه، إنه على كل شيء قدير.
إخواني في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، ونحن والله في هذه الأزمنة المظلمة، أزمنة الفتن والشرور المترادفة، التي نسأل الله جلت قدرته أن يصرفها عنا وعن جميع المحسنين إنه على كل شيء قدير، والله إننا بحاجة إلى تقوى الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على كل شيء قدير.
إخواني في الله: من التزم تقوى الله سبحانه وتعالى فهنيئاً له في الدنيا وفي الآخرة، هنيئاً له السعادة والفلاح والنجاح والنجاة في الدنيا وفي الآخرة، يقول الله جل جلاله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] لماذا؟
لأنهم اتقوا الله عز وجل، جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
ثم أيها الإخوة في الله: إن الموضوع هو كما علمتم (لحظة الفراق) نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأي فراقٍ هو؟
هو الفراق من دار الدنيا إلى دار البرزخ، من عالم الدور إلى عالم القبور، لا إله إلا الله! فيأخي في الله تذكر ما الذي سوف تأخذه من دار الغرور، من دار الدنيا، من دار المتاع إلى عالم القبور، ثم بعد ذلك تحاسب عليه يوم البعث والنشور، تذكر ما الذي تأخذه من هذه الدنيا، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن الميت يتبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله؛ فيرجع الأهل والمال ويبقى العمل} نسأل الله جل وعلا أن يجعل أعمالنا وأقوالنا كلها صالحة، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله! إنها لحظة الفراق، فراقٌ من الأهل والأقارب والأصدقاء؛ إلى الانفراد بحفرة وحيداً فريداً ليس عندك إلا العمل، الله أكبر! لا إله إلا الله!
لحظة الفراق فراق الفراش اللين، والوسادة، إلى افتراش التراب، في القبر وحيداً فريداً، يقول بعضهم رحمه الله: اغتنموا أوقات الفضائل قبل فواتها، بماذا تفوت؟
تفوت بالموت كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا مات الإنسان انقطع عمله -ينقطع عمل الإنسان بالموت نسأل الله حسن الختام- إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له}.
فتأهبوا يا عباد الله! لما أمامكم، وما أنتم قادمون عليه لا محالة ألا وهو الموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] هل تذكرت لحظة الفراق؟
عباد الله! لقد كتب الله لحظة الفراق على جميع مخلوقاته، قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فيا عباد الله: استعدوا للحظة الفراق فإنه الموت، تبدلٌ من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار، فالموت هو المصيبة العظمى، والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل.
عباد الله: ما هذه الغفلات والاغترار؟!
وما هذا الإكباب على الدنيا وقد رأيتم تصرم الأعمار؟! وما هذا التفريط وأنتم على الآثار، وقد أيقنتم أن دار الفناء ليست لكم دار قرار؟! اللهم أيقظنا من رقداتنا يا رب العالمين!(25/2)
وجاءت لحظة الفراق
لحظة الفراق وما أدراك ما لحظة الفراق!
ودنا الفراق ولات حين تهرّبٍ أين المفر من القضاء الدانِ
والتف صحبُك يرقبون بحسرة ماذا تكون عواقب الحدثانِ
واستل روحك والقلوب تقطعت حزناً وألقت دمعها العينانِ
فاجتاح أهل الدار حزنٌ بالغٌ واجتاح من حضروا من الجيرانِ
فالبنت عذرا للفراق كئيبة والدمع يملأ ساحة الأجفانِ
والزوج ثكلى والصغار تجمعوا يتطلعون تطلع الحيران
والابن يدأب في جهازك كاتماً شيئاً من الأحزان والأشجانِ
وترى الحديث وقد تساءل بعضهم أو ما سمعتم عن وفاة فلانِ
قالوا سمعنا والوفاة سبيلنا غير المهيمن كل شيء فانِ
وأتى الحديث لوارثيك فأسرعوا من كل صوبٍ للحطام الفاني
وأتى المغسل والمكفن قد أتى ليجللوك بحلة الأكفانِ
ويجردوك من الثياب وينزعوا عنك الثياب وحلة الكتانِ
وتعود فرداً لست حامل حاجة من هذه الدنيا سوى الأكفانِ
وأتى الحديث لوارثيك فأسرعوا فأتوا بنعش واهن العيدانِ
صلوا عليك وأركبوك بمركبٍ فوق الظهور يحف بالأحزانِ
حتى إلى القبر الذي لك جهزوا وضعوك عند شفيره بحنانِ
ودنا الأقارب يرفعونك بينهم للحد كي تمسي مع الديدانِ(25/3)
روح المؤمن حال خروجها
فيا أخي في الله! مثل نفسك وقد حلت بك السكرات، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلان قد أوصى، ومن قائلٍ يقول: إن فلانٍ ثقل لسانه ولا يكلم أهله وإخوانه، ومع ذلك هو يسمع الخطاب، ولا يقدر على رد
الجواب
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أخي في الله! مثل نفسك وقد أخذت من فراشك ثم نقلت إلى بيت الوحشة والوحدة، بيت الضيق والظلمة، بيت الدود والأهوال المطمة، بيتٌ على قرب المكان، وحيدٌ مع كثرة الجيران، مقيمٌ بين أقوامٍ كانوا فبانوا.
أخي في الله! اسمع إلى هذا الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: {خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عودٌ ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقا فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ويستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة.
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟
فيقول: ربي الله.
فيقولان له: ما دينك؟
فيقول: ديني الإسلام.
فيقولان له: ما بال الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقولان له: وما علمك؟
فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفتح له في قبره مد بصره.
قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، فيأتيه حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي}.
أيها الإخوة والأخوات! نحن الآن في زمن الإمكان، لم نزل ولله الحمد في مهلة والفرصة مهيئة، لم تدن منا لحظة الفراق، فما هو الواجب علينا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
أيها الإخوة والأخوات! علينا أن نغتنم هذا العمر بطاعة الله عز وجل، ونحذر من هذه الفتن والمغريات، ومن هذه الملذات المحرمة التي انتشرت، نسأل الله عز وجل أن يكفينا شرها إنه على كل شيء قدير.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي عائشة رضي الله عنها ويقول لها قولي: {اللهم رب محمد النبي صلى الله عليه وسلم اغفر لي ذنبي، وأذهب غيض قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن} ونحن نسأل الله جل جلاله، أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يذهب غيض قلوبنا، وأن يجيرنا من مضلات الفتن؛ فسارعوا إخواني في الله، سارعوا ما دمتم في زمن الإمكان بالأعمال الصالحة التي ترضي الله عز وجل، واحذروا أن تكونوا من الصنف الآخر الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/4)
حال خروج روح الكافر
قال صلى الله عليه وسلم: {وإن العبد الكافر -وفي رواية- المنافق -وفي رواية- الفاجر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة؛ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا قذفها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] قال صلى الله عليه وسلم: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما دينك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما بال الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فينادي منادٍ من السماء: أن كذب فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة} نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة.
اسمع أيضاً إلى هذا الحديث المتفق على صحته يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: {إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم -الله أكبر لا إله إلا الله صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: يأتيه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟
قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً.
قال صلى الله عليه وسلم: وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت! ويضرب بمطرقة من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين} والحديث كما سمعتم متفقٌ عليه.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ما الذي يحصل لهم في القبور والبرزخ، كما أخبر الله جل جلاله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] الله أكبر! يقول هذا عند لحظة الفراق، فهل يجاب على هذا يا إخواني في الله إذا طلب الرجعة ليتزود من الأعمال الصالحة؟
لا يجاب على هذا؛ لأن العمر محدود، والأنفاس معدودة، فليسمع الرد {كَلَّا} [المؤمنون:100] كلمة ردع وزجر: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] يوم أن قال: رب ارجعون {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] نسأل الله حسن الخاتمة!(25/5)
صور من عذاب البرزخ
اسمع إلى هذا الحديث؛ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي: انطلق انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مضطجع وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى.
قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجلٍ مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه، فيفعل مثلما فعل في المرة الأولى.
قال صلى الله عليه وسلم: قلت: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فأحسب أنه قال: فإذا فيه لغطٌ وأصواتٌ، فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، وإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا.
قلت: ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على نهرٍ حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شط النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً.
قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق وفي نهاية الحديث أخبراه صلى الله عليه وسلم -اسمع أخي في الله- أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر؛ فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة -هذا جزاؤه في البرزخ نسأل الله العفو والعافية وفي رواية البزار - قال: أتينا على أناس ترضخ رءوسهم بالحجارة.
فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رءوسهم عن الصلاة} قف قليلاً يا عبد الله! وذكّر أولئك الذين تثاقلت رءوسهم عن صلاة الفجر لا يعرفونها في المساجد إلا في رمضان إنا لله وإنا إليه راجعون! قف قليلاً واذكر أولئك الذين ينامون عن صلاة الفجر لا يوقظهم إلا ساعة العمل أو الدوام، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة! فهل لهم صبرٌ على هذا؟ لا والله لا صبر على هذا.(25/6)
عذاب مضيع القرآن والصلاة
اسمع الخبر {أما الرجل الأول الذي أتيته يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة} زيادة على ذلك ما إذا كان قد سهر على ما يغضب الله سبحانه وتعالى، متتبعٌ للأفلام والمسلسلات، تربى على البلوت، والشيشة والدخان، في القيل والقال، ثم فوت على نفسه الصلاة المفروضة كيف حاله يوم يلقى الله عز وجل؟! اللهم ردنا إليك رداً جميلا، اللهم ردنا إليك رداً جميلا.
أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! قفوا مع أولئك الذين أضاعوا أعمارهم وليلهم مع الملاهي، مع الأفلام والمسلسلات، مع الأغاني الماجنات، مع البلوت، مع الشيشة والدخان، طول الليل، ثم إذا جاء وقت الفضائل وإذا هم جيفٌ في فرشهم.
اللهم اهد ضال المسلمين، إننا في زمن مظلم كثرت شروره، كيف لا وقد وجد هذا الدش الذي افتتن فيه كثيرٌ من الناس، هذا الدش الذي ينشر الشر والفساد، والعار والدمار، للعقيدة والأخلاق والآداب إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، كم من إنسانٍ كان يصلي الفجر؟!
وكم من إنسانٍ قد عرف بالاجتهاد في طاعة الله؟
وكم من طالب عرف بالاجتهاد في الدراسة؟
وكم من امرأة كانت متحشمة عفيفة تستحي؟
ولما عاشوا مع هذا الجهاز، جهاز الغش الذي غشنا به أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، لما عاشوا مع الأفلام والمسلسلات التي تأتي بها الأقمار الصناعية، كيف أحوالهم الآن؟
كم من رجلٍ الآن لا يرى في المسجد؟ وكم من طالب بعد أن كان جيداً مجتهداً صار من المنحطين، وكم من امرأة أضاعت الحياء والعفة لما صارت تشاهد ذلك الجهاز، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.
فيا أيها الرجل الذي عشت مع هذا الجهاز تذكر أنك سوف تقف بين يدي الله عز وجل؟! أيها الرجل! سوف تسأل عن الزوجة، وعن الابن والبنت إذا وقفت بين يدي الله فأعد للسؤال جواباً.(25/7)
عذاب صاحب الكذب
ثم ننتقل إلى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: {وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق} وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً} نسأل الله العفو والعافية، فلنحذر من هذه الخصلة الذميمة، وهي -أيضاً- من خصال المنافقين الذين توعدهم الله في الدرك الأسفل من النار.
احذروا من الكذب يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فبعض الناس الآن تجده يكذب ويقول: هذه نكتة، هذه كذبة بيضاء، فنقول له: تحرز فإن الملك يكتبها وإن كانت نكتة أو كذبة بيضاء كما عم، والله سبحانه وتعالى هو الذي سوف يحاسبك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(25/8)
عذاب الزناة والزواني
ثم ننتقل -أيضاً- إلى ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: {وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني} نسأل الله العفو والعافية.
الزناة والزواني الذين يرتكبون جريمة الزنا، العار والدمار، الآن لما فتح الدش، وصار الكثير يشاهد الدش فلا تسأل عن الأحوال يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: {وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني يأتيهم لهب من أسفلهم} لهب من نار جهنم، نعوذ بالله من نار جهنم! هذا عذابهم في البرزخ فكيف يوم القيامة! نسأل الله جلت قدرته أن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا إنه على كل شيء قدير.(25/9)
عذاب آكل الربا
ثم ننتقل إلى الخبر الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر -يعني مثل الدم- ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا} نسأل الله العفو والعافية.
إنه المحارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقول العلماء رحمهم الله: إن آكل الربا تحل عليه خمس عقوبات إن لم يتدارك نفسه ويتب إلى الله عز وجل، وإن استمر هذا الوضع على أكل الربا فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه وجابر بن عبد الله: {لعن رسول صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء} هذا في رواية الترمذي، وفي رواية مسلم: {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله}.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هل للحياة طعم لمن حلت عليه اللعنة، يمشي على وجه الأرض وهو ملعون نسأل الله العفو والعافية، هذه أول عقوبة عليه: أنها تحل عليه اللعنة.
الثانية: قال القرطبي رحمه الله: آكل الربا يموت على سوء الخاتمة.
الثالثة: وهو ما مر معنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح البخاري أنه رأى رجلاً -في البرزخ- يسبح في نهرٍ مثل الدم وآخر يلقمه الحجارة، قال بعض العلماء: هذه الحجارة التي يلقم إياها هي الأموال التي جمعها من الربا.
الرابعة: أنه يقوم من قبره كالذي يتخبطه الشيطان من المس، نعوذ بالله!
الخامسة: أنه يسحب إلى النار يوم القيامة ومن تاب تاب الله عليه.
فبادر أخي في الله قبل أن تحل بك لحظة الفراق، تب إلى الله عز وجل إن كنت ممن يأكل الربا، تب إلى الله واسأل الله كما سأله رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {اللهم إني أسألك الهدى، والتقى والعفاف والغنى} {اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك}.
اقنع باليسير وإن كان حلالاً طيباً، ولا تنهمك في هذا الجرم العظيم وهو أكل الربا بمحاربة الله ومحاربة رسوله صلى الله عليه وسلم.(25/10)
عذاب النمام والمغتاب
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حديثٍ صحيح آخر: {أنه مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة} والنمام هو الذي ينقل الكلام بقصد الإفساد، يفسد المجتمع بقطع الأواصر والصلات، يحدث الشحناء والعداوة والبغضاء بين الناس بنقل الكلام، بقصد النميمة نسأل الله العفو والعافية، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يعذب في قبره، ويوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام} والحديث صحيح.
فيا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! احذروا من النميمة، ويا أيتها المرأة! اتقي الله واحذري من النميمة، احذري من نقل الكلام إلى فلانة وفلانة، احذري من ذلك فقد سمعتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: {ليلة أسري بي مررت بأقوامٍ لهم أظفارٌ من نحاس، يخمشون بها وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم} أهل الغيبة الذين يأكلون لحوم الناس، وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ذكرك أخاك بما يكره فقال الرجل: أفرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما يقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} فلنحذر يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن البعض من الناس يقول: الحمد لله! أنا والله لا أعرف الزنا، ولا أعرف اللواط، ولا أعرف المخدرات، ولا المسكرات، وأصلي وأصوم.
وهو يأكل لحوم الناس! تجده في المجالس يأكل لحوم الناس، إنا لله وإنا إليه راجعون، بل بعضهم ما يصبر على الغيبة حتى في المسجد، اللهم إنا نسألك العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فاحذر يا أخي في الله! نعم أنت تصلي وتصوم ولكن يخشى عليك أن توزع هذه الحسنات على الآخرين، يُخشى عليك أن تأتي يوم القيامة مفلساً فقيراً من الحسنات؛ لأنك وزعتها على الآخرين.
وأيضاً بعض الناس لا يبالي بالنميمة نسأل الله العافية! فهذان -النميمة والغيبة- مرضان خطيران، النميمة والغيبة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم الطف بنا بلطفك يا لطيف!
اللهم ارحم ضعفنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.(25/11)
أهمية الإكثار من ذكر هاذم اللذات
إخواني في الله! تذكروا لحظة الفراق قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] استعدوا للموت، فإنه أمرٌ جلل، وخطرٌ هائل، وخطبٌ عظيم، لا بد منه لكل مخلوق قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] قليل، يعني: لا بد من الموت، لا بد من لحظة الفراق، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة يا كريم!
مهما عاش الإنسان فلا بد له من الفراق، لا بد له من الانتقال من هذه الدنيا، ولذلك يقول الله جل وعلا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] ثم قال جل وعلا: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] ولو تحصنا عن الموت، ولو رفعنا القصور، وشيدنا الفلل، نعم لا بد من الموت، قال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو هربنا ما هربنا لن ننجو من الموت؟ قال: ما في نجاة من الموت، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
إذاً أخي في الله! استعد لهاذم اللذات، فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروى عنه فقال: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} وربنا جل وعلا يقول: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
ثم قال بعضهم رحمه الله وهو يحثك على التأهب للحظة الفراق حتى لا يأتيك بغتة: تأهبوا للموت الذي ما طلب أحداً فأعجزه، ولا تحصن منه متحصنٌ إلا أخرجه وأبرزه، فأي عيشٍ صفا وما كدره، وأي قدمٍ سعى وما عسره، وأي غصن علا وما كسره، وأي بناءٍ أشيد وما دمره، وأي غافلٍ لاهٍ وما بعثره، وأي ملك آمرٍ ناهٍ عال وما حدره، وأي متعبثٍ جائرٍ وما نكسه وأصغره، وأي غنيٍ ما سلب ماله وأفقره!!
فيا عباد الله خذوا العفة والاستعداد فإنه الموت يأتي على غرة وبدون إنذار، أما أخذ الآباء والأجداد، أما أخذ الشباب والأولاد، أما ملأ القبور والألحاد، أما أرمل النساء وأيتم الأطفال!!
فيا عباد الله! خذوا الأهبة لهاذم اللذات.(25/12)
صفة سكرات الموت
أما صفة الموت إذا نزل بالإنسان نسأل الله حسن الختام، اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يا رب العالمين!
يقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] وقبل أن تعرف حال من يموت، أول تذكر حال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن نزل به الموت، ما هي أحواله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأحب الخلق إلى الله، سيد الأولين والآخرين؟
لما نزل به الموت صلى الله عليه وسلم جعل يمسح وجهه بالماء ويقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات} فسكرات الموت ذاقها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك يذكرك وكأنه يقول: تذكر يوم يجلسون حولك وأنت تعاني من سكرات الموت، يبكون وينادون بصوتٍ يقطع نياط القلوب، الولد يقول: هل تعرفني يا أبتاه!
والأقارب حوله يقولون: هل تعرفنا يا فلان!
وهو ينظر إليهم وعيناه قد اغرورقت بالدموع، ولكن لا يستطيع الرد عليهم، قد تعذر عليه الكلام يرونه منطرحٌ بين أيديهم، يعالج سكرات الموت، وهم لا يشعرون، ثم لم يلبثوا إلا قليلاً، وإذا بملك الموت قد قبض الروح، ومال الأنف، وانفتح الفم، وشخص البصر قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فيا لها من ساعة يتكدر فيها الصفا، ويتنغص فيها العيش إذا نزل هاذم اللذات!
ثم قال رحمه الله:
تنبه قبيل الموت إن كنت تعقل فعما قليلٌ للمقابر تنقلُ
وتمسي رهيناً في القبور وتنثني لدى جدثٍ تحت الثرى تتجندلُ
نسأل الله حسن الختام.(25/13)
قصيدة زين العابدين في الموت وما بعده
إخواني في الله! الموت هو الرزية العظمى نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الاستعداد للموت، ولذلك يا إخوان الغريب الآن إذا سافر يرجى رجوعه، وإن طالت السنين، ولكن إذا مات الميت متى يرجع يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
لا يرجع إلا إذا قامت القيامة وقام الناس لرب العالمين، ولذلك يقول زين العابدين رحمه الله:
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفنِ
إي والله! هو الغريب يا إخوان، غريب اللحد والكفنِ نسأل الله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ثم يقول رحمه الله: وناهيك بذلك الرجل الزاهد العابد
تمر ساعات أيامي بلا ندمٍ ولا بكاءٍ ولا خوفٍ ولا حزنِ
سفري بعيدٌ وزادي لا يبلغني وقسمتي لم تزل والموت يطلبني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلة كتبت يا غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تقتلني
تعجلت لي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني
ما أجمل التوبة خصوصاً إذا صحبها البكاء والدموع لا إله إلا الله! اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، ما أجمل التوبة إذا صحبها البكاء! إذا تذكر الإنسان أحواله ثم تاب وقال: كيف حالي لو أن لحظة الفراق حلت بي وأنا مقرٌ على الذنوب والخطايا؟!
كيف يكون حالي؟! بماذا أواجه ربي؟! بأي شيءٍ أنتقل من هذه الدنيا؟!
ثم تدمع العين وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله -وفي رواية- عينٌ غضت عن محارم الله} ثم إذا حصل البكاء وأنت في مكانٍ خالٍ لا يراك إلا الله؛ فإن الله يظلك في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وتكن من السبعة، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم إنه على كل شيء قدير.
تصور أخي لحظة الفراق ما الذي يحصل عند لحظة الفراق؟ يقول رحمه الله:
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أر من طبيب اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍ ولا هونِ
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفني
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
بدل ما كانوا يقولون: فلان بن فلان، الآن يريدون يتخلصون من هذا الميت، اعطونا المغسل، غسلوه، وكفنوه ثم يسرعون به إلى المقبرة وكأنه عدوٌ لهم، ثم يأخذون المساحي يحثون عليه التراب لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ما الذي يأخذ معه؟
يأخذ معه عمله اللهم اجعل أعمالنا صالحة يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام!
قال رحمه الله:
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطنِ
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
إخواني وأخواتي! كلنا والله سوف تمر علينا هذه اللحظات، كلنا سوف نجرد من الثياب ونوضع على لوح المغسل ليغسلنا.
لا إله إلا الله!
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
وألبسوني ثياباً لا كموم لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وبعد الفلة والقصر، أو بعد العشة والصندقة إلى أين؟!
وأنزلوني في قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
اللهم أعنا على ذلك المنزل يا رب العالمين!
اللهم اجعله روضة من رياض الجنة يا رب العالمين يا حي يا قيوم!
وأنزلوني في قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المننِ
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخٌ يؤنسني
وقد سمعنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أن المؤمن يكون عليه القبر روضة من رياض الجنة، يفتح له باب إلى الجنة، ويفرش له فراشٌ من الجنة، ويوسع له في قبره مد بصره، وأما الكافر والمنافق والفاجر -نسأل الله العفو والعافية- فإنه يفتح له بابٌ إلى النار، ويفرش من النار، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، قال رحمه الله تعالى في نهاية هذه الأبيات:
فامنن علي بعفوٍ منك يا أملي فإنني موثقٌ بالذنب مرتهني
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني
جمع الأموال مما هب ودب وصارت للورثة، وانتقل هو للأوزار، الأموال إذا جمعت من الربا والغش والخداع، والكذب، والرشوة، والدخان، والمسكرات، والمجلات، وغيرها من الطرق المحرمة؛ فإنها تكون وزراً على صاحبها، يقتسم بها الورثة وتكون وزراً على من جمعها، نسأل الله العفو والعافية، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
ثم يقول رحمه الله:
ولا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحنط والكفنِ
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك منها إلا راحة البدنِ
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
نسأل الله جل وعلا أن يرحمنا جميعاً في واسع رحمته.(25/14)
الوصية بتقوى الله
إخواني في الله! قبل أن نتفرق من هذا المكان، نسأل الله جل وعلا أن يجعلها جلسة مباركة.
ونسأل الله أن يتقبلها، وأن يجعلها في موازين حسناتنا إنه على كل شيء قدير.
قبل أن نتفرق نتواصى بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين كما قال سبحانه وبحمده: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وقال جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
فالله الله بتقوى الله! الله الله بتقوى الله! ثم يا إخواني قفوا قليلاً مع هذه الآيات العظيمة المعبرة لتروا ماذا تكون النتيجة يوم القيامة، يقول تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8] فالله الله يا إخواني في الله!
ثم قفوا قليلاً مع السورة الأخرى لتعلموا كيف الأحوال يوم القيامة: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:1 - 4] تصور الأحوال يوم نزلت ساعة لحظة الفراق، وفارقت الدنيا إلى عالم القبور، ثم تذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وأنت معهم على أرض القيامة كالجراد المنتشر، ماذا تنتظر يا عبد الله؟
تنتظر نتيجة الأعمال التي عملتها في الدنيا: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:5] النتيجة: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7] يا رب نسألك من فضلك وبماذا تثقل الموازين يا إخوان؟ تثقل بالحسنات التي هي ثمار الأعمال الصالحة التي عملتموها في الدنيا نسأل الله أن يثقل موازيننا، وألا يجعلنا من الصنف الآخر {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:8 - 11].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار يا رب العالمين!
اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم آمنا يوم الفزع والنشور، اللهم ثقل موازيننا، ويمن كتابنا، ويسر حسابنا، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
اللهم اجعلنا على حوض نبينا من الواردين، اللهم اسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين!
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.(25/15)
الرابحون في رمضان
الناس في رمضان صنفان: رابح وخاسر، فالرابح من صام نهاره وقام ليله، وشغل وقته بالذكر وقراءة القرآن، والإكثار من الأعمال الصالحات وتجنب المنكرات، وأيقظ أهله وشد مئزره لقيام الليل.
والخاسر من نام نهاره عن الصلاة، وسهر ليله أمام المسلسلات والمسابقات والأمسيات الضائعات المضيعات، ولم يتزود من الصالحات، بل تزود من المعاصي والموبقات.
فانظر أخي المسلم: هل أنت من الرابحين أم من الخاسرين؟!(26/1)
الناس في رمضان رابح وخاسر
الحمد لله الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله! حياكم الله في بيتٍ من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولانا في الدنيا والآخرة، اللهم تولنا في الدنيا والآخرة، واجعلنا مباركين أينما كنا يا رب العالمين!
اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية الله للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
عباد الله! تقوى الله سبحانه وتعالى هي أفضل زادٍ ينتقل به العبد من هذه الدار يوم أن ينتقل، ولذلك أوصى الله تعالى بالتزود أيضاً فقال جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197] ولن يوفق للخيرات، ولا إلى العلم النافع، ولا إلى الهدى إلا من اتقى الله سبحانه وتعالى، إذا اتقى الله العبد وسار على نهج الكتاب والسنة فعند ذلك يفوز وينجو في الدنيا وفي الآخرة.
أخي في الله! من هم الرابحون في رمضان؟ الله أكبر! هذا السؤال ينبغي لنا -أخي في الله- أن نتعقل هذا السؤال، ثم نتعقل الجواب الذي بعده.(26/2)
الرابحون في رمضان
من هم الرابحون؟ نعم؛ لأن الناس ينقسمون إلى قسمين: رابح وخاسر.
نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين، فالرابحون هم الذين يتلقون هذا الشهر الكريم بالقبول والفرح والاهتمام بأداء حقوق الصوم فيعمرون نهاره بالصيام، ويحفظون أوقاته بالطاعات التي تقربهم من الله تعالى، والابتعاد عما يغضب الله تعالى، ولله در القائل:
قد جاء شهر الصوم فيه الأمان والعتق والفوز بسكنى الجنان
شهرٌ شريفٌ فيه نيل المنى وهو طراز فوقكم للزمان
طوبى لمن قد صامه واتقى مولاه في الفعل ونطق اللسان
ويا هنا من قام في ليله ودمعه في الخد يحكي الجمان
ذاك الذي قد خصه ربه بجنة الخلد وحورٍ حسان
هناكم الله بشهرٍ أتى في مدحه القرآن نص عيان
هذا الشهر الكريم شهرٌ أنزل الله فيه القرآن، فالرابحون: هم الذين يغتنمون أوقاته أيضاً بتلاوة القرآن، والله ثم والله إن العاقل هو الذي يكثر من تلاوة القرآن، بل الرابح هو الذي يكثر من تلاوة القرآن، ويهتدي بهدي القرآن، ويسترشد بمواعظ القرآن، ويأخذ العبرة من قصصه، ويلتقط من درره وحكمه؛ لأن القرآن أتى بالشريعة الإسلامية، منه تستمد الأحكام والمسائل الفقهية، فهو عماد الأمة الإسلامية في دينها ودنياها، وصدق الله العظيم إذ يقول جل جلاله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
السلف الصالح في رمضان يتركون حتى مدارسة العلم ويقبلون على تلاوة القرآن لا إله إلا الله!
أمة الإسلام! اعرفوا قدر هذا القرآن الذي أعرض عنه الكثير في هذه الأزمنة الممتلئة بالفتن والمغريات والملذات والشهوات التي طمت على القلوب فإنا لله وإنا إليه راجعون!
اللهم لا تجعلنا ممن قلت فيهم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] نسأل الله العفو والعافية!
الرابحون: هم الذين قد عرفوا قدر هذا القرآن، وإنه منحة عظيمة منحها الرب جل جلاله هذه الأمة {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155].
القرآن مأدبة الله، فأقبلوا على مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء الناجع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، لا تنقضي عجائبه، ولا تخلط من كثرة الرد.
اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف}.
والله ثم والله! لا عيش أطيب من عيش المتعظين بهذا القرآن المهتدين بهذا القرآن، ولا نعيم أتم من نعيمهم لما هم فيه من شرح الصدور بالإيمان بالله، والسرور بطاعته وعبادته، إذا قاموا ينادون ربهم بكلامه المنزل في رمضان، وفي غير رمضان أولئك الرابحون الذين عرفوا قيمة الزمان فاستعملوه بطاعة الرحمن، لا إله إلا الله! {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
أمة محمد صلى الله عليه وسلم! اعرفوا قدر هذا القرآن.
أمة الإسلام! إن هذه الموعظة التي جاءتكم من ربكم هو القرآن العظيم وما فيه من أخبارٍ صادقة نابعة، وأحكامٍ عادلة، فيها مصلحة للخلق ليس في دينهم فحسب ولكن في دينهم ودنياهم، فأكرم وأنعم بهذا القرآن الذي قال الله عنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
الرابحون هم الذين عرفوا هذا القرآن وأقبلوا على الله جل وعلا بكثرة تلاوته، وعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، قال الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] الله أكبر! لا إله إلا الله! من هم أولو الألباب؟
قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] أولئك الرابحون الذين عرفوا قيمة الزمان، فقضوا أوقاتهم بتلاوة القرآن، وكثرة ذكر الله عز وجل، ولذلك وصفهم الله جل وعلا بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:63 - 64].
أولئك الرابحون الذين عرفوا قيمة الليل؛ لأن الليل له فرسان؛ فرسانٌ يقودهم الشيطان -والعياذ بالله- في أودية الغي والضلال، وفرسانٌ يهتدون بكتاب الله ويستنون بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الفرسان الذين قادهم القرآن واهتدوا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، مدحهم الرحمن جل وعلا فقال جل جلاله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] إذا أثخن أولئك السهر الذين سهروا مع الأفلام والمسلسلات، والأغاني الماجنات، والأوراق الفاتنات وغيرها التي تطفأ فيها الأوقات فإذا أثخن أولئك السهر، وإذا بأولئك عباد الرحمن الذين عرفوا قيمة الزمان، وإذا هم يقومون لصلاة التهجد، لا إله إلا الله! وليس ذلك خاصٌ في رمضان، بل كل حياتهم صلاة، كل حياتهم تعبدٌ في ذلك الوقت المبارك الذي حث عليه ربنا سبحانه وتعالى، وحث عليه رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك الوقت المبارك الذي ينزل فيه الرب جل جلاله إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، لا إله إلا الله!
من الذي يحوز على ذلك الوقت المبارك؟ أولئك الرابحون الذين قال الله عنهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
إخواني في الله! إن لقيام رمضان مزية خاصة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} فلله درك من شهرٍ كريم، وموسمٍ عظيم! نزل القرآن بتشريفه وتعظيمه، ونطقت السنة بفضله، شهرٌ تجدد فيه الجنة، وتزين، وتشرف فيه الحور العين فينادين هل من خاطبٍ إلى الله تعالى فيزوجه؟ شهرٌ تفتح فيه أبواب الرحمة، وتغلق أبواب الجحيم، وتسلسل فيه الشياطين.
