ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل يقول فيه ما مقتضاه: إن الساحر قد لا تدرك حقيقة سحره فيترك أمره في قتله إلى الإمام إذا رأى المصلحة في قتله قتله، وإن لم ير المصلحة في قتله لم يقتله، ويعني: بالمصلحة المصلحة الشرعية، فتحصل من ذلك أن الأقوال في حد الساحر هي:
الأول: أنه يقتل مطلقا ردة؛ لأنه لا يكون السحر إلا بشرك.
والقول الثاني: أنه يقتل ردة إذا كان سحره بشرك، ويقتل حدا إذا كان سحره أدى إلى قتل غيره بغير ما فيه إشراك من مثل الأدوية والتعويذات ونحو ذلك مما ذكرنا.
والثالث: القول الذي عزي إلى شيخ الإسلام من أنه كالزنديق يترك أمره إلى الإمام بحسب ما يراه، إن رأى المصلحة الشرعية في قتله قتله، وإلا عاقبه بما دون القتل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال:
((كتب عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)) قال: (فقتلنا ثلاث سواحر)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والامارة والفيء، باب في أخذ الجزية من المجوس (3043)، والإمام أحمد في (المسند) (1/190)، وهو صحيح.(28/23)
(ت): هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف لكنه لم يذكر قتل السحرة ولفظه عن بجالة بن عبدة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوسي هجر وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرا ورواه عبدالرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولا ورواه القطيعي في الجزء الثاني من فوائده بزيادة فقال حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي ثنا هوذة بن خليفة ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعا كيما نلحقهم بأهل الكتاب ثم اقتلوا كل كاهن وساحر قلت وإسناده حسن قوله عن بجالة هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة قوله كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة إلى آخره صريح في قتل الساحر والساحرة وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل وظاهره أنه يقتل من غير استتابة وهو كذلك على المشهور عن أحمد وبه قال مالك إن الصحابة لم يستتيبوهم ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة.(28/24)
وعن أحمد يستتاب فإن تاب قبلت توبته وخلي سبيله وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب وتقبل توبته فكذلك الساحر وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم قلت الأول أصح لظاهر عمل الصحابة فلو كانت الاستتابة واجبه لفعلوها أو بينوها وأما قياسه على المشرك فلا يصح لأنه أكثر فسادا وتشبيها من المشرك وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب لأن الاسلام يجب ما قبله وهذا الخلاف إنما هو في اسقاط الحد عنه بالتوبة أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقا قبلت توبته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصح عن حفصة رضي الله عنها: ((أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت))(1)، وكذلك صح عن جندب(2) قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ت): هذا الأثر رواه مالك في الموطأ عن a بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت ورواه عبدالرزاق وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس واربعين قال وكذا صح عن جندب
__________
(1) أخرجه مالك في كتاب العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر، حديث (1624).
(2) أخرجه البيهقي في الكبرى (8/136)، حديث (16278) والدار قطني في سننه (3/114)، حديث (113).(28/25)
(شرح) المراد به هنا قطعا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر وهو جندب ابن كعب بن عبدالله قال أبو حاتم جندب بن كعب قاتل الساحر ويقال جندب بن زهير فجعلها واحدا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره قال ابن عبد البر ذكر الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله ورواه البيهقي في ((الدلائل)) مطولا وفيه فقال الناس سبحان الله يحيى الموتى وراه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال إن كان صادقا فليحيي نفسه فأمر به الوليد فسجن وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة.
(ق): قوله: (قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -).
وهم: عمر، وحفصة، وجندب الخير؛ أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحاصل: أنه يجب أن تقتل السحرة، سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل؛ لأنهم يمرضون ويقتلون، ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك بالعكس؛ فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء، ويتوصلون إلى أغراضهم؛ فإن بعضهم قد يسحر أحدا ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فسادا؛ فكان واجبا على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ما دام انه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد.
والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية؛ لأنهم يسعون في الأرض فسادا، وفسادهم من أعظم الفساد؛ فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم؛ لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.(28/26)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة؛ وهي قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاق } (البقرة: من الآية102)؛ أي: نصيب؛ ومن لا خلاق له في الآخرة؛ فإنه كافر؛ إذ كل من له نصيب في الآخرة فإن مآله إلى الجنة.
الثانية: تفسير آية النساء؛ وهي قوله تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت } (النساء: من الآية51)، وفسر عمر الجبت بالسحر والطاغوت بالشيطان، وفسر بأن الجبت: كل ما لا خير فيه من السحر وغيره. وأما الطاغوت، فهو: كل ما تجاوز به الإنسان حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما؛ وهذا بناءً على تفسير عمر - رضي الله عنه -.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. تؤخذ من قول جابر: الطواغيت كهان، وكذلك قول عمر: الطاغوت الشيطان، فإن الطاغوت إذا أطلق؛ فالمراد به شيطان الجن، والكهان شياطين الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. وقد سبق بيانها.
السادسة: أن الساحر يكفر. تؤخذ من قوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ… } (البقرة: من الآية102).(28/27)
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.تؤخذ من قوله(حد الساحر ضربة بالسيف) والحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه، بل يقتل بكل حال، أما الكفر؛ فإنه يستتاب صاحبه، وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود قتل الردة.
فقتل المرتد ليس من الحدود؛ لأنه يستتاب، فإذا تاب ارتفع عنه القتل، وأما الحدود؛ فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة ليس كفارة وصاحبها كافر؛ لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين في عهد عمر؛ فكيف فيما بعده؟! تؤخذ من قوله: (كتب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)؛ فهذا إذا كان في زمن الخليفة الثاني في القرون المفضلة، بل أفضلها؛ فكيف بعده من العصور التي بعدت عن وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه؟ ! فهو أكثر انتشاراً بين المسلمين، وكلما بعد الناس عن زمن الرسالة استولت عليهم الضلالة والجهالة؛ فالضلالة: ارتكاب الخطأ عن جهل، والجهالة: ارتكاب الخطأ عن عمد، ولهذا نقول: من عمل سوءً بجهالة؛ فهو آثم، ومن عمل سوءً بجهل؛ فليس بآثم، قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة } (النساء: من الآية17)، والمراد بالجهالة هنا ليست ضد العلم، بل ضد الرشد، وهي السفه.(28/28)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب بيان شيء من أنواع السحر - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): قوله: (باب بيان شيء من أنواع السحر).
أي: بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها.
والأنواع: جمع نوع، والنوع أخص من الجنس؛ لأن الجنس اسم يدخل تحته أنواع، والنوع يدخل تحته أفراد، وقد يكون الجنس نوعاً باعتبار ما فوقه، والنوع جنساً باعتبار ما تحته.
فالإنسان نوع باعتبار الحيوان، والحيوان باعتبار الإنسان جنس؛ لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم، والحيوان باعتبار الجسم نوع؛ لأنه الجسم يشمل الحيوان والجماد.
و (أنواع) هنا باعتبار الجنس العام.
وسبق أن السحر في اللغة: كل ما كان خفي السبب دقيقاً في إدراكه حتى عد الفخر الرازي من جملة أنواع السحر الساعات، وهي في القديم عبارة عن آلات مركبة؛ فكيف بالساعات الإلكترونية اليوم؟!.(29/1)
(ت): لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء وعدوها من كرامات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتا بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليا لله تعالى لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياضة مخالفة للشريعة كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم فيطيرون بهم في الهواء ويمشون بهم على الماء ويأتون بالطعام والشراب والدراهم وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الإنسان في نفسه فتوافق القدر وتقع كما أخبر وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى وقد يكون ذلك استدراجا والأحوال الشيطانية كثيرة وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده لا إله إلا هو فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى قال الله تعالى { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون ولم يشترط ان يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة فدل أن الشخص قد يكون وليا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنا متقيا وقال(29/2)
تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا ما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما ينهى وأعطوا من يجب أن يعطى ومنعوا من يجب أن يمنع وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون إليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئا وإن لم تجر على أيديهم خوارق فإن كانت الخوارق دليلا على ولاية الله فلتكن دليلا على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس ورهبان اليهود والنصارى وعباد الأصنام فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف ولكن هي من قبل الشياطين فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى { قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم } وقال تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية فقال لا إله إلا الله فسقط وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانا أو يمشي على الماء أو يملأ إبريقا من الهواء أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلا من أن يكون وليا لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على(29/3)
الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليا لله وقد يكون عدوا له فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع وتكون لهؤلاء من قبل الشياطين أو تكون استدراجا فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلى المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى المزابل رائحته خبيثة ركابا للفواحش يمشي في الأسواق كاشفا لعورته غامزا للشرع مستهزئا به وبحملته يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين كافرا بالله ساجدا لغير الله من القبور وغيرها يكره سماع القرآن وينفر منه ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليا لله محبوبا عنده حتى يكون متبعا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا فإن قلت فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية قيل إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق لأنه إذا كان الشخص مخالفا للشرع فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله ولا يستعان بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة كانت الخوارق الشيطانية له أقوى وأكثر من غيره(29/4)
فإن الجن الذي يقترنون بالإنس من جنسهم فإن كان كافرا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه وللسجود لهم وكتابة أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي بخلاف الكرامة فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له والتمسك بكتابه واجتناب المحرمات فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا أسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين.
(تم): لما ذكر الإمام -رحمه الله تعالى- ما جاء في السحر وما اتصل بذلك من حكمه وتفصيل الكلام فيه -ذكر أن السحر قد يأتي في النصوص، ولا يراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله -جل وعلا- فإن اسم السحر عام في اللغة، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين والتقرب إليها وعبادتها لتخدم الساحر، ويدخل فيها أمور أخرى يطلق عليها الشارع أنها سحر، وليست كالسحر الأول في الحقيقة، ولا في الحكم.
وهو درجات فمما يسمى سحرا: البيان كما جاء في آخر الباب (إن من البيان لسحرا) والبيان ليس سحرا، فيه استعانة بالشياطين، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية؛ لأن له تأثيراً خفياً على القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان وذا الإيضاح وذا اللسان الفصيح يؤثر في القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه، فسمي سحرا لخفاء وصوله إلى القلوب وقلب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر.(29/5)
وكذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر، فالطيرة نوع اعتقاد، وكذلك العيافة، وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها، كذلك الخط في الرمل ونحو ذلك من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر، وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحكم.... لأن من أنواع السحر، ما هو شرك أكبر بالله -جل وعلا- وهو المراد إذا أطلق: السحر، وهذه هي الحقيقة العرفية، ومنه ما ليس شركاً أكبر.
وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية، ومن ذلك هذا الباب فإن فيه ما يطلق عليه لغة أنه سحر، وفيه ما يطلق عليه عرفا أنه سحر، وما يطلق عليه شرعا أنه سحر.
والتفريق بين هذه الأنواع مهم؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر.
فالحد الذي فيه ((حد الساحر ضربةٌ بالسيف)) لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر؛ لأنها سحر لغة، وليست بسحر شرعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أحمد: حدثنا a بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت)(1).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان(2). إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أبو داود: كتاب الطب / باب: في الخط وزواجر الطير، حديث (3907) وضعفه الشيخ الألباني كما في ضعيف أبي داود (842). والإمام أحمد في المسند (5/60) وأبو داود في السنن (3907) والنسائي في الكبرى كما في (تحفة الأشراف) (8/275) وابن حبان في الصحيح (7/656)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إسناده صحيح) (الفتاوى 35/192) وكذلك النووي في رياض الصالحين (612).
(2) الإمام أحمد في (المسند) 5/60(29/6)
(ت): قوله قال احمد هو الإمام أحمد بن a بن حنبل ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبد الرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك مات سنة ست ومائتين وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم العبدي البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة وله ست وثمانون سنة وحبان بن العلاء هو بالتحتية ويقال حيان بن مخارق أبو العلاء البصري مقبول وقطن بفتحتين أبو سهلة البصري صدوق قوله عن أبيه هو قبيصة بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبدالله الهلالي صحابي نزل البصرة.
(ق): قوله: (العيافة). مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل؛ فعند العرب قواعد في هذا الأمر؛ لأن زجر الطير له أقسام.
فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر؛ فهذا ليس من هذا الباب.
وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالاً تشاءم، وإذا ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب أماماً؛ فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت.
(ت): قال عوف العيافة زجر الطير هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك قال أبو السعادات العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا وهو كثير في أشعارهم يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وظن قوله والطرق الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف وهو تفسير صحيح وقال أبو السعادات هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء.(29/7)
(ق): ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالباً، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم؟ ! وهذا نوع من السحر.أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك؛ فليس داخلاً في الحديث.
فإن قيل: قد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن نبي من الأنبياء يخط؛ فقال: من وافق خطه؛ فذاك(1)
قلنا: يجاب عنه بجوابين:
الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه؛ لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا؟
الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي؛ فلا بأس به؛ لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها.
أما هذه الخطوط السحرية؛ فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يسد الأبواب جميعاً خاصة في موضوع الشرك؛ فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟
فالجواب: كان هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبياً من الأنبياء يخط، فلا بد أن يجيب عنه الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
(ت): قوله من الجبت أي من أعمال السحر قال القاضي والجبت في الأصل الفشل الذي لا خير فيه ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر وقال الطيبي من فيه إما ابتدائية أو تبعيضية فعلى الأول المعنى الطيرة ناشيئة من الساحر وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة أو من جملة عبادة غير الله أي الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي الطيرة شرك انتهى وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم لأنه إذا كان الحظ ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد وتحريم الصلاة / باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان إباحته حديث (537).(29/8)
(ق): وقوله: (الطيرة)؛ أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهي اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئياً كان أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل؛ فيشمل ما لا يرى ولا يسمع؛ كالتطير بالزمان.
(تم): وحقيقة الطيرة أنه يرى شيئا من الطير تحرك يمينا أو يسارا فإن رآه تحرك يمينا تفاؤل به واعتقد أنه سينجح في هذا العمل أو في هذا السفر، وإن رآه تحرك شمالا قال: هذا معناه أني سأتضرّر في هذا السفر أو سيصيبني مكروه فرجع.
وقد قال -عليه الصلاة والسلام- (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)(1).
وقد يتشاءم بحركة شيء أو بكلمة يسمعها أو بشيء في الجو، أو بتصادم سيارة أمامه أو بسواد في الجو حصل أمامه، أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه، أو يتشاءم بشيء حصل له في أول زواجه ونحو ذلك من أنواع التشاؤم، كالتشاؤم بالأشهر أو بالأيام هذا كله من أنواع الطيرة.
ولا يكون طيرة إلا إذا ردَّه عن حاجته أو جعله يقبل إلى حاجته، فإذا تشاءم وحمله ذلك التشاؤم على أن يقدم أو يحجم فإنه يكون متطيرا.
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئا فجعله ذلك الشيء يقدم، ولولا ذلك الشيء الذي رآه ما أقدم فإن ذلك أيضا من الطيرة، وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب وذلك ضرب من السحر0
__________
(1) أخرجه أحمد 2/220.(29/9)
(ق): والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم؛ ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر - والعياذ بالله -، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال؛ فكانت تقول: (أيكن كان أحظى عنده مني؟)(1)، والجواب: لا أحد.
فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال؛ لأنه ينكد عليه عيشه؛ فالواجب الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يعجبه الفأل(2)؛ فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، وكذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ؛ فكل شيء ترى فيه المصلحة؛ فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك.
وأما قول الحسن: الجبت: رنة الشيطان، والظاهر أن رنة الشيطان؛ أي: وحي الشيطان؛ فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعاً من الكفر، وقول الحسن جاء في (تفسير ابن كثير) باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في (المسند) (5/60) بلفظ: إنه الشيطان.
__________
(1) مسلم: كتاب النكاح/باب استحباب التزوج والتزويج في شوال واستحباب الدخول فيه حديث (1423).
(2) البخاري: كتاب الطب/ باب الفأل حديث (5756)، ومسلم: كتاب السلام/ باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، حديث (2224).(29/10)
(ف): قلت: ذكر إبراهيم بن a بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب. قال سعيد بن جبير: لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنة، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده. رواه الحافظ الضياء في المختارة: الرنين الصوت. وقد رن يرن رنيناً، وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه الله تعالى.
(ق): ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له؛ فماذا يعني كون الطائر يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً؟ فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك؛ فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة.
وكذلك الطرق من السحر؛ لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه.
والطيرة كذلك؛ لأنها مثل العيافة تماماُ تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه.(29/11)
قوله: (إسناده جيد …). قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه أقل من الجيد في الواقع؛ إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقاً للأصول؛ فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفاً للأصول؛ فإنه لا يبالي بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث، لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة؛ فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد؛ فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة؛ إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي منه شيء؛ لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن، وأيهما أهم: السند أم المتن؟
الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحاً تشهد له الأصول قد تستغني عنه بما تشهد به الأصول، أما السند؛ فلابد منه، يقول ابن المبارك: لولا السند؛ لقال كل من شاء ما شاء(1).
(ف): قوله: ولأبي داود وابن حبان في صحيحه: المسند منه ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أبو داود: كتاب الطب /باب في النجوم حديث (3905)بلفظ (من اقتبس علماً من ….)وحسنه الشيخ الألباني في صحيح أبو داود (3305) ولم أجد بلفظ (شعبة من النجوم) في تهذيب الكمال للحافظ المزي (31/38).(29/12)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) [رواه أبو داود] وإسناده صحيح(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ت): هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف بإسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه.
(ق): قوله: (من). شرطية، وفعل الشرط: (اقتبس)، وجوابه: (فقد اقتبس).
(ت): قوله من اقتبس قال أبو السعادات قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته انتهى وعلى هذا فالمعنى من تعلم.
(ق): لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئاً من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة.
قوله: (شعبة). أي: طائفة، ومنه قوله تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل } (الحجرات: من الآية13)؛ أي: طوائف وقبائل.
قوله: (من النجوم). المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها؛ لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية؛ فيستدل مثلاً باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (1/227، 311)، وأبو داود في (الطب، باب في النجوم، 4/226)، وابن ماجة في (الأدب، باب تعليم النجوم)، وصححه النووي في (رياض الصالحين) (ص 630)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى) (35/193): (إسناده صحيح).وانظر مقدمة صحيح مسلم.(29/13)
ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيداً، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقياً؛ فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله ، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية؛ قال؛ صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل؛ فقال؛ (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا - بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية؛ يعني: هذا المطر من النجم -؛ فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)(1).
فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضاً، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني؛ لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر؛ فهي ظرف لهما، وليست سبباً للريح أو المطر.
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية: فهذا محرم باطل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر)(2)، وقوله في حديث زيد بن خالد: (من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشمس والقمر (إنهما آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)(3)؛ فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان/باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، حديث (846)، ومسلم: كتاب الإيمان/باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (71).
(2) تقدم تخريجه قريباً.
(3) البخاري: كتاب الجمعة/باب الصلاة في كسوف الشمس، حديث (1041)، ومسلم: كتاب الكسوف/باب ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (904).(29/14)
الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات؛ فهذا جائز، وقد يكون واجباً أحياناً، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى: { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (النحل: 15)، فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية؛ فقال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } (النحل: 16)، فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمان لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع، وكذلك على الأماكن؛ كالقبلة، والشمال، والجنوب.
قوله: "فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد". المراد بالسحر هنا: ما هو أعم من السحر المعروف، لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، كما أن السحر لا حقيقة له، فالسحر لا يقلب الأشياء، لكنه يموه، وهكذا اختلاف النجوم لا تتغير بها الأحوال.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فقد صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: ' 20: 69 ' { ولا يفلح الساحر حيث أتى } .
(ق): قوله: (زاد ما زاد). أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر.
ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء؛ فإنه يزداد بزيادته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
(من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) النسائي: كتاب تحريم الدم / باب الحكم في السحرة، حديث (4079)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع.(29/15)
(ف): قوله: وللنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر. ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئاً وكل إليه " هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي. وقد رواه النسائي مرفوعاً وحسنه ابن مفلح.
قوله: وللنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها. وروى عن a بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلثمائة، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى.
قوله: من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة، حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد " يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل. والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقدة نفخاً معه ريق. فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى.
(ق): أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة؛ فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف؛ فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح؛ فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة؛ فقد وقع في السحر.
قوله: (ومن سحر فقد أشرك). (من) هذه شرطية، وفعل الشرط: (سحر)، وجوابه: (فقد أشرك).
(ف): قوله: ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك، إذْ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.(29/16)
(تم): قوله: (ومن سحر فقد أشرك) هذا عام؛ لأنه جعل الإشراك جزاء السحر باسلوب الشرط والجزاء فكأنه قال: (كل من سحر فقد أشرك) يعني: سحر بذلك النحو الذي ذكر وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها و(من سحر فقد أشرك) وهذا دليل لما ذكرناه في الباب قبله. من أن كل سحر يعد من أنواع الشرك؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد أو باستحضار الجن وبعبادة الجن ونحو ذلك وهذا شرك بالله.?
(ق): قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه). (تعلق شيئاً)؛ أي: استمسك به، واعتمد عليه.
(وكل إليه)؛ أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عمادا له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه.
ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم.
ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة والأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } (الطلاق: من الآية3)، وإذا كان الله حسبك؛ فلا بد أن تصل إلى ما تريد.
لكن من تعلق شيئا من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل إلى ضعف وعجز وعورة، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجبا بما يقول ويفعل؛ فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز وعورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائما متعلقا بالله في كل أفعالك وأحوالك حتى في أهون الأمور.(29/17)
ونقول للإنسان: اعتمد على نفسك بالنسبة للناس، فلا تسألهم ولا تستذل أمامهم، واستغن عنهم ما استطعت، أما بالنسبة لله؛ فلا تستغن عنه، بل كن دائما معتمدا على ربك حتى تتيسر لك الأمور، ومن هذا النوع من يتعلقون ببعض الأحراز يعلقونها؛ فإنهم يوكلون إلى هذا، ولا يحصل لهم مقصودهم، لكنهم لو اعتمدوا على الله ، وسلكوا السبل الشرعية؛ حصل لهم ما يريدون، ومن هذا النوع أيضا من تعلق شيئا من القبور، وجعلها ملجأه ومغيثه عند طلب الأمور؛ فإنه يوكل إليه، والإنسان قد يفتن ويحصل له المطلوب بدعاء هؤلاء، ولكن هذا المطلوب الذي حصل حصل عند دعائهم لا بدعائهم، والآية صريحة في ذلك، قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَة } (الأحقاف: من الآية5)، لكن الله تعالى قد يفتن من شاء من عباده.
مناسبة الحديث:
أن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك، وآخر أمرهم الخسارة والندم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس)(1) [رواه مسلم].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (ألا). أداة استفتاح، والغرض تنبيه المخاطب والاعتناء بما يلقى إليه لأهميته.
قوله: (هل أنبئكم ما العضة). الاستفهام للتشويق؛ كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (الصف: 10).
لأن الإنسان مشتاق إلى العلوم يحب أن يعلم، وقد يكون المراد به التنبيه؛ لأن الموجه إليه الخطاب ينبغي أن يتنبه ليعلم، وهي تصلح للجميع.
__________
(1) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب تحريم النميمة، حديث (2606).(29/18)
ومعنى أنبئكم: أخبركم، وهي مرادفة للخبر في اصطلاح المحدثين، وقال بعض العلماء من ناحية اللغة لا الاصطلاح: إن الإنباء لغة يكون في الأمور الهامة، والإخبار أعم منه يكون في الهامة وغير الهامة.
قوله: (العضَهَ) على وزن الحبل والصمت والوعد، بمعنى القطع، وأما رواية العضة على وزن عدة؛ فإنها بمعنى التفريق، وأيا كان؛ فإنها تتضمن قطعا وتفريقا.
قوله: (هي النميمة). فعيلة بمعنى مفعول، وهي من نم الحديث إلى غيره؛ أي: نقله، والنميمة فسرها بقوله: (القالة بين الناس)؛ أي: نقل القول بين الناس، فينقل من هذا إلى هذا، فيأتي لفلان ويقول: فلان يسبك؛ فهو نم إليه الحديث ونقله، وسواء كان صادقا أو كاذبا، فإن كان كاذبا؛ فهو بهت ونميمة، وإن كان صادقا؛ فهو نميمة.
(ت): وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال يفسد النمام والكذاب في ساعة مالا يفسد الساحر في سنة وقال أبو الخطاب في عيون المسائل ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس قال في الفروع ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة أشبه السحر ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين لكنه يقال الساحر إنما كفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصا وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة والحديث دليل على تحريم النميمة وهو كذلك بالإجماع وقد قال أبو a بن حزم اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر.(29/19)
(ق): والنميمة كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقطع الصلة، وتفرق بين الناس(1)؛فتجد هذين الرجلين صديقين، فيأتي هذا النمام، فيقول لأحدهما: صاحبك يسبك، فتنقلب هذه المودة إلى عداوة، فيحصل التفرق، وهذا يشبه السحر بالتفرق؛ لأن السحر فيه تفريق، قال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } (البقرة: من الآية102).
والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة قتات)(2)؛ أي: نمام، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - (مر بقبرين يعذبان، أحدهما كان يمشي بالنميمة)(3).
والنميمة كما هي من كبائر الذنوب؛ فهي في الحقيقة خلق ذميم، ولا ينبغي للإنسان أن يطيع النمام مهما كانت حاله، قال تعالى: { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } (القلم: 11-10)، واعلم أن من نم إليك نم فيك أو منك؛ فاحذره.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/227) حديث (18027) من حديث عبد الرحمن بن غنيم، والطبراني في الأوسط (7/350) حديث (7697)، والصغير (2/89)، حديث (835) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ ((وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة)) والبزار في مسنده (7/158)، حديث (2719)من حديث عبادة بن صامت، والبيهقي في الشعب (7/494)، حديث (11108)من حديث أسماء بنت زيد. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2865).
(2) البخاري: كتاب الأدب /باب ما يكره من النميمة، حديث (6056) ومسلم: كتاب الإيمان / باب غلط تحريم النميمة، ولفظه: (لا يدخل الجنة نمام) حديث (105).
(3) البخاري: كتاب الوضوء / باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله حديث (216)، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء، حديث (292).(29/20)
وهي أيضا من أسباب فساد المجتمع؛ لأن هذا النمام إذا أراد أن يعتدي على كل صديقين متحابين، ويفرق بينهما بنميمته فسد المجتمع؛ لأن المجتمع مكون من أفراد، فإذا تفرقت صار كما قال الله - عز وجل -: { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال: من الآية46)، وإذا لم يكن المجتمع كإنسان واحد؛ فإنه لا يمكن أن يكون مجتمعا؛ فهو أفراد متناثرة، والأفراد المتناثرة ليس لها قوة، ولهذا قال الشاعر:
لا تخاصم بواحد أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويا
وقال الآخر
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ... فإذا افترقن تكسرت أفرادا
ونحن لو تأملنا النصوص الشرعية؛ لوجدناها تحرم كل ما يكون سببا للتفرق والقطيعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يبيع بعضكم على بيع بعض)(1)، وقال: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)(2)، وكل هذا لدفع ما يوجب العداوة والبغضاء بين الناس.
(ت): وقوله القالة بين الناس قال أبو السعادات أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض ومنه الحديث ففشت القالة بين الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من البيان لسحراً)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع / باب: النهي للبائع أن لا يحفل؟ الابل والبقر، حديث (2150)، ومسلم: كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، حديث (1515).
(2) البخاري: كتاب البيوع / باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه حديث (1240)، ومسلم: كتاب النكاح / باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن، حديث (1413).
(3) البخاري: كتاب النكاح / باب الخطبة، حديث (5146)، ومسلم: كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة حديث، (869).(29/21)
(ق): قوله: (إن من البيان). (إن): حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر، و(من): يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ فعلى الأول يكون المعنى: إن بعض البيان سحر وبعضه ليس بسحر، وعلى الثاني يكون المعنى: إن جنس البيان كله سحر.
قوله: (لسحر). اللام للتوكيد، و(سحرا): اسم إن.
والبيان: هو الفصاحة والبلاغة، وهو من نعمة الله على الإنسان، قال تعالى: (خلق الإنسان *علمه البيان) (الرحمن: 3-4).
والبيان نوعان.
الأول: بيان لابد منه، وهذا يشترك فيه جميع الناس، فكل إنسان إذا جاع قال: إني جعت، وإذا عطش قال: إني عطشت، وهكذا.
الثاني: بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول وتغير الأفكار، وهي التي قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحرا).
وعلى هذا التقسيم تكون (من) للتبعيض؛ أي: بعض البيان - وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة - سحر.
أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط؛ صارت (من) لبيان الجنس.
ووجه كون البيان سحرا: أنه يأخذ بلب السامع، فيصرفه أو يعطفه، فيظن السامع أن الباطل حق لقوة تأثير المتكلم، فينصرف إليه، ولهذا إذا أتى إنسان يتكلم بكلام معناه باطل، لكن لقوة فصاحته وبيانه يسحر السامع حقا، فينصرف إليه، وإذا تكلم إنسان بليغ يحذر من حق، ولفصاحته وبيانه يظن السامع أن هذا الحق باطل، فينصرف عنه، وهذا من جنس السحر الذي يسمونه العطف والصرف، والبيان يحصل به عطف وصرف؛ فالبيان في الحقيقة بمعنى الفصاحة، ولاشك أنها تفعل فعل السحر، وابن القيم يقول عن الحور: حديثها السحر الحلال.(29/22)
(ف): قال: ولهما عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن من البيان لسحر " البيان البلاغة والفصاحة. قال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله ، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر تأوله طائفة على الذم. لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح. لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله. قال: هذا و الله السحر الحلال انتهى. والأول أصح والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
مأخوذ من قول الشاعر:
تقول: هذا مجاج النحل، تمدحه
مدحاً وذماً، وما جاوزت وصفهما ... وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنابير
والحق قد يعتريه سوء تعبير
قوله: إن من البيان لسحراً هذا من التشبيه البليغ، لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق. فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.
وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " رواه أحمد وأبو داود.
(ق): قوله: (إن من البيان لسحرا)، وهل هذا على سبيل الذم، أو على سبيل المدح، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره؟.(29/23)
الجواب: الأخير هو المراد؛ فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم، ولكن ينظر إلى أثره، والمقصود منه، فإن كان المقصود منه رد الحق وإثبات الباطل؛ فهو مذموم؛ لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته، وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل؛ فهو ممدوح، وإذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله ؛ فهو خير من العي، لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله ؛ فهذا لا خير فيه، والعي خير منه، والبيان من حيث هو لا شك أنه نعمة، ولهذا امتن الله به على الإنسان؛ فقال تعالى: { علمه البيان } (الرحمن: 4).
وجه مناسبة الحديث للباب: المؤلف كان حكيما في تعبيره بالترجمة، حيث قال: باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء؛ لأن منها ما هو شرك، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره وآثاره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: (فيه مسائل)؛ أي: في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث والآثار مسائل:
المسألة الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. وقد سبق تفسير هذه الثلاثة وتفسير الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق. وقد بينت في الباب أيضا وشرحت.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. لقوله: (من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر)، وسبق الكلام عليها أيضا.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. لحديث أبي هريرة: (من عقد عقدة ثم نفث فيها؛ فقد سحر)، وقد تقدم الكلام على ذلك.(29/24)
الخامسة: أن النميمة من ذلك. لحديث ابن مسعود: (ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة)، وهي من السحر؛ لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين الناس والتحريش بينهم، وقد سبق بيان ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. أي: من السحر بعض الفصاحة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحرا)، والمؤلف رحمه الله قال: بعض الفصاحة استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - (إن من البيان)؛ لأن(من) هنا عند المؤلف للتبعيض، ووجه كون ذلك من السحر أن لسان البليغ ذي البيان قد يصرف الهمم وقد يلهب بما عنده من الفصاحة.(29/25)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): ((باب ما جاء في الكهان ونحوهم))؛ هذا الباب أتى بعد أبواب السحر؛ لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة، في الماضي أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله -- جل جلاله -- فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلا منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمتع بالجن لغرضه، ومناسبة الباب لكتاب التوحيد أن الكهانة استخدام للجن، واستخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله -جل وعلا- لأن استخدام الجن في مثل هذه الأشياء، لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجن بشيء من العبادات، فالكهان لا بد لكي يُخدَمُوا بذكر الأمور المغيبة لهم - أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات إما بالذبح أو الاستغاثة أو بالكفر بالله -جل وعلا- بإهانة المصحف أو بسب الله أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية.
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد، والكاهن مشرك بالله -جل وعلا-؛ لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات.
وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وفي غيرها، والكهان أناس يُدَّعَى فيهم الولاية والصلاح وأن عندهم عِلم ما مضى أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس أو تحدث في الأرض ولهذا كانت العرب تعظم الكهان وتخاف منهم، وكانت تعطي الكاهن أجرا عظيما؛ لأجل ما يخبر عنه.
والكاهن كما ذكرنا لا يصل إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة إلا باستخدام الجن والتقرب إليهم التقربات الشركية فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة ويستمتع هو بالجني من جهة ما يُخبره به من الأمور المغيبة.(30/1)
والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تصدق فيها عن طريق استراق السمع، فإن بعضهم يركب بعضا حتى يسمع الوحي الذي يوحيه الله -جل وعلا- في السماء فربما أدرك الشهاب الجني قبل أن يلقي الكلمة لمن تحته، وربما أدركه بعد أن يلقى الكلمة فتأتي هذه الكلمة للجن فيعطونها الكُهَّان فيكذب معها الكاهن، أو تكذب معها الجن مائة كذبة حتى يعظُم شأن الكهان وحتى تعظُم عبادة الإنس للجن.
وقبل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- كان استراق السمع كثيرا جدا وبعد بعثته -عليه الصلاة والسلام- حرست السماء من أن تسترق الجن السمع، لأجل تنزل القرآن والوحي حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوة، وبعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- رجع الاستراق ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة، فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة:
1.قبل البعثة كثير جدا.
2.وبعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحصل استراق من الجن، وإن حصل فهو نادر في غير وحي الله -جل وعلا- بكتابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -.
3.بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- رجع استراق السمع أيضا ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك؛ لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا والله -جل وعلا- بين ذلك في القرآن في آيات كثيرة من أن النجوم والشهب ترمي الجن كما قال -جل وعلا-: { إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } (الحجر: 18)، ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشهب مرصدة للجن.
إذا ظهر ذلك، فالكاهن قد يطلق عليه العراف والكاهن والعرَّاف اسمان متداخلان فقد يطلق أحدهما على الآخر، وعند بعض الناس يطلق الكاهن على من يخبر بما يحصل في المستقبل، ويطلق العراف على من يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي من مثل مكان المسروق أو السارق من هو؟ ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن.(30/2)
والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: من أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق، فكل من تكلم في معرفة الأمور المغيبة الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق، طريق التنجيم أو الخط في الرمل بطريق الطرْق أو بالودع ونحو ذلك من الأساليب أو بالخشبة المكتوب عليها (أباجاد) ونحو ذلك من قراءة الفنجان أو قراءة الكف كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة يسمى كاهنا ويسمى عرافا؛ لأنه لا يحصل له أمره إلا بنوع من أنواع الكهانة، وسيأتي ذلك -إن شاء الله -.
(ق): الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضا جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء؛ اعتقده الناس عالما بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم؛ فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة؛ إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب؛ فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر؛ فهذا ليس من الكهانة لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20من برج الميزان مثلا في الساعة كذا وكذا؛ فهذا ليس من علم الغيب، وكما يقولون: إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهو نجم له ذنب طويل؛ فهذا ليس من الكهانة في شيء؛ لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب؛ فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلا لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة.
وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟(30/3)
الجواب: لا؛ لأنه أيضا يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو؛ لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم؛ فيكون صالحا لأن يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول: يوشك أن ينزل المطر.
فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس؛ فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: أن التصديق بها تصديق بالكهانة.
والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح؛ كما قال السفاريني:
فكل معلوم بحس أو حجاڑفنكره جهل قبيح بالهجا
فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحدا أنكره مستندا بذلك إلى الشرع؛ لكان ذلك طعناً بالشرع.
(تم): و(نحوهم) يعني: من العرافين والمنجمين والذين يخطون في الرمل والذين يكتبون على الخشب ونحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ت): هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف ولفظه حدثنا a بن المثنى العنزي ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله في نسخة عبدالله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وليلة هكذا رواه وليس فيه فصدقه.
قوله: (عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) هي حفصة على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة.
(ق): قوله: (من): شرطية؛ فهي للعموم.
__________
(1) مسلم: كتاب السلام / باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث (2230)، دون قوله: (فصدقه بما يقول). وهي عند الإمام أحمد في (المسند) (4/68، 5/380).(30/4)
والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة؛ أي: من ينتسب إلى العرافة.
والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل.
وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، يدل عليه الاشتقاق؛ إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة.
قوله: (فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما). ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوما، ولكنه ليس على إطلاقه؛ فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالا مجردا؛ فهذا حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أتي عرافا …)؛ فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه؛ إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله؛ فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله } (النمل: من الآية65).
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله؛ فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث.
وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن صياد؛ فقال: (ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ، فقال: اخسأ؛ فلن تعدو قدرك)(1)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عن شيء أضمره؛ لأجل أن يختبره؛ فأخبره به.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجبا.
وإبطال قول الكهنة لاشك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجبا؛ فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز / باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، حديث (1355)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب ذكر ابن صياد، حديث (2931).(30/5)
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال.
فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولاشك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس؛ لأنه يجمعهم الإيمان بالله.
وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله -- عز وجل --؛ إما في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك.
والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط؛ لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال به، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - حضر إليه الجن وخاطبهم وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له؛ فقال لهم: (كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة؛ فهي علف لدوابكم)(1)، وذكر أن في عهد عمر - رضي الله عنه - امرأة لها رئيُ من الجن، وكانت توصيه بأشياء، حتى إنه تأخر عمر ذات يوم، فأتوا إليها، فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة (2).
قوله: (فصدقه)، ليست في (صحيح مسلم)، بل الذي في (مسلم): (فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، وزيادتها في نقل المؤلف؛ إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ (فصدقه)، أو أن المؤلف عزاه إلى (مسلم) باعتبار أصله، فأخذ من (مسلم): (فسأله)، وأخذ من أحمد: (فصدقه).
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). نفي القبول هنا يلزم منه نفي الصحة أو لا؟.
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة / باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، حديث (450).
(2) أحكام المرجان في أحكام الجان) (ص 38).(30/6)
نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع؛ ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفياً للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك.
وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع؛ فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام؛ أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة.
وإما أن يُراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازياً لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من شرب الخمر؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)(1)
(ف): قال النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. أ.هـ. ملخصاً.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/35)، والترمذي: كتاب الأشربة/ باب ما جاء في شارب الخمر، وقال (حديث حسن)، والبغوي في (شرح السنة) (11/357)، والحاكم (4/162)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر: (إسناده حسن) المسند (4917)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع (4548)، (6312)، 6313).(30/7)
(ق): وقوله: (أربعين يوماً). تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله؛ لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالباً أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خُصصت بذلك؛ فهذا من الأمور التي يُقصد بها التعبُد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته؛ لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله - - عز وجل - -؛ فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك؛ فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ؛ لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذاً له وقبولاً؛ فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36). فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله؛ إلا ما استثني؛ كالقسم الثالث والرابع؛ لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(30/8)
(من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على a - صلى الله عليه وسلم -) رواه أبو داود(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (من أتى كاهناً). تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالاً في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.
قوله: (فصدقه). أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.
قوله: (بما يقول). (ما) عامة في كل ما يقول، حتى ما يحتمل أنه صدق؛ فإنه لا يجوز أن يصدقه؛ لأن الأصل فيهم الكذب.
قوله: (فقد كفر بما أُنزل على a)؛ أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على a - صلى الله عليه وسلم - القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } (الشعراء: 192، 193)، وقال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل: من الآية102)، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه؛ فمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه حكاه عن الله ؛ لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سنداً من القرآن، حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/8-4، 476)، وأبو داود: كتاب الطب/باب في الكاهن، حديث (3904)، والترمذي: كتاب الطهارة/ باب في كراهية إتيان الحائض، حديث (135)، وابن ماجة: كتاب الطهارة/باب النهي عن إتيان الحائض، حديث (639)، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء (2006).(30/9)
ولأنه لو كان من كلام الله لفظاً؛ لوجب أن تثبت له أحكام القرآن؛ لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي؛ فهو لا يُتعبد بتلاوته، ولا يُقرأ في الصلاة، ولا يُعجز لفظه، ولو كان من كلام الله ؛ لكان معجزاً؛ لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضاً باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مُشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية؛ فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله .
فدل هذا على أنه ليس من كلام الله ، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظاً.
فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينسب القول إلى الله ، ويقول: قال الله تعالى، ومقول القول هو هذا الحديث المسوق؟.
قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم … مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم؛ لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نُقل نقلاً عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم؛ كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلا الذي فطرني } (الزخرف: 26)، وقال عن موسى: { وقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ } (الأعراف: من الآية128)، وقال عن فرعون: { قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } (الشعراء: 34).
قوله: (بما أنزل على a). ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله ؛ فهي دالة على علو الله - - سبحانه وتعالى - - بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله ؛ لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.(30/10)
(تم): قوله: (كفر بما أنزل على a) أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة، وهذا القول هو القول الأول وهو صحيح وهو الذي يتعين جمعاً بين النصوص، فإن قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما) يدل على أنه لم يخرج من الإسلام، والحديث الآخر وهو قوله: (من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على a)(1)يدل على كفره، فعلمنا بذلك أن كفره كفر أصغر وليس كفرا مخرجا من الملة هذا أحد الأقوال في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول.
والقول الثاني: أنه يتوقف فيه فلا يقال: يكفر كفرا أكبر ولا يقال: أصغر وإنما يقال: إتيان الكهان وتصديقهم كفر بالله -جل وعلا- ويسكت عن ذلك ويطلق القول كما جاء في أحاديث، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر، وهذا هو مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه.
والقول الثالث من أقوال أهل العلم: أن الذي يصدق الكاهن كافر كفرا أكبر مخرج من الملة.
(ق): وجه ذلك: أن ما أنزل على a قال الله تعالى فيه: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله } (النمل: من الآية65)، وهذا من أقوى طرق الحصر؛ لأن فيه النفي والإثبات؛ فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله ؛ فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب؛ فكفره كفر دون كفر.
(تم): وهذا القول فيه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: ما ذكرنا من الدليل من أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لم تقبل له صلاة أربعين يوما) يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحد عدم قبول صلاته بتلك المدة من الأيام.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/408-476) والبيهقي (8/135)والحاكم(1/8).(30/11)
والجهة الثانية: أن تصديق الكاهن فيه شبهة، وادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفر بالله -جل وعلا- كفرا أكبر، لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب يخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع فيكون إذاً هو نقل ذلك الخبر عن الجني، والجن نقلوه عما سمعوه في السماء، وهذه شبهة، فقد يأتي الآتي إلى الكاهن ويقول: أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن، وهذه الشبهة تمنع من تكفير من صدق الكاهن الكفر الأكبر.
فالقول الأظهر: أن كفره كفر أصغر وليس بأكبر لدلالة الأحاديث ولظهور التعليل في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن (النبي - صلى الله عليه وسلم - من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على a - صلى الله عليه وسلم -)(1). ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم).
قوله: (صحيح على شرطهما)؛ أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا؛ فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/429)، والبيهقي في (السنن) (7/195)، والهيثمي في (المجمع) (5/11). قال في (تيسير العزيز) ص 409: فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم... ولعله أراد الذي قبله)، والحاكم في (المستدرك) (1/12) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) الإمام أحمد في (المسند) (2/428)، وأبو يعلى في (المسند) (5408)، والهيثمي في (المجمع) (5/118- 119)، وجود إسناده المنذري في(الترغيب) (4/36)، وأيضاً الحافظ في (الفتح)(10/217).(30/12)
ومعنى قوله: (على شرطهما)؛ أي: أن رجاله رجال (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه.
ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم؛ لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما؛ فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.
قوله: (صحيح). يقولون: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (لا عبرة)؛ أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولاً في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله ، ووجدت أنه دائماً إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا إطلاع واسع، فقد يكون هذا القول إجماعاً، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلا ما حوله؛ فإن قوله هذا لا يكون إجماعاً ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم؛ فإن قوله هذا لا يعتبر؛ لأنه لم يحفظ إلا قولاً قليلاً من أقوال أهل العلم.
قوله: (من أتى عرافاً أو كاهناً). (أو) يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع؛ فالحديث الأول بلفظ عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما؛ فتكون (أو) للتنويع.
وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه؛ لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لو أن رجلاً أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقاً وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين.(30/13)
وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: (من أتى عرافاً أو كاهناً) أنه موقوف؛ لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: (موقوفاً) ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع.
(تم): قوله: (فقد كفر بما أنزل على a - صلى الله عليه وسلم -) يعني القرآن؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة أن الكاهن والساحر والعراف لا يفلحون وأنهم يكذبون ولا يصدقون.
(ف): قال: ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعاً.
أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره. روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق. وكان من الأئمة الحفاظ، مات سنة سبع وثلاثمائة، وهذا الأثر رواه البزار أيضاً ولفظه: من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على a - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - مرفوعاً
(ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على a - صلى الله عليه وسلم -)(1) رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى كاهناً …) الحديث(2).
__________
(1) البزار في (المسند) (3044)، والهيثمي في (المجمع) (5/118). قال المنذري في (الترغيب): (إسناده جيد)، وقال الهيثمي: (ورجاله رجال الصحيح)، شطره الأول صححه الألباني كما في صحيح الجامع(5435)وشطره الثاني صحيح أيضاً كما مر قريباً.
(2) الطبراني في (الأوسط) كما في (مجمع الزوائد) (5/117)، وقال: وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف. والمنذري في (الترغيب) (4/33): (إسناده حسن).(30/14)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (ليس منا). تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال.
قوله: (مرفوعاً)؛ أي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (تطير). التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير؛ لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك.
ومنه ما يحصل لبعض الناس إذا شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم؛ فهذا غير جائز، بل يعتمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيراً، ولا تشاءم؛ لأنك لم توفق فيه لأول مرة؛ فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟!.
ويقال: إن الكسائي - إمام النحو - طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته؛ فقال: سبحان الله لِلَّهِ هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح. فكابد؛ فصار إمام أهل الكوفة في النحو.
قوله: (أو تطير له). بالبناء للمفعول؛ أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك؛ فقد تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: (من تطير) يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره.
وقوله: (أو تكهن أو تكهن له). سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل، يقول سيكون كذا وكذا، وربما يقع؛ فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلاناً سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي؛ لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.(30/15)
قوله: (أو تكهن له)؛ أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كأن يقول للكاهن: ماذا يصيبني غداً، أو في الشهر الفلاني، أو في السنة الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (أو سَحَرَ أو سُحرَ له). تقدم تعريف السحر، وتقدم بيان أقسامه.
قوله: (أو سُحر له)؛ أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر؛ فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصاً، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر؛ أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة عندنا (صب الرصاص)، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاعله.
(ف): قوله: (رواه البزار) هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير. وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
(ق): الشاهد من هذا الحديث: قوله: (ومن أتى كاهناً …) إلخ، وقوله: (ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد جيد من حديث ابن عباس …) إلخ؛ فيكون هذا مقوياً للأول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل:هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله (قال البغوي إلى آخره) البغوي - بفتحتين - هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة، فقيهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة (رحمه الله تعالى).
(ق): قوله: (قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات …). العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة.(30/16)
وهو الذي يدعى معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها.
وظاهر كلام البغوي رحمه الله : أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي؛ لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله : (وقيل: هو)؛ أي: العراف الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
قوله: (وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير)؛ أي: أن تضمر شيئاً فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا.أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري.
والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف؛ فقيل: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها؛ فيكون شاملاً لمن يخبر عن أمور وقعت.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.(30/17)
(ف): والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعى معرفة علم الشيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به. وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام، كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً أو عرافاً أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة.(30/18)
ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقى، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعى أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف الكهان: (فيكذبون معها مائة كذبة)(1) فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعى الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه. لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله: " فلا تزكوا أنفسكم "' 53: 32 ' وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟ وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيئ؟ لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق - رضي الله عنه -، وكان عمر - رضي الله عنه - يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة
__________
(1) البخاري، كتاب بدء الخلق : ،حديث(2210)، باب ذكر الملائكة. ومسلم ، كتاب السلام : ،حديث(2228) (122)، باب تحريم الكهانة واتيان الكهان.(30/19)
رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر. فكيف يكون المدعى لذلك ولياً لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب: نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وقال أبو العباس ابن تيميه). هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولاً بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولداً مدفوناً إلى جانبه في دمشق؛ فإنه غير صحيح قطعاً.
وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه؛ فهذا دليل على أنه ارتضاه.
وعلى كل حال؛ فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم؛ فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي؛ لأن عندنا عموما معنويا، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعموما لفظيا، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملا له.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات:
__________
(1) مجموع الفتاوى (35/137).(30/20)
الحال الأولى: أن يستخدم في طاعة الله ، كأن يكون له نائبا في تبليغ الشرع؛ فمثلا: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعا؛ فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمرا محمودا أو مطلوبا، وهو من الدعوة إلى الله - عز وجل -، والجن حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء؛ لأن المنذر لابد أن يكون عالما بما ينذر، عابدا مطيعا لله - سبحانه - في الإنذار.
الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة؛ صار حراما، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك.
ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له: إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني؛ فهذا استخدام في أمر مباح.
الحال الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة؛ كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك؛ فهذا محرم، ثم إن كانت الوسيلة شركاً صار شركاً، وإن كانت وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا الجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان؛ فهذا يكون إثماً وعدواناً، ولا يصل إلى حد الشرك.(30/21)
ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل من الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون؛ فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -(1)، وهي: ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم …) الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن عباس -في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم -:
(ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله(وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد …الخ) هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً. وإسناده ضعيف. ولفظه " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حمد بن زنجويه عنه بلفظ (رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق).
(ق): قوله: (يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم). الواو هنا ليست عطفاً، ولكنها للحال، يعني: والحال أنهم ينظرون، فيربطون ما يكتبون بسير النجوم وحركتها.
قوله: (ما أرى من فعل ذلك). ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن.
وقوله: (أبا جاد). هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ … وتعلم أبا جاد ينقسم إلى قسمين:
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم: كتاب الوكالة /باب إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه. ووصله النسائي في الكبرى (6/283)، حديث (10795) وعمل اليوم والليلة، ص(532)، حديث (959) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (610).
(2) موضوع: عبد الرزاق في (المصنف) (11/26)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (8/139)، حديث (16291)موقوفاً على ابن عباس.وأخرجه الطبراني في الكبير (11/41)، حديث (10977)مرفوعاً وذكره الهيثمي في المجمع (5/117)ن وقال: (رواه الطبراني وفيه خالد بن يزيد العمري وهو كذاب).(30/22)
الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم:
جد بالرضا وعط المنى ……من ساعدوا في ذا البنا
تاريخه حين انتهى ……قول المنيب اغفر لنا
والشهر في شوال يا ……رب تقبل سعينا
فقوله: (اغفر لنا) لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ.
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها.
ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم.
الثاني: محرم، وهو كتابة (أبا جاد) كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم؛ كالجدب والمرض والحرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص؛ كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك؛ فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض.
وقوله: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).
قوله: (خلاق)؛ أي: نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم؛ لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر؛ إذ لا ينفى النصيب مطلقاً عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر أمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله .
ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم؛ فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا؛ قتلوا كفراً.(30/23)
وإن حكمنا بعدم كفرهم؛ إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أو قلنا: إنهم لا يكفرون؛ لأن المسألة فيها خلاف؛ فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم؛ لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } (المائدة: من الآية33)؛ فكل من أفسد على الناس أمور دينهم أو دنياهم؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل، ولا سيما إذا كانت هذه الأمور تصل إلى الإخراج من الإسلام.
والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة؛ فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور، أو أن لها شركاً؛ فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط؛ فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفراً؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثر سماء كانت من الليل: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)(1).
وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله.
الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرض وما أشبهه؛ فهذا من الأمور المباحة؛ لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلم، حديث (846)، ومسلم في كتاب الإيمان / باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (71).(30/24)
القسم الثالث: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة؛ فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.
(تم): واعلم أن أصناف الكهانة كثيرة جدا وجامعها الذي يجمعها أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرة عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرة كالنجوم، أو عن طريق الخط أو عن طريق الطرق أو عن طريق الودع أو عن طريق الفنجان أو عن طريق الكف أو عن طريق النظر في الحصى أو عن طريق الخشب ونحو ذلك.
هذه كلها وسائل يغر بها الكاهن من يأتيه، وهي في الحقيقة وسائل لا تحصل ذاك العلم ولكن العلم جاءه عن طريق الجن، وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة لخداع الناس ولكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم وأن هؤلاء أصحاب علم وفن بهذه الأمور، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق خط أو عن طريق فنجان أو عن طريق النظر في البروج أو نحو ذلك وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن وهو يظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود كي يصدق الناس أنه لا يستخدم الجن وأنه ولي من الأولياء، وإلا فكيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرة؟!.
ويوجد في بعض البلاد: كغرب إفريقيا وبعض شمالها وفي الشرق من يتعاطى هذه الأشياء ويزعم أنه من الأولياء ويقول: إن الملائكة تخبره بكذا فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة، فالذين يفعل هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانية يعتبر في تلك البلاد من الأولياء؛ ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله تعالى لا يتعاطون الشرك ولا يتعاطون مثل هذه الأمور، فأولياء الله مقيدون بالشرع وليسوا من أولياء الجن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تُكهن له.
الرابعة: ذكر من تُطير له.
الخامسة: ذكر من سحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.(30/25)
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. يؤخذ من قوله (من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على a)، ووجهه: أنه كذب بالقرآن، وهذا من أعظم الكفر.
الثانية: التصريح بأنه كفر. تؤخذ من قوله: (فقد كفر بما أنزل على a).
الثالثة: ذكر من تكهن له. تؤخذ من حديث عمران بن حصين؛ حيث قال: (ليس منا)؛ أي: إنه كالكاهن في براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - منه.
الرابعة: ذكر من تطير له. تؤخذ من قوله: (أو تطير له).
الخامسة: ذكر من سحر له. تؤخذ من قوله: (أو سحر له).
وأتى المؤلف بذكر من تكهن له، أو سحر له، أو تطير له؛ لأنه قد يعارض فيه معارض، فيقول هذا في الكهان، وهذا في المتطيرين، وهذا في السحرة؛ فقال: إن من طلب أن يفعل له ذلك؛ فهو مثلهم في العقوبة.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد. وتعلم ذلك فيه تفصيل لا يحمد ولا يذم؛ إلا على حسب الحال التي تنزل عليها، وقد سبق ذلك.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن العراف هو الكاهن؛ فهما مترادفان؛ فلا فرق بينهما.
القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها؛ فهو أعم من الكاهن؛ لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص.
القول الثالث: أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير، أو عن المغيبات في المستقبل.
فالعراف أعم، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل؛ فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان؛ فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
- - - - -(30/26)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في النشرة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): تعريف النشرة: في اللغة؛ بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق. وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور. لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
(ف): قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من كان يظن أن به مساً من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.
قال الحسن: النشرة من السحر. وقد نشرت عنه تنشيراً، ومنه الحديث: فلعل طباً أصابه، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه.
وقال ابن الجوزي: النشرة حل السحر عن المسحور. ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
(تم): النشرة متعلقة بالسحر وأصلها من النشر وهو قيام المريض صحيحا، وهي اسم لعلاج المسحور سميت نشرة؛ لأنه ينتشر بها أي: يقوم ويرجع إلى حالته المعتادة.
وقول المؤلف -رحمه الله - هنا: " باب ما جاء في النشرة " يعني: من التفصيل وهل النشرة جميعا، وهي حل السحر مذمومة؟ أو أن منها ما هو مذموم ومنها ما هو مأذون به؟؟.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة وهي أنه كما أن السحر شرك بالله -جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله، فالنشرة التي هي حل السحر قد تكون من ساحر وقد تكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها أو الأدعية ونحو ذلك، فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ومنافية لأصله، فالمناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر، وكذلك مناسبتها لكتاب التوحيد لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله -جل وعلا-.
والنشرة قسمان: نشرة جائزة ونشرة ممنوعة.(31/1)
فالنشرة الجائزة: هي ما كانت بالقرآن أو بالأدعية المعروفة أو بالأدوية عند الأطباء ونحو ذلك، فإن السحر يكون عن طريق الجن، كما تقدم، ويحصل منه حقيقة إمراض في البدن وتغيير في العقل والفهم، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يعالج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر، فمما يزيله القرآن الكريم، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر، وكذلك الأدعية والأوراد ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية.
ونوع من السحر يكون في البدن أي: من جهة عضوية فهذا أحيانا يعالج بالرقى والأدعية والقرآن وأحيانا يعالج عن طريق الأطباء العضويين وذلك؛ لأن السحر كما سبق يمرض حقيقة، فإذا أزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر، ولهذا قال ابن القيم في آخر الكلام: ((والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز))؛ لأنه يحصل منه المرض وإذا كان الأمر كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعا من الرقى والأدوية المباحة.
والقسم الثاني من النشرة: وهى التي من أنواع الشرك أن ينشر عنه بغير الطريق الأول بطريق السحر فيحل السحر الأول بسحر آخر، وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلا إلا بأن يتقرب الساحر للجني أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائما.(31/2)
كذلك حل السحر لا بد فيه من إزالة سببه وهو خدمة شياطين الجن للساحر، وهذا لا يمكن إلا للجن، فإن الساحر الثاني الذي ينشر السحر ويرفع السحر لا بد أن يستغيث أو أن يتوجه إلى بعض جِنِّه في أن يرفع أولئك الجن الذين عقدوا هذا السحر أن يرفعوا أثره. فعلى هذا لا يكون السحر من حيث العقد والابتداء إلا بالشرك بالله ومن حيث الرفع والنشر لا يكون إلا بالشرك بالله -جل وعلا-؛ ولهذا قال الحسن: ((لا يحل السحر إلا ساحر))(1) يعني: لا يحل السحر بغير الطريقة الشرعية المعروفة إلا ساحر. فإذا جاء أحد وقال: أنا أحل السحر: قيل له: تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ فإن قال: لا. قيل: هل أنت طبيب تطب ذلك المسحور؟ فإن قال: لا. فهو إذاً ساحر لأنه إذا لم يستخدم الطريقة الثانية فإنه لا يمكن أن يحل السحر إلا ساحر؛ لأنه فك أثر الجن في ذلك السحر ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجن الذين يؤثرون في ذاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة؟ فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود(2) وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه. والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح: إسناد جيد، وحسن الحافظ إسناده.
__________
(1) أخرجه ابن جرير في (التهذيب) كما في (فتح الباري) 10/233.
(2) الإمام أحمد في (المسند) (3/294)، وأبو داود: كتاب الطب/باب في النشرة، حديث (3868) والحاكم في (المستدرك) (4/420)، وصححه ووافقه الذهبي. قال الحافظ في (الفتح) (10/233): (إسناده حسن)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح سنن أبي داود.(31/3)
(ق): قوله في (عن النشرة). أل للعهد الذهني؛ أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك عن طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:
الأول: أن تكون باستخدام الشياطين، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم إلا بالشرك؛ كانت شركاً، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك؛ كان لها حكم تلك المعصية.
الثاني: أن تكون بالسحر؛ كالأدوية والرقى والعقد والنفث وما أشبه ذلك؛ فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طستاً فيه ماء ويصبون عليه رصاصاً ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص؛ فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طست، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ ما أدري ما هذا؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.
قوله: (من عمل الشيطان)؛ أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به؛ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام، بل هو أشد؛ لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز، بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلاً على تحريمه.
قوله: (رواه أحمد بسند جيد وأبو داود). سند أبي داود إلى أحمد متصل؛ لأنه قد حدثه وأدركه.
قوله: (فقال: ابن مسعود يكره هذا كله). أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: (يكره هذا كله) كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد؛ لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.(31/4)
وعلى هذا؛ فالكلية في قول أحمد: (يكره هذا كله) يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.
وقوله: (يكره). الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالباً، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى؛ فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } (الإسراء: من الآية23)، إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } (الإسراء: 38)، ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي "البخاري" عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.(1) أ.هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن قتادة هو ابن دعامة - بكسر الدال - الدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين. قالوا إنه ولد أكمه. مات سنة بضع عشرة ومائة.
قوله: رجل به طب بكسر الطاء. أي سحر، يقال: طب الرجل - بالضم - ذا سحر. ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً. كما يقال للديغ: سليم.
وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد. يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء يقال له طب.
(ق): قوله: (أو يؤخذ عن امرأته). أي: يحبس عن زوجته؛ فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقده عند العقد؛ فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم؛ فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلاً.
__________
(1) البخاري في (الصحيح) تعليقاً: كتاب الطب/باب هل يستخرج السحر معلقاً.(31/5)
ولكن كثيراً ما يقع حبس الزوج عن زوجته ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها؛ فينفك السحر.
لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا؟ فإذا صح؛ فالطلاق هنا جائز؛ لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئاً.
و(أو) في قوله: (أو يؤخذ) يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة (به طب) أو قال: (يؤخذ عن امرأته)؟
أي: أو قلت: يؤخذ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعن الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: (أيحل عنه أو ينشر). لا شك أن (أو) هنا للشك؛ لأن الحل هو النشرة.
قوله: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح).
(تم): يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات والأدعية والقرآن والدواء المباح ونحو ذلك، أما النشرة التي هي بالسحر فابن المسيب أرفع من أن يقول إنها جائزة ولم ينه عنها والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (هي من عمل الشيطان) لهذا قال (لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه) يعني: من الأدوية المباحة ومن الرقى والتعوذات الشرعية وقراءة القرآن ونحو ذلك فهذا لم ينه عنه بل أُذن فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى عن الحسن أنه قال: [لا يحل السحر إلا ساحر](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار - بالتحتية والمهملة - البصري الأنصاري: مولاهم. ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين. مات سنة عشرة ومائة رحمه الله ، وقد قارب التسعين.
(تم): ((فيبطل عمله عن المسحور)) وهذه حقيقة النشرة الشركية، إذا تبين ذلك فإن حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرم بل هو شرك بالله -جل وعلا-؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر.
__________
(1) فتح الباري (10/233).(31/6)
وبعض العلماء من أتباع المذاهب يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم: ويجوز حل سحر بمثله ضرورة، وهذا القول ليس بصواب بل هو غلط؛ لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضا عنها، ومعروف أن الضروريات الخمسة التي جاءت بها الشرائع أولها حفظ الدين، وغيره أدنى منه مرتبة - ولاشك-فلا يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى.
وضرورة الحفاظ على النفس وإن كانت من الضروريات الخمس لكنها دون حفظ الدين مرتبة؛ ولهذا لا يقدم ما هو أدنى على ما هو أعلى أو أن يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس، والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك، ولأن يموت المرء وهو على التوحيد خير له من أن يعافى وقد أشرك بالله -جل وعلا-، لأن السحر لا يكون إلا بشرك والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر، فقد رضي قوله وعمله ورضي أن يعمل به ذاك ورضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته وهذا غير جائز، فتحصل من هذا أن السحر -نشراً ووقوعاً- لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله -جل وعلا-.
وعليه فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحر مثله بل يحل وينشر بالرقى الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما: …حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، ويبطل عمله عن المسحور.
والثاني: …النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(31/7)
(ف): قوله: قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان إلى آخره * ومما جاء في صفة النشرة الجائزة: ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله ، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور: الآية التي في سورة يونس: { فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ - وَيُحِقُّ الله الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس: 81- 82] وقوله: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف: 118] إلى آخر الآيات الأربع. وقوله: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه: 69].
وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه: أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، هو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
قلت: قول العلامة ابن القيم والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز يشير رحمه الله إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء.
والحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز: والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسألتان:
الأولى: النهي عن النشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الأشكال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:(31/8)
الأولى: النهي عن النشرة. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هي من عمل الشيطان)، وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي؛ لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه. تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
- - - - -(31/9)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في التطير
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قوله: (باب: ما جاء في التطير): أي من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تطير يتطير، والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن اسم مصدر من تطير طيرة، كما يقال تخير خيرة، ولم يجيء في المصادر على هذه الزنة غيرهما، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر.
قال المدائني سألت رؤبه بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه. قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد.
ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكرها المصنف رحمه الله في كتاب التوحيد تحذيراً مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
(ق): تعريف التطير: في اللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير؛ لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن؛ أقدم، أو فيها التشاؤم؛ أحجم.
أما في الاصطلاح؛ فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة؛ لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح؛ لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيوداً تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.
وإن شئت؛ فقل التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب؛ فيتشاءم.
أو معلوم؛ كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات؛ فهذه لا تُرى ولا تسمع.(32/1)
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله .
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل؛ فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة: 5)، وقال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } (هود: من الآية123).
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله - - عز وجل - -، ولا تسيء الظن بالله - - عز وجل - -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } (الأعراف: من الآية131).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } : هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } (الأعراف: من الآية131)، قال الله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } ، ومعنى: { يطيروا بموسى ومن معه } : أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه؛ فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } .
قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } . { ألا } : أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و { إنما } : أداة حصر.(32/2)
وقوله: { طائر } مبتدأ، و { عند الله } خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله ؛ فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء - والعياذ بالله - يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: { ولكن أكثرهم لا يعلمون } . فهم في جهل؛ فلا يعلمون أن هناك إلهاً مدبراً، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
(تم): ومناسبة هذه الآية لهذا الباب: أن هذا التطير من صفات أعداء الرسل ومن خصال المشركين. وإذا كان كذلك فهو مذموم ومن خصال المشركين الشركية، وليست من خصال أتباع الرسل، وأما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر أو بما جعله الله -جل وعلا- لهم من ثواب أعمالهم أو العقاب على أعمالهم كما تعالى قال: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ الله } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } (يّس: 19).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية: قوله تعالى: { قالوا طائركم معكم } . أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } (يس: من الآية13).
فقالوا ذلك رداً على قوله أهل القرية: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } (يّس: من الآية18)؛ أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا؛ فأجابهم الرسل بقولهم: { طائركم معكم } ؛ أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم؛ فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.(32/3)
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها؛ لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله ، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم؛ فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم؛ لأن أعمالهم تستلزمه؛ كما قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } (الروم: من الآية41)، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف: 96).
ويُستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفاً من قبل العرب وفي غير العرب؛ لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: { أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } . ينبغي أن تقف على قوله: { ذكرتم } ؛ لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا؛ فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: { بل أنتم قوم مسرفون } . { بل } هنا للإضراب الإبطالي؛ أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: { مسرفون } . أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)(1) أخرجاه.
زاد مسلم: (ولا نوء، ولا غول)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/باب لا هامة، حديث (5757)، ومسلم: كتاب السلام/باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، حديث (2220)، (2222).
(2) انظر التخريج السابق فالرقم الأول في مسلم لأبي هريرة والثاني لجابر (رضي الله عنهما).(32/4)
(ت): قوله لا عدوى قال أبو السعادات العدوى اسم من الإعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والإبقاء يقال أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا يتقي مخالطته بابل أخرى حذار أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه انتهى وفي بعض روايات هذا الحديث فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول وفي رواية في مسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يورد ممرض على مصح ثم أن أبا هريرة اقتصر على حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه فقالوا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر وقد روى حديث لا عدوى جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وجابر بن عبدالله والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم فنسيان أبي هريرة له لا يضر وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا فردت طائفة حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه قالوا والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى وهذا ليس بشيء لأن حديث لا عدوى قد رواه جماعة كما تقدم وعكست طائفة هذا القول ورجحوا حديث لا عدوى وزيفوا ما سواه من الأخبار وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد وبأن عائشة أنكرته كما روى ابن جرير عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت ما قال ذلك ولكنه قال لا عدوى وقال فمن أعدى الأول قالت وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي وهذا أيضا ليس بشيء فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة وحملت طائفة أخرى الإثبات والنفي على حالتين مختلفتين فحيث جاء لا عدوى كان للمخاطب بذلك من قوي(32/5)
يقينه وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد لكن القوي اليقين لا يتأثر به وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها وحيث جاء الإثبات كان المراد به ضعيف الإيمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر وقال مالك لما سئل عن حديث فر من المجذوم ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء ومعنى هذا انه نفى العدوى أصلا وحمل الأمر بالمجانية على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع والى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد قلت وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله لا عدوى على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك ولهذا قال فر من المجذوم كما تفر من الأسد وقال لا يورد ممرض على مصح وقال في الطاعون من سمع به بأرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال فمن أعدى الأول يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده وروى الإمام أحمد والترمذي عن بن مسعود مرفوعا لا يعدي شيء قالها ثلاثا فقال الأعرابي يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن أجرب الأول لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها فأخبر - عليه السلام - أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وأما أمره بالفرار من المجذوم(32/6)
ونهيه عن إيراد الممرض على المصح وعن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك والأذى والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك كما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم وقدوم بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم ومن مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب.
(ق): فقوله: (لا عدوى) يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: (ولا طيرة). اسم مصدر تطير؛ لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36)؛ أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاماً بمعنى كلمته تكليماً، وسلمت عليه سلاماً بمعنى سلمت عليه تسليماً.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر.
(تم): ولا طيرة أي: مؤثرة أيضا فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب لا أثر له في قضاء الله وقدره السانح أو البارح أو النطيح أو القعيد لا أثر لها في حكم الله وفي ملكوته وفي قضائه وقدره.(32/7)
فخبر (لا) النافية للجنس تقديره (مؤثرة) أي: لا طيرة مؤثرة بل الطيرة شيء وهمي وكذلك قوله (ولا هامة ولا صفر) إلى آخر الحديث.
وقد سبق بيان أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب إذا كان معلوماً كما قال ابن مالك في آخر باب لا النافية للجنس في الألفية:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ……إذا المراد مع سقوطه ظهر
(ت): قوله ولا طيرة قال ابن القيم هذا يحتمل أن يكون نفيا أو يكون نهيا أي لا تتطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهي لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهي إنما يدل على المنع منه وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنا أناس يتطيرون فقال ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا إن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع - صلى الله عليه وسلم - علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة فما استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر وخرج طاووس مع(32/8)
صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى ملخصا ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعا لا طيرة والطيرة على من تطير فظاهر هذا أنها تكون سببا لوقوع الشر بالمتطير.
(ف): وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة، كقوله: (الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار)(1) ونحو هذا.
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد : ،حديث(2858) باب ما يذكر من شؤم الفرس ،مسلم ، كتاب السلام : ،حديث(2225) (116)، باب الطيرة والفأل ، وما يكون فيه من الشؤم. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه وأخرجه بهذا اللفظ.
قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" تعليقاً على حديث" إن يك من الشؤم شيء حق ففي المرأة و الفرس و الدار " برقم(442).
أخرجه أحمد ( 2 / 85 ) , حدثنا محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن عمر بن محمد ابن زيد أنه سمع أباه يحدث عن " ابن عمر " به مرفوعا .
و هذا سند صحيح على شرط الشيخين , و قد أخرجه مسلم ( 7 / 34 ) من هذا الوجه . و أخرجه البخاري من طريق أخرى عن عمر بلفظ : ( إن كان ... ) , و سيأتي إن شاء
و الحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم في شيء , لأن معناه : لو كان الشؤم ثابتا في شيء ما , لكان في هذه الثلاثة , لكنه ليس ثابتا في شيء أصلا. و عليه فما في بعض الروايات بلفظ " الشؤم في ثلاثة " . أو " إنما الشؤم في ثلاثة " فهو اختصار , و تصرف من بعض الرواة . و الله أعلم.(32/9)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطى غيرهما ولداً مشؤوماً يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوساً يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة. كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس. وخلق ضدها وجعلها سبباً لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل. فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى.
(ق): قوله: (ولا هامة). الهامة؛ بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قُتل القتيل؛ صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت؛ قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله - بلا شك - عقيدة باطلة.
(ف): قال الفراء: الهامة طير من طيور الليل. كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إلى نفسي أو أحداً من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.(32/10)
قوله: ولا صفر بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير.
وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك.
