وعلى كل، فإن يديه - سبحانه - اثنتان بلا شك، وكل واحدة غير الأخرى، وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمنى، بل كلتا يديه يمين.
والواجب علينا أن نقول: إن ثبتت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نؤمن بها، ولا منافاة بينها وبين قوله: (كلتا يديه يمين) كما سبق، وإن لم تثبت، فلن نقول بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن ابن عباس؛ قال:
(ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في كف الرحمن) هكذا ساقه المؤلف، والذي في ابن جرير(في يد الله )، ففيما ساقه المؤلف لإثبات الكف لله تعالى، إن كان السياق محفوظا وإلا ففيه إثبات اليد. أما الكف فقد ثبت في أحاديث أخرى صحيحة.
قوله: (إلا كخردلة). هي حبة نبات صغيرة جدا، يضرب بها المثل في الصغر والقلة، وهذا يدل على عظمته - سبحانه -، وأنه - سبحانه - لا يحيط به شيء، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأفهام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن جرير: حدثني يونس، اخبرنا ابن وهب: قال: قال ابن زيد: حدثني أبي؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)(2).
قال: وقال أبو ذر - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)(3)
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (24/25)، وعبدالله بن أحمد في السنة (2/476)، حديث (1090)، وفي إسناده ضعف، ويغني حديث ابن مسعود وحديث ابن عمر السابقين.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (3/10)، وأبو a الأصبهاني في العظمة(2/587).
(3) أخرجه أبو a الأصبهاني في العظمة (2/750) وهو ضعيف.(71/15)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قال ابن جرير). هو المفسر المشهور رحمه الله ، وله تفسير أثرى يعتمد فيه على الآثار، لكن آفته أنه لم يمحص هذه الآثار، وأتى بالصحيح والضعيف وما دون الضعيف أيضاً، وكأنه رحمه الله أراد أن يقيد هذا وجعل الحكم بالصحة والضعف موكولا إلى القاري، وربما كان يريد أن يرجع إليه مرة ثانية ويمحصه، ولكنه لم يتيسر ذلك.
قوله: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدارهم سبعة ألقيت في ترس). الكرسي: موضع قدمي الله تعالى، هكذا قال بن عباس رضي الله عنهما، والدراهم: جمع درهم، وهو النقد من الفضة، والترس: شيء من جلد أو خشب يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما.
قوله: (ما الكرسي في العرش). أي: بالنسبة إليه، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوى عليه الرحمن، ولا يقدر قدره إلا الله - - عز وجل - -، والمراد بالحلقة حلقة الدرع، وهي صغيرة وليست بشيء بالنسبة إلى فلاة الأرض.
وهذا الحديث يدل على عظمته - عز وجل -، فيكون مناسبا لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمس مئة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم). أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله . قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: ((وله طرق)) (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/202)، حديث (8987)، وأبو a الأصبهاني في العظمة (3/104)، حديث (565)، والديلمي في مسند الفردوس (4/78)، حديث (6242)، وابن عبد البر في التمهيد (7/139).(71/16)
قوله: (وعن ابن مسعود). هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون له حكم الرفع، لأن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيلات.
قوله (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام). وعلى هذا تكون المسافة بين السماء الدنيا والماء أربعة آلاف سنة، وفي حديث آخر: (إن كثف كل سماء خمسمائة عام))(1)، وعلى هذا يكون بين السماء الدنيا والماء سبعة آلاف وخمسمائة، وإن صح الحديث، فمعناه أن علو الله 0 - عز وجل - - بعيد جدا.
فإن قيل: يرد على هذا ما ذكره المعاصرون اليوم من أن بيننا وبين بعض النجوم والمجرات مسافات عظيمة؟
يقال في الجواب: إنه إذا صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنا نضرب بما عارضها عرض الحائط، لكن إذا قدر أننا رأينا الشيء بأعيننا، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد الأمرين:
الأول: محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع.