شهر رمضان ترفع فيه الدرجات، وترحم فيه العبرات، فاستقبلوه -يا عباد الله- كما استقبله أولئك.(26/3)
كيفية استقبال السلف الصالح لشهر رمضان
السلف الصالح الذين عرفوا قيمة الزمان، استقبلوا شهر رمضان بقلوب ملؤها الإيمان، وبفريضة هذا الشهر، وبصبرٍ على طاعة الله، واحتسبوا الأجر والثواب من عند الله، يقول الرب جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] نداء للمؤمنين بهذا النداء الشريف يناديهم أكرم الأكرمين جل وعلا يقول سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:183 - 185].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قال الله عز وجل -اسمع أخي في الله إلى هذا الفضل العظيم- كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة -ثم اسمع إلى هذه التوجيهات- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله؛ فليقل: إني صائم} ثم يقول: {والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه} متفقٌ عليه، وهذا نص رواية البخاري، وفي رواية للبخاري أيضاً: {يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشرة أمثالها} وفي رواية لـ مسلم: {كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي فأنا أجزي به -الله أكبر! لا إله إلا الله! - يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد} متفقٌ عليه.
إخواني في الله! هذا شهر الصيام والقيام قد أقبل عليكم يا أمة الإسلام! فكم فيه من الخيرات لمن وفقه الله.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، فيقول: {جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم!} رواه الإمام أحمد والنسائي.
فهذا شهر رمضان المبارك قريباً سوف يحل عليكم ضيفاً كريماً فاغتنموه يا عباد الله!(26/4)
فوائد الصيام
أمة الإسلام! للصيام فوائد عظيمة، ومنافع جمة، وآثارٌ حسنة، فهو يكبت النفس، ويطفئ شهواتها، فإن النفس إذا جاعت سكنت وخضعت وامتنعت عما تهوى، فسبحان من فرض الصيام على عباده!
لا إله إلا الله! الصيام يربي في الإنسان الفضائل والإخلاص والأمانة، والصبر عند الشدائد، فالنفس إذا امتنعت عن الحلال طلباً لمرضاة الله تعالى، وخوفاً من أليم عقابه، فالأحرى بها أن تتمرن على الامتناع عن الحرام الذي هي غنية عنه وتبعد عنه كل البعد فما تقترب من المحرمات التي منها الهلاك والعطب.
ومن فوائد الصيام: أنه يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالفقراء، والعطف على البائسين، فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات؛ تذكر الفقير الجائع في جميع الأوقات؛ فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه.
ومن فوائد الصيام: أنه ينقي الجسم من الفضلات الرديئة، ورطوبات الأمعاء، ويشفي كثيراً من الأمراض بإذن الله تعالى، فسبحان من فرض الصيام! ولله در الصيام كم فيه من الفوائد الجمة!
ومن فوائد الصيام: أنه يقوي النفس على البر والحلم، ومن يلاحظ حال الصائمين الموفقين لما هم عليه من تحري الطاعة، وتحري سبل الخيرات، والابتعاد عن المعاصي، والرغبة في الإحسان؛ يدرك أن الصوم من أعظم أسباب الهداية، ويدرك معنى قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] ويدرك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {الصوم جُنَّة} ويدرك ما فيه من تهذيب النفس وتطهيرها من الأخلاق الموبوءة وترويضها على الطاعات، وإعدادها للسعادتين الدنيوية والأخروية.
وحسبك -أيها المسلم- في فضل الصيام قول الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك} لا إله إلا الله!
يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين} متفقٌ عليه.
لا إله إلا الله! فرصة عظيمة للمسلمين، نسأل الله جل وعلا أن يبلغنا رمضان.
قال بعضهم:
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادماً يوم الحصادِ(26/5)
فضل قيام الليل
أخي في الله! نعم.
إن في رمضان ذلك القيام الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيام رمضان اللهم اجعلنا من القائمين لك يا رب العالمين، وتقبل منا يا حي يا قيوم!
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
أدم الصيام مع القيام تعبداً فكلاهما عملان مقبولانِ
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم إلا كنومة حائرٍ ولهانِ
فلربما تأتي المنية بغتة فتساق من فرشٍ إلى أكفانِ
يا حبذا عينان في غسق الدجى من خشية الرحمن باكيتانِ
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ غضبت عن محارم الله} وفي رواية: {باتت تحرس في سبيل الله}.
يا حبذا عينان في غسق الدجى من خشية الرحمن باكيتانِ
الله ينزل كل آخر ليلة لسمائه الدنيا بلا كتمانِ
فيقول: هل من سائلٍ فأجيبه؟ فأنا القريب لكل من ناداني
فيا عباد الله! ألا خاطب إلى الرحمن في هذا الشهر؟! ألا راغبٌ فيما أعد الله للطائعين في الجنان؟! ألا طالبٌ لما أخبر الله به من النعيم المقيم؟!
هنيئاً للرابحين الذين عرفوا قيمة الزمان! يقول الرب جل وعلا في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا ذلك في كتاب الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.
عباد الله! اسمعوا ماذا كانوا يعملون! قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
ومن صفاتهم أيضاً: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] هنيئاً لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24] لماذا؟ لأنهم عرفوا قيمة الزمان، فقاموا بطاعة الرحمن، فأورثهم الله تلك الجنان، نسأل الله من فضله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه وإحسانه.
ومما أعد الله لهم في الجنة من النعيم الذي لا يماثل له نعيم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]} الله أكبر! للذين أحسنوا: أي الذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم.
ومما ورد في الحث على قيام الليل ما أخبر به عبد الله بن سلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} نسأل الله من فضله، يا رب أيقظنا من رقداتنا، يا رب لا تجعلنا من الخاسرين، كم من أناسٍ خسروا هذا؟! نسأل الله العفو والعافية.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} رواه مسلم.(26/6)
هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في قيام الليل
وعن عائشة رضي الله عنها تصف ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتقول: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة} رواه البخاري، وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: {ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة! إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي} متفقٌ عليه.
الله أكبر!
هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والبعض من الناس يبحث عن الإمام الذي يخفف، الله أكبر! يستبشرون إذا سمعوا أحد الأئمة يخفف الصلاة، الله أكبر! ويتحدثون به في المجالس، فلان بن فلان يخفف فيتسارعون إليه الله المستعان!
هذا من عدم الرغبة يا عباد الله! وإلا فهدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي الله عنها: {يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي} متفقٌ عليه.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! اقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم؛ لأن البعض من الناس يظن أن العبادة عادة، نسأل الله العفو والعافية، ولذلك تجد بعضهم يقول: لماذا لا نجد اللذة التي وجدها السلف الصالح، السلف الصالح يتحدثون عن تلك اللذة التي يجدونها في العبادة منهم من يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة لجالدونا عليه بالسيوف ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
الله أكبر!
ويقول بعضهم رحمه الله: جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة فتلذذت به عشرين أخرى.
الله أكبر! لا إله إلا الله!(26/7)
أهمية مجاهدة النفس والأهل على قيام الليل
أمة محمد صلى الله عليه وسلم! الله الله بالاهتداء بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم! هنيئاً لأهل الليل الذين عرفوا قيمة الليل، عرفوا قدر الليل، فقاموا تلك الساعة المباركة، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة} رواه مسلم، الله أكبر! لا إله إلا الله.
أخي في الله! اغتنم عمرك في طاعة الله ما دمت في زمن الإمكان، اغتنم عمرك في طاعة الله ما دمت في زمن الإمكان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على قيام الليل: {رحم الله رجلاً قام من الليل -دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم- فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء} رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات} الله أكبر! اللهم اجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
أخي في الله! الله الله في قيام الليل! يقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله:
قم الليل يا هذا لعلك ترشدُ إلى كم تنام الليل والعمر ينفدُ
أراك بطول الليل ويحك نائماً وغيرك في محرابه يتهجدُ
ولو علم البطال ما نال زاهدٌ من الأجر والإحسان ما كان يرقدُ
وصام وقام الليل والناس نومٌ ويخلو بربٍ واحد ينفردُ
بحزمٍ وعزمٍ واستغاثٍ ورغبة ويعلم أن الله ذا العرش يُعبدُ
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً مخلدُ
أترقد يا مغرور والنار توقدُ فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمدُ
الله أكبر! ليتهم يرقدون الآن، يا ليتهم يرقدون نسأل الله العافية! لأن بعضهم لا يرقد بل يبارز الله بالمعاصي طول الليل فإذا جاء وقت الفضائل رقد، نسأل الله العفو والعافية، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا يا رب العالمين، الله أكبر! هذا ابن أدهم رحمه الله يقول:
أترقد يا مغرور والنار توقد فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمدُ
فيا راكب العصيان ويحك خلها فتحشر عطشاناً ووجهك أسودُ
فكم بين مشغولٍ بطاعة ربهم وآخر بالذنب الثقيل مقيدُ
المشغول بطاعة ربه.
الله أكبر!
فهذا سعيدٌ الجنان منعم وهذا شقيٌ في الجحيم مخلدُ
ثم يصف لنا ذلك الموقف العظيم الذي سوف نقف به يوم القيامة -لا إله إلا الله اللهم رحماك رحماك يا أرحم الرحمين- يقول رحمه الله:
كأني بنفسي في القيامة واقفٌ وقد فاض دمعي والمفاصل تضعف
وقد نصب الميزان للفصل والقضا وقد قام خير العالمين محمدُ
فعلينا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن نتذكر ذلك اليوم العظيم حتى يحصل عندنا الاستعداد، يقول بعضهم رحمه الله:
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
يومٌ تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولدانِ
يوم عبوسٌ قمطريرٌ شره في الخلق منتشرٌ عظيم الشانِ
يوم يجيء المتقون لربهم وفداً على نجب من العقيان
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى يتلمظون تلمظ العطشانِ(26/8)
الأسباب التي تعين على قيام الليل
أخي في الله! إن البعض من الناس يقول: نحن نرغب في قيام الليل، ونحب قيام الليل، فما هي الأسباب التي تعين على قيام الليل؟ بعد أن نستعين بالله جل وعلا، {اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
أقول:
أولاً: تهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ما هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟
اسمع هذا وأنت ترى الخبر المداهم الذي داهمنا في هذه السنين المتأخرة: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم {أنه يكره النوم قبلها -أي قبل صلاة العشاء- والحديث بعدها} من هذا؟ هذا أفضل الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر الله الأمة أن تقتدي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
مع الأسف الشديد نجد الآن الذي يطبق السنة يقولون: هذا دجاجة! إذا رآه إنسان ينام مبكراً قالوا: هذا دجاجة! الله أكبر! لا إله إلا الله!
ولذلك من أشراط الساعة أن يعير الرجل بدينه.
الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، هذا دجاجة! هل الذي يطبق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون دجاجة؟! اللهم لا تحرمنا فضلك يا رب العالمين.
التوجيه الثاني: إذا أردت أن تقوم الليل؛ فلا تكثر الطعام عند النوم، قلل الطعام عند النوم.
ثالثاً: نم متوضئاً على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقل: {اللهم إني وجهت وجهي إليك، وأسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} واقرأ آية الكرسي، واقرأ المعوذات وسورة الإخلاص في كفك وامسح بها ما استطعت من جسمك.
ثم الأذكار التي علمها علياً وفاطمة رضي الله عنهما: تسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبر الله أربعاً وثلاثين، ثم تنام.
فإذا استيقظت فخذ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن الإنسان إذا نام عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة عليك ليلٌ طويلٌ فارقد} ما هو التوجيه الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قال صلى الله عليه وسلم: {فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة} ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من النوم يقول: {الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد وله الملك وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال صلى الله عليه وسلم: فإن دعا بعد هذا الذكر استجيب له، وإن صلى قبلت صلاته} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً.
التوجيه الأول قال صلى الله عليه وسلم: {فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة}.
التوجيه الثاني: {فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت عقدة وبهذا نتحل العقد الثلاث فيصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان} نسأل الله العفو والعافية.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبلغنا شهر الصيام والقيام، اللهم اجعلنا من الصائمين القائمين.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام والدعاء والتضرع بين يديك.
اللهم لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك آيسين يا رب العالمين.
اللهم اهدنا وسددنا، اللهم اهدنا وسددنا، اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وقاداتنا.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم وحد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والدين يا رب العالمين.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعالٌ لما يريد، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له يا سميع الدعاء!
اللهم عليك بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، وخالف بين كلمتهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم.
اللهم إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/9)
فرحة أهل الإيمان [2،1]
الدنيا دار ابتلاء، ومحطة تزود على طريق المسافرين إلى رب الأرض والسماء، وميدان عمل يستلم العامل أجره عليه عند اللقاء.
وهذه المحاضرة تذكير للعامل بعظم الأجر وجزيل العطاء وفرحة اللقاء، ونعيم الجنة مما لا يدركه الخيال ولا تتصوره الآمال.(27/1)
الفرح بالتوفيق إلى الطاعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربي وسلامه عليه، تركنا على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فأكثروا عليه من الصلاة والتسليم كما أمر الله بذلك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ثم أبشروا معشر المؤمنين؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسانٍ، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات! حياكم الله في بيتٍ من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن يتحقق فيه هذا الخبر: {ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده}.
لا إله إلا الله، يا له من فضل عظيم يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الموضوع كما سمعتم وعلمتم: فرح المؤمنون بدخولهم الجنان، أو كما سمعتم -أيها الإخوة في الله- عن الموضوع.
فكم للمؤمن من فرحة، بل في الدنيا له فرحة، بل له في الدنيا أفراح يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! فرحه يوم أن ألهمه الله جل جلاله ووفقه لأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فرحه يوم أن يوفقه الله سبحانه وتعالى يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
فرحه يوم أن يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ممتثلاً أمر الله (وأقيموا الصلاة).
فرحه يوم أن تكون المحاورة بينه وبين ربه في ذلك الموقف الشريف، ألا وهو الصلاة يوم أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فيقول: أثنى عليَّ عبدي، ويقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيقول: مجدني عبدي.
الله أكبر! محاورة عظيمة يفرح بها المؤمن، حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، وإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
فرح المؤمن يوم أن يتحقق له هذا الفضل العظيم، ويلحقه الله بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم، وحسن أولئك رفيقاً.(27/2)
فرح المؤمن بالبشرى عند الموت
فرحه يوم أن يُبَصِّره الله، ويفقهه في الدين، ويصرفه عن طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
فرحه يوم أن تنزل عليه البشرى عند فراقه هذه الدنيا، لا إله إلا الله، وأعظم بها من بشرى يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
الله أكبر! ما هي هذه البشرى التي يتلقى بها عند فراقه هذه الدنيا، دار الهموم، دار الغموم، دار الأحزان والكروب، دار المجاعة والأمراض، دار الأمور التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟ يوم ينتقل منها إلى جوار ربه، تكفيه هذه البشرى، فيا لها من فرحة، يوم أن يسمع هذه البشرى، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:3] أي فرحة أعظم من هذه الفرحة إذا سمع هذه البشرى يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟!
وأيضاً: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
يوم أن يتحسر أهل التفريط والإضاعة الذين أضاعوا العمر في المعاصي والسيئات، يوم أن يطلبوا الرجعة ليتزودوا من الأعمال الصالحات ولكن هيهات هيهات، نسأل الله العفو العافية، ما هي أمنيتهم عند فراق الدنيا؟ اسمع الفرق يا عبد الله! يقول الله جل جلاله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:9] لماذا يطلب الرجعة؟ قال الله تعالى مخبراً عنه: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:10] والجواب؟ {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:10] فينتقل إلى حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.
أما الآخر الذي آمن بالله واستقام على طاعة الله تتنزل عليهم الملائكة تبشره برحمة الله سبحانه وبحمده، تطمئنه: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
اللهم اجعلنا نسمع هذه البشرى يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير، فيا من تشتاق نفوسهم إلى هذه البشرى ما هو الأمر الذي ينبغي لنا أن نستعد به؟!
الأمر سهل ولله الحمد، ولكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له} اللهم اجعلنا من أهل السعادة الذين ييسرون لأأعمال أهل السعادة يا رب العالمين.(27/3)
التقوى طريق للفرحة الكبرى في الحياة الأخرى
إخواني في الله! هو زادٌ واحد؛ هو أن تلتزم بتقوى الله سبحانه وتعالى، وأبشر بهذه الكرامة أخي في الله؛ كرامات في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، ويوم البعث والنشر، وفي ذلك اليوم، يوم أن تقوم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، تصور الفرحة أخي في الله، تصور الفرحة يوم يساقون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ماذا يقال لهم وهم يستقبلون، قال الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:46 - 47].
تصور أخي في الله الفرحة في ذلك اليوم العظيم، إنها والله فرحة لا يماثلها فرحة أخي في الله، فرحة عظيمة وقبلها تلك الفرحة يوم أن يعطى كتابه باليمين، ويوم أن تثقل موازينه، ويوم أن يبيض وجهه، ويوم أن يطمئن قلبه، لأنه تحقق له وعد الله الذي قال فيه سبحانه وتعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] تحقق له وعد الله جل وعلا يوم أن أخذ كتابه بيمينه، قال الله جل جلاله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24] وماذا أسلفوا في الأيام الخالية؟ وما هي الأيام الخالية؟
أسلفوا في الأيام الخالية توحيد الله سبحانه وتعالى، فأفردوا الله بالعبادة، وأخلصوا الأعمال لله الواحد القهار، واتبعوا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، أقاموا الصلاة، آتوا الزكاة، صاموا رمضان، حجوا بيت الله الحرام، بروا بالوالدين، وصلوا الأرحام، أمروا بالمعروف، نهوا عن المنكر، فعلوا الخيرات، فلذلك وجدوها في ذلك اليوم العظيم.
والأيام الخالية هي أيام الدنيا، عملوا فيها قليلاً فجزاهم الله على ذلك الفضل العظيم، فما أعظم الفرحة يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! يوم أن يرفع الكتاب فرحاً مسروراً: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
ثم سمعتم بماذا يقابلون يا عباد الله؟! يقول الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
ثم يخبر الله جل وعلا فيقول سبحانه وبحمده: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ومع ذلك في تلك الجنة: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَب} [الحجر:48] ليس فيها تعب، فهي دار السرور والبهجة والحبور، دار اللذة والنعيم، ثم يقول الله جل وعلا: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] بخلاف منازل الدنيا، إذا لم كان مستأجراً يأتيه صاحب العقار ويقول: اخرج فقد انتهت المدة، لكن بعض الناس يرفع رأسه يقول: أنا في ملك والحمد لله، لا يأتيه صاحب العقار ويقول: اخرج عن الدار، فنقول: يأتيك هادم اللذات ومفرق الجماعات، ويخرجك من الدار، من بين الأهل والأولاد والأحباب، وتسكن في حفرةٍ تصف عليك فيها اللبنات، ويحثى عليك التراب وتتخلى فيها وحيداً فريداً.
أما الجنة فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] نسأل الله من فضله الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة يا رب العالمين.
إخواني في الله! اسمعوا ماذا أعد الله لهم في الجنة، يقول الله جل وعلا، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ممن يستمع هذا النداء: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69] يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:70 - 71] ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:72 - 73].
ثم ينادي منادٍ -أيها الإخوة في الله- ويفرح المؤمنون يوم أن يسمعوا هذا النداء، يقول المنادي -إخواني في الله- كما أخبر الصادق المصدوق نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تناموا فلا تبأسوا أبداً} الله أكبر!
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً عن ربه سبحانه وتعالى: {يقول الله جل وعلا: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} وماذا كانوا يعملون؟ اقرأ أول الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] وقال في سورة أخرى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].(27/4)
خسارة المفرطين المدمنين للسهر
ولذلك نقول للمفرطين الذين يضيعون أوقاتهم مع الأفلام والمسلسلات والبلوت وغيرها من القيل والقال ويسهرون مع هذه المصائب، اسمعوا إلى أحوال أولئك الذين وعدهم الله بجنةً عرضها السماوات والأرض، ما هي أحوالهم؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] الله أكبر! لا إله إلا الله، والله فرق يا إخواني! فرق عظيم، بين من يقضي ليله أو بعض ليله أو قليلٌ من الليل بالتهجد والقرب من الله سبحانه وتعالى، وبين من يتربع أمام الأفلام والمسلسلات واستماع الأغاني الخبيثات الخليعات الماجنات، وقضاء الليالي مع البلوت وغيرها، بشتى السب والشتمات والغيبة والنميمة والشيشة والدخان والمخدرات والمسكرات، هذه أحوال الكثير من الناس يا إخوان!
يقول بعض السلف رحمه الله:
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليـ ل إلى نور القران
وليصل صوماً بصومٍ إن هذا العيش فان(27/5)
زوال الدنيا يذكر المرء بفضل الدين
إي والله؛ عيش الدنيا لا بد له من الفناء يا عبد الله! وإن كثرت الأموال وتغطرس بالترف فوالله لا بد له من الزوال، فمن يرد الملك الذي لا يزول والنعمة والدار والنعيم الذي لا يزول ولا يحول فعليه أن يرضي الله سبحانه وتعالى.
اسمع عن خبر القوم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ثم إذا انتهوا من التهجد والصلاة ماذا يعملون؟ {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] هنيئاً لهم، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، أفضل الأنبياء والمرسلين يقول: {والله إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة} هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، هذا في رواية البخاري، أما في رواية مسلم فيقول صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه؛ فإني استغفر الله في اليوم مائة مرة} اللهم صلِّ على محمد.
الله أكبر! لا إله إلا الله، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فما بالنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! لا نقتدي بسيد الأولين والآخرين الذي قال الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] الله أكبر لا إله إلا الله! اللهم وفقنا للتأسي بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.(27/6)
ما يخسره الساهرون على اللهو
إذاً: يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! اعلموا ثم اعلموا ثم اعلموا أن ما أحدثه بعض الناس في هذه الآونة المتأخرة من السهر طول الليل أنها بدعة دخلت على المسلمين -نسأل الله جل وعلا أن يرفعها، اللهم ارفع هذه البدعة، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً- وكم خسرنا بهذه البدعة يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! يوم أن طال السهر؟
خسرت الأمة أو بعضهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يسأل الله إلا أعطاه الله من خيري الدنيا والآخرة}.
خسر بعض الناس ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا بقي ثلث الليل الأخير ينزل ربنا جل جلاله إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟} والبعض من الناس أحسن الله عزائه وجبر مصيبته، قد خسر هذا الفضل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وبحمده، فيقول جل جلاله: {أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر}.(27/7)
ما يجنيه اللاهون في سهرهم على الإثم
فيا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! ونحن بصدد هذه النقطة (السهر) أقول: اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يقول: {لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب -الله أكبر! محمر الوجه صلى الله عليه وسلم- ثم حَلَّق بإصبعيه فقال: فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، قالت زينب رضي الله عنها -زوجة النبي صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث} فإنا لله وإنا إليه راجعون!
إخواني في الله! أسألكم بالله العظيم: ماذا نستفيد من محطة اليهود والنصارى والإفرنج التي تبث عبر الأقمار الصناعية، هذه الأقمار الخبيثة، ماذا نستفيد منها؟! ثم كيف الأحوال إذا المرأة والطفل الصغير عاشوا على هذه الأفلام -الابن والبنت-؟ كيف الأحوال إذا عاش المجتمع على هذه الأفلام؟! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
فيا عباد الله! من ابتلي بهذا الغش الذي يسمى الدش -وهو والله غش غشنا به أعداء الإسلام وأعداء المسلمين- وابتلي بهذه الصحون فليزلها عن سطح داره، ويتوب ويرجع إلى الله، ويجدد توبة نصوحاً، أسأل الله بمنه وكرمه أن يعافي المسلمين من شر هذه الصحون، وأسأله جل جلاله أن يمنَّ عليهم أن يزيلوها كما أزال إمامهم وقدوتهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الأصنام من بيت الله الحرام.
اللهم أزلها عن بيوت المسلمين يا رب العالمين، وأبدلها ما عاش عليه أسلافنا من قيام الليل وتلاوة القرآن إنك على كل شيء قدير يا أرحم الراحمين.(27/8)
وصف نعيم الجنة
اسمع إلى هذا الفرح الذي يفرح به المؤمنون إذا دخلوا الجنة، والله إنه فرحٌ تلذ لسماعه الأسماع، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، يقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً} الله أكبر! كيف لا تفرح القلوب بهذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ثم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك الذين يدخلون دار الأفراح، التي يفرح بها المؤمنون، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أول زمرةٍ يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكبٍ دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة -يعني: عود الطيب ثم قال صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بهذا النعيم- أزواجهم الحور العين، على خلق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء} متفق عليه.
وفي رواية للبخاري ومسلم: {آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحدٍ منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرةً وعشياً}.
ثم يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأخبار كلها صحيحة أخي في الله! إن شاء الله لا أسمعك في هذه الجلسة إلا حديثٌ صحيح إما رواه البخاري أو مسلم أو كلاهما إن شاء الله تعالى، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟! قال: بلى.
والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين} هنيئاً لأهل الجنة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقاب قوسٍ في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس أو تغرب} الله أكبر! سبحان الله العظيم! كيف نلتفت إلى الدنيا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع هذه الأخبار؟! الله أكبر! لا إله إلا الله! اللهم اشف مرض قلوبنا يا رب العالمين: {لقاب قوسٍ في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس أو تغرب} والحديث متفقٌ عليه.
ثم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً}.(27/9)
لذة النظر إلى وجه الله الكريم
اسمع أخي في الله إلى هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خبرٌ عظيم، وسيأتي تفصيله بإذن الله كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، ما هو هذا الخبر الذي يفرح به المؤمنون في الجنان؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم} نسأل الله من فضله، الله أكبر! والله جل وعلا يقول: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:25 - 26] الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم.
ثم قال جل وعلا: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26].
ثم اسمع أخي إلى آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة} لأن من مات على التوحيد فإنه لا يخلد في النار، نسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من الشرك صغيره وكبيره، إنه على كل شيء قدير، يخرجون من النار وقد أكلت النار كل شيء إلى موضع السجود، يخرجون منها كالفحم، نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ألا يدخلنا النار، اللهم لا تجعلنا من أهل النار، اللهم ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً يا أرحم الراحمين!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة؛ رجلاً يخرج من النار حبواً فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فإنك لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا -الله أكبر! - فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: ذلك أدنى أهل الجنة منزلاً} متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة} الله أكبر الله أكبر! {إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً} متفق عليه.(27/10)
الجنة وأوصافها
إخواني في الله! الجنة إن سألتم عن سعة الجنة؟
فقد ندب الله إليها وأخبر سبحانه عن سعتها، فقال جل جلاله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين.
وإن سألتم عن أرض الجنة وتربتها؟
فهي المسك والزعفران.
وإن سألتم عن سقف الجنة؟
فهو عرش الرحمن، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وأراه قال: وفوقه عرش الرحمن} اللهم إنا نسألك الفردوس يا رب العالمين.
وإن سألتم عن حصبائها؟
فهي اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألتم عن بنائها؟
فلبنة من فضة ولبنة من ذهب.
وإن سألتم عن أشجارها؟
فما منها من شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة لا من الحطب والخشب.
وإن سألتم عن ثمار الجنة؟
فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألتم عن ورقها؟
فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألتم عن أنهارها؟
فاسمعوا إلى خبر الله جل وعلا في محكم البيان، يقول الله جل وعلا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] نسأل الله من فضله الجنة، الله أكبر!
وإن سألتم عن طعامهم؟
فيقول جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] نسأل الله من فضله الجنة.
يا إخواني! اسألوا الله الجنة، اسألوا الله الجنة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هنيئاً لمن أدخله الله الجنة، يا لها والله من فرحة لمن أدخله الله الجنة وأنجاه الله من النار، الله أكبر!
الجنة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:17 - 21].
أما إن سألتم عن آنيتهم في الجنة؟
فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألتم عن عدد أبواب الجنة؟
فللجنة ثمانية أبواب.
وإن سألتم عن سعة أبواب الجنة؟
{فما بين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليه يومٌ وهو كضيض من الزحام}.
وإن سألتم عن تصفيق الرياح لأشجار الجنة؟
فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها.
وإن سألتم عن ظلها؟
ففيها: {شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها}.
وإن سألتم عن ارتفاعها؟
فهي غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار.
وإن سألتم عن ارتفاعها؟
فانظروا إلى الكوكب الطالع أو الغابر في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألتم عن لباس أهل الجنة؟
فهو الحرير والسندس والإستبرق.
وإن سألتم عن حليهم؟
فالذهب والفضة.
وإن سألتم عن فرشهم؟
فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألتم عن أرائكها؟
فهي الأسرة عليها المشخامات، وهي الحجال مزررة من الذهب فمالها فروج ولا خلال.
وإن سألتم عن وجوه أهل الجنة وحسنهم؟
فهي على صورة القمر ليلة البدر.
وإن سألتم عن أعمار أهل الجنة؟
فأبناء ثلاث وثلاثين على صورة آدم أبي البشر.
وإن سألتم عن سماع أهل الجنة؟
فهم يسمعون غناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منه خطاب رب العالمين.
وإن سألتم عن مطايا أهل الجنة التي يتزاورون عليها؟
فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاءوا من الجنان.
وإن سألتم عن غلمانهم الذين يخدمونهم في الجنة؟
فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون.
وإن سألتم عن عرائسهم وأزواجهم في الجنة؟
فهن الكواعب الأتراب التي جرى في أعضائهن ماء الشباب.
وأقول لأخواتي المستمعات: أيتها المؤمنة! اعلمي أن المؤمنة إذا دخلت الجنة أنها تكون أفضل من الحور العين، أبشري يا أمة الله أبشري! ويا لها من فرحة إذا دخلت الجنة، فالمؤمنة إذا دخلت الجنة تكون أفضل من الحور العين.
فيا أمة الله! الله الله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذري مما يغضب الله ويغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه صفة أزواجهم في الجنة.
نعم، أيها الإخوة في الله! اسمعوا إلى صفة العرائس في الجنة حتى لا نغتر بما نرى على الشاشة، أو بما نرى على المجلة من الصورة المزورة بالحمور والخضور والصفور، اسمعوا إلى الجمال يا من تحبون الجمال! ونسأل الله جل وعلا أن يجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب.