(ق): وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً؛ أي لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
(ف): قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
(ق): وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير؛ فالمؤثر هو الله ، فما كان منها سبباً معلوماً؛ فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً؛ فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً إن كان باطلاً.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله - - عز وجل - -؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة،
والجهل بالجهل؛ فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، وقولنا: إنه شهر خير؛ فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم؛ بناءً على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال؛ خيراً إن شاء الله ؛ فلا يُقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.(32/11)
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تُبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك؛ فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله - - عز وجل - -.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب؛ فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً؛ فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها؛ فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: (لا نوء). واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف؛ فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها؛ فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أُمطروا قالوا: مُطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مُطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟(32/12)
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له؛ فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس؛ فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يُقال: هذا من رحمة الله ، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } (النور: من الآية43)، وقال تعالى: { الله الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } (الروم: من الآية48)، فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه، فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه - - سبحانه وتعالى - -.
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها؛ فتنبه.
قوله: (ولا غول). جمع غولة أو غولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)؛ لأنها تهول الإنسان.
(ف): قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلوناً في صور شتى وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وأبطله.(32/13)
(ق): والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله ، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ الله } (المجادلة: من الآية10).
وهذا الذي نفاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تأثيرها؛ وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمداً على الله غير مبال بها؛ فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل) قالوا: وما الفأل؟ قال: (الكلمة الطيبة)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: في حديث أنس: (لا عدوى، ولا طيرة). تقدم الكلام على ذلك.
قوله: (ويعجبني الفأل). أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: (الكلمة الطيبة). فـ (الكلمة الطيبة) تعجبه - صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء؛ لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة، حتى إنها تُدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب /باب: الفأل حديث (5756)، ومسلم: كتاب السلام /باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم، حديث (2224).(32/14)
(ف): قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيئ من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أنه حبب إليه(1) من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم. بالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال. فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة الشرك.
وقال الحليمي: وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
(ق): وهذا الحديث جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بين محذورين ومرغوب؛ فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حُسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوباً، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه أحمد(3/128، 199، 285). والنسائي (7/61)في عشرة النساء: باب حب النساء. وصححه الألباني في صحيح الجامع(3119).(32/15)
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة ابن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني. واختلف في صحبته، فقال الماوردي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.
(ق): قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله ). وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): قوله: فقال أحسنها الفأل قد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع: يا نجيح، يا راشد "(2) وروى أبو داود عن بريدة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيئ، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه"(3) وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل.
__________
(1) أبو داود في كتاب الطب / باب في الطيرة، حديث (3919) وضعفه الشيخ الألباني كما في ضعيف أبي داود (843).
(2) صحيح: الترمذي :كتاب السير (1616): باب ما جاء في الطيرة .وقال :حسن غريب صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع(4854).
(3) صحيح: أبو داود: كتاب الطب ،حديث(3920) باب في الطيرة. وحسنه الحافظ في الفتح(10/215).وأخرجه أحمد أيضاً (5/347-348) .وصححه الألباني في الصحيحة (762).(32/16)
قال ابن القيم: أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.
قوله: ولا ترد مسلماً قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه.
(ق): قوله: (ولا ترد مسلماً). يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته؛ فليس بمسلم.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره). فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - دواء لذلك وقال: (فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات …) إلخ.
قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت). وهذا هو حقيقة التوكل، وقوله: (اللهم). يعني: يا الله ، ولهذا بُنيت على الضم؛ لأن المنادي علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركاً بالابتداء باسم الله - - سبحانه وتعالى - -، وصارت ميماً؛ لأنها تدل على الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله .
قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت). أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب لأن خالق هذه الأسباب هو الله ، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله ؛ صار الموجد حقيقة هو الله .
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.(32/17)
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية؛ كالصلاة والزكاة وغيرها؛ لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية؛ كالمال والولد ونحوها، قال تعالى: { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } (التوبة: 50)، وقال تعالى في آية أخرى: { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } (آل عمران: من الآية120).
وقوله: (إلا أنت). فاعل يأتي؛ لأن الاستثناء هنا مفرغ.
قوله: (ولا يدفع السيئات إلا أنت). السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً، ولا يدفعها إلا الله ، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق؛ دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب؛ فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه؛ فإنما أنقذه بمشيئة الله ، ولو شاء الله لم ينقذه؛ فالسبب من الله .
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا لله، ولا يدفع السيئات إلا الله ، وبمقتضى هذه العقيدة؛ فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله ، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا: { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } (آل عمران: من الآية38)، وقال تعالى عن أيوب: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (الأنبياء: 83)، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضا.
قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك). في معناها وجهان:(32/18)
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله؛ فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة؛ لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة؛ فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله؛ فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها؛ إذ إننا لا نتحول من حول إلى حول، ولا نقوى على ذلك إلا بالله؛ فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله ، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة.
فإن صح الحديث؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه أبو داود، والترمذي وصححه(1)، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: " الطيرة شرك، والطيرة شرك. وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.
__________
(1) أبو داود في كتاب الطب / باب في الطيرة، حديث (3910)، والترمذي حديث (1614)، وابن ماجة (3538) وهو صحيح كما في الصحيحة (429).
قلت: أما قوله (وما منا…ولكن يذهبه الله بالتوكل) فقد نص غير واحد من أهل العلم كالبخاري عن سليمان بن حرب كما قال الترمذي وأيضاً رجحه المنذري في الترهيب(4/64)، والهيثمي في الموارد (ص340) والحافظ في الفتح (10/213) وأيضاً ابن القيم في (مفتاح دار السعادة، في فصل: الطيرة).(32/19)
ورواه ابن ماجه وابن حبان. ولفظ أبي داود الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك. ثلاثاً وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى.
قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد.
قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الإصطلاحية؟
قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.
(ق): قوله: (الطيرة شرك، الطيرة شرك). هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضا من باب التوكيد اللفظي.
وقوله: (شرك). أي: إنها من أنواع الشرك، وليست الشرك كله، وإلا؛ لقال: الطيرة شرك.
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟
نقول: هي نوع من أنواع الشرك؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اثنتان في الناس هما بهم كفر)(1)؛ أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال: (هما بهم الكفر)، بل هما نوع من الكفر.
لكن في ترك الصلاة قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)(2)، فقال: (الكفر)؛ فيجب أن نعرف الفرق بين (أل) المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر؛ فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر؛ فهو المخرج من الملة.
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، حديث (67).
(2) مسلم: كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، حديث (82).(32/20)
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه؛ فإنه لا يعد مشركا شركا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركا من هذه الناحية، والقاعدة: (إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببا؛ فإنه مشركٌ شركا أصغر).
وهذا نوع من الإشراك مع الله ؛ إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعيا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونيا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله ؛ فهو مشرك شركا أكبر؛ لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد.
قوله: (وما منا). (منا): جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلا؛ أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا)؛ أي: وما منا إلا متطير.
والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير؛ فالإنسان يسمع شيئا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل؛ فيجد أو له ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه.
(ف): قوله: (وما منا إلا) قال أبو القاسم الأصبهاني، والمنذري: في الحديث إضمار. التقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيئ من ذلك. أ.هـ.
وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة. وهذا من أدب الكلام.
قوله: ولكن الله يذهبه بالتوكل أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
(ق): والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا.
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به؛ لأنه سبحانه يقول: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه) !(32/21)
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود). وهو قوله: (وما منا إلا…) إلخ. وعلى هذا يكون موقوفا، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاما في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر.
مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)(1)، فقوله: (اسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة، وقوله: (ويل للأعقاب من النار) من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء)(2)، والتحنث: التعبد، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته؛ فليفعل)(3)؛ فهذا من كلام أبي هريرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولأحمد من حديث ابن عمرو: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الوضوء / باب غسل الأعقاب، حديث (165)، ومسلم: كتاب الطهارة / باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، حديث (240).
(2) البخاري: كتاب بدء الوحي / باب كيف بدء الوحي، حديث (4)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , حديث (4).
(3) البخاري: كتاب الوضوء / باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء حديث (136)، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث (246).
(4) الإمام أحمد في (المسند) (2/220)، حديث (7045)، وذكره الهيثمي في المجمع (5/105)، وقال: (رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات).(32/22)
(ف): قال: ولأحمد من حديث ابن عمر: " ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ".
هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات.
قوله: من حديث ابن عمرو وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو a. وقيل أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء. مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف.
(ق): قوله: (من ردته الطيرة عن حاجته). (من). شرطية، وجواب الشرط: (فقد أشرك)، واقترن الجواب بالفاء؛ لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:
اسمية طلبية وبجامد ……وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: (عن حاجته). الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق على الأمور الضرورية.
قوله: (فقد أشرك). أي: شركا أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببا فقط فهو أصغر؛ لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي: (إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونا ولا شرعا؛ فشركه شرك أصغر؛ لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببا كونيا أو شرعيا؛ فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها).
وقوله: (فما كفارة ذلك). أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأن الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق؛ فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع.(32/23)
(ف): وتضمن الحديث أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لا يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره، لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: ' 4: 79 ' " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ".
(ق): وقوله: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك). يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر؛ كالمطر والنبات، وغير المباشر؛ كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك؛ فهذا الخير من الله ، لكن بواسطة جعلها الله سببا، وإلا فكل الخير من الله -عز وجل-.
وقوله: (فلا خير إلا خيرك). هذا الحصر حقيقي؛ فالخير كله من الله ، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: (لا طير إلا طيرك). أي: الطيور كلها ملكك؛ فهي لا تفعل شيئا، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } (الملك: 19)، وقال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (النحل: 79)؛ فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله ؛ فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يمينا وشمالا، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان؛ فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة؛ فإنه من الله كما أن الخير من الله ؛ كما قال تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } (الأعراف: 131).(32/24)
لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير؛ إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيرا. فيكون قوله: (لا طير إلا طيرك) مقابلا لقوله: (ولا خير إلا خيرك).
قوله: (ولا إله غيرك). (لا) نافية للجنس، و(إله) بمعنى: مألوه؛ كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيما يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيما له.
فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله ؛ كما قال تعالى: { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله مِنْ شَيْء } (هود: من الآية101).
أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة؛ فليست آلهة حقا لأنها لا تستحق أن تعبد؛ فلهذا نقول: لا إله إلا الله ؛ أي: لا إله حق إلا الله .
يستفاد من هذا الحديث:
أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة؛ فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ؛ لأنه ما دامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية؛ فلا تهتم بما حدث.
أن الطيرة نوع من الشرك؛ لقوله: (من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك).
أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة؛ فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)(1).
أن الأمور بيد الله خيرها وشرها.
انفراد الله بالألوهية؛ كما انفرد بالخلق والتدبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك(2)
__________
(1) أبو داود: كتاب الطب / باب: في الطيرة، حديث (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجة (3538)وآخره مدرج من قول ابن مسعود كما تقدم في الشرح والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (3960).
(2) الإمام أحمد في (المسند)، حديث (1824).(32/25)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في حديث الفضل (إنما الطيرة) هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصرا؛ أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها؛ فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع؛ إذ الأمر كله بيد الله .
قوله: (ما أمضاك أو ردك). أما (ما ردك)؛ فلا شك أنه من الطيرة؛ لأن التطير يوجب الترك والتراجع.
وأما (ما أمضاك)؛ فلا يخلو من لأمرين:
الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين؛ فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم؛ فهذا لاشك أنه تطير؛ لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح؛ لأنه لا وجه له؛ إذ الطير إذا طار؛ فإنه يذهب إلى الذي يرى أنه وجهته، فإذا اعتمد عليه؛ فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سببا، وهو حركة الطير.
الثاني: أن يكون سبب المضي كلاما سمعه أو شيئا شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له؛ فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن إن اعتمد عليه وكان سببا لإقدامه؛ فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطا في طلبه؛ فهذا من الفأل المحمود. والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه.
- - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } مع قوله: { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } .
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقوله من وجده.(32/26)
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } ، مع قوله: { طائركم معكم } . أي: لكي يتنبه الإنسان، فإن ظاهر الآيتين التعارض، وليس كذلك؛ فالقرآن والسنة لا تعارض بينهما ولا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب، وقد سبق بيان الجمع أن قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } أن الله هو المقدر ذلك، وليس موسى ولا غيره من الرسل، وأن قوله: { طائركم معكم } من باب السبب؛ أي: أنتم سببه.
الثانية: نفي العدوى. وقد سبق أن المراد بنفيها نفي تأثيرها بنفسها لا أنها سبب للتأثير؛ لأن الله قد جعل بعض الأمراض سببا للعدوى وانتقالها.
الثالثة: نفي الطيرة. أي: نفي التأثير لا نفي الوجود.
الرابعة: نفي الهامة. والخامسة: نفي الصفر. وقد سبق تفسيرهما.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. تؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يعجبني الفأل)(1)، وكل ما أعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو حسن، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله)(2).
السابعة: تفسير الفأل. فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه: الكلمة الطيبة، وسبق أن هذا التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر؛ لأن الفأل كل ما ينشط الإنسان على شيء محمود؛ من قول، أو فعل مرئي أو مسموع.
__________
(1) تقدم تخريجه قريباً في هذا الباب وهو في الصحيحين.
(2) البخاري: كتاب الوضوء / باب التيمن في الوضوء والغسل، حديث (168)، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب التيمن في الطهور وغيره، حديث (268).(32/27)
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. أي: إذا وقع في قلبك وأنت كاره له؛ فإنه لا يضرك ويذهبه الله بالتوكل؛ لقول ابن مسعود: (وما منا إلا … ولكن الله يذهبه بالتوكل)(1).
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده. سبق أنه شيئان:
أن يقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). أو يقول: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك).
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. وسبق أن الطيرة شرك، لكن بتفصيل، فإن اعتقد تأثيرها بنفسها؛ فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنها سبب؛ فهو شرك أصغر.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة. أي: ما أمضاك أو ردك.
- - - - -
__________
(1) تقدم تخريجه قريباً.(32/28)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في التنجيم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله : التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية.
وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه.
(ق): التنجيم: مصدر نجم بتشديد الجيم؛ أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم.
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
1- علم التأثير. 2- علم التسيير
فالأول: علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور؛ فهذا شرك أكبر؛ لأن من ادعى أن مع الله خالقا؛ فهو مشرك شركا أكبر؛ فهذا جعل المخلوق المسخر خالقا مسخرا.
أن يجعلها سبباً يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا؛ لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء؛ لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة؛ لأنه ولد في النجم الفلاني؛ فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة؛ لأن الله يقول: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله } (النمل: من الآية65)، وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب؛ فقد كذب القرآن.
أن يعتقدها سببا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه؛ فهذا شرك أصغر.(33/1)
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الكسوف: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)(1)؛ فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه لا يسلم أن للكسوف تأثيرا في الحوادث والعقوبات من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)(2)، لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب.
الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيراً؛ فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصاً به.
لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلاً أن لهما تأثيراً في هذا؛ لأن الحديث لا يقتضيه؛ فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوفة عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط.
الثاني: علم التسيير. وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية؛ فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجباً، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة؛ فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة؛ فهذا فيه فائدة عظيمة.
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية؛ فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات؛ كمعرفة أن القطب يقع شمالاً، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالاً، وهكذا؛ فهذا جائز، قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } (النحل: 16).
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة / باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يخوف الله عباده بالكسوف، (1048)، ومسلم: كتاب الكسوف / باب: ما عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (907).
(2) التخريج السابق.(33/2)
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر؛ فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون. والذين كرهوه قالوا: يُخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني؛ فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح. والصحيح عدم الكراهة؛ كما سيأتي إن شاء الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. أ.هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة، ولفظه قال: إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيئ انتهى.
فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمصار فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ق): قوله في أثر قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث). اللام للتعليل؛ أي: لبيان العلة والحكمة.(33/3)
قوله: (لثلاث). ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد.
والثلاث هي:
الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } (الملك: من الآية5)؛ لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله ؛ فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد.
وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟
الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (الأنبياء: 33)؛ أي: يدورون، كل له فلك.
وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها؛ فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان.
إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء.
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: { زينا السماء الدنيا } ؟
قلنا: إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقاً له، أرأيت لو أن رجلاً عمر قصراً وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه؛ فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له.(33/4)
الثانية: رجوماً للشياطين؛ أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس؛ لأن شياطين الإنس لم يصلوها، لكن شياطين الجن وصلوها؛ فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } (صّ: 37)؛ أي: سخرنا لسليمان: { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } (صّ: 38) وقال تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } (النمل: من الآية39)، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ؛ فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفوذهم.
وقال تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } (الجن: 9). والرجم: الرمي.
الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون } (النحل: 16)؛ فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدي بها:
الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة؛كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها.
والثاني: أفقية في قوله تعالى: { وبالنجم هم يهتدون } .
والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين؛ لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، سواء جهات القبلة أو المكان، برا أو بحرا.
وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم؛ لأنك في الليل لا تشاهد جبالا ولا أودية، وهذا من تسخير الله ، قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه } (الجاثية: من الآية13).
(ف): فإن قيل: المنجم قد يصدق؟ قيل: صدقه كصدق الكاهن، ويصدق في كلمة ويكذب في مائة. وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدراً، فيكون فتنة في حق من صدقه.(33/5)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ' 16: 15 ' { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون - وعلامات } فقوله: علامات معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض، ثم استأنف فقال: { وبالنجم هم يهتدون } ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإبطال علم التنجيم، كقوله: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر. زاد ما زاد ".
[وعن رجاء بن حيوة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن مما أخاف على أمتي: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة " رواه عبد بن حميد. وعن أبي محجن مرفوعاً: " أخاف على أمتي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم وتكذيباً للقدر " رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي](1).
وعن أنس - رضي الله عنهم - مرفوعاً "أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وإيمان بالنجوم "(2) رواه أبو يعلي وابن عدي والخطيب في كتاب النجوم وحسنه السيوطي أيضاً. والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وكره قتادة تعلم منازل القمر). أي: كراهة تحريم بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا.
__________
(1) صحيح: أما حديث رجاء بن حيوة فمرسل ،وأما حديث أبي محجن فأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/35)أيضاً واسناده ضعيف ، كما في الصحيحة (3/119)والحديث له شواهد كثيرة عن أبي الدرداء وأنس وغيرهما يرتقي بها إلى درجة الصحة كما قال الألباني في الصحيحة(1127).
(2) حسن : أبو يعلى في مسنده (1023)وابن عدي في الكامل (4/1350) واسناده ضعيف فيه يزيد الرقاشي إلا أن للحديث شواهد.فالحديث كما قال المناوي في الفيض (1/204):"حسن لغيره".(33/6)
وقوله: (تعلم منازل القمر) يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل؛ فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة؛ لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيا وعشرين وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب.
الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم؛ أي: يخرج النجم الفلاني في اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول؛ لأنها (28) نجما، منها (14) يمانية و(14) شمالية؛ فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية.
قوله: (ولم يرخص فيه ابن عيينة). هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة.
(ف): قال الخطابي: أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً أكثر من أن الظل ما دام متناقصاً فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته. وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم.انتهى.(33/7)
وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل منازل القمر. وروى عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. قال ابن رجب: والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم، قليله وكثيره. وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه منه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور.
قوله: ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو a الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد. روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم. وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين. وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري، الإمام المعروف بابن راهويه. روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم. قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وروى هو أيضاً عن أحمد. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.
(ق): والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر؛ لأنه لا شرك فيها؛ إلا إن تعلمها ليضف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك؛ فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل الربيع، أو الخريف، أو الشتاء؛ فهذا لا بأس به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ضعيف: أحمد(4/399) وابن حبان (1380، 1381-موارد), والحاكم( 4/146)واسناده ضعيف وضعفه الألباني في ضعيف الجامع(2597).(33/8)
(ف): هذا الحديث رواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي. وتمامه ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن.
قوله: وعن أبي موسى هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار - بفتح المهملة وتشديد الضاد، أبي موسى الأشعري. صحابي جليل. مات سنة خمسين.
(ق): قوله: (مدمن خمر). هو الذي يشرب الخمر كثيرا، والخمر حده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (كل مسكر خمر)(1) ومعنى (أسكر)؛ أي: غطى العقل، وليس كل ما غطى العقل فهو خمر؛ فالبنج مثلا ليس بخمر، وإذا شرب دهنا فأغمي عليه؛ فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة والطرب؛ فتجد الشارب يحس أنه في منزلة عظيمة وسعادة وما أشبه ذلك، قال الشاعر:
ونشربها فتتركنا ملوكا ……وأسدا ما يهنئها اللقاء
وقال حمزة بن عبد المطلب - وكان قد سكر قبل تحريم الخمر- للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهل أنتم إلا عبيد أبي)(2)؛ فالذي يغطي العقل على سبيل اللذة محرم بالكتاب والسنة، ومن استحله، فهو كافر، إلا إن كان ناشئاً ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك، فإنه يعرف ولا يكفر بمجرد إنكاره تحريمه.
قوله: (قاطع رحم). الرحم: هم القرابة، قال تعالى: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأنفال: 75]، وليس كما يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين، لأن هذه تسمية غير شرعية، والشرعية في أقارب الزوجين: أن يسموا أصهاراً.
__________
(1) مسلم: كتاب الأشربة / باب: بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، حديث (2003).
(2) البخاري: كتاب المساقاة/ باب بيع الحطب، حديث (2375)، ومسلم: كتاب الأشربة / باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب، حديث (1979).(33/9)
ومعنى قاطع الرحم: أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ } (الرعد: من الآية21)، ومنه الأرحام وما جاء مطلقا غير مقيد؛ فإنه يتبع فيه العرف كما قيل:
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع…… كالحرز فبالعرف احدد(1)
فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسرة والطعام دائما، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك.
وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد؛ فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد.
ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقا لابد من القيام به، ويريد أن تصله دائما، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها؛ فهذا له حكم، وذلك له حكم.
والقطيعة يرجع فيها العرف؛ إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقا، بأن كنا في أمة تشتتت وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية؛ فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لابد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة؛ فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله.
والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك؛ لأن هذا مكافأة، وليست صلة؛ لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل؛ كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من إذا قطعت رحمه وصلها)(2)، هذا هو الذي يريد وجه الله والدار الآخرة.
وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟
الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها.
__________
(1) انظر منظومة الشيخ ابن عثيمين في (الأصول) ص(31) وقد نشرت في مجلة [الحكمة] السعودية العدد الأول.
(2) البخاري: كتاب الآداب / باب ليس الواصل بالمكافئ، حديث (5991).(33/10)
قوله: (ومصدق بالسحر). هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به؛ فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: (أن من اقتبس شعبه من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر)(1)، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به؛ فإنه لا يدخل الجنة؛ لأنه صدق بعلم الغيب لغير الله ، قال تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله } (النمل: من الآية65).
فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاما ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟
أجيب: إن المصدق بما يخبره به السحرة من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرا؛ فلا يلحقه هذا الوعيد؛ إذ لاشك أن للسحر تأثيرا، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصا فيجعله يحب فلانا ويبغض فلانا؛ فهو مؤثر، قال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } (البقرة: من الآية102)؛ فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع.
أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبا أو نحو ذلك؛ فلا شك في دخوله في الوعيد؛ لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله - - عز وجل - -.
قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة). هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟
الجواب: لا؛ لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء؛ فهذا الحديث لا يدل على الحصر.
وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟
اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال:
__________
(1) تقدم في باب: بيان شيء من أنواع السحر، وهذا حسن.(33/11)
القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل؛ فإنه لابد أن يدخل الجنة.
القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل؛ فلابد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب؛ لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلا؛ فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر.
القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت؛ فمثلا: قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } (النساء: 93)، هذه الآية من نصوص الوعيد؛ فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول: هكذا قال الله ، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف؛ كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر.
القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد؛ فيقال: لا يدخلون الجنة دخولا مطلقا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يصدق بعضها بعضا، ويلائم بعضها بعضا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة؛ فتقيد النصوص بعضها ببعض.(33/12)
وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حري أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرا، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال؛ لأن من مات على الكفر؛ فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال المرء في فسحه من دينه ما لم يصب دما حراما)(1)؛ فيكون هذا قولا خامسا.
(ف): وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله ، فإن عذبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق) :فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم. وهي ثلاث:
أنها زينة للسماء.
ورجوم للشياطين.
وعلامات يهتدى بها.
وربما يكون هناك حِكم أخرى لا نعلمها.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. لقول قتادة: (من تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به).
ومراد قتادة في قوله: (غير ذلك) ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة؛ فلا ضلال لمن تأوله.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. سبق ذلك.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه؛ فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل؛ لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته؟!.
__________
(1) البخاري: كتاب الديات / باب قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا … } ، حديث (6862).(33/13)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): الاستسقاء: طلب السقيا كالاستغفار: طلب المغفرة، والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوز، والاستهداء: طلب الهداية، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر، أي بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا ! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر، لأنه دعا غير الله ، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } (المؤمنون: 117) وقال تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً } (الجن: 18) وقال تعالى { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } (يونس: 106) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله وأنه من الشرك الأكبر.
الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة، لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة.
القسم الثاني: شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سببا مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سببا لم يجعله الله سببا لا بوحيه ولا بقدره، فهو مشرك شركا أصغر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(34/1)
وقول الله تعالى { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } (الواقعة: 82)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: { وتجعلون } . أي: تصيرون، وهي تنصب مفعولين: الأول { رزق } ، والثاني: { أن } ، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم.
والمعنى: تكذبون أنه من عند الله ، حيث تضيفون حصوله إلى غيره.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب.
(ق): قوله: { رزقكم } .الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر، فيشمل معنيين:
الأول: أن المراد به رزق العلم، لأن الله قال: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ - وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ - إنه لقرآن كريم - في كتاب مكنون - لا يمسه آلا المطهرون - تنزيل من رب العالمين - أفبهذا الحديث أنتم مدهنون - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون - وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } (الواقعة: 75 -83) أي تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به وهذا هو ظاهر سياق الآية.(34/2)
الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روى في ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه ضعيف(1) إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء(2)، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسبا للباب تماما.
والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعا بدون منافاة تحمل عليهما جميعا، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح.
ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا أن المراد به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟!.
واعلم أن التكذيب نوعان:
أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول: هذا كذب، أو المطر من النوء، ونحو ذلك.
والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقدا أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوما، فقال: (يا أيها الناس ! إن كنتم مصدقين، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين، فأنتم هلكى) وهذا صحيح، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك، فكل إنسان عاص نقول له الآن أنت بين أمرين:
__________
(1) الإمام أحمد في المسند (1/ 89، 108) والترمذي: كتاب تفسير القرآن، سورة الواقعة، حديث (3295)، وقال احمد بن شاكر: (إسناده ضعيف) المسند (-677)، وفي إسناده ضعف.
(2) البخاري: كتاب الاستسقاء / باب قول الله تعالى { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } (الواقعة: 82).(34/3)
إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقا، فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟! وإن كنت غير مصدق، فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: في حديث أبي مالك: (أربع في أمتي). الفائدة من قوله: (أربع) ليس الحصر، لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد، لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ.
قوله: (من أمر الجاهلية). أمر هنا بمعنى شأن، أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقوله: (من أمر الجاهلية) إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسان يقال: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
التنفير
بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلا بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.(34/4)
والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله ، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن. لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم، قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران: 164). فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية:
يتلو عليهم آيات الله .
ويزكيهم، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها.
ويعلمهم الكتاب.
والحكمة.
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بيّن الحال من قبل فقال { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران: 164). و { إن } هذه ليست نافية، بل مؤكدة، فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذا المراد بالجاهلية ما قبل البعثة، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم. فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله وحقوق عباده، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله ، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر.(34/5)
قوله: (لا يتركونهن). المراد لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعا، إنما الأمة كمجموع لا بد أن يوجد فيها شيء من ذلك، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، والمراد بهذا الخبر التنفير، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى)(1) أي: فاحذروا، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - (أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضر موت لا تخشى إلا الله )(2)، أي بلا محرم، وهذا خبر واقع وليس إقرارا له شرعا.
قوله: (أمتي). أي: أمة الإجابة.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذماً لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى: ' 33: 33 ' " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " فإن في ذلك ذماً للتبرج وذماً لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.
(ق): قوله (الفخر بالأحساب)الفخر: التعالي، والتعاظم، والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، حديث (7320).
(2) البخاري: كتاب المناقب / باب: علامات النبوة في الاسلام، حديث (3595).(34/6)
والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأنه يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعا للحق والخلق.
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولىَ } (الأحزاب: الآية33) واعلم أن كل ما ينسب للجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
(ف): ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعاً: " إن الله قد أذهب عنكم عُبيا الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "(1).
(ق): قوله: (الطعن في الأنساب) الطعن: العيب، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعنا.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدباغ، أو أنت ابن مقطعة البظورـ وهي شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء.
(ف): ولما عير أبو ذر - رضي الله عنه - رجلاً بأمه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " متفق عليه. فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية، وأن المسلم قد يكون فيه شيئ من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام رحمه الله .
__________
(1) حسن: أبو داود: كتاب الأدب ،حديث(2116) باب في التفاخر بالأحساب وحسنه المنذري في الترغيب (3/614) وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (ص73).(34/7)
قوله: والاستسقاء بالنجوم أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم. كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أخاف على أمتي ثلاثاً: استسقاء بالنجوم. وحيف السلطان. وتكذيباً بالقدر "(1).
فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا. فلا يخلوا إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر. فهذا شرك وكفر. وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعاً، أو يدفع عنهم ضراً. أو أنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه وقتال من فعله. كما قال تعالى: ' 8: 39 ' { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } والفتنة الشرك، وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده. لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح في الفروع: بأنه يحرم قول مطرنا بنوء كذا وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، ولم يذكر خلافاً. وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شيئ، فيكون ذلك شركاً أصغر. والله أعلم.
(ق): قوله (والنياحة على الميت) هذا هو الرابع، والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصدا، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح، كنوح الحمام.
والندب: تعداد محاسن الميت.
والنياحة من أمر الجاهلية، ولابد أن تكون في هذه الأمة، وإنما كانت من أمر الجاهلية:
إما من الجهل الذي هو ضد العلم.
أو من الجهالة التي هي السفه، وهي ضد الحكمة.
وإنما كانت لأمور، هي:
أنها لا تزيد النائح إلا شدة وحزنا وعذابا.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (5/89، 90)وصححه الألباني لشواهده في السنة لابن أبي عاصم رقم(324).(34/8)
أنها تسخط من قضاء الله وقدره واعتراض عليه.
أنها تهيج أحزان غيره.
وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله - وهو من علمائنا الحنابلة - أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال: { يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } (يوسف: 78)، فقال له ابن عقيل رحمه الله : إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان، وليس لتهيج الأحزان.
أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء، ولا يرفع ما نزل.
والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو امرأة، لكن الغالب وقوعها من النساء، ولهذا قال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها)، أي: إن تابت قبل الموت، تاب الله عليها، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة، وأن الحسنات لا تمحوه، لأنه من كبائر الذنوب، والكبائر لا تمحى بالحسنات، فلا يمحوها إلا التوبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال:(النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)(1).رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: والنائحة إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضاً الحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله ، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئاً وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً: " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"(2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان.
(ق): قوله: (تقام يوم القيامة). أي تقام من قبرها.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز / باب التشديد في القيامة، حديث (934).
(2) حسن: أخرجه أحمد (2/132، 153) والترمذي: كتاب الدعوات، (3537):/ باب في فضل التوبة والاستغفار. وحسنه .وابن ماجة : كتاب الزهد (4253) :باب ذكر التوبة .وابن حبان (2249) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1899).(34/9)
قوله: (وعليها سربال من قطران) السربال: الثوب السابغ كالدرع، والقطران معروف، ويسمى (الزفت)، وقيل: إنه النحاس المذاب.
قوله: (ودرع من جرب) الجرب: مرض معروف يكون في الجلد، يؤرق الإنسان، وربما يقتل الحيوان، والمعنى أن كل جلدها يكون جربا بمنزلة الدرع، وإذا اجتمع القطران وجرب زاد البلاء، لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به، فكيف ومعه قطران؟
والحكمة أنها لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب، فكانت العقوبة من جنس العمل.
(ف): قال القرطبي: السربال واحد السرابيل، وهي الثياب والقميص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهم كالقمص، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمهن بسبب الجرب أشد. وروى عن ابن عباس: إن القطران هو النحاس المذاب.
(ق): ويستفاد من الحديث:
ثبوت رسالته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر.
التنفير من هذه الأشياء الأربعة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت.
أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة، وكل ذنب عليه الوعيد في الآخرة، فهو من الكبائر.
أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح، لقوله (إذا لم تتب قبل موتها).
أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت، لقوله (إذا لم تتب قبل موتها) ولقوله { وليْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ } (النساء: من الآية18).
أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، فمن أهل العلم من قال إنه داخل تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.(34/10)
ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لا بد أن يعاقب، والى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية لإطلاق قوله تعالى { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: من الآية48)، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا)(1). لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذبا من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب.
ثبوت الجزاء والبعث.
أن الجزاء من جنس العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم ؟)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال: (ولهما عن زيد بن خالد - رضي الله عنه -)
زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل: غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.
(ق): قوله في حديث زيد بن خالد (صلى لنا.أي: إماما، لأن الإمام يصلى لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب، وقيل: إن اللام للتعليل، أي صلى لأجلنا.
قوله: (صلاة الصبح بالحديبية). أي صلاة الفجر، والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهي اسم بئر سمي بها المكان، وقيل: إن أصلها شجرة حدباء تسمى حديبية، والأكثر على أنه بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة من الهجرة عندما قدم معتمرا، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي.
__________
(1) عبد الرزاق (8/469)، والطبراني في الكبير (8902)، والهيثمي في مجمع الزوائد. وقد سبق تخريجه.(34/11)
قوله: (على إثر سماء كانت من الليل). الإثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير.
قوله: (سماء). المراد به المطر.
قوله: (كانت من الليل). (من) لابتداء الغاية، هذا هو الظاهر - والله أعلم - ويحتمل أن تكون بمعنى (في) للظرفية.
قوله: (فلما انصرف). أي: من صلاته وليس من مكانه بدليل قوله: (أقبل على الناس)
قوله: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟). الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم، وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله ، لأن الوحي لا ينزل عليهم.
ومعنى قوله (هل تدرون). أي: هل تعلمون.
والمراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة، لأن ربوبية الله خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة، لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه إشكال نحوي، لأن (أعلم) خبر عن اثنين، وهي مفرد، فيقال إن اسم التفضيل إذا نوى به معنى (من) وكان مجردا من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، حديث (846)، مسلم: كتاب الإيمان / باب كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (71).(34/12)
وفيه أيضا إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا !)(1) فيقال: إن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأما إنكاره على من قال ما شاء وشئت، فلأنه أمر كوني، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له شأن في الأمور الكونية.
والمراد بقولهم: ( الله ورسوله اعلم) تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون.
قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر). (مؤمن) صفة لموصوف محذوف، أي عبد مؤمن، وعبد كافر.
و(أصبح): من أخوات كان، واسمها: (مؤمن) وخبرها: (من عبادي) ويجوز أن يكون (أصبح) فعلاً ماضياً ناقصا، وأسمها ضمير الشأن، أي: أصبح الشأن، ف (من عبادي)خبر مقدم، و(مؤمن): مبتدأ مؤخر، أي أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر.
قوله: (فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته). أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، والفضل: العطاء والزيادة.
والرحمة: صفة من صفات الله . يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق.
وقوله: (فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب). لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيرا في نزوله، بل نزل بفضل الله .
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب: يستقبل الإمام الناس اذا سلم، حديث (846)، وفي الأدب المفرد (783)، ومسلم: كتاب الايمان / باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (71)، والإمام أحمد في المسند (1/214) وابن ماجه كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المسند 1839).(34/13)
قوله: (وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا). الباء للسببية، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وصار كافرا بالله، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سببا، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسى نعمة الله ، وهذا الكفر لا يخرج من الملة، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس النوء على أنه فاعل.
لأنه قال (مطرنا بنوء كذا) ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا، لأنه لو قال ذلك، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله (مُطرنا بنوء كذا) نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، لأنه لو كان هذا هو المراد، لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مُطرنا به.
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله ، ولكن النوء هو السبب، فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
والمراد بالكوكب النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وليسو ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر.
نسبة سبب، وهذا شرك أصغر.
نسبة وقت، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مُطرنا بنوء كذا، أي: جاءنا المطر في هذا النوء أي في وقته.(34/14)
ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بينهما أن الباء للسببية، و(في) للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ، لأن لفظ الحديث: (من قال مطرنا بنوء كذا)، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبالليل } (الصافات: 137)، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، فـ (في) للظرفية أظهر منها للسببية، وإن جاءت للسببية كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (دخلت امرأة النار في هرة)(1).
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقا، ولا يظن أنها تأتي سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: (قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات(2) { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ*وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } (الواقعة: 75 -82).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري كتاب المساقاة / باب فضل سقي الماء، حديث (2365)، ومسلم: كتاب السلام / باب تحريم قتل الهرة، حديث (2242).
(2) مسلم: كتاب الإيمان / باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (73)، وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (ص 203).(34/15)
(ف): قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد: وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إلى إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث. فنهى الشارع عن إطلاق ذلك لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم. انتهى.
قوله: فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد - يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك، كما قال تعالى: ' 29: 63 ' " { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر، وقد يعتقد هؤلاء أن النوء فيه شيئاً من التأثير، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقد الذي ذكره. فلا اعتراض عليه بالآية للاحتمال المذكور.
(ق): قوله: (ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فالحديث في(مسلم) وليس في (الصحيحين)(1).
ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت (وقل أن يخلف نوؤه) أو: (هذا نوؤه صادق)، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله - - عز وجل - - على عباده وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله ، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله ، والنوء لم يجعله الله سببا.
قوله: { فلا أُقسم بمواقع النجوم } . اختلف في { لا } فقيل نافية، والمنفي محذوف، والتقدير: لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة، أُقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم.
__________
(1) لعله وهم فإني لم أجده في البخاري.(34/16)
فأقسم لا علاقة بـ { لا } إطلاقا، وهذا له بعض الوجه، وقيل: إن المنفي القسم، فهي داخلة على أُقسم، أي: لا أُقسم ولن أُقسم على أن القرآن قرآن كريم، لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم، وهذا ضعيف جدا.
وقيل: إن { لا } للتنبيه، والجملة بعدها مثبتة، لأن { لا } بمعنى انتبه، أقسم بمواقع النجوم... وهذا هو الصحيح.
فإن قيل: ما الفائدة من إقسامه سبحانه مع أنه صادق بلا قسم، لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه، فلا حاجة إليه، وإن كان لقوم لا يؤمنون به، فلا فائدة منه، قال تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } (البقرة: من الآية145).
أُجيب: أن فائدة القسم من وجوه:
الأول: أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم، وإن كانت معلومة عند الجميع، أو كانت منكرة عند المخاطب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
الثاني: أن المؤمن يزداد يقينا من ذلك، ولا مانع من زيادة المؤكدات التي تزيد في يقين العبد، قال تعالى عن إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (البقرة: من الآية260).
الثالث: أن الله يقسم بأمور عظيمة دالة على كمال قدرته وعظمته وعلمه، فكأنه يقيم في هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به.
الرابع: التنويه بحال المقسم به، لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهذان
الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويها له بها وتنبيها على عظمها.
الخامس: الاهتمام بالمقسم عليه، وأنه جدير بالعناية والإثبات.(34/17)
وقوله: { فلا اُقسم بمواقع النجوم } الله - سبحانه - يتحدث عن نفسه بضمير المفرد، لأنه يدل على الانفراد والتوحيد، فهو سبحانه واحد لا شريك له، يتحدث عن نفسه بضمير الجمع، لأنه يدل على العظمة، كقوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر: 9) وقوله: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ... } (يس: 12)، ولا يتحدث عن نفسه بالمثنى، لأن المثنى محصور باثنين.والباء حرف قسم، والمواقع جمع موقع.
واختلف في النجوم، فقيل: إنها النجوم المعروفة، فيكون المراد بمواقعها مطالعها ومغاربها.
وأقسم الله بها، لما فيها من الدلالة على كمال القدرة في هذا الانتظام البديع وما فيها من مناسبة المقسم به والمقسم عليه، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب، فإن السماء عند نزول الوحي ملئت حرسا شديدا وشهبا.
وقيل: إن المراد آجال نزول القرآن، ومنه قولهم: (نزل القرآن مُنجّما) وقول الفقهاء: يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلا بنجمين فأكثر، فيكون الله أقسم بمواقع نزول القرآن، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة، وهي أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان تحمل الآية على كل منهما، وإلا، طلب المرجح.
قوله: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } . { لقسم } : خبر إن، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام تنويها بالمقسم عليه وتعظيمه.
وقوله: { لو تعلمون } . مؤكد ثالث كأنه قال: ينبغي أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه، فهو أعظم من أن يكون مجهولا، فإنه يحتاج إلى علم وانتباه، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته، فانتبهوا.(34/18)
قوله: { لقرآن } مصدر مثل الغفران والشكران بمعنى أسم الفاعل، وبمعنى اسم المفعول، فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها وبمعنى اسم الكتب السابقة من المصالح والمنافع، قال تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } (المائدة: من الآية48)، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع، لأنه مجموع مكتوب.
قوله: { كريم } يطلق على كثير العطاء، وهذا كمال في العطاء متعد للغير، ويطلق على الشيئ البهي الحسن، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إياك وكرائم أموالهم)(1)، أي: البهي منها والحسن، وهذا كمال في الذات وهذان المعنيان موجودان في القرآن، فالقرآن لا أحسن منه بذاته، قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } (الأنعام: 115).
(ف): قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم، وهو من كل شيئ أحسنه وأفضله. والله - سبحانه وتعالى - وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
__________
(1) البخاري كتاب الزكاة / باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد إلى الفقراء، حديث (1496)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث (19).(34/19)
(ق): والقرآن يعطى أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية، قال تعالى { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } (الفرقان: 52). فهو سلاح لمن تمسك به، ولكن يحتاج إلى أن نتمسك به بالقول والعمل والعقيدة، فلا بد أن يصدق العقيدة والعمل، قال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب)(1)، ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة، والقرآن جامع بين الأمرين: فيه قوة وعظمة، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به.
قوله: { في كتاب مكنون } كتاب فعال بمعنى مفعول، مثل: فراش بمعنى مفروش، وغراس بمعنى مغروس، وكتاب بمعنى مكتوب.
والمكنون: المحفوظ، قال تعالى { كأنهن بيض مكنون } (الصافات: 49)واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين:
الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء.
الثاني: وإليه ذهب ابن القيم أنه الصحف التي في أيدي الملائكة(2)، قال تعالى { كلا إنها تذكرة - فمن شاء ذكره - في صحف مكرمة - مرفوعة مطهرة - بأيدي سفرة.. } (عبس: 11-15) فقوله: { بأيدي سفرة } يرجح أن المراد الكتب التي في أيدي الملائكة، لأن قوله { لا يمسه إلا المطهرون } أي: الملائكة، يوازن قوله { بأيدي سفرة } ، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد.
__________
(1) البخاري كتاب الإيمان / باب فضل من استبرأ لدينه، حديث (52)، ومسلم: كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599).
(2) انظر كلامه عند هذه الآية في (التفسير القيم).(34/20)
قوله: { لا يمسه إلا المطهرون } . الضمير يعود إلى الكتاب المكنون، لأنه أقرب شيء، وهو بالرفع { لا يمسه } باتفاق القراء، وإنما نبهنا على ذلك، لدفع قول من يقول: إنه خبر بمعنى النهي، والضمير يعود على القرآن، أي، نهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والآية ليس فيها ما يدل على ذلك، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ، لأنه أقرب مذكور، ولأنه خبر، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبرا لا أمرا ولا نهيا حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون، ولهذا قال تعالى { إلا المطهرون } باس المفعول، ولم يقل: إلا المطّهرون، ولو كان المراد المطّهّرون لقال ذلك، أو قال: إلا المتطهرون، كما قال تعالى { إن الله يحب التوابين المتطهرين } .(34/21)
والمطهرون: هم الذين طهرهم الله تعالى، وهم الملائكة، طهروا من الذنوب وأدناسها، قال تعالى { لا يعصون الله ما أمرهم } (التحريم: 6). وقال الله تعالى { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } (الأنبياء: 20) وقال تعالى { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء: 26 - 27)، وفرق بين المطهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه، وبين المطهر الذي كمله غيره وهم الملائكة، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن، وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهما عن القرآن، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدي الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين، فكذلك معاني القران. فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية: أن المعاصي سبب لعدم فهم القرآن، كما قال تعالى { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين: 14) وهم الذين قال الله فيهم: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } (القلم: 15) فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها، لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وقد ذكر بعض أهل العلم: أنه ينبغي لمن استُفتي أن يقدم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق، واستنبطه من قوله تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً - وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 105- 106].(34/22)
(ف): قوله: " لا يمسه إلا المطهرون " قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يمسه إلا المطهرون. قال: الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس واختار هذا القول كثيرون، منهم ابن القيم رحمه الله ورجحه، وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ - إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء :210-212] قال ابن كثير: هذا قول جيد. وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به.
قال ابن القيم رحمه الله : هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقاً، وأنزله على رسوله وحياً. لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه.
وقال آخرون: { لا يمسه إلا المطهرون } أي من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر معناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن ههنا المصحف. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن a بن أبي بكر بن a بن عمرو بن حزم: (إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: أن لا يمس القرآن إلا طاهر)(1).
__________
(1) صحيح: مالك في الموطأ (1/199) في كتاب القرآن: باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن مرسلاً .وصححه الألباني لطرقه وشواهده في الارواء (122).وقال "والنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به امام أهل السنة أحمد بن حنبل...."أ.هـ.(34/23)
(ق): قوله: { تنزيل من رب العالمين } خبر ثان لقوله: { وإنه } وهو كقوله: { وإنه لتنزيل رب العالمين } (الشعراء: 192) وكقوله: { تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته } (فصلت: 2-3) فهو خبر مكرر مع قوله: { لقرآن } .
و { تنزيل } أي: منزل، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول منزل من رب العالمين، أنزله الله على قلب النبي صلى عليه وسلم، لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل، قال تعالى { وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين } .
وقوله: { من رب العالمين } . أي خالقهم، ويستفاد من الآية ما يلي:
أن القرآن نازل لجميع الخلق، ففيه دليل على عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أنه نازل من ربهم، وإذا كان كذلك، فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم.
أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله ، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى: { تنزيل من الرحمن الرحيم - كتاب فصلت آياته } ، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضا، وربوبية الله
مبنية على الرحمة، قال تعالى { الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم } (الفاتحة: 2-3)
وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه، فهو رحمة بهم.
أن القرآن كلام الله ، لأنه إذا كان الله أنزله، فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله ، وهو غير مخلوق، لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة.
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
فإن قيل: هل كل منزل غير مخلوق؟
قلنا لا، لكن كل منزل يكون وصفا مضافا إلى الله ، فهو غير مخلوق، كالكلام، وإلا فإن الله أنزل من السماء ماء وهو مخلوق، وقال تعالى: { وأنزلنا الحديد } (الحديد: 25) وهو مخلوق، وقال تعالى { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (الزمر: من الآية6) والأنعام مخلوقة، فإذا كان المنزل من عند الله صفة لا تقوم بذاتها، وإنما تقوم بغيرها، لزم أن يكون غير مخلوق، لأنه من صفات الله .(34/24)
(ف): وقوله: { تنزيل من رب العالمين } قال ابن كثير: هذا القرآن منزل من رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع.وفي هذه الآية: أنه كلام الله تكلم به.
قال ابن القيم رحمه الله : ونظيره: ' 32: 13 ' { ولكن حق القول مني } وقوله: ' 16: 102 ' { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } هو إثبات علو الله تعالى على خلقه. فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله: ' 39: 6 ' { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته. فأنزلها لنا بأمره.
قال ابن القيم رحمه الله : وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثاً. لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق. وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وذلك إنما تكون لخواص العقلاء.
(ق): قوله: { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } ، الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والحديث: القرآن، والمدهن: الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله.
والمعنى: أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون؟! لا ينبغي لكم هذا، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجاهد به، قال تعالى { وجاهدهم به جهادا كبيرا } (الفرقان: 52).
(ف): قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟.(34/25)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعها، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر.فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوى لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟
(ق): قوله: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف، أي: أتجعلون شكر رزقكم، أي: ما أعطاكم الله من شيء من المطر ومن إنزال القرآن، أي تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة أن تكذبوا بها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذكرها في المطر، فأنه تشمل المطر وغيره.
وقيل: إنه ليس في الآية حذف، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبا، وقال: إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح، بل هو أكبر الأرزاق، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة …عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله …وإن طالت الأيام واتصل العمر
فالنعمة تحتاج إلى شكر، ثم إذا شكرتها، فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، وإن شكرت في الثانية، فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث، وهكذا أبدا، قال تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (النحل: 18).(34/26)
قوله: { أنكم تكذبون } . { أن } وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول تجعلون الثاني، أي: تصيرون شكركم تكذيبا، إن كانت وحيا كذب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبهُ إلى غير الله ، قال: هذا من النوء أو هذا من عملي، كما قال قارون: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: من الآية78).
- - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
الخامسة: قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا).
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: (أتدرون ماذا قال ربكم؟).
العاشرة: وعيد النائحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى: تفسير آية الواقعة، وهي قوله تعالى { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } وقد مر تفسيرها.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. وهي الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. وهي الاستسقاء بالأنواء، وكذلك الطعن في النسب، والنياحة على الميت، كما في حديث (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)(1).
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة. وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج من الملة وبعضه كفر دون ذلك، وقد سبق بيان ذلك.
__________
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، حديث (67).(34/27)
الخامسة: قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) بسبب نزول النعمة. أي: إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء.، والواجب على الإنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله . بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سببا، مثال ذلك: رجل غرق في ماء، وكان عنده رجل قوي، فنزل وأنقذه، فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة الله عليه، ولولا أن الله أمر أمرا قدريا وشرعيا أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض.
أما إن غرق ويسر الله له، فخرج، فقال: إن الولي الفلاني أنقذني، فهذا شرك أكبر، لأنه سبب غير صحيح، ثم إن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد أنه سبب، بل يريد أنه منقذ بنفسه، لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره غير وارد، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى، فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون، ثم قد يفتنون، فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به، لأننا نعلم أن هؤلاء الأولياء لا يستجيبون لهم، لقوله تعالى { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ َ } (فاطر: من الآية14) وقوله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (الأحقاف: من الآية5).
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. وهو نسبة المطر إلى النوء. فيقال هذا بسبب النوء الفلاني وأشبه ذلك.
الثامنة: التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا) وهذا قريب من قوله: (مطرنا بنوء كذا) لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده، ثم بتنفيذ وعده.(34/28)
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: (أتدرون ماذا قال ربكم) وذلك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال لأجل أن ينتبه له، وإلا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الصحابة لا يعلمون ماذا قال الله ، لكن أراد أن ينبههم لهذا الأمر، فقال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟) وهذا يوجب استحضار قلوبهم.
العاشرة: وعيد النائحة. وذلك بقوله: (إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) وهذا وعيد عظيم.
- - - - -(34/29)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله }
(البقرة: من الآية 165) - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب والأبواب التي بعده شروع من الإمام الشيخ a بن عبد الوهاب -رحمه الله - في ذكر العبادات القلبية وما يجب أن تكون عليه تلك العبادات من الإخلاص لله -جل وعلا-، فهذا في ذكر واجبات التوحيد ومكملاته وبعض العبادات القلبية، وكيف يكون إفراد الله -جل وعلا- بها.
ابتدأها بباب المحبة، وأن العبد يجب أن يكون الله -جل وعلا- أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي المحبة التي فيها تعلق بالمحبوب بما يكون معه امتثال للأمر رغباً إلى المحبوب واختيارا، واجتناب النهي رغبة واختيارا.
(ق): جعل المؤلف رحمه الله تعالى الآية هي الترجمة، ويمكن أن يعنى بهذه الترجمة باب المحبة(1).
وأصل الأعمال كلها هو المحبة، فالإنسان لا يعمل ألا لما يحب، إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئا، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام، أو لغيره كالدواء.
وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبهِ لله محبة الله وللوصول إلى جنته، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك. ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله .
والمحبة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: محبة عبادة
__________
(1) انظر منزلة المحبة في مدارج السالكين لابن القيم.(35/1)
(تم): فمحبة العبادة هي: المحبة التي تكون في القلب، يكون معها الرغب والرهب، والطاعة، والسعي في مراض المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب، والموحد لم يوحد الله إلا بسبب ما وقر في قلبه من محبة الله -جل وعلا-؛ لأنه استدل بربوبية الله -جل وعلا- وأنه الخالق وحده، وأنه ذو الملكوت وحده، وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده وأنه محبوب، وأنه يجب أن يحب، وإذا أحب العبد ربه، فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد حتى يكون محبا له على الحقيقة.
لذلك نقول: المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها اتباع للأمر واجتناب للنهي ورغب ورهب؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم: المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
محبة الله على النحو الذي وصفنا وهذا نوع من العبادات الجليلة، ويجب إفراد الله -جل وعلا- بها.
محبة في الله ، وهو أن يحب الرسل عليهم الصلاة والسلام وأن يحب الصالحين في الله ، وأن يحب في الله ، وأن يبغض في الله .
محبة مع الله وهذه محبة المشركين لآلهتهم، فإنهم يحبونها مع الله -جل وعلا- فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة، ويتضح المقام بتأمل حال المشركين وعبدة الأوثان وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب، وفي خوف وطمع وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي، أو يتوجه إليه بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر به، بل هي عماد الدين، بل هي عماد صلاح القلب، فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله -جل وعلا-، وأن تكون محبته لله -جل وعلا- أعظم من كل شيء، فالمحبة التي هي محبة الله وحده يعني: محبة العبادة هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب.(35/2)
والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، فمن أحب غير الله -جل وعلا- محبة العبادة، فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله -جل وعلا-.
(ق): القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:
النوع الأول: المحبة لله وفي الله ، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله ، أي: كون الشيء محبوبا لله تعالى من أشخاص، كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
أو أعمال، كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك.
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى.
النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة، كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
النوع الرابع: محبة طبيعية، كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن.
وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح، إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة.
وكذلك المحبة الطبيعية، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا (حبب للنبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والطيب)(1).من هذه الدنيا، فحبب إليه النساء، لأن ذلك مقتضى الطبيعية ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبا.
__________
(1) النسائي: كتاب عشرة النساء /باب: حب النساء، حديث (3939) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3124).(35/3)
فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة صارت عبادة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)(1).
وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه.
(ف): قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } الآية. قال في شرح المنازل: أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة. فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: " والذين آمنوا أشد حبا لله " وفي تقدير الآية قولان:
أحدهما: والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله .
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: " يحبونهم كحب الله " مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد " والذين آمنوا أشد حباً لله" من الكفار لأوثانهم. ثم روى عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم آلهتهم. انتهى.
والثاني: والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: " يحبونهم كحب الله " فإن فيها قولين أيضاً:
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله . فيكون قد أثبت لهم محبة الله . ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي، حديث (1)، ومسلم: كتاب الإمارة / باب قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات …) حديث (1907).(35/4)
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول: إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب ' 26: 97، 98 ' { تالله إن كنا لفي ضلال مبين - إذ نسويكم برب العالمين } ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: ' 6: 1' { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.
وقال تعالى: ' 3: 31 ' { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وهذه تسمى آية المحنة. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفائدتها وثمرتها، محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية.
وقال تعالى: ' 5: 54 ' { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ذكر لهم أربع علامات:
إحداهما: أنهم أذلة على المؤمنين، قيل: معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة على. قال عطاء رحمه الله : للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، { أشداء على الكفار رحماء بينهم } (1).
__________
(1) وهي العلامة الثانية.(35/5)
العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة.
العلامة الرابعة: إنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: ' 17: 57 ' { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه. وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيئ فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيئ، ولا يقرب من ذاته شيئ، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلى عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها. وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء. فحدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.(35/6)
قال أبو بكر: جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله في أيام الموسم - فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو لله وبالله ومع الله . فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين.
وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة:
أحدهما: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
السابع: وهو أعجبها - انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله - عز وجل -.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب.
(ق): فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد نظرا لقوله: { أشد حبا لله } فما الجواب؟.(35/7)
أُجيب: أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين وأحدهما خال منه تماما، ومنه قوله تعالى { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } (الفرقان: 24). مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير، وقال تعالى { الله خير أما يشركون } (النمل: 59)، والطرف الآخر ليس فيه شيء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده.
مناسبة الآية لباب المحبة:
منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله ، لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وهذا يوجد في بعض العُبّاد وبعض الخدم، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله ، قال تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } (الأحزاب: 67 - 68).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (التوبة: 24).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } ، { آباؤكم } .اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان { أحب إليكم من الله ورسوله } ، والخطاب في قوله: { قل } للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمخاطب في قوله: { آباؤكم } الأمة.(35/8)
والأمر في قوله { فتربصوا } يراد به التهديد، أي: انتظروا عقاب الله ، ولهذا قال: { حتى يأتي الله بأمره } بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله.فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة.
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده، فهو يحب أباه أكثر من ربه.
وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله ، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: (ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه) فالجوارح مرآة القلب.
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: أي إن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا " أي انتظروا ما يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم "(1).
فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه ويتابع رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في آية المحنة ونظائرها.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (2/28، 42، 84). أبو داود: كتاب البيوع ،حديث(3462) باب في النهي عن العينة .وقال الألباني في الصحيحة (1/15)"وهو حديث صحيح لمجموع طرقه".(35/9)
(ق): فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك)(1) وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا؟
أجيب: أن هذا إيراد ليس بوارد، فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلا: لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه.
وقال عمر- رضي الله عنهم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر)(2)،
فقد ازدادت محبة عمر - رضي الله عنهم - للنبي صلى الله ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الحب قد يتغير.
وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب، فتعود محبتك إياه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) الإمام احمد في (المسند) (6/ 144)، وأبو داود: كتاب النكاح / باب في القسم بين النساء، حديث (2134)، والترمذي: كتاب النكاح / باب التسوية بين الضرائر، حديث (1140)، والنسائي: كتاب عشرة النساء / باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، حديث (3943)، وابن ماجه: كتاب النكاح / باب القسمة بين النساء، حديث (1971) والحاكم (2/204) – صححه ووافقه الذهبي -، وضعفه الشيخ الألباني.
(2) البخاري كتاب الأيمان والنذور / باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (6632)، وأحمد حديث (22556).(35/10)
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). أخرجاه (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في حديث أنس: (لا يؤمن). هذا نفي للإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفى الوجود، أي: نفي الأصل.
والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إطلاقا، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان.
(ف): فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قاله شيخ الإسلام رحمه الله .
فمن ادعى محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى: ' 24: 47 ' { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن كل مسلم يكون محباً بقدر ما معه من الإسلام وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمناً وإن لم يكن مؤمناً الإيمان المطلق. لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.
(ق): قوله: (من ولده). يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا.
قوله: (ووالده) يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت.
قوله: (والناس أجمعين). يشمل اخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه، لأنه من الناس، فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان / باب حب رسول الله صلى عليه وسلم من الإيمان، حديث (15)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الأهل حديث (44).(35/11)
وإذا كان هذا في محبة الرسول صلى الله وسلم، فكيف بمحبة الله تعالى؟ ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكون لأمور:
الأول: أنه رسول الله ، وإذا كان الله أحب إليك من كل شيء، فرسوله أحب إليك من كل مخلوق.
الثاني: لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته.
الثالث: لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
الرابع: أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك.
الخامس: لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة.
السادس: لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله .
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله : وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله. فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا. إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى(1).
(ق): ويستفاد من هذا الحديث:
1. وجوب تقديم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على محبة النفس.
2. فداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنفس والمال، لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك.
3. أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته، لأن ذلك من كمال محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: { إن شانئك هو الأبتر } (الكوثر: 3)، أي: مبغضك، قالوا: وكذلك من أبغض شريعته - صلى الله عليه وسلم -، فهو مقطوع لا خير فيه.
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/271).(35/12)
4. جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحب إليه من ولده ووالده...) فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد.
5. وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول كل الناس، لأن من لازم كونه أحب من كل أحد أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلا: أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل ويقول لك: هذا يخالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
لو كان حبك صادق لأطعته ... هذا لعمري في القياس شنيع
إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول كل الناس حتى على قول أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36).
لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة، فالواجب التثبت والتأني في الأمر، لأن إتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ.(35/13)
ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها، فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين، فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة، فالمهم التثبت في الأمر، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس، فإنه يجب إتباع هذه القاعدة، ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله ، لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد، فإنه يعود محرما، فأن هذا الحديث(1) وإن كان ظاهر سنده الصحة، لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا، فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيه ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة.
مناسبة هذا الحديث للباب:
مناسبة هذا الحديث ظاهرة، إذ محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله ، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين، فمحبة الله أولى وأعظم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أبو داود في (السنن): كتاب المناسك / باب الإفاضة في الحج حديث (1999).
(2) البخاري: كتاب الإيمان / باب حلاوة الإيمان، حديث (16)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان حديث (43).(35/14)
قوله في حديث أنس الثاني: (ثلاث من كن فيه). أي: ثلاث خصال، (كن) بمعنى وجدن فيه.
وإعراب (ثلاث): مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنه مفيدة على حد قول ابن مالك:
ولا يجوز الابتداء بالنكرة ……ما لم تفد............(1)
وقوله: (من كن فيه). (من): شرطيه، (كن): أصلها كان، فتكون فعلا ماضيا ناسخا، والنون اسمها، و(فيه): خبرها.
قوله: (وجد بهن). وجد: فعل ماضي في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ.
وقوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان). الباء للسببية، وحلاوة: مفعول وجد، وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم، والمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.
(ف): قال السيوطي رحمه الله في التوشيح: وجد حلاوة الإيمان فيه استعارة تخييلية. شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه.
وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته. وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله : أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء.
(ق): الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث:
قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) الرسول a - صلى الله عليه وسلم - وكذا جميع الرسل تجب محبتهم.
قوله: (أحب إليه مما سواهما). أي أحب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجته وكل شيء سواهما، فإن قيل: لماذا جاء الحديث بالواو ( الله ورسوله) وجاء الخبر لهما جميعا (أحب إليه مما سواهما)؟
__________
(1) انظر ألفية ابن مالك (ص16).(35/15)
فالجواب: لأن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله ، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): وقال الخطابي: المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال.
وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله، فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله ، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: ' 4: 80 ' " من يطع الرسول فقد أطاع الله " فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه، فذلك علم على عدم محبته لله، فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله ، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه. ومن لا فلا، كما في آية المحنة، ونظائرها. والله المستعان.
(ق): الخصلة الثانية:
قوله: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)
قوله: (وأن يحب المرء) يشمل الرجل والمرأة. قوله: (لا يحبه إلا لله): اللام للتعليل، أي: من أجل الله ، لأنه قائم بطاعة الله - - عز وجل - -.
وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة: يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، ولكن إذا أحببت هذا المرء لله، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
الخصلة الثالثة:
قوله: (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
هذه الصورة في كافر أسلم، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وإنما ذكر هذه الصورة، لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا.(35/16)
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار، فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان. لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئاً واشتهاه، إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله. وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.
ومن لوازم محبة الله أيضاً: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده. فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى..)(1) إلى آخره.
وفي رواية: (لا يجد حلاوة الإيمان حتى..) إلى آخره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: وفي رواية: {لا يجد أحد} هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
__________
(1) البخاري: كتاب كتاب الأدب المفرد / باب الحب في الله حديث (6041)، مسلم: كتاب الإيمان / باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث (43).(35/17)
(ق): أتى المؤلف بهذه الرواية، لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس، قال: (من أحبّ في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدُُُ طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئا) رواه ابن جرير(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله ). (من) شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: (فإنما تنال ولاية الله بذلك).
و(في): يحتمل أن تكون للظرفية، لأن الأصل فيها للظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية، لأن في) تأتي أحيانا للسببية كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -(دخلت امرأة النار في هرة)(2) أي: بسبب هرة.
وقوله: (في الله ). أي: من أجله، إذا قلنا: إن في للسببية، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله ، أي في دينه وشرعه لا لعرض الدنيا.
قوله: (وأبغض في الله ). البغض الكره، أي: أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصي الله كرهه. وفرق بين (في) التي للسببية و(في) التي للظرفية، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله ، والظرفية موضع الحب أو الكراهية هو في ذات الله -- عز وجل - - فيبغض من أبغضه الله ، ويحب من أحبه.
__________
(1) ابن المبارك في (الزهد (353)، وأبو نعيم في (الحلية) (1/312)، والطبراني في (الكبير)(13537). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (1/90): (وفيه ليث بن أبي سليم، والأكثر على ضعفه).
(2) البخاري: كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، حديث (2365)، ومسلم: كتاب التوبة / باب في سعة رحمة الله .(35/18)
قوله: (ووالى في الله ). الموالاة: هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك.
قوله: (وعادى في الله ). المعاداة ضد الموالاة، أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله .
قوله: (فإنما تنال ولاية الله بذلك). هذا جواب الشرط، أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله.
وقوله: (ولاية). يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة، قال تعالى: (ما لكم من ولايتهم من شيء)، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء.
قوله: (بذلك).الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه.
وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع، لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا أن الأثر ضعيف فمعنى الحديث: أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله ، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟ ! فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله، فإنه يكون لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوء ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي ……حبا له ما ذاك في إمكان
وقال الإمام احمد رحمه الله : (إذا رأيت النصراني أغمض عيني، كراهة أن أرى بعيني عدو الله ).(35/19)
هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما - والعياذ بالله - الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله : (ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: 3) وقوله (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران: 19) وقوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85)، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرقون بين مسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله -- عز وجل - - بل هو عدو له أيضا، لقوله تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } (الممتحنة: من الآية1) فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين } (المائدة: من الآية51).(35/20)
فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم، لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم ويحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم، فهذه البلاد قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما)(1) وقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)(2) وقال (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)(3)، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط أولياء الله بأعدائه.
قوله: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا).
قوله: (عامة) أي: أغلبية.
وقوله: (مؤاخاة الناس). أي: مودتهم ومصاحبتهم.
أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا ما قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه، فما بالك بالناس اليوم؟
فقد صارت مؤاخاة الناس - إلا نادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (الأنفال: 27)، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (الأنفال: 28)
__________
(1) مسلم: كتاب الجهاد والسير / باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حديث (1767) وأبو داود حديث (3030)، والترمذي حديث (1607)، وأحمد حديث (201).
(2) مسلم: كتاب الجهاد والسير/ باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حديث (1767)، والبزار في مسنده حديث (230)، الجامع الصغير (1/ 15).
(3) البخاري: كتاب الجهاد / باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم، حديث (3053)، ومسلم: كتاب الوصية / باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، حديث (1637).(35/21)
ويستفاد من أثر بن عباس رضي الله عنهما: أن لله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: ( الله ولي الذين آمنوا) (البقرة: 257) وقال تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (المائدة: 55) فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [يونس: 62- 63].
قال شيخ الإسلام: (من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا)، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة.
والولاية تنقسم إلى: ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله، فمن الأولى قوله تعالى { الله ولى الذين آمنوا } (البقرة: 257) ومن الثانية قوله تعالى { ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا... } (المائدة: 56).
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع
الحاسبين) (الأنعام: 62).
والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: { الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ } (البقرة: من الآية257) وقال: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (يونس: 63).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(35/22)
وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } (البقرة: من الآية166) قال: " المودة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (وقال ابن عباس) في قوله تعالى: ' 2: 166 ' { وتقطعت بهم الأسباب } قال: المودة هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(ق): قوله: (وقال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله: { وتقطعت بهم الأسباب } ، قال: المودة). يشير إلى قوله تعالى { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } (البقرة: 166)
الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء.
وفي اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فكل ما يوصل إلى شيء، فهو سبب، قال تعالى: { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ } (الحج: من الآية15)، ومنه سمي الحبل سببا، لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.
وقوله: (قال: المودة). هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح، فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تنقطع بهم، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها، فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات، فقد قال الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله } (البقرة: من الآية165) ثم قال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِين اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } (البقرة: 166).(35/23)
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص، فإنها نافعة موصلة للمراد، وقال الله تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } (الزخرف: 67).
(ف): قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: ' 2: 166، 167 ' { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب } الآيتين فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله . وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وإنتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله - عز وجل - ذلك العمل كله. وقطع تلك الأسباب. فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه. وهو حظه من الهجرة إليه والى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها: من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد ومتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجريداً محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلاً عن الشرك بينه وبين غيره، فضلاً عن تقديم قول غيره عليه. فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه. وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي أخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم. وقد قال تعالى: ' 25: 23 ' { وقدمنا إلى(35/24)
ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثوراً لا ينتفع منها صحابها بشيء أصلاً. وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعاً. وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ).
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً.
العاشرة: الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة. وهي قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } ، وسبق ذلك.
الثانية: تفسير آية براءة. وهي قوله تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم.... } الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - على النفس والأهل والمال. وفي نسخة (وتقديمها على النفس والأهل والمال).
ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضا قوله: (على النفس) يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو تقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم.... أحب إليكم من الله ورسوله } ، فذكر الأقارب والأموال.(35/25)
الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
سبق أن المحبة كسبية، وذكرنا في ذلك حديث عمر - رضي الله عنهم - لما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: (والله إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال له ومن نفسك. فقال الآن، أنت أحب إلى من نفسي)، وقوله: (الآن) يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...) لا يدل على الخروج من الإسلام لقوله في الحديث الآخر (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله، أي إن الدليل مركب من الدليلين.
ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: (لا إيمان لعابد صنم)، فإن منع مانع من نفي الوجود، فهي نفي للصحة، مثل: (لا صلاة بغير وضوء) فإن منع مانع من نفي الصحة، فهو نفي للكمال، مثل (لا صلاة بحضرة الطعام)، فقوله: (لا يؤمن أحدكم) نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع)
الخامسة أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. تؤخذ من قوله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء.
السادسة: أعمال القلب الأربعة آلتي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. وهي: الحب في الله ، والبغض في الله ، والولاء في الله ، والعداء في الله .
لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله ، فإنه لا ينال ولاية الله ، قال ابن القيم:
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي ……حبا له ما ذاك في إمكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالى من عاداهم.
وقوله: (ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها) مأخوذة من قول ابن عباس (ولن يجد عبد طعم الإيمان....) الخ.(35/26)
السابعة فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الصحابي: يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: (إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا) هذا في زمنه، فكيف بزمننا؟!
الثامنة: تفسير قولهُ: { وتقطعت بهم الأسباب } فسرها بالمودة، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال، لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم، فإنما يقصد به التمثيل، أي: مثل المودة، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا. تؤخذ من قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } ، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا، وتؤخذ من قوله { والذين آمنوا أشد حبا لله } ، فاشد: اسم تفضيل يدل على الاشتراك بالمعنى مع الزيادة، فقد اشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } (التوبة: 24)
والوعيد في قوله: { فتربصوا } ، فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى إن الأمر هنا للوعيد.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوى محبة الله فهو الشرك الأكبر. لقوله تعالى: { يحبونهم كحب الله } ، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر، بدليل ما لهم من عذاب.
- - - - -(35/27)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
(آل عمران: 175)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): مناسبة الباب لما قبله:
أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف، لأن العبادة ترتكز على شيئين: المحبة، والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي، وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله ، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس.
فلو سألت من لا يزني لماذا، لقال: خوفا من الله .
ولو سألت الذي يصلى، لقال: طمعا في ثواب الله ومحبة له.
كل منهما ملازم للآخرة، فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته.
وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف أو يغلب جانب الرجاء؟
اختلف في ذلك:
فقيل: ينبغي أن يغلب جانب الخوف، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة.
وقيل: يغلب جانب الرجاء، ليكون متفائلا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل (1).
وقيل في فعل الطاعة: يغلب جانب الرجاء، فالذي منّ عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء، فانتظر الإجابة، لأن الله يقول: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } (غافر: 60) وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف، لأجل أن يمنعه منها إذا خاف من العقوبة تاب.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب /باب الفأل، حديث (5756)، ومسلم: كتاب السلام / باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، حديث (2223).(36/1)
وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل، لأن الله يقول: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } (المؤمنون: 60)، أي: يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي عن ربه (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)(1).