الثاني: إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث، لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئا حسيا واقعا أبدا، كما قال شيخ الإسلام في كتابه (العقل والنقل): (لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبدا، لأن تعارضهما يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين، وهذا مستحيل، فإن ظن التعارض بينهما، فإما أن لا يكون تعارض ويكون الخطأ من الفهم، وأما أن يكون أحدهما ظنيا والآخر قطعيا).
فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفا لظاهر شيء من الكتاب أو السنة، فإن ظاهر الكتاب يؤول حتى يكون مطابقا للواقع، مثال ذلك قوله تعالى: { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا } (الفرقان: 61)وقال تعالى: { وجعل القمر فيهن نورا } (نوح: 16)، أي في السماوات.
__________
(1) أبو داود: كتاب السنة / باب في الجهمية، حديث (4723)، والترمذي، حديث (3320)، وابن ماجة، حديث (193)، وهو ضعيف.(71/17)
والآية الثانية أشد إشكالا من الآية الأولى، لأن الآية الأولى يمكن أن نقول: المراد بالسماء العلو، ولكن الآية الثانية هي المشكلة جدا، والمعلوم بالحس المشاهد أن القمر ليس في السماء نفسها، بل هو في فلك بين السماء والأرض.
والجواب أن يقال: إن كان القرآن يدل على أن القمر مرصع في السماء كما يرصع المسمار في الخشبة دلالة قطعية، فإن قولهم: إننا وصلنا القمر ليس صحيحا، بل وصلوا جرما في الجو ظنوه القمر.
لكن القرآن ليس صريحا في ذلك، وليست دلالته قطعية في أن القمر مرصع في السماء، فآية الفرقان قال الله فيها: { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيه سراجا وقمرا منيرا } ، فيمكن أن يكون المراد بالسماء العلو، كقوله تعالى: { أنزل من السماء ماء } [الرعد: 17] والماء ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى: { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } (البقرة: 164)، وهذا التأويل للآية قريب.
وأما قوله: { وجعل القمر فيهن نورا } ، فيمكن فيه التأويل أيضا بأن يقال: المراد لقوله: { فيهن } : في جهتهن، وجهة السماوات العلو، وحينئذ يمكن الجمع بين الآيات والواقع.
قوله: (والله فوق العرش). هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوا ذاتيا وعلو الله ينقسم إلى قسمين:
علو الصفة، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله ، كما قال تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } (النحل: 60).
علو الذات، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام فيقولون: كل العلو الوارد المضاف إلى الله المراد به علو الصفة، فيقولون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والله فوق العرش)، أي: في القوة والسيطرة والسلطان وليس فوقه بذاته.
ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل الصفات.
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين:
من قال: إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لاشك ضلال مقتض للكفر.(71/18)
من قال: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا العدم، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف.
ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر.
قوله: (لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح المرئي منه والمسموع، وذلك لعموم علمه وسعته، وإنما أتى بذلك بعد ذكر علوه ليبين أن علوه لا يمنع علمه بأعمالنا، وهو إشارة واضحة إلى علو ذاته تبارك وتعالى.(71/19)
(ف): قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله : وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيئ، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه، مثل قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر : 10] وقوله تعالى: { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران : 55] وقوله تعالى: { بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ } [النساء : 158] وقوله تعالى: { مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [المعارج :3- 4] وقوله تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [السجدة : 5] وقوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } [النحل : 50] وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [البقرة : 29] وقوله تعالى: ' 7: 54 ' { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54] وقوله: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى: { اللّهُ(71/20)
الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الرعد : 2] وقوله تعالى { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه : 5] وقوله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً - الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان:58- 59] وقوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [السجدة :4- 5] وقوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد : 4] فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ - أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك : 17] وقوله تعالى: { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] وقوله: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الجاثية : 2] وقوله تعالى: {(71/21)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً } [غافر :36- 37]. انتهى كلامه رحمه الله .