إن سألتم عن عرائسهم وأزواجهم في الجنة؟
فهن الكواعب الأتراب، التي ترى في أعضائهن ماء الشباب، كأن الشمس تجري في محاسن وجهها إذا برزت، وكأن البرق يضيء من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين، يرى وجهه في صحن خدها، ويرى مخ ساقيها من وراء اللحم من حسنها وجمالها، ومع ذلك لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، ومع ذلك نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما عليها، ومع ذلك لا تزداد مع طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحيض والنفاس، ومطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، قد قصرت طرفها على زوجها، لا تطمع لأحد سواه، ومع ذلك لم يطمثها قبله إنس ولا جان، لونها كأنه الياقوت والمرجان:
فيا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
نسأل الله الجنة، نسأل الله من فضله الجنة، إنه على كل شيء قدير.(27/11)
الأعمال التي تدخل الجنة
إخواني في الله! إن سألنا عن الأعمال التي تدخل تلك الدار:
فإنها ولله الحمد -كما قلت لكم في بداية الكلام- ميسرة على من يسره الله عليه.(27/12)
توحيد الله تعالى
أولاً: توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة؛ التوحيد يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واليوم أكثر الناس قد أضاع التوحيد، بعضهم يذهب إلى الكهان والسحرة، والمنجمين والعرافين وأهل الشعوذة وغيرهم، هذا إذا سلم من الطواف بالقبور والتوسل بالأموات، والذبح لأهل القبور، وصب العسل والسمن عليها، فهذا والله مصيبة يا إخواني! كسر لا يجبر والعياذ بالله، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ويقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
إذا كان هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم فما بال الذين يذهبون الآن إلى المشعوذين والسحرة والدجاجلة وغيرهم؟! فاسألوا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يطهر بلاد الإسلام من السحرة والكهنة والمنجمين والعرافين؛ اللهم طهر منهم بلاد الإسلام والمسلمين، فإنهم والله دمار على العقيدة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: {أن من أتاهم وسألهم لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً، ومن أتاهم وسألهم عن شيء فصدقهم فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم} أي خسارة أكبر من هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ثم إن بعضهم ممن ضعف عندهم الإيمان وأصيبوا بالأمراض النفسانية بسبب إعراضهم عن الله وبعدهم عن توحيد الله، وهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أصيبوا بأمراض نفسيه، فشنت عليهم الشياطين الغارة حتى ذهبوا إلى أولئك الدجاجلة والمشعوذين، فإذا أتى إليه ربما قال له: تأتي بشاة سوداء أو عنزٍ سوداء وتذبحها ولا تذكر اسم الله عليها، وماذا يحصل لهم؟
في أول قطرة من دمها تحل عليه لعنة الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من ذبح لغير الله} وإن مات على تلك الحال فمصيره أنه مخلد في النار، لأنه صرف نوعاً من العبادة لغير الله، والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ونسكي: أي ذبحي لله رب العالمين {لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162] فلنحذر من ذلك يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أيضاً: من أراد دخول دار الأفراح (الجنة) التي يفرح بها المؤمنون؛ فعليه بمتابعة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي قال: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى}.(27/13)
المحافظة على الصلاة
أيضاً: من أراد أن يدخل دار الأفراح الجنة؛ فعليه أن يقيم الصلاة التي يقول الله جل جلاله مخبراً عما أعد الله للمحافظين عليها -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.(27/14)
أداء الفرائض الواجبة
أيضاً: تؤدي زكاة أموالك حتى تنجو من عذاب الله، فتصوم وتحج بيت الله الحرام، وتبر بوالديك، وتصل أرحامك.
مصيبة يا إخواني ابتلينا بها في هذه الآونة الأخيرة وهي: عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، نسأل الله جل وعلا أن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير، فعاق الوالدين مصيره إذا مات يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم النار، وقاطع الرحم مصيره كذلك، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون الجنة، نسأل الله العفو والعافية.
فينبغي لنا أن نتقي الله؛ نبر بالوالدين، ونصل الأرحام، ونحسن إلى الفقراء والمساكين، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يورثنا تلك الدار التي يفرح بها المؤمنون.(27/15)
وصف ابن القيم للقاء الله بعباده في الجنة
ثم إن هناك -كما ذكرت لكم في وسط الكلام- فضلاً عظيماً أعده الله لأهل الجنة -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- ولعلنا سمعناه مراتٍ ومرات، ولكن هذا الكلام يا إخواني والله لا يمل منه؛ لأنه خبر من الله جل وعلا، وخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم جمعه لنا ابن القيم رحمه الله تعالى، وساقه لنا في كلامٍ لطيف، ساق لنا معنى الآيات ومعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رحمه الله تعالى:
ينادي المنادي: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم، وحاشاهم أن يكون فيهم دني على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.
حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة؟ ويزحزحنا عن النار؟
فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني فهذا يوم المزيد؟
فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة! إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من نوره ما لو أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم تجاوز عن سيئاتنا يا أرحم الراحمين.
نعم.
هكذا يحصل إخواني في الله كما ورد في الحديث الصحيح: {أن الله يضع كنفه على عبده المؤمن ويقرره ببعض ذنوبه} الله أكبر! ولكن يا إخواني علينا أن نبادر بالتوبة النصوح! مادام باب التوبة مفتوحاً؛ لأن نهاية التوبة يا إخواني إذا طلعت الشمس من المغرب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} ولكن هناك أمرٌ أقرب من هذا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فما يدريك يا عبد الله متى تبلغ الروح الحلقوم؛ لأن بعض الناس يدخل عليه الشيطان ويقول: أنت الآن في زمن الشباب، وبعد كبرك حين تبلغ من العمر كذا تتوب، فنقول له: لا يغرنك الشيطان، تب إلى الله عز وجل، كفى ما اقترفت من الذنوب يا عبد الله! تب وارجع إلى الله، وأنتِ يا أمة الله! بادري بالتوبة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى.
واسمع إلى هذا الخبر يا أخي! إن الله جل وعلا يأتي بالمؤمن ويضع عليه كنفه ويقرره ببعض ذنوبه، وفي تلك المحاضرة قال ابن القيم رحمه الله: ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه، يقول ابن القيم رحمه الله: فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة!(27/16)
وصف جهنم وأحوال وارديها
فيا إخواني! هؤلاء الذين يفرحون بالجنان، فما بال الذين يعصون الله سبحانه وتعالى، وينتقلون من هذه الدنيا وقد تحملوا الأوزار والسيئات؟! نسأل الله العفو والعافية.
ونحن نذكرهم لأننا إذا ذكرنا دار المتقين ودار الأبرار ودار النعيم واللذة، فلا بد من أن نعرج على ذكر دار المجرمين والعصاة والكفرة؛ لأنه لازم حتى يكون العبد بين الخوف والرجاء، وهذا مذهب السلف الصالح.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يؤمنه الله يوم البعث والنشور، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يساق إلى جنة عرضها السماوات والأرض ولا يجعلنا من أهل النار.
يقول رحمه الله: يا ويل أهل النار قد باءوا بالخيبة والخسران، لقد حق عليهم العذاب، انظر يا أخي الفرق بين أهل النعيم وأهل الجحيم، إنهم في نار جهنم قد غلت أيديهم وأرجلهم إلى النواصي بالأغلال، إنهم في نار جهنم أمانيهم فيها الهلاك، وليس لهم من أسر جهنم فكاك، يسحبون في أودية جهنم على وجوههم صماً وبكماً وعمياً وقد ترداف عليهم العذاب، فتصوروا أهل النار وقد وصلت النار إلى أفئدتهم، تصوروا أهل النار وقد أطبقت عليهم النار، تصوروا أهل النار وهم يضربون بمقامع من حديد، تصوروا أهل النار وقد ازرقت عيونهم من شدة العذاب، تصوروا أهل النار وقد أحرقت وجوههم النار، تصوروا أهل النار والحيات تنهشهم والعقارب تلدغهم، تصوروا أهل النار وقد نضجت جلودهم، وكلما نضجت جلودهم تعاد.
يا ويلهم من نار جهنم عليها ملائكة غلاظ شداد يضربونهم بمقامع من حديد، فيا ويلهم من النار، لهم فيها زفير وشهيق، قد ارتفعت أصواتهم بالبكاء؛ يبكون على تضييع العمر في غير طاعة الله، ينادون مالكاً كما أخبر الله جل وعلا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
عباد الله! إن سألتم عن أشكال أهل النار:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع} متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: {ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث} رواه مسلم.
وإن سألتم عن ثيابهم:
فقد قال الله تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] ويقول جل جلاله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19].
وإن سألتم عن طعامهم؟
فهو الزقوم والضريع والصديد والغسلين.
وإن سألتم عن شرابهم:
فهم يسقون في النار من عين آنية قد اشتد حرها: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] فيا ويلهم من النار، يقول الله جل جلاله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:105 - 108] فعند ذلك يرجعون إلى أنفسهم باللوم كما أخبر الله عنهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66].
فيا إخواني في الله! أنتم الآن في زمن الإمكان، فالله الله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعك؛ اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بتوبة نصوح، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، اللهم أحسن ختامنا، واجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
اللهم آمنا يوم الفزع والنشور، اللهم يَمن كتابنا، ويسر حسابنا، وثقل موازيننا، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
اللهم اجعلنا على حوض نبينا من الواردين، ولكأسه من الشاربين، اللهم اسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم أصلحنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وقاداتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/17)
الشباب والقرآن
ما هي علاقتنا بالقرآن؟ وكيف نتعامل معه؟ وكيف نتأثر به؟ وما هو واجبنا نحوه؟ هنا إجابات قيمة على هذه التساؤلات وغيرها، ولعل الذي يوضح الصورة أكثر هو النظر في حياة الجيل المثالي جيل القرآن، والحديث عن تلك الأجيال من السلف هو الغالب على هذه المادة.
على أن تلك الخيرية للسلف قد تتعدى إلى أجيالنا المعاصرة إذا هي أحسنت التعامل مع كتاب ربها.
وسارت على المنهج الذي ساره السلف الصالح.(28/1)
أحوال الناس مع القرآن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة في الله! ويا أيتها الأخوات في الله! حياكم الله في بيت من بيوت الله، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب غمومنا وهمومنا، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين!
أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إنه القرآن الذي قال الله عنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
أيها الشباب! نبدأ أولاً بالشباب حثاً على تعلم القرآن، وكيف أحوال الشباب مع القرآن خاصة في هذه الأزمنة المظلمة، أزمنة الفتن والشهوات والمغريات، فوالله الذي لا إله غيره إننا بحاجة ماسة إلى الرجوع إلى كتاب الله عز وجل.
إن الأمة إذا أعرضت عن القرآن فلا تسأل عن أحوالها بأي واد تهلك، يقول عمر بن الخطاب: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] وعلى أي شيء تأسس الإسلام؟ على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(28/2)
أهمية إخلاص النية في الأعمال
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! الله الله بالقرآن، يا أمة القرآن! الله الله بالقرآن.
يا شباب الإسلام! إن البعض من الشباب يسوء فهمه ويتردى حفظه، لماذا؟ لأنه إما أن يعتني بالقرآن لجائزة وعد بها أو هدية أو غيرها، ولا شك أن هذا يشحذ الهمم، ولكنه يضر في النية.
أيها الشباب! إذا حفظ الشاب القرآن لأجل الجائزة، أو الهدية؛ فإن هذا يؤثر على نيته -نسأل الله العفو والعافية- فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم وغيره عن قارئ القرآن الذي قرأ القرآن وتعلمه ليقال: إنه قارئ، أو يقال: إنه عالم، ما هو جزاؤه يوم العرض الأكبر على جبار الأرض والسماوات؟ ما هو جزاؤه يوم أن تبلى السرائر؟ ما هو جزاؤه يوم أن يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور؟
{يؤتى به فيعرفه الله نعمه، فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: قرأت فيك القرآن وتعلمت، فيقول له: كذبت، ولكنك تعلمت وقرأت ليقال: هو قارئ أو هو عالم فقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه في نار جهنم} والعياذ بالله.
فيا شباب الإسلام! الله الله أحسنوا النية، وأخلصوا العمل لله، لماذا قرأت القرآن؟ لماذا طلبت العلم لتتحصل على هذا القرآن؟ اجعل مقصودك الأعظم هو أن تتميز بكتاب الله عز وجل الذي قال الله عنه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
اقرأ القرآن وأخلص نيتك لله الواحد القهار ليرفعك الله بها درجات عالية، خير وأفضل من جوائز الدنيا وما فيها أتدري ما هي هذه الجائزة؟ يقول الرب جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] أين تلك الدرجات؟ إنها درجات الجنة، نسأل الله من فضله الجنة.
أيها الشاب! اقرأ القرآن وأخلص العمل والنية لله وحده لا شريك له؛ لتحصل على هذه الخيرية التي أخبر بها أفضل الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
أيها الشاب! اقرأ القرآن، وأخلص نيتك لله عز وجل حتى يرفعك الله بهذا الكتاب كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}.
اقرأ هذا القرآن ليكون لك شفيعاً يوم القيامة: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] يكون لك شفيعاً بين يدي الله كما وعدك المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم أن قال في الحديث الصحيح: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة}.(28/3)
وجوب العمل بأوامر القرآن
اقرأ القرآن واعمل به؛ لتحوز على رضا الكريم جل جلاله ولا تكن ممن قال عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام: {كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه} نسأل الله العفو والعافية! كم من قارئ للقرآن ويتعدى حدود الله، كم من قارئ يقرأ قول الله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] يقرأ القرآن ويطلق بصره في الحرام والعياذ بالله، ينظر إلى النساء، ينظر إلى المردان، ينظر إلى الأفلام والمسلسلات، نسأل الله العفو والعافية.
كم من قارئ للقرآن، وهو يتعدى حدود الله، يقول الرب جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] كم من قارئ يقرأ القرآن وهو يتعدى حدود الله عز وجل، يقول الرب جل وعلا في القرآن: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] كم من قارئ يقرأ القرآن وهو يتعدى حدود الله، ويرتكب جريمة اللواط والعياذ بالله، وربنا جل وعلا لما بين عقوبة قوم لوط قال جل وعلا: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] أي: الذين يتجرءون على هذه الفاحشة ويعملون هذه الفاحشة -فاحشة قوم لوط- نسأل الله العفو والعافية!
كم من قارئ يقرأ القرآن وهو يبارز الله بالمحاربة بأكل الربا والتعامل بالربا، يقول الرب جل وعلا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275].
كم من قارئ للقرآن وهو يتمتع بسماع الأغاني والمزامير وربنا جل وعلا يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[والله الذي لا إله غيره إنه الغناء]] يعني لهو الحديث.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان عن الغناء: " هو بريد الزنا" الغناء بريد الزنا، الغناء رقية الشيطان، الغناء ينبت في القلب النفاق -نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة- فكم قارئ للقرآن وهو يتعدى حدود الله نسأل الله العفو والعافية.(28/4)
كيفية التأثر بالقرآن
أيها الشاب! نصيحتي لك أن تعرف كلام الله سبحانه وتعالى، كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نرجع إلى عموم المسلمين الذين نزل عليهم القرآن ليخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، نزل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، القرآن الذي قال فيه الله جل جلاله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
أمة الإسلام! يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وفضله وجلاله، وأنه لو خوطبت به صم الجبال لتصدعت من خشية الله تعالى، فهذه هي حال الجبال وهي الحجارة الصلبة وهذه رقتها وخشيتها، وتدكدكها من جلال ربها وعظمته وخشيته: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] الله أكبر لا إله إلا الله! هذه الجبال تتصدع وتتدكدك من خشية الله عز وجل ومن عظمته، فيا عجباً من مضغة لحم كانت أقسى من هذه الجبال! تخوف من قسوة الجبار وبطشه فلا ترعوي ولا ترتدع ولا تلين، وتتلى عليها آيات القرآن فلا تخشع ولا تنيب، هذه أحوال الكثير في هذه الأزمنة المظلمة، أزمنة الفتن والمغريات.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! ألا نبحث عن العلاج؟ ألا نبحث عن العلاج يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ونحن نتحدث دائماً ونقول: لماذا لا نجد تلك اللذة التي وجدها سلفنا الصالح؟ لماذا نسمع عن السلف الصالح وعن أحوالهم مع القرآن، فلماذا لانبحث عن العلاج حتى نكون مثل هؤلاء؟(28/5)
الأدعية المأثورة سبيل لتحصيل لذة القرآن
أولاً: اسمع إلى هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق، وهو الذي أنزل عليه القرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع} الله أكبر! اللهم صلِّ على محمد، يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع} فكم من إنسان أتعب نفسه في هذه الحياة في علوم كثيرة لكن نفعها قليل أو معدوم النفع وأعرض عن كتاب الله عز وجل، أعرض عن القرآن يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى! يقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع}.(28/6)
تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن
عباد الله: اسمعوا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي أمرتم بالاقتداء به والاهتداء بهديه، الذي ترككم على محجة بيضاء ليلها كنهارها صلى الله عليه وسلم، قال صلوات ربي وسلامه عليه لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {اقرأ عليّ القرآن -الله أكبر لا إله إلا الله- قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، قف يـ ابن مسعود -فلا إله إلا الله- يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان} والحديث متفق عليه.
ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء}.
وفي صحيح مسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم:36] وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع يديه صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ هذه الآيات وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيه، فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك} الله أكبر! هذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[لا تهذوا القرآن هَذَّ الشعر, ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا بها القلوب]] الله أكبر! كرر الآية أخي في الله، مرة، مرتين، ثلاث مرات حتى تدخل في سويداء القلب، فإذا دخلت في سويداء القلب وخشع القلب ولان واقشعر الجلد ودمعت العينان؛ فأبشر بفضل الله جل جلاله نسأل الله من فضله.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله -لا إله إلا الله- وعين باتت تحرس في سبيل الله} وفي رواية: {عين غضت عن محارم الله}.(28/7)
أحوال السلف مع القرآن
اسمع أخي في الله إلى أحوال السلف مع القرآن.(28/8)
حال الصدِّيق مع القرآن
هذا أبو بكر الصديق رضي الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة -يا عبد الله! هذا خير- فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ -لا إله إلا الله- قال: نعم.
وأرجو أن تكون منهم} من هذا؟ إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لكن كيف حاله مع القرآن؟
كان خاشعاً رضي الله عنه، ويوصف بأنه رجل أسيف، أي من كثرة البكاء رضي الله عنه.
كان إذا وقف في المحراب يصلي لا يكاد يفهم ما يقول من كثرة البكاء رضي الله عنه وأرضاه، من هذا؟ إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومع ذلك هو من المبشرين بالجنة.
نسأل الله أن يرزقنا قلباً خاشعاً.
اللهم ارزقنا قلباً خاشعاً يا رب العالمين!(28/9)
حال الفاروق مع القرآن
أخي في الله! من أحوال السلف مع القرآن: هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {دخلت الجنة -أو أتيت الجنة- فأبصرت قصراً فقلت لمن هذا؟ قالوا: لـ عمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله، فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي يا نبي الله! أومنك أغار؟!!} وفي رواية: {بكى عمر رضي الله عنه وأرضاه} الرسول صلى الله عليه وسلم هاله قصر في الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم لـ عمر: {والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك}
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومع ذلك كان من أكثر الناس خشوعاً، وكان من أرق الناس قلباً، وكان يدعو ربه، ويقول: [[اللهم إني قاسٍ فليني]] وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء رضي الله عنه وأرضاه، كان يقرأ في صلاة الفجر، قرأ مرة في صلاة الفجر رضي الله عنه وأرضاه سورة يوسف فلما وصل إلى قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] لما وصل هذه الآية خنقته العبرة وأخذ يبكي بكاء شديداً، وما استطاع أن يقرأ شيئاً بعد ذلك، وكان عمر يمر بالآية من ورده فتخنقه العبرة فيبكي حتى يسقط على الأرض.
وفي مرة من المرات سمع قارئاً يقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فجعل يبكي رضي الله عنه حتى جعل الناس يعودونه شهراً كاملاً من جراء هذه الآية، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذه أحوالهم مع القرآن حتى وهو في آخر حياته، بعدما طعن وهو في النزع وقد أوشك على الموت يقول لابنه عبد الله وقد وضع رأسه على فخذه: ضع خدي على الأرض -لا إله إلا الله، الله أكبر- فقال: يا أبتي! وهل فخذي والأرض إلا سواء، فقال: ضع رأسي على الأرض، كما أمرتك، فوضعه فمسح خديه بالتراب، ثم قال: [[ويل لأم عمر إن لم يغفر الله لـ عمر ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: إذا قبضت فأسرعوا بي إلى حفرتي فإنما هو خير تقدموني إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم]] هذا عمر يقول هذا، وهو من المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه.
هذه هي أحوال سلفنا مع القرآن يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وما الذي جعلهم في هذه الحال إلا فعل القرآن في قلوبهم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!(28/10)
حال عثمان مع القرآن
وهذا عثمان رضي الله عنه وهو أيضاً من المبشرين بالجنة وممن عرف بشدة حيائه كان يسمى بـ ذي النورين، وله مواقف عظيمة في الإسلام، ومع ذلك كان يقرأ القرآن كثيراً رضي الله عنه حتى يقال: إن يديه أثرت في مسك القرآن من مسكه له وكثرة تلاوته للقرآن رضي الله عنه وأرضاه.
عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} ويقول رضي الله عنه: [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] لا إله إلا الله، لو طهرت قلوبكم! من يخاطب في زمانه؟!
يخاطب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، أجل كيف بزماننا الذي امتلأت القلوب فيه من حب المسلسلات والأفلام والبلوت، وغيرها من الملهيات وأثرت عليها عوامل الدنيا والمغريات إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، اللهم أشفِ مرض قلوبنا، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] إنه القرآن يا أمة القرآن!(28/11)
نظرة علي إلى الدنيا
أيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اسمع إلى تلك الأحوال التي أثر بها القرآن: صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مفرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وأخذ يبكي ويقول: [[يا رب! يا رب! يا رب! وجعل يناجي ربه تعالى، ثم قال: لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت شيئاً بشبههم -الله أكبر! كيف أحوالهم- كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزة من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله عز وجل وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين، وما رؤي بعد ذلك مبتسماً حتى لحق بربه سبحانه وتعالى]] لا إله إلا الله! أولئك الرجال الذين وصفهم في القرآن ربنا جل وعلا قال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
عرفوا عظمة القرآن فقاموا بكلام الله جل وعلا حق قيام، ولذلك مدحهم الله جل وعلا في القرآن، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: {نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل، يقول: فما ترك قيام الليل حتى توفاه الله} رضي الله عنه وأرضاه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، إذا دخلت حلاوة القرآن في قلب المؤمن وعرف القرآن واهتدى بهدي القرآن واستنار بنور القرآن؛ عَرَّفه الحق من الباطل؛ وعَرّفه الحلال من الحرام؛ ودله على عبادة الله عز وجل؛ وقاده إلى كل خير.
إنه القرآن.
هذا علي رضي الله عنه وأرضاه يصفه ضرار الكناني لما طلب معاوية رضي الله عنه من ضرار الكناني أن يصف علياً فقال: [[يستوحش من الدنيا -الله أكبر لماذا؟ لأن القرآن حل في قلوبهم- يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ الذليل -أي: تململ الملدوغ الذي لدغته العقرب- ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا! ثم يقول للدينا: إلي تغررت، إلي تشوقت، هيهات، هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثاً -لماذا بتتها ثلاثاً يا علي رضي الله عنك وأرضاك؟ فيخبرك: يا من اغتر بالدنيا فيقول- عمرك قصير، ومجلسك حقير، آه آه من قلة الزاد! وبعد السفر! ووحشة الطريق!]].
هكذا يقول علي رضي الله عنه وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، أجل كيف أحوالنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا إله إلا الله! يقول: آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، كيف أحوالنا أهل التفريط والإضاعة.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! ما أجمل أحوال السلف رضي الله عنهم وأرضاهم.
فيا عباد الله تذكروا دائماً أحوال السلف الصالح، لعل الهمم أن تعلو، فتقتدون بهم، وتحذون حذوهم في أخلاقهم وعباداتهم ومعاملاتهم، قال بعضهم رحمه الله:
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليل إلى نور القران
وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان(28/12)
سبب بكاء أبي هريرة
نسأل الله من فضله، فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! أحوال السلف عجيبة، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي تتلمذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخرج من مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [[يبكيني بعد المفازة، وقلة الزاد، وضعف اليقين، والعقبة الكئود، التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار]] لا إله إلا الله، الله أكبر!(28/13)
خوف حذيفة ورجاؤه
وهذا حذيفة رضي الله عنه، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، يقول: [[اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك.
اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، وقيام الليل، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في حلق الذكر]].
الله أكبر! هذا حال الصالحين على سرير الموت: دموع وأحزان، أسف وندم، بكاء وتأنيب وإساف، كانوا على ما هم عليه من علم وعمل وزهد وورع {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] ومع ذلك بكوا عند فراق الدنيا، لا بكاء الحزن عليها -إي وربي- لا بكاء الحزن عليها ولكن بكاء توديع الأعمال الصالحة، توديع الصلاة والصيام، توديع الزكاة والحج، وتوديع قراءة القرآن، وتوديع الدعاء والاستغفار.(28/14)
نصيحة يزيد الرقاشي للأحياء
فهذا يزيد الرقاشي لما حضرته الوفاة يقول لنفسه: [[ويحك يا يزيد! من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟! من الذي يتوضأ عنك بعد الموت، ثم قال رحمه الله: أيها الناس: ألا تبكون على أنفسكم باقي حياتكم! من كان الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا منتظر الفزع الأكبر، وكيف يكون حاله؟!]].
الله أكبر! إي والله، كيف يكون حاله يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فبالله عليكم خذوا بنصيحة هذا الرجل، نسأل الله أن يغفر لنا وله، اللهم اغفر لنا وله، اللهم اغفر لنا وله ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.
أخي في الله! يقول رحمه الله: [[أيها الناس! ألا تبكون على أنفسكم باقي حياتكم، من كان الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنسيه، وهو مع هذا منتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟!]] الله أكبر! وربنا جل وعلا قال سبحانه وتعالى في محكم القرآن: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] التقوى: الزاد الذي ينتقل به الإنسان من هذه الدار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا مات الإنسان انقطع عمله} ينقطع العمل فلا صلاة ولا صيام ولا حج، لا ذكر ولا تلاوة للقرآن، يقطع العمل فكيف نفرط بهذه الأوقات يا أمة محمد؟!
اللهم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، مجيب دعوة المضطر إذا دعاه اللهم اشفِ مرض قلوبنا، اللهم اشف مرض قلوبنا، اللهم اشفِ مرض قلوبنا، اللهم أيقظنا من غفلتنا يا رب العالمين!(28/15)
بكاء عمر بن عبد العزيز مع أهله وجيرانه
هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في يوم من الأيام بكى بكاءً شديداً، فأخذت زوجته تبكي لبكائه وهي لا تدري ما الذي أبكاه، ثم أخذ البيت كله يبكي لبكائه وهو لا يستطيع أن يتكلم، ثم سمع الجيران بكاءهم، فأخذ الجميع يبكون لبكاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فلما سكت وأفاق من بكائه قيل له: يا أمير المؤمنين ما الذي أبكاك؟ قال: [[تذكرت منصرف القوم بين يدي الله عز وجل]] لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر! يا لها من أحوال يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم!
إن هذه الأحوال تحيا بها القلوب، تذكر المنصرف، تذكر الموت، تذكر القبر، تذكر الجنة والنار، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أكثروا ذكر هادم اللذات} ويقول صلى الله عليه وسلم: {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا تنسوا العظيمتين، لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار}.
هذا عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، لما أفاق من بكائه أخبرهم رحمه الله فقال: [[تذكرت منصرف القوم بين يدي الله عز وجل فتذكرت هل أنا من أصحاب الجنة، أم من أصحاب السعير؟]] من هذا؟ إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
إذا كان مثل عمر يتذكر هذا الموقف ويخاف على نفسه مع علمه وزهده وورعه، بل إن بعضهم عده خامس الخلفاء الراشدين رحمه الله فكيف بالمقصرين، وكيف بالمذنبين، وكيف بأصحاب القلوب القاسية الذين تمضي حياتهم وهم في غفلة وإعراض؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.(28/16)
ليلة مع مالك بن دينار
يروي -أيضاً- عن مالك بن دينار رحمه الله أحد أقاربه، فيقول: يموت مالك بن دينار وأنا لا أدري ما عمله، فاختبأ يوماً من الأيام ليرى ما هو عمل مالك، فيقول: فجاء مالك رحمه الله فدخل فقرب رغيفاً فأكله، ثم قام إلى الصلاة فاستفتح، ثم أخذ بلحيته، فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، جعل يكرر هذه.
يقول: فو الله ما زال حتى طلع الفجر وهو يردد هذا الدعاء، يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار.
قال الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:1 - 6] يقول فجعل مالك ينتفض والقوم كلهم يبكون حتى بلغ قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
قال: فجعل مالك يبكي ويشهق حتى حصل له ما حصل في ذلك المجلس، وكان يقول: عجباً لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده، كيف تقر عينه؟! وكيف يطيب بها عيشه؟! حتى يبكي ويشتد بكاؤه! رحمهم الله برحمته الواسعة، هذه بعض أحوال السلف يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(28/17)
وقفة محاسبة: أحوالنا مع القرآن
ثم نقف مع أنفسنا قليلاً ونحاسبها يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هل هم أكبر منا أجساماً؟ ألسنا ولله الحمد نعيش في أمن وصحة ورغد عيش وانفتحت علينا الدنيا، فلماذا لا نقدر هذه النعمة، ونشكر الله عز وجل؟ أتظن أنه يكفي أن نقول: الحمد لله باللسان؟ لا.
بل لا بد أن نشكر الله باللسان والقلب والجوارح، حتى نقوم بشكر هذه النعمة لله الواحد القهار، نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين إنه على كل شيء قدير.(28/18)
إرشاد إلى اغتنام الأوقات
أخي في الله! استمع إلى بعضهم رحمه الله وهو يرشدك إلى اغتنام أوقات العمر، قبل فواتها فيقول:
قم الليل يا هذا لعلك ترشد إلى كم تنام الليل والعمر ينفد
يا شباب الإسلام! المجال مفتوح والفرصة مهيأة.
أراك بطول الليل وحدك نائماً وغيرك في محرابه يتهجد
ولو علم البطال ما نال زاهد من الأجر والإحسان ما كان يرقد
وصام وقام الليل والناس نوُّم يخلو برب واحد متفرد
بحزم وعزم واجتهاد ورغبة ويعلم أن الله ذا العرش يعبد
الله أكبر! ما هي أحوال الكثير من الناس الآن؟ مع الأسف الشديد طول الليل سهر.
مع الملهيات والمغريات، مع الفتن التي أعمت القلوب، وصدت عن عبادة علام الغيوب، ووقع الكثير منهم تحت قوله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] نسأل الله العفو والعافية.
اللهم اجعل حياتنا كلها سعيدة، اللهم وفقنا لاغتنام أوقات العمر في طاعتك يا رب العالمين! ثم يقول رحمه الله:
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً مخلد
أترقد يا مغرور والنار توقد فما حرها يطفا ولا الجمر يخمد
فيا راكب العصيان ويحك خله ستحشر عطشاناً ووجهك أسود
فكم بين مشغول بطاعة ربه وآخر بالذنب الثقيل مقيد
فهذا سيعد في الجنان منعم وهذا شقي في لجحيم مخلد
هذا المشغول بطاعة ربه، وهذا شقي في الجحيم مخلد، ثم يقول رحمه الله وهو يصف ذلك الموقف:
كأني بنفسي في القيامة واقف وقد فاض دمعي والمفاصل ترعد
وقد نصب الميزان للفصل والقضا وقد قام خير العالمين محمد
صلى الله عليه وسلم.(28/19)
مكانة القرآن وأهمية توثيق الصلة به
فيا عباد الله! الله الله بالرجوع إلى كتاب الله، فالعاقل -والله- من يكثر تلاوته للاهتداء بهديه والاسترشاد بمواعظه، والاعتبار بقصصه، والالتقاط من درره وحكمه، والاستضاءة بنوره، كيف لا وهو أساس الفصاحة وينبوع البلاغة والبراعة؟
القرآن أساس الشريعة الإسلامية، منه تستمد الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية، يقول الرب جل وعلا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
أمة الإسلام: إنه القرآن كلام الله، عمادنا في أمر ديننا ودنيانا، فهنيئاً لمن قرأ القرآن، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} وهنيئاً لمن عمل بالقرآن، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما} رواه مسلم.
أمة الإسلام! كفى بالقرآن واعظاً ومذكراً وهادياً ودليلاً إلى الله عز وجل، كفى بالقرآن معرفاً بالله وبأسمائه وصفاته وآلائه.
أمة القرآن! إن القرآن كما أخبر الله عنه شفاء لما في الصدور، شفاء لها من مرض الشك والجحود والاستكبار على الحق أو الاستكبار على الخلق، القرآن شفاء لما في الصدور من الرياء والنفاق، والحسد، والغل، والحقد، والبغضاء، والعداوة للمؤمنين، وكما وصف صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي يوم أن كان القرآن هو إمامهم يهتدون به ويقتدون به، يقول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى} الله أكبر! إنه القرآن شفاء لما في الصدور من الهم والغم والقلق، فلا عيش والله أوسع من عيش المتعظين بالقرآن المهتدين بهدي القرآن، ولا نعيم أتم من نعيمهم؛ لما هم فيه من شرح الصدور بالإيمان بالله، والسرور بطاعته وعبادته، إذا قاموا ينادون ربهم بكلامه الذي قال الله عنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أمة الإسلام! الله الله بالقرآن، اهتدوا بهديه، وسيروا على ضوئه، واستنيروا بنوره؛ لتخرجوا به من الظلمات إلى النور، ويهديكم إلى خالقكم، ويوصلكم إلى دار كرامته.