وقيل: في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، فهذه أربعة أقوال.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا، فأيهما غلب هلك صاحبه، أي: يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط.
وخوف الله تعالى درجات، فمن الناس من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه.
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله .
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه.
والخوف أقسام:
الأول: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمى بخوف السر.
وهذا لا يصلح إلا لله - - سبحانه وتعالى - - فمن أشرك فيه مع الله غيره، فهو مشرك شركا أكبر، وذلك مثل: من يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم، كما يفعله بعض عباد القبور: يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله .
الثاني: الخوف الطبيعي والجبلَّي، فهذا في الأصل مباح، لقوله: تعالى عن موسى { فخرج منها خائفا يترقب } وقوله عنه أيضا: { رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون } ،
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد / باب (ويحذركم الله نفسه)، حديث (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء /باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2675).(36/2)
لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا، فمثلا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها، فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به.
وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخاف وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به، فهذا خوف محرم يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه، فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه.
وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يتهدده، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها، وإذا لم تطاردها، فإنه تهلكك.
مناسبة الخوف للتوحيد: أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد.
(ف): قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن كيد عدو الله : أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، لئلا يجاهدوهم، لا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر. وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه. ونهانا أن نخافهم. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم. فكلما قوى إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوى خوفه منهم. فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان.
(ق): وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات:
أولها ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه }
{ إنما ذلكم } صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين.
{ ذلكم } : { ذا } : مبتدأ، و { الشيطان } : يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وجملة { يخوف } حال من الشيطان.
ويحتمل أن يكون { الشيطان } صفة لـ { ذلكم } ، أو عطف بيان، و { يخوف } خبر المبتدأ والمعنى: ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياه.
و { يخوف } تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني: { أولياءه } .(36/3)
ومعنى يخوفكم، أي: يوقع الخوف في قلوبكم منهم، { أولياءه } أي: أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر، لأن الشيطان يأمر بذلك، فكل من نصر الفحشاء والمنكر، فهو من أولياء الشيطان، ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد، فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك.
وقوله: { يخوف أولياءه } من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا: { إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم } (آل عمران: 173)، وذلك ليصدهم عن واجب من واجبات الدين، وهو الجهاد، فيخوفهم بذلك، وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية.
والحاصل: أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان في نفسك في الخوف، فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه؟ وكم من جبان قتل في بيته؟
وانظر إلى خالد بن الوليد، كان شجاعا مقداما ومات على فراشه، ومادام الإنسان قائما بأمر الله ، فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون.(36/4)
قوله: { فلا تخافوهم } . لا ناهية، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك، أي: بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، ولهذا قال تعالى: { إن كنتم مؤمنين } ، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس، ولهذا قيل في المثل من خاف الله خافه كل شيء ومن اتقى الله اتقاه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء.
ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائه مناف للإيمان، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك، فهو مناف لأصله، وإلا, فهو مناف لكماله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } (التوبة: 18)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى { إنما يعمر } .(36/5)
{ إنما } أداة حصر، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي، فأن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله ، لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة، لعدم انتفاعه بهذه العمارة، فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام، قال تعالى { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر } ، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا، لأنها موضع عبادته.
(ف): والمشرك وإن عمل فعمله: ' 24: 30 ' { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } أو ' 14: 18 ' { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة.
(ق): قوله: و { من آمن بالله } . { من } : فاعل يعمر، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور هي:
الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
واليوم الآخر: هو يوم القيامة، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده.
وقال شيخ الإسلام: ويدخل في الأيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به صلى الله عليه مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء.
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا، لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء، حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل، إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به؟!
قوله: { وأقام الصلاة } . أي: أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه، والإقامة نوعان:(36/6)
إقامة واجبة: وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات.
و إقامة مستحبة: وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب فيأتي بالواجب والمستحب.
قوله: { وآتى الزكاة } . { آتى } تنصب مفعولين: الأول هنا الزكاة، والثاني: محذوف تقديره مستحقها.
والزكاة: هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله - عز وجل -.
قوله: { ولم يخش إلا الله } . في هذه الآية حصر طريقة الإثبات والنفي.
{ لم يخش } نفي، { إلا الله } إثبات، والمعنى: أن خشيته انحصرت في الله -- عز وجل --، فلا يخشى غيره.
والخشية نوع من الخوف، لكنها أخص منه والفرق بينهما:
أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله، لقوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } (فاطر: 28)، والخوف قد يكون من الجاهل.
أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخّوف.
قوله: { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } . قال ابن عباس: (عسى من الله واجبة)(1) وجاءت بصيغة الترجي، لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } (النساء: 98- 99) فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو. الشاهد من الآية: قوله: { ولم يخش إلا الله } ، ولهذا قال تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون } (المائدة: 44) ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل.
__________
(1) تفسير أبن كثير (2/ 130)(36/7)
ومن أراد أن يصحح هذا المسير، فليتأمل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } (العنكبوت: 10)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى: { ومن الناس } . جار ومجرور خبر مقدم، { ومن } تبعيضية.
وقوله: { من يقول } . { من } : مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء: من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه، فيقول: آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف، كقوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } (الحج: 11)، { على حرف } ، أي: على طرف.
فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله .
قوله: { فإذا أوذي في الله } { في } : للسببية، أي: بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه.
__________
(1) الإمام احمد في (المسند) (1/ 293)، حديث (2669)، والترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع / باب ما جاء في صفة الحوض، (2516)، وابن أبي عاصم في (السنة)(216)، والآجري في (الشريعة) ص 197، والطبراني في (الكبير) (12988) وأبي نعيم في (الحلية) (1/314)، قال ابن رجب: أصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي) جامع العلوم والحكم (360)، وقال احمد شاكر: (إسناده صحيح) (المسند) (2669)، وصححه الألباني في تعليقه على (السنة لابن أبي عاصم) (316).(36/8)
ويجوز أن تكون { في } للظرفية على تقدير: { فإذا أوذي في شرع الله } ، أي: إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به.
قوله: { جعل فتنة الناس } . { جعل } : صيّر، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنة، لأن الإنسان يفتتن به، فيصد عن سبيل الله ، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ } (البروج: من الآية10)، وأضاف الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: { كعذاب الله } . ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله ، فيوافق أمره، فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله ، فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا لهذه الفتنة كالعذاب، فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله ، لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله ، ففر منه بموافقة أمرهم، فالآية موافقة للترجمة.
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة، وهي ابتلاء الله العبد لأجل أن يمحص إيمانه، وذلك على قسمين:
الأول: ما يقدره الله نفسه على العبد، كقوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } (الحج: 11) وقوله تعالى: { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } (البقرة: 155-156).
الثاني: ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف. وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانا - والعياذ بالله -، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله - - عز وجل - - في موقفه في تلك المصيبة، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما، فليكن المسلم على حذر، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان، قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } (a: 31).(36/9)
(ف): قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم: أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني فتنة أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك. بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه. والفتنة: الإبتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا. فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلى بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم. فلا بد من حصول الألم لكل نفس، آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الإبتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم.
فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمعاوية - رضي الله عنه -: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس. ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً ".(36/10)
فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم.
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به: كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان.
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب. وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله . فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله .وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار. وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق. انتهى.
(ق): قوله: (الآية) أي: إلى آخر الآية، وهي قوله تعالى { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } .
كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا: نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها.
وقوله تعالى { أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } . قيل في مثل هذا السياق: إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق.
وقيل: إنها عاطفة على ما سبقها على تقدير أن الهمزة بعدها، أي: وأليس الله .
قوله: { أعلم } مجرور بالفتحة، لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل.
فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في صدور الجميع، فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك، لأن علم الله عام.(36/11)
وكلمة { أعلم } : اسم تفضيل، وقال بعض المفسرين ولا سيما المتأخرون منهم: { أعلم } بمعنى عالم، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ، ففيه فساد للمعنى، لأنك إذا قلت: أعلم بمعنى عالم، فإن كلمة عالم تكون لإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل، فالله عالم والإنسان عالم.
وأما تحريف اللفظ، فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك.
والصواب أن { أعلم } على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل، فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل.
وقوله: { بما في صدور العالمين } . المراد بالعالمين: كل من سوى الله ، لأنهم علم على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته. والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك، لعموم الآية.
وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - حين رجع: إني قد أُوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا، لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه)(1).
الشاهد من الآية: قوله: { فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } فخاف الناس مثل خوف الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي /باب حديث كعب بن مالك، حديث (4418)، مسلم: كتاب التوبة/ باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث (2769).(36/12)
عن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعا: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، أن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن أبي سعيد مرفوعاً: إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.
هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدى وقال: ضعيف، وفيه أيضاً عطية العوفي: ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين، ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ".
قوله: إن من ضعف اليقين الضعف يضم ويحرك، ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفاً، وضعفه، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان، والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى، أو الضعف - بالفتح - في الرأي وبالضم في البدن، فهي ضعيفة وضعوف. واليقين كمال الإيمان. قال ابن مسعود: (اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان) رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً. قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعاً: " فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً "(2).
__________
(1) ضعيف: رواه البيهقي في شعب الايمان (1/222)، حديث (209)، وقال a بن مروان ضعيف.وأبو نعيم في (الحلية) (5/106، 10/410)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم (2009).
(2) صحيح موقوفاً: وعلقه البخاري في صحيح (1/47)كتاب الايمان وقال الحافظ في الفتح (1/48)، وصله الطبراني بسند صحيح ..." وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاًولا يثبت رفعه" أ.هـ.(36/13)
(ق): قوله: (أن ترضى الناس). (أن ترضى الناس): اسم مؤخر، و(من ضعف اليقين) خبرها مقدما، والتقدير: إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين.
(ف): قوله: وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب ويفرج الكروب ويغفر الذنوب. وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك. لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله . وتقرب إليه بما يسخط الله . ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله . ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق.
(ق): قوله: (بسخط الله ). الباء للعوض، يعني: أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله ، فتستبدل هذا بهذا، فهذا من ضعف اليقين.
واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، وكما تقول: تيقنت هذا الشيء، أي علمته يقينا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله ، إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله ، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم، فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أُمن في ذلك من الغرور.
قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله ). الحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
ولكن هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم، لأنه يشمل المدح.(36/14)
و (رزق الله ): عطاء الله ، أي: إذا أعطوك شيئا حمدتهم ونسيت المسبب وهو الله ، والمعنى: أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب، وهو الله ، فالذي أعطاك سبب فقط، والمعطي هو الله ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما أنا قاسم، والله يعطي)(1).
أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك، فليس هذا داخلا في الحديث، بل هو من الشرع، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صنع إليكم معروفا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)(2).
__________
(1) البخاري: كتاب العلم / باب من يرد الله به خيرا، حديث (71)، ومسلم: كتاب الزكاة / باب النهي عن المسألة، حديث (1037).
(2) الإمام احمد (2/68، 99، 127)، والبخاري في (الأدب المفرد) (216)، وأبو داود كتاب الزكاة / باب عطية من سأل بالله، حديث (2567)، والنسائي: كتاب الزكاة / باب من سال بالله، حديث (1672)، والحاكم (1/412) – وصححه ووافقه الذهبي - وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6021).(36/15)
إذاً الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد: أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا المسبب هو الله - - عز وجل - - وهذا من ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلي، وهو الله - - عز وجل - - الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضا، لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله ، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيد، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم وقال له: أعطها فلانا، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب، لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها، لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط، وعلى هذا، فنقول: إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء، فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب، وأن الحمد كله لله - - عز وجل - -، فهذا حق، وليس من ضعف اليقين.
قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ). هذه عكس الأولى، فمثلا: لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه وشتمه، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
لكن من قصر بواجب عليه، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل لأنه لم يعط، فلا يذم من حيث القدر، لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء.
(ف): فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقاً على رزق ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله ، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه. وقد قرر النبي هذا المعنى بقوله في الحديث: " إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره " كما قال تعالى: ' 35: 2 ' { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } .(36/16)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما عدا الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة. فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤونتهم. وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاءً لهم وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم. فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: " أي a أعطني. فإن حمدي زين وذمي شين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاك الله " ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال من مسمى الإيمان.
(ق): وقوله: (ما لم يؤتك). علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف، لأنه فضلة، والتقدير: ما لم يؤتك.
قوله: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره) هذا تعليل، لقوله: (أن تحمدهم وأن تذمهم).
و(رزق الله ): عطاؤه، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسباب قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك.(36/17)
وقوله: (ولا يرده كراهية كاره). أي: رزق الله إذا قدر للعبد، فلن يمنعه عنه كراهية كاره، فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
رواه ابن حبان في (صحيحه)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من التمس رضى الله بسخط الناس - رضي الله عنه - وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " رواه ابن حبان في صحيحه.
هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية- رضي الله عنه - إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة رضي الله عنها: إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. والسلام عليك " ورواه أبو نعيم في الحلية.
(ق): قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: (من التمس رضا الله بسخط الناس).
(التمس): طلب، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر: (التمسوها في العشر)(2)
__________
(1) صحيح: ابن حبان (1- 248)، والترمذي: كتاب الزهد / باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث (2414)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6010، 6097).
(2) البخاري: كتاب التراويح / باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، حديث (2016)، ومسلم: كتاب الصيام، باب: فصل ليلة القدر والحث على طلبها، وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، حديث (1167).(36/18)
وقوله: (رضا الله ). أي: أسباب رضاه.
وقوله: (بسخط الناس): الباء للعوض، أي طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط: (رضي الله عنه وأرضى عنه الناس).
وقوله: (رضي الله عنه وأرضى عنه الناس). هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه، لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقى في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قوله: (ومن التمس رضا الناس بسخط الله ). (التمس): طلب، أي: طلب ما يرضى الناس، ولو كان يسخط الله ، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، ولهذا قال: (سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، فألقى في قلوبهم سخط وكراهيته.
(ف): قال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً " هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: " من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذماً " وهذا من أعظم الفقه في الدين فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ويرزقه من حيث لا يحتسب } . والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة. ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً كالظالم الذي يعض على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم. أ.هـ.
وقد أحسن من قال:
إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب(36/19)
قال ابن رجب رحمه الله : فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب.
(ق): مناسبة الحديث للترجمة:
قوله: (من التمس رضا الناس بسخط الله )، أي: خوفا منهم حتى يرضوا عنه، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى.
فيستفاد من الحديث ما يلي:
1. وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس، لأن الله هو الذي ينفع ويضر.
2. أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان.
3. إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين، لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل، فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ، لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق، فنرد عليهم بأمرين: بالمنع، ثم النقض:
فالمنع: أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله -- عز وجل -- كغضب المخلوقين.
والنقض: فنقول للأشاعرة: أنتم أثبتم لله -- عز وجل -- الإرادة، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، والرب - عز وجل - لا يليق به ذلك، فإذا قالوا: هذه إرادة المخلوق. نقول: والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق.
وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية، فهذه الأقيسة باطلة لوجوه:
الأول: أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع.
الثاني: أن تقول على الله بغير علم، لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر، فيقال له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل.(36/20)
الثالث: أن فيه جناية على النصوص، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه، لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب، فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كفرا أو ضلالا.
الرابع: أن فيه طعنا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، لأننا نقول: هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يعلمون بها أم لا؟
فإن قالوا: لا يعلمون، فقد اتهموهم بالقصور، وإن قالوا: يعلمون ولم يبينوها، فقد اتهموهم بالتقصير.
فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها. لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما:
التمثيل والتكييف: لقوله تعالى { فلا تضربوا لله الأمثال } (النحل: 74) وقوله: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (الإسراء: 36)
فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين، فلا تستوحش من إثبات ذلك، لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا، وهو يريد لخلقه الهداية، وإذا أثبت رسوله ذلك له، فلا تستوحش من إثباته، لأنه - صلى الله عليه وسلم -: أصدق الخلق، وأعلمهم بما يقول عن الله ، وأبلغهم نطقا وفصاحة، وأنصح الخلق للخلق.
فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله، وقال: هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب، فيقال: هذا لا ينكره، فيقال: هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، أما الذين آمنوا، فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى، قال تعالى { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (النساء: 26)، فهو لا يريد أن يعمى عليهم الأمر، فيقول: إنه يغضب وهو لا يغضب، قوله: إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.(36/21)
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. وهي قوله تعالى { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وسبق.
الثانية: تفسير آية براءة. وهي قوله تعالى { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . وسبق.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت. وهي قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله } . وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. تؤخذ من الحديث: (إن من ضعف اليقين...) الحديث.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث. وهي أن ترضى الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله .
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.وتؤخذ من قوله في الحديث: (من التمس) الحديث، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى.
السابعة: ذكر ثواب من فعله. وهو رضا الله عنه، وأن يرضى عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه. وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده.
وخلاصة الباب:(36/22)
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه، فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله ، انقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده، بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.
- - - - -(36/23)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى: { وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (المائدة: من الآية23)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): مناسبة هذا الباب لما قبله:
هي أن الإنسان إذا أفرد الله -سبحانه - بالتوكل، فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره.
(ت): قال أبو السعادات يقال توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأته واعتمدت عليه فيه وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما تقدم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة بل جعله شرطا في الإيمان والإسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقوله تعالى { فاعبده وتوكل عليه } وقوله { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } وقوله { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } وقوله { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا } وقوله { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } وغير ذلك من الآيات وفي الحديث من سره أن يكون أقوى الناس إيمانا فليتوكل على الله رواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) رواه أحمد وابن ماجه قال الإمام أحمد التوكل عمل القلب وقال أبو إسماعيل الأنصاري التوكل كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته إذا(37/1)
تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى - عليه السلام - أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفا من الجبارين بل يمضوا قدما لا يهابونهم ولا يخشونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين قال ابن القيم فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عد انتفائه وفي الآية الأخرى { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } فجعل دليل صحة الإسلام التوكل وقال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل.
(ق): والتوكل: هو الاعتماد على الله - - سبحانه وتعالى - - في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له، ولا بد من أمرين:
الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا.
الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب، نقص توكله على الله ، ويكون قادحا في كفاية الله ، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.(37/2)
ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله ، لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله اعتمادا مجردا، كان قادحا في حكمة الله ، لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين اثنين(1) ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق(2) ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله ، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله.
ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم فقالوا: نحن المتوكلون على الله . فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون.
والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة: 5)، فنطلب من الله العون اعتمادا عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته.
__________
(1) صحيح: رواه أبو داود: كتاب الجهاد: باب في لبس الدروع، حديث (2590)، الإمام أحمد في (المسند) (3/ 449)، وابن ماجة، حديث (2806)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.
(2) البخاري: كتاب الإجارة / باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام …، حديث (2263).(37/3)
وقال تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } (هود: 123) وقال تعالى: { عليه توكلت وإليه أنيب } (هود: 88)، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل، لأن الإنسان لو ُوكل إلى نفسه وُكل إلى ضعف وعجز، ولم يتمكن من القيام بالعبادة، فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله ، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل، ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك، فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها.
والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر، فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع شعوره بافتقاره إليه، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن صرفه لغير الله ، فهو مشرك شركا أكبر، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار.
الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم: من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصوله على رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب.(37/4)
الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوّض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائبا عنه، وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ابن أبي طالب أن يذبح ما بقى من هديه(1)، ووكل أبا هريرة على الصدقة(2)، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له اضحية(3)، وهذا بخلاف القسم الثاني، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتماد افتقار.
ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شؤونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (و لا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا المعتزلة للمعتزلة القدرية) لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه.
وكذلك القدرية، لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد.
ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات، أولها ما جعله ترجمة للباب وهي:
قوله تعالى: { وعلى الله فتوكلوا } . { على الله } متعلقة: بقوله: فتوكلوا ?، وتقديم المفعول يدل على الحصر، أي: على الله لا على غيره: { فتوكلوا } ، أي: اعتمدوا.
والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة، لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين، فتكون لتحسين اللفظ، كقوله تعالى: { بل الله فاعبد } والتقدير: { بل الله اعبد } .
__________
(1) مسلم: كتاب الحج / باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1218).
(2) البخاري: كتاب الوكالة / باب إذا وكالة المرأة الإمام في النكاح، حديث (2311).
(3) البخاري: كتاب المناقب / باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية، حديث (3643).(37/5)
قوله { إن كنتم مؤمنين } . { إن } : شرطية، وفعل الشرط { كنتم } ، وجوابه قيل إنه محذوف دل عليه ما قبله، وتقدير الكلام: إن كنتم مؤمنين فتوكلوا، وقيل: إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق، فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء، وهذا أرجح، لأن الأصل عدم الحذف.
وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته، كما لو قلت: إن كنت كريما فأكرم الضيف. فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم.
وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله ، إلا إن حصل اعتماد كلى على غير الله ، فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوُبهُم } (الأنفال: من الآية2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية: قوله تعالى: { إنما المؤمنون } . { إنما } : أداة حصر، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، والمعنى: ما المؤمنون إلا هؤلاء.
(ف): قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيئ من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " فأدوا فرائضه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ووجل القلب من الله مستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه: قال السدى: " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله ، فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
(ق): وذكر الله تعالى في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف:(37/6)
أحدهما: قوله: { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ، أي: خافت لما فيها من تعظيم الله تعالى، مثال ذلك: رجل هم بمعصية، فذكر الله أو ذكر به، وقيل له: اتق الله . فإن كان مؤمنا، فإنه سيخاف، وهذا هو علامة الإيمان.
الوصف الثاني: قوله: { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } ، أي: تصديقاً وامتثالا، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه، فقال:
كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ فقال: (إني أُحب أن أسمعه من غيري) فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } (النساء: 41). قال: (حسبك) فنظرت، فإذا عيناه تذرفان(1)
الوصف الثالث: قوله: { وعلى ربهم يتوكلون } . أي: يعتمدون على الله لا على غيره، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد.
الوصف الرابع: قوله: { الذين يقيمون الصلاة } أي: يأتون بها مستقيمة كاملة، والصلاة: اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل القرآن / باب قول المقرئ للقارئ: حسبك، حديث (5050)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه، حديث (800).(37/7)
الوصف الخامس: قوله: { ومما رزقناهم ينفقون } . { من } للتبعيض، فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس، فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل، والصواب: أنها لبيان الجنس، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء إذا توكل على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعله أبو بكر(1)، أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله، فلا ينبغي أن ينفق ماله عليه.
(ف): قوله: " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " استدل الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال عمير بن حبيب الصحابي: " إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته. وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه ". رواه ابن سعد.
وقال مجاهد: الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل رواه ابن أبي حاتم.
وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال : 64]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثالثة: قوله تعالى: { يا أيها النبي } . المراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا، وبوصف الرسالة أحياناً فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة، وأما في الأحكام الخاصة، فالغالب أن يناديه بوصف النبوة، قال تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } (التحريم: 1)وقال تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } (الطلاق: 1).
__________
(1) حسن: أبو داود: كتاب الزكاة / باب الرخصة في ذلك (أي: خروج الرجل من ماله)، حديث (1678)، والترمذي: حديث (3675)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.(37/8)
و { النبي } فعيل بمعنى مفعل بفتح العين ومفعل بكسرها، أي: منبأ، ومنبئي، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - منبأ من قبل الله ، ومنبئ لعباد الله .
قوله: { حسبك الله } . أي: كافيك، والحسب: الكافي، ومنه قوله أعطى درهما فحسب، وحسب خبر مقدم، ولفظ الجلالة [ الله ] مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما الله إلا حسبك، ويجوز العكس، أي: أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة [ الله ] خبره، ويكون المعنى: ما حسبك إلا الله وهذا هو الأرجح.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك: فلا تحتاجون معه إلى أحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
(ق): قوله: { ومن اتبعك من المؤمنين } . { من } : اسم موصول مبنية على السكون، وفي عطفها رأيان لأهل العلم: قيل: حسبك الله ، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، ف { من } معطوفة على الله لأنه أقرب، ولو كان العطف على الكاف في حسبك، لوجب إعادة الجار، وهذا كقوله تعالى { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } (الأنفال: 62)، فالله أيد رسوله بالمؤمنين، فيكونون حسبا له كما كان الله حسبا له.
وهذا ضعيف، والجواب عنه من وجوه:
أولا: قولهم: عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح، فقد يكون العطف على شيء سابق، حتى أن النحويين قالوا: إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول.
ثانيا: قولهم: لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار، والصحيح أنه ليس بلازم، كما قال ابن مالك:
ليس عندي لازما إذ قد أتى ……في النثر والنظم الصحيح مثبتا
ثالثا: استدلالهم بقوله تعالى { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } .
فالتأييد لهم غير كونهم حسبه، لأن المعنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه، وبينهما فرق.(37/9)
رابعا: أن الله -- سبحانه وتعالى -- حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } (لتوبة: 59) ففرق بين الحسب والإيتاء، وقال تعالى { قل حسبي الله عليه يتوكل المؤمنون } (الزمر: 38) فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز، فكذلك الحسب لا يمكن أن يكون غير الله حسبا، فلو كان، لجاز التوكل عليه، ولكن الحسب هو الله ، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون.
خامسا: أن في قوله: { ومن اتبعك } ما يمنع أن يكون الصحابة حسبا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنهم تابعون، فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع؟ هذا لا يستقيم أبدا، فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله: { حسبك } ، أي: وحسب من أتبعك من المؤمنين، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى: ' 8: 62 ' { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: ' 3: 173 ' { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ونظير هذا قوله سبحانه: ' 9: 59 ' { وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } .(37/10)
فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول، وجعل الحسب له وحده. فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال { إنا إلى الله راغبون } فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى { والى ربك فارغب } فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له - سبحانه وتعالى -. انتهى.
وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة. فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه، كما في الحديث: " من تعلق شيئاً وكل إليه ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } (الطلاق: 3) الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الرابعة: قوله تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } . جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله ، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره، فالله حسبه ولو حصل بعض الأذية، فإن الله يكفيه الأذى، والرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة، لأن الله حسبه، فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة.
والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل، لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم، فمن توكل على غير الله تخلى الله عنه، وصار موكولا إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله .(37/11)
(ف): قال ابن القيم رحمه الله وغيره: أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبداً، وفرق بين الأذى الذي هو الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه. فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره. انتهى.
وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: " قال الله - عز وجل - في بعض كتبه: بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه. كفى بي لعبدي مآلاً. إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني.فأنا أعلم بحاجته التي نرفق به منه ".
وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار. لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى وتعليق الجزاء على الشرط. فيمتنع أن يكون وجود الشرك كعدمه، لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسباً له.(37/12)
وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل، كما قال تعالى: ' 5: 11 ' { واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوباً بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها.ذكره ابن القيم بمعناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس، قال: { حسبنا الله ونعم الوكيل } ، قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى في النار، وقالها a - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (آل عمران: 173). رواه البخاري (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: " قالها a - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: { إن الناس قد جمعوا لكم } .
وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أُحد أراد أن يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبا فقال لهم: إلى أين تذهبون؟ قالوا نذهب إلى المدينة. فقال: بلغوا محمدا وأصحابه أنّا راجعون إليهم فقاضون عليهم. فجاء الركب إلى المدينة، فبلغوهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه: حسبنا الله ونعم الوكيل. وخرجوا في نحو سبعين راكبا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين، حيث اعتمدوا عليه تعالى.
قوله: { قال لهم الناس } . أي: الركب.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير / باب (الذين قال لهم الناس...) الآية، حديث (4563).(37/13)
قوله: { إن الناس } . أي: أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس هنا يمثل بها الأصوليون للعام الذي أُريد به الخصوص.
قوله: { حسبنا } . أي: كافينا، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره.
قوله: { نعم الوكيل } . { نعم } : فعل ماضي، { الوكيل } : فاعل، والمخصوص محذوف تقديره: هو، أي: الله ، والوكيل: المعتمد عليه سبحانه، والله - سبحانه -يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا مُوكّل، والوكيل في مثل قوله تعالى: { نعم الوكيل } ، وقوله تعالى: { وكفى بالله وكيلا } (النساء: 81)، وأما الموكل، ففي مثل قوله تعالى: { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } (الأنعام: 89).
وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه، فليس توكيله سبحانه من حاجة له، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه، تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه، أمنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع.
(ق): وقول ابن العباس رضي الله عنهما: " إن إبراهيم قالها حين أُلقى في النار " قول لا مجال للرأي فيه، فيكون له حكم الرفع.
وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل، فيحتمل أنه أخذه منه، ولكن جزمه بهذا، وقرنه لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل.
الشاهد من الآية: قوله تعالى: { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } حيث جعلوا حسبهم الله وحده.(37/14)
(تنبيه): قولنا: "وابن عباس ممن يروى عن بني إسرائيل"قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر، فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل، ففي (صحيح البخاري) (5/291 - فتح) أنه قال (يا معشر المسلمين ! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أُنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يُشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب؟!فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أُنزل عليكم ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم في الشدائد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، سبق تفسيرها.
الثانية: أنه من شروط الإيمان. تؤخذ من قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين } . وسبق تفسيرها.
الثالثة: تفسير آية الأنفال وهي قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم... } والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، وإلا، فالإنسان يكون مؤمنا وإن لم يتصف بهذه الصفات، لكن معه مطلق الإيمان، وقد سبق تفسير ذلك.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها، أي: آخر الأنفال. وهي قوله تعالى: { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، وهذا الراجح على ما سبق.
الخامسة: تفسير آية الطلاق. وهي قوله تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقد سبق تفسيرها.(37/15)
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم - عليه السلام - ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في الشدائد. يعني قول: { حسبنا الله ونعم الوكيل } .
وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف، منها:
زيادة الإيمان، لقوله تعالى: { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } .
ومنها: أنه عند الشدائد ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ولكنهم فوّضُوا الأمر إلى الله ، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومنها: أن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد.
- - - - -(37/16)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }
(الأعراف: 99).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا باب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (الأعراف: 99) وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } (الحجر: من الآية56)??
هذا الباب عقده المؤلف للآيتين جميعا لاتصالهما، والمراد بهذا الباب بيان أن الجمع بين الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان، ولا يتم التوحيد إلا بذلك، فعدم الجمع بين الخوف والرجاء منافٍ لكمال التوحيد.
فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء، وأن يجعل رجاءه مع الخوف، وأن لا يأمن المكر، كما لا يقنط من رحمة الله -جل وعلا-.
(ق): هذا الباب اشتمل على موضوعين:
الأول: الأمن من مكر الله .
والثاني: القنوط من رحمة الله ، وكلاهما طرفا نقيض.
واستدل المؤلف بقوله تعالى: { أفأمنوا } .
الضمير يعود على أهل القرى، لأن ما قبلها قوله تعالى: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ - أو أمن أهل القرى أن يأتيهم باسنا ضحى وهم يلعبون - أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (الأعراف: 97- 99).
فقوله: { وهم نائمون } يدل على كمال الأمن لأنهم في بلادهم، وأن الخائف لا ينام، وقوله: { ضحى وهم يلعبون } يدل على كمال الأمن والرخاء وعدم الضيق، لأنه لو كان عندهم ضيق في العيش لذهبوا يطلبون الرزق والعيش وما صاروا في الضحى - في رابعة النهار - يلعبون.(38/1)
والاستفهامات هنا كلها للإنكار والتعجب من حال هؤلاء، فهم نائمون وفي رغد، ومقيمون على معاصي الله وعلى اللهو، ذاكرون لترفهم، غافلون عن ذكر خالقهم، فهم في الليل نوم، وفي النهار لعب، فبين الله - - عز وجل - - أن هذا من مكره بهم، ولهذا قال: { أفأمنوا مكر الله } ، ثم ختم الآية بقوله: { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } ، فالذي يمن الله عليه بالنعم والرغد والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر.
فإذا أنعم الله عليك من كل ناحية: أطعمك من جوع، وآمنك من خوف، وكساك من عرى، فلا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية الله ، بل أنت خاسر، لأن هذا من مكر الله بك.
قوله: { إلا القوم الخاسرون } . الاستثناء للحصر، وذلك لان ما قبله مفرغ له، فالقوم فاعل، والخاسرون صفتهم.
وفي قوله تعالى: { أفأمنوا مكر الله } دليل على أن لله مكرا، والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ومنه ما جاء في الحديث(الحرب خدعة)(1)
فإن قيل: كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟
قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول أن الله ماكر، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا، مثل قوله تعالى { ويمكرون ويمكر الله } (الأنفال: 30)، وقال تعالى: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } (النمل: 50) ومثل قوله تعالى { أفأمنوا مكر الله } (الأعراف: 99) ولا تنفي عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام التي تكون مدحا يوصف بها وفي المقام التي لا تكون مدحا لا يوصف بها.
وكذلك لا يسمى الله بها، فلا يقال: إن من أسماء الله الماكر.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب الحرب خدعة، حديث (3028)، ومسلم: كتاب الجهاد / باب جواز الخداع في الحرب، حديث (1740).(38/2)
وأما الخيانة، فلا يوصف الله بها مطلقا لأنها ذم بكل حال، إذ أنها مكر في موضع الائتمان، وهو مذموم، قال تعالى: { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } (الأنفال: من الآية71) ولم يقل: فخانهم.
وأما الخداع، فهو كالمكر يوصف به الله حيث يكون مدحا، لقوله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } (النساء: 142)، والمكر من الصفات الفعلية، لأنها تتعلق بمشيئة الله - سبحانه -.
(ف): قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب. وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة.
ومعنى الآية: أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، كما قال تعالى: ' 7: 96 - 98 ' { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون - أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون - أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } . أي الهالكون. وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكراً.
قال الحسن رحمه الله : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأى له.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم. فلا تغتروا بالله.
وفي الحديث: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج "(1) رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (4/145)، وابن جرير في تفسيره (7/115)وحسنه العراقي في تخريج الاحياء (4/132) وصححه الألباني في الصحيحة(413).(38/3)
وقال إسماعيل بن رافع: "من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة " رواه ابن أبي حاتم.
وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه، ويملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك، ذكره ابن جرير بمعناه.
(ق): ويستفاد من هذه الآية:
الحذر من النعم التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجا، لأن كل نعمة فلله عليك وظيفة شكرها، وهي القيام بطاعة المنعم، فإذا لم تقم بها مع توافر النعم، فأعلم أن هذا من مكر الله .
تحريم الأمن من مكر الله ، وذلك لوجهين:
الأول: أن الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب.
الثاني: قوله تعالى: { فلا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } (الحجر: 56)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة الله .واستدل المؤلف له بقوله تعالى: { ومن يقنط من رحمة ربه } .
{ من } اسم استفهام، لأن الفعل بعدها مرفوع، ثم إنها لم يكن لها جواب، والقنوط: أشد اليأس، لأن الإنسان يقنط ويبعد الرجاء والأمل، بحيث يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه.
قوله: { من رحمة ربه } ، هذه رحمة مضافة إلى الفاعل، ومفعولها محذوف، والتقدير(من رحمة ربه إياه).
قوله: { إلا الضالون } ، إلا أداة حصر، لأن الاستفهام في قوله: { ومن يقنط } مراد به النفي، و { الضالون } فاعل يقنط.(38/4)
والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون، والضال: فاقد الهداية، التائه الذي لا يدري ما يجب لله تعالى، مع أنه سبحانه قريب الغير، ولهذا جاء في الحديث: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب)(1).
وأما معنى الآية، فإن إبراهيم - عليه السلام - لما بشرته الملائكة بغلام عليم قال لهم { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ - قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ - قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } (الحجر: 54- 56).
فالقنوط من رحمة الله لا يجوز، لأنه سوء ظن بالله - - عز وجل - -، وذلك من وجهين:
الأول: أنه طعن في قدرته سبحانه، لأن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئا على قدرة الله .
الثاني: أنه طعن في رحمته سبحانه، لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله - سبحانه -، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالا.
__________
(1) ضعيف: الإمام احمد في مسنده (4/ 11، 12) وابن ماجه (المقدمة، 1/64)، وابن عاصم في (السنة) (544) والآجري في (الشريعة). قال شيخ الإسلام ابن تميمة: (حديث حسن) (الواسطية، ص 13). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف ابن ماجة. والظلال (454).(38/5)
ولا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه، وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن لا نجاة منها، فنجاه الله - سبحانه -: إما بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس - عليه السلام -، قال تعالى: { فلو لا أنه كان من المسبحين - للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } (الصافات: 144) أو بعمل لاحق، وذلك كدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر(1) وليلة الأحزاب(2) وكذلك أصحاب الغار(3).
وتبين مما سبق أن المؤلف رحمه الله أراد أن يجمع الإنسان في سيره إلى الله تعالى بين الخوف فلا يأمن مكر الله ، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته، فالأمن من مكر الله ثلم في جانب الخوف، والقنوط من رحمته ثلم في جانب الرجاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر؟ فقال:
(الشرك بالله، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله )(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي / باب قوله تعالى (إذا تستغيثون...)، حديث (2953)، ومسلم: كتاب الجهاد / باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث (1763).
(2) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، حديث (2933)، ومسلم: كتاب الجهاد / باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر، حديث (1742).
(3) البخاري: كتاب البيوع / باب إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه فرضي، حديث (2215)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال، حديث (2743).
(4) البزار، كما في (كشف الأستار) (106)، والبيهقي في شعب الايمان (1/271) حديث (291)، وابن أبي حاتم في (التفسير) كما في (الدر المنثور)(2/148)، وقال: (إسناده حسن).وقال الهيثمي (1/104) رواه البزار والطبراني، ورجاله موثوقون.(38/6)
(ف): قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ".
هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر. فقال ابن معين: ثقة. ولينه أبو حاتم. وقال ابن كثير: في إسناده نظر. والأشبه أن يكون موقوفاً.
(ق): قوله: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر). جمع كبيرة، والمراد بها: كبائر الذنوب، وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (النساء: 31) قال تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } (النجم: 32) والكبائر ليست على درجة واحدة، فبعضها اكبر من بعض.
واختلف العلماء هل هي معدودة أو محدودة؟
فقال بعض أهل العلم: إنها معدودة، وصار يعددها ويتتبع النصوص الواردة في ذلك.
وقيل: إنها محدودة، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقال: (كل ما رتب عليه عقوبة خاصة، سواء كانت في الدنيا أو الآخرة، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه) وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة.
ووجه ما قاله: أن المعاصي قسمان:(38/7)
قسم نهى عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد، فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام للعقوبات، وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)(1) وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة(2)، والوضوء من تكفير الخطايا(3)، فهذه من الصغائر.
وقسم رتب عليه عقوبة خاصة، كاللعن، أو الغضب، أو التبرؤ من فاعله، أو الحد في الدنيا، أو نفي الإيمان، وما أشبه ذلك، فهذه كبيرة تختلف في مراتبها.
والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها، خلافاً لحال كثير من الناس اليوم حيث يسأل ليعلم فقط، ولذلك نقصت بركة علمهم.
قوله: (الشرك بالله). ظاهر الإطلاق: أن المراد به الشرك الأصغر والأكبر، وهو الظاهر، لأن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا)(4)، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا.
والشرك بالله يتضمن الشرك بربوبيته، أو بألوهيته، أو بأسمائه وصفاته.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين. انتهى.
ولقد صدق ونصح. قال تعالى: ' 6: 1 ' { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وقال تعالى: ' 31: 13 ' { إن الشرك لظلم عظيم } ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
__________
(1) مسلم: كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة... حديث (233).
(2) البخاري: كتاب الحج / باب وجوب العمرة وفضلها، حديث (1773)، ومسلم: كتاب الحج / باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث (1349).
(3) البخاري: كتاب الوضوء / باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، حديث (160)، ومسلم: كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث (229).
(4) سبق تخريجه.(38/8)
(ق): قوله: (اليأس من روح الله ). اليأس: فقد الرجاء، والروح بفتح الراء قريب من معنى الرحمة، وهو الفرج والتنفيس، واليأس من روح الله من كبائر الذنوب لنتائجه السيئة.
قوله: (الأمن من مكر الله ). بأن يعصي الله مع استدراجه بالنعم، قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } (الأعراف: 182و 183).
وظاهر هذا الحديث: الحصر، وليس كذلك: لأن هناك كبائر غير هذه، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجيب كل سائل بما يناسب حاله، فلعله رأى هذا السائل عنده شيء من الأمن من مكر الله أو اليأس من روح الله ، فأراد أن يبين له ذلك، وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان فيما يأتي من النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض، فيحمل كل واحد منها على الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية.
(ف): واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثير وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أو نفى الإيمان.
قلت: ومن برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: " ليس منا من فعل كذا وكذا ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار
قوله: وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " أكبر الكبائر الإشراك بالله. والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق.
ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن مسعود، قال:(38/9)
(أكبر الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله )(1)
رواه عبد الرازق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في أثر ابن مسعود: (الإشراك بالله): هذا أكبر الكبائر، لأنه انتهاك لأعظم الحقوق، وهو حق الله تعالى الذي أوجدك وأعدك وأمدك، فلا أحد أكبر عليك نعمة من الله تعالى.
قوله: (الأمن من مكر الله ). سبق شرحه.
قوله: (القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ). المراد بالقنوط: أن يستبعد رحمة الله ويستبعد حصول المطلوب، والمراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه، وإنما قلنا ذلك، لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود.
والخلاصة: أن السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه، وهما الأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، فإذا أُصيب بالضراء أو فات عليه ما يحب، تجده إن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه، وأما الأمن من مكر الله ، فتجد الإنسان مقيما على المعاصي مع توافر النعم عليه، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله فلا شك أن هذا استدراج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله .
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف. وهي قوله: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (الأعراف: 99). وقد سبق تفسيرها.
الثانية: تفسير آية الحجر. وهي قوله تعالى { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } ، وقد سبق تفسيرها.
__________
(1) عبد الرازق في (المصنف)(10/ 459)، وابن جرير (5/26)، والطبراني في (الكبير) (8783).(38/10)
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله . وذلك بأنه من أكبر الكبائر، كما في الآية والحديث، وتؤخذ من الآية الأولى، والحديثين.
الرابعة: شدة الوعيد من القنوط. تؤخذ من الآية الثانية والحديثين.
- - - - -(38/11)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): (باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ) الصبر من المقامات العظيمة والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر؛ لأن العبادة أمر شرعي أو نهي شرعي أو ابتلاء بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها.
فحقيقة العبادة أن يمتثل الأمر الشرعي، وأن يجتنب النهي الشرعي، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله -جل وعلا- العباد بها؛ فالابتلاء حاصل بالدين، وحاصل بالأقدار، فبالدين كما قال -جل وعلا- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال الله تعالى: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)(1). فحقيقة بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- الابتلاء، والابتلاء يجب معه الصبر، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي.
فالواجبات تحتاج إلى صبر، والمنهيات تحتاج إلى صبر، والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر،... ولما كان الصبر على المصائب قليلا، أفرد له الشيخ -رحمه الله - تعالى هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد، ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله ؛ لأن تسخط العباد وعدم صبرهم، كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة، ونبه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب، وأن الصبر عن المعصية واجب.
__________
(1) مسلم (2865)، وأحمد (4/162).(39/1)
(ف): قال الإمام أحمد: ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً من كتابه. وفي الحديث الصحيح: " الصبر ضياء " رواه أحمد ومسلم، وللبخاري ومسلم مرفوعاً: " ما أعطى أحد عطاء خيراً أوسع من الصبر " قال عمر - رضي الله عنه -: وجدنا خير عيشنا بالصبر رواه البخاري. قال علي - رضي الله عنه -: " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد - ثم رفع صوته - فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ".
واشتقاقه: من صبر إذا حبس ومنع. والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم رحمه الله .
(ق): (الصبر). في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: (قتل صبرا)، أي: محبوسا مأسورا.
وفي الاصطلاح: حبس النفس على أشياء وعن أشياء، وهو ثلاثة أقسام:
الأول: الصبر على طاعة الله ، كما قال تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } (طه: من الآية132)، وقال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } (الإنسان: 23-24)، وهذا من الصبر على الأوامر، لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه، فيكون مأمورا بالصبر على الطاعة وقال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (الكهف: 28). وهذا صبر على طاعة الله .
الثاني: الصبر عن معصية الله ، كصبر يوسف - عليه السلام - عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه، ومع ذلك صبر وقال: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (يوسف: 33). فهذا صبر عن معصية الله .(39/2)
الثالث: الصبر على أقدار الله ، قال تعالى: { فاصبر لحكم ربك } (الإنسان: 24) فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري، ومنه قوله تعالى: { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } (الأحقاف: 35) لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لرسول إحدى بناته: (مرها، فلتصبر ولتحتسب)(1). إذن الصبر ثلاثة أنواع، أعلاها الصبر على طاعة الله ، ثم الصبر عن معصية الله ، ثم الصبر على أقدار الله .
وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به، وإلا فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلا بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة، فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس، وقد يصلى الإنسان مائة ركعة وتكون أهون عليه من هذا.
وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة، فقد يموت له مثلا قريب أو صديق أو عزيز عليه جدا، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة.
وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول: إن هذا الترتيب فيه نظر، إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطاعات، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق، فنقول: نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز / باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يعذب الميت ببعض بكاء أهله)، حديث (1284)، ومسلم: كتاب الجنائز / باب البكاء على الميت، حديث (923).(39/3)
وكان الصبر على الطاعة أعلى، لأنه يتضمن إلزاما وفعلا، فتلزم نفسك الصلاة فتصلى، والصوم فتصوم، والحج فتحج... فيه إلزام وفعل وحركة فيها نوع من المشقة والتعب، ثم الصبر على المعصية لأن فيه كفًّا فقط، أي: إلزاما للنفس بالترك، أما الصبر على الأقدار، فلأن سببه ليس باختيار العبد، فليس فعلا ولا تركا، وإنما هو من قدر الله المحض.
وخص المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله ، لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية، لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى.
قوله: (على أقدار الله ). جمع قدر، وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر، وهو الله تعالى، أما بالنسبة لفعل المقدر، فيجب على الإنسان الرضا به والصبر، وبالنسبة للمقدور، فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا.
مثال ذلك: قدر الله على سيارة شخص أن تحترق، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضى به، لأنه من تمام الرضا بالله ربا. وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة، فالصبر عليه واجب، والرضا به مستحب وليس بواجب على القول الراجح.
والمقدور قد يكون طاعات، وقد تكون معاصي، وقد يكون من أفعال الله المحضة، فالطاعات يجب الرضا بها، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور، أما من حيث كونها قدر الله ، فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال، ولهذا قال ابن القيم:
فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط الـ… ـمقضي حين يكون بالعصيان
فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل بمعصية، فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا، وله الحكمة في تقديره، وإذا نظر إلى فعله، فلا يجوز له أن يرضى به لأنه معصية، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (التغابن: 11)ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(39/4)
(ف): وأول الآية: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله } أي بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: ' 57: 22 ' { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } وقال: ' 2: 154 ' { وبشر الصابرين - الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون - أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } .
(ق): قوله تعالى: { ومن يؤمن بالله } . { من } : اسم شرط جازم، فعل الشرط { يؤمن } ، وجوابه { يهد } ، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره.
قوله: { يهد قلبه } . يرزقه الطمأنينة، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)(1).
(ف): قال ابن عباس في قوله: " إلا بإذن الله " إلا بأمر الله يعني عن قدره ومشيئته " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " أي من أصابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقيناً صادقاً. وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه.
قوله: " والله بكل شيء عليم " تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته. وذلك يوجب الصبر والرضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم.
هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان / باب فضل من أستبرأ لدينه، حديث (52)، ومسلم: كتاب المساقاة / باب أخذ الخلال وترك الشبهات، حديث (1599).(39/5)
وعلقمة: هو قيس بن عبد الله النخعي الكوفي. ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم. وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين.
قوله: هو الرجل تصيبه المصيبة إلخ. هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان. قال: كنا عند علقمة فقرىء عليه هذه الآية: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. هذا سياق ابن جرير.
(ق): وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان، لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله ، فيرضى ويسلم، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر.
(ف): وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. قال سعيد بن جبير: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " يعني يسترجع. يقول إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب وأنها من ثواب الصابرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
[اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علماً وإيماناً يستضيء به. لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً كالكفر المطلق. كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً الإيمان المطلق. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " وبين كفر منكر في الإثبات.
__________
(1) مسلم: كتاب الايمان / باب اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة حديث (67)، والترمذي، حديث (1001).(39/6)
قوله: الطعن في النسب أي عيبه، يدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه.
قوله: والنياحة على الميت أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة.
(ق): وهذه الجملة هي الشاهد للباب. والناس حال المصيبة على مراتب أربع:
الأولى: السخط، وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه، ويغضب على قدر الله عليه، وقد يؤدي إلى الكفر، وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } (الحج: 11) وقد يكون باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح، كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك.
الثانية: الصبر، وهو كما قال الشاعر:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته…… لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط.
الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة، لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أُصيب بضدها، فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت، بل لتمام رضاه بربه -- سبحانه وتعالى -- يتقلب في تصرفات الرب -- عز وجل -- ولكنها عنده سواء، إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه وهذا الفرق بين الرضا والصبر.(39/7)
الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها) (1).
كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب.
(ق): قوله: (من ضرب الخدود). العموم يراد به الخصوص، أي: من أجل المصيبة.
(ف): وقال الحافظ: خص الخد لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله.
قوله: وشق الجيوب هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزناً على الميت.
(ق): وذلك عند المصيبة تسخطا وعدم تحمل لما وقع عليه.
قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية). دعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه، وتنازع هنا أمران:
الأول: صيغة العموم (دعوى الجاهلية)، لأنه مفرد مضاف فيعم.
__________
(1) البخاري: كتاب المرضى / باب ما جاء في كفارة المرض، حديث (5640)، ومسلم: كتاب البر والصلة / باب ثواب المؤمن، حديث (2572)، وأحمد (2/303)، حديث (8014).
(2) البخاري: كتاب الجنائز / باب ليس منا من شق الجيوب، حديث (1294)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، حديث (103).(39/8)
الثاني: القرينة، لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة، مثل قولهم: وا ويلاه ! وا انقطاع ظهراه !
والأولى أن ترجح صيغة العموم، والقرينة لا تخصصه، فيكون المقصود بالدعوى كل دعوى منشؤها الجهل.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم رحمه الله : الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بضع، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية.
(ق): وذكر هذا الأصناف الثلاثة، لأنها غالبا ما تكون عند المصائب، وإلا فمثله هدم البيوت، وكسر الأواني، وتخريب الطعام، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة.
وهذه الثلاثة من الكبائر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرا من فاعلها.
ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية، مثل: ضرب الأب لأبنه، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة.
(ف): وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور "(1).
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عنه الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقاً وليس على وجه النوح والتسخط نص عليه أحمد رحمه الله ، لما وقع لأبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) حسن:ابن ماجة: كتاب الجنائز (1585) ،باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب وابن حبان (737)وصححه البوصيري في الزوائد ،وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4968).(39/9)
وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء، لما في الصحيح أن رسول الله صلى لله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن، ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله ؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة](1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي. وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر.
(ق): الله يريد بعبده الخير والشر، ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مرادا لذاته بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والشر ليس إليك)(2) ومن أراد الشر لذاته كان إليه، ولكن الله يريد الشر لحكمة، وحينئذ يكون خيرا باعتبار ما يتضمنه من الحكمة.
__________
(1) صحيح بمجموع طرقه: الترمذي: كتاب الزهد / باب ما جاء في الصبر على البلاء، حديث (2396)، والحاكم في (المستدرك)(4/651)، والبيهقي في (السماء والصفات) (154)، والبغوي في (شرح السنة) (5/245)، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1220) بمجموع طرقه. ذكره أيضاً في صحيح الجامع (308) عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
(2) مسلم: كتاب المسافرين وقصرها/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث (771)، وأبو داود حديث (760)، والترمذي حديث (3422)، وأحمد (1/102) حديث (803).(39/10)
قوله: (عجل له بالعقوبة في الدنيا). العقوبة: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك، لأنها تعقب الذنب، لكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على الشر.
وقوله: (عجل له العقوبة في الدنيا). كان ذلك خيرا من تأخيرها للآخرة، لأنه يزول وينتهي، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)(1)
وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب، وهذا أعلى، لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا هو الخير كله، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل تعجيل العقوبة خيرا باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد، كما قال تعالى { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } (طه: 127).
والعقوبة أنواع كثيرة:
منها: ما يتعلق بالدين، وهي أشدها لأن العقوبات الحسية قد ينتبه لها الإنسان، أما هذه، فلا ينتبه لها إلا من وفقه الله ، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي، فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها، وكذلك التهاون بترك الواجب، وعدم الغيرة على حرمات الله ، وعدم القيام بها بالأمر بالمعروف والنهي على المنكر، وكل ذلك من المصائب، ودليله قوله تعالى: { فإن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } (المائدة: 49)
ومنها: العقوبة بالنفس، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية.
ومنها: العقوبة بالأهل، كفقدانهم، أو أمراض تصيبهم.
ومنها: العقوبة بالمال، كنقصه أو تلفه وغير ذلك.
__________
(1) مسلم: كتاب: اللعان، حديث (1493)، والترمذي كتاب الطلاق /باب ما جاء في اللعان، حديث (1202).(39/11)
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المصائب نعمة، لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها. وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة. فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا. وهذا من أعظم النعم. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فيكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلى بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه، فهذا كانت العافية خيراً له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبراً وطاعة، كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب - عز وجل - ورحمة للخلق والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: ' 2: 156 ' { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات. فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصاً.
قوله: وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه، أي أخر عنه العقوبة بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوباً بـ(حتى) مبنياً للفاعل. قال العزيزي: أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفى ما يستحقه من العقاب. وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " إلى آخره فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.(39/12)
وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: ' 2: 216' { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
(ق): وسمي بيوم القيامة لثلاثة أسباب:
1. قيام الناس من قبورهم لقوله تعالى: { يوم يقوم الناس لرب العالمين } (المطففين: 6)
2.قيام الأشهاد، لقوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } (غافر: 51).
3. قيام العدل، لقوله تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } (الأنبياء: 47).
والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث: تسلية الإنسان إذا أُصيب بالمصائب لئلا يجزع، فإن ذلك يكون خيرا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فيحمد الله أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة.(39/13)
وعلى فرض أن أحدا لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة، فنقول له: إن هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يرى أنه لم يخطئ أن يقول: أنا لم أُخطيء، فهذه تزكية، فلو فرضنا أن أحدا لم يصب ذنبا وأصيب بمصيبة، فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا تكفره لكنها تلاقي قلبا تمحصه، فيبتلى الله الإنسان بالمصائب لينظر هل يصبر أم لا؟ ولهذا كان أخشى الناس لله -- عز وجل -- وأتقاهم a - صلى الله عليه وسلم -، يوعك كما يوعك رجلان منا(1) وذلك لينال أعلى درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلى وجوهها، ولذلك شدد عليه - صلى الله عليه وسلم - عند النزع، ومع هذه الشدة كان ثابت القلب، ودخل عليه عبد الرحمن ابن أبي بكر وهو يستاك، فأمده بصره (يعني: ينظر إليه) فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك، فقالت: آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم، فأخذت السواك وقضمته وألانته للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأعطته إياه، فاستن به، قالت عائشة: ما رأيته استن استنانا أحسن منه، ثم رفع يده قال: (في الرفيق الأعلى)(2).
فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة، كل هذا لأجل أن يصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلى درجات الصابرين، صبر لله، وصبر بالله وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات.
فمن أصيب بمصيبة، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من معائبه، فإنه يدل على ربه بعمله ويمن عليه به، فليحذر هذا.
ومن ذلك يتضح لنا أمران:
__________
(1) البخاري: كتاب المرضى/باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، حديث (5648)، ومسلم: كتاب البر والصلة /باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، حديث (2571).
(2) البخاري: كتاب المغازي /باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، حديث (4438)، ومسلم: كتاب السلام / باب استحباب رقية المريض، حديث (2191).(39/14)
أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيرا لسيئاته وتعجيلا للعقوبة في الدنيا، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة.
قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، وإنَّ الله تعالى إذَا أحَبَّ قَوماً ابتَلاهٌم، فَمَن رَضِيَ؛ فَلَهٌ الرِّضا، ومَن سَخِطَ فَلَهٌ السٌّخطٌ). حَسَّنٌه التِّرمِذِي (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال الترمذي: حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس، فذكر الحديث السابق ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن عظم الجزاء... " الحديث. ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: " إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع "(2) قال المنذري: رواته ثقات.
(ق): قوله: (وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء). وهذا حديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فَصَحابيُّه صحابي الحديث الذي قبله.
__________
(1) الترمذي: كتاب الزهد/ باب ما جاء في الصبر على البلاء، حديث (2396)، وابن ماجة: كتاب الفتن/ باب الصبر على البلاء، حديث (4031)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2110).
(2) صحيح:أخرجه أحمد (5/427، 429) المنذري في الترغيب (4/283) والهيثمي في المجمع (2/291) والحافظ(10/108)"رواته ثقات" وصححه الألباني في صحيح الجامع(282).(39/15)
قوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء). أي: يتقابل عظم الجزاء مع عظم البلاء، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم، لأن الله عدل لا يجزى المحسن بأقل من إحسانه، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر، وهذا دليل على كمال عدل الله ، وأنه لا يظلم أحدا، وفيه تسلية المصاب.
(ف): وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح، كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار. فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب.
قوله: وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ولهذا ورد في حديث سعد: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه.
وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة ولا يدفعه عنهم إلا الله ، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم في قضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الإبتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى.(39/16)
(ق): كذلك من الابتلاء الصبر على محارم الله ، كما في الحديث (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله )(1)، فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
قوله: (فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط، فله السخط).(من): شرطية، والجواب: (فله الرضا)، أي: فله الرضا من الله ، وإذا رضي الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعا، والمراد بالرضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله ، وهذا واجب بدليل قوله: (ومن سخط) فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.
ولم يقل هنا (فعليه السخط) مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه، كقوله تعالى: { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } (فصلت: 46).
فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على، كقوله تعالى: { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } (الرعد: 25)، أي: عليهم اللعنة.
وقال آخرون: إن اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق، أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من (على)، كقوله تعالى: { أولئك لهم اللعنة } ، أي حقت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح.
ويستفاد من الحديث:
إثبات المحبة والسخط والرضا لله - - عز وجل - -، وهي من الصفات الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى، لأن (إذا) في قوله: (إذا أحب قوما) للمستقبل، فالحب يحدث، فهو من الصفات الفعلية.
والله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة، ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا، فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبا إلى الله وفي آخر مبغضا إلى الله ، لأن الحكم يدور مع علته.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان/ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، حديث (660)، ومسلم: كتاب الزكاة / باب إخفاء الصدقة حديث (1031).(39/17)
وأما الأعمال؛ فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات، فيؤولون المحبة والرضا بالثواب أو إرادته، والسخط بالعقوبة أو إرادتها، قالوا لأن إثبات هذه الصفات يقتضي النقص ومشابهة المخلوقين، والصواب ثبوتها لله - - عز وجل -- على الوجه اللائق به كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل.
ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران:
1. إثباتها على حقيقتها وظاهرها.
2. الحذر من التمثيل أو التكييف.
(ف): قوله: ومن سخط وهو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط، أي من الله ، وكفى بذلك عقوبة. وقد يستدل به على وجوب الرضا وهو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم.
قال شيخ الإسلام:ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه. قال: وأما ما يروى (من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي)(1) فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك - أي من الرضا - أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها. أ.هـ. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
__________
(1) ضعيف: أخرجه البيهقي في الشعب (1/149، 150) من حدث أنس - رضي الله عنه - باسناد ضعيف ورواه ابن حبان في المجروحين (1/327) والطبراني في الكبير (22/32) عن أبي هند الداري وضعفه ابن حبان وقال العراقي (كما فيض القدير (4/470) اسناده ضعيف جداً)وراجع النهج السديد (410).(39/18)
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضي بالبلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن. وهي قوله تعالى: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ، وقد فسرها علقمة كما سبق تفسير مناسبا للباب.
الثانية: أن هذا من الإيمان. المشار إليه بقوله: (هذا) هو الصبر على أقدار الله .
الثالثة: الطعن في النسب. وهو عيبه أو نفيه، وهو من الكفر، لكنه لا يخرج من الملة.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ منه.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. وهو أن يعجل له العقوبة في الدنيا.
السادسة: إرادة الله به الشر. أي إرادة الله به الشر، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة.
السابعة: علامة حب الله للعبد، وهي الابتلاء.
الثامنة: تحريم السخط.يعني: مما به العبد، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ومن سخط، فله السخط)، وهذا وعيد.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء. وهو رضا الله عن العبد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رضي، فله الرضى).
- - - - -(39/19)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الرياء
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: ما جاء في الرياء): أي من النهي والتحذير.
(ق): المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة، فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء في.
(ف): قال الحافظ: هو مشتق من الرؤية. والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها. والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة. والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله.
(تم): هذا " باب ما جاء في الرياء " يعني : من الوعيد ، وأنه شرك بالله - جل وعلا - .
والرياء حقيقته من الرؤية البصرية ، وذلك بأن يعمل عمل العبادة لكي يرى أنه يعمل العمل الذي هو من العبادة ، إما صلاة ، أو تلاوة ، أو ذكر ، أو صدقة ، أو حج ، أو جهاد ، أو امتثال أمر ، أو اجتناب نهي ، ونحو ذلك ، لا لطلب ما عند الله ، ولكن لأجل أن يراه الناس على ذلك ، فيثنوا عليه به . هذا هو الرياء ، وقد يكون الرياء في أصل الإسلام كرياء المنافقين ، فالرياء على درجتين :
الدرجة الأولى : رياء المنافقين ، بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر لأجل رؤية الخلق ، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله - جل جلاله - ؛ ولهذا وصف الله المنافقين بقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] . فقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } . يعني : الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام ، وإبطان الكفر وشعب الكفر .(40/1)
والنوع الثاني من الرياء : أن يكون الرجل مسلما أو المرأة مسلمة ، ولكن يرائي بعمله أو ببعض عمله ، فهذا شرك خفي وذلك الشرك مناف لكمال التوحيد ، والله - جل وعلا - . قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 و 116 ] على قول من قال : إن قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } يدخل فيه الشرك الخفي والأصغر .
" باب ما جاء في الرياء ، وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، قوله . { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } هذا نهي عن الإشراك ، والنهي هنا عام لجميع أنواع الشرك ومنها شرك الرياء ، ؛ ولهذا يستدل السلف بهذه الآية على مسائل الرياء ، كما أوردها الإمام - رحمه الله تعالى - هنا ؛ لأنه . قال : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
يعني : بما يشمل ترك المراءاة ، فإن الرياء شرك ، وقوله : { وَلَا يُشْرِكْ } هذا عموم يعم أنواع الشرك جميعا ؛ لأن { يُشْرِكْ } نكرة جاءت في سياق النهي ، فعمت أنواع الشرك .(40/2)
وقوله : { أَحَدًا } يعم جميع الخلق بمراءاة أو بتسميع أو بغير ذلك ، فدلالة الآية على الباب ظاهرة ، وأن المراءاة نوع من الشرك الأصغر ، وضرب من الشرك الخفي ، ؛ لأننا نقول : الرياء شرك أصغر باعتبار أنه ليس بأكبر ، ولا مخرج من الملة ، وتارة نقول : الرياء شرك خفي ؛ لأنه ليس بظاهر وإنما هو باطن خفي في قلب العبد ؛ ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبرون عن الشرك الأصغر بيسير الرياء ، وتارة يعبرون عن الشرك الخفي بالرياء ؛ ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق - كما سبق - من عالم إلى آخر ، فتارة يقسمون الشرك إلى أكبر وأصغر ، ومنهم من يقسمه إلى أكبر وأصغر وخفي ، وكل له اصطلاحه ، وكل الأقوال صواب .
" عن أبي هريرة مرفوعا ، « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه »(1): هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه ، وأن الله - جل وعلا - لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء ، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا : الرياء - إذا عرض للعبادة - له أحوال :
الحالة الأولى : أن يعرض للعبادة من أولها ، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة ، كأن ينشئ الصلاة لنظر فلان ، فهو لم يرد أن يصلي ، لكن لما رأى فلانا ينظر إليه صلى ، فهذا عمله حابط ، يعني أن الصلاة التي صلاها حابطة وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي ، الشرك الأصغر .
والحال الثانية : أن يكون أصل العبادة لله ، ولكن خلط ذلك العابد عمله رياء ، كمن أطال الركوع وأكثر التسبيح وأطال القراءة والقيام لأجل من يراه ، فأصل العبادة - والتي كانت لله - له ، وما عدا ذلك فهو حابط ؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب فيحبط ذلك الزائد وهو إثم عليه ، لا يؤجر عليه ولا ينتفع منه ، ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته في العبادات البدنية . أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم (2985)(40/3)
(ق): تعريف الرياء: مصدر راءي يرائي، أي عمل عملا ليراه الناس، ويقال مراءاة كما يقال: جاهد جهادا ومجاهدة، ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع، وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (من راءي راءى الله به، ومن سمع سمع الله به)(1)، والرياء خلق ذميم، وهو من صفات المنافقين، قال الله تعالى: { وَإِذَا قَامُوا إلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلاً } (النساء: من الآية142).
والرياء يبحث في مقامين:
المقام الأول: في حكمه.
فنقول: الرياء من الشرك الأصغر، لان الإنسان قصد بعبادته غير الله ، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر، فقال: (مثل يسير الرياء)، وهذا يدل على أن الرياء كثير قد يصل إلى الأكبر.
المقام الثاني: في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل، كمن قام يصلى من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله ، فهذا شرك والعبادة باطلة.
الثاني: أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة.
فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها، فأولها صحيح بكل حال، وباطل آخرها.
مثال ذلك: رجل عنده مائة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصا وراءى في الخمسين الباقية، فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة.
أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها، فهي على حالين:
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق / باب الرياء والسمع، حديث (6499)، ومسلم: كتاب الزهد /باب تحريم الرياء، حديث (2987).(40/4)
أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه، فإنه لا يؤثر عليه شيئا، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)(1).
مثال ذلك: رجل قام يصلى ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء فصار يدافعه، فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا.
أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه، فحينئذ تبطل جميع العبادة، لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به.
مثال ذلك: رجل قام يصلى ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه، فاطمأن لذلك ونزع إليه، فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض(2)
__________
(1) البخاري: كتاب الطلاق / باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون، حديث (5269)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، حديث (127).
(2) قال الشيخ صالح آل الشيخ (حفظه الله) في كتابه التمهيد لشرح كتاب التوحيد - (باب ما جاء في الرياء / ص 400-401) في شرحه لحديث أبي هريرة مرفوعا ، « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه »:
[هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه ، وأن الله - جل وعلا - لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء ، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا: الرياء - إذا عرض للعبادة- له أحوال:
الحالة الأولى: أن يعرض للعبادة من أولها ، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة ، كأن ينشئ الصلاة لنظر فلان ، فهو لم يرد أن يصلي ، لكن لما رأى فلانا ينظر إليه صلى ، فهذا عمله حابط ، يعني أن الصلاة التي صلاها حابطة وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي ، الشرك الأصغر .
والحال الثانية: أن يكون أصل العبادة لله ، ولكن خلط ذلك العابد عمله رياء ، كمن أطال الركوع وأكثر التسبيح وأطال القراءة والقيام لأجل من يراه ، فأصل العبادة - والتي كانت لله - له ، وما عدا ذلك فهو حابط ؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب فيحبط ذلك الزائد وهو إثم عليه، لا يؤجر عليه ولا ينتفع منه ، ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته في العبادات البدنية . أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك]. أ.هـ.(40/5)
.
الثالث: ما يطرأ بعد انتهاء العبادة، فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا إن يكون فيه عدوان، كالمن والأذى بالصدقة، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها، لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } (البقرة: 264).
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته، لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة. وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سرته حسناته وساءته سيئاته، فذلك المؤمن)(1) وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن)(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف: 110]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم } . يأمر الله نبيه أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على البشرية، وأنه ليس ربا ولا ملكا، وأكد هذه البشرية بقوله: { مثلكم } ، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية.
قوله: { يوحى إلى } . الوحي في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، ومنه قوله تعالى { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } (مريم: 11).
__________
(1) الإمام احمد في (المسند) (1/18، 26)، والترمذي: كتاب الفتن/باب ما جاء في لزوم الجماعة، حديث (2165)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6294) والصحيحة (550).
(2) مسلم: كتاب البر والصلة / باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره، حديث (2642)، وابن ماجة، حديث (4225).(40/6)
وفي الشرع: إعلام الله بالشرع.
والوحي: هو الفرق بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم -، فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل.
قوله: { أنما إلهكم إله واحد } . هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل { يوحى } ، وفيها حصر طريقه { أنما } ، فيكون معناها: ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله ، فإذا ثبت ذلك، فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه، ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } (الكهف: 110).
فقوله تعالى: { فمن كان يرجو لقاء ربه } المراد بالرجاء: الطلب والأمل، أي: من كان يؤمل أن يلقى ربه، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة، لأن اللقيا على نوعين:
الأول: عامة لكل إنسان، قال تعالى { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } (الانشقاق:6) ولذلك قال مفرعا على ذلك: { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا } (الانشقاق: 7) { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره... } الآية (الانشقاق: 10)
الثاني: الخاصة بالمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته - سبحانه وتعالى - يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله في الآية: أي كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح: هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة. أ.هـ.
(ق): فقوله: { فليعمل عملا صالحا } الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر للإرشاد، أي: من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه، فليعمل عملا صالحا، والعمل الصالح: ما كان خالصا صوابا.
وهذا وجه الشاهد من الآية.(40/7)
فالخالص: ما قصد به وجه الله ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات)(1)
والصواب: ما كان على شريعة الله والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد)(2).
ولهذا قال العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال، فالأول ميزان الأعمال الباطنة.والثاني: ميزان الأعمال الظاهرة.
قوله: { ولا يشرك } . لا: ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد.
قوله: { بعبادة ربه أحدا } . خص العبادة لأنها خالص حق الله ، ولذلك أتى بكلمة (رب) إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك، فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل: (لا يشرك بعبادة الله )، فذكر الرب من باب التعليل، كقوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } .
وقوله: { أحدا } نكرة في سياق النهي، فتكون عامة لكل أحد.
والشاهد من الآية: أن الرياء من الشرك، فيكون داخلا في النهي عنه.
وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله ، لأن الملاقاة معناها المواجهة.
وفيه دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يستحق أن يعبد، لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي، حديث (1)، ومسلم: كتاب الإمارة / باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات، حديث (1907).
(2) البخاري: كتاب الصلح / باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية / باب نقص الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث (1718).(40/8)
(ف): وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمرسلين قبله، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: ' 21: 25 ' { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته، ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد: أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم من قبلهم، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة مرفوعا: قال: قال الله تعالى:
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه) رواه مسلم.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في حديث أبي هريرة: (قال الله تعالى). هذا الحديث يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي.
قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك).
قوله: (أغنى). اسم تفضيل، وليست فعلا ماضيا، ولهذا أُضيفت إلى الشركاء.
يعني: إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره، فالله أغنى الشركاء عن المشاركة.
__________
(1) مسلم كتاب الزهد / باب من أشرك في عمله غير الله ، حديث (2985)، وابن ماجة: كتاب الزهد / باب الرياء والسمعة، حديث (4202).(40/9)
فالله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق له وحده، فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره !فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان: (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: 13)، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلي غيره؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم.
قوله: (عملا). نكرة في سياق الشرط، فتعم أي عمل من صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو غيره.
قوله: (تركته وشركه). أي: لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه.
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله، لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه.
والمراد بشركه: عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه، لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يترك، كمن أشرك نبيا أو وليا، فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي.
(ف): قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضاً كحال المنافقين. كما قال تعالى: '4: 142 ' { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه - وذكر أحاديث تدل على ذلك منها: هذا الحديث، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية.(40/10)
قال ابن رجب: وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضاً فيمن يأخذ جعل الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئاً أخذه. وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك ". وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير، وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجرهم شيئ أي لأن قصدهم الأصلى كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروى عن الحسن وغيره، فأما إذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره ذلك. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن "(1) رواه مسلم. انتهى ملخصاً.
(ق): ويستفاد من هذا الحديث:
بيان غنى الله تعالى، لقوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك).
بيان عظم حق الله وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه.
بطلان العمل الذي صاحبه الرياء، لقوله: (تركته وشركه).