قلت: وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت في قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه ولا يقال كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضاً، ولفظه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد استوى علا على العرش. وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول: { الرحمن على العرش استوى } أي ارتفع. وقال a ابن جرير الطبري في قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } أي علا وارتفع.(71/22)
وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -:
شهدت بأن وعد الله حق
وأن العرش فوق الماء طاف
وتحمله ملائكة شداد ... وأن النار مثوى الكافرينا
وفوق العرش رب العالمينا
ملائكة الإله مسومينا
وروى الدارمى والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، لا نقول كما قالت الجهمية.
قال الدارمي: حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه.
وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذِكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة.
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضاً: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان: ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: { وهو معكم أين ما كنتم } ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء. وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.(71/23)
وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله تعالى فوق العرش: هو الجعد بن درهم. وكذلك أنكر جميع الصفات. وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك والليث بن سعد والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى. فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة: ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني a بن علي الجوهري - ببغداد - حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا a بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } أ.هـ.من فتح الباري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(71/24)
وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قلنا: الله ورسوله أعلم قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله - سبحانه وتعالى - فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)(1). أخرجه أبو داود وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (العباس). يقال العباس، وعباس، و(أل) هنا لا تفيد التعريف، لأن عباس معرفة لكونه علما، لكنها للمح الأصل، كما يقال: الفضل لفضله، والعباس لعبوسه على الأعداء، قال ابن مالك:
وبعض الأعلام عليه دخلا ... للمح ما قد كان عنه نُقلا (2)
وقوله: (هل تدرون). (هل): استفهامية يراد بها أمران:
التشويق لما سيذكر.
التنبيه إلى ما سيلقيه عليهم، وهذا كقوله تعالى: { هل أتاك حديث الغاشية } (الغاشية: 1)، هذا تنبيه وتشويق إلى شيء من آيات الله الكونية.
وقوله تعالى: { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } (الصف: 10)، هذا تنبيه وتشويق على شيء من آيات الله الشرعية وهو الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } (الكهف: 103) تنبيه وتحذير.
وقوله: { هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } (المائدة: 6) تنبيه وتحذير.
واختلاف هذه المعاني بحسب القرائن والسياق، وإلا فالأصل في الاستفهام أنه طلب العلم بالشيء.
قوله: (كم). استفهامية.
__________
(1) ضعيف:أبو داود: كتاب السنة: باب في الجهمية ،حديث(4723)، (4724) ،( 4725) والترمذي: كتاب التفسير: باب ومن سورة الحاقة (3320)، وابن ماجةفي المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية (193) أخرجه أحمد (1/206، 207) وغيرهم ، وضعفه الذهبي في العلو ص(49، 50)، وضعفه الألباني في تخريج السنة لأبن أبي عاصم(577).
(2) انظر ألفية ابن مالك.(71/25)
قوله: (قلنا: الله ورسوله أعلم). جاء بالعطف بالواو، لأن علم الرسول من علم الله ، فهو الذي يعلمه بما لا يدركه البشر.
وكذلك في المسائل الشرعية يقال: الله ورسوله أعلم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بشرع الله ، وعلمه به من علم الله وما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الشرع فهو كقول الله وليس هذا كقوله: (ما شاء الله وشئت)(1)، لأن هذا في باب القدر والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاركا لله في ذلك، بل يقال: ما شاء الله ، ثم يعطف بـ(ثم) والضابط في ذلك أن الأمور الشرعية يصح فيها العطف بالواو، وأما الكونية، فلا.
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب على بعض الأعمال: { وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } (التوبة: 105) بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعذر رؤيته، فالله يرى، ولكن رسوله لا يرى، فلا تجوز كتابته لأنه كذب عليه - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (خمسمائة سنة). الميم الثانية في خمسمائة مكسورة والألف لا ينطق بها.
قوله: (وبين السماء السابعة والعرش بحرا بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض) وذلك خمسمائة سنة.