أمة الإسلام! إن هذه الموعظة التي جاءتكم من ربكم هو القرآن العظيم، وما فيه من أخبار صادقة نافعة، وأحكام عادلة، فيها مصلحة للخلق، ليس في دينهم فحسب، ولكن في دينهم ودنياهم، فأكرم وأنعم بهذا القرآن {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] هذا القرآن الذي قال الله عنه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82] ولكن لمن؟ {لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].(28/20)
من آثار القرآن في الحياة والممات
يقول الرب جل وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9] يقول الرب جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].(28/21)
رائحة طيبة تدوم ثلاثة أشهر
أيها الشباب! هذه قصة حصلت لأحد الشباب الذين حفظوا القرآن: شاب مكث عند عمه يتيم الأب والأم، مات والده وماتت أمه، وهو في الصغر فاعتنى به عمه -جزاه الله خيراً- فأدخله مدرسة القرآن.
فحفظ هذا الشاب القرآن، وبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، لكنه مرض هذا الشاب -الله أكبر لا إله إلا الله- وكان عند عمه، وكان يمرضه، وانتهى أجله ومات هذا الشاب، يقول: مات في أول النهار فقال عمه: أنام وأرتاح وإذا قرب الظهر أقوم وندعو الأهل فيغسلونه ويكفنونه ونصلي عليه.
ولما نام هذا الرجل يقول: وإذا أنا بجاريتين من أحسن النساء تقولان لي: عجل علينا بهذا الشاب، عجل علينا بهذا الشاب، يقول: فقمت وأنا مذعور.
يقول: فدعوت الجماعة، وغسلناه وكفناه، وصلينا عليه، يقسم بالله أنه وجد في تلك الغرفة التي مات فيها هذا الشاب رائحة مكثت ثلاثة أشهر ما وجد مثل تلك الرائحة، رائحة طيب نسأل الله أن يجمعنا وإياه تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.(28/22)
شاب يجد رائحة الجنة
وشاب آخر يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً أطلق عليه أخوه الرصاصة عن طريق الخطأ، كان يمزح معه ويشير عليه فانطلقت الرصاصة من البندقية، فدخلت في نخاع ذلك الشاب الذي يبلع من العمر سبعة عشر عاماً وكان مستقيماً على طاعة الله؛ فحمل إلى المستشفى ومعه والده ووالدته، يلتفت إلى أمه، وإلى أبيه وهما يبكيان ويقول: يا أماه! يا أبتاه لا تبكيان، أنا ميت ميت، ولكني والله أرح رائحة الجنة، يقول: والله إني لأرح رائحة الجنة، يقول الدكتور خالد الجبير الذي باشر العملية، فأدخلناه غرفة العمليات وجعلنا نخرج منه الرصاصة فجعل ينظر إلي ويقول: يا دكتور لا تتعب أنا ميت ميت لكني والله أرح رائحة الجنة، أدخل عليّ أبي وأمي حتى أودعهما، يقول: فأدخلنا عليه أمه وأباه فودعاه، فلم يلبث إلا قليلاً وقد مات، الذي يقول: والله إني لأرح رائحة الجنة، يقول الدكتور: فخرجت من غرفة العمليات وقد انبهرت من هذا المشهد الذي رأيته، منذ عشرين سنة وأنا في هذه الغرفة ما مر عليّ مثل هذا المشهد، يقول فوقفت مع والده معزياً، فقلت: أخي في الله أخبرني عن هذا الابن كيف حاله؟ قال: إن سألتني فهو من حفظة القرآن -لا إله إلا الله- من حفظة القرآن.
ويقول: وكان محبباً إليه حلق القرآن، وفيه خصلة ما رأيتها في كثير من الناس، ما هي؟ قال: إذا بدأ يقرأ القرآن بدأت عيناه تدمعان، بدأت عيناه تذرفان بالدموع -لا إله إلا الله! - هنيئاً لك أيها الشاب يقول: والله إني لأرح رائحة الجنة وهو على وجه الأرض، نسأل الله أن يجمعنا وإياه في جنته إنه على كل شيء قدير.
نعم أيها الإخوة في الله! هذا الشاب الذي يرح رائحة الجنة، لماذا؟ لأنه من حفظة كتاب الله عز وجل، وحبب إليه حلق القرآن في المساجد، وأيضاً تلك الحالة التي أخبر بها والده: أنه إذا بدأ يقرأ القرآن تذرف عيناه بالدموع، لا إله إلا الله!
بالله عليك ألم تقرأ كتاب الله عز وجل؟ كيف أحوال أولياء الله الذين يقرءون القرآن؟ يقول الرب جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء:107 - 108] ويقول جل وعلا: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] ويقول جل وعلا: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109].
وأخبر جل وعلا أن البكاء يزيدهم خشوعاً -الله أكبر- أيضاً يخبر الله جل وعلا عن العلماء أنهم أهل خشية لله سبحانه وتعالى فيقول سبحانه وبحمده: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] فأعلمهم بالله أشدهم خشية لله تعالى، ولهذا يقول إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم به لما ألقى}.(28/23)
أحوال أهل الإيمان مع القرآن
عباد الله! إنها أحوال أهل الإيمان عند تلاوة القرآن وعند سماع آيات القرآن: وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود كما أخبر الله عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، اللهم اجعلنا منهم يا أكرم الأكرمين: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]
أيضاً من أحول السلف: هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قرأ قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1 - 6].
فلما أتى على قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] بكى حتى انقطع عن قراءة ما بعدها، هذه حال سلف الأمة وصلحاؤها وخيارها، يمر أحدهم على ذكر النار فينخلع قلبه خوفاً منها، ورهبة من أوالها، ونكالها وخشية من عذابها وآلامها، ويمر بذكر الجنة ونعميها، وما أعد الله فيها لأوليائه فتشتاق نفسه إلى ذلك النعيم المقيم، وفي هذا وذاك يتأثر بما يقرأ؛ فتدمع عيناه ويخشع قلبه.(28/24)
آداب التعامل مع القرآن
إخواني في الله! ينبغي لنا أن نعرف ما هو القرآن: إنه كلام الله سبحانه وتعالى، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي لنا أيضاً أن نأخذ من الأوقات الحظ الوفير لتلاوة القرآن، لو تساءلنا في هذا المجلس وسأل بعضنا بعضاً: يا فلان كم قرأت من جزء اليوم؟ الله المستعان! الله المستعان! اللهم لا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماًَ يا رب العالمين، ولقد أجاب الكثير في كثير من المجالس، بعضهم يقول: الله يرحم الحال! بعد رمضان ما سمعنا القرآن، وبعضهم يقول: إن بكرنا يوم الجمعة قرأنا ما تيسر من القرآن وفي غير الأيام قلبت كلها شغل وراء هذه الدنيا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا رب العالمين!
وهنيئاً لشباب الحلق الذين يعيشون في حلق المساجد، هنيئاً لهم وما يحصل لهم من الأجر الكبير في ذلك المجلس، نسأل الله ألا يجعل منا ولا فينا شقياً ولا محروماً.
ولذلك إخواني في الله! بعضهم رحمه الله في خطبة له ساق هذه الموعظة وفيها تأنيب وعتاب، يقول رحمه الله: عباد الله: ألا همة عالية، ألا نفوس تشتاق إلى أعمال السلف الصالح، عباد الله كفى جرياً وراء السراب -أي سراب الدنيا- كفى الاغترار بالمتاع القليل، ثم اعلموا أن عليكم رباً رقيباً لا تخفى عليه منكم خافية، قال الله جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن:4]
ثم قال رحمه الله برحمته الواسعة: عباد الله! إلى متى هذه الغفلات، وإيثار الأهواء واتباع الشهوات؟! عباد الله! لقد اشتغل الكثير من الناس بما لا يجد إلا الندم والخسارة، والله ثم والله سوف يندمون عند حلول السكرات ونزول هادم اللذات، يوم ينطرحون على فراش الموت وهيهات هيهات يا بن آدم! يا مَنْ الكرام الكاتبون مشاهدون له في النوم واليقظات!
يابن آدم! يا مَنْ خالق الخلائق ناظر إليه في الخلوات والجلوات!
أما آن لك أن ترجع وتتوب قبل أن يهجم عليك هادم اللذات ابن آدم! تأهب للموت الذي ما طلب أحداً فأعجزه.
تنبه قبل الموت إن كنت تعقل فعما قريب للمقابر تنقل
وتمسي رهيناً في القبور وتنثني لدى جدث حتى الثرى تتجندل
فريداً وحيداً في التراب وإنما قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
الله أكبر! لو نتذكر هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! لحق للقلوب أن تلين وتخشع وتأخذ أهبة الاستعداد، المجلس الطويل يجلس فيه بعض الناس من أجل ماذا؟ يقول: نقتل الوقت، نقضي على الوقت يا أخي اتق الله، الله أكبر لا إله إلا الله.
أتقتل الوقت وتقضي على الوقت؟!
إذا أردت أن تقتل الوقت، وتقضي على الوقت فيما حرم الله فقل للملكين انتظرا حتى أنتهي من قتل الوقت، أو افعل بالوقت ما تريد، هل يسمحان لك بهذا؟ لا.
لا بد أن يمضيا معك في وظيفتهما التي وظفا من أجلها، ما هي؟ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ويقول الله جل وعلا: {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12].
فأسأل الله جل وعلا أن يوقظنا جمعياً من رقداتنا، وأن يوفقنا لاغتنام أوقات المهلة، اللهم وفقنا لاغتنام أوقات المهلة، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين!(28/25)
الأسئلة
إخواني في الله! أنا لا أجيب على الأسئلة، ولكن من باب التوجيهات.(28/26)
وسائل تساعد على قيام الليل
السؤال
ما هي الوسائل التي تساعد على قيام الليل؟
الجواب
كلنا والله محتاجون إلى هذا السؤال فالوسائل التي تساعد على قيام الليل:
أولاً: أكل الحلال
ثانياً: الابتعاد عن الذنوب والمعاصي.
سئل ابن مسعود رضي الله عنه قالوا: نحب قيام الليل ولا نستطيعه، قال: [[قيدتكم خطايكم]] في زمن ابن مسعود لا أفلام، ولا مسلسلات، ولا فضائيات، ولا إنترنت، ولا مصائب هذا في زمن ابن مسعود يقول: [[قيدتكم خطاياكم]] إذاً: نبتعد عن المعاصي والذنوب.
ثالثاً: ننام مبكرين مقتدين بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق على صحته قال الصحابي الجليل: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها} هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إذا نمت فنم على خفة من الطعام، لا تملأ بطنك من الطعام وتقول: سوف أقوم الليل، إذا وصلت الساعة الواحدة أو الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، تقول: قربوا العشاء، ثم ملأت بطنك وتقول: سأقوم الليل فإن هذا مستحيل.
خامساً: تجعل لك بعض الأسباب التي تعينك على قيام الليل، من منبه وغيره.
سادساً: تأخذ بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أخبر صلى الله عليه وسلم {أن الإنسان إذا نام عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة: عليك ليلٌ طويل فارقد -ما هو العلاج؟ اسمع أخي في الله، يقول صلى الله عليه وسلم:- فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإذا صلى انحلت عقده الثلاث؛ فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلاناً} نسأل الله العفو والعافية، هذه ستة عوامل.
سابعاً: تتذكر أيضاً ماذا يحصل لك في قيام الليل؟
أولاً: أنه من صفة المتقين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15 - 18].
وأيضاً: تذكر خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه عز وجل {قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا ذلك في كتاب الله: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} وماذا يعملون؟ اقرأ أول الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] ثم تذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا بقي ثلث الليل الأخير ينزل ربنا جل جلاله إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له} الله أكبر! لا إله إلا الله!
أيضاً: تذكر خبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يسأل الله إلا أعطاه الله من خير الدنيا والآخرة}.
ثم تذكر أيضاً خبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل}.
أسأل الله أن يوفقنا لقيام الليل إنه على كل شيء قدير.(28/27)
التلذذ بالقرآن والعبادة
السؤال
كيف يستطيع الإنسان أن يتلذذ بقراءة القرآن ويتلذذ بقيام الليل، ويخشع في صلاته وعند قراءته للقرآن؟
الجواب
الشروط التي ذكرناها سابقاً.
أولاً: يحافظ على أكل الحلال أكل الحلال.
ثانياً: يبتعد عن المعاصي والذنوب.
ثالثاً: يكرر الآية مرتين ثلاث مرات، نعم.
إذا قرأ الإنسان القرآن يكرر الآية مرتين وثلاث مرات، بعض السلف كان يكرر الآية بعد صلاة العشاء ويطلع عليه الفجر وهو مع آية يكررها، لا إله إلا الله!
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/28)
الصلاة الصلاة
إن شأن الصلاة عظيم جداً، فهي عمود الإسلام، وعليها المعمول في المحافظة على صالح الأعمال.
فمن ضيعها فهو لما سواها أضيع، فمكانتها في الإسلام عظيمة، وتركها أعظم واعظم.
فيجب على كل مسلم أن يعرف أهمية الصلاة وفضلها، وأجرها وثوابها، وحكم تركها والعقوبة التي تنتظر تاركها، وفضل المحافظة عليها والنعيم المنتظر لصاحبها.(29/1)
منزلة الصلاة وبيان فضلها
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلِّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه عليه، لم يمت إلا وقد أكمل الله به الدين، وأتم الله به النعمة، فأكثروا عليه من الصلاة والتسليم؛ امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! حياكم الله في بيتٍ من بيوت الله، وأسأل الله الكريم رب العرش الكريم أن يجمعنا جميعاً في جنة عرضها السماوات والأرض.
أما موضوعنا فهو: الصلاة الصلاة.
أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: هذه العبارات تلفظ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ آخر أنفاس الحياة، يوم أن كان على فراش الموت صلى الله عليه وسلم، فهو يحث أمته، ويقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} الله أكبر! الصلاة الصلاة يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم!
أما عن فضل الصلاة، فقد أخبر الله عن فضلها في كتابه العزيز، وأخبر عن فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته.
أيها الإخوة في الله! الصلاة من حافظ عليها أسكنه الله أعلى منازل الجنة، وهي الفردوس الأعلى الذي حثَّنا على طلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وأراه قال: وفوقه عرش الرحمن} اللهم إنا نسألك الفردوس من الجنة يا رب العالمين.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11] نسأل الله من فضله.
الله أكبر! أي منزلة أعلى من هذه المنزلة، يا عبد الله! إنها الفردوس: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11].
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه أنَّ من حافظ على هذه الصلوات أدخله الله الجنة، فهذا وعد من الله، ووعدٌ من رسوله صلى الله عليه وسلم.(29/2)
فضائل الصلاة في السنة النبوية
وهذه الصلاة لها فضائل عظيمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل الصلوات الخمس! كمثل نهرٍ غمرٍ جارٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا} والحديث متفق عليه.
أخي في الله! أولاً نريد أن نتعرف على الفضل الذي يحصل لك إذا قمت تتوضأ للصلاة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {أن الخطايا تخر مع آخر قطر الماء فيصبح نقياً}.
ثم أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن المسلم إذا أسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} أي فضل أعظم من هذا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
لقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعاء ندعو به إذا انتهينا من الوضوء أن نقول: {اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين}.
ونقول أيضاً: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك} يختم بها فتجد فضلها عند الله جل جلاله.
ثم إذا خرجنا من بيوتنا إلى بيت الغني الكريم إلى بيتٍ من بيوت الله ما الذي يحصل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة} والحديث في الصحيحين، يعد الله له كرامة في الجنة كلما غدا أو راح إلى بيتٍ من بيوت الله الله أكبر!
وأيضا أخبر صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا خرج إلى المسجد لا يخطو خطوة إلا رُفِعَ له بها درجة، وحط بالأخرى عنه خطيئة} ثم إذا دخل المسجد، وقال: {باسم الله! والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك} أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أن من صلَّى عليه صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} ثم إذا جلس ينتظر الصلاة وكَّل الله إليه ملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.
لا إله إلا الله! يا له من فضل يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة} الله أكبر! لا إله إلا الله!
أما إذا كان الوقت وقت سنن رواتب؛ الرواتب التي حثَّ عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في حديثٍ صحيح قال فيه: {ما من امرئٍ مسلم يُصلي لله تعالى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة -تطوعاً غير الفريضة- إلا بنى الله له بيتاً في الجنة} الله أكبر! يا الله! يا رب نسألك من فضلك! اثنتي عشرة ركعة يُواظب عليها يبني الله له بيتاً في الجنة.
متى تصلي هذه الرواتب؟
أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر، هذه اثنتي عشرة ركعة إذا ثابر عليها العبد؛ فإن الله يبني له بيتاً في الجنة، نسأل الله من فضله الجنة.
ومن فضل الله ورحمته: أن العبدَ إذا مرض أو سافر كُتِبَ له ما كان يعمل في حال صحته وإقامته، اللهم لك الحمد ولك المنة، ولك الفضل ولك الثناء الحسن يا رب العالمين.
أيها الإخوة في الله! ويا أيها الأخوات في الله! هذا فضل عظيم، اثنتي عشرة ركعة يثابر عليها المرء يبني الله له بيتاً في الجنة.(29/3)
فضل قيام الليل
أيها الإخوة في الله! وهنالك صلاة حثَّ عليها ربنا -جل جلاله- في كتابه العزيز، وحثَّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي صلاة الليل.
الله أكبر! يقول بعض السلف:
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التوانِ
وليقم في ظلمة الليـ ل إلى نور القران
وليصل صوماً بصومٍ إن هذا العيش فان
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
نسأل الله من فضله الجنة.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! صلاة الليل قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} والله سبحانه وتعالى وقد مدح أهل قيام الليل، فقال جل جلاله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] اسمع الفرق -يا عبد الله- بين الذين يُتابعون المسلسلات، وبين أهل البلوت أهل الشتمات والطلقات والتحريم والصيحات طوال الليل، وبين هؤلاء: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] الله أكبر!
وقد مدحهم الله -سبحانه وتعالى- في سورة أخرى، فقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ولهم -أيضاً- حالةٌ أخرى إذا انتهوا من التهجد: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] إذا انتهوا من التهجد جلسوا يستغفرون الله تعالى، الله أكبر!
أما في السورة الأولى التي ذكر الله فيها (تتجافى جنوبهم) إذا كانت هذه صفاتهم فبماذا وعدهم؟ أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه -سبحانه وتعالى- قال: {قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.
وماذا كانوا يعملون؟ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
أما في السورة الأخرى -في سورة الذاريات- فقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات:15] ماذا كانوا يعملون؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] فأهل الليل لهم شأن عظيم، فهم أهل القرآن الذين يُراوحون بين الجباه والركب سجداً وركعاً لله، يُرتلون آيات القرآن، وقد أخذوا بحظٍ وافر من هذا الوعد الذي أخبر به رسول صلى الله عليه وسلم، الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، فقال: {إذا بقي ثلث الليل الآخر ينزل سبحانه وبحمده إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بجلاله وعظمته- فيقول: هل من سائلٍ فأُعطيه سؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فاغفر له}.
إخواني في الله! الله الله لا تفوتكم تلك الساعة المباركة التي ينزل فيها ربنا -جل وعلا- إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته.
ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم: {أن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يسأل الله إلا أعطاه الله من خيري الدنيا والآخرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(29/4)
في رحاب فاتحة الصلاة
وللمسلم موقف عظيم إذا أُقيمت الصلاة وحان الوقوف بين يدي الجبار جل جلاله.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إذا قال الله أكبر -أي: تكبيرة الإحرام- قال الله: ارفعوا الستر بيني وبين عبدي أشرف موقف يقف به المسلم هذا الموقف.
ثم استمر ابن القيم -رحمه الله- في كلامه حتى ساق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه -جل وعلا- الذي قال الله فيه: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: أثني عليَّ عبدي} الله أكبر!
يقول ابن القيم رحمه الله: والله لولا ما على القلوب من الغفلة لطارت فرحاً وسروراً لقول خالقها وفاطرها: حمدني عبدي، مجدني عبدي أثنى عليَّ عبدي محاورة بين العبد وربه.
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من الخاشعين في الصلاة، من الذين مدحهم الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
ثم يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه جل وعلا: {فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]-الله أكبر! هذه الآية ابن القيم صنف فيها ثلاثة مجلدات، وسماها: مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله جل وعلا: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل} اسأل يا عبد الله!: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يا رب اللهم اهدنا صراطك المستقيم، اسأل الله يا عبد الله وقلبك حاضر! {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، ثم تقول: آمين، وليست آية، وإنما هي بمعنى: اللهم استجب يا رب العالمين.
وفضل آمين عظيم والتأمين خلف الإمام فضله عظيم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {إذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدَّم من ذنبه} والحديث في صحيح البخاري.
وورد في الحديث: {أن اليهود حسدتنا على التأمين خلف الإمام والجمعة} انظر إلى اليهود أهل الحيل والمكر والخداع! فقد حسدونا على الجمعة، وإذا نظرت إلى الدش في محطة اليهود في صباح الجمعة تعلم ما فيه من الخبث والحسد ومع ذلك تجد أكثر المسلمين قد انزلقوا في مهاوي أفلام اليهود والنصارى، فإنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم رُدَّنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إن عداوة اليهود متقدمة، واقرءوا التاريخ، واسألوا الله -جل وعلا- في كل فريضة ونافلة أن يُجنبكم طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
واعلموا علم اليقين أنهم أعداء ألداء، فاحذروا عداوتهم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن رأيتموه قد أدخل هذا الدش في بيته فحذِّروه من مقت الله، وسخطه، وعقوبة الله العاجلة أو الآجلة، وقولوا له: يسأل مراكز الهيئات وغيرها ما الذي يحصل للذين يحضرون عند الدش من الأمور الخطيرة التي لا يعلمها إلا الله، هذا وهو لم يستمر له زمن طويل وإنما هو في البداية، فكيف إذا استمر الزمن، وعاشت المرأة المسكينة على مشاهدة تلك الأفلام الخبيثة؛ أفلام اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم؟! كيف يكون الحال إذا شب هذا الطفل الصغير على تلك الأفلام؟! وكيف يكون الحال إذا شبت تلك الطفلة الصغيرة على تلك الأحوال؟!
كيف إذا تقدم بنا الزمن وكلهم قد عاشوا على محطات اليهود والنصارى والمجوس ماذا تكون الأحوال؟!
عباد الله! قولوا لأولئك الذين ابتلوا بهذه الفتنة العمياء أن يقلعوا ويتوبوا ويرجعوا إلى الله قبل أن يستفحل الأمر.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، اللهم من اُبتلي من المسلمين بهذا الغش (الدش) اللهم وفقه لإزالته، اللهم وفقه لإزالته، اللهم وفقه لإزالته، وأبدله إيماناً وطاعة يجد لذتها وحلاوتها في قلبه يا رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد.
أيها الإخوة في الله! إن اليهود حسدونا على التأمين خلف الإمام، وعلى الجمعة، فالحذر الحذر من مخططات اليهود، نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم، إنه على كل شيء قدير.(29/5)
أحوال الناس مع الصلاة
عباد الله! عرفنا فضل الصلاة، وما الذي يحصل في الصلاة، وهذا شيء قليل من كثير يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
فما هو حال المجتمع مع الصلاة؟
أيها الإخوة! انقسم المجتمع إلى ثلاثة أقسام: نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين.
الأول: قسم تركوا الصلاة بالكلية، ومع الأسف هم في عداد المسلمين، يقول: أنا مسلم، وهو تارك للصلاة بالكلية.
الثاني: قسم متهاون بالصلاة.
الثالث: قسم حافظ على الصلاة وهم قلة، وإذا أردتم أن تنظروا إلى هذه القلة فانظروهم في صلاة الفجر.(29/6)
حكم تارك الصلاة بالكلية
فأما القسم الأول: تارك الصلاة حكمه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} رواه مسلم.
ألا يكفينا هذا؟!
والحديث الثاني الذي رواه الخمسة: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} نسأل الله العفو والعافية.
وأقوال العلماء معلومة في حكم تارك الصلاة؟
قالوا: يُستتاب ثلاثة أيام، يستتيبه إمام المسلمين أو نائبه، فإن تاب وصلى وإلا قُتِلَ مرتداً، يُقتل حداً بالسيف، ولا يُغسِّل، ولا يكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدعى له بالرحمة، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث.
أما في حياته فإنه لا يُزوج بالمرأة المسلمة، بل إذا كان معه امرأة مسلمة فإنها تخلع منه على رغم أنفه لأنه تارك للصلاة، نسأل الله العفو والعافية.
وقد توعد الله هذا القسم بالعذاب الأليم كما أخبرنا ربنا في القرآن: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] وسقر كما قال بعض المفسرين: إما أنها طبقة من طباق جهنم، أو باب من أبواب جهنم، والأكثر أنها طبقة من طباق جهنم والعياذ بالله.(29/7)
خطر التهاون بالصلاة
وأما القسم الثاني: فهو المتهاون بالصلاة، وهذا كثير أيضاً -نسأل الله العافية ونسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً- وقد صدق فيهم قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] انظر في المجتمع وطبِّق هذه الآية، تجد أكثر الناس الآن طول الليل مع الملاهي، اتبعوا الشهوات متابعة للأفلام بلوت شيشة دخان قيل وقال وأغاني وغيرها، ثم إذا جاء وقت صلاة الفجر وإذا هم قد أوهنهم الأرق، وأتعبهم السهر، فناموا عن صلاة الفجر، وقد صدق الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] ولكن من رحمة الله -سبحانه وتعالى- أنه قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:60].
يا رب! نسألك توبةً نصوحاً، اللهم ارزقنا توبة نصوحاً، وهذا من فضل الله علينا، أن العبد إذا تاب وأقلع وأناب، فإن الله يتوب عليه.(29/8)
عواقب السهر والنوم عن صلاة الفجر
إذا نظرت إلى أحوالهم، تجد أنهم قد ضيعوا نِعَماً وفضائل عظيمة، وفات عليهم الخير الكثير:(29/9)
مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: إن أهل السهر طوال الليل عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله سبحانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أنه: {يكره النوم قبل صلاة العشاء، والحديث بعدها} فإذا كان سيد الأولين والآخرين، أفضل الأنبياء والمرسلين، يكره الحديث بعد صلاة العشاء، وينام مبكراً، فكيف بأحوال الذين يسهرون مع الأفلام، والمسلسلات، والأغاني الماجنات، والبلوت، والقيل والقال، والدمنة وغيرها من الأمور التي تصد عن ذكر الله عز وجل؟!
كيف الحال يا أمة مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم مع الذين خالفوا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟(29/10)
ضياع ساعة استجابة الدعوة
ثانياً: أنهم أضاعوا على أنفسهم الساعة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يسأل الله فيها عبدٌ مسلم من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله ما سأل}.(29/11)
الحرمان من الدعاء في وقت النزول الإلهي
ثالثاً: أنهم أضاعوا على أنفسهم وقت النزول الإلهي الذي ينزل فيه ربنا -جل وعلا- نزولاً يليق بجلاله وعظمته إلى السماء الدنيا.
يقول بعض المفتونين: دخلنا من بعد صلاة العشاء وذلك في ليالي الشتاء؛ لأن ليالي الصيف قصيرة، يقول: فدخلنا من بعد صلاة العشاء وبدأنا بهذه الورقة الخبيثة، واضرب، واشتم أبوك، واشتم أمك، وعليه الحرام، وعليه الطلاق، يقول: وقام واحد منا يريد -كرمكم الله- دخول الخلاء! وإذا بالشمس قد طلعت، فكم ساعة ذهبت في سبيل الشيطان؟! من صلاة العشاء حتى طلوع الشمس، يقول: وكل منا ذهب إلى عمله، والله المستعان! ولا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.(29/12)
النوم عن صلاة الفجر
الرابع: النوم عن راتبة الفجر التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه شمس} يُفوتون على أنفسهم صلاة الفجر التي تشهدها الملائكة، ويصعدون إلى الله فيقول: {كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون} كيف أحوال الذين حرموا هذه العبادة وناموا عنها؟! أتيناهم وهم لاهون، وتركناهم وهم نائمون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(29/13)
العذاب الأليم من الله
الخامس: أن هؤلاء قد توعدهم الله -أيضاً- بويل، كما قال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: [[إنه الذي لا يُصلي الفجر حتى تطلع الشمس، ولا يُصلي الظهر حتى يدخل العصر، ولا يصلي العصر حتى يدخل وقت المغرب]] وهذه -والله- أحوال أكثر الناس في المجتمع، بالليل تجده يسهر ولا يصلي إلا بعد طلوع الشمس، والظهر يأتي وليأكل لقمة الغداء إما من العمل أو غيره ثم ينام عن صلاة العصر ولا يقوم إلا المغرب أو وقت العشاء.(29/14)
الحرمان من أجور المحافظة على الصلاة
السادس: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن: {من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله} رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله} اللهم لا تجعل منا ولا فينا شقياً ولا محروماً يا رب العالمين.
أما فضل من حافظ على هذين الفرضين (الفجر والعصر) فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فقال: {من صلى البردين دخل الجنة} والبردان هما: الفجر، والعصر، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لن يلج النار أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} يعني: الفجر والعصر.
أما عن صلاة العشاء وصلاة الفجر فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن: {من صلى العشاء في جماعة كُتِبَ له قيام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة كُتِبَ له قيام ليلة كاملة} أو كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم.
هذه منزلة وفضل من يحافظ على الصلاة {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:9 - 11].(29/15)
الاتصاف بصفات النفاق
السابع: هناك أناس لا يُحافظون على الصلاة، وقد سمَّاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمنافقين، فقال: {أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء، وصلاة الفجر} ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا افتقدنا الرجل في صلاة الفجر أسأنا به الظن، ولا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] المنافقين يُصلون كما أخبر الله سبحانه وتعالى، يُصلون ولكنهم لا يأتون إلى الصلاة إلا وهم كسالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] ولقد توعدهم الله، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] والمنافقين يذكرون الله، ولكن: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يتصدقون ولكن: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] نسأل الله العفو والعافية.(29/16)
أحوال مجالس الناس
إخوتي في الله! مما يّحُزُّ في النفس أننا نجلس في المجالس عدة ساعات لا نسمع من يذكر الله عز وجل، ولا يُصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله إن الأمر جد خطير، فإذا كان هذه من صفات المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فكيف أحوال الذين يجلسون في المجلس ولا يذكرون الله؟!
كيف يكون حالنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {ما جلس قومٌ مجلساً لا يذكرون الله فيه ولم يصلوا على رسوله إلا كان عليهم شره} أي: حسرة وندامة، وفي رواية: {إلا قاموا على جيفة حمار}.
ثم إن المصيبة تكمن إذا كان المجلس فيه غيبة، واستهزاء، وسخرية، ونميمة وغير ذلك من الأمور التي يبغضها الله ويأباها سبحانه وبحمده.
عباد الله! ألا نتذكر قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]؟ أما نذكر قول الله تعالى: {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12]؟ أما نذكر قول الله تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
اللهم لا تجعلنا منهم يا رب، اللهم لا تجعلنا من المنافقين يا أرحم الراحمين.(29/17)
التنبيه على ذكر الله في المجالس
إخواني في الله! الله الله، يُنبه بعضنا بعضاً إذا جلسنا في المجلس بذكر الله؛ فإن الله -جل وعلا- يقول في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منه}.