تحريم الرياء، لأن ترك الإنسان وعمله وعدم قبوله يدل على الغضب، وما أوجب الغضب، فهو محرم.
__________
(1) مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب: ،حديث(2642)،(166)، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره.(40/11)
أن صفات الأفعال لا حصر لها، لأنها متعلقة بفعل الله ، ولم يزل الله ولا يزال فعالا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي سعيد مرفوعا: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟) قالوا بلي يا رسول الله . قال: (الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلى فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل) رواه احمد (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في حديث أبي سعيد: (ألا).أداة عرض، والغرض منها تنبيه المخاطب، فهو ابلغ من عدم الإتيان بها.
قوله: (بما هو). ما: اسم موصول بمعنى الذي.
قوله: (أخوف عليكم عندي). أي عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإنه - صلى الله عليه وسلم - من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، واعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال، لكن خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جدا، ولذلك قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه)(2)، ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله - - عز وجل - -.
قوله: (المسيح الدجال). المسيح، أي: ممسوح العين اليمنى، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عيبين في الدجال:
__________
(1) الإمام أحمد (3 / 30)، حديث (11270)، وابن ماجة: كتاب الزهد / باب الرياء والسمعة، حديث (4202)، والحاكم (4/ 329) وصححه، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب (27).
(2) البخاري: كتاب العلم / باب الحرص على الحديث، حديث (99).(40/12)
أحدهما حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يخفي عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى)(1).
والثاني معنوي، وهو الدجال، فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصفه الملازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم، ولكن الله -- سبحانه وتعالى - - بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنته عظيمة، إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال.
والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة، وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا: ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به، ولكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون كيف يكون اليوم الواحد عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟ وهذا لا شك جهل منهم بالله، فالذي جعل هذا النظام هو الله ، وهو القادر على أن يغيره متى شاء، فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء، كل ذلك بكلمة (كن)، ورد هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) (الزمر: 67).
فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان، ويحصل منه كل ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البخاري: كتاب احاديث الأنبياء / باب قول الله { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً } (مريم: 16)، حديث (3440)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، حديث (169).(40/13)
ونؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم، ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم، تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلى الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ } (الحج: 11).
قوله: (الشرك الخفي). الشرك قسمان خفي وجلي.
فالجلي: ما كان بالقول مثل الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل: مثل الانحناء لغير الله تعظيما.
والخفي: ما كان في القلب، مثل: الرياء، لأنه لا يبين، إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله ، ويسمى أيضا (شرك السرائر) وهذا هو الذي بينه الله بقوله: { يوم تبلى السرائر } (الطارق: 9) لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور - وحصل ما في الصدور } (العاديات:10، 9)، وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله: أنه (يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله)(1).
قوله: (يقوم الرجل، فيصلى فيزين صلاته). يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف، لقصد التخصيص ولكن لضرب المثل.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الخلق / باب صفة النار وأنها مخلوقة، حديث (3267)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق / باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، حديث (2989).(40/14)
وقوله: (فيزين صلاته). أي: يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك.
قوله: (لما يرى من نظر الرجل إليه). (ما) موصولة، وحذف العائد، أي: للذي يراه من نظر رجل، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة، فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه، وهذا شرك.
(ف): وعن شداد بن أوس قال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرك الأصغر)(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني والحاكم وصححه.
قال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شرك أكبر بحسب حال قائله ومقصده، انتهى.
ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: ' 67: 2 ' { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } قال: أخلصه وأصوبه.قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
وفي الحديث من الفوائد: شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
__________
(1) حسن: الطبراني (7160) والحاكم (4/329) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في في صحيح الترغيب (1/18).(40/15)
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله .
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب، أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف وسبق الكلام عليها.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله . وذلك لقوله: (تركته وشركه)، وصار عظيما، لأنه ضاع على العامل خسارا، وفحوى الحديث تدل على غضب الله - - عز وجل - - من ذلك.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. يعني: الموجب للرد هو كمال غنى الله - - عز وجل - - عن كل عمل فيه شرك، وهو غني عن كل عمل، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه.
الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء. أي: من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا، أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه.
الخامسة: خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء. وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال). وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه، فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلى المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه. وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء، فيكون أخوف علينا عند رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المسيح الدجال.
ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من المسيح الدجال، لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته.(40/16)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)
فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟
قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين. وهو أيضاً إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام. ويفارق الرياء بكونه عمل عملاً صالحاً، أراد به عرضاً من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالاً، كما في الحديث " تعس عبد الدينار "(1) أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى: ' 11: 15 ' { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } .
وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا.
(ق): قوله: (من الشرك).(من) للتبعيض، أي: بعض الشرك.
قوله (الدنيا). مفعول بإرادة، لأن إرادة المصدر مضاف إلى فاعله، وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله، فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا: باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا، فالإنسان فاعل، وعلى هذا، فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله، والدنيا مفعول به.
وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات:
__________
(1) جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد : ،حديث(2887)، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله.(41/1)
الأول: أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد
الثاني: أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب، لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم، وهذا محتمل.
الثالث: أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر، لأن الإنسان في الباب السابق، يعمل رياء يريد أن يمدح في العبادة، فيقال: هو عابد، ولا يريد النفع المادي.
وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه وأهله وولده وما أشبه ذلك، فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة.
أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
1. أن يريد المال، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
2. أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته.
3. أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه، كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له ودفع السوء عنه وما أشبه ذلك.
4. أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير.
وهناك أمثلة كثيرة.
تنبيه:
فإن قيل: هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها يريدون شهادة أو مرتبة بتعلمهم؟
فالجواب: أنهم يدخلون في ذلك إذا لم يريدوا غرضا شرعيا، فنقول لهم:
أولا: لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق، لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة.
ثانيا: أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات، فيدخل كلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة، فإنها لاتهمه.(41/2)
ثالثا: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين - حسنى الدنيا وحسني الآخرة -، فلا شيء عليه لأن الله يقول: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } (الطلاق: 3، 2)، رغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص مع أنه أراد المال مثلا؟
أجيب: إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم، بل قصد أمرا ماديا، فإخلاصه ليس كاملاً لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله ، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك، بل أراد شيئا دنيئا غيره.
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلى من أجل هذا الشيء، فهذه مرتبة دنيئة.
أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية، كالبيع، والشراء، والزراعة، فهذا لا شيء فيه، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة إذا خالطها الرياء في باب الرياء.
ملاحظة:
بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون: في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل، لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر.
وعن الصوم أنه سبب التقوى، فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية، لكن عندما نتكلم عند عامة الناس، فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي، فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية، ولكل مقام مقال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ }
(هود: 15)(41/3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله تعالى: { من كان يريد الحياة الدنيا } . أي: البقاء في الدنيا.
قوله: { وزينتها } : أي: المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة، كما قال الله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (آل عمران: 14).
قوله: { نوف إليهم } . فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة - الياء -، لأنه جواب الشرط.
والمعني: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } (الأحقاف: من الآية20).
ولهذا لما بكى عمر حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثر في جنبه الفراش، فقال: (ما يبكيك؟). قال: يا رسول الله ! كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذه الحال. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)(1)، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.
قوله: { وهم فيها لا يبخسون } . البخس: النقص، أي: لا ينقصون مما يجازون فيه، لأن الله عدل لا يظلم، فيعطون ما أرادوه.
قوله: { أولئك } . المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها.
__________
(1) البخاري: كتاب المظالم والغصب / باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة حديث (2468)، ومسلم: كتاب الطلاق / باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، حديث (1479).(41/4)
قوله: { ليس لهم في الآخرة إلا النار } . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله.
قوله: { وحبط ما صنعوا فيها } . الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.
قوله: { وباطل ما كانوا يعملون } . { باطل } : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ { ما } في قوله: { ما كانوا يعملون } ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.
(ف): قال ابن عباس - رضي الله عنه -: " من كان يريد الحياة الدنيا " أي ثوابها. وزينتها، أي مالها. نوف، أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد: " وهم فيها لا يبخسون " لا ينقصون، ثم نسختها: ' 17: 18، 19 ' " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " الآيتين. رواه النحاس في ناسخه.
قوله: ثم نسختها أي قيدتها. فلم تبق الآية على إطلاقها.(41/5)
وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة ابن شريح قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفى بن ماتع الأصبحي حدثه: (أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره. ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم مال خاراً على وجهه، واشتد به طويلاً. ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال. فيقول الله تبارك وتعالى للقارىء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد(41/6)
قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة"(1).
وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه.
فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله : من صدقة وصلاة، وصلة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيراً.
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (2382) باب ما جاء في الرياء والسمعة وقال حديث حسن غريب . وابن حبان (2502) والحاكم (1/418، 419) وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/13: 15) وصحيح الجامع (1709).(41/7)
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله ، أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة؟ لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله تعالى يقول: ' 5: 27 ' { إنما يتقبل الله من المتقين } .
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله ، طالباً ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله أ.هـ..
(ق): وقوله تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } مخصوصة بقوله تعالى: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } (الإسراء: 18).
فإن قيل: لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد؟ ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟
أجيب: إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين:
أولا: أن القاعدة الشرعية(41/8)
في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم، وآية هود عامة، لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطى ما أراد أن يعطي، أما آية الإسراء، فهي خاصة: { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } (الإسراء: 18)، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص.
الثاني: أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء: لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين، فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء، فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده.
واختلف فيمن نزلت فيه آية هود:
1. قيل: نزلت في الكفار، لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شيء من ذلك، ففيه شيء من شر كهم وكفرهم.
2. وقيل: نزلت في المرائين، لأنهم لا يعملون إلا للدنيا، فلا ينفعهم يوم القيامة.
3. وقيل: نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح.
والسياق يدل للقول الأول، لقوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود: 16).
تنبيه:
اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا وعسى أن يكون خيرا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(41/9)
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعس عبد الدينار؛ تعس عبد الدرهم؛ تعس عبد الخميصة؛ تعس عبد الخميلة؛ إن اعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس؛ وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، اشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، إن كان في الساقة، كان في الساقة، إن إستاذن، لم يؤذن له، وإن شفع، لم يشفع له)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: في الصحيح أي صحيح البخاري.
قوله: تعس هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط، والمراد هنا هلك. قاله الحافظ، وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد. أي شقي. قال أبو السعادات: يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه. وهو دعاء عليه بالهلاك.
(ق): قوله: (عبد الدينار). الدينار: هو النقد من الذهب، والدينار الإسلامي زنته مثقال، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، فيقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقد أراد المؤلف بهذا الحديث أن يتبين أن من الناس من يعبد الدنيا، أي: يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت، ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا شأنه عبدا لها، وهذا من يعني بجمع المال من الذهب والفضة، فيكون مريداً بعمله الدنيا.
قوله (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة). وهذا من يعني بمظهره وأثاثه، لأن الخميصة كساء جميل والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟ فهذا أعظم.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير/ باب الحراسة في الغزو في سبيل الله ، حديث (2887).(41/10)
(ف): قوله: تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وتجمع على خمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة وقال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خمل من أي شيئ كان.
(ق): قوله: (إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط). يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا، أي: أن قدر الله له الرزق والعطاء رضى وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا؟ وما أشبه ذلك، فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه. والله - - سبحانه وتعالى - - يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الدين إلا لمن يحب.
والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر. ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبدا له.
قوله (تعس وانتكس). تعس، أي: خاب وهلك، وانتكس، أي: انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال: (وإذا شيك فلا انتقش). أي إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.
وهذه الجمل الثلاث يحتمل أن يكون خبرا منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله، لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له.(41/11)
(ف): قال الحافظ: هو بالمهملة، أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه. وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه. لأنه إذا تعس انكب على وجهه. وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.
قوله: وإذا شيك أي أصابته شوكة فلا انتقش أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات.
والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة. وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر وهو قوله: تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح، لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال. وقد وصف ذلك بأنه: إن أعطى رضي، وإن منع سخط كما قال تعالى: ' 8: 58 ' { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } فرضاؤهم لغير الله ، وسخطهم لغير الله ، وهكذا حال من كان متعلقاً منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضى، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: -
وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان، فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً.(41/12)
ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار مستعبداً معتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله ، وهذا من أحق الناس بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة " وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله ، فإن الله إذا أعطاه إياه رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالى أولياء الله ويعادى أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان، انتهى ملخصاً.
(ق): قوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ). هذا عكس الأول، فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
و(طوبى) فُعلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعني: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل: إن طوبى شجرة في الجنة، والأول أعم، كما قالوا في ويل: كلمة وعيد، وقيل: واد في جهنم، والأول أعم.(41/13)
(ف): قال أبو السعادات: طوبى اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: " قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ورواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه أبو سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن رجلاً قال: يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها "(1) وله شواهد في الصحيحين وغيرهما. وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهناً أثراً غريباً عجيباً. قال وهب رحمه الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، بينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش. خبا من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا برْك راحلة برْك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (3/71) وابن حبان (2625) وصححه الألباني في الصحيحة (1241) وصحيح الجامع (3818) لشواهده وطرقه.(41/14)
رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك، أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري. قال فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فائذن لنا بالسجود قدامك. قال: فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، بأن لكل رجل منكم أمنيته. فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتني من كل شيئ كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك. ولقد سألت دون منزلتك. هذا لك منى وسأتحفك بمنزلتي لأن ليس في عطائي نكد ولا قصر يد. قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة. على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة. في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة. في كل قبة منها جاريتان من الحور العين. على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة. وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما. ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما. ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة. حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في يا قوتة حمراء. يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل. ويرى لهما مثل ذلك. ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له.(41/15)
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس واستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها. فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها من قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف فينظرون رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان جنتان ذواتاً أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم " وربنا. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي(41/16)
أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد في الصحيحين.
وقال خالد بن معدان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة رواه ابن أبي حاتم.
(ق): وقوله: (آخذ بعنان فرسه). أي: ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.
قوله: (في سبيل الله ). ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قُتل دون ذلك، فهو شهيد)، فأما من قاتل للوطنية المحضة، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.
قوله: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه). أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله - - عز وجل - - وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفا، فليس له هم فيه.
قوله: (إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، فهو في الساقة). الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش، فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان:
أحدهما: أنه لا يبالي أين وضع، إن قيل له: احرس، حرس، وإن قيل له: كن في الساقة، كان فيها، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا.
الثاني: إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث الصالح لمعنيين، يحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا.(41/17)
(ف): قال ابن الجوزي رحمه الله : وهو خامل الذكر لا يقصد السمو.
وقال الخلخالي: المعنى ائتماره بما أمر، وإقامته حيث أقيم. لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة. انتهى. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله .
(ق): قوله: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له). أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة، فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيل الله . والشفاعة: هي التوسط لغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.
(ف): وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره "(1).....، قال الحافظ: فيه ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع. انتهى.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال عبد الله بن a قاضي نصيبين حدثني a بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج. وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة. قال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
من كان يخضب خده بدموعه
أو كان يتعب خيله في باطل
ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا
ولقد أتانا من مقال نبينا لايستوي غبار خيل الليل
في هذا كتاب الله ينطق بيننا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
فنحورنا بدمائنا تتخضب
فخيولهم يوم الصبيحة تتعب
رهج السنابك والغبار الأطيب
قول صحيح صادق لا يكذب
أنف امرئ ودخان نار تلهب
ليس الشهيد بميت لا يكذب
__________
(1) مسلم ، كتاب البر والصلة : ،حديث(2622)،(138) باب فضل الضعفاء والخاملين :وكتاب الجنة وصفة نعيمها : ،حديث(2854)،(48): باب النار يدخلها الجبارون من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ،وأخرجه أحمد (3/128) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.(41/18)
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم قال لي: اكتب هذا الحديث، وأملى على الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: "أن رجلاً قال: يا رسول الله علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال: هل تستطيع أن تصلى فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله ، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات؟ "(1).
(ق): والحديث قسم الناس إلى قسمين:
الأول: ليس له هم إلا الدنيا، أما لتحصيل المال، أو تجميل الحال، فقد استبعدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته.
الثاني: أكبر همه الآخرة، فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله ، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه.
ويستفاد من الحديث:
أن الناس قسمان كما سبق.
أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له.
أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه، إما في الحراسة، أو الساقة، أو القلب، أو الجنب، حسب المصلحة.
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد : حديث(2785)، باب فضل الجهاد والسير من حديث ابي هريرة بنحوه.(41/19)
أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله - - عز وجل - - فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع وإن استأذن لم يؤذن له قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - (طوبى له)، ولم يقل إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسال عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله (تعس وانتكس).
السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. وهذا من الشرك، لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة.
الثانية: تفسير آية هود. وقد سبق ذلك.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله - - عز وجل - - ومحبة أعمال الخير.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط. وهذا تفسير لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط)، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء.
الخامسة: قوله (تعس وانتكس).
السادسة: قوله: (إذا شيك فلا انتقش) يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء، وسبق شرح ذلك.
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.(41/20)
فقوله في الحديث (طوبى لعبد....) يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير وأصحاب الفرش والمراتب.
- - - - -(41/21)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب والأبواب بعده في بيان مقتضيات التوحيد ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي، وتستلزم أن يكون العبد مطيعا لله -جل وعلا - فيما أحل، وما حرم، محلا للحلال، محرما للحرام، لا يتحاكم إلا إليه -جل وعلا- ولا يُحَكِّمُ في الدين إلا شَرْعَ الله -جل وعلا-.
والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله -جل وعلا- على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وليست وظيفتهم التي أذن لهم بها في الشرع أن يحللون ما يشاءون، أو يحرموا ما يشاءون، بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص، وأن يبينوا ما أحل الله ، وما حرم -جل وعلا- فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة؛ ولذلك كانت طاعتهم تبعاً لطاعة الله ورسوله، يطاعون فيما فيه طاعة لله -جل وعلا- ولرسوله. وما كان من الأمور الاجتهادية، فيطاعون؛ لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم، فتكون طاعة العلماء والأمراء من جهة الطاعة بالتبعية لله ولرسوله.
أما الطاعة الاستقلالية، فليست إلا لله -جل وعلا - حتى طاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما هي تبع لطاعة الله -جل وعلا -، فإن الله هو الذي أذن بطاعته، وهو الذي أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول الله ، قال -جل وعلا -: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله } (النساء: من الآية80) وقال -جل وعلا -: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } (النساء: من الآية64).(42/1)
فالطاعة الاستقلالية نوع من أنواع العبادة، فيجب إفراد الله -جل وعلا- بها وغير الله -جل وعلا، إنما يطاع لأن الله -جل وعلا - أذن بطاعته، ويطاع فيما أذن الله به في طاعته، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله ؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق في معصية الخالق -جل وعلا -، وإنما يطاع فيما أطاع الله -جل وعلا - فيه على النحو الذي يأتي.
فهذا الباب عقده الشيخ -رحمه الله - ليبين أن الطاعة من أنواع العبادة، بل إن الطاعة في التحليل وفي التحريم، هي معنى اتخاذ الأرباب، كما قال الله -جل وعلا -: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } (التوبة: من الآية31) وما سيأتي من بيان حديث عدي بن حاتم، - رضي الله عنه -.
(ق): قوله (من أطاع العلماء). (من) يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله: (فقد اتخذهم)، لأنه جواب الشرط، ويحتمل أن تكون موصولة، أي: (باب الذي أطاع العلماء).
(تم): قوله ((باب من أطاع العلماء والأمراء)) العلماء والأمراء هم أولو الأمر في قوله -جل وعلا- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء: من الآية59) قال العلماء: أولو الأمر يشمل من له الأمر في حياة الناس في دينهم، وهم العلماء وفي دنياهم، وهم الأمراء، وقد قال -جل وعلا: { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ولم يكرر فعل الطاعة.
قال ابن القيم وغيره: دل هذا على أن طاعة أولي الأمر، ليست استقلالا، وإنما يطاعون في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أمروا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص من الكتاب والسنة، فإنهم يطاعون في ذلك لان الله أذِنَ به، ولما في ذلك من المصالح المرعية في الشرع.(42/2)
قوله: ((في تحريم ما أحل الله )) يعني: في تحريم الأمر الذي أحله الله ، بحيث هناك حلال في الشرع، فيحرمونه، أي يحرمه العالم، أو يحرمه الأمير، فيطيعه الناس، وهم يعلمون أنه حلال، لكن يطيعونه في التحريم، ومثاله: أن الله أحل أكل الخبز، فيقولون: الخبز حرام عليكم دينا، فلا تأكلوه تديناً. ويحرمونه لأجل ذلك، فإن أطاعوهم كان ذلك طاعة لهم في تحريم ما أحل الله .
قوله: ((أو تحليل ما حرم الله )) يعني: أحلوا ما يُعْلَم أن الله حرمه، مثاله: حرم الله الخمر، فأحله العلماء، أو أحله الأمراء، فمن أطاع عالما، أو أميراً في اعتقاد أن الخمر حلال، وهو يعلم أنها حرام، وأن الله حرمها، فقد اتخذه ربا من دون الله جل وعلا.
(ق): فتحريم ما احل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله ، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ، ومع ذلك، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال، لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل وهو الحل، ورحمة الله - سبحانه - سبقت غضبه، فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه، ولأنه أضيق وأشد، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم.
أما في العبادات فيشدد، لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل:
والأصل في الأشياء حل ……وامنع عبادة إلا بإذن الشارع
(تم): ففي هذا الباب حكمٌ وشرطٌ، فالحكم قوله في آخره: ((فقد اتخذهم أربابا)) وهو جزاء الشرط، والشرط قوله: ((من أطاع العلماء والأمراء)) وضابط هذا الشرط ما بينهما، وهو قوله: ((في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرمه)) وهذا يستفاد منه يعني: من اللفظ أنهم عالمون بما أحل الله ، فحرموه طاعة لأولئك، عالمون بما حرم، فأحلوه طاعة لهم.(42/3)
قوله في آخره: ((فقد اتخذهم أربابا)) ذلك لأجل آية سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله } وحديث عدي بن حاتم في ذلك.
والأرباب جمع الرب، والرب والإله لفظان يفترقان إذا اجتمعا؛ ويجتمعان إذا افترقا، لأن الرب هو السيد الملك المتصرف في الأمر، والإله هو المعبود.
(ق): والتصرف نوعان: تصرف قدري، وتصرف شرعي.
فمن أطاع العلماء في مخافة أمر الله ورسوله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي، لأنه اعتبرهم مشرعين واعتبر تشريعهم شرعا يعمل به، وبالعكس الأمراء.
(تم): وقد سئل المصنف الإمام a بن عبد الوهاب -رحمه الله - عن الفرق بين الإله والرب في مثل هذه السياقات في نحو قوله: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران: 80)، وفي نحو قوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله } (التوبة: من الآية31) ما معنى الربوبية هنا؟ قال: الربوبية هنا بمعنى الإلوهية، بمعنى المعبود، لأن من أطاع على ذلك النحو، فقد عَبَدَ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي حين قال: (إنا لسنا نعبدهم). فعدي فهم من كلمة (أربابا) العبادة.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مقررا لذلك: (أليس يحرمون..) الخ، فهو إقرار منه عليه الصلاة والسلام بأن معنى الربوبية هنا العبودية.(42/4)
فلهذا قال الشيخ -رحمه الله - حينما سئل: الإلوهية والربوبية، أو كلمة الرب والإله من الألفاظ التي، إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت يعني: كلفظ الفقير والمسكين، وكلفظ الإسلام والإيمان، ونحوهما؛ لأن الإله يطلق على المعبود، وجاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود، كما ذكرنا في الآيات، وفي الحديث، وكقوله -عليه الصلاة والسلام- في مسائل القبر: (فيأتيه ملكان، فيسألانه من ربك؟) يعني: من معبودك؛ لأن الابتلاء لم يقع في الرب الذي هو الخالق الرازق المحيي المميت.
إذًا لفظ (الرب) و(الإلهية) من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، فقد يطلق على الأرباب آلهة وعلى الآلهة أربابا، وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة؟، يعني: أن أصله في اللغة يدخل هذا في هذا، وهذا في ذاك، أو أنه لأجل اللزوم والتضمن؟ الظاهر -عندي- الأخير، وهو أنه لأجل اللزوم والتضمن، فإن الربوبية مستلزمة للألوهية والألوهية متضمنة للربوبية، فإذا ذكر الإله، فقد تضمن ذلك ذكر الرب، وإذا ذكر الرب إستلزم ذلك ذكر الإله؛ ولهذا قال -جل وعلا - هنا: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً } (آل عمران: 80) يعني: آلهة لاستلزام لفظ الربوبية للألوهية، وكذلك قوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله } يعني: آلهة معبودين، كما آتى تفصيله في الحديث.(42/5)
وقال ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر)(1) هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وإسناده عن عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن ابن عباس، أو نحو ذلك، فقد ذكر إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع في الفتاوى بنصه، فذكر الإسناد والمتن، وغالب الذين خرجوا كتاب التوحيد قالوا: إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ، وهذه جرأة منهم، حيث إنهم ظنوا أن كل كتب الحديث بين أيديهم، ولو تتبعوا كتب أهل العلم لوجدوا أن إسناده، والحكم عليه موجود في كتبهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن عباس:
يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع.
وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال به: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل: أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى" لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد " والحديث في الصحيحين، وحينئذ فلا عذر لمن استُفتي أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك. كما قال تعالى: ' 4: 59 ' { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
__________
(1) أخرجه أحمد (3121).(42/6)
وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت " هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها. ولفظه في حديث جابر: " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم " في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس.
وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.... الحديث.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -.
وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير.(42/7)
وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما في الحديث(1)، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم. وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم فيه حديث، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد. وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللُقى والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين. ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها. والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين. فسهل الأمر على طالب العلم. وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به - تقليداً لإمامه - فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عمر البزار، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة ابن عباس قال: ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) وذلك في حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" البخاري، كتاب الاعتصام : باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ،حديث(7352)، ومسلم ، كتاب الأقضية : باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ،حديث(1716)،(15).(42/8)
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد، وذلك مجمع عليه، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أحمد بن حنبل: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: من الآية63) أتدرى ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب. قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك - إلى قوله - فيهلك. ثم جعل يتلو هذه الآية: ' 4: 65' { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .(42/9)
وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الكفر. قال الله تعالى: ' 2: 217 ' { والفتنة أكبر من القتل } فيدعون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
(ق): قول أحمد رحمه الله : (عجبت) العجب نوعان:
الأول: عجب استحسان، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله)(1).
الثاني: عجب إنكار، كما في قوله تعالى: { بل عجبت ويسخرون } (الصافات: 12)، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار.
قوله: (الإسناد). المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه، أي: عرفوا صحة الحديث بمعرفة الرجال.
قوله: (يذهبون إلى رأي سفيان). أي: سفيان الثوري، لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا، فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث !
(ف): وسفيان: هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة، كالتمهيد لابن عبد البر، والاستذكار له، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر، والمحلى لابن حزم، والمغنى لأبي a عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي. وغير هؤلاء.
__________
(1) البخاري: كتاب الوضوء / باب التيمن في الوضوء والغسل، حديث (168)، مسلم: كتاب الطهارة / باب التيمن في الوضوء وغيره، حديث (268).(42/10)
فقول الإمام أحمد رحمه الله : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته... إلخ إنكار منه لذلك. وأنه يؤول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافراً. وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصاً ممن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد. والاجتهاد قد انقطع ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه، ويمنع قوله بدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله. فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه، كما قال تعالى: ' 7: 3 ' { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } وقال تعالى ' 29: 51 ' { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضاً أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك.(42/11)
قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة، لجهلهم بالكتاب والسنة، ورغبتهم عنها، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم، واتبعوا غير سبيلهم. كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والإقبال على كتب من تأخروا والإستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم: ' 9: 3 ' { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه....
والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال.(42/12)
وقال: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل: إذا كان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة.
وقال الربيع: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت.
وقال: إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط.
وقال مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا. ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج بنا عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى.
(ق): قوله: (والله يقول: (فليحذر)). الفاء عاطفة، واللام للأمر، ولهذا سكنت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر، لالتقاء الساكن.
قوله: (عن أمره). الضمير يعود للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بدليل أول الآية قال تعالى { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: 63).
فإن قيل: لماذا عدى الفعل بـ: (عن) مع أن (يخالف) يتعدى بنفسه؟
أجيب: أن الفعل ضمن معنى الإعراض، أي: يعرضون عن أمره زهدا فيه وعدم مبالاة به.
و(أمره): واحد الأوامر لأمره وليس واحد الأمور، لأن الأمر هو الذي يخالف فيه، وهو مفرد مضاف، فيعم جميع الأوامر.
(فتنة).الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك، وعلى هذا يكون الوعد بأحد أمرين: إما الشرك، وإما العذاب الأليم(42/13)
(ف): قوله: لعله إذا رد بعض قوله أي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقع في قلبه شيئ من الزيغ فيهلك نبه رحمه الله أن رد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ' 61: 5 ' { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : في معنى قول الله تعالى: ' 24: 63 ' { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } فإن كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى أ.هـ.
وقال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } قال: يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه.
قال أبو جعفر بن جرير: أدخلت عن لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين.
قوله: أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عدي بن حاتم: انه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة: 31)، فقلت: إنا لسنا نعبدهم. قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟) فقلت بلي، قال: (فتلك عبادتهم). رواه أحمد والترمذي وحسنه(1)
__________
(1) حسن: الترمذي: كتاب تفسير القرآن / باب ومن سورة التوبة، حديث (3095)، وحسنه الشيخ الألباني.(42/14)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث قد روى من طرق، فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي.
قوله: عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور.وحاتم هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج - بفتح الحاء المهملة - المشهور بالسخاء والكرم قدم عدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة تسع من الهجرة، فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة.
(ق): قوله في حديث عدى بن حاتم: { اتخذوا } . الضمير يعود للنصارى، لأن اليهود لم يتخذوا المسيح ابن مريم إلها، بل ادعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وادعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصارى جميعا ويختص النصارى باتخاذ المسيح ابن مريم، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها.
قوله: { أحبارهم ورهبانهم } . الأحبار: جمع حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم الواسع العلم، والرهبان: جمع راهب، وهو العابد الزاهد.
قوله: { أرباباً من دون الله } .أي: مشاركين لله عز وجل في التشريع، لأنهم يحلون ما حرم الله فيحله هؤلاء الأتباع، ويحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع.
قوله: { والمسيح ابن مريم } . أي: اتخذوه إلها مع الله ، بدليل قوله تعالى: { وما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } ، والعبادة: التذلل والخضوع، واتباع الأوامر واجتناب النواهي.(42/15)
قوله: { إلها واحدا } . هو الله - - عز وجل - -، وإله، أي: مألوه معبود مطاع، وليس بمعنى آله، أي: قادر على الاختراع، فإن هذا المعنى فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم، فيكون معنى (لا إله إلا الله ) على هذا القول: لا رب إلا الله ، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة، إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موحدين، لأنهم يقولون: لا رب إلا الله ، قال تعالى: { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله } (المؤمنون: 86) وهذه إحدى القراءتين، وهي سبعيه.
قوله: { سبحانه عما يشركون } . { سبحان } : اسم مصدر، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبا تقديره يسبح سبحانا، أي: تسبيحا، لأن اسم المصدر بمعنى المصدر، فسبحان: مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبا وهي ملازمة للإضافة: إما إلى مضمر، كما في الآية: { سبحانه } ، أو إلى مظهر كما في (سبحان الله ).
والتسبيح: التنزيه، أي: تنزيه الله عن كل نقص، ولا يحتاج أن نقول: ومماثلة المخلوقين، لأن المماثلة نقص، ولكن إذا قلناها، فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين.
وقوله: { عما يشركون } . أي: مما سواه من المسيح ابن مريم والأحبار والرهبان، فهو متنزه عن كل شرك وعن كل مشرك به.
قوله: { عما يشركون } . هذا من البلاغة في القرآن، لأنها جاءت محتملة أن تكون (ما) مصدرية، فيكون المعنى عن شركهم، أو موصولة، ويكون المعنى: سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة للأمرين، فتكون شاملة لهما لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض فيكون التنزيه عن الشرك وعن المشرك به.(42/16)
قوله: (إنا لسنا نعبدهم). أي: لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم ولا نركع ولا نذبح ولا ننذر لهم، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان بدليل قوله: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!).
فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدا، لأنه رسول الله ، فما أحله، فقد أحله الله ، وما حرمه، فقد حرمه الله ، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعنى مع ضعف سنده، والحديث حسنة الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون.
ويجاب على التعليل المذكور بأن قول عدى: (لسنا نعبدهم) يعود على الأحبار والرهبان، أما عيسى ابن مريم، فالمعروف أنهم يعبدونه.
وبدأ بتحريم الحلال، لأنه أعظم من تحليل الحرام، وكلاهما محرم، لقوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } (النحل: 116).
قوله: (فتلك عبادتهم) ووجه كونها عبادة: أن من معنى العبادة الطاعة، وطاعة غير الله عبادة للمطاع، ولكن بشرط أن تكون في غير طاعة الله ، أما إذا كانت في طاعة الله فهي عبادة لله، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت، فلا تكون قد عبدت أباك بطاعتك له، ولكن عبدت الله ، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره هو امتثال لأمر الله .
(ف): وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديماً وحديثاً في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا. وقد قال تعالى: ' 28: 50 ' { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .(42/17)
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر - رضي الله عنه -: " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمي.
جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
(ق): ويستفاد من هذا الحديث:
أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة.
أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع، أما في عبادة الله ، فهي عبادة لله.
أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابا.
واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيا بقولهم، مقدما له، ساخطا لحكم الله فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله ، فأحبط الله عمله، ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر، فكل من كره ما أنزل الله ، فهو كافر.
الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيا بحكم الله وعالما بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوى في نفسه اختاره، كأن يريد مثلا وظيفة، فهذا لا يكفر، ولكنه فاسق وله حكم غيره من العصاة.
الثالث: أن يتابعهم جاهلا، فيظن أن ذلك حكم الله ، فينقسم إلى قسمين:
أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه، فهو مفرط أو مقصر، فهو آثم، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.
أن لا يكون عالما ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدا ويظن أن هذا هو الحق، فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذور بذلك، ولذلك ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن من أفتى بغير علم، فإنما إثمه على من أفتاه)(1)، لو قلنا: بإثمه بخطأ غيره، لزم من ذلك الحرج والمشقة، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه.
فإن قيل: لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني؟
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/321، 365)، وأبو داود: كتاب العلم / باب التوقي في الفتيا، حديث (3657)، وابن ماجة: كتاب المقدمة/ باب اجتناب الرأي، حديث (53). قال الألباني: (إسناده حسن) (المشكاة 242).(42/18)
أجيب: إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله .
فائدة:
وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاث أوصاف:
قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44).
قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْظالمون) (المائدة: من الآية45).
قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفاسقون) (المائدة: من الآية47).
واختلف أهل العلم في ذلك:
فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد، لأن الكافر ظالم، لقوله تعالى { والكافرون هم الظالمون } (البقرة: 254) وفاسق، لقوله تعالى: { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } (السجدة: 20)، أي: كفروا.
وقيل: إنها لموصفين متعددين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح.
فيكون كافرا في ثلاثة أحوال:
إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله ، بدليل قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون } (المائدة: 50) فكل ما خالف حكم الله ، فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمحل والمبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن.
إذا اعتقد أن حكم غير الله مثل من حكم الله .
إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
بدليل قوله تعالى: { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } (المائدة: 50)، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام، بدليل قوله تعالى مقررا ذلك: { أليس الله بأحكم الحاكمين } (التين: 8) فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاما وهو أحكم الحاكمين، فمن أدعى أن غير حكم الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مكذب للقرآن.(42/19)
ويكون ظالما: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله ، فهو ظالم.
ويكون فاسقا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا يضر أحدا به، مثل: أن يحكم لشخص لرشوة رشي إياها، أو لكونه قريبا أو صديقا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق، وإن كان أيضا ظالما، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم.
أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر.
ولكن قد يكون الواضع له معذورا، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس.
فيوجد بعض العلماء -وإن كانوا مخطئين- يقولون: إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكا للربا أو ضرائب على الناس، فهذا لا شيء فيه.
وهذا لا شك في خطئه، فإن كان مجتهدين غفر الله لهم، وإلا، فهم على خطر عظيم، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء الملة.
ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها، فالشرع كامل من جميع الوجوه، قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } (المائدة: 3).(42/20)
وكيف يقال: إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس؟
وأنا لا أقول: نأخذ بكل ما قاله الفقهاء، لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوجد حال من الأحوال تقع بين الناس إلا في كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم، وهذا قصور، أو نقص التدبر، وهذا تقصير.
أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق، فلا بد أن يصل إليه حتى في المعاملات، قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } (النساء: 82) وقال تعالى: { أفلم يدبروا القول } (المؤمنون: 68) وقال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } (ص: 29)، وقال تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } (النحل: 89) فكل شيء يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه، فإن القرآن بينه بيانا شافيا.
ومن سن قوانين تخالف الشريعة وادعى أنها من المصالح المرسلة، فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها، فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع، فهو مصلحة، وما نفاه، فليس بمصلحة، وما سكت عنه فهو عفو.(42/21)
والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها، كعيد ميلاد الرسول، فزعموا أن فيه شحذا للهمم وتنشيطا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا باطل، لأن جميع المسلمين في كل صلاة يشهدون أن محمدا عبده ورسوله ويصلون عليه، والذي لا يحي قلبه بهذا وهو يصلى بين يدي ربه كيف يحي قلبه بساعة يؤتى فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فهذه مفسدة وليست مصلحة.
فالمصالح المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار، فلاشك أن مرادهم نصر الله ورسوله، ولكن استخدمت هذه المصالح في غير ما أراده أولئك العلماء وتوسع فيها، وعليه، فإنها تقاس بالمعيار الصحيح، فإن اعتبرها الشرع قبلت، وإلا، فكما قال الإمام مالك: (كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر) وهنالك قواعد كليات تطبق عليه الجزئيات.
وليعلم أنه يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام، فلا يتسرع في البت بها خصوصا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية، مع إن الإنسان إذا كفر شخصا ولم يكن الشخص أهلا له عاد ذلك إلى قائله، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة، فيكون مباح الدم والمال، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين، فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين:
ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر.
انطباق شروط التكفير عليه، وأهمها بأن هذا مكفر، فإن كان جاهلا، فإنه لا يكفر، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد أن يكون عالما بالتحريم، وهذا وهو إقامة حد وليس بتكفير، والتحرز من التكفير أولى وأحرى.(42/22)
قال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل } (النساء: من الآية165) وقال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسول } (الإسراء: 15) وقال تعالى: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } (التوبة: من الآية115) ولابد من توفر الشروط من عدم الموانع، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر، لقوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكراه وقلبه مطمئن بالإيمان } (النحل: 106) ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكة: (اللهم!أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح(1)، فلم يؤاخذ بذلك).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور. وهي قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم). وسبق تفسيرها
الثانية: تفسير آية براءة.وهي قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله .) الآية، وقد سبق ذلك.
__________
(1) البخاري: كتاب الدعوات /باب التوبة، حديث (6309)، ومسلم: كتاب التوبة /باب الدعوات/ باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث (2747).(42/23)
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي. لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبه، ولكن بين - صلى الله عليه وسلم - المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان. أي: إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهما، فما بالك بمن عارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول من دونهما؟ فهو اشد وأقبح، وكذلك مثل الإمام احمد بسفيان الثوري وأنكر على من أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره). الآية.
الخامسة: تحول الأحوال إلي هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال... الخ.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال... وهذا لاشك أنه أشد من معارضة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول أبي بكر وعمر.
ثم قال: (ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين)، أي: يركع ويسجد له، ويعظم تعظيم الرب، ويوصف بما لا يستحق، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر.
ثم قال: (وعبد بالمعنى الثاني): وهو الطاعة والاتباع من هو من الجاهلين، فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئا، فصاروا يعبدون بهذا المعنى، فيطاعون في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .(42/24)
وهذا في زمان المؤلف، فكيف بزماننا؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم(1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا(2)، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدى من عصر من بعدهم.
والناس لا يحسون بالتغير، لأن الأمور تأتي رويدا رويدا، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء، لوجد التغير الكثير المزعج - نسأل الله السلامة -، فعلينا الحذر، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يحمي وأن يصان، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أبدا مهما كانت منزلته، وأن الواجب أن نكون عبادا لله - - عز وجل - - تذللا وتعبدا وطاعة.
- - - - -
__________
(1) البخاري: كتاب الفتن / باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، حديث (7068)، والترمذي، حديث (2206).
(2) أبو داود: كتاب السنة / باب في لزوم السنة، حديث (4607)، والترمذي، حديث (2676)، وابن ماجة، حديث (44).(42/25)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً }
(النساء: 60)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب؛ وذلك لأن إفراد الله -جل وعلا - بالوحدانية في ربوبيته وفي ألوهيته يتضمن، ويقتضي، ويستلزم جميعاً أن يفرد في الحكم، فكما أنه -جل وعلا - لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه، فيما يتخاصم فيه الناس، وفي الفصل بينهم، فالله -جل وعلا - هو الحكم، وإليه الحكم -سبحانه قال -جل وعلا - { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } (غافر: من الآية12) وقال- جل وعلا-: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } (الأنعام: من الآية57) فتوحيد الله -جل وعلا - في الطاعة، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكمين لما أنزل الله -جل وعلا - على رسوله.
فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بحكم الجاهلية، أو بحكم القوانين، أو بحكم سواليف البادية، أو بكل حكم مخالف لحكم الله -جل وعلا - هذا من الكفر الأكبر بالله -- جل جلاله -- ومما يناقض كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
وقد عقد الشيخ -رحمه الله - هذا الباب؛ ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين، وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله -جل وعلا- وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام الشيخ a بن إبراهيم -رحمه الله - في أول رسالته تحكيم القوانين:(43/1)
إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، ليكون حكما بين العالمين، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين، انتهى كلامه بمعناه.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة، وإفراد الله بالحكم، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، كل ذلك يقتضي ألا يحكم إلا بشرعه؛ فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية، أو الحكم بسواليف البادية، من الكفر الأكبر بالله -جل وعلا- لقوله -تعالى هنا في هذه الآية-: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ } (النساء: 60).فمناسبة هذه الباب لكتاب التوحيد ظاهرة جلية، وهي أن التحاكم إلى غير شرع الله ، قدح في أصل التوحيد، وأن الحكم بشرع الله واجب، وأن تحكيم القوانين، أو سواليف البادية، أو أمور الجاهلية مناف لشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله ، أن يطاع فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فالحكم بين المتخاصمين لا بد أن يرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين، ومن خلق الأرض والسماوات.
فالحكم الكوني القدري لله -جل وعلا - وكذلك الحكم الشرعي لله -جل وعلا - فيجب أن لا يكون بين العباد، إلا تحكيم أمر الله -جل وعلا- فإن ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله -جل وعلا- في مسائل التخاصم بين الخلق.
(ق): وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات: -
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى: { ألم تر } .
الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.(43/2)
قوله: { يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } . هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا، ولم يقل الذين آمنوا، لأنهم لم يؤمنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون.
والذي أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والحكمة، قال تعالى: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } (النساء: 113) قال المفسرون: الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله.
قوله: { إلى الطاغوت } . صيغة مبالغة من الطغيان، ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعنى الأعم فقد حده ابن القيم بأنه: (كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع) وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد.
قوله: { وقد أمروا أن يكفروا به } . أي: أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه، فهذه الإرادة على بصيرة، إذ الأمر بين لهم.
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا.(43/3)
وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزله منزلة لا يستحقها. وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ - هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [يونس :28- 30] وكقوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [سبأ :40- 41] وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجراً أو حجراً أو قبراً وغير ذلك مما يتخذه المشركون أصناماً على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرءوا منه، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائناً من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله، وهذا ينافي(43/4)
التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله . فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله ، كما قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4] وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك رحمه الله الطاغوت ما عبد من دون الله .(43/5)
وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورغب عنه، وجعل لله شريكاً في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره الله تعالى به في قوله: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } وقوله تعالى: ' 4: 65 ' { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } فمن خالف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك أتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه. وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: " يزعمون " من نفى إيمانهم، فإن " يزعمون " إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: " وقد أمروا أن يكفروا به " لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه. كما أن ذلك بين في قوله تعالى: ' 2: 256 ' { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الآية. وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به.
(ق): قوله: { ويريد الشيطان } . جنس يشمل شياطين الإنس والجن.
قوله: { أن يضلهم ضلالا بعيدا } . أي: يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج.
فقوله: { بعيدا } . أي: ليس قريبا، لكن بالتدريج شيئا فشيئا حتى يوقعهم في الضلال البعيد.(43/6)
(ف): يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه: ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد. فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي هذه الآية أربعة أمور:
الأول: أنه من إرادة الشيطان:
الثاني: إنه ضلال.
الثالث: تأكيده بالمصدر.
الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه، وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين. صلوات الله وسلامه عليه.
(ق): قوله: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول } . أي: قال لهم الناس: أقبلوا { إلى ما أنزل الله } من القرآن { والى الرسول } نفسه في حياته وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه في حياته.
قوله: { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } . الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر، بدليل قوله: { تعالوا } ، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده. والمعنى: كأنما تشاهدهم.
وقوله: { رأيت المنافقين } . إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد:
الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين.
الثانية: أن هذا لا يصدر إلا من منافق، لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود.
الثالثة: التنبيه، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه.
وقوله: { رأيت المنافقين } جواب { إذا } ، وكلمة { صد } تستعمل لازمة، أي: يوصف به الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود، كما في هذه الآية، ومتعدية، أي: صد غيره، ومصدرها صد، كما في قوله تعالى: { وصدوكم عن المسجد الحرام } (الفتح: 25).
(ف): قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين.(43/7)
قوله: { ويصدون } لازم وهو بمعنى يعرضون، لأن مصدره صدوداً فما أكثر من اتصف بهذا الوصف، خصوصاً ممن يدعى العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى أقوال من يخطئ كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به. فصار المتبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أولئك غريباً، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا.
فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع. والله المستعان.
(ق): وقوله: { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } . الاستفهام هنا يراد به التعجب، أي: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين.
فالدنيوية: مثل: الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.
والشرعية: إذا أظهر الله رسوله على أمرهم، خافوا وقالوا: يا رسول الله ! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.
قوله: { بما قدمت أيديهم } . الباء: هنا للسببية، و { ما } اسم موصول، و { قدمت } صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل، أي: بما قدموه من الأعمال السيئة.(43/8)
وقوله: { إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } . { إن } بمعنى: { ما } ، أي: ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإٌيمان، أي: نمشي معكم ونمشي مع الكفار، وهذا حال المنافقين، فهم قالوا: أردنا أن حسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين.
قوله: { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } . توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع، فالله علام الغيوب، قال تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } (ق: 16) بل الله أعلم منك بما فيك، قال تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } (الأنفال: 24)، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي: (بم عرفت ربك؟) قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم).
فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر.
قوله: { فأعرض عنهم } وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار.
قوله: { وعظهم } . أي: ذكرهم وخوفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك، فلا تخافهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة.
قوله: { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } . اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ، أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، أي: يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا.
الثاني: أن المعنى: انصحهم سرا في أنفسهم.
الثالث: أن المعنى: قل لهم في أنفسهم (أي: في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة، لأن اللفظ صالح لها جميعا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض: فإنه يؤخذ بجميع المعاني.
وبلاغة القول تكون في أمور:(43/9)
الأول: هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب، احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشا، يقول: صبحكم ومساكم(1).
الثاني: أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محدودة الموضوع.
الثالث: أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه: سليم التركيب، موافقا لللغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله ، لأن هؤلاء يقولون: أنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول، يعرضون، ويصدون، ويقولون: نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم، قالوا: نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع) ذكره رحمه الله في (الفتوى الحموية).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } (البقرة: 11) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } .
الإفساد في الأرض نوعان:
الأول: إفساد حسي مادي، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك.
__________
(1) مسلم: كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث (867).(43/10)
الثاني: إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي، فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الروم: 41)، وقال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } (الشورى: 30) وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الأعراف: 96) وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم - ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ِ } (المائدة: 65 -66).
قوله: { إنما نحن مصلحون } . وهذه دعوى من أبطل الدعاوى، حيث قالوا: ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح. ولهذا قال تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون } . { ألا } : أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات، وهي { ألا } ، و { إن } ، وضمير الفصل { هم } والجملة الاسمية، فالله قابل حصرهم بأعظم منه، فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم.
(ف): قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض. لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف - عليه السلام - في قوله تعالى: ' 12: 70 - 72 ' { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } - إلى قوله - "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين " فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض.
وفي الآية: التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى.(43/11)
وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومن عليه بقوة داعي الإيمان، وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات، وبصراً نافذاً عند ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
(ق): ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى: { لا تفسدوا في الأرض } .يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق.
قوله: { بعد إصلاحها } . من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله { بعد إصلاحها } من باب تأكيد اللوم والتوبيخ، إذاً كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر؟ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد.(43/12)
(ف): وقال ابن القيم رحمه الله : قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله ، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. أ.هـ.
(ق): ومناسبة الآية للباب: أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح، وإن التحاكم إلى غيره هو الإفساد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة: 50)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الرابعة قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون }
الاستفهام للتوبيخ، و { حكم } مفعول مقدم لـ { يبغون } ، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى: أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية.
و { يبغون } : يطلبون، والإضافة في قوله: { أفحكم الجاهلية } تحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى: أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة، ومنها: البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد.(43/13)
ثانيهما: أن يكون المعنى: أفحكم الجهل الذي لا يبني على العلم يبغون، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن، وهذا أعم. والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير.
وكل حكم يخالف حكم الله ، فهو جهل وجهالة. فإن كان مع العلم بالشرع، فهو جهالة، وإن كان مع خفاء الشرع، فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا، قال تعالى: { إنما التوبة على الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } (النساء: 17)، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه، لكن عليه أن يتعلم.
(ف): قال ابن كثير رحمه الله : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير.
(ق): قوله: { ومن أحسن من الله حكما } . { من } : اسم استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي، فهو أبلغ من قوله: (لا أحسن من الله حكما) لأنه متضمن للنفي وزيادة.
وقوله: { حكما } .تمييز، لأنه بعد اسم التفضيل، وهو مبهم، فبين هذا التمييز المبهم وميزه. والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي.
فإن قيل: يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، فأين الحسن في ذلك؟(43/14)
أجيب: أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعله حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا، فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين: { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقيين } (البقرة: 66) وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد، كما قال تعالى: { لقوم يوقنون } ، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله ، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله ، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا، وعلى هذا فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية.
وقوله: { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } . خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص، وقالوا: { كل من عند ربنا } (آل عمران: 7) وعرفوا حسن أحكام الله تعالى، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد، فلم يرضوا عنها بديلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)(1) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح(2).
__________
(1) إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/12)، حديث (15) وقال الألباني: إسناده ضعيف رجاله ثقات غير نعيم بن حماد ضعيف لكثرة خطئه وقد اتهمه بعضهم. والحكيم الترمذي في النوادر (4/164) وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (387): تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه.
(2) انظر الأربعين النووية، حديث (41).(43/15)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب: الحجة على تارك الحجة بإسناد صحيح كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: ' 4: 65 ' { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية. وقوله: ' 33: 36 ' { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقوله: ' 28: 50 ' { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } ونحو هذه الآيات.
(ق): (لا يؤمن أحدكم). أي: إيمانا كاملا إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكلية، فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية، لأنه إذا كره ما أنزل الله ، فقد حبط عمله لكفره، قال تعالى: { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } (a: 9)
قوله: (حتى يكون هواه تبعا لما جئت به). الهوى بالقصر: هو الميل، وبالمد هو: الريح، والمراد الأول.
و (حتى): للغاية، والذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن والسنة.
وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار، وامتثالا للأوامر، واجتنابا للنواهي.
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى الإيمان، قال تعالى: { أفرأيت من أتخذ إلهه هواه } (الجاثية: 23)، وقال تعالى: { واتبعوا أهواءهم } (a: 14)، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان محمودا، وهو من كمال الإيمان.(43/16)
(ف): فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج عنه إلى ما يخالفه. فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "(1) يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينزل عنه في درجة الإسلام وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية، أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به. كما قال تعالى: ' 5: 92 ' " فتحرير رقبة مؤمنة " والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها: أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية: من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن تحصر، فمن ذلك قوله تعالى: ' 2: 143 ' " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث، وهو في الصحيحين والسنن. والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: '74: 31 ' { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } الآية. وقوله: ' 9: 124 ' { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } الآية. خلافاً لمن قال: إن الإيمان هو القول، وهم المرجئة، ومن قال: إن الإيمان
__________
(1) البخاري، كتاب الأشربة : باب قول الله تعالى { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة : 90] ،حديث(5578)، ومسلم ، كتاب الإيمان : باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، حديث(57)،(100).(43/17)
هو التصديق كالأشاعرة. ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق وقول الحق تصديق وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة. قال الله تعالى: ' 2: 177 ' { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } - إلى قوله - { أولئك الذين صدقوا } أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة. وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة. وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلهاً، فقال تعالى: ' 25: 43 ' { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئاً إلا ركبه.(43/18)
قال ابن رجب رحمه الله : أما معنى الحديث: فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي وغيرها. فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى: ' 47: 28 ' { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله، فيرضى بما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله. وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: ' 28: 50 ' { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع. ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص: الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل(43/19)
والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموماً، وبهذا يكون الدين كله لله. ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب. فتجب التوبة من ذلك: انتهى ملخصاً.
(ق): قوله: (قال النووي: حديث صحيح). صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) ولكن معناه صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الشعبي: (كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي نتحاكم إلى a؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق، نتحاكم إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فأتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة، فيتحاكما إليه)، فنزلت: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } (النساء:60)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في أثر الشعبي: (وقال الشعبي) أي: في تفسير الآية.
(ف): قوله: (وقال الشعبي)، هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم أهل زمانه، وكان حافظاً علامة ذا فنون. كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة وعاش بضعاً وثمانين سنة. قاله الذهبي
(ق): قوله: (رجل من المنافقين). وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقا من النّافقاء، وهي جحر اليربوع، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء - أي يحفر في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقى شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف - فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء.
__________
(1) ابن جرير الطبري (9891) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/37) روي اسحق بن راهويه في تفسيره باسناد صحيح عن الشعبي(43/20)
قوله: (ورجل من اليهود). اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى - عليه السلام -، وسموا بذلك إما من قوله: { إنّا هُدنا إليك)، أي: رجعنا، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكن بعد التعريب صار بالدال.
قوله: (إلى a). أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكره بوصف الرسالة، لأنهم لا يؤمنون برسالته، ويزعمون أن النبي الموعود سيأتي.
قوله: (عرف أنه لا يأخذ الرشوة). تعليل لطلب التحكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والرشوة: مثلثة الراء، فيجوز الرشوة، الرًّشوة، الرُّشوة، وهي المال المدفوع للتوصل إلى شيء.
قال أهل العلم: (لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه، فليست حراما على الباذل، أما على آخذها، فحرام).
قوله: (فاتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة) كأنه صار بينهما خلاف، وأبي المنافق أن يتحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والكاهن: من يدعي علم الغيب في المستقبل، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء، فيقولون: سيحدث كذا وكذا، فربما أصابوا مرة من المرات، وربما أخطئوا، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب، فكان العرب يتحاكمون إليهم، فنزل قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } . الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(43/21)
وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما: نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الأخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل). ذكر هذه القصة بصيغة التمريض، لكن ذكر في (تيسير العزيز الحميد) أنه رويت من طرق متعددة، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها. أ.هـ.
قوله: (رجلين). هما مبهمان، فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين، ويحتمل أن يكونا من المنافقين، ويحتمل غير ذلك.
قوله: (إلى كعب بن الأشرف). وهو رجل من زعماء بني النضير.
قوله: (أ كذلك). خبر لمبتدأ محذوف، التقدير أ كذلك الأمر.
قوله: (فضربه بالسيف). الضارب عمر.
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافر يجب قتله، ولهذا قتله عمر - رضي الله عنه -.
فإن قيل: كيف يقتله عمر - رضي الله عنه - والأمر إلى الإمام وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
__________
(1) قال الحافظ في الفتح (5/37) رواه الكلبي في تفسيره عن ابن عباس......، واسناده وإن كان ضعيفا لكن تقوي بطريق مجاهد. الإمام احمد في (المسند) (1/391، 452) وابن حيان (2372)، والطبراني في (الكبير) (10352)، والحاكم (1/ 509)، والهيثمي (10/ 136)، وقال: (رجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح) وصححه ابن القيم في (شفاء العليل) (277)، واحمد شاكر في (المسند) (3712).(43/22)
أجيب: أن الظاهر أن عمرلم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله، لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فأقتلوه)(1).
(ف): وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى. ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان. كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين. وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان: ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً، وقد حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من طاعتهم والقرب منهم، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه، قال تعالى: ' 66: 9 ' { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } الآية. وفي قصة عمر - رضي الله عنه - وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأذى له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده. وحل به قتله. وروى مسلم في صحيحه عن عمرو: سمعت جابراً يقول: : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لكعب ابن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال a بن مسلمة: يا رسول الله ، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: ائذن لي فلأقل، قال: قل، فأتاه فقال له، وذكر ما بينهما وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا. فما سمعه قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيئ يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد. قال: ترهنني نسائكم؟ قلت: أنت أجمل العرب، أنرهنك نسائنا؟ قال: ترهنوني أولادكم؟ قال: يسب ابن
__________
(1) البخاري: كتاب استتابة المرتدين / باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، حديث (6922)، وأبو داود حديث (4351)، والترمذي، حديث (1458)، والنسائي حديث (4061).(43/23)
أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللأمة - يعني السلاح - قال: فنعم: وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر. قال: فجاءوا فدعوه ليلاً فنزل إليهم - قال سفيان قال غير عمرو: قالت له أمرأته: إني أسمع صوتاً كأنه صوت دم، قال: إنما هذا a بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب، قال a إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم قال: فلما نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه ".
وفي قصة عمر: بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس، فإنه قال: " لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " فصلوات الله وسلامه عليه.(43/24)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله (باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات) يعني: وما يلحقه من الذم، وأن جحد شيء من الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد، ومن خصال الكفار والمشركين.
وقد ذكرنا -فيما سبق- أن توحيد الإلهية عليه براهين، ومن براهينه توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فمن أدلة توحيد الألوهية توحيد الربوبية، كما سبق في باب قول الله -تعالى-: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } (الأعراف: 191) وكذلك توحيد الأسماء والصفات برهان على توحيد الألوهية، ومن حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات، فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الألوهية، ولهذا تجد أن المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله وفي صفاته من هذه الأمة، من الجهمية والمعتزلة والرافضة والأشاعرة والماتريدية، ونحو هؤلاء تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات، لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية، ففسروا الإله بغير معناه، وفسروا [لا إله إلا الله ] بغير معناها الذي دلت عليه اللغة، ودل عليه الشرع، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات، وآثارها في ملك الله -جل وعلا- وسلطانه؛ لهذا عقد الشيخ -رحمه الله - هذا الباب لأجل أن يبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد، وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد، فالذي يجحد اسما سمى الله به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وثبت ذلك عنه وتيقنه، فإنه يكون كافرا بالله -جل وعلا- كما قال -سبحانه- عن المشركين: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } (الرعد: من الآية30)(44/1)
والواجب على العباد، من أهل هذه الملة أن يوحدوا الله -جل وعلا- في أسمائه وصفاته، ومعنى توحيد الله في أسمائه وصفاته أن يتيقن، ويؤمن بأن الله -جل وعلا- ليس له مثيل في أسمائه ولا في صفاته كما قال -جل وعلا-: { ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى: من الآية11) فنفى، وأثبت، نفى أن يماثل الله شيء -جل وعلا- وأثبت له صفتي السمع والبصر.
قال العلماء: قدم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة: أن التخلية تسبق التحلية. فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل، ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه، أو تشبيه خلق الله به، فإذا خلا القلب من كل ذلك، وبرئ من التشبيه والتمثيل، أثبت ما يستحقه الله -جل وعلا- من الصفات، فأثبت هنا صفتين، وهما السمع والبصر.
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات، دون غيرهما من الصفات، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية، فجل المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس، لا بالنماء، فإن السمع والبصر موجود فيها جميعا، فالإنسان له سمع وبصر وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر فالذباب له سمع وبصر يناسبه، والبعير له سمع وبصر يناسبه، وكذلك الطيور والأسماك، والدواب الصغيرة والحشرات، كل له سمع وبصر يناسبه.(44/2)
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلا، وأن بصرها ليس متماثلا، وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات، وكذلك البصر، فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر، اشتراكاً في أصل المعنى، ولكل سمع وبصر بما قدر له، وما يناسب ذاته، فإذا كان كذلك، ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيا لتشبيه الحيوان بالإنسان، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم، ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان، أو في المخلوقات. فلله -جل وعلا- سمع وبصر يليق به، كما أن للمخلوق سمع وبصراً يليق بذاته الحقيرة الوضيعة، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص، وبصره كذلك.
واسم الله (السميع) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع، وكذلك اسم الله (البصير)، هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر، فدل ذلك على أن النفي مقدم على الإثبات، والنفي يكون مجملا، والإثبات يكون مفصلا، فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله -جلا جلاله- متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلا، وألا يجحدوا شيئا من أسمائه وصفاته، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته، فهو كافر؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله والعلم به، بل إن العلم بالله، ومعرفة الله -جل وعلا- تكون بمعرفة أسمائه وصفاته، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله -جل وعلا- وهذا باب عظيم، ربما يأتي له زيادة إيضاح عند باب قول الله -تعالى-: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف: من الآية180).
فتلخص من هذا أن لقوله: ((باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات)). صلة وطيدة بكتاب التوحيد من جهتين:
الجهة الأولى: أن من براهين توحيد العبادة، توحيد الأسماء والصفات.(44/3)
الثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة، وأن من ثبت عنده الاسم، أو ثبتت الصفة، وعلم أن الله -جل وعلا- أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم جحدها ونفاهاً أصلا، فإن هذا كفر؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.
(ق): الجحد: الإنكار، والإنكار نوعان:
الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، أو أن الله لم يستو على عرشه، أو ليس له عين، فهو كافر بإجماع المسلمين، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة بالإجماع.
الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، وهذا نوعان:
أن يكون للتأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر.
أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيباً، مثل أن يقول: المراد بقوله تعالى: { تجري بأعيننا } (القمر: 14) تجري بأراضينا، فهذا كافر لأنه نفاها نفيا مطلقا، فهو مكذب.
ولو قال في قوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان } (المائدة: 64) المراد بيديه: السماوات والأرض، فهو كفر أيضا لأنه مصوغ له في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر ومكذب، لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة، قال الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من ……يد تحدث أنّ المانويّة تكذب
فقوله: من يد، أي: من نعمة، لأن المانوية يقولون: أن الظلمة لا تخلق الخير، وإنما تخلق الشر.
قوله: (من الأسماء) جمع اسم، واختلف في اشتقاقه، فقيل: من السمو، وهو الارتفاع، ووجه هذا أن المسمى يرتفع باسمه ويتبين ويظهر.(44/4)
وقيل: من السمة وهى العلامة، ووجهه: أنه علامة على مسماه، والراجح أنه مشتق من كليهما والمراد بالأسماء هنا أسماء الله - - عز وجل - - وبالصفات صفات الله - - عز وجل - - والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمى به الله والصفة ما اتصف بها.
البحث في أسماء الله :
المبحث الأول: (1)
أن أسماء الله أعلام وأوصاف، وليست أعلاما محضة، فهي من حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف، بخلاف أسمائنا، فالإنسان يسمي ابنه محمدا وعليا دون أن يلحظ معنى الصفة، فقد يكون اسمه علياً وهو من أوضع الناس، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله ، لأنها متضمنة للمعاني، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا.
ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: دلالة مطابقة، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به.
الثاني: دلالة تضمن، وهي دلالته على جزء معناه.
الثالث: دلالة التزام، وهي دلالته على أمر خارج لازم.
مثال ذلك: الخالق يدل على ذات الله وحده، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلالة مطابقة، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام.
كما قال الله تعالى: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } (الطلاق: 12) فعلمنا القدرة من كونه خالق السماوات والأرض، وعلمنا العلم من ذلك أيضا، لأن الخلق لابد فيه من علم، فمن لا يعلم لا يخلق، وكيف يخلق شيئا لا يعلمه؟ !
المبحث الثاني:
__________
(1) انظر باب احترام أسماء الله تعالى.(44/5)
أن أسماء الله مترادفة متباينة، المترادف: ما أختلف لفظه واتفق معناه، والمتباين: ما اختلف لفظه ومعناه، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله - - عز وجل - - لأنها تدل على مسمى واحد، فالسميع، البصير، العزيز، الحكيم، كلها تدل على شيء واحد هو الله ، ومتباينة باعتبار معانيها، لأن معنى الحكيم غير معنى السميع وغير معنى البصير وهكذا.
المبحث الثالث:
أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: (اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك...- إلى أن قال: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك (1)، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور.
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة(2)، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: (من أحصاها) تكميل للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله ، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة معدة لهذا الشيء.
المبحث الرابع:
__________
(1) الإمام احمد في (المسند) (1/391، 452) وابن حيان (2372)، والطبراني في (الكبير) (10352)، والحاكم (1/ 509)، والهيثمي (10/ 136)، وقال: (رجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح) وصححه ابن القيم في (شفاء العليل) (277)، واحمد شاكر في (المسند) (3712) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1/331).
(2) البخاري: كتاب التوحيد / باب أن لله مائة اسم إلا واحد (7392)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / باب في أسماء الله تعالى وفضل من احصاها (26677).(44/6)
الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق، فيجب علينا أن نؤمن به اسما من الأسماء، ونؤمن بما تدل عليه الصفة من الأثر والحكم إن كان متعديا، فمثلا: السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع، وأنه دال على صفة السمع، وأن لهذا السمع حكما وأثرا وهو أنه يسمع به، كما قال تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } (المجادلة: 1) أما إن كان الاسم غير متعد، كالعظيم، والحي، والجليل، فتثبت الاسم والصفة، ولا حكم له يتعدى إليه.
المبحث الخامس:
هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله ؟
إن أريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى، فهي غير الله - - عز وجل - - وإن أريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ، فهي المسمى.
فمثلا: الذي خلق السماوات والأرض هو الله ، فالاسم هنا هو المسمى، فليست (اللام - والهاء) هي التي خلقت السماوات والأرض، وإذا قيل: اكتب باسم الله . فكتبت بسم الله ، فالمراد به الاسم دون المسمى، وإذا قيل: اضرب زيدا، فضربت زيدا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلا، لأن المقصود المسمى، وإذا قيل: اكتب زيد قائم. فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى.
البحث في صفات الله :
المبحث الأول:
تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ذاتية ويقال معنوية.
الثاني: فعلية.
الثالث: خبريه.
فالصفات الذاتية: هي الملازمة لذات الله ، والتي لم يزل ولا يزال متصفا بها مثل: السمع والبصر وهي معنوية، لأن هذه الصفات معان.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، مثل: النزول إلى سماء الدنيا، والاستواء على العرش، والكلام من حيث آحاده، والخلق من حيث آحاده، لا من حيث الأصل، فأصل الكلام صفة ذاتية وكذلك الخلق.(44/7)
والخبرية: هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله، فلا يقال هكذا، بل يقال: صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة، وهي ليست معنى ولا فعلا مثل: الوجه، والعين، والساق، واليد.
المبحث الثاني:
الصفات أوسع من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تكون اسما، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه، فيوصف الله بالكلام والإرادة، ولا يسمى بالمتكلم أو المريد.
المبحث الثالث:
إن كل ما وصف الله به نفسه، فهو حق على حقيقته، لكنه ينزه عن التمثيل والتكييف، أما التمثيل، فلقوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: 11) وقوله: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وانتم لا تعلمون } (النحل: 74) والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه، لوجوه ثلاثة:
أحدهما: أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقا، بخلاف التشبيه، فلم يأت القرآن بنفيه.
الثاني: أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح، لأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به، ف: (الحياة) مثلا وصف ثابت في الخالق والمخلوق، فبينهما قدر مشترك، لكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به.
الثالث: إن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيها، فإذا قيل من غير تشبيه، فهم هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه.(44/8)
وأما التكييف، فلا يجوز أن نكيف صفات الله ، فمن كيف صفة من الصفات، فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } (الإسراء: 36) وقوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } بعد قوله { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } (الأعراف: 33) ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية، لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علم } (طه: 110) وقوله: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } (الأنعام: 103)
وسواء كان التكييف باللسان تعبيرا أو بالجنان تقديرا أو بالبنان تحريرا، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء: (الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة) وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية، بل لها كيفية، ولكنها ليست معلومة لنا، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية، لكننا لا نعلمها، ففرق بين أن نثبت كيفية معينة ولو تقديرا وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة، وهذا هو الواجب، فنقول: لها كيفية، لكن غير معلومة.
فإن قيل: كيف يتصور أن نعتقد للشي كيفية ونحن لا نعلمها؟
أجيب: إنه متصور، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها، أو شاهد نظيرها، أو أخبره شخص صادق عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الله تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
(الرعد: 30) الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } الآية
{ وهم } . أي: كفار قريش.(44/9)
{ يكفرون بالرحمن } . المراد: أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمى، فهم يقرون به، قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } (لقمان: 25)، وفي حديث سهيل بن عمرو: (لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب: [اكتب بسم الله الرحمن الرحيم]، قال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدرى ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم(1)، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى.
وقد قال الله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } (الإسراء: 110)، أي: بأي اسم من أسمائه تدعونه، فإن له الأسماء الحسنى، فكل أسمائه حسنى، فادعوا بما شئتم من الأسماء، ويراد بهذه الآية الإنكار على قريش.
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسمائه تعالى فإنه يكفر، لقوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } (الرعد: 30)، ولأنه مكذب لله ولرسوله، وهذا كفر، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية.
قوله: { لا إله إلا هو } . خبر { لا } النافية للجنس محذوف، والتقدير: لا إله حق إلا هو، وأما الإله الباطل، فكثير، قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } (لقمان: 30).
قوله { عليه توكلت } . أي: عليه وحده، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر، فإذا قلت مثلا: (ضربت زيدا)، فإنه يدل على أنك ضربته، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره، وإذا قلت: (زيدا ضربت) دلت على أنك ضربت زيدا ولم تضرب غيره، وسبق معنى التوكل وأحكامه.
قوله: { وإليه المتاب } . أي: إلى الله . و { متاب } أصلها متابي، فحذفت الياء تخفيفا، والمتاب بمعنى التوبة، فهو مصدر ميمي، أي: وإليه توبتي.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة، ولها شروط خمسة:
__________
(1) البخاري: كتاب الشروط / باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، حديث (2734).(44/10)
الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا.
أن تكون في وقت قبول التوبة، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت.
الندم على ما مضى من فعله، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن.
الإقلاع عن الذنب، وعلى هذا، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق فلا بد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها.
العزم على عدم العودة، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة، كما في الآية السابقة، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع، فإنها تكون له ولغيره، ومنها قول عائشة حين جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد نمرقة فيها صور، فوقف بالباب ولم يدخل، وقالت: (أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت؟) (1)فليس المراد بالتوبة هنا توبة العبادة لأن توبة العبادة لا تكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا لغيره من الخلق بل لله وحده، ولكن هذه توبة رجوع، ومن ذلك أيضا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه، يقول الابن: أتوب.
(ف): قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
واللالكائي الإمام حكاه عنـ ... عشر من العلماء في البلدان
ـهم بل حكاه قبله الطبراني
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع: باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، حديث (2105)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة باب: تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ، حديث (2107).(44/11)
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام. فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً، هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في إبتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولاً وعطلوا ثانياً. وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذي حذوه فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا. فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة، وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.(44/12)
وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت: كالإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده المشهور، وكتاب السنة لابنه عبد الله ، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد. وهو بشر المريسي، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة a بن خزيمة الشافعي، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم، وأهل الحديث ومن متأخريهم أبو a عبد الله بن أحمد بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم رحمهم الله تعالى. فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي صحيح البخاري عن علي - رضي الله عنه -: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وفي صحيح البخاري عن علي - رضي الله عنه -: حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
__________
(1) البخاري: كتاب العلم / باب من خص بالعلم قوما دون قوم حديث (127).(44/13)
علي: هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين. وسبب هذا القول - والله أعلم - ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ. فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل، فربما استنكرها بعض الناس وردها وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين - رضي الله عنه - إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علماً وعملاً، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته، وكثرة خوضهم وجدلهم.
وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده. والمعصوم من عصمه الله .
وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص، لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك، ويقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور)(1) وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(ق): قوله في أثر علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس). أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ.
__________
(1) ثبت هذا مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عرفة بن مالك بلفظ "لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال" ، أبو داود: كتاب العلم، باب في القصاص ،حديث(3665)وصححه الألباني في صحيح الجامع(7630).(44/14)
قوله: (بما يعرفون). أي: بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: (إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)(1) ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويدا رويدا حتى تستقر عقولهم، وليس معنى (بما يعرفون)، أي: بما يعرفونه من قبل، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل.
قوله: (أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!). الاستفهام للإنكار، أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا: هذا كذب إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله، فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل.
فإن قيل: هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريقة تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويدا رويدا حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به.
ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها.
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله - - عز وجل - - وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته.
مناسبة هذا الأثر لباب الصفات:
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة.(44/15)
مناسبتة ظاهرة، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم، كحديث النزول إلى السماء الدنيا(1) مع ثبوت العلو، فلو حدثت العامي بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشه، فقد يفهم أنه إذا نزل، صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليا منه، وحينئذ لابد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فتبين لهم أن الله - - عز وجل - - ينزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: (من يدعوني فاستجيب له...) الحديث.
والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى، وأن المراد بذلك بيان فضل الله - - عز وجل - - في هذه الساعة من الليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض - لما سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات، استنكاراً لذلك - فقال: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) انتهى(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وروى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني المحدث محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري. وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيراً.
ومعمر - بفتح الميمين وسكون العين - أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب a بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً.
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة /باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، حديث (1145)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل، حديث (758).
(2) صحيح: رواه عبد الرزاق، حديث (20895). أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (485) وقال الألباني في تخريج السنة: "اسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم غير ان ثور واسمه محمد وهو ثقة إتفاقاً"أ.هـ.(44/16)
قوله: عن ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني. قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية. وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن أبيه هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون - الإمام العلم، قيل اسمه ذكوان، قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالى، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء، قال: إنه لينبغي ذلك. قال: فمن يسود أهل مصر؟؟ قلت يزيد بن حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالى؟ قال: قلت: من الموالى، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران، قال: فمن العرب أم من الموالي، قال: قلت: من الموالي. قال فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك، ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين: من حفظه ساد ومن ضيعه سقط.(44/17)
قوله: عن ابن عباس قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وروى عنه أصحابه أئمة التفسير: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس وغيرهم.
(ق): قوله في أثر ابن عباس: (انتفض). أي: اهتز جسمه، والرجل مبهم والصفة التي حُدث بها لم تُبين، وبيان ذلك ليس مهما، وهذا الرجل انتفض استنكاراً لهذه الصفة لا تعظيما لله، وهذا أمر عظيم صعب، لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره.
قوله: (ما فرق). فيها: ثلاث روايات:
(فَرَقُ)، بفتح الراء وضم القاف.
(فرَّقَ)، بفتح الراء مشددة، وفتح القاف.
(فَرَقَ)، بفتح الراء مخففة، وفتح القاف.
فعلى رواية (فَرَقُ) تكون (ما) استفهامية مبتدأ، و(فرق) خبر المبتدأ، أي: ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة تليت عليهم وبلغتهم، لماذا لا يثبتونها لله - - عز وجل - - كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله؟ وهذا ينصب تماما على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه؟
وعلى رواية (فرّق) أو(فَرَقَ) تكون فعلا ماضيا بمعنى ما فرقهم، كقوله تعالى: { وقرآنا فرقناه } (الإسراء: 106)، أي: فرقناه: و(ما) يحتمل أن تكون نافية، والمعنى: ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه؟(44/18)
(ف): قوله: ما فرق هؤلاء يستفهم من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئاً من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين قال الذهبي: حدَّث وكيع عن إسرائيل بحديث: إذا جلس الرب على الكرسي فاقشعر رجل عند وكيع. فغضب وكيع. وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية. وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فشبه حالهم حال من قال الله فيهم: ' 2: 85 ' { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [آل عمران : 7] فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس رضي الله عنهما تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع، كالخوارج والرافضة والقدرية، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته. وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس.(44/19)
وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضاً، ورد المتشابه إلى المحكم. وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
(ق): قوله: (يجدون رقة عند محكمه). الرقة: اللين والقبول، و(محكمه)، أي: محكم القرآن.
قوله: (ويهلكون عند متشابهه). أي: متشابه القرآن.
والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفي معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردا دون المتشابه، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } (الأنعام: 115) وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } (يونس: 1) وقول تعالى { كتاب أُحكمت آياته } (هود: 1).
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضا في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضا ولا يتناقض، قال تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } (الزمر: 23) والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق.
والفرق بينهما: أن المطلق يخفي على كل أحد، ونسبي يخفي على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } (آل عمران: 7)، فعلى الوقوف على { إلا الله } يكون المراد بالمتشابه المطلق، وعلى الوصل { إلا الله والراسخون في العلم } يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وللسلف قولان:(44/20)
القول الأول: الوقف على { إلا الله } ، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله ، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله ، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، وقال الله تعالى في نعيم الجنة: { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قُرة أعين } (السجدة: 17)، أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء)(1).
والقول الثاني: الوصل، فيقرأ: { إلا الله والراسخون في العلم } ، وعلى هذا فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابها، ولهذا يروى عن ابن عباس، أنه قال: (أنا من الراسخين في العلم الذي يعلمون تأويله)(2) ولم يقل هذا مدحا لنفسه أو ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه، فالقرآن معانيه كلها بيّنة، ولكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعا بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما، فإنها تحمل عليهما جميعا.
__________
(1) ابن حزم في الفصل (2/180) وقال: (هذا سند في غاية الصحة) –، أخرجه الطبري في تفسيره (1/174) والمقدسي في المختارة (10/16)وهناد في الزهد (49)، وقال المنذري في (الترغيب) (4/560): (رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد).
(2) انظر قوله في: (تفسير الطبري) (3/183).(44/21)
وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه، فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم، إذ ليس من المعقول أن يقول تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } (ص: 29) ثم تستثنى الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعا وأكثر من آيات الأحكام، ولو قلنا بهذا القول، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعا يكون خفيا، ويكون معنى قوله تعالى { ليدبروا آياته } ، أي: آيات الأحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه، إذ لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلى رأيهم يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت... والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم.
فقد يقصر الفهم عن إدراك المعني أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس.
(ف): (ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه)
قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم - وصححه - عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمة، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا "(1).
__________
(1) حسن: الحاكم (1/553)، وحسنه الألباني في الصحيحة (587) لطرقه.(44/22)
قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: ' 3: 7 ' { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } الآية. قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { آيات محكمات } قال: منهن قوله تعالى: ' 6: 151 - 153 ' { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاث آيات، ومنهن: ' 17: 23 - 39 ' { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } إلى آخر الآيات.
وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية { هن أم الكتاب } فقال أبو فاختة: هن فواتح السور. منها يستخرج القرآن: { الم - ذلك الكتاب } منها استخرجت البقرة و { الم - الله لا إله إلا هو } منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام. والحدود وعماد الدين.
وأخرج ابن جرير عن a بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان إنما قال: " هن أم الكتاب " لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن: " وأخر متشابهات " يعني فيما بلغنا ألم والمص والمر.
قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(44/23)
ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } (الرعد: 30)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن). أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال (أما الرحمن، فلا والله ما أدري ما هي، وقالوا: إننا لا نعرف رحمانا إلا رحمن اليمامة، فأنكروا الاسم دون المسمى، فأنزل الله : { وهم يكفرون بالرحمن } ، أي: بهذا الاسم من أسماء الله .
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة، فهو كافر لقوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } .
وقوله: (ولما سمعت قريش). الظاهر - والله أعلم - أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك، بل طائفة منهم، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر، صح أن ينسب لهم جميعا، بل إن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعله أسلافهم في زمن موسى - عليه السلام -، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } (البقرة: من الآية63)، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين.
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (13/150) عن مجاهد.(44/24)
(ف): قال المصنف رحمه الله تعالى: ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: ' 13: 30 ' { وهم يكفرون بالرحمن } روى ابن جرير عن قتادة: { وهم يكفرون بالرحمن } ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب: هذا ما صالح عليه a رسول الله ، فقال مشركوا قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه a بن عبد الله . فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله دعنا نقاتلهم. فقال: لا. اكتبوا كما يريدون: إني a بن عبد الله فلما كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم. فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم. قال: لا. ولكن اكتبوا كما يريدون وروى أيضاً عن مجاهد قال: قوله: { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [الرعد : 30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً في الحديبية، كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا تكتب الرحمن، وما ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم. قال تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } الآية.
وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم. فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله : ' 17: 110 ' { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.(44/25)
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك، وأنه هلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. عدم بمعنى انتفاء، أي: انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات، وسبق التفصيل في ذلك.
الثانية: تفسير آية الرعد. وهي قوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } وسبق تفسيرها.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. وهذا ليس على إطلاقه، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر. وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله، فيكذب ويقول: هذا غير ممكن، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون يوم القيامة، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته)(1) وما أشبه ذلك، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور، لو حدثنا بها إنسانا عاميا لأوشك أن ينكر، لكن يجب أن تبين له بالتدريج حتى يتمكن من عقلها مثلما نعلم الصبي شيئا فشيئا.
وقوله: (ولو لم يتعمد المنكر) أي: ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه. وذلك قوله: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة - أي لينا - عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابهه فينكرونه؟).
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق / باب يقبض الله الأرض يوم القيامة حديث (6520)، ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار / باب نزل أهل الجنة حديث (2792).(44/26)
- - - - -(44/27)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } (النحل: 83)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب، وبخاصة في هذا الزمن؛ لشدة الحاجة إليه، وترجمه المصنف -رفع الله مقامه في الجنة- بقوله: "باب قول الله -تعالى-: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } (النحل: من الآية83) فوصف الكفار في سورة النحل، التي تسمى سورة النعم، وصفهم بأنهم يعرفون نعمة الله ، ثم ينكرونها، وإنكار النعمة أن تنسب إلى غير الله ، وأن يُجعَل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها، وهو الله -- جل جلاله --.
فالواجب على العبد أن يعلم أن كل النعم من الله -جل وعلا- وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله -جل وعلا- وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد، ونوع شرك بالله -جل وعلا- ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد، أن ثمت ألفاظاً يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم، أو في مقابلة اندفاع النقم، وتكون تلك الألفاظ نوع شرك بالله -جل وعلا- بل هي شرك أصغر بالله -جل وعلا-، فنبه الشيخ -رحمه الله - بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ، وأن نسبة النعم إلى الله -جل وعلا- واجبة.(45/1)
قوله: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أن لفظ (المعرفة)، يستعمل في القرآن وفي السنة غالبا، فيما يذم مِنْ أخذ المعلومات كقوله -جل وعلا-: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (البقرة: من الآية146)وكقوله في هذه الآية: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } وهذا على جهة الأكثرية، وإلا فقد وردت أن المعرفة بمعنى العلم، كما جاء في صحيح مسلم في حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: (إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه.. أن يعرفوا الله ، فإن هم عرفوا الله )، فهذا يدل على أن بعض من روى الحديث من التابعين، جعل المعرفة بمعنى العلم، وهم حجة في هذا المقام، فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم لا بأس به.
وهذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك الأصغر؛ ذلك أن فيها إضافة النعمة إلى غير الله ، والله -جل وعلا- قال { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله } (النحل: من الآية53) وهذا نص صريح في العموم؛ لأن مجيء النكرة في سياق النفي، يدل على العموم ظهوراً، فإن سُبِقَت النكرة بـ(من) دلت على العموم نصاً، والتنصيص في العموم معناه أنه لا يخرج شيء من أفراده، فدلت الآية على أنه لا يخرج شيء من النعم، أيا كان ذلك الشيء صغيرا كان، أو كبيرا، عظيما، أو حقيرا لا يكون إلا من الله -جل وعلا- فكل النعم صغرت، أو عظمت هي من الله -- جل جلاله -- وحده.(45/2)
وأما العباد، فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم، وأسباب في إيصال النعمة إليك، فمن كان سبباً في معالجتك، أو سببا في تعيينك، أو سببا في نجاحك، أو نحو ذلك، لا يدل على أنه هو ولي النعمة، أو هو الذي أنعم، فإن ولي النعمة هو الرب -جل وعلا- وهذا من كمال التوحيد؛ فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثم شيء في هذا الملكوت إلا والله - جل وعلا - هو الذي يرسله، وهو الذي يمسك ما يشاء كما قال سبحانه-: { مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } (فاطر: 2) فكل النعم من الله - جل وعلا - والعباد أسباب في ذلك، فالواجب إذا أن تنسب النعمة إلى المسدي لا إلى السبب؛ لأن السبب لو أراد الله -جل وعلا- لأبطل كونه سببا، وهذا السبب إذا كان آدميا، فقلبه بين أصبعين من أصابع الله -جل وعلا- لو شاء لصده عن أن يكون سببا، أو أن ينفعك بشيء، فالله -جل وعلا- هو، ولي النعمة، قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- {ما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل، وما من أحد تعلق بمخلوق في حصول النفع له، أو اندفاع مكروه عنه إلا خذل، وهذا في غالب المسلمين}.
وذلك لأن الواجب على المسلم أن يعلق قلبه بالله، وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله ، والعباد أسباب يسخرهم الله -- جل جلاله -- وهذا هو حقيقة التوحيد، ومعرفة تصرف الله -جل وعلا - في ملكوته.
(ق): قوله تعالى: { يعرفون } . أي: يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله .
قوله تعالى: { نعمة الله } . واحدة والمراد بها الجمع، فهي ليست واحدة، بل هي لا تحصى، قال تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } (إبراهيم: 34)، والقاعدة الأصولية: أن المفرد المضاف يعم، والنعمة تكون بجلب المحبوبات، وتطلق أحيانا على رفع المكروهات.(45/3)
قوله: { ثم ينكرونها } أي: ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب الذي هو الله - - سبحانه وتعالى - - وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة، مثل أن يقولوا: ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله متناسين الذي خلق السبب فوجد به المسبب.
قوله: (الآية) أي: إلى آخر الآية، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية.
قوله: { وأكثرهم الكافرون } . أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون، أي الجاحدون كونها من الله ، أو الكافرون بالله - عز وجل -.
وقوله: { أكثرهم } بعد قوله: { يعرفون } الجملة الأولى أضافها إلى الكل، والثانية أضافها إلى الأكثر، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون.
مناسبة هذا الباب للتوحيد:
أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره، فقد جعل معه شريكا في الربوبية، لأنه أضافها إلى السبب على أنه فاعل، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات، وترك الشكر مناف للتوحيد، لأن الواجب أن يشكر الخالق المنعم - - سبحانه وتعالى - - فصارت له صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة، فمن حيث إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية.
(ف): ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها. وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة. فذكر عن سفيان عن السدى: { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } قال:(a - صلى الله عليه وسلم -) وقال آخرون بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.(45/4)
وأخرج عن مجاهد: { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } ، قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره، بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي رزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
وذكر المصنف رحمه الله تعالى مثل هذا عن ابن قتيبة وهو أبو a عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر(1) النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته. توفي سنة ست وسبعين ومائتين.
وقال آخرون: ما ذكره المصنف عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد عن أبيه وعائشة وابن عباس وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقة أحمد وابن معين قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها. وهو الصواب والله أعلم.
قوله: قال مجاهد هو شيخ التفسير: الإمام الرباني، مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم. قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول عرضت المصحف على ابن عباس مرات، أقفه عند كل آية وأسأله: فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة. وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال مجاهد ما معناه (هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن أبائي)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) لعله قاضي الدينور، فإنه لم يول القضاء الا فيها.(45/5)
(ق): قوله: (قال مجاهد) هو إمام المفسرين في التابعين، عرض المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما يوقفه عند كل آية ويسأله عن تفسيرها، وقال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. أي: كافيك، ومع هذا، فليس معصوما عن الخطأ.
قوله: (ما معناه).أي: كلاما معناه، وعلى هذا ف (ما) نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمه الله لم ينقله بلفظه.
قوله: (و قول الرجل).هذا من باب التغليب والتشريف، لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق بتوجيه الخطاب إليه منها، وإلا، فالحكم واحد.
قوله: (هذا مالي ورثته عن آبائي). ظاهر هذه الكلمة أنه لا شيء فيها، فلو قال لك واحد: من أين لك هذا البيت؟ قلت: ورثته عن آبائي، فليس فيه شيء لأنه خبر محض.
لكن مراد مجاهد أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث متناسيا المسبب الذي هو الله ، فبتقدير الله - - عز وجل - - أنعم على آبائك وملكوا هذا البيت، وبشرع الله - - عز وجل - -انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث، فكيف تتناسى المسبب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم؟! فمن هنا صار هذا القول نوعا من كفر النعمة.
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق، فلا شيء في ذلك، ولهذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له يوم الفتح: (أتنزل في دارك غدا؟) فقال: (وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع)(1) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث.
فتبين أن هناك فرقا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر، وبين إضافته إلى سببه متناسيا أن المسبب هو الله - - عز وجل - -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال عون بن عبد الله : (يقولون لولا فلان لم يكن كذا).
__________
(1) البخاري: كتاب الحج / باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، حديث (1588)، ومسلم: كتاب الحج / باب النزول بمكة للحاج وتوريث دورها، حديث (1351).(45/6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله:(وقال عون بن عبدالله:يقولون: لو لا فلان لم يكن كذا).وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقا مطابقا للواقع، فهذا لا باس به، وإن أراد بها السبب، فلذلك ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون سببا خفيا لا تأثير له إطلاقا، كأن يقول: لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا، فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفا في الكون مع أنه ميت، فهو تصرف سري خفي.
الثانية: أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعا أو حسا، فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه، وأن لا يتناسى المنعم بذلك.
الثالثة: أن يضيفه إلى سبب ظاهر، لكن يثبت كونه سببا لا شرعا ولا حسا، فهذا نوع من الشرك الأصغر، وذلك مثل: التولة، والقلائد التي يقال: أنها تمنع العين، وما أشبه ذلك، لأنه أثبت سببا لم يجعله الله سببا، فكان مشاركا لله في إثبات الأسباب.
ويدل لهذا التفصيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب: (لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار)(1) ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عن الشرك، وأخلص الناس توحيدا لله تعالى، فأضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيء إلى سببه، لكنه شرعي حقيقي، فإنه أُذن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه، فكان في ضحضاح من النار، عليه نعلان يغلي منه دماغه لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه، لأنه لو يرى أن أحدا أشد عذابا منه أو مثله هان عليه بالتسلي، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي ……على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ……أسلي النفس عنه بالتأسي
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب / باب قصة أب طالب، حديث (3883)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي صلى اله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه، حديث (209).(45/7)
وابن القيم رحمه الله - وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به - قال في القصيدة الميمية يمدح الصحابة:
أولئك أتباع النبي وحزبه …ولولا هُمُو ما كان في الأرض مسلم
ولولا همو كادت تميد بأهلها …ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولا همو كانت ظلاما بأهلها…ولكن همو فيها بدور وأنجم
فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن قتيبة: (يقولون هذا بشفاعة آلهتنا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا). هؤلاء أخبث ممن سبقهم، لأنهم مشركون يعبدون غير الله ، ثم يقولون: إن هذه النعم حصلت بشفاعة آلهتهم، فالعزى مثلا شفعت عند الله أن ينزل المطر، فهؤلاء أثبتوا سببا من أبطل الأسباب لأن الله - - عز وجل - - لا يقبل شفاعة آلهتهم، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، والله - - عز وجل - - لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة، فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين:
الشرك بهذه الأصنام.
إثبات سبب غير صحيح.
(ف): قوله: وقال أبو العباس هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الإمام الجليل رحمه الله - بعد حديث زيد بن خالد - وقد تقدم في باب ما جاء في الإستسقاء بالأنواء. قال: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً. نحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. أ.هـ.
وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا.
قال شيخنا رحمه الله : وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(45/8)
قال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: (إن الله تعالى قال (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر....) الحديث(1) وقد تقدم: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وقال أبو العباس). وهو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
قوله: (هذا كثير من الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره...). وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء، وإنما كان مذموما، لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد، كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانا لنعمته، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق، لما يأتي:
أن الخالق لهذه الأسباب هو الله ، فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه.
أن السبب قد لا يؤثر، كما ثبت في (صحيح مسلم) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس السنة أن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا) (2).
أن السبب قد يكون له مانع يمنع من تأثيره، وبهذا عرف بطلان إضافة الشيء إلى سببه دون الالتفات إلى المسبب جل وعلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الآذان / باب يستقبل الامام الناس إذا سلم، حديث (846)، ومسلم: كتاب الايمان / باب كفر من قال مطرنا بالنوء، حديث (71).
(2) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة، حديث (2904)، وأحمد (2/358) حديث (2688).(45/9)
قوله: (كانت الريح طيبة). هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح، قال تعالى: { حتى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا } (يونس: 22).فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا كانت الريح طيبة، وكان الملاح - هو قائد السفينة - حاذقا، أي: مجيدا للقيادة، فيضيفون الشيء إلى سببه وينسون الخالق - جل وعلا -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. وسبق ذلك.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة. وذلك مثل قول بعضهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، وما أشبه ذلك.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة. يعني: إنكار لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارا لوجودها، لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. وهذا من قوله: { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } ، فجمع بين المعرفة والإنكار، وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر، وخصلة فسوق وخصلة عدالة.
- - - - -(45/10)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة: من الآية22)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا باب [قول الله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة: من الآية22)] وفيه بيان أن هناك ألفاظا، فيها التنديد، والتنديد معناه أن تجعل غير الله ندا له، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله ، ويكون الحلف بغير الله ، ويكون في قول: ما شاء الله وشاء فلان، وغير ذلك من الألفاظ.
فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ، والتنديد هنا المراد به التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ، وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر.
(ق): قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ، لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره: { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ } (البقرة: 21-22). فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له، لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك، ولا ينبغي أن يعبد إلا من فعل ذلك، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية، أي: فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا.
و(لا) هذه ناهية، أي: فلا تجعلوا له أندادا في العبادة، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته، لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله - - عز وجل - -، كاشتقاق العزى من العزيز، وتسميتهم رحمن اليمامة.
قوله: { أندادا } . جمع ند، وهو الشبيه والنظير، والمراد هنا: أندادا في العبادة.(46/1)
قوله: { وأنتم تعلمون } . الجملة في موضع نصب حال من فاعل { تجعلوا } ، أي: والحال أنكم تعلمون، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا أنداد له - يعني في الربوبية -، لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية، أما الألوهية، فيجعلون له أندادا، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشي عجاب } (ص: 5)، ويقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)، وهذا من سفههم، فإنه إذا صار مملوكا، فكيف يكون شريكا، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله: { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ، إذ الأنداد بالمعنى العام - بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية - يشمل الأنداد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو العالية: لا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدى وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد.(46/2)
وقال ابن عباس: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } أي لا تشركوا بالله شيئاً من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن قتادة ومجاهد: { فلا تجعلوا لله أنداداً } قال أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله . وقال ابن زيد: الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس: { فلا تجعلوا لله أنداداً } أشباهاً. وقال مجاهد: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وذكر حديثاً في معنى هذه الآية الكريمة وهو ما في مسند الإمام أحمد عن الحارث الأشعري أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا - عليه السلام - بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها. فقال له عيسى - عليه السلام -: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد وقعد على الشرف. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً: فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم(46/3)
بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدى بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيراً: فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله . قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم. قالوا يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله - عز وجل -: المسلمين المؤمنين عباد الله "(1).
وهذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: " وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه الله ولا تشركوا به شيئا " وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له. وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى. والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن عباس في الآية: الأنداد: (هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك) رواه ابن أبي حاتم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (4/130، 202، 344) وصححه ابن حبان (155) والحاكم (1/421، 422) ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1730).(46/4)
(ق): قوله: (وقال ابن عباس في الآية). أي: في تفسيرها.
قوله: (هو الشرك). هذا تفسير بالمراد، لأن التفسير تفسيران:
تفسير بالمراد، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها.
تفسير بالمعنى، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات، فعندنا الآن وجهان للتفسير:
أحدهما: التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات، وهذا يقال فيه: معناه كذا وكذا.
والثاني: التفسير بالمراد، فيقال: المراد بكذا وكذا، والأخير هنا هو المراد.
فإذا قلنا: الأنداد الأشباه والنظراء، فهو تفسير بالمعنى، وإذا قلنا: الأنداد الشركاء أو الشرك، فهو تفسير بالمراد، يقول رضي الله عنه(الأنداد هو الشرك)، فإذا الند الشريك المشارك لله - - سبحانه وتعالى - - فيما يختص به.
وقوله: (دبيب). أي: أثر دبيب النمل وليس فعل النمل.
وقوله: (على صفاة) هي الصخرة الملساء.
وقوله: (سوداء). وليس على بيضاء، إذ لو كان على بيضاء لبان أثر السير أكثر.
وقوله: (في ظلمة الليل). وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء.
فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا، فنسأل الله أن يعين على التخلص منه، ولهذا قال بعض السلف: (ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص)، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قال مثل هذا، قيل له: كيف نتخلص منه؟ قال: قولوا: اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)(1).
وقوله: (والله وحياتك). فيها نوعان من الشرك:
الأول: الحلف بغير الله .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/403)، حديث (19622) وابن أبي شيبة في مصنفه (6/70)، حديث(29547) وذكره الهيثمي في المجمع (10/223)، وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي ووثقه ابن حبان، وابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/63).(46/5)
الثاني: الإشراك مع الله بقوله: و الله ! وحياتك ! فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية فيها نوع من الشرك، والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة، فهو شرك أكبر، وإلا، فهو شرك أصغر.
وقوله: (وحياتي) فيه حلف بغير الله فهو شرك.
وقوله: (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص)، كليبة تصغير كلب، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية والحرث.
قوله: (لولا كليبة هذا) يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبب، وهو الله -- عز وجل - - أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم، فقد تقدم أنه لا بأس به، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار)(1) لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا، قد يقع في قلبه شيء من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب، وهو الله - - عز وجل - -.
وقوله: (لولا البط في الدار لأتى اللصوص). البط طائر معروف، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط، فإنه يصرخ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص.
وقوله: (وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت) فيه شرك، لأنه أشرك غير الله مع الله بالواو، فإن اعتقد أنه يساوي الله - - عز وجل - - في التدبير والمشيئة، فهو شرك أكبر، وإن لم يعتقد ذلك، واعتقد أن الله - - سبحانه وتعالى - - فوق كل شيء، فهو شرك أصغر، وكذلك قوله: (لولا الله وفلان).
وقوله: (هذا كله شرك). المشار إليه ما سبق، وهو شرك أكبر أو اصغر حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) سبق تخريجه.(46/6)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن عمر). صوابه عن ابن عمر، نبه عليه الشارح في (تيسير العزيز الحميد).
قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (من حلف بغير الله ). (من) شرطية، فتكون للعموم.
قوله: (أو أشرك). شك من الراوي، والظاهر أن الصواب الحديث (أشرك)
قوله: (من حلف بغير الله ). يشمل كل محلوف به سوى الله ، سواء بالكعبة أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو السماء أو غير ذلك، ولا يشمل الحلف بصفات الله ، لأن الصفة تابعة للموصوف، وعلى هذا فيجوز أن تقول: وعزة الله لأفعلن كذا.
وقوله: (بغير الله ). ليس المراد بغير هذا الاسم، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع، فهو حلف بالله.
والحلف: تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو. وحروف القسم ثلاثة: الباء، والتاء، والواو.
__________
(1) الامام أحمد في المسند (2/34، 86) وأبو داود في كتاب الايمان / باب كراهة الحلف بالاباء، والترمذي: كتاب الايمان / باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله – وحسنه وابن حبان (1177) والحاكم (1/18، 4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في الفتاوى (5/307)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6204).(46/7)
والباء: أعمها، لأنه تدخل على الظاهر والمضمر وعلى أسم الله وغيره، ويذكر معها فعل القسم ويحذف، فيذكر معها فعل القسم، كقوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } (الأنعام: 109)، ويحذف مثل قولك: بالله لأفعلن، وتدخل على المضمر مثل قولك: الله عظيم أحلف به لأفعلن، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة، مثل قولك: بالسميع لأفعلن، وأما الواو، فإنه لا يذكر معها فعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ويحلف بها مع كل اسم، وأما التاء، فإنه لا يذكر معها فعل القسم وتختص بالله ورب، قال بن مالك: (والتاء لله ورب). والحلف بغير الله شرك أكبر إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا، فهو شرك أصغر.
وهل يغفر الله الشرك الأصغر؟
قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } (النساء: 116)، أي: الشرك الأكبر { ويغفر ما دون ذلك } ، يعني: الشرك الأصغر والكبائر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، لأن قوله: { أن يشرك به } مصدر مؤول، فهو نكرة في سياق النفي، فيعم الأصغر والأكبر، والتقدير: لا يغفر شركا به أو إشراكا به.
وأما قوله تعالى: { والشمس وضحاها } (الشمس: 1)، وقوله: { لا أقسم بهذا البلد } (البلد: 1)، وقوله: { والليل إذا يغشى } (الليل: 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي اقسم الله بها، فالجواب على وجهين:
الأول: أن هذا من فعل الله والله لا يسأل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسؤل وحاكم غير محكوم عليه.
الثاني: أن قسم الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته، فيكون القسم به الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنا للثناء على الله - - عز وجل - - بما تقتضيه من الدلالة على عظمته.
وأما نحن، فلا نقسم بغير الله أو صفاته، لأننا منهيون عن ذلك.(46/8)
وأما ما ثبت في (صحيح مسلم)من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح وأبيه إن صدق)(1).
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة، وقال: إنها لم تثبت في الحديث، لأنها مناقضة للتوحيد، وما كان كذلك، فلا تصح نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون باطلا.
الثاني: أنها تصحيف من الرواة، والأصل: (أفلح والله إن صدق).
وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات، و(أبيه) تشبه ( الله ) إذا حذفت النقط السفلي.
الثالث: أن هذا ما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال الله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان } (المائدة: 89)، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ.
الرابع: أنه وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبعد الناس عن الشرك، فيكون من خصائصه، وأما غيره، فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإخلاص والتوحيد.
الخامس: أنه على حذف مضاف، والتقدير: (أفلح ورب أبيه).
السادس: أن هذا على منسوخ، وأن النهي هو الناقل من الأصل، وهذا من أقرب الوجوه.
ولو قال قائل: نحن نقلب عليكم الأمر، ونقول: إن المنسوخ هو النهي، لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور ثم أذن لهم فيها(2)؟
فالجواب عنه: أن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم، فتركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا ثم أمروا باجتنابه (3).
__________
(1) مسلم: كتاب الايمان /باب الصلوات التي هي أحد أركان الاسلام، حديث (11).
(2) مسلم: كتاب الجنائز/ باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - زيارة قبر أمه، حديث (977) والنسائي، كتاب الجنائز /باب زيارة القبور، حديث (2032).
(3) انظر سورة المائدة، آية رقم (60).(46/9)
أما بالنسبة للوجه الأول، فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح، فإنه لا يجوز إنكاره.
أما الوجه الثاني، فبعيد، وإن أمكن، فلا يمكن في قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: أي الصدقة افضل؟ فقال: (أما وأبيك لتنبأنه)(1).
وأما الوجه الثالث، فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم -(2)، ولو صح هذا، لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى، لأن هذا من عادته، وهذا باطل.
وأما الرابع، فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وإلا، فالأصل التأسي به.
وأما الخامس: فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات، فالله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: [لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً](3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في اثر ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذبا). اللام: لام الابتداء، و(أن) مصدرية، فيكون قوله: (أن أحلف) مؤولا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله.
__________
(1) مسلم: كتاب الزكاة / باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح حديث (1032).
(2) رواه النسائي، كتاب الأيمان والنذور/ باب الحلف باللات والعزى، حديث (3777) وابن ماجة، حديث (2097) وقد صح بمعناه كما في صحيح الجامع (6216).
(3) سبق تخريجه.(46/10)
قوله: (أحب إليّ). خبر مبتدأ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم } (البقرة: 184).
قوله: (كاذبا) حال من فاعل أحلف.
قوله: (أحب إليّ) هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه شيء من الجانبين، وهذا نادر في الكلام، لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه، وأحيانا في المفضل دون المفضل عليه، وأحيانا لا يوجد في الجانبين، فابن مسعود رضي الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادق، فالحلف كاذبا محرم من وجهين:
1. أنه كذب، والكذب محرم لذاته.
2. أن هذا الكذب قرن باليمين، واليمين تعظيم لله - - عز وجل - -، فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص لله - - عز وجل - -، حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين المغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.
وأما الحلف بغير الله صادقا، فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك، لكن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا: إن الحلف بالله كاذبا، من اليمين الغموس، لأن الشرك لا يغفر، قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } (النساء: 116) وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب، قال تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } (لقمان: 13)، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: (إن تجعل لله ندا وهو خلقك)(1)، والشرك متضمن للكذب، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب، بل من أكذب الكاذبين، لأن الله لا شريك له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن حذيفة - رضي الله عنه -؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد / باب قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا)، مسلم: كتاب الايمان / باب كون الشرك أقبح الذنوب.(46/11)
(لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في حديث حذيفة رضي الله عنه: (لا تقولوا). (لا) ناهية، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون.
قوله: (ما شاء الله وشاء فلان). والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه، فيكون القائل: ما شاء الله وشئت مسويا مشيئة الله بمشيئة المخلوق، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق، أو أنه مساو له، فهو شرك اكبر، وإن اعتقد أنه أقل، فهو شرك اصغر.
قوله: (ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان). لما نهي عن اللفظ المحرم بين اللفظ المباح، لأن (ثم) للترتيب والتراخي، فنفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه.
أما بالنسبة لقوله: (ما شاء الله فشاء فلان)، فالحكم فيه أنها مرتبة بين مرتبة (الواو) ومرتبة (ثم) فهي تختلف عن (ثم) بأن (ثم) للتراخي والفاء للتعقيب، وتوافق (ثم) بأنها للترتيب، فالظاهر أنها جائزة، ولكن التعبير ب (ثم) أولى لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق.
ويستفاد من هذا الحديث:
إثبات المشيئة للعبد، لقوله: (ثم شاء فلان)، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا: إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار.
__________
(1) أبو داود: كتاب الأدب /باب لايقال خبثت نفسي، حديث (4980)، وابن ماجة، حديث (2118)، وصححه الشيخ الألباني كما في الصحيحة (137).(46/12)
أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرما أن يفتح لهم الباب المباح، لقوله: (ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)، ونظير ذلك قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } (البقرة: 104)، لما نهاهم عن قول { راعنا } قال: { وقولوا انظرنا } ، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جيء له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، وقال: (لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1)، أي: تمرا جيدا، فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم.
وفي هذا فائدتان عظيمتان:
الأولى: بيان كمال الشريعة وشمولها، حيث لم تسد على الناس بابا إلا فتحت لهم ما هو خير منه.
والثانية: التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم، فعامل الناس بهذا ما استطعت، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا، فافتح لهم من المباح ما يغني عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلا حتى لا يقعوا في الحرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء عن إبراهيم النخعي: (أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول بالله ثم بك):
قال: (ويقول: ولولا الله ثم فلان، ولا تقولوا لو لا الله وفلان).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن إبراهيم النخعي). من فقهاء التابعين، لكنه قليل البضاعة في الحديث، كما ذكر ذلك حماد بن زيد.
قوله: (يكره أعوذ بالله وبك). العياذ الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه، واللياذ بالشخص: هو اللجوء إليه لطلب المحبوب، قال الشاعر:
يا من ألوذ به فيما أومله…… ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره …… ولا يهيضون عظما أنت جابره
وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع / باب إذا أراد تمر بتمر خيرا منه، حديث (2202) ومسلم: كتاب المساقاة / باب بيع الطعام مثلا بمثل، حديث (1593).(46/13)
وقوله: (أعوذ بالله وبك). هذا محرم، لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو الواو. ويجوز بالله ثم بك، لأن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي.
فإن قيل: سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله ، وعلى هذا يكون قوله: أعوذ بالله ثم بك محرما.
أجيب: أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في (صحيح مسلم) وغيره: (من وجد ملجأ، فليعذ به)(1)، لكن لو قال: أعوذ بالله ثم بفلان. وهو ميت، فهذا شرك أكبر لأنه لا يقدر على أن يعيذك، وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)(2)، ثم قال رحمه الله : والاستعاذة لا تكون بمخلوق فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق، وهو كلام الله ، والكلام تابع للمتكلم به، إن كان مخلوقا، فهو مخلوق، وإن كان غير مخلوق، فهو غير مخلوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. وقد سبق
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب /باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3602) ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة م باب نزول الفتن كمواقع القطر، حديث (2886).
(2) مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، حديث (2708) وأبو داود، حديث (3898) والترمذي، حديث (3437) وابن ماجة، حديث (3518).(46/14)
الثانية: أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر، لأن قوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون } نازلة في الأكبر، لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر، لأن الند يشمل النظير المساوي على سبيل الإطلاق أو في بعض الأمور.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك. لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا، فهو أكبر من اليمين الغموس. واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا، وقال بعض العلماء - وهو الصحيح: أن يحلف بالله كاذبا ليقتطع بها مال امريء مسلم.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ. لأن الواو تقتضي المساواة، فتكون شركا، وثم تقتضي الترتيب والتراخي، فلا تكون شركا.
- - - - -(46/15)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن الاقتناع بالحلف بالله من تعظيم الله ، لأن الحالف أكد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين وهو تعظيم المحلوف به، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله ، وهذا ينافي كمال التوحيد، والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية، فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف، فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضى الحكم الشرعي.
الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة، فإنك ترضى بيمينه، وإن كان غير ذلك، فلك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا لمّا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة: (تبرئكم يهود بخمسين يمينا. فقالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟)(1). فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله ) رواه ابن ماجة بسند حسن (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب / باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، حديث (6142، 6143)، ومسلم: كتاب القسامة، باب القسامة، جيث (1669).
(2) ابن ماجة: كتاب الكفارات / باب من حلف له بالله فليرض وقال البويصري في مصباح الزجاجة (2/143) هذا اسناد صحيح رجاله ثقات) وقال ابن حجر في الفتح (11/535) سند صحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (7247).(47/1)
قوله في الحديث: (لا تحلفوا).(لا): ناهية، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون، و(آباؤكم): جمع أب، ويشمل الأب والجد، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم، لأنه شرك، وقد سبق بيانه.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف بالله، فليصدق، ومن حلف له بالله، فليرض) هنا أمران:
الأمر الأول: للحالف، فقد أُمر أن يكون صادقا، والصدق: هو الإخبار بما يطابق الواقع، وضده الكذب، وهو: الإخبار بما يخالف الواقع، فقوله: (من حلف بالله، فليصدق)، أي: فليكن صادقا في يمينه، وهل يشترط أن يكون مطابقا للواقع أو يكفي الظن؟
الجواب: يكفي الظن، فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه، كقول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني. فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: للمحلوف له، فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له.
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض، فإن الأمر الثاني ينزل على إذا كان الحالف صادقا، لأن الحديث جمع أمرين: أمرا موجها للحالف، وأمرا موجها للمحلوف له، فإذا كان الحالف صادقا، وجب على المحلوف له الرضا.
فإن قيل: إن كان صادقا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟.
أجيب: أن اليمين تزيده توكيدا.(47/2)
قوله: (ومن لم يرض، فليس من الله ) أي: من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له، فليس من الله ، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب، ولكن لابد من ملاحظة ما سبق، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلا على أنه إذا كان الحالف غير ثقة، فلك أن ترفض الرضا به، لأنه غير ثقة، فلو أن أحدا حلف لك، وقال: والله، إن هذه الحقيبة من خشب. وهي من جلد، فيجوز أن لا ترضى به لأنك قاطع بكذبه، والشرع لا يأمر بشيء يخالف الحس والواقع، بل لا يأمر إلا بشيء يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن، وإن كان العقل لا يدرك أحيانا مدى حسن هذا الشيء الذي أمر به الشرع، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن، لأن الله تعالى يقول: { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } (المائدة: 50) فإذا اشتبه عليك حسن شيء من أحكام الشرع، فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير، أما أن تتهم الشرع، فهذا لا يمكن، وما صح عن الله ورسوله، فهو حق وهو أحسن الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. لقوله: (لا تحلفوا بآبائكم)، والنهي للتحريم.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. لقوله: (ومن حلف له بالله، فليرض)، وسبق التفصيل في ذلك.
الثالثة: وعيد من لم يرض. لقوله: (ومن لم يرض، فليس من الله ).
الرابعة: ولم يذكرها المؤلف -: أمر الحالف أن يصدق لأن الصدق واجب في غير اليمين، فكيف باليمين؟
وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم، وقال بعض العلماء: أنها اليمين الغموس.
وأما بالنسبة للمحلوف له، فهل يلزمه أن يصدق أم لا؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس:
الأولى: أن يعلم كذبه، فلا أحد يقول: إنه يلزم تصديقه.(47/3)
الثانية: أن يترجح كذبه، فكذلك لا يلزم تصديقه.
الثالثة: أن يتساوى الأمران، فهذا يجب تصديقه.
الرابعة: أن يترجح صدقه، فيجب أن يصدقه.
الخامسة: أن يعلم صدقه، فيجب أن يصدقه.
وهذا في الأمور الحسية، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم، فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها، لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي، وهو واجب.
- - - - -(47/4)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول (ما شاء الله وشئت)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن قوله: (ما شاء الله وشئت) من الشرك الأكبر أو الأصغر، لأنه إن اعتقد أن المعطوف مساو لله، فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه دونه لكن أشرك به في اللفظ، فهو أصغر، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن من جملة ضوابط الشرك الأصغر أن ما كان وسيلة للأكبر فهو أصغر.
(ف): قوله: عن قتيلة بمثناة مصغرة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب. ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن قتيلة: أن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ((ورب الكعبة، وان يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)). رواه النسائي وصححه (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (أن يهوديا). اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى - عليه السلام -، وسموا بذلك من قوله تعالى: (إنا هدنا إليك)، أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا ابن يعقوب، فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعا.
قوله: (إنكم تشركون). أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون.
قوله: (ما شاء الله وشئت). الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساويا للمعطوف عليه، وهو الله - - عز وجل - -، حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية.
__________
(1) الإمام احمد في المسند (6/371، 372) والنسائي: كتاب الإيمان والنذور / باب الحلف بالكعبة حديث (3773)، والحاكم (4/315) وصححه ووافقه الذهبي.(48/1)
قوله: (والكعبة). الشرك هنا أنه حلف بغير الله ، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، فيكون القسم بالله.
وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله ، ثم شئت، فيكون الترتيب بـ(ثم) بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحا، أما الأول، فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله ، وأنه لا مساواة بينهما.
ويستفاد من هذا الحديث:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأن ما قاله حق.
مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.
أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يقولوا: (ورب الكعبة)، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: (ما شاء الله ، ثم شئت).
إشكال وجوابه: وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟.
جوابه: أنه يمكن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسمعه ولم يعلم به.
ولكن يقال: بأن الله يعلم، فكيف يقرهم؟
فيبقى الإشكال، لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركا أكبر ولا يرون عيبهم.(48/2)
(تم): الشرك في الألفاظ، أتى بالتدريج في تاريخ بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- وتبليغه أمته بالأوامر والنواهي، فكان الحلف بالآباء جائزا، ثم نهاهم -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك، وكذلك قول: ما شاء الله وشئت، ثم نهاهم عن ذلك؛ ولهذا قال المصنف في مسائل كتاب التوحيد: فيه أن الشرك فيه أكبر، وأصغر؛ لقوله: ((كان يمنعني كذا وكذا)) وأما الشرك الأكبر: فلا يجوز أن يؤخر إنكاره، أو أن يمنع عنه مانع، أما شرك الألفاظ، فقد تكون المصلحة والفقه -فقه الدعوة وفقه ترتيب الأهم والمهم وتقديم الأهم على المهم- أن يؤخر بعضه؛ لتتم المصلحة العظمى، أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقى مع وجوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله أيضا عن ابن عباس، إن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، فقال: [أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده](1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلا قال للنبي صلى الله علي وسلم. الظاهر أنه قاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيما، وأنه جعل الأمر مفوضا لمشيئة الله ومشيئة رسوله.
قوله: (أجعلتني لله ندا؟!). الاستفهام للإنكار، وقد ضمن معنى التعجب، ومن جعل للخالق ندا فقد أتى شيئا عجابا.
والند: هو النظير والمساوي، أي أجعلتني لله مساويا في هذا الأمر؟
قوله: (بل ما شاء الله وحده). أرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بعدت.
يستفاد من الحديث:
أن تعظيم النبي صلى الله عليه بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة، فهو شرك اكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك، فهو أصغر وإذا كان هذا شركا، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
__________
(1) سبق تخريجه.(48/3)
هذا أعظم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم } ، فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: { مثلكم } ، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: { يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد } (الكهف: 110)، ولاشك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه: أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية، فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكفر بمن أرسله. فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب - - عز وجل - -.
إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أجعلتني لله ندا؟)، مع أنه فعل ذلك تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام، فالواجب عليك الإنكار.
أن من حسن الدعوة إلى الله - - عز وجل - - أن نذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما منعه من قول: (ما شاء الله وشئت) أرشده إلى الجائز وهو قوله: (بل ما شاء الله وحده).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(48/4)
لابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله ، قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء a، ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت إنكم لأنتم القوم لولا إنكم تقولون: المسيح ابن الله ، قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء a، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال: (هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله ، وأثني عليه ثم قال: أما بعد فإن طفيلاً رأي رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء a، ولكن قولوا ما شاء الله وحده)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (عن الطفيل أخي عائشة لأمها) هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب.
وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها. فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء a، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده.
وهذا الحديث والذي قبله فيه أن يقولوا: ما شاء الله وحده ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه. فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.
(ق): قوله في حديث الطفيل: (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود). أي رؤيا في المنام.
قوله: (كأني): اسمها الياء، وجملة (أتيت) خبرها.
وقوله: (على نفر) من الثلاثة إلى التسعة، واليهود أتباع موسى.
قوله: (لأنتم القوم). كلمة مدح، كقولك: هؤلاء هم الرجال.
__________
(1) رواه ابن ماجة: كتاب الكفارات /باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت، حديث (2118).(48/5)
وقوله: (عزير) هو رجل صالح ادعى اليهود أنه ابن الله ، وهذا من كذبهم، وهو كفر صريح، واليهود لهم مثالب كثيرة، لكن خصت هذه لأنها من أعظمها وأشهرها عندهم.
قوله: (ما شاء الله وشاء a) هذا شرك أصغر، لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مساوية لمشيئة الله ، فانتقدوا عليهم تسوية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشيئة الله - عز وجل - باللفظ مع عظم ما قاله هؤلاء اليهود في حق الله جل وعلا.
قوله: (تقولون: المسيح ابن الله ): هو عيسى ابن مريم وسمي مسيحا بمعنى ماسح، فهو فعيل بمعنى فاعل، لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برى بإذن الله ، كالأكمه والأبرص.
والشيطان لعب بالنصارى فقالوا: هو ابن الله ، لأنه أتى بدون أب، كما في القرآن: { فنفخنا فيها من روحنا } (الأنبياء: 91)، قالوا: هو جزء من الله ، لأن الله أضافه إليه، والجزء هو الابن.
والروح على الراجح عند أهل السنة: ذات لطيفة تدخل الجسم وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس، ولهذا يقبضها الملك عند الموت وتكفن ويصعد بها ويراها الإنسان عند موته، فالصحيح أنها ذات وإن كان بعض الناس يقول: إنها صفة، ولكنه ليس كذلك، والحياة صحيح أنها صفة لكن الروح ذات، إذا نقول لهؤلاء النصارى: إن الله أضاف روح عيسى إليه كما أضاف البيت والمساجد والناقة وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفا وعظمة، حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته:
لا تدعني إلا بيا ……عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله: (فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت) المقصود بهذه العبارة الإبهام، كقوله تعالى { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } (طه: من الآية78)، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة، وقد يكون للتحقير حسب السياق، وقد يراد به معنى آخر.(48/6)
قوله: (هل أخبرت بها أحدا؟). سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال، لأنه لو قال: لم أخبر أحدا، ، فالمتوقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيقول له: لا تخبر أحداً هذا هو الظاهر، ثم بين له الحكم عليه الصلاة والسلام، لكن لما قال: إنه أخبر بها، صار لابد من بيانها للناس عموما، لأن الشيء إذا انتشر يجب أن يعلن عنه، بخلاف إذا كان خاصا، فهذا يخبر به من وصله الخبر.
قوله: (فحمد الله ). الحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
قوله: (وأثني عليه). أي كرر ذلك الوصف.
قوله: (أما بعد). سبق أنها بمعنى مهما يكن من شيء بعد، أي: بعد ما ذكرت، فكذا وكذا.
قوله: (يمنعني كذا وكذا). أي: يمنعه الحياء كما في رواية أخرى، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل، ولكن من أن ينهى عنها دون أن يأمره الله بذلك، هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة: أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يستحي من الحق، ولكن الحياء من أن ينكر شيئا قد درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حرمت في سورة المائدة، فالرسول صلى الله عليه لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى رأي - صلى الله عليه وسلم - أنه لابد من إنكارها لدخول اللوم على المسلمين للنطق بها.
قوله: (قولوا ما شاء الله وحده). نهاهم عن الممنوع، وبين لهم الجائز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أ جعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك....
والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: (يمنعني كذا وكذا).
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.(48/7)
السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. لقوله: (إنكم لتشركون).
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. أي: إذا كان له هوى فهم شيئا، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه، فاليهود - مثلا - أنكروا على المسلمين قولهم: (ما شاء الله وشئت)، وهم يقولون أعظم من هذا، يقولون: عزير ابن الله ، ويصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب.
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه، فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، كذلك أيضا بعض العصريين يحمل النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك، وكل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعا لها، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده، ولهذا يقولون: استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه.
الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أجعلتني لله ندا؟!) هو قوله: (ما شاء الله وشئت).
وقوله: (فكيف بمن قال: ما لي ألوذ به سواك...) يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة - القصيدة المشهورة -، يقول فيها:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به…… سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي…… عفوا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ……ومن علومك علم اللوح والقلم(48/8)
وهذا غاية الكفر والغلو، فلم يجعل لله شيئا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شرفه بكونه عبد الله ورسوله، لا لمجرد كونه a بن عبد الله .
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: (يمنعني كذا وكذا) لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شيء من إنكاره.
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. تؤخذ من حديث الطفيل، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)(1). لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر، فإذا نسبت هذا إلي بقية زمن الوحي، كان جزءا من ستة وأربعين جزءا، لأن الوحي كان ثلاثة وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له.
والرؤيا الصالحة: هي التي تتضمن الصلاح، وتأتي منظمة وليست بأضغاث أحلام.
__________
(1) البخاري: كتاب التعبير / باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً، حديث (6989)، ومسلم: كتاب الرؤيا، حديث (2265).(48/9)
أما أضغاث الأحلام، فإنها مشوشة غير منظمة، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني رأيت رأسي قد قطع، وإني جعلت أشتد وراءه سعيا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك)(1)، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان، قال الله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله } (المجادلة: 10) ولذلك أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رأى ما يكره أن يتفل عن يساره، أو ينفث ثلاث مرات، وأن يقول: (أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت. وان يتحول إلى الجانب الآخر، وأن لا يخبر أحدا)(2)، وفي رواية: (أمره أن يتوضأ وأن يصلى)(3).
__________
(1) مسلم: كتاب الرؤيا / باب لا يخبر بتلاعب الشيطان به في المنام، حديث (2268)، وابن ماجة حديث (3912).
(2) مسلم (كتاب الرؤيا) (2260).
(3) البخاري: كتاب التعبير / باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر ولا يذكرها، حديث (7044)، مسلم: كتاب الرؤيا، حديث (2261) بدون الأمر بالوضوء.(48/10)
السادسة: أنه قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام، من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه، وهذا الحديث، وكذلك أثبت النبي صلى الله عليه رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنها رؤيا حق)(1)، وأبو بكر رضي الله عنه أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن شماس، فقال للذي رآه: إنكم ستجدون درعي تحت برمة، وعندها فرس يستن. فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس(2)، فنفّذ أبو بكر وصيته؛ لوجود القرائن التي تدل على صدقها، لكن لو دلّت على ما يخالف الشريعة؛ فلا عبرة بها، ولا يلتفت إليها؛ لأنها ليست رؤيا صالحة.
- - - - -
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (4/43)، وأبو داود: كتاب الصلاة / باب كيفية الأذان، حديث (499) وصححه جمع من الأئمة.
(2) الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/322)، وقال: (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح).(48/11)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من سب الدهر فقد آذى الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): الدهر: هو الزمان كاليوم والليلة، والأسابيع والأشهر، والسنين، والعقود، هذا هو الدهر، وهذه الأزمنة مفعولة، لا فاعلة، فهي لا تفعل شيئا، وإنما هي مسخرة يسخرها الله -- جل جلاله -- وكل يعلم أن السنين لا تأتي بشيء، وإنما الذي يفعل هو الله -جل وعلا- في هذه الأزمنة؛ ولهذا كان سب هذه السنين سبا لمن تصرف فيها، وهو الله -- جل جلاله -- لهذا عقد المؤلف هذا الباب ليبين أن سب الدهر ينافي كمال التوحيد، وأن سب الدهر يعود على الله -جل وعلا- بالإيذاء؛ لأنه سب لمن تصرف في هذا الدهر.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهو أن سب الدهر من الألفاظ التي لا تجوز، والتخلص منها واجب، واستعمالها مناف لكمال التوحيد، وهذا يحصل من الجهلة كثيرا، فإنهم إذا حصل لهم في زمان شيء لا يسرهم، سبوا ذلك الزمان، ولعنوا ذلك اليوم، أو لعنوا تلك السنة، أو لعنوا ذلك الشهر، ونحو ذلك من الألفاظ الوبيلة، أو شتموا الزمان، وهذا لا شك لا يتوجه إلى الزمن؛ لأن الزمن شيء لا يَفعَل، وإنما يُفعَل فيه، وهو أذية لله، جل وعلا.
قوله: ((باب من سب الدهر)) السب في أصله التنقص، أو الشتم، فيكون بتنقص الدهر، أو يكون بلعنه، أو بشتمه، أو بنسبة النقائص إليه، أو بنسبة الشر إليه، ونحو ذلك، وهذا كله من أنواع سبِّه، والله -جل وعلا- هو الذي يقلب الليل والنهار.
(ق): وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللّوم، فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: { هذا يوم عصيب } (هود: 77).(49/1)
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبِّه الدهر أن الدهر هو الذي يٌقلِّب الأمور إلى الخير والشر؛ فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً؛ لأنه نسب الحوادث إلى غير الله ، وكل من اعتقد أن مع الله خالقاً؛ فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يٌعبَد؛ فإنه كافر.
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السَّفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبِّه تعود إلى الله -سبحانه-؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلاً، وليس هذا السب يٌكفِّر؛ لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.
قوله: (فقد آذى الله ). لا يلزم من الأذية الضرر؛ فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً } (الأحزاب: 57)، وفي الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار)(1)، ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: { إنهم لن يضروا الله شيئاً } (آل عمران: 176)، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)(2) رواه مسلم.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن / باب: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } (الجاثية: من الآية24)، حديث (4826)، مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها / باب النهي عن سب الدهر، حديث (2446).
(2) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب تحريم الظلم، حديث (2577).(49/2)
(تم): وسب الدهر -كما ذكرنا- محرم، وهو درجات، وأعلاها لعن الدهر؛ لأن توجه اللعن إلى الدهر أعظم أنواع المسبة، وأشد أنواع الإيذاء، وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة، ولا وصف اليوم بالسواد، ولا وصف الأشهر بالنحس، ونحو ذلك؛ لأن هذا مقيد، وهذا جاء في القرآن في نحو قوله -جل وعلا-: { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ } (فصلت: من الآية16) فوصف الله -جل وعلا- الأيام بأنها نحسات.
والمقصود في أيام نحسات عليهم، فوصف الأيام بالنحس؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم، ونحو ذلك قوله - جل وعلا - في سورة القمر { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } (القمر: من الآية19) فهذا ليس من سب الدهر؛ لأن المقصود بهذا الوصف ما حصل فيها كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم، وأما سبه أن ينسب الفعل إليه، فيسب الدهر لأجل أنه فعل به ما يسوؤه، فهذا هو الذي يكون أذية لله، جل وعلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } (الجاثية: 24)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله تعالى: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } . المراد بذلك المشركون الموافقون للدٌّهرية -بضم الدال على الصحيح عند النسبة؛ لأنه مما تغيّر فيه الحركة-، والمعنى وما الحياة والوجود إلا هذا؛ فليس هناك آخرة، بل يموت بعض ويحيا آخرون، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا، ويقولون: إنها أرحام تدفع وأرض تبلع ولا شيء سوى هذا.
قوله: { وما يهلكنا إلا الدهر } . أي: ليس هلاكنا بأمر الله وقدره، بل بطول السنين لمن طالت مدته، والأمراض والهموم والغموم لمن قصرت مدته؛ فالمهلك لهم هو الدهر.(49/3)
قوله: { وما لهم بذلك من علم } . { ما } : نافية، و { علم } : مبتدأ خبره مقدم { لهم } ، وأكد بـ { من } ؛ فيكون للعموم: أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير، بل العلم واليقين بخلاف قولهم.
قوله: { إن هم إلا يظنون } . { إن } : هنا نافية لوقوع { إلا } بعدها؛ أي: ما هم إلا يظنون.
الظن هنا بمعنى الوهم؛ فليس ظنهم مبنياً على دليل يجعل الشيء مظنوناً، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له؛ فلا حجة لهم إطلاقاً، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم، وأيضاً يستعمل بمعنى العلم واليقين؛ كقوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } (البقرة: 46).
(ف): قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة. وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية، المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيئ إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: " وما يهلكنا إلا الدهر " قال الله تعالى: { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } أي يتوهمون ويتخيلون.
(ق): والرد على قولهم بما يلي:
أولاً: قولهم: { وما هي إلى حياتنا الدنيا نموت ونحيا } .
وهذا يرده المنقول والمعقول.
أما المنقول؛ فالكتاب والسنة يدلان على ثبوت الآخرة ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده.(49/4)
وأما المعقول، فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه والجهاد لإعلاء كلمة الله ، مع ما في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك تٌراباً لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب، وحكمة الله تأبى هذا، قال تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } (القصص: 85)؛ أي: الذي أنزل عليك القرآن وفرض العمل به والدعوة إليه لابد أن يردك إلى معاد تجازى فيه ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة.
ثانياً: قولهم: { وما يهلكنا إلا الدهر } ؛ أي: إلا مرور الزمن.
وهذا يرده المنقول والمحسوس:
فأما المنقول؛ فالكتاب والسنة يدلان على أن الإحياء والإماتة بيد الله -- عز وجل --؛ كما قال الله تعالى: { هو يٌحيي ويٌميت وإليه تٌرجَعون } (يونس: 56)، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام: { وأحيي الموتى بإذن الله } (آل عمران: 49).
وأما المحسوس؛ فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة؛ كنوح - عليه السلام - وغيره ولم يهلكه الدهر، ونشاهد أطفالاً يموتون في الشهر الأول من ولادتهم، وشباباً يموتون في قوة شبابهم؛ فليس الدهر هو الذي يميتهم.
مناسبة الآية للباب:
أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر؛ فسوف يَسٌبٌّ الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن / باب: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } (الجاثية: من الآية24)، حديث (4826)، مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها / باب النهي عن سب الدهر، حديث (2446).(49/5)
قوله: (وفي الصحيح) عن أبي هريرة... إلى آخره). هذا الحديث يٌسمى الحديث القدسي أو الإلهي أو الرباني، وهو كل ما يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه -- عز وجل --، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب.
(ف): وفي رواية: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر "وفي رواية: " لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " أ.هـ.
(ق): قوله: (قال الله تعالى). تعالى: من العلو، وجاءت بهذه الصيغة للدلالة على ترَفٌّعِه -جل وعلا- عن كل نقص وسفل؛ فهو متعال بذاته وصفاته، وهي أبلغ من كلمة علا، لأنها تحمل معنى التَّرَفٌّع والتَّنَزٌّه عما يقوله المعتدون علواً كبيراً.
قوله: (يؤذيني ابن آدم). أي: يلحق بي الأذى؛ فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها؛ لأن الله أثبتها لنفسه، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق؛ بدليل قوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: 11) وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات، لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه؛ فليس فيه احتمال للتمثيل؛ إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه؛ لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله.
قوله: (ابن آدم). شامل للذكور والإناث، وآدم هو أبو البشر، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلَّمَه الأسماء كلها.(49/6)
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة، وهي أن الآدميين نشيئوا من قرد لا من طين، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة، وهذا القول لا شك أنه كفر وتكذيب صريح للقرآن؛ فيجب علينا أن ننكره إنكاراً بالغاً، وأن لا نقره في كتب المدارس، فمن زعم هذه الفكرة يٌقال له: بل أنت قرد في صورة إنسان، ومثلك كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله …وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر …وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وأجابه بعض العلماء بجواب؛ فقال: أنت الآن أقررت أنك ولد زنا، وإقرارك على نفسك مقبول وعلى غيرك غير مقبول، ومثلك كما قال الشاعر:
كذلك إقرار الفتى لازم له ……وفي غيره لغوُ كما جاء شرعٌنا
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا؛ فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه.
وأيضاً مما يحذر عنه كلمة (فكر إسلامي)؛ إذ معنى هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر، والإسلام شرع من عند الله وليس فكراً لمخلوق.
قوله: (يسب الدهر). الجملة تعليل للأذية أو تفسير لها؛ أي: بكونه يسب الدهر؛ أي: يشتمه ويٌقَبِّحٌه ويلومه وربما يلعنه -والعياذ بالله- يؤذي الله ، والدهر: هو الزمن والوقت، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر.
قوله: (وأنا الدهر). أي: مٌدبِّر الدهر ومٌصَرِّفه، لقوله تعالى: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } (آل عمران: 140)، ولقوله في الحديث: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر.
ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه، ومن قال ذلك؛ فقد جعل الخالق مخلوقاً، والمقلِّب بكسر اللام مقلَّباً بفتح اللام.(49/7)
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعاً في كلام الله وكلام رسوله وفي اللغة؟
أٌجيب: إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام المحذوف تقديره: وأنا مٌقلب الدهر؛ لأنه فسره بقوله: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول، المقلب هو المقلب، وبهذا عرف خطأ من قال: إن الدهر من أسماء الله ، كابن حزم رحمه الله ؛ فإنه قال: (إن الدهر من أسماء الله )، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث، وغفلة عن الأصل في أسماء الله ، فأما مدلول الحديث؛ فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله ، وإنما أرادوا سبَّ الزمن؛ فالدهر هو الزمن في مرادهم، وأما الأصل في أسماء الله ؛ أن تكون حسنى؛ أي: بالغة في الحسن أكمله، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسماً جامداً أبداً؛ لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن، لكن أسماء الله كلها حسنى؛ فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان، والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن، وعلى هذا؛ فينتفي أن يكون اسماً لله تعالى لوجهين:
الأول: أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء.
الثاني: أن أسماء الله حسنى، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات.
فلا يحكم المعنى الذي يوصف بأنه أحسن، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى، بل إنه الزمن، ولكن مقلب الزمن هو الله ، ولهذا قال: (أقلب الليل والنهار).(49/8)
قوله: (أقلب الليل والنهار). أي: ذواتهما وما يحدث فيهما؛ فالليل والنهار يٌقَلَّبان من طول إلى قصر إلى تساوٍ، والحوادث تتقلب فيه في الساعة وفي اليوم وفي الأسبوع وفي الشهر وفي السنة، قال تعالى: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } (آل عمران: 26)، وهذا أمر ظاهر، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر؛ لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا، ومجرد ظهور سلطان الله -- عز وجل -- وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحب هذا السلطان والقدرة، فيتضرع ويلجأ إليه.
(ف): قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها فكان مرجع سبها إلى الله - عز وجل - إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها فنهوا عن سب الدهر. أ.هـ.باختصار.
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً بهذا الطريق. قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ". ويسبون الدهر. فقال الله - عز وجل -: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار.(49/9)
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار " وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به.
وقال a بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله - عز وجل -: استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر "(1).
قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى. فكأنما إنما سبوا الله سبحانه، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الإعتبار لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره - وهو المراد - والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وفي رواية: لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وفي رواية: لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر). وفائدة هذه الرواية أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
قوله: (فإن الله هو الدهر). وفي نسخة: (فإن الدهر هو الله )، والصواب: (فإن الله هو الدهر).
__________
(1) أخرجه أحمد (2/300، 506) وابن خزيمة (2479) والحاكم (1/418) واسناده ضعيف والفقرة الأخيرة من الحديث بلفظ "يشتمني ابن أدم يقول وادهراه..." عند ابن أبي عاصم في السنة (598) واسنادها حسن كما قال الألباني.(49/10)
وقوله: (فإن الله هو الدهر)؛ أي: فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه، وهذا تعليل للنهي، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المٌعَلِّل حكماً؛ فهذه ثلاث فوائد في قَرن العلة بالحكم.
(ف): معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث من قوله: وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار يعني ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة. كما قال الله تعالى: ' 7: 168 ' { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وقال تعالى: ' 21: 35 ' { ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك كقوله تعالى: ' 12: 48 ' { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد } الآية. وقال بعض الشعراء:
إن الليالي من الزمان مهولة
فقصارهن مع الهموم طويلة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار
وطوالهن مع السرور قصار
وقال أبو تمام:
أعوام وصل كاد ينسى طيبها
ثم انبرت أيام هجر أعقبت
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... ذكر النوى فكأنها أيام
نحوى أسى فكأنها أعوام
فكأنها وكأنهم أحلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: (فإن الله هو الدهر).
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر. لقوله: (لا تسبوا الدهر).
الثانية: تسميته أذى لله. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم).(49/11)
الثالثة: التأمل في قوله: فإن الله هو الدهر. فإذا تأملنا فيه وجدنا أن معناه أن الله مٌقَلِّب الدهر ومٌصَرِّفه وليس معناه أن الله هو الدهر، وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر)، ولم يذكر قصداً ولو عَبَّر الشيخ بقوله: أنه قد يكون مؤذياً لله وإن لم يقصده؛ لكان أوضح وأصح، لأن الله صرح بقوله: (يسب الدهر)، والفعل لا يضاف إلا لمن قصده.
وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل، منها: تفسير آية الجاثية، وقد سبق ذلك.
- - - - -(49/12)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): التوحيد يقتضي من الموحد المؤمن بالله -جل وعلا- أن يعظمه، وألا يجعل مخلوقا في منزلة الله -جل وعلا- فيما يختص به، لأنه قد يجعل المخلوق في منزلة الله لشبهة وصف قام به، ككون القاضي هو رئيس القضاة، أو أعلم، فيجعل في اللفظ والتسمية قاضيا للقضاة؛ فلهذا نبه الشيخ -رحمه الله - على أن التسمي بالأسماء التي معناها، إنما هو لله -- جل جلاله -- لا يجوز، والتوحيد يقتضي ألا يوصف بها إلا الله ، وألا يسمى بها إلا الله -جل وعلا- فتسمية غير الله بتلك الأسماء التي ستأتي لا تجوز، ومحرم بل هي أخنع الأسماء، وأوضع تلك الأسماء، وأبغض الأسماء إلى الله -- جل جلاله --.
قوله: ((باب التسمي بقاضي القضاة.. ونحوه)). ((التسمي)) يشمل ما إذا سمى نفسه، أو سماه غيره به فرضي، أما إذا سماه غيره به فلم يرض، فإنه لا يدخل في الذم؛ لعدم الرضا، فيلحق الوعيد المسمِّي، ومن رضي بذلك الاسم.
(ق): قوله: (قاضي القضاة). قاضي: بمعنى حاكم، والقضاة؛ أي: الحكام، و(ألـ) للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحكام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين، وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان؛ لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي؛ فهو لا يٌلزم، ولهذا قالوا: القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء؛ فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله ، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي؛ أي: يخبر عن حكم الله وشرعه، ويٌلزم الخصمين بما حكم به.(50/1)
(تم): وقاضي القضاة: هو الذي يقضي بين القضاة، تقول: قاضي المسلمين يعني: الذي يقضي بين المسلمين، وقاضي الرياض، يعني: الذي يقضي في الخصومات التي بين أهل الرياض، فقاضي القضاة لفظ حقيقة، معناه: الذي يقضي بين القضاة، وهذا إنما هو لله -- جل جلاله -- فهو الذي يقضي بين العباد، بين القضاة وبين العبيد، فهو قاضي القضاة على الحقيقة -- سبحانه وتعالى -- فيخبر عنه بذلك؛ لأن ((قاضي القضاة))، ليست من أسماء البشر، فالذي يقضي بين القضاة هو الله -- جل جلاله --.
والذين أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة، أو على كبير العلماء لا يعنون بها، أن ذاك يقضي بين القضاة، وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة في القضاء، أو في العلم أعلى من درجة القاضي، فصار قاضي القضاة، كما شاع في الزمن المتأخر في الدولة العثمانية أنهم يسمون المفتي شيخ الإسلام، ووكيل المفتي: وكيل شيخ الإسلام وهي تسمية خاصة.
وقد انتشر في بلاد المسلمين عن التسمية بقاضي القضاة، ونحوه، منذ القرن الرابع الهجري إلى أوقات متأخرة قريبة من هذا الزمان، والواجب على العبد ألا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه، ولا أن يرضى بها.
وكذلك مالك الأملاك، أو شاهان شاه، يعني: ملك الأملاك لأن فيه تسمية البشر بما يختص بالله، فإن ملك الأملاك هو الله -جل وعلا- والأملاك واسعة، والإنسان إنما يطلق عليه أنه مالك للشيء المعين، وليس مالكا لكل شيء، فالذي يملك كل شيء هو الله وحده، والبشر يملكون بالإضافة بعض الأشياء.
وكذلك المُلْك - بالضم -، وهو: نفاذ الأمر والسيطرة، فإنه يكون في بعض الأرض، وليس في كل الأرض، فالذي يملك يقال له مالك إذا كان يملك مِلكاً، أو مَلِك إذا كان يملك مُلكاً، بمعنى نفاذ الأمر، ويضاف إلى بقعته، فيقال: ملك المملكة العربية السعودية، وملك الأردن، ونحو ذلك.(50/2)
وأما الإطلاق العام مَلِك الأملاك، أو شاهان شاه، فإن الأملاك منها ما هو على الأرض، ومنها غير ذلك، وهذا إنما هو لله، جل وعلا، فالتوحيد يوجب ألا يتسمى بذلك أحد، وألا يُرضَى بتسمية أحد بذلك، حتى لو وجد في بعض الكتب، لا ينقل كما هو، وقد يغلط بعض الباحثين وبعض طلبة العلم، فينقل قولاً عن بعض أهل العلم المتقدمين، ممن يتجوزون في مثل هذه الألفاظ، وفيه: ((وقال قاضي القضاة كذا))، و((كان قاضي القضاة كذا))، ولا يغيره، والواجب أن يغيره تعظيما لله -جل وعلا- وأمانة النقل التي يدعون، هي في مرتبة دون توحيد الله -جل وعلا- بكثير كثير. فالواجب تغيير ذلك، وهذا من توحيد الله ، وتغيير اشتراك الخلق مع الله -جل وعلا- في حقه، فيما يزعمه بعض الخلق.
(ق): مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من تسمى بهذا الاسم؛ فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا يستحقه إلا الله ؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله -- سبحانه وتعالى --؛ فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويٌرجع إليه الأمر كله كما ذكر الله ذلك في القرآن.
وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين:
قضاء كوني.
قضاء شرعي.
والقضاء الكوني لابد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله وفيما كرهه، قال تعالى: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين } (الإسراء: 4)؛ فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله ؛ لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله ، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لابد أن يقع ولا معارض له إطلاقاً.
وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي؛ فمثل قوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } (الإسراء: 23)، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه يتعلق فيما يحبه الله ، وقد سبق الكلام على ذلك.(50/3)
فإن قلت: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يٌقال: قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر أو الشام، أو ما أشبه بذلك؛ فهل يجوز هذا؟
فالجواب: أن هذا جائز؛ لأنه مٌقَيَّد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله -- عز وجل --، على أنه لا ينبغي أيضاً أن يتسمى الإنسان بذلك أو يٌسمَّى به وإن كان جائزاً؛ لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه؛ فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز لا ينبغي أن يقبله اسماً لنفسه أو وصفاً له، ولا أن يتسمى به.