قوله: (والله تعالى فوق ذلك). هذا دليل على العلو العظيم لله - عز وجل - - وأنه- سبحانه - فوق كل شيء ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، لا السماوات ولا غيرها، وعليه، فأنه - سبحانه - لا يوصف بأنه في جهة تحيط به، لأن ما فوق السماوات والعرش عدم، ليس هناك شيء حتى يقال: لأن الله أحاط به شيء من مخلوقاته.
ولهذا جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون: لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقا، وينكرون العلو ظنا منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر.
وليس كذلك، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله ، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبدا.
__________
(1) تقدم تخريجه.(71/26)
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيا وإثباتا فلا نقول به، لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، لكن نفصل، فنقول: إن الله في جهة العلو، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للجارية: (أين الله ؟) وأين يستفهم بها عن المكان، فقالت في السماء.
فأثبت ذلك، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وقال: (أعتقها، فإنها مؤمنة)(1).
وأهل التحريف يقولون: (أين) بمعنى (من)، أي: من الله ؟ قالت في السماء، أي: هو من في السماء، وينكرون العلو.
وقد رد عليهم ابن القيم رحمه الله في كتبه ومنها (النونية)، وقال لهم: اللغة العربية لا تأتي فيها (أين) بمعنى (من)، وفرق بين (أين) و(من).
فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلا وسمعا، وليست جهة علو تحيط به، لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه، فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته؟!
فهو في جهة علو لا تحيط به، ولا يمكن أن يقال: إن شيئا يحيط به، لأننا نقول: إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله - سبحانه - ولهذا قال: (والله تعالى فوق ذلك).
قوله: (وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم).
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، حديث (537) وأبو داود، حديث (930)، والنسائي، حديث (1218).(71/27)
وقوله: (أعمال) إن قرنت بالأقوال صار المراد بها: أعمال الجوارح، والأقوال للسان، وإن أفردت شملت أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأعمال القلوب، وهي هنا مفردة، فتشمل كل ما يتعلق باللسان والقلب والجوارح، بل أبلغ من ذلك أنه لا يخفي عليه شيئا من أعمال بني آدم في المستقبل، فهو يعلم ما يكون فضلا عما كان، قال تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } (طه: 110)، أي: ما يستقبلونه وما مضى عليهم، ولما قال فرعون لموسى: { فما بال القرون الأولى } ، أي: ما ِشأنها؟ { علمها عند ربي في كتاب } ، أي: محفوظة، { لا يضل ربي } : لا يجهل، { ولا ينسى } (طه: 52، 51): لا يذهل عما مضى -- سبحانه وتعالى --.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - صدر هذا الأمر بهل الدالة على التشويق والتنبيه من أجل أن يثبت عقيدة عظيمة، وهو أنه تعالى فوق كل شيء بذاته، وأنه محيط بكل شيء علما، لقوله: (وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)، فإذا علمنا ذلك، أوجب لنا تعظيمه والحذر من مخالفته، لأنه فوقنا، فهو عال علينا، وأمره محيط بنا.
وفي الحديث صفتان لله: ثبوتية، وهي العلو المستفاد من قوله: (والله فوق ذلك).
وسلبية المستفادة من قوله: (ليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)، ولا يوجد في صفات الله -- عز وجل -- صفة سلبية محضة، بل صفاته السلبية التي هي النفي متضمنة لثبوت ضدها على وجه الكمال، فينفى عنه الخفاء لكمال علمه، وينفى عنه اللغوب لكمال قوته، وينفى عنه العجز لكمال قدرته، وما أشبه ذلك.(71/28)
فإذا نفى الله عن نفسه شيئا من الصفات، فالمراد انتفاء تلك الصفة عنه لكمال ضدها، كما قال تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم } (البقرة: 255) السنة: النعاس، والنوم: الإغفاء العميق، وذلك لكمال حياته وقيوميته، إذ لو كان ناقص الحياة لاحتاج إلى النوم، ولو نام ما كان قيوما على خلقه، لأنه حين ينام لا يكون هناك من يقوم عليهم، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم، ولأن النوم في الجنة يذهب عليهم وقتا بلا فرح ولا سرور ولا لذة، لأن السرور فيها دائم، ولأن النوم هو الوفاة الصغرى، والجنة لا موت فيها.