فيا عبد الله! الله الله بذكر الله عز وجل، واعلم علم اليقين أنها -والله- ما ارتاحت النفوس، ولا اطمأنت القلوب، ولا استنارت المجالس إلا بذكر الله عز وجل؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
إخواني! قبل سنين قليلة كان الآباء إذا جلسوا في المجلس يقولون: يا فلان! أسمعنا شيئاً من كتاب الله؟ أو اقرأ علينا فصلاً من كتاب كذا وكذا من كتاب العلماء، أو من رياض الصالحين أو غيرها؟ ما الذي يحصل في ذلك المجلس، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما جلس قومٌ مجلساً يذكرون الله فيه إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده} عملٌ يسير يحصل فيه من الفضل العظيم، نسأل الله -جل وعلا- أن يردنا إليه رداً جميلاً.(29/18)
أضرار الإعراض عن ذكر الله
وانظر إلى أحوال بعض الناس إذا جلس في المجلس، يأخذ جريدة، يرفعها نصف ساعة، ثم ينزلها، ثم يرفعها ثانية ثم ينزلها، ثم يرفعها ثالثة، لا يترك الجريدة إلا يوم حين يتناول الغداء أو العشاء مساءً، كأنه ينزل فيها وحي، ينزلها ويرفعها، ينزلها ويرفعها، كأنه يُوحى له فيها، وتجدد عليه المعلومات، وإنما هذا شغلٌ من الشيطان، نسأل الله العافية: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف:36] نسأل الله العافية.
والله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] صدق الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] زورا المستشفيات التي تُسمى النفسية، من يزور هذه المستشفيات النفسية لا يجد إلا ومن أعرض عن ذكر الله وغفل عن طاعة الله عز وجل؛ لأن الله -جل وعلا- لا يخلف الميعاد سبحانه وبحمده، كما سمعتم في الآيات السالفة الذكر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد:28] لكن الذي يغفل ويعرض عن ذكر الله، ما هي العاقبة؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] يا رب! نسألك العافية، بل يؤول بهم الأمر إلى أن يذهبوا إلى الكهان والسحرة والمنجمين وغيرهم، نسأل الله العفو والعافية، تجدهم يعكفون عند أبوابهم.
أناسٌ جهال سحرة منجمين يأتي ويشتكي إليه، وبدل أن يشتكي الحال إليه، ويلجأ إلى الله عز وجل ويشتغل بطاعة الله وبذكره سبحانه -نسأل الله العافية- ويقوم له فيقول الساحر له: أعطني طاقيتك، أو فنيلتك، ما اسم أمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم جدك؟ وارجع إليَّ بعد بكرة، لماذا؟! هل ينزل عليك وحي؟ يا خداع! يا مكار! يا دجال! ثم يأتي وقد أرسل القرين، من الشياطين إلى قرين ذلك المريض فيعقدون اجتماع، ثم يأتي إلى هذا الدجال، ويلقي إليه المعلومات، فإذا جاءه المريض قال: أنت فيك كذا وكذا وكذا، يظن أنه يعلم الغيب ثم يُصدقه، فيقع في المحذور الذي حذَّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً فسأله عن شيء لا تقبل له صلاة أربعين يوماً} وفي رواية: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم} انظروا يا إخواني إلى الدجاجلة كيف يستمرون بالإنسان حتى يوقعوه في حبائل الشيطان والعياذ بالله؟ والمصيبة العظمى يقول: هل تريد الشفاء تريد العلاج؟! عليك أن تأتي بشاةٍ سوداء، أو عنز سوداء، وتذبحها ولا تذكر اسم الله عز وجل عليها -أسال الله العافية- أول قطرة من دمها تحل عليه اللعنة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من ذبح لغير الله} وإن مات على تلك الحال فهو مخلدٌ في النار؛ لأنه صرف نوعاً من العبادة لغير الله جل وعلا.(29/19)
التوكل على الله
إن الواجب علنيا أن نلتجئ إلى الله ونتوكل عليه؛ فهو حسبنا ولنا في إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام قدوة في التوكل على الله.
هذا إمام المرسلين (إبراهيم عليه السلام) الذي أراد قومه أن يُلقوه في النار؛ لأنه كسَّر الأصنام، وغيّر المنكر، فأراد قومه أن يقذفوه في النار، وما أدراكم ما تلك النار؟! نارٌ جمع لها الحطب شهراً كاملاً، وما استطاعوا أن يقذفوه في تلك النار التي أججوها، فأشار عليهم رجلٌ اسمه: هيزل بصنع لهم المنجنيق، فوضعوا فيه إبراهيم عليه السلام، وكتفوه بالحبال، ووضعوه في كفة المنجنيق، ورموه إلى تلك النار التي أججوها، فيعرض عليه جبريل عليه السلام في الهواء -كما في رواية الإمام أحمد رحمه الله- فيقول: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ -الله أكبر! ماذا قال إبراهيم عليه السلام وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح؟ قال: حسبي الله ونعم الوكيل! وإذا بالأمر الإلهي يصدر: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فتصبح تلك النار روضة خضراء، بأمر من الله القادر المقتدر، ولذلك كان إبراهيم -عليه السلام- إمام الحنفاء يقول: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:77 - 80] لا إله إلا الله! الله -جل جلاله- هو القادر المقتدر، فلماذا لا نلتجئ إليه وحده ونتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى؟ وفي الحديث الصحيح تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُرشد الإنسان إذا أحس بشيء أن يقول: {باسم الله! ثلاث مرات، ويضع يده على الألم، ويقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات، ويبرأ بإذن الله تعالى} لكن هذا -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- يحتاج إلى إيمان.
والصحابي الذي رقى الملدوغ لم يزد على الفاتحة، وقام كأنما نشط من عقال، الله أكبر! أسأل الله أن يُقوي الإيمان في قلوبنا.(29/20)
علاقة زيادة الإيمان بالصلاة
بماذا يزيد الإيمان يا إخواني؟ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأول طاعة يتقرب بها العبد إلى الله بعد التوحيد ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الصلاة، فالصلاة الصلاة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واسمعوا إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم! ماذا كان يقول لـ بلال يقول: {يا بلال! أرحنا بالصلاة} بعكس حال بعض الناس؛ كأنهم يقولون: أريحونا من الصلاة؛ بل -والله- إننا نرى أحياناً بعض الناس في صلاة العشاء إذا طال الحديث تجده يتسلل ويخرج من المسجد لماذا؟
ليس عنده استطاعة أن يجلس في المسجد، ولذلك مثل المؤمن في المسجد كالسمكة في الماء، ومثل المنافق في المسجد كالطير في القفص، نسأل الله العفو والعافية، ماذا كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الصلاة؟ يقول: {وجعلت قرة عيني في الصلاة} كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق إلى الصلاة، وتتوق نفسه إليها، والمحافظ على الصلاة يحشر يوم القيامة مع السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، واسمعوا إلى تمام الحديث الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} هؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: رجل قلبه معلق في المساجد.
إخواني في الله! والله إننا كنا نرى قبل سنين قبل وقت الأذان تجد في الصف من يذكر الله، ومن يقرأ قرآن، ومن يقرأ الأذكار في الصباح أو في المساء، والآن مع الأسف الشديد! بعض المساجد يُؤذن المؤذن ويجلس عشر دقائق أو ربع ساعة ولا ترى في المسجد إلا المؤذن، لماذا زهد الناس في هذا الفضل يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! لو يعلمون ما في التبكير لاستهموا عليه {لو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا} لو يعلمون ما فيه من الأجر العظيم لضربوا عليه القرعة ولتزاحموا على هذا الفضل العظيم، ولكن هذا أمر غيبه الله جل وعلا، متى يعلمون ذلك؟ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(29/21)
وقفات مع تارك الصلاة
فيا إخواني في الله! نقف وقفات يسيرة مع تارك الصلاة، وما أكثرهم! اسمع إلى هذه الموعظة!
قال قائل:
يا تارك الصلاة! كيف حالك إذا نزل بك هادم اللذات؟
بل كيف حالك إذا حلَّت بك السكرات؟
ثم كيف حالك إذا فارقت المساكن والدور، وسكنت في لحدٍ ضيق يضيق لضيقه صابر الحيوان؟
ثم كيف حالك إذا جاورت الديدان؟
ثم كيف حالك عند سؤال الملكان وقد أضعت الصلاة؟
كيف حالك إذا واجهت الحساب وقد قمت من قبرك حافي القدمين حاسر الرأس عاري الجسم؟
كيف حالك إذا قمت وقد نُودي باسمك على رءوس الأشهاد: أين فلان بن فلان في يوم تشيب فيه الولدان؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: {أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة} لا إله إلا الله!
أين فلان بن فلان! في يوم تشيب فيه الولدان، وتتشقق السماء بالغمام، في يومٍ طال فيه القيام، واشتبكت الأقدام، وتغيرت الأحوال.
كيف حالك يا تارك الصلاة! في ذلك الموقف العظيم لا نوم، ولا راحة، ولا أكل، ولا شرب، وقد أُدنيت الشمس من رءوس الناس مقدار ميل، واشتد حرها، وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً من طول القيام.
فيكف حالك يا تارك الصلاة، في ذلك اليوم العظيم، وقد عرضت على جبار الأرض والسموات؟
فيا ليت شعري هل تأخذ كتابك باليمين؟ أم تعطاه بالشمال؟
يا تارك الصلاة! كيف حالك إذا سقت إلى سقر؟: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:27 - 28].
يا تارك الصلاة! كيف حالك في غي؛ وادٍ في جهنم بعيدٌ قعره، شديدٌ حره، منتن ريحه؟
يا تارك الصلاة! كيف حالك إذا وضعت في ويل؛ {واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدت حره}؟
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً!
إخواني! الأمر جد خطير، ولكن -مع الأسف الشديد- تنظر في وسط المجتمع تجد أولاد المسلمين أناس يُجاورون المساجد ولا تراهم في الصلاة، إنا لله وإنا إليه راجعون! نسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا بلطفه، إنه على كل شيء قدير، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.(29/22)
رعاية الأسرة في المحافظة على الصلاة
إني أنبه الآباء إلى تلك المسئولية العظيمة، أما سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها -إلى أن قال صلى الله عليه وسلم:- ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} أريد منك أن تتذكر متى يكون هذا السؤال؟ ومن الذي سوف يُلقي عليك السؤال؟
عباد الله! يكون
السؤال
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
السؤال يكون: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
السؤال يكون: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
السؤال يكون في ذلك الموقف العظيم الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان}.
ثم تذكر إذا قامت الزوجة تشكو مظلمتها إلى الله عز وجل: بأن الزوج ظلمها ورآها على المنكر ولم ينهها ولم يأمرها بالمعروف، وأي منكر أكبر من ترك الصلاة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
يقوم الولد ويشتكي مظلمته إلى الله: يا رب! خذ مظلمتي من أبي؟ إي والله! الأب يخرج لصلاة الفجر والابن في سباته نائم، وبعض الناس إذا خرج لصلاة الفجر يُغطِّي ولده، ويقول: باسم الله عليك، يظن أنه رحمه في هذا الأمر، وهو والله غاش له، وسوف يقف له بين يدي الله، يقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، رآني على منكر ترك الصلاة، ولم يأمرني ولم ينهني؟
البنت تقوم وتقول: يا رب! خذ مظلمتي من أبي، إي والله.
بعض الناس لا يدري عن بيته هل هم يصلون أم لا؟ مشغول بدنياه -نسأل الله العفو والعافية- ولكن متى يعرف هذا؟
يعرف هذا: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يعرف هذا إذا حصل الأمر الخطير الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه} وربنا -جل وعلا- حذَّرنا من هذه النار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] بماذا نقي أنفسنا من هذه النار؟
توسيع (الفلل) الأكل والشرب الملابس في الشتاء، كل هذه من ضروريات الحياة، والحياة الدنيا فانية يا مسكين! لكن قوا أنفسكم وأهليكم من هذه النار، قوا أنفسكم بطاعة الله، اجعلوا بينكم وبين هذه النار وقاية بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، أرشد أولادك ودلهم على الخير، اجلس مع أولادك، إنها مسئولية عظيمة يا عبد الله!
وأنت يا أمة الله أيتها المرأة المسلمة! اجلسي مع الأولاد، ذكريهم بالله عز وجل، مريهم بالمعروف وانهيهم عن المنكر، يقول صلى الله عليه وسلم: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر} أين نحن من هذا الأمر النبوي يا عباد الله؟!
أيها الإخوة في الله! الله الله في المحافظة على الصلاة، فقد ورد أن: {من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف} نسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة.
قال من علق على هذا الحديث: من اشتغل بملكه عن الصلاة حُشر مع فرعون، ومن اشتغل بوزارته عن الصلاة حُشر مع هامان، ومن اشتغل بكنوزه عن الصلاة حشر مع قارون، ومن اشتغل بأمواله وأولاده عن الصلاة حشر مع أبي بن خلف.
أسألكم بالله! أيهم أحسن: هؤلاء أم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!
الله أكبر! فرق جد عظيم.(29/23)
الصلاة ما دام في الوقت فسحة
فيا إخواني في الله! نقول للذين حصلت منهم بعض الأخطاء في الصلاة، أو التهاون بها، بادر -يا أخي- ما دمت في زمن الإمكان! واعلم أنه لا بد لك من الارتحال من هذه الدار، وبأي شيء تنتقل من هذه الدار؟
تنتقل بالمليارات، أو بالعقارات، أو بالسيارات، أو غيرها؟
لا والله، والله لا تنتقل إلا بعملك، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع الأهل والمال ويبقى العمل}.
لذلك يقول زين العابدين:
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحنط والكفن
إخواني في الله! كلنا نرى الملوك والأمراء، والرؤساء والزعماء، والصعاليك، هل يدخل معهم شيء غير الكفن والحنوط؟! والله لا يدخل معهم إلا الحنوط والكفن.(29/24)
التعلق والاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الصلاة
إخواني في الله! لا تشغلنا الدنيا عن طاعة الله، لنقنع من هذه الدنيا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: {قد أفلح من رضي ورُزِقَ كفافاً وقنّعه الله بما آتاه} فالرسول صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، لم يرفع بهذه الدنيا رأساً، ربط على بطنه الحجر من الجوع وهو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، مات ولم يشبع من دقل التمر -أي: رديء التمر- ولا من خبز الشعير، أثر الحصير في جنبه، ولذلك يقول الصحابة رضي الله عنهم: {يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً ليناً، فيقول: مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم قام وتركها}.
فهذه الدنيا يا إخواني لنعبرها ولا نعمرها إلا بطاعة الله عز وجل.
يا إخواني! إن هذه الدنيا دار ممر، ومعبر إلى الآخرة، ولكن من أعطاه الله هذا المال، فصار هذا المال صالح، فقد مدحه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} لكن إذا كان الإنسان -والعياذ بالله- مشغول بهذه الدنيا يأكل بالربا يتعامل بالربا غش خداع كذب رشوة خيانة بيع للمخدرات والمسكرات والدخان بيع للمجلات الخليعة وللدشوش بيع لآلات اللهو وغيرها، كيف أحواله إذا انتقل من هذه الدنيا وترك المال لغيره، فكيف يكون حاله؟
نسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا القناعة في هذه الدنيا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك.
أيها الإخواة! إذا نظرنا إلى أحوال المجتمع -الآن- تجد أنه انطبق في بعضهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان لا يُبالي المرء ما أخذ، أمن الحلال أم من الحرام؟}.
تجد الناس أكلهم مشبوه، وبعض الموظفين لا يُؤدي عمله، ويتأخر عن العمل، يأكل الربا، ويتعامل بالربا، وهذا يخادع، وهذا يخون، وهذا يأخذ الرشوة، فأصبح دخل المجتمع من المصادر المحرمة التي تدخل على كثيرٍ من الناس، فإذا رجعنا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: {أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به} ويقسم صلى الله عليه وسلم ويقول: {والذي نفس محمدٍ بيده! إن الرجل ليقذف اللقمة من الحرام في جوفه لا يقبل له عملٌ أربعين يوماً} الله أكبر! لقمة واحدة، كيف باللقيمات؟ بعض الناس يأكل من حرام ولا يُبالي، نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه.
فأقول لكم يا إخواني! أنتم الآن في زمن الإمكان في دار المزرعة في دار الدنيا في دار العبادة، الله الله بتنقية المأكل والمشرب والملبس، حتى إذا دعوت الله استجاب الله لك، إذا عملت أعمالاً صالحة أو تصدقت تقبلها الله منك، إذا دعوت أجاب الله.
نعم يا أخي! أما إذا كان المأكل والمشرب والملبس حرام، فلا يلوم المرء إلا نفسه، نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اشف قلوبنا من المرض، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة.
اللهم املأ قلوبنا من محبتك، وخشيتك، ومعرفتك، ومن الأنس بقربك، واملأها حكمة وعلماً.
اللهم فقهنا في الدين، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم أقر أعيننا وأصلح قلوبنا بصلاح أئمتنا وولاة أمورنا، وقاداتنا وأولادنا، ونسائنا، واجعلنا جميعاً هداةً مهتدين،
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/25)
الأسئلة(29/26)
قيام الليل والمحافظة على صلاة الفجر
السؤال
ما هي الأمور التي تساعد على قيام الليل والمحافظة على صلاة الفجر؟
الجواب
الحمد لله، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا إلى الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أيقظنا من رقداتنا، اللهم وفقنا لاغتنام أوقات المهلة قبل النقلة من هذه الدار، يا رب العالمين.
أيها الإخوة! إذا أراد الإنسان أن يقوم فعليه عدة أمور:
أولاً: أن يصدق النية مع الله عز وجل.
ثانياً: أن يهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن ينام مبكراً يترك السهر.
ثالثاً: عدم الإكثار من الطعام عند النوم.
رابعاً: أن يضع عنده منبه، أو يقول لأحد جيرانه: أخي في الله! احتسب الأجر واطرق عليَّ الباب، أو حرِّك علي الهاتف.
هذه الأمور كلها بسيطة -ولله الحمد- لكن أقول لكم: إن الأمر الأساسي هو أن نُخلص النية لله عز وجل ونطبق هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحل لما حل بالأمة من هذه الأمراض الخطيرة، وإنك لا تجد قرية ولا هجرة ولا مدينة إلا وهذا الأمر قد أدخن فيهم، نسأل الله العافية، وهو السهر؛ هذا السهر حرمنا أشياء كثيرة:
أولاً: حرمنا الاهتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إذا ذهب وقتٌ من الليل، وقت قيام السلف الصالح، قمنا نملئ البطون وننام، والله عز وجل يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] الله هو الذي يرزقنا شكر النعمة، لكن هل من شكر النعمة أننا نملأ البطون وننام عن صلاة الفجر؟!
صلينا الفجر في مسجد في مرة من المرات وما وراء الإمام إلا اثنين، واحد إمام ومؤذن في نفس الوقت، يقول: أُأذن ثم أنتظر وأنتظر فلا يجئ أحد، وأغلق المسجد، وأذهب إلى مسجد آخر أصلي، هل هذه الأحوال تسر يا إخواني؟!
هل هذه من شكر نعم الله علينا؟! لا والله ليست هذه من علامات الشكر، ولكننا نرى أمناً واستقراراً وصحةً ورغد عيش، ونحن ما زلنا في تقصير، فلنرجع إلى ما ورد في الأثر: [[إذا رأيت العبد يُصر على المعصية والنعم تدر عليه، فاعلم أنما ذلك استدراج]] نسأل الله العافية، استدراج يأخذهم الله على غرة، فنسأل الله -جل وعلا- أن يهدينا ويوفقنا للاهتداء بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
المهم الذي أكرره وأقول: احذروا السهر! احذروا السهر! احذروا السهر! يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.(29/27)
أسباب حياة القلب وموته
يقول صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} وفي هذا الحديث دلالة على أهمية القلب والاعتناء به، والعمل بأسباب حياته، والحذر من أسباب موته.
وأسباب موت القلب كثيرة منها: عدم المبالاة بأوامر الله، وعدم المبادرة إلى طاعته، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسماع الأغاني.(30/1)
موت القلوب
الحمد لله الذي قلوب العباد بيده يقلبها كيف يشاء، ويصرفها على ما يريد، أحمده وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ وراقبوه، اتقوا من يعلم السر وأخفى.
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} الله أكبر! الله أكبر! قدر المُضغة، قدر ما يمضغ الإنسان، فهي لحمة في جسم الإنسان، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
القلب هو المسيطر، هو الملك على الأعضاء كلها؛ لذلك يخبرنا صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه، ليحث أمة الإسلام على حفظ تلك الأوعية، وحمايتها، ووقايتها من الأخطار.
عباد الله: القلب هو مصدر سعادة الإنسان وشقاوته، ومن القلب تنبعث حياته الروحية أو موته المعنوي، أجل يا عباد الله.
يا أمة الإسلام: هل أعطينا قلوبنا ما تستحقه من حماية؟
هل أحطنا قلوبنا بسياج الإيمان الكامل؟
إن معظم الأمة بل الأكثرون منها فرطوا في هذه الناحية الحساسة، وتركوها حتى دخلها ذئب الإنسان وهو الشيطان، فجعل يخطط للأعضاء، ويأمرها وتفعل تلك الأوامر، حتى أصبح الأكثرون في أسر الشيطان وقيوده، ووقعوا في أعظم داهية، وأصيبوا بأعظم الأدواء، ألا وهو فقدان الإحساس الروحي، وموت الضمير المعنوي، الذي غطى القلوب وران عليها، فأصبحت كالحجارة، لا تتأثر بآية ولا بوعظ، ولا تستجيب لنداء الإسلام، ولا تستفزها نُذُر القرآن، ولم يؤثر بتلك القلوب ما يصل إلى أسماعها من الآيات الكونية والعبر، فإذا سَمِعَت بالرياح المدمرة، قال أهلها: هذه أعاصير بسيطة؛ لأنها لم تكن حولنا، وإذا سمعوا بالزلازل قالوا: هذه براكين، وإذا سمعوا بالفيضانات قالوا كلمات لم نستطع لها تعبيراً، كل هذا من موت القلوب، وعدم إحساسها، وعدم الواعظ الإيماني.
أجل -يا عباد الله- إن ما أصاب المجاورين فيه موعظة وعبرة لنا، إنها رياح، وزلازل، وفيضانات، وحروب طاحنة، وأمراض وأوبئة، لقد كفانا ما نسمع، وما نرى في تلك الآلات وما يُنقل لنا من تلك البلدان.
أمة الإسلام: لعله يكفينا ما نسمع، وما نرى في تلك البلدان خلال تلك الآلات من الحوادث المفزعة، والكوارث المدمرة التي جَعَلَت أهل تلك البلدان شَذَرَ مَذَرَ، وفَرَّقَتْهُم في كل ناحية، ومَزَّقَتْهُم كل ممزق.
إنها عبر ومواعظ، فهل من مُدَّكِر؟
أمة الإسلام: لقد ذقنا النعمة، وشبعنا وما اكتفينا حتى جعلنا فضلات اللحم والطعام الذي يحتاج إليه بعض المسلمين في براميل الزُّبالة، إنها حالة محزنة، تقشعر منها الجلود.
عباد الله: إن موت القلوب أغفل الكثير عن الاهتمام بدين الإسلام.
يا أمة الإسلام: إن موت القلوب وغفلتها فتحت المجال لأعداء الإسلام، حتى تداعت أمم الشر على الإسلام من كل حدب وصوب، وغزوا العقائد والأخلاق، وبذروا الفتن وأجّجوا نارها بين المسلمين، وأدخلوا البدع فاستحسنها أهل الإسلام، ويا للأسف الشديد! كل ذلك نتيجة موت القلوب، وصارت تلك أمام الكثير سراب لا حقيقة له، وكأنها أضغاث أحلام، لا يُتَوقع لها تأويل، ولا يُفَكر فيما تولده من الشرور عياذاً بالله، اللهم عياذاً بك من مضلات الفتن، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أجَل -يا عباد الله- كل ذلك نشأ من موت القلوب، وعدم الشعور، وعدم التضلع بمسئوليتها وواجبها أمام الله، بل وواجبها، بل وخوفها من مكر الله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(30/2)
أسباب موت القلوب
إن موت القلوب الذي عمَّ الأكثرين له أسباب، فعلموها يا عباد الله:
السبب الأول: عدم المبالاة بأوامر الله، وعدم المبادرة إلى طاعة الله:
لقد خلت المساجد من كثير من شباب المسلمين إلا ما قلَّ.
السبب الثاني: عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
نساءٌ في الأسواق متبرجات، إِلْيَة الرَّجُل بإِلْيَة المرأة، وكأنه زوجها في الأسواق.
السبب الثالث: أكل الحرام: إن موت القلوب الذي يعاني منه البعض من الناس من أسبابه: أكل المحرمات، ومن هذه المحرمات: الربا، الرشوة، الغش، الخداع.
بيع المحرمات، كالدخان والمخدرات وآلات اللهو بأنواعها، وسماع آلات اللهو حرام، وثمنها حرام، وهناك قاعدة فقهية تقول: (ما حَرُم استعماله حَرُم ثمنُه).
أمة الإسلام: أين الورع؟ أين القناعة؟ أين العفة؟ الحلال: ما حَلَّ بأيدينا، والحرام: ما تعذر علينا أخذه.
إن الحياة الدنيا ليست بدار بقاء، إنها دار عمل، والحساب بدار الجزاء الثاني، يوم القيامة، يومٌ عظيمٌ، تبرز فيه الكامنات، وتظهر فيه الحقائق، وتنكشف النيّات، يوم تنشر فيه الدواوين، يوم تَبِيْن فيه النتيجة، أيُّنَا الناجح من الراسب؟ إنه يوم عظيم، وأعظم دليل على عظمة ذلك اليوم كثرة أسمائه بالقرآن العظيم، إنه يوم القيامة، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أين القلب السليم؟ ما هو القلب السليم؟
القلب السليم هو: الصحيح الممتلئ بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه.
القلب السليم هو: المتحلي بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
القلب السليم هو: الخالي من كل شبهة تعارض خير الله.
نعم.
القلب السليم هو: الخالي من كل شهوة تميل إلى ما حرم الله.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتجنبوا كل ما يمرض القلوب أو يميتها.
السبب الرابع: الصدود عن ذكر الله وعن كتاب الله:
إن أكثر ممرض وأعظم مميت للقلوب هو: الصدود عن ذكر الله وعن كتاب الله تلاوةً وعملاً وتدبراً.
السبب الخامس: الإسراع والمبادرة إلى التضلع وقراءة المجلات:
إن من عوامل موت القلوب: الإسراع والمبادرة إلى التضلع وقراءة المجلات -والعياذ بالله- فالاهتمام انصرف عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله إلى سنة اليهود والنصارى، وإلى دسائس اليهود والنصارى، ودسائس الصهيونية من مجلات وجرائد وغيرها.
اسمعوا وصف المؤمنين الكامل في كتاب الله رب العالمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الغفلة يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(30/3)
التزود ليوم الرحيل
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وأحيوا قلوبكم، ونوّروها، وتعاهدوها في كل آونة، وفي كل لحظة بالإقبال على رب العالمين، بالتوبة النصوحة، وبكثرة ذكر الله، وبكثرة الاستغفار والتسبيح والتهليل والتحميد، وبتلاوة كتاب الله، واستماعه، وتزودوا من الأعمال الصالحات، أنتم الآن في دار العمل، أنتم الآن مُمهلون، أنتم الآن في وقت الإمكان، تزودوا من الأعمال الصالحات، فهو أقوى العوامل في إنارة القلوب وهدايتها واستقامتها، جالسوا الأخيار، احذروا من استماع المحرمات بأنواعها، احذروا من أكل الحرام؛ فإنه من أسباب موت القلوب، وعدم قبول الدعاء، يقول صلى الله عليه وسلم: {أيُّما لحمٍ نَبَتَ على السُّحْت فالنار أولى به}.
عباد الله: ليِّنوا قلوبكم بالمواعظ، ذكروها النهاية، وأن المصير إلى القبور، ثم بعد ذلك حشر ونشور، ووقوف بين يدي الله ليسأل العبد، ليس بينه وبينهم ترجمان، أعدوا لذلك السؤال جواباً، وللجواب صواباً.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وصلوا على خير خلق الله، صلوا على البشير النذير، صلوا على السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم اقتداءً واستجابة لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، يقول سيد البشرية: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك وزد وأتم صلاة وتسليماً على نبينا وسيدنا وإمامنا محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالاً لما تريد، نسألك بعزتك التي لا تُرام، وبمُلْكِك الذي لا يضام، وبوجهك العظيم، أن تغيث قلوبنا بالإيمان.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وارزقنا إيماناً دائماً كاملاً، ويقيناً صادقاً مع العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في برك وبحرك، اللهم أمدهم بعونك، اللهم أمدهم بعونك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم اخذل من خذل الإسلام وأهله، وانصر من نصر الإسلام وأهله، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، اللهم أيده بتأييدك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً، وارزقنا وإياهم اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً، وارزقنا وإياهم اجتنابه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم يا رب العالمين، اللهم أقر أعيننا بصلاحهم.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(30/4)
أهوال القيامة
إن يوم القيامة يوم تشيب لهوله الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، وفي ذلك اليوم يقف الناس بين يدي الله عز وجل، وتدنو الشمس من العباد بمقدار ميل؛ فمنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، وكل واحد يلجمه العرق بقدر ذنوبه، وفي ذلك اليوم تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.(31/1)
مقدمات يوم القيامة
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ليوم القيامة والقارعة والزلزلة والحاقة والواقعة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] و {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أحمدك اللهم وأشكرك وأسألك أن تظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: {يا أيها الناس! اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:(31/2)
نفختي الصعق والبعث
يقول ربنا جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68 * وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69].
القرآن كلام الله يصلح منبهاً بما سوف يكون يوم القيامة، وقبل ذلك مقدمات، وهي قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] هذه النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض؛ إلا من شاء الله، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم -الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً- بالديمومة والبقاء: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! -ثلاث مرات- ثم يجيب نفسه بنفسه، فيقول: لله الواحد القهار، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي: النفخة الثانية نفخة البعث، قال الله جل وعلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] لا إله إلا الله القادر على كل شيء! كيف أحوالنا إذا قمنا من القبور، ننفض التراب عن رءوسنا؟! قال الله جل وعلا: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: أحياء بعد أن كانوا عظاماً ورفاتاً صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14] كل هذه الأهوال سوف تحصل في ذلك اليوم الرهيب، الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع فيه الحوامل حملها، وتشيب الولدان وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.(31/3)
تناثر الصحف
ولكن لقد حان وقت الامتحان والعرض على الجبار الذي لا تخفى عليه خافية: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] جاء لفصل القضاء بين العباد: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ففي هذه اللحظة يكون العرض على عالم السر والنجوى؛ ويتبين فيه الربح من الخسارة، والنجاح من الرسوب، في ذلك الامتحان العظيم؛ ومن يأخذ الشهادة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] لا إله إلا الله! تلكم الشهادة -يا عباد الله- {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] ما هو المآل يا رب العالمين؟! ما هو مآل هذه الشهادة؟ ما مآل هذه الدرجات؟ ما مآل هذا الامتياز؟
مآله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24] بما أسلفتم من أداء الواجبات، ورضاء رب العالمين، فيا لها من سعادة أبدية، ويا له من فرح شديد بهذه النتيجة التي لا تحصل إلا لمن أدى الواجبات، وأتى بالحسنات، وعمل الأعمال الصالحات، وخرج من الدنيا، وقد حصل على حسن السيرة والسلوك مع الله في السر والعلانية.
لا يحصل هذا الفضل وهذه الكرامة إلا لمن خرج من الدنيا، وقد حصل على حسن السيرة والسلوك مع الله في السر والعلانية، فقد ورد في الأثر: [[لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز "بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية]] فهنيئاً ثم هنيئاً لمن كانت عاقبته يوم أن يلقى الله، ويا خسارة ويا خيبة من رسب في ذلك العرض الأكبر في ذلك الامتحان وأعطي كتابه بشماله فهو يقول: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27] يقول ذلك ويتحسر وإن كان في الدنيا صاحب أموال وصاحب جاه كل ذلك لا يجدي لمن عصى الله، فهو ينادي {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] الذي كنت أطارد وراءه، فأضيع حقوق رب العالمين: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] الذي حملني على الأثر والبطر والكبر والفساد في الأرض {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أي: عند ذلك، وبعد أن اطلع على نتيجة الخسران التي استحق بها الإهانة والإبعاد، أمر الله عز وجل الزبانية أن تأخذه بعنف من المحشر، فتغله بالأغلال في عنقه، ثم تسحبه إلى جهنم، فتصليه إياها وبئس المصير.