فإذا قٌيِّد بزمان أو مكان ونحوهما؛ قلنا: إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل، لكن إن قٌيِّد بفن من الفنون؛ هل يكون جائزاً؟
مقتضى التقييد أن يكون جائزاً، لكن إن قٌيِّد بالفقه بأن قيل: (عالم العلماء في الفقه)، وقلنا: إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)(1)؛ صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه؛ فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه.
وأما إن قٌيَّد بقبيلة؛ فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف أن لا يغتر ويٌعجب بنفسه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمادح: (قطعت عنق صاحبك)(2).
__________
(1) البخاري: كتاب العلم/ باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، حديث (71)، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة، حديث (1037).
(2) البخاري: كتاب الأدب/ باب ما يكره من التمادح، ومسلم: كتاب الزهد/ باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.(50/4)
وأما التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ مثل أن يٌقال: شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام a بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام؛ فهذا لا يصح؛ إذ أن أبا بكر - رضي الله عنه - أحق بهذا الوصف؛ لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قٌصد بهذا الوصف أنه جَدَّد في الإسلام وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه؛ فلا بأس بإطلاقه.
وأما بالنسبة للتسمية بـ(الإمام)؛ فهو أهون بكثير من التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن عنده إلا اثنان.
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام إلا على من كان قدوة وله أتباع؛ كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام؛ لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام هان الإمام الحق في عينه، قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ……إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ومن ذلك أيضاً: (آية الله ، حجة الله ، حجة الإسلام)؛ فإنها ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما آية الله ، فإن أٌريد به المعنى الأعم؛ فلا مدح فيه لأن كل شيء آية لله، كما قيل:
وفي كل شيء له آية ……تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص؛ أي: أن هذا الرجل آية خارقة؛ فهذا في الغالب يكون مبالغاً فيه، والعبارة السليمة أن يقال: عالم مفت، قاض، حاكم، إمام لمن كان مستحقاً لذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
[إن أخنع اسم عند الله : رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله ](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب /باب أبغض الأسماء إلى الله ، حديث (6206)، ومسلم: كتاب الآداب، باب: تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك، حديث (2143).(50/5)
(ق): قوله: (إن أخنع اسم). أي: أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة؛ فجعل مرتبته فوق مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله -- عز وجل --، ولهذا عوقب بنقيض قصده؛ فصار أوضع اسم عند الله إذا قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأٌهين، ولهذا كان أحبُّ اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل: عبدالله وعبد الرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت والسلطة والتعظيم.
(تم): قوله ((لا مالك إلا الله )) وهذا من أساليب الحصر يعني: المِلك إنما هو لله وحده، وهناك فرق بين مَالِك، ومَلِك، فمالك اسم فاعل من المِلْك، يقال: مَلَك الشيء، يعني: اقتناه، وصار مختصا به من المِلْك، وهذا راجع إلى التصرف بالأعيان، وأما المُلك بالضم، فالاسم منه الملك، وهو الذي ينفذ أمره، ونهيه، فالمِلك راجع إلى الأعيان، والملُك راجع إلى المعاني، هذا في قول عدد من محققي أهل اللغة.
(ق): فالله له الخلق والملك والتدبير؛ فلا خالق إلا الله ، ولا مدبر إلا الله ، ولا مالك إلا الله ، قال تعالى: { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } (فاطر: 3)؛ فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أٌشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى: { إن ربك هو الخلاق العليم } (الحجر: 86) فيها توكيد وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى: { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } (الحج: 73)؛ فـ { الذين } : اسم موصول يشمل كل من يٌدعى من دون الله { لن يخلقوا ذباباً } ، وهذا على سبيل المبالغة؛ وما كان على سبيل المبالغة؛ فلا مفهوم له كثرة أو قلة.(50/6)
وقال تعالى: { تبارك الذي بيده الملك } (الملك: 1)، وقال تعالى: { قل اللهم مالك الملك } (آل عمران: 26)، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } (يونس: 31)، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } (المؤمنون: 88).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال سفيان: مثل (شاهان شاه).
وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله (أخنع) يعني أوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: قال سفيان يعني ابن عيينة مثل شاهنشاه عند العجم عبارة عن ملك الأملاك. ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم.
(ق): قوله: (قال سفيان (هو ابن عيينة): مثل شاهان شاه). وهذا باللغة الفارسية؛ فشاهان: جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك؛ أي: ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف.
قوله: وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه).
أغيظ: من الغيظ وهو الغضب؛ أي: أغضب شيء عند الله -- عز وجل -- وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سبباً لغضب الله وخبيثاً؛ فإن التسمي به من الكبائر.
وقوله: (أغيظ). فيه إثبات الغيظ لله - - عز وجل --؛ فهي صفة تليق بالله -- عز وجل -- كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب.(50/7)
(ف): قوله: وأخبثه وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، وضعه عند الله يوم القيامة. فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم، لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله .
قوله: أخنع: يعني أوضع هذا هو معنى أخنع فيفيد ما ذكرنا في معنى أغيظ أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله .
وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم. كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية - رضي الله عنه - على ابن الزبير وابن عامر. فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير. فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار "(1) وأخرجه الترمذي أيضاً، وقال حسن. وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: " خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على عصا، فقمنا إليه. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً "(2) رواه أبو داود.
__________
(1) صحيح: أبو داود: كتاب الأدب: باب في قيام الرجل للرجل ،حديث(5229)، الترمذي: كتاب الأدب: باب ماجاء في كراهية قيام الرجل للرجل (2754)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (357).
(2) ضعيف:أبو داود: كتاب الأدب: باب في قيام الرجل للرجل ،حديث(5230)، وضعفه الألباني في الضعيفة (346)، بقوله "ضعيف وفي اسناده اضطراب وضعف وجهالة "أ.هـ.(50/8)
قوله: أغيظ رجل هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيئ مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة. وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم، والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأول: النهي عن التسمي بملك الأملاك. وتؤخذ من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " إن أخنع اسم عند الله - عز وجل - رجل تسمى ملك الأملاك "، والمؤلف يقول: النهي عن التسمي… والنهي شرعاً لا يستفاد من الصيغة المعينة المعروفة. فحسب، بل إذا ورد الذم عليه، أو سب فاعله، أو ما أشبه ذلك، فإنه يفيد النهي، وصيغة النهي ذم أو وعيد أو ما أشبه ذلك، فهو متضمن للنهي وزيادة.
الثانية: أن ما في معناه مثله كما قال سفيان. والذي: في معناه: قاضي القضاة، وحاكم الحكام، وشاهان شاه في الفارسية.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه. أي لم يقصد أنه ملك الأملاك أو قاضي القضاة، لعلمه أن هناك من هو أبلغ ملكاً وأحكم قضاء.(50/9)
وإذا سمينا شخصاً بقاضي القضاة أو حاكم الحكام وهو ليس كذلك، بل هو من أجهل القضاة ومن أضعف الحكام، جمعنا بين أمرين: بين الكذب، والوقوع في اللفظ المنهي عنه، وأما إذا كان أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل مكانه، ويرجع القضاة إليه، فهذا وإن كان القول مطابقاً للواقع لكنه منهي عنه، مع أن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه يؤخذ من قوله: " لا مالك إلا الله ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى العلة، وهي: " لا مالك إلا الله "، فكيف تقول: ملك الأملاك وهو لا مالك إلا الله - عز وجل -؟.
الفرق بين ملك ومالك:
ليس كل ملك مالكاً، وليس كل مالك ملكاً، فقد يكون الإنسان ملكاً، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكاً ويتصرف فيما يملكه فقط، فالملك من ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكاً مالكاً، وقد لا يملك فيكون ملكاً وليس بمالك، أم المالك، فهو الذي له التصرف بشيء معين، كمالك البيت، ومالك السيارة وما أشبه ذلك، فهذا ليس بملك، يعني: ليس له سلطة عامة.
ويستفاد من الحديث أيضاً:
إثبات صفة الغيظ لله - عز وجل -، وأنه يتفاضل لقوله: " أغيظ "، وهو اسم تفضيل
حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم، لأنه لما بين أن هذا أخنع اسم وأغيظه أشار إلى العلة، وهو: " لا مالك إلا الله "، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية أو علل مرعية، قال ابن القيم:
العلم معرفة الهدى بدليله…… ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية، فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع، والنظرية: العقلية، أي: العلل المرعية التي يعتبرها الشرع.
- - - - -(50/10)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب فيه الإرشاد إلى الأدب الذي يجب أن يصدر من قلب الموحد ومن لسانه، فإن الموحد متأدب مع الله -- جل جلاله --، ومتأدب مع أسمائه، وصفاته، ومع دينه، فلا يهزل -مثلا- بشيء فيه ذكر الله ، ولا يلقي الكلمة عن الله -جل وعلا- دون أن يتدبر ما فيها، وكذلك لا يسمي أحدا بأسماء الله -جل وعلا-، ويغيَّر الاسم لأجل هذا؛ فأسماء الله -جل وعلا- يجب احترامها، وتعظيمها، ومن احترامها أن يُجعل ما لا يصلح إلا لله منها لله وحده، وألا يُسمى به البشر.
قوله: ((باب احترام أسماء الله تعالى))، هذا الاحترام قد يكون مستحبا من جهة الأدب، وقد يكون واجبا؛ فأسماء الله تعالى يجب احترامها، بمعنى يجب ألا تُمتهن.
ويستحب احترامها أيضا فيما كان من الأدب أن لا يوصف به غير الرب -جل وعلا-.
وهذا راجع إلى تعظيم شعائر الله -- جل جلاله --، قال سبحانه: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } (الحج: 32) وقال -جل وعلا-: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } (الحج: من الآية30) قال أهل العلم: الشعائر جمع [شعيرة]، وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه، -يعني أعلم- بتعظيمه فهو شعيرة، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماءه الحسنى -جل وعلا-، فيجب احترامها وتعظيمها.
ولهذا يستدل أهل العلم على وجوب ألا تُمتهن أسماء الله الموجودة في الجرائد، أو في الأوراق، وأن ترمى، أو أن توضع في أمكنة قذرة، وعلى وجوب احترام ما فيه اسم من أسماء الله بهاتين الآيتين، وبالقاعدة العامة في ذلك.
(ق): أسماء الله -- عز وجل -- هي: التي سمَّى بها نفسه أو سمَّاه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة، منها:(51/1)
الأول: هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
وقلنا باعتبار دلالتها على الذات مترادفة؛ لأنها تدل على ذات واحدة، وهو الله -- عز وجل --، وباعتبار دلالتها على المعنى والصفة التي تحملها متباينة، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمَّنه الآخر من باب دلالة اللزوم؛ فمثلاً: (الخلاق) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم، لكنه بالالتزام، وعلى القدرة المستفادة من اسم القدير، لكن بالالتزام.
الثاني: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة (يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة)؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن؛ فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يٌسمّى محمداً وهو من أشد الناس ذماً، وقد يسمى عبدالله وهو من أفجر عباد الله .
أما أسماء الله -- عز وجل --، وأسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك؛ فإنها أسماء متضمنة للأوصاف.
الثالث: أسماء الله بعضها معلوم لنا وبعضها غير معلوم بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في دعاء الكرب: (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي….). ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد.
الرابع: أسماء الله ؛ هل هي محصورة بعدد معين؟
والجواب: غير محصورة، وقد سبق الكلام على ذلك، والجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).
الخامس: أن هذه التسعة والتسعين غير معينة، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين، وهذا من حكمة إبهامها لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية، ولهذا نظائر، منها: أن الله أخفى ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وساعة الإجابة في الليل؛ ليجتهد الناس في الطلب.(51/2)
السادس: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين الذي يترتب عليه دخول الجنة ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط، ولكن معنى ذلك:
أولاً: الإحاطة بها لفظاً.
ثانياً: فهمها معنىً.
ثالثاً: التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان:
الوجه الأول: أن تدعو الله بها؛ لقوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها } (الأعراف: 180) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب! اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.
الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء؛ فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله ، ومقتضى الغفور المغفرة، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك، هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك؛ فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب؛ لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (لن يدخل الجنة أحد بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته)(1).
فلا تغتر يا أخي بعملك، ولا تعجب فتقول: أنا عملت كذا وكذا وسوف أدخل الجنة، قال تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } (الحجرات: 17)، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا؛ فيجب أن نرى لله المنة والفضل علينا، لكن باعتبار الجزاء، قال تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } (الرحمن: 60)؛ فتؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان.
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب القصد والمداومة، ومسلم: كتاب المنافقين/ باب لن يدخل أحد الجنة بعمله.(51/3)
السابع: أسماء الله -- عز وجل -- ودلالتها على الذات والصفة جميعاً دلالة مطابقة، ودلالتها على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمّن، ودلالتها على أمر خارج دلالة التزام.
مثال ذلك: (الخلاق) دلّ على الذات، وهو الرب -- عز وجل --، وعلى الصفة وهي الخلق جميعاً دلالة مطابقة، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ودلّ على القدرة والعلم دلالة التزام.
الثامن: أسماء الله -- عز وجل -- لا يتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور إذا كان الاسم متعدياً: الإيمان بالاسم اسماً لله، والإيمان بما تضمنه من صفة، وما تضمنه من أثر وحكم؛ فالعليم مثلاً لا يتم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله ، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء، وإذا كان الاسم غير متعد؛ فنؤمن بأنه من أسماء الله وبما يتضمنه من صفة.
التاسع: أن من أسماء الله ما يختص به؛ مثل الله ، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يختص به، مثل: الرحيم، السميع، العليم، قال تعالى: { إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } (الإنسان: 2)، وقال تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } (التوبة: 128)(1).
قوله: (باب احترام أسماء الله ). أي: وجوب احترام أسماء الله ، لأن احترامها احترام لله -- عز وجل -- ومن تعظيم الله -- عز وجل --؛ فلا يسمى أحد باسم مختص بالله.
وأسماء الله تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما لا يصح إلا لله، فهذا لا يٌسمَّى به غيره، وإن سٌمِّيَ وجب تغييره؛ مثل: الله ، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك.
الثاني: ما يصح أن يوصف به غير الله ؛ مثل: الرحيم، والسميع، والبصير، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض.
__________
(1) انظر أيضاً: (رسالة القواعد المثلى) للمؤلف رحمه الله .(51/4)
(ف): قوله: عن أبي شريح قال في خلاصة التهذيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثاً، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة. قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. وقال الشارح اسمه هانيء بن يزيد الكندي قاله الحافظ، وقيل: الحارث الضبابي. قاله المزي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله هو الحكم، وإليه الحكم) فقال: (إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين) فقال: (ما أحسن هذا فما لك من الولد؟)قلت (شريح، ومسلم، وعبد الله .) قال: (فمن أكبرهم؟) قلت: (شريح)، قال: (فأنت أبو شريح)، رواه أبو داود وغيره(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (عن أبي شريح) هو هانيء بن يزيد الكندي، جاء وافداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه.
وقوله: يكنى أبا الحكم. أي ينادى به. والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال، وتكون للمدح كما في هذا الحديث، وتكون للذم كأبي جهل، وقد يكون لمصاحبة الشيء مثل: أبي هريرة، وقد تكون لمجرد العلمية كأبي بكر - رضي الله عنه -، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، لأنه ليس له ولد.
قوله: (إن الله هو الحَكم وإليه الحٌكم). (هو الحكم)؛ أي: المستحق أن يكون حاكماً على عباده، حاكماً بالفعل، يدل له قوله: (وإليه الحكم).
وقوله: (وإليه الحكم). الخبر فيه جار ومجرور مقدم، وتقديم الخبر يفيد الحصر، وعلى هذا يكون الحكم راجعاً إلى الله وحده.
وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
__________
(1) أبو داود: كتاب الأدب / باب تغيير الاسم القبيح، والنسائي: كتاب القضاء / باب إذا حكموا رجلا فقضي بينهم.(51/5)
الأول: كوني، وهذا لا راد له؛ فلا يستطيع أحد أن يرده، ومنه قوله تعالى: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80).
الثاني: شرعي، وينقسم الناس فيه إلى قسمين: مؤمن وكافر؛ فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن، ومن لم يرض به ولم يحكم به فهو كافر، ومنه قوله تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } (الشورى: 10)
وأما قوله: { أليس الله بأحكم الحاكمين } (التين: 8)، وقوله تعالى: { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (المائدة: 50)؛ فهو يشمل الكوني والشرعي، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي؛ لأنه في سياق الحكم الشرعي، والشرعي يكون تابعاً للمحبة والرضا والكراهة والسخط، والكوني عام في كل شيء.
وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى: (الحكم).
وأما بالنسبة للعدل؛ فقد ورد عن بعض الصحابة أنه قال: (إن الله حكم عدل) ولا أعرف فيه حديثاً مرفوعاً، ولكن قوله تعالى: { ومن أحسن من الله حكماً } (المائدة: 50) لا شك أنه متضمن للعدل، بل هو متضمن للعدل وزيادة.
قوله: (فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني). هذا بيان لسبب تسميته بأبي الحكم.
قوله: (ما أحسن هذا). الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيّره.
قوله: (شريح ومسلم وعبد الله ). الظاهر: أنه ليس له إلا الثلاثة؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فلو كان عنده بنات لعدهن.
قوله: (فأنت أبو شريح). غيره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأمرين:
الأول: أن الحكم هو الله ، فإذا قيل: يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله !(51/6)
الثاني: إن هذا الاسم الذي جعل كنية لهذا الرجل لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم، فصار بذلك مطابقاً لاسم الله ، وليس لمجرد العَلَميّة المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركاً لله - - سبحانه وتعالى -- في ذلك، ولهذا كنّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبغي أن يٌكنَّى به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
قوله: (ولو لم يقصد معناه) هذا في النفس منه شيء، لأنه لم يقصد معناه فهو جائز، إلا إذا سمي بما لا يصح إلا لله، مثل: الله ، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه، فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان، وأما ما لا يختص بالله، فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط، لأنه لا يكون مطابقا لاسم الله ، ولذلك كان في الصحابة من اسمه(الحكم)(1) ولم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لم يقصد إلا العلمية، وفي الصحابة من اسمه(حكيم)(2) واقره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. وقد سبق الكلام عليه.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية. تؤخذ من سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - (فمن أكبرهم؟ قال: شريح. قال فأنت أبو شريح).
ولا يؤخذ من الحديث استحباب التكني، لأن النبي صلى الله عليه وسم أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكنى ابتداء.
ويستفاد من الحديث ما يلي:
__________
(1) انظر (الإصابة) لابن حجر (1/342).
(2) انظر(الإصابة) لابن حجر (1/249).(51/7)
أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح إذا أغلقوا بابا محرما أن يبيِّنوا للناس المباح، وقد سبق تقرير ذلك.
أن الحكم لله وحده، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (وإليه الحكم)، أما الكوني، فلا نزاع فيه إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية.
أما الشرعي، فهو محك الفتنة والامتحان والاختبار، فمن شرع للناس شرعا سوى شرع الله ورأى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد، وأنه مساو لشرع الله ، وأنه يجوز ترك شرع الله إليه، فإنه كافر لأنه جعل نفسه ندا لله - - عز وجل - - سواء في العبادات أو المعاملات، والدليل على ذلك قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } (المائدة: 50) فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله ولا مساو لحكم الله ، لأن أحسن اسم: معناه لا يوجد شيء في درجته، ومن زعم ذلك، فقد كذب الله - - عز وجل - -. قال تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (المائدة: 44) وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره، وأنه كفر.
فإن قيل: قال تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } (المائدة: 47).
قلنا: قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } (النساء: 60-61)، وهذا دليل على كفرهم، لأنه قال: { يزعمون أنهم آمنوا } ، وهذا إنكار لإيمانهم، فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق ولا حق.
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإليه الحكم) يدل على أن من جعل الحكم لغير الله ، فقد أشرك.
فائدة:(51/8)
يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاما يمشي عليه ويستبدل به القرآن، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله ، فهذا قد يكون كفرا أو فسقا أو ظلما.
فيكون كفرا إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له.
ويكون فسقا إذا كان لهوى في نفس الحاكم.
ويكون ظلما إذا أراد مضرة المحكوم عليه وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية وظهور الفسقةفي الثانية أبين من ظهوره في الثالثة.
تغيير الاسم إلى ما هو أحسن إذا تضمن أمرا لا ينبغي، كما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأسماء المباحة، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة كما يتوهمه بعض العامة.
- - - - -(51/9)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا ((باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول))
التوحيد الخالص في القلب-بل أصل التوحيد-لا يجامع الاستهزاء بالله -جل وعلا- وبرسوله وبالقرآن؛ لأن الاستهزاء معارضة والتوحيد موافقة، ولهذا قال بعض أهل العلم: الكفار نوعان: معرضون كمن قال الله فيهم: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } (الانبياء: من الآية24) ومعارضون وهم المجادلون، أو الذين يعارضون بأنواع المعارضات لأجل إطفاء نور الله ، ومن ذلك الاستهزاء ونحوه.
فالتوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم، والهُزْء والاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول معارضة؛ لأنه مناف للتعظيم؛ ولهذا كان كفرا أكبر بالله -جل وعلا-، إذ لا يصدر الاستهزاء بالله أو برسوله - صلى الله عليه وسلم - أو بالقرآن من قلب موحد أصلا، بل لا بد أن يكون إما منافقا أو كافرا مشركا.
(ق): هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون معطوفا على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فـ (أل) للجنس وليس للعهد.
قوله: (من هزل). سخر واستهزأ ورآه لعبا ليس جدا.
ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله، فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة.
كيف يسخر ويستهزأ بأمر يؤمن به؟ فالمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.(52/1)
والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل الهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله - - عز وجل - - لا يلقى لها بالا يهوى بها في النار.
فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب - - عز وجل - - كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها.
ثم أعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنه لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ؛ لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة.
وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله ، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } (الزمر: 53) ومن الكفار من يسبون الله ، ومع ذلك تقبل توبتهم.
وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله ، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعا، أما ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يتعلق به أمران:(52/2)
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه - صلى الله عليه وسلم - ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه(الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو: (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح، لكن هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وقد اسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفوا موجب للتوقف؟
أُجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عفا عمن سبه؟
أُجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم أعيان المنافقين، ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، وقال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط.(52/3)
(تم): فمن استنقص الله -جل وعلا-، أو هزل بذكره لله -جل وعلا- يعني حينما ذكر الله -جل وعلا- استهزأ وهزل، ولم يظهر التعظيم في ذلك، فتَنقَّص الله -جل وعلا- كما يفعل بعض الفسقة، والذين يقولون الكلمة لا يلقون لها بالا تهوي ببعضهم في النار سبعين خريفا، أو هزل بالقرآن، أو استهزأ بالقرآن، أو بالسنة، يعني بالنبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة، هذا ضابط هذا الباب.
ويخرج عن ذلك ما لو استهزأ بالدين، فإن الاستهزاء بالدين فيه تفصيل، فإن المستهزئ بالدين أو الساب له، أو اللاعن له، قد يريد دين المستهزأ به، ولا يريد دين الإسلام أصلا، فلا يرجع استهزاؤه إلى واحد من الثلاثة.
فلهذا نقول: الكفر يكون أكبر إذا كان الاستهزاء بأحد الثلاثة التي ذكرنا ونصت عليها الآية، أو كان راجعا إلى أحد الثلاثة، أما إذا كان الاستهزاء بشيء خارج عن ذلك، فإنه يكون فيه تفصيل:
فإن هزل بالدين فينظر هل يريد دين الإسلام، أو يريد تدين فلان؟ ومثال ذلك أن يأتي واحد من المسلمين ويستهزئ مثلا بهيئة أحد الناس، وهيئته يكون فيها التزام بالسنة، فهل يكون هذا مستهزئا الاستهزاء الذي يخرجه من الملة؟
الجواب: لا؛ لأن هذا الاستهزاء راجع إلى تدين هذا المرء، وليس راجعا إلى الدين أصلا، فيعرَّف بأن هذا سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا علم أنه سنة، وأقر بذلك، وأن النبي فعله، ثم استهزأ -بمعنى استنقص- أو هزأ بالذي اتبع السنة، مع علمه بأنها سنة، وإقراره بصحة كونها سنة، فهذا رجع إلى الاستهزاء بالرسول.(52/4)
وكذلك الاستهزاء بكلمات قد يكون مرجعها إلى القرآن، وقد لا يكون مرجعها إلى القرآن، فيكون فيه تفصيل، فالخلاصة إذا أن الاستهزاء، إذا كان بالله، أو بصفاته، أو بأسمائه، أو بالرسول -عليه الصلاة والسلام-، أو بالقرآن؛ فإن هذا كفر، وإن كان الاستهزاء غير ذلك، فينظر، إن كان راجعا إلى أحد الثلاثة فهو كفر أكبر، وإن كان غير ذلك فإنه يكون محرما ولا يكون كفرا أكبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [التوبة: 65-66]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله تعالى: { ولئن سألتهم } . الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.
قوله: { ليقولن } . جواب القسم، قال بن مالك:
واحذف لدي اجتماع شرط وقسم…… جواب ما أخرت فهو ملتزم (1)
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله: { ليقولن } ، أي: المَسْؤلون.
قوله: { إنما كنا نخوض ونلعب } . أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعبُ يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له.
هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول، فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح.
وقوله { إنما كنا نخوض ونلعب } : { إنما } : أداة حصر، أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب.
__________
(1) انظر ألفية ابن مالك ص (52).(52/5)
قوله: { قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } . الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلا للسخرية؟
قوله: { أبا لله } . أي: بذاته وصفاته.
قوله: { وآياته } : جمع آية، ويشمل:
الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين- والعياذ بالله - أو يستهزأ بشيء من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، كيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: { ورسوله } . المراد هنا a - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: { لا تعتذروا } . المراد بالنهي التيئيس، أي: أنههم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم.
قوله: { قد كفرتم بعد إيمانكم } . أي: بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله.
(ف): قال شيخ الإسلام: وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: { قد كفرتم بعد إيمانكم } وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم: لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين.(52/6)
وقال رحمه الله في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر. ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه. كقوله تعالى: ' 24: 47 - 52 ' { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك } - إلى قوله - { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان، انتهى.
وفيه: بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به. وأشدها خطراً إرادات القلوب. فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر. فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه)(1). نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
(تم): هذه الآية نص في أن المستهزئ بالله، وبالرسول، وبآيات الله -جل وعلا-، والمقصود بها آيات الله -جل وعلا- الشرعية، يعني القرآن، أن هذا المستهزئ كافر، وأنه لا ينفعه اعتذاره بأنه كان في هزل ولعب بل هو كافر؛ لأن تعظيم الله -جل وعلا- وتوحيده يوجب عليه ألا يستهزئ.
وهذه الآية نزلت في المنافقين، وبعض أهل العلم قال: ليست في المنافقين. وهذا غلط، وليس بصواب، لأسباب منها:
__________
(1) البخاري تعليقاً،حديث(1/109)، ووصله ابن أبي خيثمة في تاريخه وكذا محمد بن نصر المروزي في كتاب الايمان له وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه كما قال الحافظ في الفتح (1/110).(52/7)
أن هذه السورة -التي منها هذه الآية- هي في حال المنافقين، ولأن السياق -سابقها ولاحقها- يدل على أن الضمائر ترجع إلى المنافقين.
قال -جل وعلا- قبل هذه الآية في سورة براءة: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } (التوبة: 64-65) فالآية السابقة لآية الباب هي في المنافقين نصاً، فالضمير إذاً في قوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يعود على من ذكر قبل هذه الآية وهم المنافقون المنصوص عليهم بقوله: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } وكذلك ما بعدها من الآيات في المنافقين في قوله -جل وعلا-: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } (التوبة: 67) والأدلة على ذلك كثيرة، فالصواب في ذلك أن المراد بالآية هم المنافقون. وأما أهل التوحيد فإنه لا يصدر منهم استهزاء أصلا، ولو استهزءوا لعلمنا أنه غير معظمين لله، وأن توحيدهم ذهب أصلا؛ لأن الاستهزاء يطرد التعظيم.
فالواجب على المسلمين جميعا -وعلى طلبة العلم بخاصة- أن يحذروا من مزالق الكلام؛ لأن كثيرين يتكلمون بكلام لا يلقون له بالا، ربما استهزءوا، أو ربما تكلموا بكلام فيه شيء من الهزل، وفيه شيء من الضحك، وكان في أثناء هذا الكلام ذكر الله ، أو فيه قراءة القرآن، أو فيه ذكر بعض العلم، وهذا مما لا يجوز.
وقد يدخل أحدهم في قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا)(1) نسأل الله -جل وعلا- السلامة والعافية.
__________
(1) الترمذي (2314)(52/8)
فالواجب على العبد أن يعظم الله ، وألا يتلفظ إلا بكلام عَقَلَه قبل أن يقوله؛ لأن اللسان هو مورد الهلكة، قال معاذ للنبي -عليه الصلاة والسلام-: (أومؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم - أو قال: على وجوههم - إلا حصائد ألسنتهم؟).
فالله الله في اللسان، في أنه أعظم الجوارح خطرا، ومما يتساهل فيه أكثر الناس، فاحذر الخوض فيما لا يعنيك، وبخاصة فيما يتعلق بالدين، أو بالعلم، أو بأولياء الله ، أو بالعلماء، أو بصحابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو بالتابعين؛ فإن هذا مورده خطير، والله المستعان، فقد عظمت الفتنة، والناجي من سلمه الله -جل وعلا-.
(ق): قوله: { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } .
{ نعف } : ضمير الجمع للتعظيم، أي: الله -- عز وجل --.
قوله: { عن طائفة منكم } قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهية لهذا الشيء، لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم إلى الإيمان وتابوا.
قوله: { نعذب طائفة } . هذا جواب الشرط، أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلا بد أن نعذب الآخرين.
قوله: { بأنهم كانوا مجرمين } . الباء للسببية، أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم - والعياذ بالله -، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفي عنهم.(52/9)
(ف): وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية ابن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له: مخشي بن حمير، يشيرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الجبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا نلتفت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم كذا وكذا وكذا، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذورن إليه. فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله واقف على راحلته - فجعل يقول وهو آخذ بحقها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى: " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " في هذه الآية: مخشي بن حمير فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر.
وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود، وتجل منها القلوب. اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره.
(ق): ويستفاد من الآيتين:
بيان علم الله - - عز وجل - - بما سيكون، لقوله: { ولئن سألتهم ليقولن } ، وهذا مستقبل، فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى: { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } (هود: 123).(52/10)
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكم بما أنزل الله عليه حيث أمره أن يقول: { أبا لله وآياته... } .
أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ.
أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا، لقوله: { أبا لله وآياته... } ، وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الذين ليسوا محلاً للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.
أن المستهزئ بالله يكفر، لقوله: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل إن من جاء يعتذر يرحم، لكنه ليس أهلا للرحمة.
قبول توبة المستهزئ بالله، لقوله: { إن نعف عن طائفة... } ، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عُفي عنه وهُدي للإسلام وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته، لأن كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد.
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ } (النساء: 140). وهم يستطيعون المفارقة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى أن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (التوبة: 65، 66)، ولا يزيد عن هذا أبدا مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(52/11)
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض -: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القرّاء - فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكب رجليه - وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب - فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ما يلتفت إليه وما يزيده عليه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن ابن عمر). وهو عبد الله .
(ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة). والثلاثة تابعيون، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة.
قوله: (دخل حديث بعضهم في بعض). أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلونه في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون - مثلا - دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بكذا وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك.
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (10/172) من حديث زيد بن أسلم وابن عمر، و(10/173) عن قتادة ومحمد بن كعب.(52/12)
قوله: (في غزوة تبوك). تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حيث طابت الثمار، وكان مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أُبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل له: إنه لا يدري أي الجيشين أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قوما من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم - صلى الله عليه وسلم - إظهارا للقوة وإيمانا بنصر الله - - عز وجل - -.
قوله: (ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله: (مثل قرائنا) المفعول الأول، والمراد بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
قوله: (أرغب بطونا). المفعول الثاني، أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله: (ولا أكذب ألسنا). الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } (إبراهيم: 49) أي: بلغتهم.(52/13)
قوله: (و لا أجبن عند اللقاء). الجبن: هو خور في النفس يمنع المرء من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ منه(1) لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا ولا سيما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: { للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } (الحشر: 8) والمنافقون أكذب الناس، كما قال الله فيهم: { والله يشهد إنهم لكاذبون } (الحشر: 11)، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب من علامات النفاق(2)، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: { يحسبون كل صيحة عليهم... } (المنافقون: 4) فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته، لقالوا: عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.
قوله: (كذبت). أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز.
قوله: (ولكنك منافق). لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب ما يتعوذ من الجبن، حديث (2822)، مسلم: كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعوذه في دبر كل صلاة حديث (3567).
(2) البخاري: كتاب الإيمان / باب علامة المنافق، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان خصال المنافق.(52/14)
فيكون طعنا في الله ، لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه.
وطعنا في الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين.
وطعنا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة.
قوله: (فوجد القرآن قد سبقه). أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى: { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول } (النساء: 108)
قوله: (وقد ارتحل وركب ناقته). الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال.
قوله: (كأني أنظر إليه). كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به.
قوله (بنسعة). هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: (والحجارة تنكب رجليه). أي: يمشي والحجارة تضرب وكأنه - والله أعلم - يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر.
قوله: (وما يزيده عليه).أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالا لأمر الله - - عز وجل - -، وكفي بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا إنه كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .
الخامسة: أن من الأعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى - وهي العظيمة -: أن من هزل بهذا كافر. أي من الهزل: بالله وآياته ورسوله.(52/15)
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان. أي سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ، فإنه يكفر كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله. النميمة: من نمًّ الحديث، أي: نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة نمام)(1)، وأخبر عن رجل يعذب في قبره، لأنه كان يمشي بالنميمة(2)، وأما النصيحة لله ورسوله، فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله - - عز وجل - - وإقامة حدوده وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل لأجل أن يقام عليه الحد أو ما يجب أن يقام عليه وليس قصده مجرد النميمة.
ومن ذلك لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزأ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك، فليس هذا من النميمة، بل من النصيحة.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله . العفو الذي يحبه الله : هو الذي فيه إصلاح، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } (الشورى: 40) أي: كان عفوه مشتملا على الإصلاح، وقال بعضهم: أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر والصواب أن المراد به اصلح من عفوه، أي: كان في عفوه إصلاح.
فمن كان عفوه إفسادا لا إصلاحا، فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر، لأن الله قال: { عفا وأصلح } ، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم.
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب / باب ما يكره من النميمة، ومسلم: كتاب الإيمان / باب غلظ تحريم النميمة.
(2) البخاري: كتاب الجنائز / باب عذاب القبر من الغيبة، ومسلم: كتاب الطهارة / باب الدليل على نجاسة البول.(52/16)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - غلظ على هذا الرجل لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت إليه، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرق له، ولكل مقام مقال، فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله - - عز وجل - - الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه { أشداء على الكفار رحماء بينهم } (الفتح: 29)
وقال تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } (التحريم: 9) ذكرها الله في سورتين من القرآن مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل. فالأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أنه اعتذار باطل، فإنه لا يقبل.(52/17)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
(سبأ: من الآية23)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد كما ذكرنا سابقاً: أن فيه برهانا على أن المستحق للعبادة هو الله -- جل جلاله -- لأنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال.
(ق): أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله ؛ لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله -- عز وجل --، ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله -سبحانه- الفزع.
(تم): وهذا الباب فيه ذكر لصفات الجلال لله -جل وعلا- إذ كل من في السماوات والأرض خائف منه ووَجِلٌ لأنه سبحانه الجليل، ولذلك كان أعرف عمار السماء به هم الملائكة الذين قال الله في وصفهم { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل: 50) وقال جل وعلا في وصفهم أيضاً { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } (الأنبياء: من الآية28)، فصفات الجلال والكمال والجمال له -سبحانه- وهذه كلها دلائل على أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، لأنه المتصف بالعظمة الكاملة وهو الذي ينبغي أن يُهَاب وأن يُخَاف منه على الحقيقة؟ فكل ما في السماوات والأرض جار على وفق أمره - سبحانه وتعالى -.
فهو - سبحانه وتعالى -: ذو الأسماء الحسنى، وذو الصفات العلا.
(ق): قوله تعالى: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، قال ذلك ولم يقل: (فزعت قلوبهم } ، إذ { عن } تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم؛ أي: أزيل الفزع عن قلوبهم. الفزع: الخوف المفاجئ؛ لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعا. وأصله: النهوض من الخوف.
(ف): أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم.(53/1)
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة قالوا: وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي وقال ابن عطية: في الكلام حذف ما يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبداً، يعني منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قوله: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة. قال: وبهذا المعنى - من ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
(ق): وقوله تعالى: { عن قلوبهم } ؛ أي: قلوب الملائكة؛ لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): قوله: " قالوا ماذا قال ربكم؟ " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق؟
انتهى من شرح سنن ابن ماجة.
(ق): قوله تعالى: { قالوا ماذا قال ربكم } جواب الشرط، والمعنى: قال بعضهم لبعض: وإنما قلنا ذلك لأن الكلام قائلا ومقولا له، فلو جعلنا الضمير في
قالوا عائدا على الجميع؛ فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟
وإعراب ماذا على أوجه:
1.ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر؛ أي: ما الذي.
2.ماذا: اسم استفهام مركب من ما وذا.
3.ما اسم استفهام، وذا زائدة، قال ابن مالك:
ومثل ماذا بعدما استفهام…… أو من إذا لم تلغ في الكلام
وقوله: { قالوا الحق } ، أي: قال المسؤولون.(53/2)
والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير قال القول الحق.
والمعنى: أن الله - سبحانه - قال القول الحق لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق.
والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ كما قال الله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } (الأنعام: من الآية115).
ولا يفهم من قوله: { قالوا الحق } أنه قد يكون قوله باطلا، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بيانا للواقع ومعروفا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق؛ فلماذا الاستفهام؟!
أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق.
قوله تعالى: { وهو العلي الكبير } ، أي: العلي في ذاته وصفاته، والكبير: ذو الكبرياء، وهي العظمة التي لا يداينها شيء، أي العظيم الذي لا أعظم منه.
مناسبة الآية للتوحيد: أنه إذا كان منفردا في العظمة والكبرياء؛ فيجب أن يكون منفردا في العبادة.
والعلو قسمان:
الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.
الثاني: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم؛ فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات.
وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم؛ لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.
(ف): كما قال عبدالله بن المبارك - لما قيل له: بما نعرف ربنا؟ قال بأنه على عرشه بائن من خلقه تمسكاً منه بالقرآن لقوله تعالى: '20: 5 ' " الرحمن على العرش استوى " ' 25: 59 ' " ثم استوى على العرش الرحمن " في سبعة مواضع من القرآن ' 7: 53 و14: 2 و32: 4 و57: 4 '.
(ق): وفي الآية فوائد:
1.أن الملائكة يخافون الله ؛ كما قال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } (النحل: من الآية50).
2.إثبات القلوب للملائكة؛ لقوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } .(53/3)
3.إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحا مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى: { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ } (فاطر: من الآية1)، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل له ست مئة جناح قد سد الأفق(1)؛ فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل.
لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى: { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } (الأنبياء: 20)؛ ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك، ولهذا جاء: { يسبحون الليل } ، ولم يقل يسبحون في الليل؛ أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
4.أن لهم عقولا؛ إذ إن القلوب هي محل العقول خلافا لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله ، ويطوفون بالبيت المعمور.
5.إثبات القول لله - - سبحانه وتعالى - -، وأنه متعلق بمشيئته؛ لأنه جاء بالشرط: { إذا فزع } ، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافا للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيئة، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه؛ فهو قائم بالله أزلي أبدي؛ كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر.
ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله ، ولهذا يقولون: أن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل به جبريل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه.
وهذا في الحقيقة قول الجهمية؛ كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجمهية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله ، وهم قالوا: هو كلام الله .
__________
(1) أخرجه البخاري: في كتاب بدء الخلق /باب ذكر الملائكة، حديث (3232)، ومسلم في كتاب الإيمان باب في ذكر سدرة المنتهى، حديث (174).(53/4)
6. إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (الأحزاب: من الآية4)، وقال: { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } (صّ: 84)؛ فالله تعالى لا يقول إلا حقاً؛ لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: في الصحيح أي صحيح البخاري.
(ق): قوله: (قضي الله الأمر في السماء)، المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول؛ لقوله تعالى: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (آل عمران: 47).
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير /باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم).(53/5)
(ف): أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراد، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصة كجر السلسلة على الصفوان "(1).
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أوحى الجبار إلى a - صلى الله عليه وسلم - دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي. فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله . فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقاً(2).
(ق): قوله: (خضعاناً)، أي: خضوعا؛ لقوله: (كأنه)؛ أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم.
قوله: (صفوان) هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم.
وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا؛ لأن الله { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: 11)، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.
قوله: (ينفذهم ذلك)، النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه: نفذ السهم
في الرمية؛ أي دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ.
(ف): وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا وعند أبي داود وغيره مرفوعاً "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث.
(ق): قوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، أي: أزيل عنها الفزع.
قوله: { قالوا } ، أي: قال بعضهم لبعض.
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بنحوه في كتاب التوحيد (31/452، 453). ووصله أبو داود (4738) في السنة :باب في القرآن وابن خزيمة في التوحيد ص(145)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص(201) وغيرهم بإسناد صحيح وقد اختلف فيه على وقفه ورفعه كما في الفتح (13/456).
(2) البخاري، كتاب بدء الخلق :حديث(2210)، باب ذكر الملائكة.(53/6)
قوله: { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ، أي: قالوا: قال الحق؛ أي: قال القول الحق؛ فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، وأنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟
يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق؛ فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به.
ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله - سبحانه - لا يقول إلا الحق؛ فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته - سبحانه وتعالى -.
وهذا الحديث مطابق للآية تماما، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل لأي قائل أن يفسرها بغيره؛ لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن
أو السنة؛ فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.
وأما تفسير الصحابي؛ فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين؛ فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء؛ كمجاهد؛ فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين؛ فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن.
فلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة، بل نقول: الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبيا وجاء به النص؛ فالواجب علينا قبوله، ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: إنه ليس عائدا على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع؛ كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقا، بخلاف الفروع.
لكن شيخ الإسلام ابن تيميه أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع، مع أنها من أجل الأصول.(53/7)
والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه؛ فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيها.
أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال؛ فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصا صريحا، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة؛ كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: (للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي؛ فللأخت)؛ وذكر له قسمة أبي موسى: (للابنة النصف، وللأخت النصف)، وقوله: (ائت ابن مسعود؛ فسيتابعني)؛ فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال: (قد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين)(1).
قوله: (فيسمعها مسترق السمع)، أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة.
(ف): أي يسمع الكلمة التي قضاها الله ، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً. وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعاً: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضى في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان".
قوله: ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
(ق): وتأمل كلمة (مسترق)؛ ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاسا بسرعة، ويؤيده قوله: { إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } (الصافات: 10).
قوله: (ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض)، يحتمل أن يكون هذا من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان.
قوله: (وصفه سفيان بكفه)، أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحدا فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } (الجن: 9).
__________
(1) البخاري: كتاب الفرائض /باب ميراث ابنة الابن مع البنت، حديث (6736).(53/8)
(ف): وسفيان هو ابن عيينة أبو a الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه، إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة.
قوله: فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
قوله: وبدد أي فرق بين أصابعه.
(ق): قوله: (فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته)، أي: سمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته؛ أي: يخبره بها، و(من): اسم موصول، وقوله: (تحته) شبه جملة صلة الموصول لأنه ظرف.
قوله: (ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها)، أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن.
والسحر: عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقد التبس على بعض طلبة العلم؛ فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى؛ فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد.
وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدا؛
فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه محرم؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادا إلى فراسة؛ فإنه ليس من الكهانة في شيء؛ لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادا على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.
فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه؛ فإننا لا نصدقه؛ لأن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } (الحجرات: من الآية6).(53/9)
وإن كان موثوقا في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره؛ فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودا فيه؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم؛ إما محبة لله - - عز وجل - -، أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة.
والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع.
ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا؛ لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً } (الأنبياء: من الآية32)؛ فلا يمكن نفوذه إلى ما فوقه.
قوله: (فربما أدركه الشهاب …...إلخ)، الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به.
قال العلماء في التفسير قوله تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } (الملك:5) أي: جعلنا شهابها الذي ينطلق منها؛ فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل.
فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم.
وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعا فيها. أما النجم، فلو وصل إلى الأرض؛ لأحرقها.
(ف): قوله: فيكذب معها مائة كذبة أي الكاهن أو الساحر.
وكذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة.
قوله: فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ هكذا في نسخة بخط المصنف، وكالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف: وفيه قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟.
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيئ من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيراً ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: ' 2: 42 ' "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ".(53/10)
(ق): واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الأبد، أو انقطعوا في وقته فقط؟
والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا.
قوله: (فيكذب معها مئة كذبة)، هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟
الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص؛ فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟
والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقا، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان؛ قالوا: إذن لابد أن يصدق.
فوائد الحديث:
1.إثبات القول لله - - عز وجل - -.
2.عظمة الله - - سبحانه وتعالى - -.
3.إثبات الأجنحة للملائكة.
4.خوف الملائكة من الله - - عز وجل - - وخضوعهم له.
5.أن الملائكة يتكلمون ويعقلون.
6.أنه لا يصدر عن الله إلا الحق.
7.أن الله - سبحانه - يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله - - عز وجل - - حكيم.
وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالا لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحانا وابتلاء.
8.كثرة الجن؛ لأنهم يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدا، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانا. وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيميه في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات؛ فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها البيوت، ويقول: أنا أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة؛ فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام يقول: إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية؛ لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه.(53/11)
9.أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك.
10.أن الساحر يصور للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء؛ فيجب الحذر منهم بكل حال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم الوحي أخذت السماوات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة خوفاً من الله - عز وجل -. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل -)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): النواس بن سمعان، بكسر السين، بن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري صحابي. ويقال: إن أباه صحابي أيضاً.
__________
(1) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1/336) حديث (591) وابن أبي عاصم في السنة (1/277) حديث (515) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/236) حديث (216) وذكره الهيثمي في المجمع (7/95) وقال: رواه الطبراني عن شيخه يحيى بن صالح وقد وثق وتكلم فيه بغير قادح معين وبقية رجاله ثقات وأخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن /باب: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) حديث (4800) وأبو داود (3989) والترمذي (3223) وابن ماجة (194) من حديث أبى هريرة بنحوه.(53/12)
(ق): هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة؛ وهي في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة؛ فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم (1) وأحمد من حديث ابن عباس حديثا قد يكون شاهدا له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا، ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين.
وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود؛ لكن يدل على أن له أصلا.
قوله: (إذا أراد أن يوحي بالأمر)، أي: بالشأن.
قوله: (تكلم بالوحي)، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط؛ فالإرادة سابقة، والكلام لاحق؛ فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي؛ كالسمع والبصر؛ ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه لا يتكلم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه.
قوله: (أخذت السماوات منه رجفة)، السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به؛ فيكون منصوبا بالكسرة، ورجفة: فاعل.
(ف): أي أصاب السموات من كلامه تعالى رجفة، أي ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة. قال إذا قضى الله أمراً تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجداً.
قوله: أو قال رعدة شديدة شك من الراوي. هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - رجفة، أو قال رعدة. والراء مفتوحة فيهما.
__________
(1) أخرجه مسام في كتاب السلام /باب تحريم الكهانة وإثبات الكهان حديث (2229).(53/13)
قوله: خوفاً من الله - عز وجل - وهذا ظاهر في أن السموات تخاف الله ، بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها. وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: ' 17: 44 ' " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقال تعالى: ' 19: 90 ' " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً " وقال تعالى: ' 2: 74 ' " وإن منها لما يهبط من خشية الله " وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة، مستدلاً بهذه الآيات وما في معناها.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح..." الحديث وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل اتخاذ المنبر. ومثل هذا كثير.
قوله: صعقوا وخروا لله سجداً الصعوق هو الغشي، ومعه السجود.
(ق): فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدا؟
فالجواب: أن الصعق هنا - والله أعلم - يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا.
قوله: (فيكون أول من يرفع رأسه جبريل)، أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرا.
(ف): ويجوز العكس. ومعنى جبريل: عبد الله ، كما روى ابن جرير وغيره عن على ابن الحسين قال: كان اسم جبريل: عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، وإسرافيل عبد الرحمن. وكل شيئ رجع إلى أيل فهو معبد لله - عز وجل -. وفيه فضيلة جبريل - عليه السلام -. كما قال تعالى: ' 81: 19 - 21 ' " إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين ".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم. وقال أبو صالح في الآية جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن.(53/14)
ولأحمد بإسناد صحيح(1) عن ابن مسعود قال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم فإذا كان هذا عظم هذه - المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر. فكيف يسوى به غيره في العبادة: دعاء وخوفاً ورجاء وتوكلاً وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى، وقد قال الله تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 29].
(ق): قوله: (بما أراد)، أي: بما شاء؛ لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة.
قوله: (ثم يمر جبريل على الملائكة)، لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي.
قوله: (قال الحق وهو العلي الكبير)، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق؛ لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأيا كان؛ فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحي الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهما، ولهذا سمي - عليه السلام - بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر.
قوله: (وهو العلي الكبير)، تقدم الكلام عليه.
قوله: (فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل)، أي: قال الحق، وهو العلي الكبير.
__________
(1) صحيح: أحمد (1/395، 398، 407، 412، 460) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3458)وأول الحديث حتى قوله "ستمائة جناح" عند البخاري، كتاب بدء الخلق : ،حديث(3232) باب إذا قال أحدكم آمين ...،ومسلم ، كتاب الايمان : ،حديث(174، 280)، باب في ذكر سدرة المنتهى.(53/15)
قوله: (فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - - عز وجل - -)، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل.
من فوائد الحديث:
1.إثبات الإرادة لقوله: (إذا أراد الله ) وهي قسمان: شرعية وكونية.والفرق بينهما:
أولا: من حيث المتعلق؛ فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - - عز وجل --، سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية؛ فتتعلق بما يقع، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
ثانيا: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد؛ فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية؛ فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم } (النساء: من الآية27) هذه إرادة شرعية؛ لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة. وقوله { إن كان الله يريد أن يغويكم } (هود: 34) هذه كونية؛ لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً؛ فقد يريده.
وقوله: { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } (النساء: من الآية26) هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية؛ لأنه قال: { ويتوب عليكم } (النساء: 26).
وقوله تعالى: { يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر } (البقرة: من الآية185) هذه شرعية؛ لأن قوله: { ولا يريد بكم العسر } لا يمكن أن تكون كونية؛ إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدراً وكوناً؛ لم يقع.
2.أن المخلوقات وإن كانت جماداً تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (الإسراء: من الآية44).(53/16)
3.إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: (ماذا قال ربكم)؟ ويجابون: قال(الحق)، خلافاً لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.
4.إثبات تعدد السماوات؛ لقوله (كلما مر بسماء).
5.أن لكل سماء ملائكة متخصصين؛ لقوله: (سأله ملائكتها).
6.فضيلة جبريل - عليه السلام - حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: (هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى) (1)، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.
7.أمانة جبريل - عليه السلام -، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله - - عز وجل - -؛ فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى a - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: خان الأمين فصدها عن حيدرة، وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب؛ لأنه كان يقول في غزوة خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة (2).وفي هذا تناقض منهم؛ لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.
8.إثبات العزة والجلال لله - - عز وجل - -؛ لقوله: (- عز وجل -)، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:
أ-عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء.
ب-عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد.
ج- عزيز: بمعنى غالب قاهر.
قال ابن القيم في النونية:
وهو العزيز فلن يرام جنابه…… أني يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب…… لم يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه…… فالعز حينئذ ثلاث معان
وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/باب بدء الوحي، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان / باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير/باب غزوة ذي قرد حديث (1807).(53/17)
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل هو الذي يجيبهم بعد ذلك بقوله: (قال كذا وكذا).
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أن يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله .
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله .
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!.
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي كانا خوفاً من الله - عز وجل -.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيها مسائل:
الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى: { حتى إذا فزع عن قلوبهم… } الآية، وقد سبق تفسيرها.
الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله ؛ فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير؛ فكيف يتعلق الإنسان بها؟ لِلَّهِ(53/18)
ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب؛ لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي؛ فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئاً مخلوقاً ربما يصنعه بيده حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر إذا جاع أحدهم أكلها؟!
وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع - وهو أحسنها - يجعلها إلهاً له.
الثالثة: تفسير قوله: { قالوا الحق وهو العلي الكبير } ، وسبق تفسيرها.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك، فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفاً من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا؛ أي: يقول: قال الحق.
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجداً).
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله : (أخذت السماوات منه رجفة)؛ أي: لأجله تعظيماً لله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره، أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به؛ لأنه الأمين على الوحي.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين، أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: { إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } (الحجر: 18).
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل ان يدركه.(53/19)
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان، لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء؛ صار صادقاً.
اعتراض وجوابه:
كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بـ ((قال)) الحق فقط؟
والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها؛ فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق.
وقوله: (مئة كذبة) هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده؛ فهو تخرص؛ فالكلمة التي سمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟! وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه؛ فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مئة كذبة؛ فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء بغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان ولهذا لما نزل قوله تعالى: { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (البقرة: من الآية219)، تركهما كثير من الصحابة اعتباراً بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة؛ فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها..الخ، الكلمة: هي الصدق؛ لأنها هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذباً ما راجت بين الناس.(53/20)
العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة: الأشعرية هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه. والمراد تعطيل أكثر ذلك فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة؛ فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا؛ فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة؛ فهم معطلة اعتباراً بالأكثر؛ لأنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً، وصفاته تعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف؛ فمثلاً: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف.
والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله ، بل هو مخلوق؛ فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله ؛ لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها.
وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.
والرد عليهم بما يلي:
1- أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها؛ فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها؛ فنثبتها بالدليل السمعي.
2- أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع؛ فمثلاً: الإرادة ثابته لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمساً والقمر قمراً والسماء سماء والأرض أرضاً، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه - سبحانه وتعالى - يريد؛ إذ لولا الإرادة؛ لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها.
فنقول لهم: الرحمة لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من الله ؛ فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة.(53/21)
والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس؛ فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا؛ فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله - - عز وجل - -، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً، أي: تعظيماً لله وإتقاء لما يخشونه؛ فتفيد تعظيم الله -- عز وجل -- كالتي قبلها.
- - - - -(53/22)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ }
(الأعراف: 190)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): مناسبة هذا الباب للأبواب قبله: أن جميع الأبواب في معنى واحد، وهو أن شكر النعمة لله -جل وعلا- فيما أنعم به يقتضي أن تنسب إليه -جل وعلا-، وأن يُحمد عليها، ويثنى عليه بها، وأن تستعمل في مراضيه -جل وعلا-، وأن يتحدث بها، فالذي ينسب النعم إلى نفسه لم يحقق التوحيد، فإنه جمع بين ترك تعظيم الله -جل وعلا- وبين ادعاء شيء ليس له، وقد يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه كقول القائل: لولا فلان لم يكن كذا، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة: من الآية22) وفي قوله: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } (النحل: 83) فهذه الألفاظ وأمثالها راجعة إلى عدم شكر النعمة.
ومن شكر النعم أن الله -جل وعلا- إذا أنعم على عبد بولد، وجعله سليما معافى، ورزقه بتلك النعمة التي هي نعمة الولد، أن يشكر الله عليها، ومن عدم شكر النعمة تلك ونسبتها إلى غير الله أن يُعَبِّد الولد لغير الله -جل وعلا-، فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم بذلك الولد هو الله -- جل جلاله --، وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر إذا عَبَّد الولد لولي أو لعبد صالح، وهو يعني حقيقة العبودية، التي هي أن هذا عبد لذاك؛ لأن ذاك إله، كمن يُعبِّد لبعض المشايخ، فيقول: عبد السيد، ويعنون به السيد البدوي، ويقولون: عبد زينب، وعبد علي، وعبد عمرو، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات.(54/1)
فمن عَبَّد ولداً لغير الله -جل وعلا- فقد نافى شكر النعمة، ولهذا أتبع الشيخ - رحمه الله - هذا الباب الأبواب قبله؛ لما يشترك معها في هذا المعنى، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد، وأن لا ينسب النعم لغير الله -جل وعلا-، فإن وقع منه ذلك فواجب عليه أن يبادر بالتوبة، وألا يقيم على ذلك.
(ق): قوله: { فلما آتاهما } . الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة... } .
قوله: { خلقكم من نفس واحدة } فيها قولان:
الأول: أن المراد بالنفس الواحدة: العين الواحدة، أي: من شخص معين، وهو آدم - عليه السلام -، وقوله: { وجعل منها زوجها } ، أي حواء، و { من } تبعيضية، لأن حواء خلقت من ضلع آدم.
الثاني: أن المراد بالنفس الجنس، وجعل من هذا الجنس زوجه، ولم يجعل من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس، كما في قوله تعالى { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } (آل عمران: 164) أي: من جنسهم.
قوله: { ليسكن إليها } سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولهما: لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقتضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيا: سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص لا يوجد له نظير حتى بين الأم وإبنها.
وقوله: { ليسكن إليها } تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.(54/2)
قوله: { فلما تغشاها } . أي: جامعها، وعبارة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى: { أو لامستم النساء } (النساء: 43)، وقال: { اللاتي دخلتم بهن } (النساء: 23) وقال تعالى: { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } (النساء21) كأن الاستحياء من ذكره بصريح أسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشيء باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لماعز وقد أقرّ عنده بالزنى: (أنكتها لا يكني)(1)، لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليا، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وتشبيه علو الرجل المرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى: { والليل إذا يغشى } (الليل: 1) وعبر بقوله { تغشاها } ولم يقل: غشيها، لأن تغشى أبلغ، وفيه شيء من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها)(2)، والجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، (وجهدها) هذا تغشي.
قوله: { حملت حملا خفيفاً } . الحمل في أوله خفيف: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
قوله: { فمرت به } . المرور بالشيء تجاوزه من غير تعب ولا إعياء، والمعنى: تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.
قوله: { فلما أثقلت } . الأثقال في آخر الحمل.
قوله: { دعوا } ولم يقل: دعيا، لأن الفعل واوي، فعاد إلى أصله.
قوله { الله ربهما } أتي بالألوهية والربوبية، لأن الدعاء يتعلق به جانبان:
الأول: جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع، والدعاء عبادة.
الثاني: جانب الربوبية؛ لأن في الدعاء تحصيلا للمطلوب، وهذا يكون متعلقا بالله من حيث الربوبية.
__________
(1) البخاري: كتاب الحدود/ باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت، حديث (6824) وأبو داود حديث (4427).
(2) البخاري: كتاب الغسل/ باب إذا التقى الختانان، حديث (291)، ومسلم: كتاب الحيض/ باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، حديث (348).(54/3)
والظاهر أنهما قالا: اللهم ربنا، ويحتمل ان يكون بصيغة أخري.
قوله { لئن آتيتنا صالحا } . أي أعطيتنا.
وقوله: { صالحا } ؛ هل المراد صلاح البدن أو المراد صلاح الدين، أي: لئن آتيتنا بشرا سويا ليس فيه عاهة ولا نقص، أو صالحا بالدين، فيكون تقيا قائما بالواجبات؟.
الجواب يشمل الأمرين جميعا، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الأول، وهو الصلاح البدني، لكن لا مانع من ان يكون شاملا للأمرين جميعا.
قوله: { لنكونن من الشاكرين } ، أي: من القائمين بشكرك على الولد هذا الصالح.
والجملة هنا جواب قسم وشرط قسم متقدم وشرط متأخر، والجواب فيه للقسم ولهذا جاء مقرونا باللام: لنكونن.
قوله: { فلما آتاهما صالحا } هنا حصل المطلوب، لكن النتيجة بالعكس فلم يحصل الشكر الذي وعد الله به، بل جعلا له شركاء فيما آتاهما.
وقوله: { جعلا له شركاء فيما آتاهما } هذا هو جواب { لما } .
والذين يرجحون أن المراد بالصلاح صلاح البدن أنه قال: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } [الأعراف: 190].
والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير، ومثل هذا لا يعرف أيصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح الصلاح البدني.(54/4)
فمعاهدة الإنسان ربه أن يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها؛ ففي سورة التوبة قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } (التوبة: 75-76) وفي هذه الآية قال الله تعالى: { لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين - فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء } فكانا من المشركين لا من الشاكرين، وبهذا نعرف الحكمة من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر، لأن النذر معاهدة مع الله عز وجل ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر وقال: (أنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل)(1) وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم النذر، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه أنه يميل إلى تحريم النذر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عنه ونفى أنه يأتي بخير.
إذا ما الذي نستفيد من أمر نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: انه لا يأتي بخير.
الجواب: لا نستفيد إلا المشقة على أنفسنا وإلزام أنفسنا بما نحن منه في عافية، ولهذا، فالقول بتحريم النذر قول قوي جدا، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها ورأي أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصا مما نذروا.
فإن قيل: هذا الولد الذي آتاهما الله - - عز وجل - - كان واحدا؛ فكيف جعلا في هذا الولد الواحد شركا بل شركاء؟
فالجواب أن نقول هذا على ثلاثة أوجه:
__________
(1) البخاري كتاب القدر / باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، حديث (6608). وأيضا في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر وقوله: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } (الإنسان: من الآية7) ومسلم كتاب النذر / باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً، حديث (1639).(54/5)
الوجه الأول: أن يعتقد أن هذا الذي أتى بهذا الولد هو الولي الفلاني والصالح الفلاني ونحو ذلك؛ فهذا شرك أكبر، لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله .
ومن هذا أيضا ما يوجد عند بعض الأمم الإسلامية الآن، فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني، كما يزعمون أنه ولي الله - والله اعلم بولايته -، فتقول: يا سيدي فلان أرزقني ولداً.
الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم والى القوابل وما أشبه ذلك فيقولون مثلا: سلم هذا الولد من الطلق؛ لأن القابلة امرأة متقنة جيدة، فهنا أضاف النعمة إلى غير الله ، وهذا نوع من الشرك ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله - - عز وجل - -
الوجه الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالما بفضل الله ورحمته، ولكن يشرك من ناحية العبودية، فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (التغابن: 15) فكيف تجعل هذا الولد ندا لله في المحبة وربما قدمت محبته على محبة الله ، والله هو المتفضل عليك به؟!
وفي قوله { فلما آتاهما } نقد لاذع أن يجعلا في هذا الولد شريكا مع الله ، مع أن الله هو المتفضل به، ثم قال: { فَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها.(54/6)
ومن تأويل الآية وحدها دالة على أن قوله: { خلقكم من نفس واحدة } أي: من جنس واحد، وليس فيها تعرض لأدم وحواء بوجه من الوجوه، ويكون السياق فيها جاريا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن، كقوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (آل عمران:164) أي: من جنسهم، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة.
أما على القول الثاني بان المراد بقوله تعالى { من نفس واحدة } أي: آدم، { وجعل منها زوجها } (الأعراف: 189) حواء، فيكون معني الآية خلقكم من آدم وحواء.
فلما جامع آدم حواء حملت حملا خفيفا، فمرت به، فلما أثقلت دعواـ أي: آدم وحواءـ الله بهما { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءََ } فأشرك آدم وحواء بالله، لكن قالوا: أنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة { فتعالى الله عما يشركون } ، وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وسنبين إن شاء الله تعالى وجه ضعفه وبطلانه.(54/7)
وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى { من نفس واحدة } أي: آدم وحواء { فلما تغشاها } انتقل من العين إلى النوع أي: من آدم إلى النوع الذي هم بنوه، أي: فلما تغشي الإنسان الذي تسلل من آدم وحواء زوجته... إلخ، ولهذا قال تعالى: { فتعالى الله عما يشركون } بالجمع ولم يقل عما يشركان، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } (الملك: 5) أي جعلنا الشهب الخارجة منها رجوما للشياطين وليست المصابيح نفسها، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } (المؤمنون: 12-13) أي جعلناه بالنوع، وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء، ثم صار الكلام من العين إلى النوع.
وهذا التفسير له وجه، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر.
وأما قوله تعالى { فتعالى الله عما يشركون } ، فجمع لأن المراد بالمثنى اثنان من هذا الجنس، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعاً، كما في قوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } (الحجرات: 9) ولم يقل: اقتتلتا، لأن الطائفتين جماعة 0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال بن حزم:
[اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " اتفقوا " أي: أجمعوا والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي ثبتت بها الأحكام، والأدلة هي: الكتاب، والسنة والإجماع، والقياس 0
قوله: " وما أشبه ذلك " 0 مثل: عبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي 0(54/8)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم …)(1) الحديث، فهذا وصف وليس علماً، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها، كقولك: عابد الدينار، فهو وصف، فلا يعارض الإجماع 0
قوله (حاشا عبد المطلب) حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها، وإلا جاز فيه النصب والجر، وبالنسبة لعبد المطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه، فهو مختلف فيه، فقال بعض أهل العلم: لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)(2)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل حراماً، فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ، وهذا تقرير ابن حزم رحمه الله ، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب، فلا يحوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (أنا ابن عبد المطلب)، فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن له جداً اسمه عبد المطلب، ولم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى عبد المطلب، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك، ولا أنه أقر أحداً على تسميته عبد المطلب، والكلام في الحكم لا في الإخبار، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد)(3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - (يا بني عبد مناف) ولا يجوز التسمي بعبد مناف.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب الحراسة في الغزو في سبيل الله ، (2887) والترمذي، حديث (2375) وابن ماجة، حديث (4136).
(2) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب: من قاد دابة غيره في الحرب، حديث (2864)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير /باب في غزوة حنين، حديث (1776).
(3) البخاري: كتاب فرض الخمس / باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام، حديث (3140).(54/9)
وقد قال العلماء: إن حاكي الكفر ليس بكافر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم عن شيء قد وقع وانتهى ومضى، فالصواب أنه لا يجوز أن يتعبد لغير الله مطلقاً لا بعبد المطلب ولا غيره، وعليه، فيكون التعبد لغير الله من الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن - يخوفهما - سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لئن آتيتنا صالحاً } (116) قال: أشفقا ألا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إبليس). على وزن إفعيل، فقيل: من أبلس إذا يئس، لأنه يئس من حرمة الله تعالى
قوله: (لتطيعانني) جملة قسمية، أي: والله لتطيعاني.
قوله: (ايل) هو ذكر الأوعال
قوله (سمياه عبد الحارث) اختار هذا الاسم، لأنه اسمه فأراد أن يعبداه لنفسه
قوله: (فخرج ميتاً) لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة: (ولأفعلن)، ولأنه قال: (ولأخرجنه ميتاً)
قوله: (شركاء في طاعته) أي: أطاعاه فيما أمرهما به، لا في العبادة لكن عبدا الولد لغير الله ، وفرق بين الطاعة والعبادة، فلو أن أحداً أطاع شخصاً في معصية لله لم يجعله شريكاً مع الله في العبادة، لكن أطاعه في معصية الله
قوله (أشفقا أن لا يكون إنساناً) أي: خاف آدم وحواء أن يكون حيواناً أو جنياً أو غير ذلك.(54/10)
قوله (وذكر معناه عن الحسن)(1). لكن الصحيح أن الحسن رحمه الله قال: إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) وقال: (أما نحن، فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته) أ.هـ.
وهذه القصة باطلة من وجوه:
الوجه الأول: أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة: إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة
الوجه الثاني: أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء، لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه، كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله…… وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل…… فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية، وإن كان تابا من الشرك، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ولم يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه وتابا من ذلك
الوجه الثالث: أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء
الوجه الرابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة(2) وهو معصية، ولو وقع منه الشرك، لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (9/148) عن الحسن، وانظر تفسير ابن كثير (2/276).
(2) البخاري: كتاب تفسير القرآن /باب: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } (الإسراء: 3) حديث (4712).(54/11)
الوجه الخامس: أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال: (أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة)، وهذا لا يقوله من يريد الإغواء، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله، فإذا قال: (أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة)، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما، فلا يقبلان منه صرفاً ولا عدلاً
الوجه السادس: أن في قوله في هذه القصة: (لأجعلن له قرني إيل): إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه، فهذا شرك في الربوبية لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، أو لا يصدقا، فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه
الوجه السابع: قوله تعالى: { فتعالى الله عما يشركون } بضمير الجمع، ولو كان آدم وحواء، لقال عما يشركان فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤون منه باتفاق أهل العلم، وعلى هذا، فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذين أشركوا شركاً حقيقياً، فإن منهم مشركاً ومنهم موحداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبّد لغير الله .
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:(54/12)
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله . تؤخذ من الإجماع على ذلك، والإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين، والصحيح أنه ممكن وأنه حجة إذا حصل لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } (النساء: 58)، و { فإن } هذه شرطية لا تدل على وقوع التنازع، بل إن فرض ووقع، فالمردّ إلى الله ورسوله، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة، ولما قيل للإمام أحمد: إن فلاناً يقول: أجمعوا على كذلك، أنكر ذلك وقال: وما يدريه لعلهم اختلفوا، فمن ادعى الإجماع، فهو كاذب، ولعل الإمام أحمد قال ذلك، لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع، فيقولون: هذا إجماع المحققين، وما أشبه ذلك.
وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب، وأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أنا ابن عبد المطلب)(1) أنه من قبيل الإخبار وليس إقراراً ولا إنشاء، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبداً لغير الله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (يابني عبد مناف)(2)، وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار.
الثانية: تفسير الآية. يعني قوله تعالى: { فلما آتاهما صالحاً …. } الآية، وسبق تفسيرها.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري: كتاب الوصايا / باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، حديث (2753)، ومسلم: كتاب الإيمان /باب: في قوله { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } (الشعراء: 214)، حديث (204).(54/13)
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها، وهذا بناء على ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية، والصواب: أن هذا الشرك حق حقيقة، وأنه شرك من إشراك بني آدم من آدم وحواء، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها: { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } ، فهذا الشرك الحقيقي الواقع من بني آدم.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: (صالحاً)، أي: بشراً سوياً، وأتى المؤلف بالبنت دون الولد، لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم، قال تعالى: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم - يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } (النحل: 58-59)، وإلا، فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضاً، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثى، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة
وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة، فالطاعة إذا كانت منسوبة لله فلا فرق بينها وبين العبادة، فإن عبادة الله طاعته.
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله ، فإنها غير العبادة، فنحن نطيع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن لا نعبده، والإنسان قد يطيع ملكاً من ملوك الدنيا وهو يكرهه.
فالشرك بالطاعة: أنني أطعته لا حباً وتعظيماً وذلاً كما أحب الله وأتذلل له وأعظمه، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط، هذا هو الفرق.
وبناء على القصة، فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة.
- - - - -(54/14)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى:
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }
(الأعراف: 180)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب في وجوب تعظيم أسماء الله الحسنى، وأن من تعظيمها ألا يُلحَد فيها، وأن يُدعى الله -جل وعلا- بها.
والأسماء الحسنى هي الأسماء البالغة في الحسن نهايته، فالخلق يتسمون بأسماء لكن قد لا تكون حسنة، أو قد تكون حسنة ولكن ليست بالغة في الحسن نهايته؛ لأن الحسن في الأسماء يكون راجعا إلى أن الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم تكون حقا موجودة فيمن تسمى بها، والإنسان وإن تسمى باسم فيه معنى فقد لا يكون فيه من ذلك المعنى شيء، فيسمى صالحا وقد لا يكون صالحا، ويسمى خالدا وقد لا يكون خالدا، ويسمى محمدا وقد لا يكون كثير خصال الحمد.
وهكذا فإن الإنسان قد يسمى بأسماء، لكن لا تكون في حقه حسنى، والله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته، وهي الأسماء المشتملة على: صفات الكمال، والجلال، والجمال، والقدرة، والعزة، والجبروت، وغير ذلك، وله من كل اسم مشتمل على صفة أعلى وأعظم وأسمى المعاني الذي اشتملت عليه الصفة.