وليس في صفات الله نفي محض، لأن النفي المحض عدم لا ثناء فيه ولا كمال، بل هو لا شيء، ولأن النفي أحيانا يرد لكون المحل غير قابل له، مثل قولك: الجدار لا يظلم.
وقد يكون نفي الذم ذما، كما في قول:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فنفي الغدر عنهم والظلم ليس مدحا، بل ذم ينبي عن عجزهم وضعفهم.
وقال آخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
كأن ربك لم يخلق لخشيته
فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
سواهم من جميع الناس إنسانا
شنوا الإغارة ركبانا وفرسانا
فنفي أن يكون لهم يد في الشر، وبين أن ذلك لعجزهم عن الانتصار لأنفسهم، وتمنى أن يكون له قوم خير منهم وأقوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.(71/29)
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: (كخردلة في كف أحدكم).
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة عام.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة سنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } . وقد تقدم من حديث ابن مسعود، حيث أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبر على أن الله يجعل السماوات على إصبع... إلخ.
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها. كأنه يقول: أن اليهود خير من أولئك المحرفين لها، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا: ليس لله أصابع، وإن المراد بها القدرة، فكأنه يقول: اليهود خير منهم في هذا وأعرف بالله.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك. ظاهر كلام المؤلف بقوله: (ونزل القرآن) أنه بعد كلام الحبر، وليس كذلك، لأنه في حديث ابن مسعود قال: ثم قرأ قوله: { وما قدروا الله حق قدره } ، وهذا يدل على أن الآية نزلت من قبل، لكن مراد المؤلف أن القرآن قد نزل بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.(71/30)
ففيه دليل على جواز الضحك في تقرير الأشياء، لأن الضحك يدل على الرضا وعدم الكراهية.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى. وقد ثبتت اليدان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
وقوله: (في الأخرى) لا يعني أنه ينفي ذكر الشمال لما ذكره في المسألة التالية، وهي:
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. وقد سبق الكلام على ذلك.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. ووجه ذكرهم أنه إذا كان لهم تجبر وتكبر الآن، فليقوموا بذلك.
الثامنة: قوله: (كخردلة في كف أحدهم). يعني بذلك قوله في الحديث (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدهم)، هكذا قال المؤلف
رحمه الله (في كف أحدهم)، وقد ساق الأثر بقوله (كخردلة في يد أحدكم).
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء. حيث ذكر أنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. لأنه جعل الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض بالنسبة للعرش.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. ولم أر من قال: (إن العرش هو الماء لكن هناك من قال إن العرش هو الكرسي، لحديث: (إن الله يضع كرسيه يوم القيامة)(1) وظنوا أن هذا الكرسي هو العرش.
وكذلك زعم بعض الناس إن الكرسي هو العلم، فقالوا في قوله تعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض } ، أي: علمه.
والصواب: أن الكرسي موضع القدمين، والعرش هو الذي استوى عليه الرحمن - سبحانه -، والعلم صفة في العالم يدرك بها المعلوم.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/253)، حديث (5234)، والبيهقي في الكبرى (6/95)، حديث (11294)و (10/94) والشعب (6/81)، حديث (7548)، وابن أبي عاصم في السنة (1/257)، حديث (582)، من حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ ((ويل لك من يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم)) وقال الشيخ الألباني: صحيح.(71/31)
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. وهو الخمسمائة عام
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي. وهو الخمسمائة عام.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. وهو الخمسمائة عام.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. وهي ظاهرة.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. وهي ظاهرة.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. وهو خمسمائة عام.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. وقد سبق الكلام على جميع هذه المسائل بأدلتها.
ويستفاد من أحاديث الباب:
أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم.
التحذير من مخالفة الله - - عز وجل - -.
والله اعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا a، وأسال الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد، آمين.
- - - - -(71/32)