قال بعض المفسرين إذا قال الرب عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه، فهذا جزاء من عصى الله وتعدى الحدود، ولم يقم بحق الله عليه من طاعته وعبادته: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
اللهم أحينا مسلمين، ونجحنا يوم الامتحان الأكبر، وأعطنا الشهادة باليمين، وارفع درجاتنا في عليين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والحمد لله رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه من كل ذنب، يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(31/4)
الوقوف بين يدي الله
الحمد لله الذي أمره بين الكاف والنون، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، يأمر إسرافيل بنفخ الصور {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51].
لك الحمد يا الله! الذي لا إله إلا أنت تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد، وأشكرك على نعمك، ونسألك اللهم من فضلك المجيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا ظهير ولا معين، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن أمامكم القيامة سوف نقف في ذلك اليوم الرهيب: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5] وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، سوف نقف حفاة عراة غرلاً، الذكر مع الأنثى في ساحة قد بدلت غير الساحة التي كنا نراها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] برزنا لِعَالِم الخفيات لا يخفى عليه منا شيء: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].(31/5)
شفاعة الرسول للناس يوم القيامة
في ذلك اليوم الرهيب يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مما ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم السامع، وتدنو منهم الشمس، ويبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون}.
كلنا نقف في ذلك اليوم لا تحسبوه للصحابة ولرسول الله، كلنا سوف نقف في ذلك اليوم حفاة عراة، وإن عمرنا سنيناً، وإن متنا قبل ذلك فسوف نقف في ذلك اليوم، يقول صلى الله عليه وسلم: {يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم السامع، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لأبيهم آدم: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة؛ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجر فعصيت، نفسي نفسي نفسي!} أبونا آدم يتبرأ في ذلك الموقف، وقد كانت معصيته بسيطة، نهاه الله فأكل من الشجرة، ونحن نضيع الصلوات، الصلاة إثر الصلاة، وإذا نُصِحْنا قلنا: (التقوى هاهنا) مكابرة ومعاندة لا اقتداءً برسول الله حين قال: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره} لكنه نعم المتقي، ونعم المطيع لله، أما أنت أيها العاصي، فكذبت وادعيت ما لم تأتِ به، وسوف تلقى هذه الكلمة في صحيفتك يوم تنشر يوم القيامة، وبعضهم يقول: التقوى هاهنا وهو لا يصلي مع جماعة المسلمين، أو وهو يحلق اللحية، أو وهو يتغشى المحرمات ويقول: الله غفور رحيم.
أبونا آدم أكل من الشجرة فمعصيته بسيطة ويقول: {نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح؛ فيأتون نوحاً فيقول مثلما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! -أولو العزم من الرسل يتبرءون في ذلك الموقف الرهيب- اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى الكليم عليه السلام، فيقول: نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم، فيقول: نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد} لا إله إلا الله! يا لها من نعمة كبيرة على من جعله الله من أمة محمد، ولكنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسم لنا منهاجاً منيراً، ووضح لنا طريقاً مستقيماً، إذا سلكناه أوصلنا إلى الله، ولكنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {يرد أناس من أمتي الحوض، فإذا أرادوا أن يشربوا مُنعوا فأقول: يا رب أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك}.
هل شرعت لهم الفيديو يا محمد؟!
هل خلَّفت لهم التمثيليات والمسلسلات التي سهروا معها الليالي وتركوا الصلوات؟!
هل ألَّفت لهم الأغاني في الأشرطة يا محمد؟!
هل قلت لهم: احلقوا اللحى وقولوا: التقوى هاهنا؟!
يقول: لا يا رب.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فمن هو الهالك؟ هو الذي اجترأ على محرمات الله، وتعدى حدود الله؛ فبعداً لك أيها العاصي!
فيقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: اجتهدوا حتى تنالوا هذه البشارة، إن قلبي ممتلئ بها من الليل، إنني إذا قرأت هذه البشارة استنار قلبي واطمأنت نفسي، ولكن إذا رأينا التقصير -يا عباد الله- والله مطلع على ما تبقيه فرائضنا: {اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد من قبلي، ثم يُقال: يا محمد يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطى، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! فيُقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة} يا رب نسألك أن ترحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم وفقنا لاتباع نهج محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أمة محمد المطيعين لك يا رب العالمين.
{يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب} أي: من أبوابها الثمانية منهم أبو بكر يدعى من أبواب الجنة الثمانية، ثم قال: {والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى} متفق عليه.(31/6)
حقيقة الدنيا
عباد الله: اغتنموا الأوقات، ارجعوا إلى رب الأرض والسماوات، أصلحوا السرائر لعالم الخفيات، ارجعوا إلى الله بخالص الأعمال، قوموا لله بما يرضيه، لا تغرنكم الحياة الدنيا؛ فإنها دار وصفها الله في كتابه أنها دار غرور ومتاع قليل ولعب ولهو وممر وطريق إلى الآخرة، وكما هو الواقع دار مملوءة بالأكدار والمصائب والآلام والأحزان، دار ما أضحكت إلا وأبكت، ولا سرت إلا وأساءت، دار النهاية، قوة ساكنيها إلى الضعف، ونهاية شبابهم إلى الهرم، ونهاية حياتهم الموت، انظروا إلى أهل الملايين هل يدفن شيء معهم في قبورهم إلا ما قدموه من صالح الأعمال؟
عباد الله: ذللوا دنياكم لآخرتكم، واستخدموها في الذي يرضي الله عنكم، واتقوا الله وبادروا بالأعمال الصالحة قبل هجوم هاذم اللذات، وما أدراك ما هاذم اللذات؟ إنه الموت مفرق الجماعات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: إن الله أمركم أن تصلوا على رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وفي مقدمتهم في الفضل الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من عبادك الراشدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم تجاوز عن سيئاتنا، وأدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، واجعلهم قرة أعين لنا، واجمعنا وإياهم في جناتك جنات النعيم، واغفر لوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وأعزنا بالإسلام عاجلاً غير آجل، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أرنا ذل أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم من به صلاح للإسلام والمسلمين فأيده بنصرك المبين، ومن به خذلان للإسلام والمسلمين، فأهلكه بعزتك وقدرتك، وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين! {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(31/7)
اتباع لا ابتداع
لقد جاءتنا هذه الشريعة صافية نقية، وأكمل الله هذا الدين كمالاً ما بعده كمال، ومن ابتدع أمراً فقد اتهم هذا الدين بالنقص، فعلى الإنسان ألا يتجاوز المشروع إلى غيره وأن يتمسك بالمأثور حتى يسلم من البدعة.(32/1)
خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد
الحمد لله الذي اختار لنا الإسلام ديناً، وأَنْعِمْ به من دين ختم الله به بمحمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم لك الحمد أنت أهل الحمد والثناء، خلقتنا في أحسن تقويم، فمن آمن وعمل صالحاً فله أجر غير ممنون، ومن لم يؤمن بالله ويعمل صالحاً فهو في أسفل سافلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، ولا نعبد إلا إياه ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، ودلهم على الدين الصحيح الذي ارتضاه الله لنفسه فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله! إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.(32/2)
كتاب الله هو مرجعنا وحياة قلوبنا
نعم يا أمة الإسلام! إن خير الحديث كتاب الله؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم، فالقلوب الحية تتذوق طعم الكلام الجيد والرديء، وتدرك تمام الإدراك من الآيات البينات، فهذا القرآن الكريم يحمل من طابع الربانية، وخصائص الكلام الإلهي، وبما ينطوي عليه من معاني التأثير الكامل في القلوب الواعية، والنفوس الصافية، وبما يتميز به من الفصاحة، وإعجاز البلاغة، وحلاوة الأسلوب، وعذوبة المنطق، وعلو الذوق، وصدق التوجيه، إنه القرآن بخصائصه، إنه نعمة من الله تعالى لأمة الإسلام، القرآن غيث يحيي به الله القلوب ويبعثها، ويحركها، ويضيء لها السبيل؛ لتصل بالقرآن إلى الله العلي القدير، يقول الرب جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].(32/3)
عداوة الشيطان لمن تبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي قال: {مَن عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} محمد صلى الله عليه وسلم القائل: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} هدي محمد صلى الله عليه وسلم الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى سعادة الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون! {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
إن الإسلام: هو الاستسلام لله ظاهراً وباطناً، استسلاماً تاماً لا تواني فيه, ولا كسل ولا انحراف ولا خطل، إنه طاعة لله تعالى سراً وعلانية، بفعل ما به أمَر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وما أيسر ذلك على من يسره الله عليه.
أيها المسلمون! إن الشيطان بعداوته لكم يفتِّر عزائمكم عن القيام بدينكم، ويدعوكم إلى الكسل والتواني عن أوامر دينكم، ويغريكم ويحثكم على مخالفة دينكم ومعصية ربكم عزَّ وجلَّ.
أجل يا عباد الله، أجل يا أمة الإسلام، ما هذه المحدثات؟ وما هذه البدع التي أحدثها الكثير من الناس، ويتخذونها ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله، ولم يشرعها الخلفاء الراشدون، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور} نعم، يا عباد الله.(32/4)
بدعة المولد النبوي
من محدثات الأمور: التي ابتدعها الكثير من المسلمين، وهم يزعمون أنهم بذلك مهتدون، وهم والله لقد ضلوا الطريق بفعلهم ذلك، أتدرون ما هو يا عباد الله؟ وإن كَبُر على بعض قلوب الحاضرين، وإن نظرني بعض الحاضرين بعيون شَزِرَة، فأنا أستعين بالله عليه بحوله وقوته، فأقول: إن بعض المسلمين أحدثوا حدثاً لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا الخلفاء الراشدون، إنه إقامة المولد النبوي، والاحتفال به في كل سنة تمر عليهم، في ليلة الثاني عشر، إنها بدعة محدَثة، لم يشرعها رسول الله، ولم يأمر بها رسول الله، فإن ادعوا حب رسول الله، فوالله ثم والله ثم والله ليس بأحب إليهم من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومن الصحابة أجمعين، الذين كانوا يحبون رسول الله ويفدونه بأنفسهم رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يدافعون عنه أشد المدافعة، أما بعض المسلمين فإنهم يشربون الخمور، ويحلقون اللحى، ويتركون الصلاة، ويأكلون الربا، ويغشون، ويفعلون، ويفعلون، ويقولون: نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لقد ضلوا الطريق، إلا أن يرجعوا إلى الله وإلى رسوله، ويلزموا الصراط المستقيم.(32/5)
بعض المخالفات التي تحدث في المولد
أمة الإسلام: هل تدرون ماذا يحدث في ذلك المولد؟ إنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، إنه دعاء من دون الله، يدْعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألونه تفريج الكربات، يسألونه قضاء الحاجات، وهو ينهى عن ذلك، ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله} فالعبد لا يُعبد من دون الله، بل يُطاع ويُتبع بما أمره الله من وحيه وشرعه.
فالذي يلزم المسلمين أن يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُحْيُوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُحْيُوا سننه التي أمييت واندرست؛ سنن سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكم من سنة اندرست وأميتت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار البعض من المسلمين همهم الابتداع في دين الله، وشرع ما لم يأمر به الله ولم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين هم من الصواب يا عباد الله؟
ثم بعض الدول الإسلامية -مع الأسف الشديد- لما انتهت من خطاباتها التي ألقتها في ذلك المولد، قالت: تغنيكم المغنية فلانة، مع الأسف الشديد، وبعضهم يستقدم الفرقة الموسيقية والمطربين والمطربات؛ ليحيوا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله أكبر! لقد عميت أبصارهم, وابتعدوا عن طريق الحق يا عباد الله.
والله ما هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وما هكذا فعل خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده رضي الله عنهم، ولا فعله بعض أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.(32/6)
الدين مكتمل فلا داعي للابتداع
فما الذي حملنا على الابتداع؟ هل الدين ناقص فنكمله؟ كلا، والله ما مات رسول الله إلا وقد أكمل الله به الدين، يقول رب العالمين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
أمة الإسلام! خذوا حذركم من الشيطان، فإنه يأتيكم بالبدع، ويأمركم بمحدثات الأمور، يصور لكم الدين الإسلامي بأنه حبس للحرية، وتضييق على الإنسان، وإرهاق له، وتفويت لمصالحه، هكذا يصور الشيطان، وأعوان الشيطان لا كثرهم الله من علماء الضلال، ومشايخ الطرق البدعية لا كثرهم الله، بل هم غثاء على المسلمين عالة يأكلون، ويخلطون الدنيا بالدين، حسبنا الله ونعم الوكيل، يصورون الدين أنه توسل بالصالحين والأولياء والأضرحة، وهذا والله شرك بالله العظيم، والله إن مات صاحبه عليه فإن الله لا يغفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
أيها المسلمون! إن الدين الإسلامي بريء من كل ما يصفه به أعداؤه، إن الدين الإسلامي هو دين اليُسر والسهولة، هو دين شرعه الله وجاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وما مات رسول الله حتى أكمل الله به الدين.(32/7)
أركان الإسلام سهلة ولا نحتاج إلى زيادة عليها
إن الإسلام بُني على خمسة أركان:
أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
ثانيها: إقامة الصلاة.
ثالثها: إيتاء الزكاة.
رابعها: صيام رمضان.
خامسها: حج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.
وهذه الأركان كلها سهلة ويسيرة, وكلها صلاح وتهذيب، وجاء البعض من الناس، يريد أن يزيد هذه الأركان، فقال: توسلوا بالصالحين، توسلوا بالأضرحة، توسلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعاقل من المسلمين يرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، فإن وجد ذلك فليأخذه بتسليم، وإن لم يجد ذلك فليرده على المبتدعين المشعوذين؛ الذين يريدون هدم الإسلام بمعولهم؛ بأيديهم وأيدي النصارى الداعية إلى النصرانية، وبأيدي المجوسية، وبأيدي اليهودية والماسونية، وبأيدي الشيوعية.
احذروا يا أمة الإسلام، أركان الإسلام خمسة:(32/8)
الركن الأول تحقيق العبودية لله وعدم الابتداع
فأولها: شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد الله رب العالمين، وتجريد القلب من التأله لغير الله، فلا ضريح، ولا صالح، ولا ولي، ولا نبي، ولا رسول يُعبد من دون الله، وهو إخلاص العبادة لله، وصرفها لله رب العالمين، لا ذبح، ولا نذر، ولا حلف بغير الله، إلى غير ذلك من العبادة، فإنه يحرم صرفها لغير الله عزَّ وجلَّ, فإنها خاصة لرب العالمين، الذي خلقك فسواك يا عبد الله، وغذاك من نعمه ورباك، فأنت بالنسبة إلى ربك عبد من عبيده، وبالنسبة إلى غيره حر.
إن من الحماقة بمكان أن تنطلق من عبودية ربك التي هي حق، وتقيد نفسك بعبودية هواك، أو بعبودية المال، أو عبودية فلان وفلان، إن الكثير من الناس قد اشتغل بطاعة الله، فكأنما يصابر الجمر، لا يصبر على طاعة الله إلا قليلاً، مع قلق في نفسه، وانشغال في قلبه، وإذا اشتغل في أمور الدنيا أو التوسل بالصالحين، أو التوسل بالأضرحة، أو التوسل بالأموات، أقبل عليها بقلبه وفكره، واطمأن إليها، واستراح بها، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وأما شهادة أن محمداً رسول الله: فهي تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من المخلوقين، فهو رسول ربك، الذي جاهد في الله حق جهاده، الذي جاء بها نقية، هو رسول رب العالمين، الذي كلف بالرسالة إليكم يا عباد الله، وكلفتم باتباعها.
أمة الإسلام! إن كل أحد من الناس سوف يسير في عمله على خطة مرسومة، ونهج متبع، فإما أن يكون طريق النبيين، أو طريق الضالين المنحرفين المكذبين و {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فانظر يا عبد الله أي الطريقين أهدى وأقوم.(32/9)
الأركان الأربعة الأخرى وبيان يسرها
الركن الثاني من أركان الإسلام الصلاة: الصلاة يا عباد الله، وهي الصلة الوثيقة بين الله وبين العبد، فما أيسرها وأسهلها، وما أنفعها للقلب والبدن، والفرد والمجتمع.
أيها المسلم! حافظ على صلواتك، ولا تؤدها إلا وأنت متطهر في ظاهرك وباطنك، قم بين يدي الله خاشعاً خاضعاً متقرباً إلى الله رب العالمين بما شرعه لك في الصلاة من ذكر وقراءة ودعاء وركوع وسجود وقيام وقعود، تسأله لدنياك وآخرتك.
فالصلاة يا أمة الإسلام؛ تنمي الدين وتحف الذنوب، وتلحق بالصالحين، ويُستعان بها على أمور الدين والدنيا، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يقول رب العالمين: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ويقول جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} [العنكبوت:45].
الركن الثالث: الزكاة: إنها جزء بسيط تدفعه من مالك لسد حاجة إخوانك الفقراء، وإصلاح مجتمعك، ففيها تزكية المال، وتطهير النفس من البخل الذميم، وتطهير القلب من الذنوب والآثام، فالصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما نقص مالٌ من صدقة}.
فأدوا الزكاة يا عباد الله، وثقوا بوعد الله بالخَلَف العاجل، والثواب الآجل، واحذروا من الوعيد الشديد لمن منع الزكاة.
الركن الرابع: صيام رمضان: وهو شهر واحد في السنة، يذكرك نِعَم الله عليك، وفي الصيام فضل عظيم لمن تقبل الله منه.
الركن الخامس: الحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً: وهو في العمر مرة واحدة، ففي الحج تُحط الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
هذه أركان الإسلام يا أمة الإسلام، وهي أصول الدين الإسلامي، فبالله عليكم هل فيها من صعوبة؟ وهل فيها من خلل أو نقص حتى يأتي المشعوذون والكهَّان والسحرة ليأخذوا من أموال الناس بغير حق، ويشرعوا لهم أموراً نهى الله عنها ورسوله؟ هل بالإسلام نقص يا عباد الله؟ إن قلتم: لا، أو قلتم: نعم، فلا سمع ولا طاعة، بل السمع والطاعة لقول رب العالمين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياكم ما يغضبه ويأباه.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
واستغفروا الله يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(32/10)
التحذير من أعداء العقيدة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالْهُدى ودين الحق، أرسله بدين الإسلام، دين الرحمة، والعدالة، والعبادة، والمعاملة، فهدى الله به أقواماً وأضل عنه آخَرين.
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(32/11)
فلاح الرعيل الأول بهدي الإسلام
فيا أيها الناس، اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
أمة الإسلام! تمسكوا بدين الإسلام، قوموا بدين الله حق قيام.
أيها المسلمون! لقد وهب الإسلام للرعيل الأول من رجال هذه الأمة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهبهم حياة جديدة في كل شيء، ونوراً جديداً أضاء لهم السبُل لكل شيء، فأحياهم بعد جمود، وجمعهم بعد فُرقة، وأغناهم بعد فاقة، وجعلهم أئمة الدنيا، يهدون الناس بإذن ربهم إلى طريق العدل وسبل الخيرات، ووسائل السعادة والسلام، وكانوا المثُل الحية للقلوب الحية، أولئك الذين تمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتثلين قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فيا أيها المؤمنون بكتاب الله الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ هذا كتاب الله يدعوكم إلى الوحدة، وهذا حديث رسول الله يحرم عليكم الخلاف والتفرقة، ويقول: {لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
أيها المسلمون! أيها الشاب المسلم! اتق الله عزَّ وجلَّ في مستقبلك، احذر من أعداء الإسلام، احذر من أعداء العقيدة الإعلام.(32/12)
الحذر من أهل المعاصي والبدع
احذر من أعداء الأخلاق والآداب الإسلامية، احذر من هُوَّة الشيطان، احذر من دعاة الاستعمار، احذر من سمهم الملغوم في مجلاتهم السافلة، وفي أشرطة الفيديو الساذجة، وفي تسجيلاتهم الخبيثة، التي يبثونها عن طريق الإعلام.
احذرها يا أخي المسلم، وابحث عن عقيدتك الصحيحة، وتعلم العقيدة الصحيحة قبل أن يغزوك أعداء الإسلام، ثم يستميلوا قلبك حبهم، وتشجيعهم على الباطل، فعند ذلك لا تجد لنفسك سبيلاً إلى الخير، كما فُعل بمن كان قبلك ممن شابوا وترعرعوا وشابت ذوائبهم على البدع والخرافات، فصاروا يتمسحون بتراب القبور، ويتوسلون الأضرحة، يذبحون لها الذبائح، وينذرون لها النذور من دون الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أي: الخارجون عن طاعة الله، فمن تاب تاب الله عليه.
فيا من فُتنتَ بهذه البدع والمنكرات، يا من فُتنت بهذه البدع المحدثات، ارجع إلى ربك عزَّ وجلَّ، فهذا القرآن لم يتغير، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدي المسلمين، سنتُه محفوظة، لله الحمد والمنة: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
أيها المسلمون! الله الله بعقيدة السلف الصالح تمسكوا بها، الله الله بالرجوع إلى الله، وإلى كتابه، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي جاء بها بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين المتبعين لشرعه، وعلى جميع الصحابة أجمعين.
اللهم أيقظنا واهدنا، ووفقنا للحاق بهم يا رب العالمين، ولننهج طريقهم المستقيم يا رب العالمين.
اللهم أجرنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم قيض لهم علماء ورعين، عاملين بعلمهم غير مبتدعين يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجمع قلوبنا على الحق، يا رب العالمين، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم اغفر لنا في هذه الساعة أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام انصر المجاهدين في سبيلك من المسلمين.
عباد الله! ألِحُّوا بالدعاء إلى الله أن ينصر إخوانكم المجاهدين الذين يتساقطون إِرْباً إِرْباً من القنابل والمدمرات، ويحمل عليهم العدو سلاحه، ادعوا الله أن ينصرهم، وأن يثبت أقدامهم، ولا تنسوهم من حطام الدنيا، أمدوهم يا إخواني، فإن النفقة في سبيل الله مخلوفة ومضاعفة.
اللهم انصرهم بنصرك، اللهم أمدهم بقوتك وعونك فإنه لا حول ولا قوة إلا بك، يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر من نصر الإسلام وأهله، ومن أراد خذلاً للإسلام وأهله فاخذله يا رب العالمين، واعْمِ بصره، واصمَّ سمعَه، وقطعه إِرْباً إِرْباً، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً له، يا سميع الدعاء.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلوا على رسول الله.(32/13)
استعدوا ولا تغفلوا
لقد أنزل الله إليناً كتاباً لنتمسك به ولننتهجه في حياتنا، وأوجب علينا العمل به، وحذرنا من ترك العمل به وإهماله، وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، وذكر لنا عقوبته تعالى لمن تجرأ على انتهاك محارمه غافلاً أو متناسياً لشديد عقابه وقوة بأسه، وقد توعد الله من عصاه بأنواع من العقوبات في دنياه وآخرته.(33/1)
وجوب طاعة الله ورسوله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واعلموا أن الله -تبارك وتعالى- أوجب طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال في محكم البيان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20 - 21].
ويقول جلَّ وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ويقول جل وعلا: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
عباد الله! إن الله غني عنا، وعن طاعتنا، وعن عبادتنا، ولكن نحن الفقراء المحتاجون إلى الله، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
نعم! يا عباد الله، يأمر رب العزة والجلال والإكرام بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن أطاع فله السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن عصى الله ورسوله فله العقوبات التي لا تُعد ولا تحصى، ولا تُحد ولا تستقصى؛ لهذا ختم الحكيم العليم، بذكر شدة عقابه لمن عصاه وعصى رسوله بالآيتين السابقتين في سورة النور، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إن المعاصي -يا عباد الله- هي التي تجر إلى الشقاء والبؤس والنقمة، وإن الطاعات والأعمال الصالحة هي ذريعة ووسيلة للصلاح والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
نعم! إننا نشكو من كثرة الحوادث والنوازل، نشكو من أمراض القلوب، ولا نفكر -أبداً- فيما تجر علينا هذه الحوادث والنوازل.
وما الذي سبب لنا مرض القلوب، لا نفكر بذلك أبداً لماذا؟
لأننا لا نعتني بالغذاء الروحي وهو: القرآن العظيم والسنة المطهرة، لا نعتني بالأخطار التي نبهنا عليها ربنا جل وعلا، وحذَّرنا منها في القرآن، وحذرنا منها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ذلك بالرغم مما ندعيه أننا أهل الإسلام وأننا نحب الله ورسوله، ونسمع الآيات والأحاديث تصرح بتحريم الحرام، وتُحذِّر من الحرام، وكأننا لم نُقصد في ذلك البلاغ.(33/2)
عقوبة الأمن من مكر الله
يا عباد الله! الذنوب والمعاصي لها عقوبات تتنوع على قدر تلك الذنوب والمعاصي، فتارة تكون العقوبة في الدين، وهي من أعظم العقوبات، أتدري ما هي عقوبة الدين يا عبد الله؟
أن يُحال بين العاصي المدمن على الذنوب وبين الإيمان، فيكون ليس عنده إيمان، أو يكون ناقص الإيمان، ويُحال بينه وبين حسن الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك.
يقول الله جلَّ وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ويقول سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
ثم يقول جلَّ وعلا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] هذه عقوبة الدين {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
وتارة تكون عقوبة المعاصي بالأبدان والأموال، من خسف، ومسخ، وإهلاك، وأخذ على غِرَّة وغفلة، كما أخبر الله جلَّ وعلا محذراً للأمة الإسلامية: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47].
أو يأخذهم وهم على المدرجات غافلون عن أمر الله، يمر وقت الصلاة ثم الصلاة وهم لا يبالون بذلك، أو يأخذهم وهم عند الأفلام والتمثيليات، تمر أوقات الفضائل وهم على ذلك، أو يأخذهم وهم عند الفيديو وعندما يُبَث فيه من البلاء الذي عمَّ وطمَّ، وأمرض القلوب، بل أماتها، أو يأخذهم وهم على البَلُوْت والكِنْكَان، يقضون أوقات الفضائل ليلة الخميس التي تعرض فيها الأعمال على الله، أو يوم الجمعة الذي تكون فيه الساعة، وفيه ساعة إجابة يا عباد الله!!
كل هذه أوقات قضوها في غفلة وإعراض عن الله عزَّ وجلَّ قال سبحانه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
عباد الله! لا تغتروا بما بُسط لكم من النعمة، فإنه قد بُسط على مَن كان قبلكم من النعمة فظنوا أن الإمهال إهمال، فجاءهم أمر الله وهم غافلون {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر:84] وما أُخذ قوم إلا عند غِرَّتهم وسلوتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإن أخذه أليم شديد.
عباد الله! ألا نتعظ؟ ألا نعتبر؟ أم قد ران على القلوب الران.
أمة الإسلام! إنها والله مصيبة عظمى، أن نرى ألوفاً مؤلفة تمر عليهم أوقات الصلوات وهم في غفلة معرضون.
أين الخوف من الله جل وعلا؟! أفأمنوا أن ينزل عليهم عذاب الله وهم في أماكنهم جالسون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] نعوذ بالله من الخسران.
أمة الإسلام! أين الدعوة إلى الله؟ البعض من الذين يجلسون على المدرجات، إذا قيل لهم: لماذا لم تصلوا؟ قالوا: نستحي ونخجل أن نقوم نصلي بين الجمهور، هذا الذي يحس بالصلاة يقول: نخجل، ويحصل عندنا الفشل والخجل، أن نقوم نصلي بين الجمهور!! الله أكبر! أين الخوف من الله يا عباد الله؟! أين الشعور بالإيمان يا عباد الله! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ: {لا تترك الصلاة وإن قُتِلْت وحُرِّقْت}.
والله عزَّ وجلَّ لم يسقط عن المصافِّين في سبيل الله، فكيف بالجالسين على المدرجات، ينتظرون الشوط الأول والأخير، كيف لا يحسون بهذا الشرع العظيم؟! كيف لا يخافون من رب السماوات والأرض؟! كيف لا يخافون مِن الذي خلقهم وأوجدهم من العدم إلى الوجود؟ كيف لا يخافون من الله الذي أسبغ عليهم هذه النعم، فقابلوها بخلاف شكرها، وقابلوا هذه النعمة بخلاف المطلوب منهم.
إن المطلوب والمقصود من المسلمين أن يشكروا الله عزَّ وجلَّ على هذه النعم، ولكن البعض من المسلمين قابلها بالنكران والكفران والعياذ بالله.
زد على ذلك! ما فعله البعض من الناس عندما نزل هذا الغيث -نسأل الله أن يجعله مباركاً- عندما عملوا ضربوا المخيمات، وهربوا عن الصلوات، فصارت تمر عليهم الأيام وهم لا يؤدون الجمعة في المساجد -فإنا لله وإنا إليه راجعون- وصدق الله العظيم: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
عباد الله! إن الله إذا أُطيع رضي، وإذا رضي بارك، وليس لبركته نهاية، وإذا عُصي غضب، وإذا غضب لعن، ولعنتُه تبلغ السابع من الولد.
فيا عباد الله! أما ترون ظهور هذه المنكرات التي انتشرت في ناديكم، في الحاضرة والبادية، فلم تشمئز منها القلوب، ولم تتمعر لها الوجوه، فأين الغيرة يا عباد الله؟ أين الأنفة؟ أين الإيمان يا أمة الإسلام؟ لماذا لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر؟ لماذا؟ أهذا اغترار بالله؟ أم أمْنٌ من مكر الله؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا، اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله! ليبلغ الحاضر الغائب، أن المسلمين اليوم قد ابتعد الكثير منهم عن تعاليم الإسلام، فليرجعوا إلى الله قبل أن يحل بهم ما حل بِمَن قبلَهم من العذاب والنقمات.
أٌقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(33/3)
وعيد الله لمن عصاه
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يا عباد الله! اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله! احذروا عواقب الذنوب والمعاصي، فإنها تجلب النقم، وتسلب النعم.
جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخَبَث}.
نعم، هذه أم المؤمنين -رضي الله عنها- تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: {يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف} فتقول عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث}.
عباد الله! إذا كثر الخبث فلا يحول دون عذاب الله شيء، بالرغم من وجود الصالحين والعلماء، وقد وردت أحاديث متعددة، بعناوين مختلفة في معنى التواصي بالخير، والمنع عن الشر، وإلا فإن الله سبحانه سوف يغار إذا انتهك العباد محارمه، وتعدوا الحدود، فسوف يسلط عليهم عذاباً من عنده.
روى حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم}.
أجَل، يا عباد الله! كيف يشتكي المسلمون من الحوادث والنوازل التي تفاجئهم فينة تلو الأخرى، وقد تغيرت أحوالهم وحياتهم رأساً على عقب.
بل يجب على المسلمين أن يفكروا فيما إذا نزلت عليهم مصيبة أو فاجعة، أنها لم تنزل بهم إلا لأنهم سببوا لها، وأنهم كانوا يستحقون ذلك بما كسبت أيديهم.
بشر الحافي رحمه الله: رأى قطعة فيها اسم الله، فرفعها، وطيبها، فهتف به هاتف: رفعت اسمنا فرفعنا قدرَك، أما الآن، فالأعلام فيها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) صارت ملعبة بأيدي الأطفال، وتدوسها عجلات السيارات، هل رفعتم هذا الاسم يا عباد الله حتى يرفع الله قدركم؟
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو ولعب، ويصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير} هل نسمع هذا يا عباد الله؟ اسمع يا من أضعت العمر مع الملاهي، اسمع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: {يبيتُ قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو ولعب، فيصبحوا قد مسخوا قردةً وخنازير، ولَيُصِيْبَنَّهم خسفٌ وقذفٌ حتى يصبح الناس يقولون: خُسِفَ الليلة ببني فلان، وخُسِفَ الليلة ببني فلان بدار فلان، ولَتُرْسَلَن عليهم حجارة من السماء كما أُرْسِلت على قوم لوط -على قبائل فيها، وعلى دور- ولَتُرْسَلَن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عاداً -على قبائل فيها، وعلى دور- بشربِهِمُ الخمرَ، ولبسهم الْحَريرَ، واتِّخاذهم القينات، وأكلهم الربا، وقطيعة الرحم} رواه الإمام أحمد والبيهقي وصححه الحاكم.