وأهل العلم إذا فسروا الأسماء الحسنى فإنما هو تقريب ليدلوا الناس على أصل المعنى، أما المعنى بكماله فإنه لا يعلمه أحد إلا الله -- جل جلاله --؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- في دعائه: (لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
فالناس حين يفسرون أسماء الله -جل وعلا- فإنهم يفسرون ذلك بما يقرب إلى الأفهام المعنى، أما حقيقة المعنى على كماله فإنهم لا يعونه؛ لأن ذلك من الغيب، وكذلك الكيفية فإنهم لا يعلمونها؛ لأن ذلك من الغيب، فالله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى، والصفات العلى.(55/1)
ومن الأسماء ما لا يكون حسنا إلا بقيد مثل الصانع، والمتكلم، والمريد، والفعال، أو الفاعل، ونحو ذلك. فهذه الأسماء لا تكون كمالا إلا بقيد وهو أن يكون متكلما بما شاء إذا شاء بما تقتضيه الحكمة وتمام العدل فهذا يكون محمودا؛ ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم، وكذلك الصانع قد يصنع خيرا وقد يصنع غير ذلك، والله -جل وعلا- ليس من أسمائه الحسنى الصانع؛ لاشتماله على هذا وهذا.
فإذا أطلق من جهة الخبر فيعني به ما يقيد بالمعنى الذي فيه كمال، وكذلك فاعل أو فعال، فإن الفعال قد يفعل أشياء لا توافق الحكمة، وقد يفعل أشياء لا يريدها، بل مجبر عليها، والكمال أن يفعل ما يريد، ولا يكون مجبرا؛ لكمال عزته وقهره، ولهذا قال الله -جل وعلا- عن نفسه: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } (البروج: 16)؛ لأن تقييد كونه فعالا بما يريد يدل على الكمال، في أشياء كثيرة وهي معروفة في مباحث الأسماء والصفات.
وأسماء الله الحسنى تنقسم باعتبارات من جهة المعنى، قال طائفة من أهل العلم: إن منها أسماء الجمال، وأسماء الجمال لله -- جل جلاله -- هي الأسماء المشتملة على حسن في الذات، أو حسن في المعنى، وبرٍّ بالعباد والمخلوقين، فيكون من أسماء الجمال صفات الذات، واسم الله الجميل، ويكون من أسماء الجمال: البر، والرحيم، والودود، والمحسن، وما أشبه ذلك.
ومن أسماء الله ما هو من الجلال، فيقال: هذه أسماء الجلال، وأسماء الجلال لله هي التي فيها ما يدل العباد على جلال الله ، وعظمته، وعزته -جل وعلا-، وجلاله حتى يُجَلَّ من مثل: القهار، والجبار، والقدير، والعزيز، ونحو ذلك، فهذه أسماء الجلال.(55/2)
وهناك أسماء في تقسيمات مختلفة تطلب من كلام ابن القيم -رحمه الله - أو من كلام الشراح، فإن المقصود هو أن العبد المؤمن الموحد ينبغي أن يتعرف إلى الله -جل وعلا- بأسمائه وصفاته، ولا تتم حقيقة التوحيد في قلب العبد حتى يعلم أسماء الله -جل وعلا-، ويعلم صفات الله -جل وعلا-، فإن العلم بها تتم به حقيقة التوحيد.
والعلم بها على مراتب: منها: أن يعلمها إثباتا، يعني: أن يثبت ما أثبت الله لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيؤمن أن هذا الاسم من أسماء الله ، وأن هذه الصفة من صفات الله -جل وعلا-.
والثاني: أن يسأل الله -جل وعلا- بأسمائه وصفاته بما يوافق مطلوبه؛ لأن الأسماء والصفات نتعبد لله -جل وعلا- بها، بأن ندعوه بها كما جاء في هذه الآية، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
والثالث: من الإيمان بالأسماء والصفات أن ينظر إلى آثار أسماء الله وصفاته في الملكوت، فإذا نظر إلى آثار الأسماء والصفات في الملكوت وتأمل ذلك علم أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن الحقيقة أن الحق الثابت اللازم هو الله -جل وعلا-، وأما ما سوى الله فهو باطل وزائل وآيل إلى الهلاك، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } (القصص: من الآية88).
(ق): وتوحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله - - عز وجل - - بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.
لأنك إذا عطلت لم تثبت، وإن مثلت لم توحد، والتوحيد مركب من إثبات ونفي، أي: إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه، فمثلاً إذا قلت: زيد قائم، لم توحده بالقيام، وإذا قلت: زيد غير قائم، لم تثبت له القيام، وإذا قلت: لا قائم إلا زيد، وحدته بالقيام. وإذا قلت: لا إله إلا الله ، وحدته بالألوهية، وإذا أثبت لله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد، فهذا هو توحيد الأسماء والصفات، وإن نفيتها عنه، فهذا تعطيل، وإن مثلت، فهذا إشراك(55/3)
قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى } طريق التوحيد هنا تقديم الخبر لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، ففي الآية توحيد الأسماء لله
وقوله: { الحسنى } مؤنث أحسن، فهي اسم تفضيل، ومعنى الحسنى، أي: البالغة في الحسن أكمله، لأن اسم التفضيل يدل على هذا، والتفضيل هنا مطلق، لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقاً مثل: زيد الأفضل، وقد يكون مقيداً مثل: زيد أفضل من عمرو
وهنا التفضيل مطلق، لأنه قال: { ولله الأسماء الحسنى } ، فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه، ليس فيها نقص لا فرضاً ولا احتمالاً، وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمى به الله ، لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد، مع أن الشيء لا يتضمن مدحاً والمتكلم والمريد يتضمنان مدحاً من وجه وغير مدح من وجه، ولا يسمى الله بذلك، فلا يسمى بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد، لكن يخبر بذلك عنه.
وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى:
الأول: هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف؟
الثاني: هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
الثالث: هل أسماء الله هي الله أو غيره؟
الرابع: أسماء الله توقيفية
الخامس: أسماء الله غير محصورة بعدد معين(1)
السادس: أسماء الله إذا كانت متعدية، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحياناً بالأثر، وإن كانت غير متعدية، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة
السابع: إحصاء أسماء الله معناه:
الإحاطة بها لفظاً ومعنى.
دعاء الله بها، لقوله تعالى: { فادعوه بها } ، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء، فتقول: يا ذا الجلال والإكرام ! ياحي يا قيوم ! وما أشبه ذلك.
أن تتعبد لله بمقتضاها، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه، وإذا علمت أنه بصير اجتنبت الفعل الذي لا يرضاه
__________
(1) انظر: باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات، وباب احترام أسماء الله تعالى.(55/4)
قوله تعالى: { فادعوه بها } . الدعاء هو السؤال، والدعاء قد يكون بلسان المقال، مثل: اللهم ! اغفر لي يا غفور وهكذا، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له، ولهذا قال العلماء: إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه
والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها، لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها
وهذا خلافا لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر: إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه
أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات؟!
أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم؟!
وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات، مع أن الله أمرنا بدعائه بها، والأمر للوجوب، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله ، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني، بل لا بد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة
أن دعاء الله بأسمائه له معنيان:
الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء، ويطلق على الدعاء عبادة، قال تعالى: { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي } (غافر: 60)، ولم يقل: عن دعائي، فدل على أن الدعاء عبادة
فمثلاً: الرحيم يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها
والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله - - عز وجل - - بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك
والقريب: يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
والسميع: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى السمع، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك
والبصير: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك(55/5)
الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى
مثلاً: يا حي يا قيوم اغفر لي وارحمني، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، والإنسان إذا دعا وعلل، فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة
قوله تعالى: { وذروا الذين يلحدون } ، { ذروا } : اتركوا، { الذين } : مفعول به، وجملة يلحدون صلة الموصول ثم توعدهم بقوله: { سيجزون ما كانوا يعملون } ، وهو الإلحاد، أي: سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماماً، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله.
والمعنى: ذروهم، أي: لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم: فإنهم على ضلال وعدوان، وليس المعنى عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم، إذ لا يترك الظالم على ظلمه، ويحتمل أن المراد بقوله { ذروا } تهديداً للملحدين.
والإلحاد: مأخوذ من اللحد، وهو الميل، لحد وألحد بمعنى مال، ومنه سمي الحفر بالقبر لحداً، لأنه مائل إلى جهة القبلة.
والإلحاد في أسماء الله : الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع:
الأول: أن ينكر شيئاً من الأسماء أو مما دلت عليه من الصفات أو الأحكام، ووجه كونه إلحاداً أنه مال بها عما يجب لها، إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام.
الثاني: أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه، كقول الفلاسفة في الله : إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل وهذا الكون معلول لها، وليس هناك إله وبعضهم يسميه العقل الفعال، فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال، وكذلك النصارى يسمون الله أباً وهذا إلحاد(55/6)
الثالث: أن يجعلها دالة على التشبيه فيقول: الله سميع بصير قدير، والإنسان سميع بصير قدير، اتفقت هذه الأسماء، فيلزم أن تتفق المسميات، ويكون الله - - سبحانه وتعالى - - مماثلاً للخلق، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات
ووجه الإلحاد: أن أسماءه دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق
الرابع: أن يشتق من هذه الأسماء أسماء للأصنام، كتسمية اللات من الإله أو من الله ، والعزى من العزيز، ومناة من المنان حتى يلقوا عليها شيئاً من الألوهية ليبرروا ما هم عليه.
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه، لوجوه ثلاثة:
أنه هو الذي نفاه الله في القرآن، فقال: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (الشورى: 11).
أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه واشتراك في المعنى من بعض الوجوه.
فمثلاً: الخالق والمخلوق اشتركا في معنى الوجود، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق وفي اصل المعنى، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به.
أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيهاً، فيكون معنى بلا تشبيه، أي: بلا إثبات صفات على اصطلاحهم.
(ف): وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله وقال ابن جريج عن مجاهد: { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قال: اشتقوا اللات من الله . واشتقوا العزى من العزيز.
وقال قتادة: يلحدون: يشركون وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الإلحاد التكذيب.
وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدل عن القصد. والميل والجور والإنحراف. ومنه اللحد في القبر. لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ ... ـراك والتعطيل والنكران(55/7)
وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف تعرف بها تعالى إلى عباده ودلت على كماله جل وعلا
وقال رحمه الله تعالى: فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها. وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات. وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد. فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلاً وشرعاً وعرفاً. وبكل اسم مذموم عقلاً وشرعاً وعرفاً. تعالى عما الله يقولون علواً كبيراً، انتهى.
قلت: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة. متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بجلال الله وعظمته. إثباتاً بلا تمثيل. وتنزيهاً بلا تعطيل. كما قال تعالى: ' 42: 11 ' { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ومثاله. فكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتاً حقيقة لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين. كما قال تعالى: ' 4: 115 ' { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } .
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً:
(فائدة جليلة):
ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام:
أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات وموجود.
الثاني: ما يرجع صفاته ونعوته، كالعليم والقدير، والسميع والبصير.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله. كالخالق والرازق.
الرابع: التنزيه المحض. ولا بد من تضمنه ثبوتاً، إذا لا كمال في العدم المحض، كالقدوس والسلام.(55/8)
الخامس: - ولم يذكره أكثر الناس - وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان، نحو المجيد العظيم الصمد. فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا. فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنه استمجد المرخ والعفار وأمجد الناقة، علفها. ومنه ذو رب العرش المجيد صفة العرش لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه - صلى الله عليه وسلم - لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه. فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته. وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في مسند الترمذي: " ألِظُّوا بياذا الجلال والإكرام "(1) ومنه: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام "(2)
__________
(1) صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات: باب رقم (92) حديث (3524، 3525) وأخرجه أحمد (1/177) والنسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف [3/167] )من حديث أنس - رضي الله عنه - .وصححه الألباني في الصحيحة (1536) لطرقة وشواهده.
(2) صحيح: جزء من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجل يصلي فقال .اللهم ...) أخرجه أحمد (3/170، 1485، 245، 265)، أبو داود: كتاب الصلاة: باب الدعاء ،حديث(1495)، والترمذي: كتاب الدعوات: باب خلق الله مائة رحمة، (3544) والنسائي: كتاب السهو (3/53) باب الدعاء بعد الذكر ، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3858) ،باب اسم الله الأعظم. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي(1/503، 504) وابن حبان (2382)، وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة(5/36، 37).(55/9)
فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان. فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته. وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعاً عند المسؤول. وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد.
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر. وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن. فإن الغني صفة كمال والحمد كذلك، واجتماع الغني مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه أشرف المعارف.
(ق): قوله تعالى: { سيجزون ماكانوا يعملون } لم يقل يجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، وهذا وعيد، وهو كقوله تعالى { سنفرغ لكم أيه الثقلان } (الرحمن 31)، وليس المعنى أن الله - - عز وجل - - مشغول الآن وسيخلفه الفراغ فيما بعد.
قوله: { يعملون } العمل يطلق على القول والفعل، قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (الزلزلة: 7-8)، وهذا يكون في الأفعال والأقوال 0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: { يلحدون في أسمائه } : (يشركون). وعنه (سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز) وعن الأعمش (يدخلون فيها ما ليس منها).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول ابن عباس: (يشركون) تفسير للإلحاد، ويتضمن الإشراك بها في جهتين:
أن يجعلوها دالة على المماثلة.
أو يشتقوا منها أسماء للأصنام، كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف، فمن جعلها دالة على المماثلة، فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلاً، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه، فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله - - عز وجل - -.
وقوله: (وعنه) 0 أي: ابن عباس(55/10)
قوله: (سموا اللات من الإله …..) وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام 0
تنبيه:
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي: (وعزالي)، فما هو المقصود بها؟
الجواب: المقصود أنها من التعزية، أي: أنها تطلب الصبر والتقوية وليست تندب العزى التي هي الصنم، لأنها قد لا تعرف أن هناك صنماً اسمه العزى ولا يخطر ببالها هذا، وبعض الناس قال: يجب إنكارها، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى، وهذا شرك، ولكن نقول: لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار، لكننا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر والثبات على هذه المصيبة.
قوله: (عن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها) هذا أحد أنواع الإلحاد، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، ومن زاد فيها فقد ألحد، لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع
تتمة:
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى كما في قوله تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } (فصلت: 40)، فقوله: { لا يخفون علينا } فيها تهديد، لأن المعنى سنعاقبهم، والجملة مؤكدة بأن
وآيات الله تنقسم إلى قسمين:
آيات كونية: وهي كل المخلوقات من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك، قال الشاعر:
فواعجباً كيف يعصى…… الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية…… تدل على أنه واحد
والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع:
اعتقاد أن أحداً سوى الله منفرد بها أو ببعضها.
اعتقاد أن أحداً مشارك لله فيها.
اعتقاد أن لله فيها معيناً في إيجادها وخلقها وتدبيرها.
والدليل قوله تعالى: { قل ادعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } (سبأ: 22) ظهير، أي معين
وكل ما يخل بتوحيد الربوبية، فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية.(55/11)
آيات شرعية: وهو ما جاء به الرسل من الوحي كالقرآن، قال تعالى: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } (العنكبوت: 49)
والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع:
تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار.
مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام.
التحريف في الأخبار والأحكام.
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام
ومنه ما يكون كفراً، كتكذيبها، فمن كذب شيئاً مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به، فهو كافر.
ومنه ما يكون معصية من الكبائر، كقتل النفس والزنا.
ومنه ما يكون معصية من الصغائر، كالنظر لأجنبية لشهوة.
قال الله تعالى في الحرم: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } (الحج: 25)، فسمى الله المعاصي والظلم إلحاداً، لأنها ميل عما يجب أن يكون عليه الإنسان، إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى، ومن خالف، فقد ألحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء يعني لله تعالى، وتؤخذ من قوله: { ولله الأسماء } ، وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى.
الثانية: كونها حسنى أي: بلغت في الحسن أكمله، لأن { حسنى } مؤنث أحسن، وهي اسم تفضيل.
الثالثة: الأمر بدعائه بها والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلاهما مأمور فيه أن يدعى الله بهذه الأسماء الحسنى وسبق تفصيل ذلك.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين أي ترك سبيلهم، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم، والآية تتضمن أيضاً التهديد.(55/12)
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها وقد سبق بيان أنواعه
السادسة: وعيد من ألحد وتؤخذ من قوله تعالى: { سيجزون ما كانوا يعملون } .(55/13)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يقال: السلام على الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال:
كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [لا تقولوا: السلام على الله ، فإن الله هو السلام](1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله: أن ترك قول (السلام على الله ) هو من تعظيم الأسماء الحسنى، ومن العلم بها، ذلك أن السلام هو الله -- جل جلاله -- والسلام من أسمائه - سبحانه وتعالى -، فهو المتصف بالسلامة الكاملة من كل نقص وعيب، وهو المنزه والمبعد عن كل آفة أو نقص وعيب، فله الكمال المطلق في ذاته، وصفاته الذاتية، وصفاته الفعلية -جل وعلا-.
والسلام في أسماء الله معناه -أيضا- الذي يعطي السلامة ويرزقها، وأثر هذا الاسم في ملكوت الله أن كل سلامة في ملكوت الله من كل شر يؤذي الخلق فإنها من آثار هذا الاسم، فإنه لكون الله -جل وعلا- هو السلام فإنه يفيض السلامة على العباد.
إذا كان كذلك فالله -- جل جلاله -- هو الذي يفيض السلامة، وليس العباد هم الذين يعطون الله السلامة، فإن الله -جل وعلا- هو الغني عن خلقه، بالذات، والعباد فقراء بالذات، قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى الله وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } (فاطر: 15)، فالعبد هو الذي يُعطَى السلامة، والله -جل وعلا- هو الذي يُسلِّم.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب التشهد في الآخرة، حديث (831)، ومسلم: كتاب الصلاة /باب التشهد في الصلاة، حديث (402).(56/1)
ولهذا كان من الأدب الواجب في جناب الربوبية وأسماء الله وصفاته أن لا يقال: السلام على الله ، بل أن يقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على فلان وفلان، السلام عليك يا فلان ونحو ذلك، فتدعوا له بأن يبارَك باسم الله (السلام)، أو أن تحل عليه السلامة.
فظهر بهذا أن وجه مناسبة هذا الباب للذي قبله ظاهرة، وأما مناسبته لكتاب التوحيد فهي أن الأدب مع أسماء الله -جل وعلا- وصفاته ألا يخاطب بهذا الخطاب، وأن لا يقال: السلام على الله ؛ لأن في هذا نقصاً في تحقيق التوحيد، فتحقيق التوحيد الواجب ألا تقال هذه الكلمة؛ لأن الله غني عن عباده؛ والفقراء هم الذين يحتاجون إلى السلام.
(ق): هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي، وهو محتمل للكراهة والتحريم، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك
والسلام له عدة معان:
التحية، كما يقال: سلم على فلان، أي: حياه بالسلام.
السلامة من النقص والآفات، كقولنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
السلام: اسم من أسماء الله تعالى، قال تعالى: { الملك القدوس السلام } (الحشر: 23)(56/2)
(ف): قوله: في الصحيح عن ابن مسعود - إلخ هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " كنا إذا جلسنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من قبل عباده، السلام على فلان وفلان - الحديث "(1) وفي آخره ذكر التشهد الآخير. رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود. وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله: " فإن الله هو السلام ومنه السلام " وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"(2).وفي الحديث: "إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة. كما قال تعالى: ' 36: 58 ' { سلام قولاً من رب رحيم } .
ومعنى قوله: إن الله هو السلام إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل. فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: السلام اسم مصدر. وهو من ألفاظ الدعاء. يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية. وهو معنى السلام المطلوب عند التحية. وفيه قولان مشهوران:
الأول: أن السلام هنا هو الله - عز وجل -. ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم ونحو ذلك. فاختير في هذا المعنى من أسمائه - عز وجل - اسم السلام دون غيره من الأسماء.
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة: باب ما جاء في التشهد .من حديث الأسود بن يزيد عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - (289). وأخرجه النسائي أيضاً (2/237، 238)من هذا الطريق أيضاً.
(2) مسلم ، كتاب المساجد : باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته من حديث ثوبان - رضي الله عنه - ،حديث(591)،(135).(56/3)
الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة. وهو المطلوب المدعو به عند التحية ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكراً، فيقول المسلم: سلام عليكم ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك. ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين. فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما. وإنما يتبين ذلك بقاعدة. وهي: أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل بالاسم المقتضى لذلك المطلوب، المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه. فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور. فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه. وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - وقد سأله ما يدعو به " قل: اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"(1) فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة.
فتضمن لفظ السلام معنين:
أحدهما: ذكر الله .
والثاني: طلب السلامة. وهو مقصود المسلم. فقد تضمن سلام عليكم اسماً من اسماء الله وطلب السلامة منه.
__________
(1) البخاري، كتاب التوحيد : باب (وكان الله سميعاً بصيراً) ،حديث(8387)، ومسلم ، كتاب الذكر والدعاء: باب استحباب خفض الصوت بالذكر من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ،حديث(2705)،(48).(56/4)
فتأمل هذه الفائدة. وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشّر والعيوب. وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذاك قولهم: سلمك الله ، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط (رب سلم سلم)(1) ومنه سلم الشيئ لفلان، أي خلص له وحده. قال تعالى: ' 39: 29 ' { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل } أي خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره. ومنه السلم ضد الحرب: لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بنى فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة. ومنه القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب. وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه وحسن معاملته. وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذاب الله والفوز بكرامته. ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة، لأنه الاستسلام والانقياد لله، والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون. ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه وللمشرك به.
(ق): قوله: (لا يقال السلام على الله ) أي: لا تقل: السلام عليك يا رب، لما يلي:
__________
(1) من حديث المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعار المؤمنين على الصراط:" رب سلم سلم". الترمذي: كتاب صفة القيامة: باب ما جاء في شأن الصراط (2434) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3297) وعند البخاري :كتاب صفة الصلاة: باب فضل السجود من حديث أبي هريرة (806)" وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم"، قال الحافظ في الفتح (11/394) ولا يلزم من كون هذا شعار المؤمن أن ينطق به ، بل تنطق به الرسل ، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فسمى ذلك شعاراً لهم ..."أ.هـ.(56/5)
أن مثل هذا الدعاء يوهم النقص في حقه، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك، إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلاً أن يتصف به، والله - سبحانه - منزه عن صفات النقص.
إذا دعوت الله أن يسلم نفسه، فقد خالفت الحقيقة، لأن الله يدعى ولا يدعى له، فهو غني عنا، لكن يثنى عليه بصفات الكمال مثل غفور، سميع، عليم …..
ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة، لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسمائه حسنى، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } (النحل: 60)
وقوله تعالى: { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } (الروم: 27)
والمثل الأعلى: الوصف الأكمل، فإذا قلنا: السلام على الله أوهم ذلك أن الله - سبحانه - قد يلحقه النقص، وهذا ينافي كمال صفاته.
ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله المتضمنة لصفاته، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص، وهذا يتضمن كمالها، إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها، فإنك لو قلت: زيد فاضل أثبت له الفضل، وجاز أن يلحقه نقص، وإذا قلت: زيد فاضل ولم يسلك شيئاً من طرق السفول، فالآن أثبت له الفض المطلق في هذه الصفة والرب - - سبحانه وتعالى - - يتصف بصفات الكمال، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص.
والسلام إسم ثبوتي سلبي فسلبي: أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه.
وثبوتي: أي يراد به ثبوت هذا الاسم له، والصفة التي تضمنها وهي السلامة.(56/6)
قوله: (في الصحيح) هذا أعم من أن يكون ثابتاً في (الصحيحين)، أو أحدهما، أو غيرهما، وانظر: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، وهذا الحديث المذكور في (الصحيحين)
قوله: (كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة) الغالب أن المعية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة لا تكون إلا في الفرائض، لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة، كالاستسقاء
قوله: (قلنا السلام على الله من عباده) أي: يطلبون السلامة لله من الآفات، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات، أو أن اسم السلام على الله من عباده، لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعنى الدعاء، وله معنيان:
1 - اسم السلام عليك، أي: عليك بركاته باسمه
2 - السلامة من الله عليك، فهو سلام بمعنى تسليم، ككلام بمعنى تكليم.
قوله: (السلام على فلان وفلان) أي: جبريل وميكائيل، وكلمة فلان يكنى بها عن الشخص، وهي مصروفة، لأنها ليست علماً ولا صفة، كصفوان في قوله تعالى: { كمثل صفوان عليه تراب } (البقرة: 264)
وقد جاء في لفظ آخر: (السلام على جبريل وميكال) كانوا يقولون هكذا في السلام فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تقولوا: السلام على الله ، فإن الله هو السلام) وهذا نهي تحريم، والسلام لا يحتاج إلى سلام، هو نفسه - - عز وجل - - سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت: (- عليه السلام -).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:(56/7)
الأولى: تفسير السلام فبالنسبة لكونه اسماً من أسماء الله معناه السالم من كل نقص وعيب، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان:
الأول: تقدير مضاف، أي، اسم السلام عليك، أي: اسم الله الذي هو السلام عليك.
الثاني: أن السلام بمعنى التسليم اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، أي: تخبر خبراً يراد به الدعاء، أي: أسأل الله أن يسلمك تسليماً.
الثانية: أنه تحية وسبق ذلك
الثالثة: أنها لا تصلح لله وإذا كانت لا تصلح له كانت حراماً
الرابعة: العلة في ذلك وهي أن الله هو السلام، وقد سبق بيانها
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله وتؤخذ من تكملة الحديث: (فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله …..)، وفيه حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجهين:
الأول: أنه حينما نهاهم علل النهي.
وفي ذلك فوائد:
طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة.
بيان سمو الشريعة الإسلامية وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة، لأن العلة حكمة.
القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة.
الثاني: أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم، فيؤخذ منه أن المتكلم إذا ذكر ما ينهى عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها.
ويستفاد من الحديث:
أنه لا يجوز الإقرار على المحرم، لقوله: (لا تقولوا: السلام على الله )، وهذا واجب على كل مسلم، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز ويرون أنه جائز، قال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } (آل عمران: 187).
- - - - -(56/8)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): حقيقة التوحيد أن يوحد العبد ربه -جل وعلا- بتمام الذل والخضوع والمحبة، وأن يتضرع إلى الله -جل وعلا-، ويتذلل إليه بإظهار فقره التام إليه، وأن الله -جل وعلا- هو الغني عما سواه.
وقول القائل: ((اللهم اغفر لي إن شئت)) يفهم منه أنه مستغن عن أن يغفر له، كما يأتي العزيز أو المتكبر من الناس فيقول لآخر لا يريد أن يتذلل له: ((افعل هذا إن شئت)) يعني إن فعلت ذلك فحسن، وإن لم تفعل فلستُ بمُلِحٍّ عليك، ولستَ بذي إكرام، فهذا القول مناف لحاجة الذي قالها إلى الآخر.
ولهذا كان فيه عدم تحقيق للتوحيد، ومنافاة لما يجب على العبد في جناب ربوبية الله -جل وعلا- من أن يظهر فاقته وحاجته لربه، وأنه لا غنى به عن مغفرة الله ، وعن غنى الله ، وعن عفوه وكرمه وإفضاله ونعمه طرفة عين.
فقول القائل: ((اللهم اغفر لي إن شئت)) كأنه يقول: لست محتاجا، إن شئت فاغفر، وإن لم تشأ فلست بمحتاج، وهذا فعل أهل التكبر، وأهل الإعراض عن الله -جل وعلا-؛ ولهذا حُرم هذا اللفظ، وهو أن يقول أحد: ((اللهم اغفر لي إن شئت)).
(ق): قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت)
عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله، وذلك من صفات الكمال.
قوله: (اللهم) معناه: يا الله ، لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا النداء وعوض عنها الميم، وجعل العوض في الآخر تيمناً بالابتداء بذكر الله .(57/1)
قوله: (اغفر لي) المغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، لأنها مشتقة من المغفر، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق، ويدل له قول الله - - عز وجل - - للعبد المؤمن حينما يخلو به ويقرره بذنوبه يوم القيامة: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)(1)
قوله: (إن شئت) 0 أي: إن شئت أن تغفر لي فاغفر، وإن شئت فلا تغفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (في الصحيح) سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، والمراد هنا الحديث الصحيح، لأن الحديث في (الصحيحين) كليهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقل أحدكم) لا: ناهية بدليل جزم الفعل بعدها
قوله: (اللهم اغفر لي، اللهم أرحمني) ففي الجملة الأولى: (اغفر لي) النجاة من المكروه، وفي الثانية: (أرحمني) الوصول إلى المطلوب، فيكون هذا الدعاء شاملاً لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه.
قوله: (ليعزم المسألة) اللام لام الأمر، ومعنى عزم المسألة: أن لا يكون في تردد بل يعزم بدون تردد ولا تعليق و(المسألة): السؤال، أي: ليعزم في سؤاله فلا يكون متردداً بقوله: إن شئت.
__________
(1) البخاري: كتاب الظالم والغصب / باب قول الله تعالى { أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ } (هود: من الآية18)، حديث (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، حديث (2768).
(2) البخاري: كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، حديث (6339)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت، حديث (2679).(57/2)
قوله: (فإن الله لا مكره له) تعليل للنهي عن قول: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت)، أي: لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله، لأن الأمر كله لله وحده.
والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول: أنا لا أكرهك، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر.
الثاني: أن قول القائل: (إن شئت) كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله فقد لا يشاؤه لكونه عظيماً عنده، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس - والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة - أعطني مليون ريال إن شئت، فإنك إذا قلت له ذلك، ربما يكون الشيء عظيماً يتثاقله، فقولك: إن شئت، لأجل أن تهون عليه المسألة، فالله - - عز وجل - - لا يحتاج أن تقول له: إن شئت، لأنه - - سبحانه وتعالى - - لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم: (وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليعظم الرغبة)، أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل: هذا كثير لا أسأل الله إياه، ولهذا قال: (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)، أي: لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى يمنعه ويبخل به - - سبحانه وتعالى - - كل شيء يعطيه، فإنه ليس عظيماً عنده، فالله - - عز وجل - - يبعث الخلق بكلمة واحدة، وهذا أمر عظيم، لكنه يسير عليه، قال تعالى: { قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما عملتم وذلك على الله يسير } (التغابن: 7) وليس بعظيم، فكل مايعطيه الله - - عز وجل - - لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه، أي: لا يكون الشيء عظيماً.
عنده حتي لا يعطيه، بل كل شيء عنده هين.
__________
(1) سبق تخريجه.(57/3)
الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله ، كانه يقول: إن شئت فأفعل، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني، ولهذا قال: (وليعظم الرغبة) أي يسأل برغبة عظيمة، والتعليق ينافي ذلك، لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بانه مستغن عنه، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الإفتقار، وأن الله قادر على ان يعطيه ما سأل، وأن الله ليس يعظم عليه شيء، بل هو هين عليه، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة، بل يجزم فيقول: اللهم أغفر لي، اللهم أرحمني، اللهم وفقني، وما اشبه ذلك، وهل يجزم بالإجابة؟
الجواب: إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله ! فهذا يجب أن تجزم بان الله قادر على ذلك، قال الله تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر: من الآية60).
أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع، او عدم توافر الأسباب فإنك قد تتردد في الاجابة، ومع ذلك ينبغي أن تحسن الظن بالله، لأن الله - - عز وجل - - قال: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فالذي وفقك لدعائه أولا سيمن عليك بالاجابة آخراً، لا سيما إذا أتي الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء، كأن يدعو بأثم أو قطيعة رحم.
ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعا وقدرا.
فشرعا كأن يقول: اللهم اجعلني نبيا.
وقدرا ً بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين، وهذا أمر لا يمكن، فالاعتداء بالدعاء مانع من اجابته، وهو محرم لقوله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (الأعراف: 55) وهو اشبه ما يكون بالاستهزاء بالله سبحانه.(57/4)
(ف): وفي الحديث: " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه "(1) يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة. وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه:
ويعظم في عين الصغير صغارها ……ويصغر في عين العظيم العظائم
__________
(1) البخاري، كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى { لما خلقت بيدي } ،حديث(7411)، مسلم ، كتاب الزكاة : باب الحث على النفقة وتبشير المنفق من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ،حديث(993)،(37).(57/5)
وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر، ويعطي كرهاً، والبخل عليه أغلب. وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة في الرحم. فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله ، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين. وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله. فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. قال تعالى: ' 16: 53 ' { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر، أو ليعطيه أكثر. فتبارك الله رب العالمين.
(تم): ولهذا لا يجوز في الدعاء أن يواجه العبد ربه بهذا القول: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت) وهذا واضح ظاهر في الدعاء الذي فيه المخاطبة، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا يتقيد بالدعاء الذي فيه خطاب، أما الدعاء الذي ليس فيه خطاب فيكون التعليق بالمشيئة ليس تعليقا لأجل عدم الحاجة، أو منبئاً عن عدم الحاجة كهذا الدعاء، بل هو للتبرك، كمن يقول: رحمه الله إن شاء الله ، أو غفر الله له إن شاء الله ، أو الله يعطيه من المال كذا وكذا إن شاء الله ، ونحو ذلك، فهذا قالوا: لا يدخل في هذا النوع؛ لأنه ليس على وجه الخطاب، وليس على وجه الاستغناء.(57/6)
ولكن الأدب يقتضي ألا يستعمل هذه العبارة في الدعاء مطلقا؛ لأنها وإن كانت ليست بمواجهة، فإنها داخلة في تعليق الدعاء بالمشيئة، والله -جل وعلا- لا مكره له، فعموم المعنى المستفاد من قوله: (فإن الله لا مكره له) عموم هذا التعليل يشمل هذا وهذا، فلا شك أن قول: ((اللهم اغفر لي إن شئت)) أعظم، ولكن القول الآخر داخل أيضا في علة النهي ومعنى النهي؛ ولهذا لا يسوغ استعماله.
وقول النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن عاده، وقد أصابته الحمى كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، (طهور إن شاء الله . قال: بل هي حمى تفور) إلى آخر كلامه، هذا ليس فيه دعاء، وإنما هو من جهة الخبر. قال: يكون طهورا إن شاء الله ، فهو ليس بدعاء، وإنما هو خبر، فافترق عن أصل المسألة.
وقال طائفة أيضا من أهل العلم من شراح البخاري: وقد يكون قوله: (طهور إن شاء الله ) للبركة، فيكون ذلك من جهة التبرك، كقوله -جل وعلا- مخبرا عن قول يوسف: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ } (يوسف: من الآية99) وهم قد دخلوا مصر، وكقوله -جل وعلا-: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ } (الفتح: من الآية27).
(ق): مناسبة الباب للتوحيد: من وجهين:
من جهة الربوبية، فإن من أتى بما يشعر بأن الله له مكره لم يقم بتمام ربوبيته تعالى، لأن من تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل أنه لا يسأل عما يفعل، كما قال تعالى: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } (الأنبياء: 23). وكذلك فيه نقص من ناحية الربوبية من جهة أخرى، وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها، فكان فيه قدح في جوده وكرمه.
من ناحية العبد، فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في الباب الذي يتعلق بالأسماء والصفات.(57/7)
فإن قلت: ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: (اللهم ! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فأصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به(1).وكذا ما ورد في الحديث المشهور: (اللهم ! أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي(2).
فالجواب: أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت: فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا خير لي أو شر والله يعلم، فأقول إن كنت تعلم إن هذا الأمر خير فاقدره لي، فالتعليق فيه لأمر مجهول عندي لا اعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر، لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أوشر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص: أطال الله بقاءك، لأن طول البقاء لا يعلم، فقد يكون خيرا، وقد يكون شرا، ولكن يقال: أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرا بكل حال، وعلى هذا، فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي)، لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقا بالمشيئة، والنهي إنما هو عما كان معلقا بالمشيئة.
لكن لو قال: اللهم اغفر إن أردت وليس إن شئت، فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعنى المشيئة، فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرا بالحكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
__________
(1) البخاري: كتاب الدعوات / باب الدعاء عند الاستخارة.
(2) البخاري كتاب الدعوات/ باب الدعاء بالموت والحياة، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار/ باب كراهة تمني الموت لضر نزل به.(57/8)
الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة).
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمى استثناء بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لضباعة بنت الزبير (حجي واشترطي، فإن لك على ربك ما استثنيت)(1)، ووجهه أنك إذا قلت: أكرم زيدا إن أكرمك، فهو كقولك: أكرم زيدا إلا ألا يكرمك، فهو بمعنى الاستثناء في الحقيقة.
الثانية: بيان العلة في ذلك. وقد سبق أنها ثلاث علل:
أنها تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك.
أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله قد يثقل عليه ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك.
أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله ، وهذا غير لائق وليس من الأدب.
الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة). تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تتردد.
الرابعة: إعظام الرغبة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وليعظم الرغبة)، أي: ليسأل ما بدا له فلا شيء عزيز أو ممتنع على الله .
الخامسة: التعليل لهذا الأمر. يستفاد من قوله: (فإن الله لا يتعاظمه شيء، أو لا مكره له) وقوله: (وليعظم الرغبة، وفي هذا حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر شيئا قرنه بعلته.
وفي ذكر علة الحكم فوائد:
الأولى: بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شيء تحكم به إلا وله علة وحكمه.
__________
(1) البخاري: كتاب النكاح / باب الأكفاء في اليدين، ومسلم: كتاب الحج / باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " (فإن لك على ربك ما استثنيت) أخرجه النسائي: كتاب المناسك / باب كيف يقول إذا اشترط.(57/9)
الثانية: زيادة طمأنينة الإنسان، لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال: (أينقص إذا جف؟) قالوا: نعم. فنهى عنه(1).
(والرجل الذي قال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود - لم يقل - صلى الله عليه وسلم - الولد لك - بل قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق - الأورق: الأشهب الذي بين البياض والسواد -؟ قال: نعم. قال: من أين؟ قال: لعله نزعة عرق، قال لعل ابنك نزعة عرق(2)، فاطمأن، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع، فقرن الحكم بالعلة يُوجب الطمأنينة ومحبة الشريعة والرغبة فيها.
الثالثة: القياس إذا كانت المسألة في حكم من الأحكام، فليحق بها ما شاركها في العلة.
- - - - -
__________
(1) الإمام أحمد في(المسند) (1/175-176)، وأبو داود: كتاب البيوع / باب في التمر بالتمر، والترمذي: كتاب البيوع / باب اشتراء التمر بالرطب، وابن ماجة: كتاب التجارات / باب بيع الرطب بالتمر، والحاكم في (المستدرك) (2/38) وصححه ووافق الذهبي، وصححه أحمد شاكر في (المسند) (1515).
(2) سبق تخريجه.(57/10)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يقول: عبدي وأمتي
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب مع الأبواب قبله وما بعده كلها في تعظيم ربوبية الله -جل وعلا-، وتعظيم أسماء الله -جل وعلا- وصفاته؛ لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد، وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يعظَّم الله -جل وعلا- في ربوبيته، وفي إلهيته، وفي أسمائه وصفاته.
فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبية الله -جل وعلا-، أو مع أسماء الله -جل وعلا- وصفاته؛ ولهذا عقد المؤلف هذا الباب فقال: باب لا يقول: ((عبدي وأمتي)).
عبودية البشر لله جل وعلا- عبودية حقيقة، وإذا قيل هذا عبد الله فهو عبد لله -جل وعلا- إما قهرا أو اختيارا، فكل من في السماوات والأرض عبد لله -جل وعلا- كما قال -جل وعلا-: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } (مريم: 93-95)، فعبودية الخلق لله -جل وعلا- ظاهرة؛ لأنه هو الرب، وهو المتصرف، وهو خالق الخلق، وهو المدبر لشيئونهم، فالله -جل وعلا- هو المتفرد بذلك سبحانه.
فإذا قال الرجل لرقيقه: هذا عبدي، وهذه أمتي. كان في نسبة عبودية أولئك له، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله -جل وعلا-؛ ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثير من أهل العلم، ومكروه عند طوائف آخرين، وسبب النهي عن لفظ "عبدي، وأمتي" ما ذكرنا من وجوب تعظيم الربوبية، وعدم انتقاص عبودية الخلق لله -جل وعلا -.
(ق): هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك وسيأتي التفصيل فيه.(58/1)
قوله: (في الصحيح). سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في (الصحيحين) فيكون المراد بقوله في الصحيح، أي: في الحديث الصحيح، ولعله أراد (صحيح البخاري)، لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم، فيختلف.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقل). الجملة نهي.
(عبدي)، أي: للغلام.
و(أمتي)، أي: للجارية.
والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول: عبد فلان أو أمة فلان، فهذا جائز، قال تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } (النور: 32) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)(1).
الثاني: أن يضيفه إلى نفسه، وله صورتان:
الأولى: أن يكون بصيغة الخبر، مثل: أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة، فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا، فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك.
الثانية: أن يكون بصيغة النداء فيقول السيد: يا عبدي! هات كذا، فهذا منهي عنه، وقد اختلف العلماء في النهي: هل هو للكراهة أو التحريم؟ والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي)(2).
__________
(1) البخاري: كتاب الزكاة/ باب ليس على المسلم في عبده صدقة، حديث (1464)، ومسلم: كتاب الزكاة / باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، حديث (982).
(2) البخاري: كتاب العتق / باب كراهة التطاول على الرقيق حديث (2552)، ومسلم كتاب: كتاب الألفاظ من الأدب / باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة والمولى حديث (2249).(58/2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك...الخ). أي: لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظما.
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب، مثل: أطعم ربك، وضيء ربك، فيكره ذلك للنهي عنه، لأن فيه محذورين:
من جهة الصيغة، لأنه يوهم معنى فاسدا بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يطعم ولا يُطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الأدب في اللفظ.
من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل، لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد أو الأمة مربوبا.(58/3)
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب، هذا لا بأس به، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها)(1)، وأما لفظ (ربتها)(2)، فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث فلا اشتراك مع الله في اللفظ، لأن الله لا يقال له إلا رب، وفي حديث الضالة - وهو متفق عليه - (حتي يجدها ربها)(3) وقال بعض أهل العلم-: إن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل، فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق، لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة، قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ } [الحج: 18]، وقال في الناس: { وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ } ليس جميعهم: { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } (الحج: 18)، وعلى هذا، فيجوز أن تقول: أطعم الرقيق ربه، ونحوه...
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بان يقول العبد: هذا ربي، فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل: إن هذا جائز، لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف: { إنه ربي أحسن مثواي } (يوسف: 32)، أي: سيدي، ولأن المحذور من قول { ربي } هو إذلال العبد، وهذا منتف، لأنه هو بنفسه يقول: هذا ربي.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان / باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والاسلام والاحسان حديث (50)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان والاسلام والاحسان حديث (9).
(2) البخاري: كتاب تفسير القرآن / باب قوله (إن الله عنده علم الساعة)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان
(3) البخاري كتاب اللقطة / باب ضالة الغنم، حديث (2428)، ومسلم: كتاب اللقطة، حديث (1722)(58/4)
القسم الرابع: أن يضاف الاسم إلى الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.
قوله: (وليقل: سيدي ومولاي). المتوقع أن يقول: وليقل سيدك ومولاك، لأن مقتضى الحال أن يرشد إلى ما يكون بدلا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، وليقل: (سيدي ومولاي)، ففهم المؤلف رحمه الله - كما سيأتي في المسائل- أن فيه إشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهى أن يقول للعبد: أطعم ربك، فالعبد من باب أولى أن ينهي عن قول: أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول: سيدي ومولاي.
وأما إذا قلنا بأن أطعم ربك خاص بمن يخاطب العبد لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه: أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال، فإنه يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما وجه الخطاب لمن يخاطب العبد وجه الخطاب إلى العبد نفسه، فقال: (وليقل: سيدي ومولاي)، أي بدلا عن قوله: أطعمت ربي، وضأت ربي.
وقوله: (سيدي) السيادة في الأصل علو المنزلة، لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان، منها: المالك، والزوج، والشريف المطاع.
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليست على وجه الإطلاق.
فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا لله - - عز وجل - - قال - صلى الله عليه وسلم -(السيد الله )(1)
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند)(4/24، 35)، والبخاري في (الأدب المفرد) (211) وابو داود: كتاب الأدب / باب في كراهة التمادح.قال ابن حجر في الفتح (5/ 179): رجاله ثقات، وقد صححه غير واحد، وصححه أيضاً الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3700).(58/5)
وأما السيد مضافة، فإنها تكون لغير الله ، قال تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب } (سورة يوسف: 25) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)(1)، والفقهاء يقولون: إذا قال السيد لعبده، أي: سيد العبد لعبده.
تنبيه:
اشتهر بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلا: هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق، لأن السادة هم الرجال، قال تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال: { الرجال قوامون على النساء } (الأنعام: 62)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن النساء عوان عندكم)(2). أي: بمنزلة السير، وقال في الرجل: (راع في أهله ومسؤول عن رعيته)(3)، فالصواب أن يقال للواحدة امرأة وللجماعة منهن نساء.
قوله: (ومولاي). أي: وليقل مولاي.
والولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة، وهذه لله - عز وجل - لا تصلح لغيره، كالسيادة المطلقة.
وولاية الله نوعان:
النوع الأول: عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال تعالى: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون } (الأنعام: 62)، فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة.
__________
(1) مسلم: كتاب الفضائل / باب تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق.
(2) الإمام أحمد (5/ 72)، والترمذي: كتاب الرضاع / باب في حق المرأة على زوجها، وابن ماجة: كتاب النكاح / باب حق المراة على زوجها، (1 / 594) وابن ماجة، حديث (1851) وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء (2030).
(3) البخاري: كتاب الجمعة / باب الجمعة في القرى، ومسلم: كتاب الإمارة / باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، وأبو داود حديث (2928)، والترمذي حديث (1705).(58/6)
النوع الثاني: خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } (a: 11)، وهذه ولاية خاصة، ومقتضى السياق أن يقال: وليس مولى الكافرين، لكن قال: { لا مولى لهم } ، أي: لا هو مولى للكافرين ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرؤون منهم.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله ، ولها في اللغة معان كثيرة، منها: الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى: { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } (التحريم: 4)، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عنه: (من كنت مولاه، فعليّ مولاه)(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الولاء لمن اعتق)(2). ويقال للسلطان ولي الأمر، وللعتيق مولى فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكا بقوله: مولاي، لأن المراد
بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (النساء: 59)
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (1/84)، والترمذي: كتاب المناقب/ باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حديث (3713) وابن ماجة حديث (121)، وقد صححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح برقم (6082).
(2) البخاري: كتاب العتق / باب ما يجوز من شرط المكاتب، ومسلم: كتاب العتق / باب إنما الولاء لمن أعتق.(58/7)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي)، هذا خطاب للسيد أن لا يقول: عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته، لأننا جميعا عباد الله ، ونساؤنا إماء لله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )(1).
فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال: عبدي وأمتي، فقد تشبه بالله - - عز وجل - - ولو من حيث ظاهر اللفظ، لأن الله - - عز وجل - - يخاطب عباده بقوله: عبدي، كما في الحديث: (عبدي استطعمتك فلم تطعمني...)(2) وما أشبه ذلك.
وإن كان السيد يريد بقوله: (عبدي)، أي: مملوكي، فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك.
وقوله: (وأمتي). الأمة: الأنثى من المملوكات، وتسمى الجارية.
والعلة من النهي: أن فيه إشعارا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الأدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلا.
قوله: (وليقل فتاي وفتاتي).مثله جاريتي وغلامي، فلا بأس به.
وفي الحديث فوائد:
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة / باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء، حديث (900)، ومسلم: كتاب الصلاة / باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، (442).
(2) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب فضل عيادة المريض، حديث (2569).(58/8)
حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث إنه إذا نهى عن شيء فتح للناس ما يباح لهم فقال: (لا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي)، وهذه كما هي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي طريقة القرآن أيضا، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } (البقرة: 104)، وهكذا ينبغي لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس باباً محرماً أن يفتحوا لهم الباب المباح حتى لا يضيقوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم، لأن في ذلك فائدتين عظيمتين:
الأولى: تسهيل ترك المحرم على هؤلاء، لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلا عنه هان عليهم تركه.
الثانية: بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس، فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن يتكلموا بشيء أو لا يفعلوا شيئا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.
أن الأمر يأتي للإباحة، لقوله: (وليقل: سيدي ومولاي)، وقد قال العلماء: إن الأمر إذا أتى في مقابلة شيء ممنوع صار للإباحة، وهنا جاء الأمر في مقابلة شيء ممنوع، ومثله قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (المائدة: 2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى:النهي عن قول:عبدي وأمتي.تؤخذ من قوله:(ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي)وقد سبق بيان ذلك.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك. تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك.
الثالثة: تعليم الأول (وهو السيد) قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني (وهو العبد) قول: سيدي ومولاي.(58/9)
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. وقد سبق ذلك.
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود.(58/10)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يرد من سال بالله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب مع الباب الذي قبله ومع ما سبقه -كما ذكرنا- كلها في تعظيم الله -جل وعلا-، وربوبيته، وأسمائه وصفاته؛ لأن تعظيم ذلك من إكمال التوحيد، ومن تحقيق التوحيد.
ومن سأل بالله -- جل جلاله -- فقد سأل بعظيم، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم، بل استعاذ بمن له هذا الملكوت، وله تدبير الأمر، - جل وعلا - فكيف يُرد من جعل مالك كل شيء وسيلة؟!
ولهذا كان من تعظيم الله التعظيم الواجب ألا يرد أحد سأل بالله -جل وعلا-، فإذا سأل سؤالا وجعل الله -جل وعلا- هو الوسيلة، فإنه لا يجوز أن يرد تعظيما لله -جل وعلا-.
والذي في قلبه تعظيم الله -جل وعلا- ينتفض إذا ذُكر الله ، كما قال سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (الأنفال: من الآية2) بمجرد ذكر الله تَجِلُ القلوب لعلمهم بالله -جل وعلا- وما يستحق، وعلمهم بتدبيره وملكوته، وعظمة صفاته وأسمائه -جل وعلا-.
فإذا سأل أحد بالله فإن قلب الموحد لا يكون رادا له، لأنه معظم لله، مُجِلٌّ لله -جل وعلا-، فلا يرد أحدا جعل وسيلته إليه رب العزة -- سبحانه وتعالى --.
ومن أهل العلم من قال: إن السائل بالله قد تجب إجابته ويحرم رده، وقد لا يجب ذلك، وهذا القول هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، واختيار عدد من المحققين بعده، وهو القول الثالث في المسألة.
وأما القول الأول: فهو أن من سأل بالله حَرُم أن يرد مطلقا.
والقول الثاني: أن من سأل بالله استُحب إجابته وكُره رده.(59/1)
ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بحالة الوجوب أن يتوجه السؤال لمعين في أمر معين، يعني ألا يكون السائل سأل عددا من الناس بالله ليحصل على شيء، فلهذا لم يدخل فيه السائل الفقير الذي يأتي فيسأل هذا، ويسأل هذا، كما لم يدخل فيه من يكون كاذبا في سؤاله، أما إذا لم يتوجه لمعين في أمر معين، فإنه لا يجب عليه أن يؤتيه مطلبه، ويجوز له أن يرد سؤاله. وعلى هذا التفصيل يكون للمسألة ثلاثة أحوال:
حال يحرم فيها رد السائل، وحال يكره فيها رد السائل، وحال يباح فيها رد السائل بالله:
فيحرم رد السائل بالله إذا توجه لمعين في أمر معين كما إذا خصك بهذا التوجه، وسألك بالله أن تعينه، وأنت قادر على أن تؤتيه مطلوبه.
ويستحب: إذا كان التوجه ليس لمعين، كأن يسأل أشخاصاً كثيرين.
ويباح: إذا كان من سأل بالله يعرف منه الكذب.
(ق): قوله: (باب لا يرد). (لا) نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم.
وقوله: (من سأل بالله). أي: من سأل غيره بالله، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول: أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك: (أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا)(1).
الثاني: السؤال بشرع الله - - عز وجل - -، أي: يسأل سؤالا يبيحه الشرع، كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك.
وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل، وهنا عدة مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
__________
(1) سبق تخريجه.(59/2)
وهذه المسألة لم يتطرق إليه المؤلف رحمه الله ، فنقول أولا: السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته، فلا يقول لأحد: ناولنيه، بل ينزل ويأخذه(1).
والمعنى يقتضيه، لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد، لأن من أذل وجهه لأحد، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه سأله اضطر إلى أن يجيبه، ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس)(2)، فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة.
فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسال من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة: (إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله)، ولكن فيما قالوه نظر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من السؤال، وقال: (إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم)(3)، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة.
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن، فهذه مكروهة، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وأما إجابة السائل، فهو موضوع بابنا هذا، ولا يخلو السائل من أحد الأمرين:
__________
(1) مسلم: كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة للناس، حديث (1043) وأبو داود حديث (1642)والنسائي، حديث (460) وابن ماجة، حديث (2867).
(2) ابن ماجة: كتاب الزهد / باب الزهد في الدنيا، حديث (4102) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (944).
(3) البخاري: كتاب الزكاة/ باب من سال الناس تكثرا حديث (1475)، ومسلم: كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة، حديث (1040).(59/3)
الأول: أن يسأل سؤالا مجردا، كأن يقول مثلا: يا فلان ! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه، كالفقير يسأل شيئا من الزكاة.
الثاني: أن يسأل بالله، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا، لأنه سأل بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا العظيم، لكن لو سال إثما أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، فإنه لا يجاب.
مثال الأول: أن يسألك بالله نقودا ليشتري بها محرما كالخمر.
ومثال الثاني: أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سأل بالله فأعطوه؛ ومن استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن دعاكم؛ فأجيبوه، ومن صنع إليكم معرروفا؛ فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافؤنه، فأدعوا له حتي ترون أنكم قد كافأتموه). رواه أبو داوود والنسائي بسند صحيح(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سال بالله). (من): شرطية للعموم.
قوله: (فأعطوه) الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسؤول، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيما لله - - عز وجل - - الذي سأل به.
ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والقرع والأعمى: (أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا)(2).
__________
(1) سبق تخريجه وهو صحيح.
(2) سبق تخريجه.(59/4)
(ف): ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود وضدهما من البخل والشح. فالأول: محمود في الكتاب والسنة. والثاني: مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ - الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة :267- 268] وقال تعالى: { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد : 7] وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ } [البقرة : 177] الآية فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة. ذلك - والله أعلم - لتعدي نفعه. وذكره تعالى في الأعمال التي أمر الله بها عباده. وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم. قال تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ(59/5)
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب : 35].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء. نصحاً للأمة وحثاً لهم على ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً. وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار، فقال تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر : 9] والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً } [الإنسان :8- 9].
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جداً، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغب، بالله التوفيق.
(ق): قوله: (ومن استعاذ بالله فأعيذوه). أي قال: أعوذ بالله منك، فإنه يجب عليك أن تعيذه، لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بالله منك، قال لها: (لقد عذت بعظيم- أو معاذ -، الحقي بأهلك)(1).
لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه، فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال أعوذ بالله منك.
وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعاذته.
__________
(1) البخاري: كتاب الطلاق / باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، حديث (1254) والنسائي، حديث (3417) وابن ماجة حديث (2050).(59/6)
وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه - وإن لم يقل أستعيذ بالله -، فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم: لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه، فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج.
بخلاف من انتهك حرمة الحرم بأن فعل الجناية في نفس الحرم، فإن الحرم لا يعيذه لأنه انتهك حرمة الحرم.
قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه). (من): شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء.
وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية.
وجمهور أهل العلم: أنها مستحبة إلا دعوة العرس، فإنها واجبة لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيها: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، ومن لم يجب، فقد عصى الله ورسوله)(1).
وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب، فإنه يشترط لذلك شروط:
أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن.
ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنه إزالته، وجب عليه الحضور لسببين:
إجابة الدعوة.
وتغيير المنكر.
وإن كان لا يمكن إزالته حرم عليه الحضور، لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم، فهو إثم.
__________
(1) البخاري: كتاب النكاح/ باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، حديث (5177) ومسلم: كتاب النكاح / باب الأمر بإجابة الداعي إلى الدعوة، حديث (1432) وأبو داود، حديث (3742) وابن ماجة، حديث (1913).(59/7)
أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حق المسلم على المسلم ست...) وذكر منها: (إذا دعاك فأجبه)(1). قالوا: وهذا مقيد للعموم الوارد.
أن لا يكون كسبه حرام، لأن إجابته تسلتزم أن تأكل طعاما حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم.
وقال آخرون: ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اشتري من يهودي طعاما لأهله(2)، واكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر(3)، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللحم الذي تصدق به على بريرة: (هو لها صدقة ولنا منها هدية)(4).
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز / باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم: كتاب السلام / باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، حديث (2162)وأبو داود كتاب الأدب، باب: في العطاس، حديث (5030)، والترمذي، حديث (2737) والنسائي، حديث (1938)وابن ماجة، حديث (1435).
(2) البخاري: كتاب البيوع / باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، حديث (2068، 2069) ومسلم: كتاب المساقاة / باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر، حديث (1603) والنسائي، حديث (4609) وابن ماجة حديث (2436، 2437).
(3) البخاري: كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، حديث (2167)، ومسلم: كتاب السلام/باب السم، حديث (2190) وأبو داود، كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات أيقاد منه، حديث (4508).
(4) البخاري: كتاب الزكاة /باب على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1493) ومسلم كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، حديث (1504).(59/8)
وعلى القول الأول، فإن الكراهة تقوي وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل.
أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ماهو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة.
أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم.
مسألة: هل إجابة الدعوة حق لله أو للآدمي؟
الجواب: حق للآدمي، ولهذا لو طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل، فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله - عز وجل --، ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك، لكن لصاحبها أن يسقطها كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منه وخجلا من غير اقتناع، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة.
مسألة: هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة؟
الجواب: البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهبت إليه، فيمكن أن نقول: إنها تشبه دعوة الجفلي فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة.
قوله: (من صنع إليكم معروفا، فكافئوه). المعروف: الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها، فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عمله زائدا عن الواجب عليه، فكافئه، وهكذا، ولكن إذا كان كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته، فلا يمكن أن تكافئه، كالملك أو الرئيس... مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعي له، لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه فتكون مسيئا له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تكافئه لإحسانه.
وللمكافأة فائدتان:
تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.(59/9)
أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه، لأن من صنع إليك معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اليد العليا خير من اليد السفلى)(1)، واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروفا، لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله - - عز وجل - -، لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أكثر مما أعطيته، فهذا لا يريد مكافأة، ولكن يدعي له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له) وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني فإنه يدعو له.
ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه به سرور صانع المعروف.
قوله: (حتى تروا أنكم قد كافأتموه). (تروا)، بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا، أي: حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه، ثم أمسكوا.
__________
(1) البخاري: كتاب الزكاة / باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، ومسلم كتاب الزكاة / باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.(59/10)
(ف): ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر: (حتى تعلموا)(1) فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: (من سألكم بالله فأجيبوه)(2) أي إلى ما سأل. فيكون بمعنى: أعطوه، وعند أبي داود في رواية أبي نهيك عن ابن عباس: (من سألكم بوجه الله فأعطوه)(3) وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث (ومن سألكم بالله)(4) كما في حديث ابن عمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: (حتى ترون أنكم قد كافأتموه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شيء واجب فعلا أو تركا، فإنه لا يعاذ.
الثانية: إعطاء من سأل بالله. وسبق التفصيل فيه.
الثالثة: إجابة الدعوة. وسبق كذلك التفصيل فيها.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.أي: على صنيعة من صنع إليك معروفا، وسبق تفصيل ذلك.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه. وسبق أنه مكافأة في ذلك، وفيما إذا كان الصانع لا يكافأ مثله عادة.
السادسة: قوله: (حتى تروا أنكم قد كافأتموه). أي: أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعوا له حتى يعلم أو يغلب على ظنه أنه قد كافأه.
وفيه مسائل أخرى، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود.
- - - - -
__________
(1) أبو داود: كتاب الأدب: باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عمر ،حديث(5109).
(2) عند أبي داود "ومن سألكم بالله فأعطوه".
(3) أبو داود: كتاب الأدب: باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس ولفظه" منسألكم بالله فأعطوه) ،حديث(5108).
(4) أبو داود: كتاب الأدب: باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس، وهو بهذا اللفظ منحديث ابن عمر رضي الله عنهما، حديث (5108).(59/11)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا باب (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة) ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة في أن تعظيم صفات الله جل وعلا - الذاتية والفعلية من تحقيق التوحيد، ومن كمال الأدب والتعظيم لله -جل وعلا-.
فإن تعظيم الله -- جل جلاله --، وتعظيم أسمائه، وصفاته، يكون بأمور كثيرة منها: ألا يسأل بوجه الله أو بصفات الله -- جل جلاله -- إلا المطالب العظيمة، التي أعلاها الجنة.
(ق): مناسبة هذا الباب للتوحيد: أن فيه تعظيم وجه الله - - عز وجل - -، بحيث لا يسأل به إلا الجنة.
قوله: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). اختلف في المراد بذلك على قولين:
القول الأول: أن المراد: لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله ، فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين، فلا تسأله بوجه الله ، لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث، ولذلك ذكره بعد (باب لا يرد من سأل بالله).
القول الثاني: أنك إذا سألت الله ، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها، فلا حرج أن تسأل بوجه الله ، وإن سالت شيئا من أمور الدنيا، فلا تسأله بوجه الله ، لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشي من أمور الدنيا.(60/1)
فأمور الآخرة تسأل بوجه الله ، كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني من النار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ، قال: أعوذ بوجهك، { أو من تحت أرجلكم } ، قال: أعوذ بوجهك، { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } (الأنعام: 65) قال: هذه أهون أو أيسر)(1).
ولو قيل: إنه يشمل المعنيين جميعا، لكان له وجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). رواه أبو داود(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (بوجه الله ). فيه إثبات الوجه لله - - عز وجل - -، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فالقرآن في قوله تعالى: { كل شيء هالك إلا وجهه } (القصص: 88)، وقوله تعالى: { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } (الرعد: 22) والآيات كثيرة.
والسنة كما في الحديث السابق: (أعوذ بوجهك).
واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه: هل هو وجه حقيقي، أو أنه وجه يعبر به عن الذات وليس لله وجه بل له ذات، أو أنه يعبر به عن الشيء الذي يراد به وجهه وليس هو الوجه الحقيقي، أو أنه يعبر به عن الجهة، أو أنه يعبر به عن الثواب؟.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير / باب قوله تعالى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ…... } (الأنعام: من الآية65)
(2) أبو داوود: كتاب الزكاة / باب كراهية المسالة بوجه الله تعالى، حديث (1671) وضعفه الشيخ الألباني كما في المشكاة (1977).(60/2)
فيه خلاف، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا: إنه وجه حقيقي، لأن الله تعالى قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (الرحمن: 27)، ولما أراد غير ذاته، قال: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } (الرحمن: 78) فـ(ذي) صفة لرب وليست صفة لاسم، و(ذو) صفة لوجه وليست صفة لرب، فإذا كان الوجه موصوفا بالجلال والإكرام، فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها، لأن الوجه غير الذات.
وقال أهل التعطيل: أن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب، قالوا: ولو أثبتنا لله وجها حقيقياً للزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة، ويلزم من ذلك إثبات المثل لله - - عز وجل - -، والله تعالى يقول: { ليس كمثله شيء } (الشورى: 11)، وإثبات المثل تكذيب للقرآن، وأنتم يا أهل السنة تقولون: إن من اعتقد أن لله مثيلا فيما يختص به فهو كافر، فنقول لهم:
أولا: ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه، أتعنون به المُركّب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر؟ إن أردتم ذلك، فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه ولا يمكن أن يكون كذلك، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال، فلا محذور في ذلك، والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد، قال تعالى: { قل هو الله أحد - الله الصمد } (الإخلاص: 1-2)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الصمد: الذي لا جوف له(1).
ثانيا: قولكم: إن الأجسام متماثلة قضية من أكذب القضايا، فهل جسم الدب مثل جسم النملة؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك.
فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة وهي استلزام مماثلة الله لخلقه.
ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه، فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توأمين، بل قالوا: إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر.
__________
(1) ابن جرير (30/ 742).(60/3)
ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أولى من التعبير بنفي المشابهة، لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويتشابهان من وجه ويفترقان من وجه آخر، فنفى مطلق المشابهة لا يصح، وقد تقدم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لله خلق آدم على صورته)(1)، ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين، فيجاب عنه:
بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب - - عز وجل - - بإجماع المسلمين والعقلاء، لأن الله - - عز وجل - - وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي - موضع القدمين - كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، فما ظنك برب العالمين؟ فلا أحد يحيط به وصفا ولا تخيلا، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا، وإنما يراد به أحد معنيين:
الأول: أن الله خلق آدم على صورة اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه، وعلى هذا، فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضى من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب.
الثاني: أن الله خلق آدم على صورة الله - - عز وجل - - ولا يلزم من ذلك المماثلة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب في السماء)(2)، ولا يلزم أن يكون على صورة نفس القمر، لأن القمر أكبر من أهل الجنة، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعا، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث.
__________
(1) البخاري: كتاب الاستئذان / باب بدء السلام، ومسلم كتاب البر / باب النهي عن ضرب الوجه.
(2) البخاري كتاب بدء الحلق / باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها / باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والترمذي (2537)، وابن ماجة، حديث (4333).(60/4)
وقال بعض أهل العلم: على صورته، أي: صورة آدم، أي: أن الله خلق آدم أول مرة على هذه الصورة، وليس كبنية يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة.
لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل، وقال: هذا تأويل الجهمية، ولأنه يفقد الحديث معناه، وأيضا يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ: (على صورة الرحمن).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله غاية المطالب. تؤخذ من حديث الباب، وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، لكن على تقدير صحته، فإن من الأدب أن لا تسال بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة: الفوز بالجنة، أو النجاة من النار.
الثانية: إثبات صفة الوجه. وقد سبق الكلام عليه.
- - - - -(60/5)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الـ (لو)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): قلب الموحد المؤمن لا يكون محققا مكملا للتوحيد حتى يعلم أن كل شيء بقضاء الله -جل وعلا- وبقدره، وأن ما فعله سبب من الأسباب، والله -جل وعلا- ماضٍ قدره في خلقه، وأنه مهما فعل فإنه لن يحجز قدر الله -جل وعلا-.
فإذا كان كذلك كان القلب معظِّما لله -جل وعلا- في تصرفه، في ملكوته، وكان القلب لا يخالطه تَمَني أن يكون شيء فات على غير ما كان، وأنه لو فعل كذا لتغير ذلك السابق، بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ، وأن قدره ماضٍ، وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله -جل وعلا- وقدر نتائجه.
فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغيره، وإذا استعمل لفظ "لو" أو لفظ "ليت"، وما أشبهها من الألفاظ التي تدل على الندم وعلى التحسر على ما فات، فإن ذلك يضعف القلب، ويجعله متعلقاً بالأسباب، منصرفا عن الإيقان بتصريف الله -جل وعلا- في ملكوته.
وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي، فإن الماضي الذي حصل إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد، فلا يجوز له أن يقول: لو فعلت كذا لما حصل كذا. بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة، وأن يرضى بفعل الله -جل وعلا-، ويستحب له الرضا بالمصيبة.
وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية، فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة، وألا يقول لو كان كذا لم يكن كذا، بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة، حتى يمحو أثر المعصية.(61/1)
فتبين أن ما مضى من المقدر للعبد معه حالان: إما أن يكون ذلك الذي مضى مصائب فحالها كما ذكرنا، وإما أن يكون معايب ومعاصي، فالواجب عليه أن ينيب، وأن يستغفر، وأن يُقبل على الله -- جل جلاله -- وقد قال سبحانه: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه: 82).والشيطان يدخل على القلب، فيجعله يسيء الظن بربه -جل وعلا- وبقضائه وبقدره، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعف التوحيد، ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر، والإيمان بأفعال الله - - جل جلاله - -، ولهذا عقد المصنف هذا الباب، لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم، ويظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال، والله -جل وعلا- قد قدر الفعل، وقدر نتيجته، فالكل موافق لحكمته - سبحانه وتعالى -.
(ق): قوله: في (اللو).
دخلت (أل) على (لو) وهي لا تدخل إلا على الأسماء، قال ابن مالك:
بالجر والتنوين والندا وأل…… ومسند للاسم تمييز حصل(1)
لأن المقصود بها اللفظ، أي: باب ما جاء في هذا اللفظ.
والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشيء، لأن (لو) تستعمل على عدة أوجه:
الوجه الأول: أن تستعمل في الاعتراض على الشرع، وهذا محرم، قال الله تعالى: { لو أطاعونا ما قتلوا } (آل عمران: 168) في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع a، وهذا محرم يصل إلى الكفر.
__________
(1) انظر ألفية ابن مالك ص(3).(61/2)
الثاني: أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرم أيضا، قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } (آل عمران: 156) أي: لو أنهم بقوا ما قتلوا، فهم يعترضون على قدر الله .
الثالث: أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا، لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه، لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط، قال - صلى الله عليه وسلم -: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(1).
مثال ذلك: رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة، فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيرا، وقد نهي عنه.
الرابع: أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية، كقول المشركين: { لو شاء الله ما أشركنا } (الأنعام: 148) وقولهم: { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } (الزخرف: 20) وهذا باطل.
الخامس: أن تستعمل في التمني، وحكمه حسب التمني: إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة النفر الأربعة قال أحدهم: (لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان) فهذا تمني خيرا، وقال الثاني: (لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان)، فهذا تمني شرا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأول: (فهو بنيته، فأجرهما سواء)، وقال في الثاني: (فهو بنيته فوزرهما سواء)(2).
السادس: أن تستعمل في الخبر المحض.
__________
(1) مسلم: كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، حديث (2664)، وابن ماجة في المقدمة، باب: في القدر، حديث (79).
(2) الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، حديث (2325)، وابن ماجة حديث (4228)وحسنه الترمذي.(61/3)
وهذا جائز، مثل: لو حضرت الدرس لاستفدت، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى ولأحللت معكم)(1)، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدى ولأحل، وهذا ظاهر لي.
وبعضهم قال: إنه من باب التمني، كأنه قال: ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدى.
لكن الظاهر: أنه لما رأى من أصحابه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنى شيئا قدر الله خلافه.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (آل عمران: 154)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الأولى قوله تعالى: { يقولون } . الضمير للمنافقين.
قوله: { ما قتلنا } . أي: ما قتل بعضنا، لأنهم لم يقتلوا كلهم، ولأن المقتول لا يقول.
قوله: { لو كان لنا من الأمر } . { لو } : شرطية، وفعل الشرط: { كان } ، وجوابه: { ما قتلنا } ولم يقترن الجواب باللام، لأن الأفصح إذا كان الجواب منفيا عدم الاقتران، فقولك: لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك: لو جاء زيد لما جاء عمرو، وقد ورد قليلا اقترانها مع النفي، كقول الشاعر:
__________
(1) البخاري: كتاب التمني / باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)، ومسلم: كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام، وأبو داود، حديث (1784).(61/4)
ولو نعطي الخيار لما افترقنا…… ولكن لا خيار مع الليالي
قوله: { ها هنا } . أي: في أُحد.
(ف): قال بن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله ابن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم. فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيئ ما قتلنا ها هنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله - عز وجل -: { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } لقول معتب رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي هذا قدر مقدر من الله - عز وجل - وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
(ق): قوله: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } . هذا رد عليهم، فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم.
وقولهم: { لو كان لنا من الأمر شيء } . هذا من الاعتراض على الشرع، لأنهم عتبوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث خرج بدون موافقتهم، ويمكن أن يكون اعتراضا على القدر أيضا، أي: لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا فنقتل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران: 168)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: { وقعدوا } . الواو إما أن تكون عاطفة والجملة معطوفة على { قالوا } ، ويكون وصف هؤلاء بأمرين:
بالاعتراض على القدر بقولهم: { لو أطاعونا ما قتلوا } .(61/5)
وبالجبن عن تنفيذ الشرع (الجهاد) بقولهم: { وقعدوا } ، أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير (قد)، أي: والحال أنهم قد قعدوا، ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس، لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين وعلى قضاء الله وقدره.
قوله: { لإخوانهم } . قيل: في النسب لا في الدين، وقيل في الدين ظاهرا، لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام، ولو قيل: إنه شامل للأمرين، لكان صحيحا.
قوله: { لو أطاعونا ما قتلوا } . هذا غير صحيح، ولهذا رد الله عليهم بقوله: { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ، وإن كنتم قاعدين، فلا تستطيعون أيضا أن تدرؤوا عن أنفسكم الموت.
فهذه الآية والتي قبلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوما بشرع الله .
(ف): قال العماد ابن كثير: الذين قالوا لإخوانهم، وقعدوا: لو أطاعونا ما قتلوا أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه يعني أنه هو الذي قال ذلك. وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى - المنافقون - ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم، وأرعبه، وأخذله للحق { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } إنما هم أهل ريب وشك بالله - عز وجل -.
قوله: قد أهمتهم أنفسهم يعني لا يغشاهم النعاس عن القلق والجزع والخوف: { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } .(61/6)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان؟ أو كما قال … انخزل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة. وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا، فقيل لهم: " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقاً، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، انتهى.
قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان.