عباد الله! لا شك في أن هذه الأمور هي التي تسبب الكوارث والنكبات، كالزلازل، والأعاصير، والفيضانات، والمجاعات، واصتدام القطارات، والسيارات، والطائرات، وغيرها من الحوادث التي تتجدد كل يوم، وكذلك الأمراض والمصائب التي انتشرت في كل مكان.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يا عباد الله! علينا جميعاً أن نرجع إلى ربنا عزَّ وجلَّ، ونتوب عما نحن فيه من التقصير، ونقلع من الذنوب، فإنه لا يخلف الميعاد، وعَدَ بالمغفرة من تاب، ويتوب على من تاب.
عباد الله! اعلموا أنكم سوف تُوقَفُون بين يدي الله, ويسألكم عما استرعاكم عليهم، فأعدوا للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
وصلوا على الناصح الأمين، رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ترككم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، صلوا على من ختم الله به الرسالات، امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، أعزهم عاجلاً غير آجل.
اللهم يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما تريد، أسألك بعزتك التي لا تُرام، وملكك الذي لا يُضام، أن تغيثنا بعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل، اللهم أغثنا بعز الإسلام والمسلمين، عاجلاً غير آجل.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، اللهم اشرح صدورنا للإسلام، اللهم اشرح صدورنا للإسلام، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
لا إله إلا أنت، ولا رب لنا سواك، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إن نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا؛ أن تصلح ولاة أمور المسلمين عامة، وولاة أمورنا خاصة، يا رب العالمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، يا رب العالمين.
اللهم أصلحنا، وأصلح لنا، وأصلح بنا، واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، واللواط، والتبرج، والسفور، وجميع المنكرات، اللهم أبعدها عنا وعن جميع المسلمين يا رب العالمين.
اللهم طهر بيوت المسلمين من جميع المنكرات يا رب العالمين، اللهم طهِّر بيوت المسلمين من جميع المنكرات، يا أرحم الراحمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اهد ضال المسلمين، وثبت مهتديهم يا رب العالمين.
اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.(33/4)
آفات اللسان
خطر اللسان لا يخفى، ومصائبه لا تحصى ولا تستقصى، ورب فلتة منه أوردت النار، وأورثت الخسارة والعار والشنار، ولا شيء أولى بالحفاظ عليه من اللسان، والإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه.(34/1)
خطر اللسان
الحمد لله رب العالمين أحاط بكل شيء علماً, فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء, أحمده وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل, فاجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بالحذر من معاصيه ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم, واعلموا أن عليكم رقيبا ًعليماً, عليماً بكم لا تخفى عليه منكم خافية, ووكّل بكم حفظة قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ:16 - 18] ويقول جل وعلا: {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12].
أيها المسلمون! أيها المؤمنون حقاً! أيها المؤمنون بالله وبرسوله وبكتبه وباليوم الآخر! اعلموا واعملوا, فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه, يسأل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: {أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم, وإنه ليسير على من يسره الله عليه, تعبد الله لا تشرك به شيئاًَ, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار -أي: تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار- وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلى قول الحق جل وعلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]} فما جزاؤهم؟
لا يعلم جزاءهم إلا الله حيث قال سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ثم يستهل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوصية لـ معاذ ويقول: {ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله, فأخذ بلسانه وقال: كُفَّ عليك هذا} , يقول معاذ رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: {ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم}.
أمة الإسلام: شاهدنا من هذا الحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم}.
أمة الإسلام: هذا توجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لـ معاذ فحسب؛ بل لكل فرد من الأمة الإسلامية, إذ يرسم فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم طريق السلامة في الحياتين, ويرشد به إلى الفلاح والسعادة في الدارين (كف عليك هذا) ويشير إلى لسانه صلى الله عليه وسلم.(34/2)
الاستهزاء بالدين
أيها المسلمون: كم للسان من عثرات وهفوات محرمة, منها ما يوصل إلى الشرك والكفر والعياذ بالله, ومنها دون ذلك, فالاستهزاء بالله وبدينه وبكتبه وبرسله وبآياته وبعباد الله الصالحين الذين يعبدون ربهم كفر بالله, ومخرج من الإيمان وهو من حصائد اللسان, ألا فليحذر الذين يرمون المتمسكين بالدين بالرجعية, يحذرون من فلتات ألسنتهم التي يطلقونها بدون مبالاة, وبدون أن ينظروا إلى عواقب تلك الكلمات, فكم قالوا للمتدين: هذا رجعي, هذا متزمت, هذا موسوس؛ لأي شيء سموه بهذه الأسماء؟ لأنه صار متمسكاً بدين الله, راجعاً إلى المولى جل وعلا, راجعاً إلى الغفور الرحيم, حافظ على الصلوات، وترك لحيته، ورفع الثوب عن الكعبين, فهل في هذا رجعية؟! هل في هذا تزمت؟! هل في هذا وسوسة يا من تعقلون؟! أنا أجيب عنكم وأقسم بالله ثلاث مرات وأقول: كلا والله, ثم كلا والله, ثم كلا والله؛ بل هذا مطلوب من كل من يؤمن بالله ورسوله, لأن تارك الصلاة كافر, أكفر من اليهود والنصارى, يعتبر مرتداً, يقتل إذا أبى أن يجيب داعي الله مرتداً كافراً, خارجاً من دائرة المسلمين, لا يغسل, ولا يكفن, ولا يصلى عليه, ولا يورث؛ بل ينبذ بعيداً عن بلاد المسلمين, هذا تارك الصلاة.
وحالق اللحية قد ارتكب محرماً لأن حلق اللحية حرام, أبى الذين يعارضون أم لم يأبوا, عارضوا أم لم يعارضوا, حلق اللحية حرام, بنصوص الكتاب والسنة, أما الكتاب فقوله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اعفوا اللحى, أكرموا اللحى, ارخوا اللحى} كل هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا واضح من أحاديث الرسول, ومن أراد الزيادة فليرجع إلى صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب أهل السنة يجد فيها أن حلق اللحية حرام في نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم, من أراد أن ينهي النفس عن الهوى فليرجع إلى الصواب, أما من أراد أن يتمادى ويطغى فموعده يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وجر الثوب حرام, جر الثوب الذي يعير به المتمسك بدين الله, الذي يرفع الثوب فوق الكعبين يقال له: موسوس, فاعلم يا من تعارض أن جر الثوب حرام، وما أسفل الكعبين ففي النار.
وبعض الناس يقول: أنا لا أجره خيلاء, أنا أجره وأطول الثوب زينة! نقول له: تعال إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح لا يعارض: {ما أسفل الكعبين ففي النار} وليست النار تأكل الخرق, وإنما تأكل صاحب الخرق, تأكل الذي سحب الثوب والعياذ بالله, تأكل الذي يجر الثوب معصية لله ولرسوله, فلينتبه لذلك من أراد أن يتحرى الصواب ومن أراد أن يجيب داعي الله.
عباد الله: الحذر الحذر من فلتات اللسان, ويا أيها الشاب المتمسك بدينه, اصبر فإن موعدك إن ثبت على دينك أن يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, اصبر على أذى الأب والأم, اصبر على أذى القرابة إن كانوا يعارضونك على ذلك, يقولون لك: موسوس ومتزمت ومجنون ولكن إن ثبت على ذلك فموعدك أن يظلك الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله, الخلائق تحت شمس محرقة في أهوال شداد, يعانون منها يوم القيامة, وأنت إن كنت مطيعاً عابداً لله, فالله يظلك تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله, فعليك أيها الشاب بالتمسك بدينك, والصبر على الأذى، فمن الأسف الشديد ما يصدر من بعض الآباء, يلقبون أولادهم بالمجانين وبالموسوسين لأنهم تمسكوا بدين الله وابتعدوا عن المنكرات, فلا حول ولا قوة إلا بالله!
ولقد ورد في الحديث أن الرجل في آخر الزمان يعير بدينه كما تعير الزانية بزناها, وورد في الأثر في آخر الزمان أن المؤمن يكون أذل من الشاة, ورد في آخر الزمان أن المؤمن يمر على القبر ويتمرغ فوقه ويقول: يا ليتني مكانه مما يرى.
فالتمسك بدين الله يا عباد الله, والقبض على دينكم أيها المسلمون, لا يغرنكم أهل الأهواء, لا يغوينكم شياطين الجن والإنس, الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.(34/3)
الكذب والغيبة
فالحذر يا عباد الله من فلتات اللسان, ومنها الكذب والغيبة, الغيبة التي صارت فاكهتنا في مجالسنا, نمزق أعراض الآخرين وأولئك يمزقون الأعراض, في المكاتب والمجالس والأسواق, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الغيبة التي وصفها الله بأبشع وصف كالذي يأكل لحم أخيه ميتاً, ثم النميمة وهي السعي بين الناس بطريق الإفساد, ويكفي بالنمام أنه لا يدخل الجنة, وفي الحديث: {لا يدخل الجنة نمام}.
احذروا من فلتات اللسان؛ ومن الفحش والسب واللعن الذي هرم عليه الآن الكبير, وشب عليه الصغير, حتى إن بعض الأطفال إذا اجتهد في اللعنة قال: (يلعن أبوك يلعن أمك يعلن جدك!) والأب يتبسم ويضحك -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والأب يفرح لأنه نطق بهذه الكلمة الخبيثة, بل يقول له: أعد يا بني ويستبشر بهذه الكلمة الخبيثة.
كذلك القذف -يا عباد الله- كثيراً ما نسمعه كل هذا من حصائد اللسان: {وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم} صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, مع الأسف الشديد على آداب الدين وأخلاقه القويمة, لقد شاع في كثير من الناس أخلاق سيئة من حصائد اللسان, فكثير من الناس لا يبالون بالكذب, ولا يهتمون به, ولم يحذروا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الكذب يهدي إلى الفجور, وإن الفجور يهدي إلى النار, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
وبعضهم يصف كذبته بأنها كذبة بيضاء أو كذبة صغيرة, والرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع امرأة تنادي طفلاً تقول: هاك فقال: {هل أردتي أن تعطيه شيئاً, قالت: نعم تمرة بيدي, قال: لو لم تصدقي لكتبت عليك كذبة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(34/4)
الشائعات
وكثير من الناس يشيعون أشياء بين الناس بمجرد الظنون بغير مبالاة, وربما كانت تلك الشائعات تسيء إلى أحد من المسلمين, وتشوه سمعته وليس لها حقيقة؛ فيبوء بإثم الكذب والعدوان على أخيه المسلم, ويخشى أن يكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل يتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار} حللوها يا عباد الله! وما أكثر تلك الكلمات التي يصدرها البعض من الناس, وفي صحيح البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه ملكان فمرّا على رجل مستلق على قفاه, وآخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأتي إحدى شقي وجهه ويشرشر شدقه, ومنخره وعينيه إلى قفاه, ثم يفعل بالشق الآخر كذلك فما يفرغ منه حتى يعود الجانب الأول صحيحاً, فيرجع إليه ويشرشره كما فعل في المرة الأولى, فقال الملكان للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق, فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة.
فليحذر الذين ينقلون للناس ما يفكرون به من أوهام لا حقيقة لها, بل ربما يكون في كلامهم إلقاء للعداوة والبغضاء بين المسلمين, وإذا حصل ذلك حصل التفكك للمجتمع, والتفرق للجماعة من أجل أمور وهمية وظنون كاذبة.
أيها المسلمون: عليكم بالتثبت في الأخبار, والتحري في نقلها, حتى لا تنقلوا إثماً ولا كذباً, فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب} وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما يتبين فيها) أي: لا يتثبت ولا يعلم هل هي خير أو شر, ويقول صلى الله عليه وسلم: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع}.
أمة الإسلام: احفظوا ألسنتكم, لا تطلقوا لها العنان فتهلككم وتوردكم الموارد الوخيمة, وإذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا كلام الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وتذكروا كلام الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت}.
ثم اعلموا أنكم محاسبون على كل كلمة تخرج من أفواهكم, فما جوابكم يوم القيامة إذا سؤلتم؟ قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
فاتقوا الله يا عباد الله ونزهوا الألسنة عن كل ما يغضب الله جل وعلا, واشغلوها بذكر الله عز وجل, اشغلوها بقراءة القرآن, اشغلوها بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسيرة صحابته الكرام, اشغلوا ألسنتكم بالنصح لإخوانكم المسلمين, وبالقول السديد امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
اللهم وفقنا لصالح الأعمال والأخلاق وأحسنها, واصرف عنا سيئ الأعمال والأخلاق وأبغضها إليك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(34/5)
وجوب حفظ اللسان
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاًَ فيه كما يحب ربنا ويرضاه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أدى الرسالة وبلغ البلاغ المبين، ونصح لأمته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل واحفظوا اللسان من عثراته وزلاته, ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي: تذل وتخضع له- وتقول: اتق الله فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا} تلكم الجوارح لها خصومة مع اللسان؛ فاحفظوه يا عباد الله فإنه يوقع في المهالك, ولقد حذره من هو خير منكم, فهذا عمر رضي الله عنه يدخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوماً وهو يجذب لسانه بيده فقال له عمر رضي الله عنه: [[مه! يغفر الله لك, فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد]] فأين أنتم من أبي بكر يا معشر المسلمين؟ أين أنتم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين أنتم من رجل لو وزن إيمانه بإيمان هذه الأمة لرجح إيمانه بإيمان هذه الأمة, أين أنتم من رجل يخير من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء, ثم هو يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.
فاتقوا الله يا عباد الله! واستخدموا اللسان فيما يعود عليكم نفعه في الدنيا والآخرة, كذكر الله عز وجل, وقراءة القرآن, والصلاة على رسول الله, وبذل النصيحة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغير ذلك من أبواب الخير, وألزموه الصمت امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت}.
وصلوا على الناصح الأمين امتثالاً لأمر رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد, وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي , وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, اللهم دمّر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين, اللهم اشدد وطأتك عليهم, وارفع عنهم يدك وعافيتك, اللهم مزقهم كل ممزق يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال والإكرام, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين, اللهم قيض لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه, وتحذرهم من الشر وتبعدهم عنه, إنك على كل شيء قدير.
اللهم ولِّ على المسلمين الأخيار في مشارق الأرض ومغاربها, اللهم لا تول عليهم الأشرار الذين يسومونهم سوء العذاب, لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أقر أعيينا بصلاح أولادنا ونسائنا, اللهم اجعلنا وإياهم هداة مهتدين, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد؛ أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين, إلهنا من لنا سواك نلتجئ إليه, من لنا غيرك نستغيث به, من رب غيرك نطرق أبوابه, لا إله إلا الله عدد ما مشى فوق الأراضين ودرج, وسبحان الذي بيده مفاتيح الفرج, يا فرجنا إذا غلقت الأبواب, ويا رجائنا إذا انقطعت الأسباب, لا إله إلا أنت سبحانك ولا رب لنا سواك.
اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب, تبنا إليك، رجعنا إليك, اللهم اقبل معذرتنا, اللهم اقبل توبتنا, اللهم محص ذنوبنا, اللهم سل سخائم صدورنا، اللهم اجعلنا هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلوا على رسول الله وسلموا تسليماً كثيراً.(34/6)
الصلاة
الصلاة عماد الدين وركن ركين، يجب الحفاظ عليها وعدم التهاون بها أو تأخيرها، ولم يعد الصحابة ترك شيء من العمل كفراً إلا الصلاة، وقد جعلها صلى الله عليه وسلم فاصلاً بين الكفر والإيمان.(35/1)
الحفاظ على الصلاة
الحمد لله الذي أحكم ما شرعه وأتقن ما صنعه، حد لعباده الحدود وشرع لهم الشرائع، وبين لهم كل ما يحتاجون إليه في أمر الدين والدنيا، فسبحانه من رب رحيم وإله حكيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(35/2)
أوقات الصلاة
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها؛ فرض عليكم الفرائض لتصلوا بها إلى أحسن الغايات وأسماها، وأعلى الدرجات في روضات الجنات، ولتنجوا بها من عذاب النار ومن الهلكات، فرض عليكم الصلوات الخمس، وأمركم بإقامتها والمحافظة عليها فأدوها كما أمرتم؛ أدوها بشروطها وأركانها وواجباتها وأكملوها بمستحباتها، ولا تتهاونوا بها فتكونوا من الخاسرين.
أيها الناس: إن كثيراً من الناس يتهاونون في صلاتهم، فلا يؤدونها في الوقت المحدد لها، فوقت الظهر: من زوال الشمس؛ وهو ما جاوز وسط السماء، وعلامته ابتداء زيادة الظل بعد انتهاء قصره، فيمتد وقتها من الزوال إلى دخول وقت العصر، وذلك بأن يكون ظل الشيء مساوياً له من ابتداء ظل الزوال.
وينتهي وقت العصر باصفرار الشمس في حال الاختيار، وبغروب الشمس في حال الضرورة.
ثم يدخل وقت المغرب، من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، أي حوالي ساعة ونصف من الغروب.
ثم يدخل وقت العشاء إلى منتصف الليل، ووقت الفجر من طلوع الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الأفق إلى طلوع الشمس، وصلاة الفجر منفصلة عن بقية الصلوات فبينها وبين العشاء من نصف الليل إلى طلوع الفجر، وبينها وبين الظهر من طلوع الشمس إلى زوالها، قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78] وهذه تستوعب أوقات الصلوات الأربع: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم فصل وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر سماها الله قرآناً لطول القراءة فيها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة.
هذه أوقات الصلوات وقْتَّها الله ورسوله، فلا يحل لمسلمٍ أن يقدم من صلاته جزءاً قبل الوقت، ولا يحل له أن يؤخر منها جزءاً بعد الوقت المحدد لها، إلا إذا كان ينوي الجمع، أو لضرورة، وإذا كان ذلك لا يحل ولا يجوز؛ فكيف بمن يؤخرون جميع الصلوات عن وقتها كسلاً وتهاوناً وإيثاراً للدنيا على الآخرة، ويتنعمون بنومهم على فراشهم، ويتمتعون بلهوهم ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا، كأنما خلقوا (للبلوت والكنكان) كأنما خلقوا للميسر والقمار، والليل الطويل يذهب مع ذلك وهم لا يبالون بعقاب الله.(35/3)
التحذير من تأخير الصلاة عن وقتها
أمة الإسلام: كيف يكون حال الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها بغير عذر شرعي، وإنما لإشباع رغباتهم وشهواتهم مع أمور تافهة، وأسبابٍ واهية، كأنهم لا يسمعون القرآن وهو يحذرهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] فيا أيها المتأخر عن الصلاة، أيها المؤخر للصلاة عن وقتها.
ما هو الويل؟ هل هو حديقة؟ هل هو (فلة) واسعة؟ هل هو ملعب واسع؟
لا.
{ويل وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره} لمن هو؟
لمن يؤخر الصلاة عن وقتها، هو يصلي ولكنه أخر الصلاة عن وقتها فجزاؤه ويلٌ في جهنم.
كأنهم لا يسمعون، ولا يقرءون قول الحق جل وعلا في محكم البيان وهو يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] اتبعوا الشهوات، وما أكثر الشهوات في زماننا الممرض المميت!
ما أكثر الشهوات التي نتبعها ونضيع من أجلها الصلوات! نجلس في الملعب حتى يذهب وقت الظهر والعصر والمغرب، ثم العشاء في الخصام؛ من الذي غلب ومن الذي لم يغلب، ثم إلى الفجر ونحن من تشجع ومن لم تشجع خمس صلوات، ثم ليالي الخميس وليالي الجمعة نقضيها في حفلات الزفاف حتى يؤذن الفجر، فإذا طلع الفجر نمنا فكأننا جيف.
الليالي المفضلة نقضيها مع (البلوت والكنكان) وما أدراك من اللعب الكثيرة التي أدخلها علينا أعوان الشيطان وأعداء الإسلام، نقضي معها الليالي الطويلة والأوقات الكثيرة، ثم نقول: إنما نرفه النفس، مسكين.
فهذه النفس أنت مسئول عنها يوم القيامة، مسئول عن أوقاتك التي تضيعها في هذه الملاهي والملاعب الباطلة، مسئولٌ عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
نَفَسُك لا يمضي إلا وأنت محاسب عليه، وأنت تقول ساعة لدينك وساعة لدنياك، خسرت بهذه الكلمة الباطلة التي ألقاها إليك الشيطان، من أين أتتك هذه الفتوى: ساعة لدينك وساعة لدنياك؟
بل محرم عليك الباطل واللهو سواء كنت فارغاً أو لم تكن فارغاً، محرم عليك الباطل التي حرمته الشريعة الإسلامية؛ فما هو الداعي لأن تفتي لنفسك ساعة لدينك وساعة لدنياك، اتق الله يا من استهوت به الشهوات! اتق الله يا من جعلت الشيطان لك إماما! اتق الله يا من عبدت هواك من دون الله!
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وغي: وادٍ في جهنم، ولكن من رحمة أرحم الراحمين استثنى وقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60] حكم عدل لا يظلم شيئاً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] بعد أن تسرف، بعد أن تهلكك الذنوب ثم ترجع إلى الله، يقبلك أرحم الراحمين {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60].(35/4)
التوبة من التهاون بالصلاة
فعلينا يا أمة الإسلام بالتوبة إلى الله، علينا بالتوبة إلى رب العالمين، علينا بالإقلاع من الذنوب والخطايا قبل أن ينزل بنا هادم اللذات، قبل أن ينزل بنا الموت، قبل أن تحل بنا سكرات الموت، فما عندنا إمكان أن نتوب أو نرجع.
أمة الإسلام: لا تكونوا إمعة، لا تكونوا كالأنعام، ألم تبلغكم أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم في وعيد من أضاع الصلاة؟ أولم يبالوا بذلك؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله} أي: كأنما أصيب بفقد أهله وماله.
فسبحان الله كيف يليق بك يا أخي المسلم تأكل الغداء، ثم تنام إلى المغرب؟ أما تخاف من جبار السماوات والأرض؟ أما تخاف من المطلع على السرائر فسبحان الله.
أمة الإسلام: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر وينذر ويقول: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله} وفي الحديث الذي في صحيح البخاري: {من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله} أي: إنما أصيب بفقد أهله وماله، فسبحان الله ما أعظم الأمر وما أكثر الخسارة للذي تفوته صلاة العصر!
تصوروا لو أن شخصاً من بيننا كأن له أموال وأهل وكان مبسوطاً في ماله وبين أهله، ثم أصيب بجارحة أتلفت أمواله وأهلكته، فما تكون حالة الناس بالنسبة له؟
إنهم لابد أن يرحموه، ولا بد أن يواسوه، في هذه المصيبة ويقدموا له أنواع العزاء، ومع ذلك وللأسف الشديد نرى كثيراً من الناس تفوتهم الصلاة إثر الصلاة، الصلاة بعد الصلاة، ولا يحزنون لذلك ولا يبالون لما حدث، فعليكم أيها المسلمون أن ترحموهم بالتخويف لهم من عذاب الله وعقابه قبل أن يعمنا العقاب جميعاً، وعلينا بالمناصحة لله.(35/5)
الخشوع في الصلاة
وكذلك يجب مناصحة الذين يتهاونون بالخشوع بالصلاة؛ والخشوع هو لب الصلاة وروحها وهو: حضور القلب وسكون الأعضاء.(35/6)
حضور القلب في الصلاة
فأما حضور القلب: فكثيرٌ من المصلين من حين دخوله في الصلاة يبدأ يتجول يمينا وشمالاً في التفكير، ومن العجب أنه كان لا يفكر في هذه الأمور قبل أن يدخل في الصلاة، وأعجب من ذلك أنها أمور لا فائدة منها غالبا، فهي لا تهمه في شئون دينه ولا دنياه، ولكن الشيطان عدو بني آدم، يجلبها إليه ليفسد عليه صلاته، ولهذا تجده يخرج من صلاته وما استنار بها قلبه، ولا قرت بها عينه ولا انشرح بها صدره ولا قوي بها إيمانه، بل كأنه في سجن والعياذ بالله؛ لأنها صارت عبارة عن حركات كحركات الآلة، وإن هذا الداء -الهواجيس والتفكير في الصلاة- لداء مستفحل، ومرض منتشر ليس بين عامة الناس، ولكن بين عامة الناس وخواصهم حتى ذوي العلم والعبادة، إلا من شاء الله تعالى ولكن لكل داء دواء ولله الحمد، فإذا أحس الإنسان بذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم وليستحضر أنه بين يدي الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وليتدبر ما يقول في صلاته من الآيات وما يفعل، فلعل الله أن يذهب عنه ما يجد.(35/7)
سكون الجوارح
وأما سكون الجوارح: فكثير من المصلين لا تسكن جوارحه بل تجده يعبث بيديه ورجليه أو عينيه أو رأسه، وأحيانا يحرك يده ينظر إلى ساعته، ويعبث بلحيته يقدم رجله ويردها، يرفع بصره إلى السماء، ورفع البصر إلى السماء في الصلاة ينافي الأدب مع الله، ولذلك كان حراماً رفع البصر إلى السماء حال الصلاة، وحذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيراً بالغاً وقال فيه قولاً سديداً: {ما بال أقوامٌ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم} فاشتد قوله في ذلك حتى قال: {لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم}.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا أن تتعرضوا لعقوبة الله.(35/8)
حكم الحركة لمصلحة الصلاة
أما الحركة التي لمصلحة الصلاة فهذه لا بأس بها بل هي مطلوبة، ولذلك أخر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما حين صلى معه فوقف عن يساره، فأخذ برأسه من وراءه فجعله عن يمينه، فإذا تحرك المصلي لتعديل الصف، أو للقرب من الصف أو للدخول في الصف أو للدخول في الصف المقابل له أو جر أخاً له لسد الخلل بينهما فكل ذلك جائز بل مطلوب؛ لأنه من تكميل الصلاة فانتبهوا لذلك يا عباد الله.
واتقوا الله أيها المسلمون في صلاتكم؛ اتخذوها كما افترضها الله عبادة، ولا تتخذوها عادة، اخشعوا فيها لربكم وأحضروا فيها قلوبكم، وسكنوا فيها الجوارح؛ فإن الله مدح الخاشعين في صلاتهم ووعدهم بالفردوس فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.(35/9)
محاسبة النفس مفضية لمراقبتها
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله عز وجل حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أمة الإسلام: ليحمد الله كل واحد منا على نعمة الإسلام والإيمان، ولنعلم أن الله عز وجل يرانا ويسمع ما نقول ويعلم ما تكنه ضمائرنا، وأن الله منحنا العقل لنحب ما ينفع ونكره ما يضر، ونأخذ الحلال ونترك الحرام، فعلينا أن نحاسب أنفسنا وأن نرجع إلى طاعة المولى جل وعلا الذي خلقنا، ورزقنا وحبانا بالعافية، وأطعمنا وسقانا وكسانا، ومتعنا بالعقول وبالأسماع وبالأبصار وبالعلم والمعرفة، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فلنحمد الله على ذلك بقلوبنا وألسنتنا وأعمالنا، بأداء ما افترض الله علينا، وترك ما حرم الله علينا، وفي مقدمة ما افترض الله علينا توحيد الله جل وعلا، وإخلاصه بالعبادة وحده لا شريك له، ثم بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة في المساجد التي بنيت لإقامة الصلاة وذكر الله فيها؛ فالصلاة يا أمة الإسلام هي عماد الدين، والصلة الوثيقة برب العالمين، وهي شعار المسلم، وهي الفارقة بين الإسلام والكفر، وهي تكفر الذنوب والآثام وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد أوجبها الله على كل مسلم بالغ عاقل، أوجبها الله على كل حال في الصحة والمرض ما دام العقل حاضراً، والإقامة وفي السفر والأمن والخوف على قدر الاستطاعة.(35/10)
تارك الصلاة كافر حلال الدم
اعلموا يا أمة الإسلام أن تارك الصلاة كافر حلال الدم والمال، وأنه لا يزوج بالمسلمة؛ بل إذا تبين أنه تارك للصلاة، فإنها تفسخ منه، ولا يرث ولا يورث ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، الأمر عظيم وخطير يا أمة الإسلام، إلا من تاب وآمن وأقام الصلاة وندم على ما فات من تقصيره فإن الله يتوب على من تاب.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا على الناصح الأمين، صلوا على من أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً امتثالاً لأمر الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك القائل {من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحابك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام، اللهم انصر أئمتنا وولاة أمور المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم وفقنا وإياهم لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، اللهم اقض الدين عنا وعن جميع المسلمين، اللهم نفس كرب المسلمين، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تخذلنا بمعصيتك، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا واللواط والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلدان المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، نستغفرك الله من جميع الذنوب والخطايا ونتوب إليك.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، اللهم إنا نتضرع إليك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا مغيث اللهفان يا مجيب الدعوات، يا محل الكربات، يا محل الشدائد والبليات، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم أحيي بلدك الميت، اللهم انشر رحمتك على العباد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، لا إله لنا إلا أنت، ولا رب لنا سواك، أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تغيثنا، اللهم أغثنا، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(35/11)
الثبات ومواجهة الكيد
المكايد التي تكاد للإسلام عظيمة، تربتها النفس البشرية الضعيفة، وماؤها الثقافة الغربية، والزارع الشيطان وأعوانه؛ فينبغي للمسلم الثبات على دينه، والاستقامة على منهجه والحذر من مضلات الفتن والأهواء.(36/1)
الاعتصام بدين الله
الخطبة الأولى:(36/2)
الفلاح في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس! أيها المؤمنون حقاً! اتقوا الله عز وجل واشكروه على نعمة الإسلام.
أيها المؤمنون! بين أيديكم دينٌ عظيم اختاره الله لكم، ومنَّ به عليكم، وفضلكم به على كثير ممن خلق تفضيلاً، فهو دين الإسلام، دين اشتمل على كل ما اشتملت عليه أديان الأنبياء، بل دينٌ نسخ جميع الأديان {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وينوه رب العزة والجلال فيقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
والذي بعث لتبليغ هذا الدين هو محمد صلى الله عليه وسلم خير رسول عرفته البشرية، فهو أفضل المرسلين وخاتم النبيين، من الله على المؤمنين ببعثته، فهو نور سطع على الدنيا انجلت به ظلمات الجهل والشرك، يقول المولى جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] فبمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاح، فالله جل جلاله علَّق سعادة الدارين بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاوة في الدنيا والآخرة.
وقد أقسم رسول البشرية محمدٌ صلى الله عليه وسلم: بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
عباد الله! هذا ربكم جل وعلا في محكم البيان يوصيكم ويقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
عباد الله! بالتمسك بهذا الدين، دين العزة والكرامة، دين مكارم الأخلاق بجميع أنواعها، دين العزة والرقي والأمن والطمأنينة، دين المحاسن بأنواعها؛ بالتمسك به يحصل الأمن والأمان والسلامة والإسلام، إن دين الإسلام ما وجد من فضيلة إلا حث على التخلق بها، ولا من رذيلة إلا حذر من قبحها وبين سوء عاقبتها، فما بال أكثرنا يسير على غير هدى ويقلد الكفار فيما حرمه الله ورسوله؟(36/3)
نماذج للثبات على الدين
قد أهمل الكثير أمر الدين، واستهانوا بحقوق الله ورسوله، وعبثوا بواجبات دين الإسلام، وتجرئوا على انتهاك حرمات الله، واستبدلوا ذلك بأخلاق الكفار وعاداتهم وتقاليدهم مع الأسف الشديد!
أيها المسلمون! إن المسلم الحقيقي لا يرضى لدينه بديلاً مهما كلفه الأمر، ومهما بذل من قبيل الكفرة من المغريات، أو ناله منهم من الأذى.
نعم.
إن المسلم يبقى أمام كل فتنة صلباً في دينه متمسكاً بعقيدته، ولنا في سلفنا مثالاً، فهذا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه يشتد عليه أذى الكفار حتى أنهم يطرحونه على ظهره في رمضاء مكة الملتهبة بالحرارة، ويضعون الصخرة الثقيلة على صدره يريدون منه أن يترك هذا الدين، فيصمد ويثبت على دينه ويقول: [[أحدٌ أحد]] هذا مثال ضربه لكم بلال رضي الله عنه؛ ضربه للذين إذا قيل لهم أنت موسوس أو أنت مطوع انحرف وابتعد عن دين الله.
وهذا حبيب بن زيد يقول له مسيلمة الكذاب: قل لا إله إلا الله، فيعلنها ويقول: لا إله إلا الله، فيقول له مسيلمة: قل: أشهد أن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، ثم يقطعه مسيلمة عضواً عضواً ويأبى أن يقول: مسيلمة رسول الله حتى لقي ربه صابراً محتسباً، هكذا الابتلاء يا عباد الله.
وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه يأخذه ملك النصارى أسيراً عنده ويقول له: اتبعني وأشركك في ملكي، فيأبى ويقول: لا أبغي بدين محمدٍ صلى الله عليه وسلم بديلاً، ثم يحمي ملك الروم النحاس بالنار ويغلي القدور لتعذيبه، وعند ذلك يبكي عبد الله بن حذافة، فيطمع ملك الروم برجوعه عن الإسلام ويقول: تتبعني وتترك دينك، فيرد عليه عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بقوله: ما بكيت خوفاً على نفسي، ولكن وددت أن يكون لي نفوساً عدد شعري تعذب في سبيل الله فتدخل الجنة بغير حساب.
الله أكبر الله أكبر!
وهذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية وأهل بيته عذبوا في الله ليتركوا دين الإسلام فصبروا على العذاب وتمسكوا بالإسلام، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهم وهم يعذبون ويقول: {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة}.
وهذا خباب بن الأرت عُذب في الله وصبر على دينه، وكان من تعذيب المشركين له أن أوقدوا له ناراً وسحبوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره لما ذاب، كل ذلك وهو صابر على دينه لا يتزحزح عنه قيد شعرة، وكانت أم أنمار وهي سيدته أشد حنقاً عليه من قومها فجعلت تجيء إلى خباب يوماً بعد يوم فتأخذ حديدة محمية من كيره الذي يلين فيه الحديد لصناعة السيوف، فتأخذ تلك الحديدة وتضعها على رأسه حتى يدخن رأسه، ويغمى عليه وهو يدعو عليها، واستجاب الله دعائه فقد أصيبت بصداع لم يسمع بمثل آلامه قط، فكانت تعوي من شدة الوجع كما تعوي الكلاب، وقام أبناؤها يستطبون لها في كل مكان فقيل لهم: إنه لا شفاء لها من أوجاعها إلا إذا دأبت إلى كي رأسها بالنار فجعلت تكوي رأسها بالحديد المحمى فتلقى من أوجاع الكي ما ينسيها آلام الصداع، وهكذا جزاء الظالمين يا عباد الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] ألا فليحذر الذين يحدثون في دين الله ما ليس فيه أن يدعو عليهم الصالحون فتستجاب دعوتهم.(36/4)
حنظلة يضحي بحياته في أيام عرسه
أيها المسلمون! هذه نماذج من ثبات المسلمين على دينهم مع شدة الأذى والتعذيب، أضف إلى ذلك ما قدموه في سبيل حماية هذا الدين ونشره، من جهاد بالأنفس والأموال؛ يتساقط منهم مئات الشهداء في المعارك وهم مغتبطون بذلك فخورون، بل تركوا من أجله الديار والأموال، وهاجروا فراراً بدينهم أن يخدش أو يدنس يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وما ذلكم إلا لما عرفوا في هذا الدين من الخير والسعادة، وتأصل حبه في قلوبهم حتى صار أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وديارهم، وإليك أنموذجاً شيقاً ظهر من شابٍ من شباب الإسلام الذين جاهدوا في الله حق جهاده، إنه حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه؛ حيث تزوج بامرأة جميلة، ودخل بها تلك الليلة وجامعها ولم يغتسل من جنابته وإذا بمنادي الجهاد يقول: حي على الجهاد حي على الجهاد، فخرج تاركاً زوجته الجميلة وفراشه الدافئ والتحق بصفوف المسلمين وقتل شهيداً، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عجباً وهو يسأل عن أهل حنظلة، ودل على زوجته، فتعجب الصحابة: لماذا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما سأل زوجته: ما شأن حنظلة، قالت: إنه جامعني وخرج قبل أن يغتسل من الجنابة لما سمع منادي الجهاد، قال: لقد رأيت الملائكة تغسله بماء السلسبيل في صحائف من ذهب وفضة بين السماء والأرض.(36/5)
حال بعض المسلمين اليوم
هكذا المسلمون الذين يغارون على دينهم، أما مسلمو هذا الزمان فهم يسمعون الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم فلا يجيبون داعي الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحنظلة رضي الله عنه يخرج من زوجته الجميلة ومن فراشه، وقبل أن يغتسل من الجنابة يلتحم في صفوف المسلمين ويخر صريعاً في سبيل الله إجابةً لنداء الله، والمسلمون الآن أكثرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله تشكو إلى الله صلاة الفجر من أفعالهم، لا يعرفون الصلاة إلا في رمضان، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
ألا يخافون من عقاب الله ألا يخشون أن يكونوا من المنافقين الذين موعدهم في الدرك الأسفل من النار، نعم.
أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً، فليحذر الذين يتخلفون عن صلاة الفجر أن يكونوا من المنافقين الذي موعدهم الدرك الأسفل من النار، فالظهر والعصر والمغرب والعشاء كلها فرائض لله ألحق بها الفجر يا عبد الله، اتق الله قبل أن يأتيك هاذم اللذات وأنت لا تعرف صلاة الفجر.
اتق الله يا عبد الله، خف الله، راقب الله؛ منادي الله ينادي: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، وقد أثقلك عن صلاة الفجر سهرك مع الملاهي والمعاصي لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
عبد الله! رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: {من صلى البردين دخل الجنة} أتدري ما البردان؟ إنهما الفجر والعصر فحافظ عليهما إن أردت أن تكون من أهل الجنة.
وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه، وجنبنا جميعاً ما يغضبه ويأباه إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(36/6)
مواجهة الغزو الفكري وغيره
الخطبة الثانية:-(36/7)
التحذير من المعاصي
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] وعد الصالحين بجنته ومستقر رحمته، وتوعد العصاة بدار نقمته وزوال نعمته، وهي جهنم التي وقودها الناس والحجارة، رب العالمين، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فهو إله الأولين والآخرين، أحمده سبحانه وأسأله أن ينظمنا في سلك عباده الصالحين، وأن يجعلنا من حزبه المفلحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وتأسوا بسلفكم الصالح، فقد كان المسلمون إذا سمعوا الآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية استجابوا لداعي الله وأقلعوا عن الخطيئة، ولم يصروا على ما فعلوا من المخالفات الشرعية، أما نحن فكم نسمع من الآيات والأحاديث، ولكن ران على القلوب الران، واستحوذت على القلوب الغفلة، واستحسنت القلوب الفسوق والعصيان، فأقبلت على الفساد وأعرضت عن تعاليم الملك الديان إلا القليل.
أيها المسلمون! إذا نظرنا بدقة إلى ما نحن عليه الآن من فساد الأخلاق ومجاهرة الفساق بأوصاف النفاق، رأينا بوناً شاسعاً بين المسلمين وتعاليم الكتاب المبين، وبين سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
أجل يا عباد الله! لقد استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً محمراً وجهه يقول: {لا إله إلا الله لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح الليلة من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث}.(36/8)
الدعوة إلى مجتمع صالح
أجل يا عباد الله! إن المجتمع الذي يهتدي بنور الدين، ويعمل بشعائر الإسلام، ويتحلى بالأخلاق القويمة هو المجتمع الرفيع الراشد السعيد، هو المجتمع الذي كتب الله له العزة، ووعده بالخلافة في الأرض لصلاحه كما هي سنة الله في الذين خلوا من قبل؛ فإن الصالحين يعم الله بصلاحهم ويقطع بهم دابر الفساد؛ لما يقومون به من الدعوة إلى الله وإظهار دينه، وعلى العكس يا عباد الله! على العكس من هذا المجتمع السعيد مجتمع الفشل، المجتمع الذي يتمادى فيه الأقزام المفسدون بطغيانهم وإفسادهم، المجتمع التي تنتكس فيه الأوضاع، فيصبح فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً، حتى أنهم في بعض المجتمعات المنهارة، المجتمعات المنحطة يسمون المتدين المتمسك بدينه رجعياً متطرفاً، لذلك تجد ضعفاء الدين الذين لم يذوقوا طعم الإيمان إذا سمعوا هذه الألفاظ ذهبوا وعمدوا إلى لحاهم وحلقوا اللحى، وأطالوا الثياب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذا سمعوا هذا الألفاظ عمدوا إلى الإستريوهات واشتروا الأغاني ليقلدوا أولئك الفسقة الذين خرجوا عن دين الله بفسقهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنهم يسمون المتحلل من الدين والمتحلل من الخلق القويم يسمونه منطلقاً وحراً، ألا بئست الانطلاقة وبئست الحرية، يشربون الخمور وهي أم الخبائث التي جنت الفضائح، وخربت الدور العامرة وأفسدت البلاد، يسمونها المشروبات الروحية، ألا بئس ما يصنعون.
وبأساليبهم الخبيثة؛ بمجلاتهم وجرائدهم ينادون المرأة المتحشمة المتمسكة بدينها، ويسمونها المعقدة والمقيدة بالأغلال، ويريدونها أن تخطو الخطوات الشيطانية، يريدونها أن تخرج في ميدان العمل لتزاحم الرجال في مجتمعاتهم، لتخرج على شاشة التلفاز، لتخرج في المسرح لتمثل، إنها دعوةٌ إلى الدعارة، دعوةٌ إلى السفور، دعوةٌ إلى الشر المستطير والجاهلية، ألا تنكرون ذلك أيها المؤمنون، ألا تغارون على محارمكم، ألا تهتكون هذه المجلات، ألا تحاربونها بكل ما أتاكم الله من علم وبصيرة، فإنها تنشر الشر والفساد، وتنشر الدعارة وسوء الأخلاق بين العباد، إنهم يريدون أن تخرج المرأة سافرة متعطرة عليها اللباس القصير تقود السيارة وتزاحم الرجال في مجتمعاتهم، وهل عرف هذا في مجتمع الإسلام سابقاً يا عباد الله، قولوا: (لا) في قلوبكم وأنا أعلنها على هذا المنبر: لا ثم لا ثم لا، بل عاشت المرأة المسلمة متحشمة عفيفة صانها رجال الأمن والإسلام في أول الإسلام.(36/9)
إصلاح المرأة
وهذا رسول الله يضرب لكم مثلاً في فاطمة رضي الله عنها ويقول: {يا فاطمة! ما خير مال المرأة؟ قالت: ألا ترى الرجال ولا يرونها، فضمها إلا صدره وقال: ذريةٌ بعضها من بعض} هكذا يا عباد الله كان السلف الصالح، نشأوا على هذه الأخلاق الطيبة، ولكن أعداء الإسلام وأعداء المسلمين يريدون أن يخرجوا هذه المرأة المتحشمة، حسدوها على هذه النعمة، حسدوها على هذه العفة، حسدوها على هذه الحشمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين، وأخلاق الإسلام وأخلاق المسلمين، وعقيدة الإسلام وعقيدة المسلمين، من أرادها بسوءٍ وشرٍ وهدمٍ فاجعل كيده في نحره ودمره تدميراً يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله! صلوا على رسول الله الذي أتاكم من الله ليخرجكم من الظلمات إلى النور، لقد أمركم الله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أيقظنا من رقدتنا، اللهم اشفِ مرض قلوبنا، اللهم اشفِ مرض قلوبنا التي استحسنت الجرائد والمجلات، واستحسنت الأفلام والتمثيليات، اللهم أخرج هذه الأمراض من قلوبنا، اللهم أخرج هذه الأمراض من قلوبنا، واستبدلها في قلوبنا القرآن والسنة يا رب العالمين.
عباد الله! والله إنه لا صلاح لكم ولا سعادة، إلا إن رجعتم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكتم بهما وطبقتموهما بحذافيرهما، فإنكم سترون السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما إذا استمررنا على هذا الانحطاط كل يوم مجلة، أو خمس مجلات تدخل البيوت، والأفلام من جهة والتمثيليات من جهة، فإنكم ستفقدون هذه الغيرة وسيخسف بالقلوب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم انصرنا بالإسلام، اللهم أعزنا بالإسلام، اللهم أكرمنا بالإسلام، اللهم ارفعنا بالإسلام، واجعلنا هداة مهتدين دعاة إلى الخير مطبقين له، ناهين عن الشر ومبتعدين عنه يا رب العالمين، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم أرنا وإياهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم ارزقهم الجلساء الصالحين الناصحين، اللهم أبعد عنهم جلساء السوء، اللهم أبعد عنهم جلساء السوء الذين لا يحذرونهم من الشر بل يدعونهم إليه، اللهم قرب منهم جلساء الخير، اللهم قرب منهم العلماء الورعين العاملين الذين يعينونهم إذا ذكروا ويذكرونهم إذا نسوا يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونسائنا واجعلهم قرة أعين لنا، واحمنا وإياهم من مضلات الفتن يا رب العالمين، اللهم أجرنا من مضلات الفتن.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم نسألك أن تجمعنا ووالدينا ووالد والدينا، وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في جنات الفردوس الأعلى، اللهم اجمعنا في جنات الفردوس الأعلى، اللهم اجمعنا في جنات الفردوس الأعلى، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، يا أرحم الرحمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:90 - 91] واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(36/10)
لا تكونوا كالذين نسوا الله فنسيهم
من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم مواسم للخيرات ليحثهم على المسارعة في الطاعات كشهر رمضان الكريم؛ فإن فيه تُضاعف الحسنات، وبعد انقضاء هذا الموسم العظيم يعود كثير ممن أقبلوا على الطاعات إلى التفريط فيها وارتكاب المنكرات كترك الصلوات والتهاون في تأديتها، فيقال لهؤلاء وأمثالهم: إن عبادة الله ليس لها وقت معين تنتهي إليه دون الموت؛ فهناك أعمال صالحة بعد رمضان كصيام الست من شوال ونحوها.(37/1)
العبادة حق الله لا تنتهي إلا بموت العبد
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل، ولازموا طاعة مولاكم في السر والعلانية.
أمة الإسلام: يا أمة التوحيد! يا أمة القرآن! هاأنتم تودِّعون شهر رمضان المبارك الذي كان ميدان تنافسٍ للصالحين بأعمالهم، ومجال تسابق للمحسنين بإحسانهم، وعامل تهذيب النفوس المؤمنة، روضها على الفضيلة، وارتفع بها عن الرذيلة، وأخذت فيه دروساً للسمو الروحي، والتكامل النفسي، فجانبت كل قبيح، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد، فيجب على تلك النفوس المؤمنة أن تستمر على نهج الهدى والرشاد، والاستقامة على طاعة المولى جلَّ وعلا كما كانت في رمضان، فإن في دوامها على ذلك الهدى والرشاد والاستقامة نعيم الصالحين، وإرضاء رب العالمين.
أمة الإسلام: ليس للطاعة زمنٌ محدودٌ تنتهي بانتهائه، ولا للعبادة أجلٌ معينٌ، بل العبادة هي حق الله على العباد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58] نعم يا عباد الله! الله جلَّ وعلا لم يخلقنا ليستكثر بنا من قلة، ولا ليستقوي بنا من ضعف، بل خلقنا لطاعته، خلقنا لابتلاءٍ وامتحان، خلقنا للعبادة.
والعبادة: هي حقٌ لله يقوم بها العباد في جميع الأوقات، ويشغلون بها فرص الحياة، ويقطعون بها سويعات العمر، فالعبد الذي يقطع مرحلة الحياة في طاعة الله، وفي مرضاة الله، هو من أوليائه المتقين الذين وعدهم الله بعظيم الأجر، وسابغ الفضل، حيث يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:41 - 44] هكذا يجزيهم المولى جلَّ وعلا، هكذا يجزيهم رب العالمين أحكم الحاكمين وأعدل العادلين؛ لأنهم عاملوه معاملة العارفين الذين عرفوه حق المعرفة، فقدروه حق قدره، وقاموا بحقه حق القيام، فجازاهم بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جازاهم في دار الكرامة، في دار النعيم، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، فهنيئاً لهم تلك الكرامة في جوار إله الأولين والآخرين.
فيا أرباب الهمم العالية: ويا مَنْ قد تفضل عليهم المولى جلَّ وعلا بإتمام صوم رمضان! وأسبغ عليهم العفو والغفران، وكتب لهم العتق من النيران، يا مَنْ تفضل عليهم المولى جلَّ وعلا بإتمام الصيام والقيام، وأسبغ عليهم العفو والغفران وكتب لهم العتق من النيران! واصلوا الإحسان بالإحسان، واصلوا الإحسان بالإحسان، واصلوا الإحسان بالإحسان، واتقوا ربكم، فإن من تقواه المداومة على عمل البر والإحسان، واعزموا عقد النية على التزام المسلك الراشد الذي التزمتموه في رمضان، فإنه من المؤسف جداً يا عباد الله انهزام تلك الصفوف، إنه من المحزن جداً أن البيوت مليئة بالناس، ولا يرون في المساجد إلا في رمضان، ثم بعد رمضان ينتكسون ويعودون من طاعة المولى جل وعلا إلى طاعة الشيطان، فإنهم في ذلك الفعل الوخيم قد عصوا جبار السماوات والأرض، قولوا لهم يا عباد الله! قولوا لهم يا من تجاورونهم! قولوا لهم يا من تجتمعون بهم! بلغوهم إن كانوا يقبلون المواعظ قبل أن ينزل بهم هادم اللذات، بلغوهم، قولوا لهم: إن كنتم تؤدون الصلاة في رمضان طاعةً لله، فداوموا على طاعة الله، أما إن تركتم الصلاة، ولم تؤدوها بالكلية، فقد كفرتم بالله العظيم.(37/2)
الصلاة وحكم تركها
تارك الصلاة -يا عباد الله- كافرٌ ملعونٌ لا يُصلى على جنازته إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، تارك الصلاة لا ينكح من المرأة المسلمة، تارك الصلاة لا يُآكل ولا يُشارب، بل يهجر ولا يجالس، قولوا لهم -يا عباد الله- إن كانوا يقبلون القول قبل أن ينزل بهم هادم اللذات، وقولوا للذين لم يتركوا الصلاة بالكلية إنما يصلون في بيوتهم مع النساء، قولوا لهم: يا من رضيتم بالصلاة في البيوت مع النساء! قد ارتكبتم كبيرةً من كبائر الذنوب، وقد توعدكم الله بويلٍ في جهنم {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] قيل: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها لبعدهم عن جماعة المسلمين.
نعم يا عباد الله: من تهاون بالصلاة، توعده الله بـ (غي) وهو وادٍ في جهنم، من تهاون في الصلاة فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، من صلى في بيته فقد ترك سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ترك سنة محمد فقد ضل، نسأل الله العفو والعافية.
وقال بعض العلماء: [[سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار، ولا يشهد الجمعة، ولا الجماعة، فقال: هو في النار]].
هذا حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل، لما سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، قال: هو في النار ثم عاد إليه السائل بعد شهر، فسأله، فقال: هو في النار.
وفي الحديث الذي يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويروى موقوفاً على علي رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه: {لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد} وجار المسجد هو الذي يسمع النداء، ولقد همَّ النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق البيوت على الناس الذين لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، وفي رواية، قال: {لولا ما فيها من النساء والذرية، لأحرقتها عليهم بالنار}؛ لأن النساء ليس عليهنّ صلاة جماعة، وكذلك الذرية -الصغار- الذين لم يميزوا لا يجب عليهم حضور الجماعة، وهذا الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحراق أولئك الذين لا يشهدون الصلاة مع الجماعة بالنار.
فلنتق الله عباد الله، ولنواصل أعمال الخير التي كنا نعملها في رمضان، حتى يتوفانا الله جلَّ وعلا وهو راضٍ عنا، قال الحسن البصري رحمه الله: [[إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ قول الحق جلَّ وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]]].
وقيل لبعض العارفين -وهذه مسألة متقدمة-: إن قوماً يتعبدون ويتهجدون في رمضان، ثم إذا خرج رمضان ودعوا المساجد، وودعوا أعمال الخير، فقال: بئس القوم لا يعرفون الله حقاً إلا في رمضان.
هذه كل عاقل يقولها -يا إخوان- بئس القوم لا يعرفون الله حقاً إلا في رمضان، فإن رب رمضان رب العام كله جلَّ وعلا، فما الذي جعلك أيها الجاهل الذي لم تعرف حقوق الله عز وجل تعبد الله في رمضان، وإذا خرج رمضان انتهيت من العبادة؟ نسأل الله العفو والعافية.
إن هؤلاء ربما يكونوا عبدوا رمضان، ولم يعبدوا الله جلَّ وعلا، لأن الله قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ما قال اعبد ربك في رمضان، وإذا خرج رمضان فاطو السجادة وارفع المصحف، حتى يبني عليه الغبار إلى رمضان الثاني، ثم لا يعلم هل سيدرك رمضان الثاني أم لا؟ لا والله.
كلنا لا يدري، وكلنا لا يدري هل يصلي العصر أم لا.
وكلنا لا يدري هل نصلي هذه الفريضة أم لا.(37/3)
التدارك والتوبة قبل الفوات
عباد الله: إن ملك الموت موكلٌ بنا لا يغفل عنا ساعة، فمتى تم الأجل وانقضت المدة المعينة، هجم علينا هادم اللذات واستل الروح، وأخرجها من العصب والقصب، وظل الجسم منطرحاً يتمنى أن لو ازداد من طاعة الله، ولكن هيهات هيهات.
فاتقوا الله عباد الله قبل أن ينزل بكم هادم اللذات، قبل أن يشخص البصر، وقبل أن تلتف الساق بالساق، وقبل أن توضعوا في تلك الحفر، ثم تخلوا بأعمالكم إن كانت صالحة أو سيئة، فالفرق بين ذلك عظيم.
ثم بعد ذلك يأتي يومٌ تتشقق فيه السماء بالغمام، وتشخص فيه الأبصار لله الحي القيوم، وتشيب فيه الصغار، وتزفر فيه جهنم إذا جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك تحيط الأوزار، في ذلك اليوم العظيم ينصب الصراط، ويقرب العذاب، تشيب الصغار، ويشهد الكتاب، ويحضر الحساب، ويعظم العقاب، فيا له من يومٍ ما أطوله! ويا له من يومٍ ما أهوله! فكم من شيخٍ كبير فرط وأضاع عمره في غير طاعة الله، يصيح بأعلى صوته: واشيبتاه، واشيبتاه، واشيبتاه!
وكم من كهلٍ أو شاب اغتر في شبابه، فضيع أوامر الله ورسوله وارتكب المحرمات وترك الصلاة وبارز المولى بالمعاصي، حالقٌ للحيته، مسبلٌ لثيابه، متشبهٌ بأعداء الإسلام وأعداء المسلمين، حياته مع الديسكو، حياته مع الموسيقى، حياته مع الغناء، قضى حياته دائماً مع المخدارت والمسكرات، يؤذي المسلمين في مرافقهم العامة حتى إذا جاءه الأجل وهو على هذه الحالة، فهو ينادي: واشباباه! {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21].
عباد الله: أعدوا العدة لذلك اليوم، وخذوا الأهبة وتزودوا لذلك اليوم، فإن خير الزاد ليوم القيامة تقوى الله عز وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا ودعاءنا وتضرعنا بين يديك، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا ممن فازوا بجائزتك يا رب العالمين! اللهم لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عطائك مفلسين، اللهم اجعلنا ممن يواصل العمل في حياته حتى ترضى عنه بعد وفاته يا رب العالمين! واجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها خالصةً لوجهك الكريم، وتقبلها منا يا رب العالمين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، وصلوا على رسول الله.(37/4)
الأعمال المرغب فيها، والمرهب منها
الحمد لله الذي كتب على هذه الخليقة فناءً وزوالاً، وجعل لكل شيءٍ منها إدباراً وإقبالاً، ليدلنا بذلك على أن لكل نازلٍ رحيلاً وانتقالاً، أهل علينا شهر رمضان ليفيض فيه علينا من الرحمة والإحسان والغفران، ففاز من أطاع الله فيه، وخاب وخسر فيه من أساء الأعمال وعصى الرحمن، فسبحان من قسم عطاءه بين خلقه، فهذا مقبولٌ وهذا مردودٌ، أحمده وأشكره إذ أعاننا على الصيام والقيام كرماً منه وتفضلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله عز وجل القائل وقوله الحق: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فلئن انقضى صيام رمضان، فإن العام -يا عباد الله! يا أمة الإسلام- كل العام عبادة.(37/5)
صيام ستة أيام من شوال
في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {من صام رمضان ثم أتبعه بستٍ من شوال، كان كصيام الدهر} هذا حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، ورواه غيره من رواة الحديث.
عباد الله: إن الناس قد يتحدثون كثيراً عن صيام ستٍ من شوال، فمنهم من يفتي بغير علمٍ -نسأل الله العفو والعافية- والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار} فما بال من يفتي بغير علم؟ منهم من يقول: من صام بعد العيد مباشرةً، فإنه لا يجوز له الصيام، من أين أتوا بهذه الفتوى؟ من أين أتوا بها يا عباد الله؟ من مجالس السمر، من مجالس قضاء الأحاديث المخزية المردية التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، أما لو كانت مجالس ذكر وحلق علمٍ لاستفادوا من ذلك، وعلموا أن الصيام بعد العيد مباشرةً -يعني: في اليوم الثاني- من الرغبة في الخير، ومن حب الخير؛ لأن هذا من المبادرة إلى الخير، وكذلك إذا بادر الإنسان في صيام هذه الستة الأيام، فإنها تخف عليه؛ لأنه لا زال في ميدان رمضان وعرف الصيام واعتاد على الصيام، فإنها عند ذلك لا تثقل عليه، وهو كذلك من المبادرة إلى طاعة الله جلًّ وعلا.
الفتوى الثانية: يقولون: إنه من صام ستاً من شوال فإنها تلزمه طول العمر، وهذا كذلك افتراء وكذب، فإن صيام ستٍ من شوال سنة إذا صمتها أثابك الله، وإن تركتها لم يعاقبك الله، فإن تيسر لك فصمها، وإن لم يتيسر فلا تصمْها ولا شيء عليك.
الثالثة: يقولون: لا يجوز تفريدها، إنما تجوز سرداًَ وإلا لا تصام، سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ستٍ من شوال} ولم يقل متتالية، قال العلماء رحمهم الله: يجوز أن يصومها متفرقة، وكذلك يجوز صيامها في أول الشهر، أو في وسط الشهر، أو في آخر الشهر، ويجوز صيامها مجتمعة أو متفرقة، ويجوز أن يصومها سنة أو يتركها سنة، فلا شيء عليه، فهذه سنة يا عباد الله! فهذا فضلٌ عظيم كصيام الدهر، لأن صيام رمضان بعشرة أشهر والأيام الستة بشهرين، فتكون كصيام الدهر يا عباد الله! فبادروا إلى هذا الفضل العظيم، واغتنموا أوقات العمر، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.(37/6)
صيام ثلاثة أيام من كل شهر
وكذلك سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال صلى الله عليه وسلم: {صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله} رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم رحمهما الله، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وأوصى أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا تتقيد بالثالث عشر، ولا الرابع عشر، ولا الخامس عشر، بل صيام ثلاثة أيام إن صمتها من أول الشهر، أو وسط الشهر، أو آخر الشهر فجائز كما قالت عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبالي من أي الشهر صام} أي: الثلاثة أيام، فإن تيسر لك صيام ثلاثة أيام من أول الشهر، أو من وسط الشهر، أو من آخر الشهر، فكل ذلك جائز، وأنت مأجور إن شاء الله، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة} رواه الإمام أحمد والنسائي، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم} وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام الإثنين والخميس، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام في كل عام.(37/7)
صلاة الليل
وقد شرع قيام الليل في غير رمضان، فإن قيام الليل سنة ثابتة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حث عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: {أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} وذلك أن الرب جلَّ وعلا ينزل كل ليلة -وليس في رمضان خاصة- إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بعظمته وجلاله، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: {من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له}.(37/8)
رواتب النوافل
كذلك يُسَنُّ للمسلم أن يحافظ على رواتب النوافل حتى يحظى بالأجر من الله جلَّ وعلا، يقول صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة} وهو حديث صحيح في صحيح مسلم، قال العلماء: أن الاثنتي عشرة وردت في حديث آخر هي: أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الصبح، فاجتهدوا -إخواني- في فعل الطاعات، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: {ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها} النافلة خيرٌ من الدنيا وما فيها، فكيف بالفريضة يا عباد الله إذا تقبلها الله منكم.
يا عباد الله: اجتهدوا في طاعة المولى جلَّ وعلا، فإنها خير عدةٍ تعتدونها للقائه، واحذروا من معصيته وغضبه، فإنه ينتقم ممن عصاه وتعدى حدوده بأليم عقابه، يقول عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13 - 14] فاتقوا الله -عباد الله- وبادروا إلى طاعته.(37/9)
تحريم إسبال الإزار
اعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وصلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد الناصح للأمة، المبلغ عن ربه عز وجل حيث قال وهو لا ينطق عن الهوى: {من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة} رواه البخاري ومسلم، انتبهوا يا عباد الله! وبلِّغوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة} رواه البخاري ومسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً} متفق عليه، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} رواه البخاري.
الشريعة الإسلامية واسعة، وليس لأحدٍ أن يروغ أو يزيغ إلا من أراد الله إزاغة قلبه -نسأل الله العفو والعافية- فالبعض من الناس يقول: أنا لا أجر الثوب، ولا أجر الإزار، ولا أجر البشت خيلاء، وإنما زينة، ثم يأتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في صحيح البخاري ويقول له: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} شئت أم أبيت، رضيت أم سخطت، جررته زينة أو خيلاء أو بطراً، إن جررته خيلاء وبطراً فإن الله لا ينظر إليك يوم القيامة، وإن جررته -كما قلت زينة- والله أعلم بنيتك وسريرتك فإن ما أسفل من الكعبين ففي النار، وليست النار تأكل الخرق، ولكنها تأكل اللحم والعظم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد القائل: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم} قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه تلميذ الرسول، الصحابي الجليل الذي تربى في مدرسة رسول الله قال: {خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل} المسبل الذي يقول للخياط: اجعل شبراً على الأرض، والمرأة تقول للخياطة: ارفعي شبراً عن الساق، أخرجي الساقين أخرجي القدمين، نحن في التطور! نحن في الانحطاط، نحن في اتباع الكفار والمشركين، ارفعي الثوب عن الساق، شقي الثوب من هنا ومن هنا حتى يخرج الساق، والله ثم والله أن بعض النساء إذا مررت بها ورفع الهواء عن ثوبها، فإنه يخرج إلى الفخذين، والله ثم والله لقد رأينا الفخذين من بعض النساء نعم، إن أراد الإنسان أن يغض بصره ويرمي به إلى الأرض، نظر الفخذين والساقين، وإن رفع، نظر الوجه والحمرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
نعم يا عباد الله هذا زمن فتن كقطع الليل المظلم، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإسلام، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من هذه الثلاث، ثم يقول أبو ذر: {خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب} وكل هذه موجودة في المسلمين الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
أما بعد:
يا عباد الله: فلا أحب الإطالة عليكم، فسنة رسول الله موجودٌ فيها هذا، ولكن إنما أريد بذلك التحذير والبيان، وأسأل الله عز وجل أن يحيينا وإياكم على الإسلام، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يجعلنا ممن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقتدي به في الدقيق والجليل حتى يتوفاه الله وهو راضٍ عنه.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل، اللهم رد المسلمين إلى دينهم الحق، اللهم ردهم إلى دينهم الصحيح، اللهم ردهم إلى تعاليم دينك يا رب العالمين، اللهم وفقنا جميعاً للاقتداء بسيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك عليهم وارفع عافيتك عنهم، ومزقهم كل ممزقٍ يا رب العالمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأئمة وولاة أمور المسلمين أجمعين، ووفقهم للحكم بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ووفقهم لتطبيقهما على الوجه الذي يرضيك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا، اللهم أقر أعيننا بصلاح أولادنا ونسائنا، واجمعنا ووالدينا ووالد والدينا وإخواننا وأخواتنا وأحباءنا وجميع إخواننا المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين، اللهم اجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى يا رب العالمين! اللهم اجمعنا جميعاً في جنات الفردوس الأعلى يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.(37/10)