(ق): مناسبة الباب للتوحيد:
أن من جملة أقسم { لو } الاعتراض على القدر، ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية.(61/7)
والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له)(1)، ومهما كان، فالأمر سيكون على ما كان، فلو خرجت مثلا في سفر ثم أصبت في حادث، فلا تقل: لو أني ما خرجت في السفر ما أصبت، لأن هذا مقدر لا بد منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، لكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الصحيح) أي: (صحيح مسلم)، وانظر ما سبق في: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير).
قوله: (القوي). أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه، يعني: ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه، يعني: العمل الصالح من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في العبادات وما أشبه ذلك.
وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟
الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه أو يزيد ما يقتضيه، لأن (القوي) وصف عائد على موصوف وهو المؤمن، فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر.
__________
(1) مسلم: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، حديث (2664)، وابن ماجة (79)و(4168)
(2) سبق تخريجه.(61/8)
قوله: (خير وأحب إلى الله ). خير في تأثيره وآثاره فهو ينفع ويقتدي به وأحب إلى الله باعتبار الثواب.
قوله: (من المؤمن الضعيف). وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه لا في قوة البدن.
قوله: (وفي كل خير). أي: في كل من القوي والضعيف خير، وهذا النوع من التذييل يسمى عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف.
فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله (خير وأحب)، لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟
فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } (الفرقان: 24) مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم.
كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: (خير وأحب) صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل: (وفي كل خير) رفع من شانه، ونظيره قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } (الحديد: 10).
قوله: (احرص على ما ينفعك). الحرص: بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.
وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:
نافعة، وهذه مأمور بها.
ضارة وهذه محذر منها.
فيها نفع وضرر.
لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر، إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيه نفع ولا ضرر، إما ذاتي، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم.(61/9)
والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خير أو ليصمت)(1).
واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا، لأن من القوة الحرص على ما ينفع.
و(ما): اسم موصول بفعل (ينفع)، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم الفاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع، لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها، لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت: أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره، فنقدم الأنفع على النافع لوجهين:
أنه مشتمل على النفع وزيادة.
أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته.
ويؤخذ من الحديث وجوب الابتعاد عن الضار، لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله: (احرص على ما ينفعك)
قوله: (واستعن بالله). الواو تقتضي الجمع فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل، فلابد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله.
والاستعانة: طلب العون بلسان المقال، كقولك: (اللهم أعني، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله) عند شروعك بالفعل.
أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك - - عز وجل - - أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة.
أو طلب العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال، فقد استعان بلسان الحال.
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب / باب إكرام الضيف/ ومسلم: كتاب الإيمان / باب الحث على إكرام الجار.(61/10)
لو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، فهذا جائز، ولكن لا تشعر نفسك أنها كاستعانتك بالخالق، وإنما عليك أن تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة، فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى، وعلى هذا، فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (استعن بالله).
قوله: (ولا تعجزن). فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و(لا) ناهية، والمعنى: لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجز، لأن العجز عن الشيء غير التعاجز، فالعجز بغير اختيار الإنسان، ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب)(1).
فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل، اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعدم التكاسل.
لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل - لا سيما النافع - ثم أتاه الشيطان فثبطه؟
لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار، فيجب عليه الرجوع عنه، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وذكر في ترجمة الكسائي انه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت، فأخذت درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو.
قوله: (إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا).
__________
(1) البخاري: كتاب تقصير الصلاة / باب إذا لم يطق قاعدا صلي على جنب.(61/11)
هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود.
فالمرتبة الأولى: الحرص على ما ينفع.
والمرتبة الثانية: الاستعانة بالله.
والمرتبة الثالثة: المضي في الأمر والاستمرار فيه وعدم التعاجز.
وهذه المراتب إليك.
المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود، فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله ، ولهذا قال: (وإن أصابك...)، ففوض الأمر إلى الله تعالى.
قوله: (وإن أصابك شيء). أي: لا تحبه ولا تريده ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع.
فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه لا يخلو من حالين:
الأول: أن يقول: لو لم أفعل ما حصل كذا.
الثاني: أن يقول: لو فعلت كذا لأمر لم يفعله لكان كذا.
مثال الأول قول القائل: لو لم أسافر ما فاتني الربح.
ومثال الثاني أن يقول: لو سافرت لربحت.
وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني دون الأول، لأن الإنسان عامل فاعل، فهو يقول: لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل وكان موقفه سلبيا من الأعمال.
قوله: (كذا). كناية عن مبهم، وهي مفعول لفعلت.
قوله: (لكان كذا) فاعل كان، والجملة جواب لو.
قوله: (قدر الله ). خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله .
وقدر بمعنى مقدور، لأن قدر الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله ، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله ، وهو المراد هنا، لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير، لأن المفعول نتيجة الفعل.
والمعني إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلى، أما الذي إلى فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله - - عز وجل - - وان الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي، فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله .(61/12)
قوله: (وما شاء الله فعل). جملة مصدرة ب(ما) الشرطية، (وشاء): فعل الشرط، وجوابه: (فعل)، أي: ما شاء الله أن يفعله فعله، لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى: { والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب } (الرعد: 41)، وقد سبق ذكر قاعدة، وهي إن كل فعل لله تعالى معلق بالمشيئة، فإنه مقرون بالحكمة، وليس شيء من فعله معلقا بالمشيئة المجردة، لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا لحكمة، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الإرادة ووقوع المراد ففيه تفصيل:
فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } (النساء: 27) بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله علي جميع الناس.
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد، كما قال الله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (البقرة: 253)
قوله: (فإن لو تفتح عمل الشيطان). (لو): اسم إن قصد لفظها، أي؛ فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.
وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن، فإن الشيطان يحب ذلك، وقال تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله } (المجادلة: 10)، حتى في المنام يريه أحلاما مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره، وحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة حال تشوش الفكر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)(1)، إذا رضي الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وانه لا بد أن يقع، اطمأنت نفسه وانشرح صدره.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة/ باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، حديث (560)، وأبو داود حديث (89).(61/13)
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله - وذكر حديث الباب بتمامه - ثم قال في معناه: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: (إن الله يلوم على العجز)(1) والعاجز ضد الذين هم ينتصرون فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة، وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله. فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه، ولهذا قال بعض العقلاء - ابن المقفع أو غيره - الأمور أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه. وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن: الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به، وأحبه له. فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة. وما لا حيلة له فيه ما أصيب به من غير فعله. واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين: فالأفعال مثل قوله تعالى: ' 6: 160 ' { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } ومثل قوله تعالى: ' 17: 7 ' { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } ومثل قوله تعالى: ' 42: 40 ' { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ومثل قوله تعالى: ' 2: 81 ' { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم.
__________
(1) ضعيف:أخرجه أحمد (6/25)، أبو داود: كتاب الأقضية: باب الرجل يحلف على حقه .من حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - ،حديث(3627)، وضعفه الألباني في تخريج الكلم الطيب(137) وضعيف الجامع (1759).(61/14)
والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب. كما قال تعالى: ' 4: 79 ' { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين: النعم، والسيئة: المصائب، هذا هو الثاني من القسمين.
وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.
ثم قال رحمه الله : فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم. قال تعالى: ' 64: 11 ' { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ولهذا قال آدم لموسى: أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج أدم موسى لأن موسى قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنباً. وأما كونها لأجل الذنب - كما يظنه طوائف من الناس - فليس مراداً بالحديث، فإن آدم - عليه السلام - كان قد تاب من الذنب. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس، انتهى.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان. أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة. الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويحب المؤمن القوي، وهو وتر ويحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.(61/15)
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: " إياك نعبد وإياك نستعين " فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى. ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به. فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز. وهو مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة من لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية. وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ها هنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور، وإن انتفت امتنع وجوده، ولهذا قال: فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حال حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغنى عنه العبد أبداً، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
(ق): ويستفاد من الحديث:
إثبات المحبة لله - - عز وجل - -، لقوله: (خير وأحب).(61/16)
اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه، لقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
زيادة الإيمان ونقصانه، لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة.
وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص، لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى: { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } (المدثر: 31)، وقال تعالى: { ويزداد الذين آمنوا إيمانا مع إيمانهم } (الفتح: 4).
والراجح القول الأول، لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)(1)، يعني: النساء.
والإيمان يزيد بالكمية والكيفية، فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم - عليه السلام -: { رب ارني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } (البقرة: 260).
والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر، زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال، فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين.
أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير؛ لقوله: (وفي كل خير).
أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها، لقوله: (احرص على ما ينفعك)، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.
أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع، لقوله: (احرص على ما ينفعك).
أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة، لقوله: (و لا تعجز)
__________
(1) البخاري: كتاب الحيض / باب ترك الحائض الصوم، ومسلم: كتاب الإيمان / باب نقصان الإيمان.(61/17)
أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر، لقوله: (ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل)، وأما الذي يمكنك، فليس لك أن تحتج بالقدر.
وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى أدم عليهما الصلاة السلام؛ وقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي)(1) فهذا احتجاج بالقدر.
فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث، لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه فكذبوه، وإلا حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه.
معناه أن فعلك صار سببا لخروجنا، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام ابعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث.
وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية ويستمروا عليها، فالمشركون لما قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } (الأنعام: 148) كذبهم الله ، لأنهم لا يحتجون على شيء مضى ويقولون: تبنا إلى الله ، ولكن يحتجون على البقاء في الشرك.
__________
(1) البخاري: كتاب القدر / باب تحاج آدم وموسى، ومسلم: كتاب القدر / باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، حديث (2652) وأبو داود حديث (4701) والترمذي، حديث (2134) وابن ماجة، حديث (80).(61/18)
أن للشيطان تأثيرا على بني آدم، لقوله: (فإن لو تفتح عمل الشيطان)، وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)(1).
فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق.
وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله - - عز وجل - -، كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك، فإن الشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا.
حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرن النهي عن قول (لو) ببيان علته، لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: لو، إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. وهما:
الأولى: { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } .
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتكاف / باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، حديث (2038)، ومسلم: كتاب السلام / باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة أن يقول: هذه فلانة، (2175).(61/19)
الثانية: { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } ، أي: ما أُخرجنا وما قتلنا، ولكن الله تعالى: أبطل ذلك بقوله: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ، والآية الأخرى: { لو أطاعونا ما قتلوا } ، فأبطل الله دعواهم هذه بقوله: { فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ، أي: إن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل، فادرؤوا عن أنفسكم الموت، فإنهم لن يسلموا من الموت، بل لابد أن يموتوا، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد، لكانوا على ضلال مبين.
الثانية: النهي الصريح عن قول (لو) إذا أصابك شيء. لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (فإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا).
الثالثة: تعليل المسألة بان ذلك يفتح عمل الشيطان. فالنهي عن قول (لو) علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. لقوله: (ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله).
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز. لقوله: (ولا تعجز)، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز، فكيف نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمر لا قدرة للإنسان عليه؟
أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشيء، لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.
- - - - -(61/20)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب النهي عن سب الريح
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): الريح مخلوق من مخلوقات الله مسخر، وهي واحدة الرياح، يجريها الله -جل وعلا- كما يشاء، وهي كالدهر لا تملك شيئا، ولا تدبر أمرا.
فسب الريح كسب الدهر، يرجع في الحقيقة إلى أذية الله -جل وعلا-؛ لأن الله هو الذي يصرف الريح كيف يشاء، فيجعل الريح تأتي بأمر مكروه، ليُذكِّر العباد بالتوبة والإنابة، ويذكر بمعرفة قدرته عليهم، وأنه لا غنى لهم عنه -جل وعلا- طرفة عين، وهو الذي يجعل الرياح بشراً، فيسخرها -جل وعلا- لما فيه مصلحة العباد.
فهذا الباب عقده لبيان تحريم سب الريح، كما عقد ما قبله لبيان أن سب الدهر لا يجوز ومحرم؛ لأنه أذية لله -جل وعلا-، وهذا الباب من جنس ذاك، لكن هذا يكثر وقوعه، فأفرده لكثرة وقوعه، وللحاجة إلى التنبيه عليه.
قوله: بابٌ: [النهي عن سب الريح]، النهي للتحريم، وسب الريح يكون بشتمها، أو بلعنها، وكما ذكرنا في باب الدهر، فإنه ليس من سبها أن توصف بالشدة كقول الله -جل وعلا-: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } (الحاقة: 6-7) فهذا وصف للريح بالشدة ومثل ذلك وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه، كقوله: { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } (الذاريات: 42) فمثل هذا ليس من المنهي عنه.
(ق): قوله (الريح). الهواء الذي يصرفه الله - - عز وجل - -، وجمعه رياح.
وأصولها أربعة: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، وما بينهما يسمى النكباء، لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال، أو الجنوب، أو الشرق، أو الغرب.(62/1)
وتصريفها من آيات الله - عز وجل - فأحيانا تكون شديدة تقلع الأشجار وتهدم البيوت وتدفن الزروع ويحصل معها فيضانات عظيمة، وأحيانا تكون هادئة، وأحيانا تكون باردة، وأحيانا حارة، وأحيانا عالية، وأحيانا نازلة، كل هذا بقضاء الله وقدره، ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن الله - - عز وجل - - بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلى ما يريد، فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح؟
الجواب: لا، لأن هذه الريح مسخرة مدبرة، وكما أن الشمس أحيانا تضر بإحراقها بعض الأشجار، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها، فكذلك الريح، ولهذا قال: (لا تسبوا الريح).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به) صححه الترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا تسبوا الريح). (لا): ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، والريح مفعول به.
والسب: الشتم، والعيب، والقدح، واللعن، وما أشبه ذلك، وإنما نهى عن سبها، لأن سب المخلوق سب لخالقه، فلو وجدت قصرا مبنيا وفيه عيب، فسببته، فهذا السب ينصب على من بناه، وكذلك سب الريح، لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله - - عز وجل - -.
ولكن إذا كانت الريح مزعجة، فقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقال حينئذ في قوله: (ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك...الخ).(62/2)
قوله: " من خير هذه الريح ". الريح نفسها فيها خير وشر، فقد تكون عاصفة تقلع الأشجار وتهدم الديار وتفيض البحار والأنهار، وقد تكون هادئة تبرد الجو وتكسب النشاط.
قوله: (وخير ما فيها). أي: ما تحمله، لأنها قد تحمل خيرا، كتلقيح الثمار، وقد تحمل رائحة طيبة الشم، وقد تحمل شرا، كإزالة لقاح الثمار، وأمراض تضر بالإنسان والبهائم.
قوله: (وخير ما أمرت به). مثل إثارة السحاب وسوقه إلى حيث شاء الله .
قوله: (ونعوذ بك). أي: نعتصم ونلجأ.
قوله: (ومن شر هذه الريح) أي: شرها بنفسها كقلع الأشجار، ودفن الزروع وهدم البيوت.
قوله: (وشر ما فيها). أي: ما تحمله من الأشياء الضارة، كالأنتان، والقاذورات، والأوبئة وغيرها.
قوله: (وشر ما أُمرت به). كالهلاك والتدمير، وقال تعالى في ريح عاد: { تدمر كل شيء بأمر ربها } (الأحقاف: 25) وتيبس الأرض من الأمطار، ودفن الزروع، وطمس الآثار والطرق، فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة نعجز عن إدراكها.
وقوله: (ما أمرت به). هذا الأمر حقيقي، أي: يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف، وكل شيء من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله ، قال تعالى للأرض والسماء: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } (فصلت: 11)، وقال للقلم: (اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح. وهذا النهي للتحريم، لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها.
__________
(1) رواه أبو داود: كتاب السنة / باب في القدر، حديث (4700).(62/3)
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره. أي: منها، وهو أن يقول: (اللهم إني أسألك من خيرها...) الحديث، مع فعل الأسباب الحسية أيضا، كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. لقوله: (ما أمرت به).
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر. لقوله: (خير ما أُمرت به، وشر ما أُمرت به)
والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره، وأن لا يسبه، وأن يكون مستسلما لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلما لأمره الشرعي، لأن هذه المخلوقات لا تملك أن تفعل شيئا إلا بأمر الله - - سبحانه وتعالى - -.
- - - - -(62/4)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قوله تعالى:
{ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران: 154]
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن الله -جل وعلا- موصوف بصفات الكمال، وله -جل وعلا- أفعال الحكمة، وأفعال العدل، وأفعال الرحمة والبر، فهو سبحانه كامل في أسمائه، كامل في صفاته، كامل في ربوبيته، ومن كماله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة بالغة، والحكمة: هي أنه -جل وعلا- يضع الأمور في مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها، وهذا دليل الكمال، فالله -جل وعلا- له صفات الكمال، وله نعوت الجلال والجمال.
فلهذا وجب لكماله -جل وعلا- أن يُظن به ظن الحق، وألا يُظن به ظن السوء، وأن يُعتقد فيه ما يجب لجلاله -جل وعلا- من تمام الحكمة، وكمال العدل، وكمال الرحمة، وكمال أسمائه وصفاته -- سبحانه وتعالى --، فالذي يظن به -جل وعلا- أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة، فإنه قد ظن به ظن النقص، وهو ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية.(63/1)
فظن غير الحق بالله منافٍ للتوحيد، وقد يكون منافيا لكمال التوحيد، فمنه ما يكون صاحبه خارجاً عن ملة الإسلام أصلا، كظن غير الحق بالله تعالى في بعض مسائل القدر كما سيأتي، ومنه ما هو منافٍ لكمال التوحيد كعدم الإيمان بالحكمة، أو بأفعال الله -جل وعلا- المنوطة بالعلل، التي هي منوطة بحكمته سبحانه البالغة.
ولهذا قال -جل وعلا-: { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (الأنعام: 149)، في الرد على القدرية المشركة، وقد قال أيضا -جل وعلا-: { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } (القمر: 5). فالله -جل وعلا- موصوف بكمال الحكمة، وكمال الحمد على أفعاله؛ لأن أفعال الله -جل وعلا- قسمان:
أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل، وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق.
فالله -جل وعلا- يفعل هذا وهذا، وحتى أفعاله التي هي أفعال بر وإحسان هي منوطة بالحكم العظيمة، وكذلك الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم، أو ليست موافقة للحكمة، فإن ظن الحق بالله -جل وعلا- أن يُظن به، وأن يُعتقد أنه ليس ثَمَّ شيء من أفعاله إلا وهو موافق لحكمته -جل وعلا- العظيمة، إذ هو العزيز القهار، الفعال لما يريد.
فالواجب -تحقيقا للتوحيد- أن يظن العبد بالله -جل وعلا- ظن الحق، وأما ظن السوء فهو ظن الجاهلية، الذي هو منافٍ لأصل التوحيد في بعض أحواله، أو منافٍ لكمال التوحيد.
فترجم المؤلف -رحمه الله - بهذا الباب ليبين أن ظن السوء بالله -جل وعلا- من خصال أهل الجاهلية، وهو منافٍ لأصل التوحيد، أو منافٍ لكماله بحسب الحال.
(ق): ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الأولى: قوله تعالى: { يظنون } . الضمير يعود على المنافقين، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق على اليقين، كما في قوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } (البقرة: 46)، أي: يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمى وهما.(63/2)
قوله: { ظن الجاهلية } . عطف بيان لقوله: { غير الحق } ، و { الجاهلية } : الحال الجاهلية، والمعنى: يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل.
والظن بالله - - عز وجل -- على نوعين:
الأول: أن يظن بالله خيرا.
الثاني: أن يظن بالله شرا.
والأول له متعلقان:
متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون، فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله - - عز وجل -- فيما يفعله -- سبحانه وتعالى - - في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة قد تصل العقول إليها وقد لاتصل، وبهذا يتبين عظمة الله وحكمته في تقديره، فلا يظن أن الله إذا فعل شيئا في الكون فعله لإرادة سيئة، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله، أما المتعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير، فهذا واقع، كما قال تعالى: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة } (الأحزاب: 17).
متعلق بالنسبة لما يفعله بك، فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك، فعليك أن تظن أن الله يقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب، فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه.
وأما إن كان الإنسان مفرطا في الواجبات فاعلا للمحرمات، وظن بالله ظنا حسنا، فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله، إذ أن حكمة الله تأبى مثل ذلك.
النوع الثاني: وهو أن يظن بالله سوءاً، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلما أو نحو ذلك، فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق.(63/3)
قوله: { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } . مرادهم بذلك أمران:
الأول: رفع اللوم عن أنفسهم.
الثاني: الاعتراض على القدر.
وقوله: { لنا } : خبر مقدم.
وقوله: { من شيء } : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
قوله: { إن الأمر كله لله } . أي: فإذا كان كذلك، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره، فالله - - عز وجل - - يفعل ما يشاء من النصر والخذلان.
قوله: { إن الأمر } واحد الأمور لا واحد الأوامر، أي: الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله - سبحانه، فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله.
قوله: { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } . أي: ما لا يظهرون لك، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق، فيخفي نفسه ما لا يبديه لغيره، لأنه يرى من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان.
قوله: { ما قتلنا هاهنا } . أي: في أٌحد، والمراد بمن { قتل } : من استشهد من المسلمين في أُحد، لأن عبد الله بن أُبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد، وقال (أن محمدا يعصيني ويطيع الصغار والشبان).
قوله: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } . هذا رد لقولهم: { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } .
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له، لأنه إذا كتب القتل على أحد، لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لابد أن يخرج إلى مكان موته، والكتاب قسمان:
كتابة شرعية، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } (النساء: 103) وقوله: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } (البقرة: 183).(63/4)
كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } (الأنبياء: 105)، وقوله: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } (المجادلة: 21).
قوله: { وليبتلي الله ما في صدوركم } . أي: يختبر ما في صدوركم من الإيمان بقضاء الله وقدره والإيمان بحكمته. فيختبر ما في قلب العبد بما يقدره عليه من الأمور المكروهة، حتى يتبين من استسلم لقضاء الله وقدره وحكمته ممن لم يكن كذلك.
قوله: { وليمحص ما في قلوبكم } . أي: إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر، صار في ذلك تمحيص لما في القلب، أي: تطهير له وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي.
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أُحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - (1)حين قيل له: { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } (آل عمران: 173) خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا، { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } (آل عمران: 174) (2).
قوله: { والله عليم بذات الصدور } . جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور، والمراد بها القلوب، كما قال تعالى: { فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور } (الحج: 146)، فالله لا يخفى عليه شيء فيعلم ما في القلب وما ليس في قلبه متى يكون وكيف يكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي / باب { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } (آل عمران: من الآية172) ومسلم: كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل طلحة والزبير. أما خروجهم إلى حمراء الأسد فقد أخرجه ابن كثير في تفسيره (1/ 337). وصححه ابن حجر في الفتح (8/ 228).
(2) أنظر الكلام على غزوة أحد في زاد المعاد لابن القيم وسيرة ابن هشام.(63/5)
وقوله: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } (الفتح: من الآية6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية قوله تعالى: { الظانين بالله ظن السوء } . المراد بهم: المنافقون والمشركون، قال تعالى: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء } (الفتح: 6) أي: ظن العيب، وهو كقوله فيما سبق: { ظن الجاهلية } (آل عمران: 154).
ومنه ما نقله المؤلف عن ابن قيم رحمها الله : أنهم يظنون أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك؟
قوله: { عليهم دائرة السوء } . أي: أن السوء محيط بهم جميعا من كل جانب كما تحيط الدائرة بما في جوفها، وكذلك تدور عليهم دوائر السوء، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلى عن رسوله وأن أمره سيضمحل، فإن الواقع خلاف ظنهم، ودائرة السوء راجعة عليهم.
قوله: { وغضب الله عليهم } الغضب من صفات الله الفعلية التي تتعلق بمشيئته ويترتب عليها الانتقام، وأهل التعطيل قالوا: إن الله لا يغضب حقيقة: فمنهم من قال: المراد بغضبه الانتقام.
ومنهم من قال: المراد إرادة الانتقام. قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم)(1).
فيجاب عن ذلك: بأن هذا هو غضب الإنسان، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى: { ليس كمثله شيء } (الشورى: 11) ويدل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } (الزخرف: 55) فـ { آسفونا } بمعنى أغضبونا { انتقمنا منهم } ، فجعل الانتقام مرتبا على الغضب، فدل على أنه غيره.
قوله: { ولعنهم } . اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (3/61)، والترمذي، كتاب الفتن (2191) وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي (385).(63/6)
قوله: { وأعد لهم جهنم } . أي هيأها لهم وجعلها سكنا لهم ومستقرا.
قوله: { وساءت مصيرا } . أي: مرجعا يصار إليه.
و { مصيرا } : تمييز، والفاعل مستتر، أي: ساءت النار مصيرا يصيرون إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة……وإلا فإني لا إخالك ناجياً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قال ابن القيم). هو a ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه الكبار الملازمين له رحمهما الله ، وقد ذكره في (زاد المعاد) عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها.(63/7)
قوله: (في الآية الأولى). يعني قوله { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، فسر بأن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، أي: يزول، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ويؤخذ هذا التفسير من قولهم: { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا } ، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يظهر الله على الدين كله.
ففسر بما يكون طعنا في الربوبية وطعنا في الأسماء والصفات، فالطعن في القدر طعن في ربوبية الله - - عز وجل - -، لأن من تمام ربوبيته - - عز وجل - - أن نؤمن بأن كل ما جرى في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله وسوف يضمحل أمره، لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعنى ذلك إن إرسال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبث وسفه، فما الفائدة من أن يرسل رسول ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسى؟ فهذا بعيد.
ولا سيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خاتم النبيين، فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقى إلى يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله : (وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح).
وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:
الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى: { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ابدا } (الفتح: 12).
الثاني: أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.(63/8)
الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليه الحمد، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافا كبيرا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله -- سبحانه وتعالى --.
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيها، فما بالك بالخالق الحكيم؟
قال تعالى: { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا } (ص: 27)، فالظن بأنها خلقت باطلا لا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا، وقال تعالى: { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق } (الدخان: 38- 39) الذي هو ضد الباطل، وهؤلاء قالوا: إن الله تعالى خلقهما باطلا لغير حكمة، قال الله : { ذلك ظن الذين كفروا } ، أي: الذين يظنون أن الله خلقهما باطلا وعبثا وسفها ولعبا.
والمعتزلة على العكس من ذلك، يقولون: لا يقدر إلا لحكمة، ويفرضون على الله ما يشاؤون، وقد ذكر صاحب (مختصر التحرير) الفتوحي رحمه الله : أن المسالة قولين في المذهب.
ولكن الصواب بلا ريب أنه لا يفعل شيئا ولا يقدره على عبده ولا يشرع شيئا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر.
قوله: { فويل للذين كفروا من النار } (ص: 27) { ويل } : مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة: للتعظيم، وخبر المبتدأ: { للذين كفروا } ، والجار والمجرور { من النار } بيان لويل، وفي هذا دليل على أن كلمة { ويل } كلمة وعيد وليست كما قيل: واد في جهنم، ولهذا نقول: ويل لك من البرد، ويل لك من فلان، ويقول المتوجع: ويلاه، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد.(63/9)
قوله: (وأكثر الناس). أي: من بني آدم لا من المؤمنين يظنون بالله ظن السوء، أي: العيب فيما يختص بهم، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم.
قوله: (فيما يفعله بغيرهم). كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائما، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقتضي ذلك.
قوله: (ولا يسلم من ذلك). أي: من الظن السوء.
قوله: (إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده). صدق رحمه الله ، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله - - عز وجل - - وماله من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفة تحريف وتاويل.
ولهذا حجب المحرفون والمؤولون عن معرفة أسماء الله وصفاته، فتجد قلوبهم مظلمة غالباً، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقى أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه وسلك في ذلك مذهب السلف، فإن قلبه لا يَرِدُ عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين، لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دل ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.(63/10)
أما كون كل معطل ممثلا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيء بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها، فمثلا أولا، وعطل ثانيا، ثم إنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفا من تشبيهه بالموجود، فقد شبهه بالمعدوم، وأما كون كل ممثل معطلا، فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق.
وعلى هذا، فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جرى عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وعرف موجب حكمة الله ، أي: مقتضى حكمة الله ، لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء.
وقوله: (موجب). موجب، بالفتح: هو المسبب الناتج عن السبب بمعنى المقتضي، وبالكسر: السبب الذي يقتضي الشيء بمعنى المقتضي، والمراد هنا الأول.
فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة، فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدا، لاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين وفي هزيمتهم في أُحد، فإن في ذلك حكما عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة، فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون، كمنع الإنبات والفقر، فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده، لأنه - - عز وجل - - أكرم الأكرمين، وعلى هذا فقس.
قوله: (اللبيب). على وزن فعيل، ومعناه: ذو اللب، وهو العقل.
قوله: (بهذا). المشار إليه هو الظن بالله - - عز وجل - -، ليعتني بهذا حتى يظن بالله- - عز وجل - - ظن الحق، لا ظن السوء وظن الجاهلية.
قوله: (وليتب إلى الله ). أي: يرجع إليه، لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة.
قوله: (وليستغفره). أي يطلب منه المغفرة، واللام في قوله: (فليتب) وقوله: (وليستغفره) للأمر.(63/11)
قوله: (تعنتا على القدر وملامة له). أي: إذا قدر الله شيئا لا يلائمه تجده يقول: ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصاب بالحوائج، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا.
قوله: (فمستقل ومستكثر). (مستقل): مبتدأ، خبره محذوف.
و(مستكثر): مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعي } (هود: 105) فـ (سعيد) مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد. ولا يقال بأن (سعيد) معطوف على شقي، لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد.
قوله: (وفتش نفسك: هل أنت سالم). وهذا ينبغي أن يكون في جميع المسائل مما أوجبه الله ، فتش عن نفسك: هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك: هل أنت سالم من الوقوع فيه؟
قوله: (فإن تنج منه تنج من ذي عظيمة). (تنج) الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو، (تنج) الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو.
وقوله: (من ذي عظيمة). أي: من ذي بلية عظيمة.
قوله: (وإلا، فإني لا إخالك ناجيا). التقدير، أي: وإلا تنج من هذه البلية، فإني لا إخالك ناجيا.
ومعني إخالك: أظنك، وهي تنصب مفعولين: الأول هنا الكاف، والثاني ناجيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران. وهي قوله تعالى: { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.. } وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثانية:تفسير آية الفتح. وهي قوله تعالى: { الظانين بالله ظن السوء } وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. أي: ظن السوء، والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمه الله ، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به.(63/12)
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. أي: لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسمائه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب، فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ولا تظنن بربك ظن سوء…… فإن الله أولى بالجميل
مناسبة الباب للتوحيد:
إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات، لأن الله قال في الأسماء: { ولله السماء الحسنى فادعوه بها } (الأعراف: 180) فإذا ظن بالله ظن السوء، لم تكن الأسماء حسنى، قال في الصفات: { ولله المثل الأعلى } (النحل: 60)، وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.(63/13)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في منكري القدر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): قوله: (منكري). أصله منكرين - جمع مذكر سالم - فحذفت النون للإضافة كما يحدث التنوين أيضا، قال الشاعر:
كأني تنوين وأنت إضافة…… فأين تراني لا تحل جواري
وقيل: (مكاني) بدل (جواري).
قوله: (القدر) هو تقدير الله - - عز وجل - - للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه.
قال بعض أهل العلم: القدر سر الله - - عز وجل - - في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء كان خيرا أو شرا.
والقدر يطلق على معنيين:
الأول: التقدير، أي: إرادة الله الشيء -- عز وجل --.
الثاني: المُقدّر، أي: ما قدره الله -- عز وجل --.
والتقدير يكون مصاحبا للفعل وسابقا له، فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو الذي قدره الله - - عز وجل - - في الأزل، مثال ذلك:
خلق الجنين في بطن الأم فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل، أي: تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه.
والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصا، وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات، لأنه من صفات الكمال لله - عز وجل -.
والناس في القدر ثلاثة طوائف:
الأولى: الجبرية الجهمية، اثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا: ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه، فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منه ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارا وبين أن يلقى من السطح مكرها.(64/1)
الطائفة الثانية: القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق، ونفى غلاتهم علم الله به قبل وقوعه، فأكل العبد أو شربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم.
استدل الأولون الجبرية:
بقوله تعالى: { الله خالق كل شيء } (الزمر: 62)، والعبد وفعله من الأشياء، وبقوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون } (الصافات: 96)، وبقوله تعالى: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (الأنفال: 17)، فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه، وبقوله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } (الأنعام: 148).
ولهم شبه أخرى تركناها خوف الإطالة.
والرد على شبهاتهم بما يلي:
أما قوله تعالى: { الله خالق كل شيء } ، فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله ، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة.
وأما قوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون } ، فهو حجة عليهم، لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله - - عز وجل - -، فكان الحاصل بهما مخلوقا لله.
وأما قوله تعالى: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، فهو حجة عليهم، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لكن الرمي في الآية له معنيان:
أحدهما: حذف المرمي، وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أضافه الله إليه.(64/2)
الثاني: إيصال المرمي إلي أعين الكفار الذين رماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله ، إذ ليس بمقدور النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم.
وأما قوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } ، فلعمر الله ، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها: { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } ، وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به.
ثم نقول: القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدّر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته.
فمن أدلة الكتاب:
قوله تعالى: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } (آل عمران: 152) وقال تعالى: { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } (آل عمران: 167) وقال: { إنه خبير بما تفعلون } (النمل: 88)، وقال تعالى: { والله خبير بما تعملون } (المنافقون: 11) فأثبت للعبد إرادة وقولا وفعلا وعملا.
ومن أدلة السنة:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما كل امري ما نوى)(1)
وقوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم)(2).
ولهذا إذا أُكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا.
وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر: فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الأقتداء بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (7288) ومسلم: كتاب الفضائل / باب توقيره - صلى الله عليه وسلم -.(64/3)
وأما دلالة العقل على بطلانه: فلأنه لو كان العبد مجبر على عمله، لكانت عقوبة العاصي ظلما ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة.
وأما دلالة الحس على بطلانه: فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره، كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك.
واستدل الطائفة الثانية (القدرية) بقوله تعالى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } [آل عمران: 152] { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46]، ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك.
الرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان:
نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله ، كقوله تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم - وما تشاؤون إلا إن يشاء الله رب العالمين } (التكوير: 28 -29) وقوله: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا - وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما } (الإنسان: 29 -30)،
وكقوله تعالى في العمل: { لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } البقرة: 253).
والنوع الثاني: مطلق، كقوله تعالى: { فأتوا حرثكم أني شئتم } (البقرة: 223)، وقوله: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } (الكهف: 29) وقوله: { من كان يريد العاجلة... } إلى قوله تعالى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } (الإسراء 18-19)(64/4)
وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم.
الثاني: أن إثبات استقلال العبد بعمله من كونه مملوكا لله تعالى يقتضي إثبات شيء في ملك الله لا يريده الله ، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (القدرية مجوس هذه الأمة)(1).
الثالث أن نقول لهم: هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد؟ فسيقول غير الغلاة منهم: نعم، نقر بذلك، فنقول وهل وقع فعلهم على وفق علم الله أو على خلافه؟ فإن قالوا: على وفقه، قلنا: إذاً قد أراده، وإن قالوا: على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خُصموا، وإن أنكروه، كفروا.
وهاتان الطائفتان - الجبرية والقدرية - ضالتان طريق الحق، لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر، فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر.
ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم:
الطائفة الثالثة: أهل السنة والجماعة، والطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة، فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارا وقدرة، فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم، فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى، لا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله - - عز وجل - -، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم - وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ، فإذا شاء العبد شيئا وفعله، علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهو مشهور عند أهل العلم لكن فيه ضعف.(64/5)
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة القدر.
وأدلتهم على الإثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته.
وبهذا نعرف أن كلاً من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدي الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
حكاية:
مما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزليا ايضا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فقال عبد الجبار على الفور: سبحان من تنزه عن الفحشاء ! فقال أبو إسحاق فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق: أيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى على بالردى، أحسن إلى أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق: إن كان منعك ما هو لك، فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له، فيختص برحمته من يشاء. فانصرف الحاضرون وهم يقولون: والله، ليس عن هذا جواب. أ.هـ.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في (العقيدة الواسطية) فلتراجع هناك.
مراتب القدر:
وهي أربع يجب الإيمان بها كلها:
المرتبة الأولى: العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلا، فعلم ما كان وما يكون، فكل شيء معلوم لله، سواء كان دقيقا أم جليلا من أفعاله أو أفعال خلقه.(64/6)
ودليل ذلك من الكتاب كثيرة، منها: قوله تعالى: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59] فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر، فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى.
ولا حظ سعة علم الله - - عز وجل - - وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق، فهذه ظلمات متعددة: ظلمة الطبقة الأرضية، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الأمواج، وظلمة الليل، فكل هذا داخل في قوله تعالى: { ولا حبة في ظلمات الأرض } ، ثم جاء العموم المطلق: { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ، ولا كتابة إلا بعد علم.
ففي هذه الآيات إثبات العلم وإثبات الكتابة.
ومنها قوله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [الحج: 70] ففي الآية أيضا إثبات العلم وإثبات الكتابة.
المرتبة الثانية: الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان.
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي عامة، ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته، فلا يكون في ملكه مالا يريد أبدا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله مخلوق، قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (يس: 82) وقال تعالى: { ولو شاء ربك ما فعلوه } (الأنعام: 112) وقال تعالى: { لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } الآية (البقرة: 253).(64/7)
المرتبة الرابعة: الخلق، فما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى: { الله خالق كل شيء } (الزمر: 62)، وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان، ولأن فعله نتج عن أمرين:
إرادة جازمة.
قدرة تامة.
والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة التامة، ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال بنقض العزائم، وصرف الهمم.
والعبد يتعلق بفعله شيئان:
خلق، وهذا يتعلق بالله.
مباشرة، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى: { جزاء بما كانوا يعملون } (الواقعة: 24)، وقال تعالى { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (النحل: 32) ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثابته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع، وقد جمعت في بيت:
علم كتابة مولانا مشيئته…… وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وهناك تقديرات أخرى نسبية:
منها: تقدير عمري: حين يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد (1).
ومنها: التقدير الحولي: وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم } (الدخان: 4).
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث (3208)، ومسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الأدمي في بطن أمه، حديث (2643)، وأبو داود، حديث (4708) والترمذي، حديث (2137) وابن ماجة، حديث (76).(64/8)
ومنها التقدير اليومي: كما ذكره بعض أهل العلم(1) واستدل له بقوله تعالى: { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } (الرحمن: 29) فهو كل يوم يغني فقيرا، ويفقر غنيا، ويوجد معدوما، ويعدم موجودا، ويبسط الرزق ويقدرُهُ، وينشي السحاب والمطر وغير ذلك.
فإن قيل: هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره؟
الجواب: لا ينافيه، لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله ، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أقبل على الشام، وقالوا له: إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم: نرجع. فعزم على الرجوع، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال: يا أمير المؤمنين! أفرارا من قدر الله ؟ فأجاب عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله (2).
يعني: أن مضينا في السفر بقدر الله ، ورجوعنا بقدر الله ثم ضرب له مثلا، قال: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله ، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله ؟
وقال أيضا: أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخصبة، أكنت معجزة؟ قال: نعم. قال: فسر إذن. ومعنى معجزة: ناسبا إياه إلى العجز.
فالإنسان وإن كان يفعل، فإنما يفعل بقدر الله .
فإن قيل: إذا تقرر ذلك، لزم أن يكون العاصي معذورا بمعصيته، لأنه عصي بقدر الله ؟
أُجيب: إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر.
__________
(1) انظر شفاء العليل للعلامة ابن القيم (رحمه الله ).
(2) البخاري: كتاب الطب / باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم: كتاب السلام / باب الطاعون والطيرة.(64/9)
أما بطلانه بالشرع: فقد قال الله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله ، فرد الله عليهم بقوله: { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، وقال تعالى: { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } (الأنعام: 148)، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله ، وقال تعالى: { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165] فابطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل، لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله .
وأما بطلانه بالنظر، فنقول: لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبها كذا وكذا، ووظيفة أخرى أقل منها، فإنك سوف تطلب الأعلى، فإن لم يكن، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شيء منها، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل منها، فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها مع أول الناس.
وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه كل يوم خمس مرات، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة، فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة؟
مثال آخر: رجل قال: عسى ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج، فنقول: تزوج حتى يأتيك. فقال: لا. فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج، فإن الله بمشيئتة قد يرزقه الولد المطلوب.(64/10)
وكذلك من يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك، فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك.
فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة جامعة مانعة نافعة: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار).قالوا: يا رسول الله ! أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)(1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطانا كلمة واحدة، فقال: (اعملوا...)، وهذا فعل أمر، (فكل ميسر لما خلق له).
وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة، منها:
أنه من تمام توحيد الربوبية.
أنه يوجب صدق الاعتماد على الله - - عز وجل - -، لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله .
أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة.
منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملا يشكر عليه، لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* كيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (الحديد: 22-23)، أي: فرح بطر وإعجاب بالنفس.
عدم حزنه على ما أصابه، لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة.
أن الإنسان يفعل الأسباب، لأنه يؤمن بحكمة الله - عز وجل - وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير / باب (فأما من أعطى وأتقى)، حديث (4949)، ومسلم: كتاب القدر / باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، حديث (2647).(64/11)
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والذي نفس ابن عمر بيده). الصيغة هنا قسم، جوابه: جملة (لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر). وابن عمر - رضي الله عنه وعن أبيه - ذكر حكمهم بالنسبة لقبول عملهم ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أُناسا من البصرة يقولون: إن الله - - عز وجل - - لم يقدر فعل العبد وإن الأمر أُنف، وانه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه، فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله: (ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر)، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر، لقوله تعالى: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } (التوبة: 54)، ثم استدل ابن عمر بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة، فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ، كما قال تعالى: { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا } (النساء: 150- 151).
__________
(1) مسلم: كتاب الايمان، باب الايمان والاسلام والاحسان، حديث (8)، وأبو داود، حديث (4695)، والترمذي، حديث (2610)، والنسائي، حديث (4990)، وابن ماجة، حديث (63).(64/12)
ووجه استدلال ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الإيمان مبنيا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان، سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئا واحدا من هذه الأركان الستة، صار كافرا، وإذا كان كافرا، فإن الله لا يقبل منه.
قوله: (أن تؤمن بالله). والإيمان بالله - - عز وجل - - يتضمن أربعة أمور:
الإيمان بوجوده.
وبربوبيته.
وبألوهيته.
وبأسمائه وصفاته.
فمن أنكر وجود الله ، فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل شيء، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أنكر أن يكون مختصا بها، فهو غير مؤمن بالله.
قوله: ((وملائكته). والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
الإيمان بوجودهم.
الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم.
الإيمان بأفعالهم.
الأيمان بصفاتهم.
فممن علمنا صفاته جبريل - عليه السلام -، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح، وقد سد الأفق، كما أخبرنا بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدا، فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي أحياناً بصورة بشر، فأتى مرة بصورة دحية الكلبي، وأتى مرة بصورة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر سفر ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسة المتعلم المتأدب.
قوله: (وكتبه). أي: الكتب التي أنزلها على رسله.
والإيمان بالكتب يتضمن ما يلي:
الإيمان بأنها حق من عند الله .
تصديق أخبارها.
التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلى هذا، فلا يلزمنا أن نلتزم بأحكام الكتب السابقة، لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن.
وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن، لأن القرآن فيه أشياء منسوخة.
الإيمان بما علمناه معينا منها، مثل التوراة، والأنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى.(64/13)
الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب، كما قال الله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب } (الحديد: 25) وقال عيسى { إني عبد الله آتاني الكتاب } (مريم: 30)، وقال عن يحي { يا يحي خذ الكتاب بقوة } (مريم 12).
تنبيه:
الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان، فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب.
قوله: (ورسله). هم الذين أوحى الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق ليبلغوا شريعة الله .
والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي:
أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون.
أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام، ما لم تنسخ.
أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه، فنؤمن بهم على سبيل الإجمال، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله - - سبحانه وتعالى - - أرسل لكل أمة رسولا تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى: { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (النساء: 165).
والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورون، لأنهم يقولون: يا ربنا! ما أرسلت إلينا رسولا، كما قال تعالى: { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } (طه: 134) فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق.
فإن قيل: قوله تعالى: { على فترة من الرسل } (المائدة: 119) يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول، فهل قامت عليه الحجة؟(64/14)
الجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة، لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في (صحيحه): (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب(1)، وكما قال تعالى: { فلو لا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم } (هود: 116)
قوله: (واليوم الآخر). أي: اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبرى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في (العقيدة الواسطية)، وهو كتاب مختصر، لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه.
وعلى هذا، فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً بهماً من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيه من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر.
ومنه ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به.
قوله: (تؤمن بالقدر خيره وشره). هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف، لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها / باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، حديث (2865).(64/15)
والإيمان بالقدر: هو أن تؤمن بتقدير الله - - عز وجل - - للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله - - عز وجل - -قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم، فالعلم سابق على الكتابة، ثم أنه ليس كل معلوم الله - - سبحانه وتعالى - - مكتوبا، لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله - - عز وجل - -، لكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه مكتوبة.
وهذا القدر، قال بعض العلماء: إنه سر من أسرار الله ، وهو كذلك لم يطلع عليه أحدا، ولا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، إلا ما أوحاه الله - - عز وجل - - إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا، فإنه سر مكتوم، قال تعالى: { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } الآية (لقمان: 34)، وإذا قلنا: إنه سر مكتوم، فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته، لأننا نقول لهذا الذي عصى الله - - عز وجل - - وقال هذا مقدر علىّ: ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت، أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟
قال تعالى: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } (الصف: 5) فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين.
وقوله: (خيره وشره). الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه.
ومعلوم أن المقدورات خير وشر، فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا.
وإذا كان القدر من الله ، فكيف يقال: الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله ؟(64/16)
فالجواب: أن الشر لا ينسب إلى الله ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والشر ليس إليك)(1) فلا ينسب إليه الشر لا فعلا ولا تقديرا ولا حكما بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (الروم: 41)، تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجى به من العاقبة الحميدة، وهى الرجوع إلى الله - - عز وجل - -، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي: ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار، فالكي شر، لكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شرا محضا بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر، صار ذلك شرا بالنسبة له، وقد يكون خيرا له من وجه آخر، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به، فيكون خيرا، قال تعالى: في القرية التي اعتدت في السبت: { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } (البقرة: 65).
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله.
__________
(1) مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب الدعاء في صلاة المسافرين وقصرها، وباب الدعاء في صلاة الليل وقيامة، حديث (771)، وأبو داود، حديث (760) والترمذي، حديث (3422) والنسائي، حديث (897).(64/17)
وكم من إنسان أذنب ذنبا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرا منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } (الأعراف: 23) فقال تعالى: { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } (طه 122).
والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالهم بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم - صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدا، وصارت حالهم أيضا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } (التوبة: 118)، فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه، وهذا شيء عظيم.(64/18)
وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن ها هنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله - - سبحانه وتعالى --، فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه، فهو خير، والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخير بيديك، والشر ليس إليك(1)، ولم يقل الشر بيديك، فلا ينسب الشر إلى الله أبدا، فضلا عن أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء، فالله لا يريد بقضاء الشر شرا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك، فهو وإن كان شرا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرا محضا، حتى المقضي وإن كان شرا ليس شراً محضا، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر من محل خير في محل آخر.
ولنضرب لذلك مثلا: الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } (الروم: 41)، والرجوع إلى الله -- عز وجل --من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيرا كثيرا، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح، ولهذا قال: { لعلهم يرجعون } ، وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله واشتغلوا بالمال، فإذا أُصيبوا بفقر، رجعوا إلى الله ، وعرفوا أنهم ضالون، فهذا الشر صار خير باعتبار آخر.
__________
(1) سبق تخريجه.(64/19)
كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له، فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضا خير في غير السارق، فإن فيه ردعا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضا حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه سرق ستقطع يده، امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس، ولهذا قال بعض الزنادقة:
يد بخمس مئين عسجدا وديت
تناقض ما لنا إلا السكوت له ... ما بالها قطعت في ربع دينار
ونستجير بمولانا من النار
لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما، فقيل فيه:
قل للمعري عار أيما عارِ جهل
يد بخمس مئين عسجدا وديت
حماية النفس أغلاها وأرخصها ... الفتى وهو من ثوب التقى عاري
لكنها قطعت في ربع دينار
حماية المال فافهم حكمة الباري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لأبنه: يابني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: ربّ ! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من مات على غير هذا، فليس مني(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في حديث عبادة: (أنه قال لابنه: يا بني!...) الخ.
أفاد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله، وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال: (يا بني) وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر.
__________
(1) أبو داود: كتاب السنة / باب في القدر، حديث (4700)، والترمذي، حديث (2155)، وصححه الشيخ الألباني في المشكاة، (94).(64/20)
قوله: (لن تجد طعم الإيمان). هذا يفيد أن للإيمان طعما كما جاءت به السنة، وطعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة، فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتى بعدها طعام آخر أزالها، لكن طعم الإيمان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله - - عز وجل - -، فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة، فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم.
قوله: (حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك). قد تقول: ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل، لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلا بد أن نعرف معنى هذه العبارة، فتحمل هذه العبارة على أحد المعنيين أو عليهما جميعا:
الأول: أن المعنى (ما أصابك)، أي: ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة، لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب.
الثاني: ما أصابك، فلا تفكر أن يكون مخطئا لك، فلا تقل: لو أني فعلت كذا ما حصل كذا، لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك، فكل التقديرات التي تقدرها وتقول: لو أني فعلت كذا ما حصل كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئا، وأيا كان، فالمعنى صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلا بد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبا للإنسان، فإنه لن يمنعه شيء، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت طعم الأيمان، لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لابد أن يقع على ما وقع عليه، ولا يمكن أن يتغير أبدا.(64/21)
مثال ذلك: رجل خرج بأولاده للنزهة، فدبّ بعض الأولاد إلى بركة عميقة، فسقط، فغرق، فمات، فلا يقول: لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لابد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير، فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضى، ويعرف أنه لا مفر، وأن كل التقديرات والتخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضى ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير - لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } (الحديد: 22-23).
فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك، ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة، فتجده يعمل أعمالا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله - - عز وجل - - مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره.
قوله: (وما أخطأك لم يكن ليصيبك). نقول فيه مثل الأول، يعني: ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدا سمع بموسم تجارة في بلد ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات، نقول له: ما أخطأك من هذا الربح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك، مهما كان ومهما عملت، أو نقول: لم يكن ليصيبك، لأن الأمر لابد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان.
ثم استدل لما يقول بقوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول): إن أول ما خلق الله القلم). القلم بالرفع، وروي بالنصب.
فعلي رواية الرفع يكون المعني: أن أول ما خلق الله هو القلم، لكن ليس من كل المخلوقات، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.(64/22)
وأما على رواية النصب، فيكون المعنى: أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه له، يعني، : خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلى هذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول الذي هو الرفع: هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟
الجواب: لا، لأننا لو قلنا: إن القلم أول المخلوقات، وإنه أٌمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء، وأن أول بدء خلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله - - عز وجل - -، خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله -- عز وجل -- لأن الله -- عز وجل --لم يزل ولا يزال خالقا، وعلى هذا فيكون: إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن.
قال أهل العلم: وتأويله: أن المعنى: أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من مخلوقات، كالسماوات والأرض... فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته:
والناس مختلفون في القلم الذي كتب…… القضاء به من الديّان
هل كان قبل العرش أو هو ……بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه قبل ……الكتابة كان ذا أركان(64/23)
قوله: (فقال له: اكتب). القائل هو الله - - عز وجل - - يخاطب القلم، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة فصلت: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 9-11]، أي: لابد أن تنقادا لأمر الله طوعا أو كرها، فكان الجواب: { قالتا أتينا طائعين } ، فقد خاطب الله السماوات والأرض وأجابتا ودل قوله: { طائعين } على أن لها إرادة وأنها تطيع، فكل شيء أمام الله ، فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل.
قوله: (قال: ربي وماذا أكتب؟). (ماذا): اسم استفهام مفعول مقدم، و(اكتب): فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، هذا إذا ألغيت (ذا)، أما إذا لم تلغ، فنقول: (ما) اسم استفهام مبتدأ، و(ذا) خبره، أي: ما الذي أكتب؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره: ما الذي أكتبه؟
وفي هذا دليل على أن الأمر الجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا، فإننا نقول: إذا كان الأمر مجملا، فإن طلب استبانته لا يكون معصية، فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله - - سبحانه وتعالى - -، ومع ذلك قال: (رب وماذا أكتب؟) قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فكتب المقادير.
فإن قيل: هل القلم يعلم الغيب؟
فالجواب: لا، لكن الله أمره، ولا بد أن يمتثل لأمر الله ، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادا بالنسبة لمفهومنا، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه، لأن الله إذا أراد شيئا قال: كن، فيكون على حسب مراد الله .(64/24)
و(كل): من صيغ العموم، فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين.
قوله: (حتى تقوم الساعة). الساعة هي القيامة، وأطلق عليه لفظ الساعة، لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة، يعني: الساعة لمعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور.
قوله: " يابني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من مات على غير هذا ". أي: الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء.
قوله: (فليس مني). تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه كافر، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بري من كل كافر.
ويستفاد من هذا الحديث:
ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله (يا بني).
أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها، وذلك أنه لم يقل: إن الله كتب... وسكت، ولكنه اسند إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمثلا: إذا أردت أن تقول لأبنك: سم الله على الأكل، واحمد الله إذا فرغت، فإنك إذا قلت ذلك يحصل به المقصود، ولكن إذا قلت سم الله على الأكل واحمد الله إذا فرغت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتسمية عند الأكل، وقال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها، ويشرب الشربة ويحمده عليها)(1)، إذا فعلت ذلك استفدت بفائدتين: -
الأولى: أن تعود ابنك على اتباع الأدلة.
الثانية: أن تربيه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، وهذه في الحقيقة كثيرا ما يغفل عنها، فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية لأحمد:
__________
(1) مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب، حديث (2734)، والترمذي، حديث (1816).(64/25)
(إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي رواية لأحمد: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب...).
هذه الرواية تفيد أمرا زائدا على ما سبق، وهو قوله: (فجرى في تلك الساعة)، فإنه صريح في أن القلم امتثل، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالا لأمر الله تعالى، فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله - - سبحانه وتعالى - - كل شيء إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك على الله يسير } (الحج: 70)، وقال تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } ، أي: من قبل أن نبرأ الخليقة، { إن ذلك على الله يسير } (الحديد: 22)
قوله: (إلى يوم القيامة). هو يوم البعث، وسمي يوم القيامة، لقيام أمور ثلاثة فيه:
الأول: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى { ليوم عظيم - يوم يقوم الناس لرب العالمين } (المطففين: 5-6).
الثاني: قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم، لقوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } (غافر: 51)
الثالث: قيام العدل، لقوله تعالى: { ونضع الموازيين القسط ليوم القيامة } (الأنبياء: 47).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أحرقه الله بالنار)(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي رواية لابن وهب). ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث.
__________
(1) رواه أحمد (5/317)، حديث (2275).
(2) ابن وهب في القدر(26).(64/26)
قوله: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار). وهذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم الإيمان إلا به، وأما من لم يؤمن به، فإنه يحرق بالنار.
وقوله: (أحرقه الله بالنار) بعد قوله (فمن لم يؤمن) يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار، لأن لدينا ثلاث مقامات:
الأول: الإيمان والجزم بالقدر بمراتبه الأربع.
الثاني: إنكار ذلك.
وهذان واضحان، لأن الأول إيمان والثاني كفر.
الثالث: الشك والتردد.
وهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال: (فمن لم يؤمن)، ودخل هذا النفي من أنكر ومن شك.
وفي قوله: (أحرقه الله بالنار) دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون لها بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما(1)، يعني: فحما أسود، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: { وذوقوا عذاب الحريق } (الحج: 22)، وفي قوله تعالى: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } (النساء: 56).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: (لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار). قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه(2).
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار، حديث (6560) ومسلم: كتاب الايمان / باب معرفة طريق الرؤية، حديث (183).
(2) أبو داود: كتاب السنة /باب في القدر، حديث (4699)وابن ماجة، حديث (77)، وصححه الشيخ الألباني في ظلال الجنة (245).(64/27)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في نفسي شيء من القدر). لم يفصح عن هذا الشيء، لكن لعله لما حدثت بدعة القدر، وهي أول البدع حدوثاً صار الناس يتشككون فيه ويتكلمون فيها. وإلا، فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق، ولا سيما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وأمرهم بأن لا يتنازعوا وأن لا يختلفوا، فكف الناس عن هذا(1)، حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشُّبه، فلهذا يقول ابن الديلمي: (في نفسي شيء من القدر...).
قوله: (فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي). أي: يذهب هذا الشيء، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضي الله عنهم، كأُبيّ بن كعب، فلكل داء طبيب.
قوله: (لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر). هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الذي لا تقبل منهم النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: (حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك). قد سبق الكلام على هذه الجملة.
قوله: (ولو مت). (مُت) بالضم، لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخرى بالكسر (مِت)، كما في قوله تعالى: { ولإن مِتم أو قتلتم } (آل عمران: 158) في إحدى القراءتين، وهي على هذه القراءة من مات يميت بالياء.
قوله: (على غير هذا، لكنت من أهل النار). جزم أُ بَيّ بن كعب رضي الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار، لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها.
وهل هذا الدواء يفيد؟
__________
(1) رواه ابن ماجة في المقدمة: باب في القدر، حديث (85)، وقال البوصيري في الزوائد: اسناده صحيح رجالة ثقات.(64/28)
الجواب: نعم يفيد، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا، فلا بد أن يرتدع، ولابد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: (فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك). المشار إليه الإيمان بالقدر، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهؤلاء هم العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن.
فأُبَيّ بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة: (لم يكن...) البينة، وقال: (إن الله أمرني أن أقرأها عليك)، فقال: يا رسول الله ! سماني الله لك. قال: (نعم). فبكى رضي الله عنه بكاء فرح أن الله - - عز وجل - - سماه باسمه لنبيه، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة(1).
وأما عبد الله بن مسعود، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)(2).
وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب القرآن في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -(3).
وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي اسر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء المنافقين(4).
والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع.
مسألة: الإيمان بالقدر هل هو متعلق بتوحيد الربوبية، أو الألوهية، أو بالأسماء والصفات؟
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب / باب مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه، حديث (3809)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق، حديث (799).
(2) رواه ابن ماجة، في المقدمة، باب فضل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، حديث (138).
(3) البخاري: كتاب فضائل القرآن / باب جمع القرآن، حديث (4986)، والترمذي (3103).
(4) البخاري: كتاب فضائل الصحابة / باب مناقب عمار وحذيفة.(64/29)
الجواب: تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالألوهية وبالأسماء والصفات، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضا ظاهر، لأن الألوهية بالنسبة لله يسمى توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمى توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد، فلها تعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة.
مسألة: هل أختلف الناس في القدر؟
الجواب: نعم، اختلفوا فيه على ثلاث فرق، وقد سبق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان به.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار بأن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله .
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. دليله قوله: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خير وشره).
الثانية: بيان كيفية الإيمان. أي: بالقدر، وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر، لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارا في بيت واحد، وهو قوله:
علم كتابة مولانا مشيئته…… وخلقه وهو إيجاد وتكوين
والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر.(64/30)
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به. تؤخذ من قول ابن عمر: (لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله منه حتى يؤمن بالقدر)، ويتفرع منه ما ذكرناه سابقا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل.
الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. أي: بالقدر، وهو كذلك، لقول عبادة بن الصامت لابنه: يا بني ! إنك لن تجد طعم الإيمان... الخ
وقد سبق الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة الإنسان بما قضاه الله - - عز وجل - - ويستريح، لأنه علم أن هذا الأمر لابد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدا، (ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن لو تفتح عمل الشيطان(1)، ولا ترفع شيئا وقع مهما قلت.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله . ظاهر كلام المؤلف: الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله ، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله ، لأنه ثبت في (صحيح البخاري): (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شيء)(2)، وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق بالنسبة لما يتعلق بهذا العلم المشاهد، فهو قبل السماوات والأرض، فتكون أوليته نسبية.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة. لقوله في الحديث:
(فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)
وفيه أيضا من الفوائد توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأنه يعقل أمر الله ، لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال: (ماذا أكتب؟).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري: كتاب التوحيد / باب وكان عرشه على الماء.(64/31)
السابعة: براءته - صلى الله عليه وسلم - بمن لم يؤمن به. لقوله: (من مات على غير هذا، فليس مني)، وهذه البراءة مطلقة، لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء. لأن ابن الديلمي: يقول: (فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، بعد أن أتى أُبيّ بن كعب، فدل هذا على أن من عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم.
وفيه أيضا مسالة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم للتثبت، لأن ابن الديلمي سأل عدة علماء، أما سؤال أكثر من عالم لتتبع الرخص، فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود، فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنا وكثر الزنى في أشرافهم، غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وزنى رجل بامرأة قالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئا آخر، لأجل أن يتتبعوا الرخص.(64/32)
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط. لقول بن الديلمي: (كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وهذا مزيل للشبهة، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله، زالت الشبهة تماما، لكن تزول عن المؤمن، أما غير المؤمن، فلا تنفعه، فالله - - عز وجل - - يقول: { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } (يونس: 101) وقال: { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } (يونس: 96-97) لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله، كما قال تعالى: { وما كان لمؤمن أو مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (الأحزاب: 36)، ولهذا ما قالت عائشة للمرأة: (كان يصيبنا ذلك - تعني الحيض -، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)(1) لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يؤمن، لهذا يذكر الله - - عز وجل - - إحياء الموتى ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك، فقال في أدلة العقل: { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } (الروم: 27) فهذه دلالة عقلية، فالعقل يؤمن إيمانا كاملا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى. وذكر أدلة حسية منها قوله تعالى { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى } (فصلت: 39) فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتُطمئن الموافق.
__________
(1) البخاري كتاب الحيض / باب لا تقضي الحائض الصلاة، حديث (321)، ومسلم: كتاب الحيض/ باب وجود قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، حديث (335)، وأبو داود، حديث (262)، والنسائي، حديث (382).(64/33)
وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة، فلا مانع أيضا أن تأتي به للاستدلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث أن أبا المعالي الجويني - غفر الله لنا وله - كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال له الهمداني: - دعنا من ذكر العرش، فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا الله ! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو). فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني.
فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية.
وأشدها إقناعا للمؤمن هو الدليل السمعي، لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقا.
- - - - -(64/34)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في المصورين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة.أخرجاه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (باب ما جاء في المصورين). يعني: من الوعيد الشديد.
ومناسبة هذا الباب للتوحيد: أن في التصوير خلقا وإبداعا يكون به المصور مشاركا لله تعالى في ذلك الخلق والإبداع.
قوله في الحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي). ينتهي سند هذا الحديث إلى الله - - عز وجل - - ويسمى حديثا قدسيا، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب
قوله (ومن أظلم). (من): اسم استفهام والمراد به النفي، أي لا أحد أظلم، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفهام كان أبلغ من النفي المحض، لأنه يكون مشربا معنى التحدي والتعجيز.
فإن قيل: كيف يجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } (البقرة: 114)، وقوله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } (الأنعام: 21) وغير ذلك من النصوص؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعنى أنه مشتركة في الأظلمية، أي أنها في مستوى واحد في كونها في قمة الظلم.
الثاني: أن الأظلمية نسبية، أي لا أحد أظلم من هذا في نوع هذا العمل لا في كل شيء، فيقال مثلا: من أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله ، ومن أظلم في منع حق ممن منع مساجد الله ، ومن أظلم في افتراء الكذب ممن افترى على الله كذبا.
قوله: (يخلق). حال من فاعل ذهب، أي: ممن ذهب خالقا.
والخلق في اللغة: التقدير، قال الشاعر:
__________
(1) البخاري: كتاب اللباس/ باب نقض الصور، حديث (5953)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة / باب تحريم تصوير صورة الحيوان، حديث (2111).(65/1)
ولأنت تفري ما خلقت…… وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
تفري، أي: تفعل، ما خلقت، أي: ما قدرت.
ويطلق الخلق على الفعل بعد التقدير، وهذا هو الغالب، والخلق بالنسبة للإنسان يكون بعد تأمل ونظر وتقدير، أما بالنسبة للخالق، فإنه لا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه، فالخلق بالنسبة للمصور يكون بمعنى الصنع بعد النظر والتأمل.
قوله: (يخلق كخلقي). فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله ، وقد سبق الكلام على هذا والجواب عنه في أول الكتاب.
قوله: (فليخلقوا ذرة). اللام للأمر، والمراد به التحدي والتعجيز، وهذا من باب التحدي في الأمور الكونية، وقوله تعالى: { فليأتوا بحديث مثله } (الطور: 34) من باب التحدي في الأمور الشرعية.
والذرة: واحدة الذر، وهي النمل الصغار، وأما من قال: بأن الذرة هي ما تتكون منه القنبلة الذرية فقد أخطأ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الصحابة بلغة العرب وهم لا يعرفون القنبلة الذرية، وذكر الله الذرة لأن فيها روحا، وهي من أصغر الحيوانات.
قوله: (أو ليخلقوا حبة). (أو) للتنويع، أي: انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع من الشعير وغيره وليس لها روح.
قوله: (أو ليخلقوا شعيرة). يحتمل أن المراد شجرة الشعير، فيكون في الأول ذكر التحدي بأصل الزرع وهي الحبة، ويحتمل أن المراد الحبة من الشعير ويكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن حبة الشعير أخص من الحب.
أو تكون (أو) شكا من الراوي.
فالله تحدى الخلق إلى يوم القيامة أن يخلقوا ذرة أو يخلقوا حبة أو شعير.
فإن قيل: يوجد رز أمريكي مصنوع.(65/2)
أجيب: إن هذا المصنوع لا ينبت كالطبيعي، ولعل هذا السر في قوله: (أو ليخلقوا حبة)، ثم قال: (أو ليخلقوا شعيرة)، لأن الحبة إذا غرست في الأرض فلقها الله ، قال تعالى: { إن الله فالق الحب والنوى } (الأنعام: 95)، وقال تعالى: { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } أي: اجتمعوا لخلقه متعاونين عليه وقد هيؤوا كل ما عندهم، { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } (الحج: 73)
قال العلماء: لو أن الذباب وقع على هذه الأصنام فامتص شيئا من طيبها ما استطاعوا أن يستنقذوه منه، فيكون الذباب غالبا لها، { ضعف الطالب } ، أي: العبد والمعبود، { والمطلوب } ، أي: الذباب.
ويستفاد من هذا الحديث، وهو ما ساقه المؤلف من أجله: تحريم التصوير، لأن المصور ذهب يخلق كخلق الله ليكون مضاهيا لله في صنعه، والتصوير له أحوال:
الحال الأولى: أن يصور الإنسان ما له ظل كما يقولون، أي: ماله جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها، فهذا أجمع العلماء فيما أعلم على تحريمه، فإن قلت: إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله ، ولكن صور عبثا، يعني صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئا على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله ، بل قصد العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به، فهل يدخل في هذا الحديث؟
فالجواب: نعم، يدخل في هذا الحديث، لأنه خلق كخلق الله ، ولأن المضاهاة لا يشترط فيه القصد، وهذا هو سر المسألة، فمتى حصلت المضاهاة ثبت حكمها، ولهذا لو أن إنسانا لبس لبسا يختص بالكفار ثم قال: أنا لا أقصد التشبه بهم، نقول: التشبه منك حاصل أردته أم لم ترده، وكذلك لو أن أحدا تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك وقال: ما أردت التشبه، قلنا له: قد حصل التشبه، سواء أردته أم لم ترده.(65/3)
الحال الثانية: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم لعموم الحديث، ويدل عليه حديث النٌّمرقُة حين أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير، فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أذنبت يا رسول الله ؟ فقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم(1)، فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم، وقوله في (صحيح البخاري): (إلا رقما في ثوب(2)، إن صحت الرواية هذه، فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها.
الحال الثالثة: أن تلتقط الصور التقاطا بأشعة معينة بدون تعديل أو تحسين من الملتقط، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين:
فالقول الأول: أنه تصوير، وإذا كان كذلك، فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويرا، وإذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة، فحركته تعتبر تصوير، فيكون داخلا في العموم.
القول الثاني: أنها ليست بتصوير، لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من صنع الله .
ويوضح ذلك لو أدخلت كتابا في آلة التصوير، ثم خرج من هذه الآلة، فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك، بدليل انه قد يشغلها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقا أو أعمى في ظلمة، وهذا القول أقرب، لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعا ولا مخططا، ولكن يبقي النظر: هل يحل هذا الفعل أو لا؟.
__________
(1) البخاري: كتاب اللباس / باب من كره القعود على الصور، ومسلم: كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صور الحيوان.
(2) جزء من الحديث السابق.(65/4)
والجواب: إذا كان لغرض محرم صار حراما، وإذا كان لغرض مباح صار مباحا لأن الوسائل له أحكام المقاصد، وعلى هذا، فلو أن شخصا صور أنسانا لما يسمونه بالذكرى، سواء كانت هذه الذكرى للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه، فإن ذلك محرم ولا يجوز لما فيه من اقتناء الصور، لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك، وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه، فهذا يكون مباحا، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلي هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره، وقال: صورني فصوره، فإن هذا المصور لا نقول: إنه داخل في الحديث، أي حديث الوعيد على التصوير، أما إذا قال: صورني لغرض آخر غير مباح، صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان.
الحال الرابع: أن يكون التصوير لما لا روح فيه، وهذا على نوعين:
النوع الأول: أن يكون مما يصنعه الآدمي، فهذا لا بأس به بالاتفاق، لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة، مثل أن يصور الإنسان سيارته، فهذا يجوز، لأن صنع الأصل جائز، فالصورة التي هي فرع من باب أولى.
النوع الثاني: ما لا يصنعه الآدمي، وإنما يخلقه الله ، فهذا نوعان: نوع نام، ونوع غير نام، فغير النامي، كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، أما النوع الذي ينمو، فاختلف في ذلك أهل العلم، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره لما سيأتي في الأحاديث.(65/5)
وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره، واستدل بأن هذا من خلق الله - - عز وجل - -، والحديث عام: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، لأن الله - - عز وجل - - تحدى هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة، والحبة أو الشعيرة ليس فيه روح، لكن لا شك أنها نامية، وعلى هذا، فيكون تصويرها حراما، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمة الله - أعلم التابعين بالتفسير -، وقال: (إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار، لكن جمهور أهل العلم على الجواز، وهذا الحديث هل يؤيد رأي الجمهور أو يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله؟
الجواب: يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله أمران:
أولا: العموم في قوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
ثانيا: قوله: (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، وهذه ليست ذات روح، فظاهر الحديث هذا مع مجاهد ومن يرى رأيه، ولكن الجمهور أجابوا عنه بالأحاديث التالية، وهي أن قوله: (أحيوا ما خلقتم)(1)، وقوله: (كلف أن ينفخ بها الروح)(2) يدل على أن المراد تصوير ما فيه روح، وأما قوله: (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، فذكر على سبيل التحدي، أي: أن أولئك المصورين عاجزون حتى عن خلق ما لا روح فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:
(أشدُّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ) (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (أشد). كلمة اشد اسم تفضيل بمعنى أعظم وأقوى.
قوله: (الناس) للعموم، والمراد الذين يعذبون.
وقوله: (عذابا). تمييز مبين للمراد بالأشد، لأن التمييز كما قال ابن مالك:
اسم بمعنى من بين نكرة…… ينصب تمييزا بما قد فسره
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) البخاري كتاب اللباس / باب ما وطي من التصاوير، حديث (5954)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة / باب تحريم تصوير صورة الحيوان، حديث (2107).(65/6)
والعذاب يطلق على العقاب ويطلق على ما يؤلم ويؤذي وإن لم يكن عقابا، فمن الأول قوله تعالى: { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (غافر: 46) أي: العقوبة والنكال، لأنه يدخل النار والعياذ بالله، كما قال تعالى: { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } (هود: 98)ومن الثاني قول النبي عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب)(1) وقوله (الميت يعذب بالنياحة عليه)(2).
قوله: (يوم القيامة) , هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسبق وجه تسميته بذلك.
قوله: (أشد) مبتدأ، والذين يضاهئون خبره، ومعنى يضاهئون، أي: يشابهون.
(بخلق الله )، أي: بمخلوقات الله - - سبحانه وتعالى - -.
والذين يضاهئون بخلق الله هم المصورون، فهم يضاهئون بخلق الله سواء كانت هذه المضاهاة جسمية أو وصفية، فالجسمية أن يصنع صورة بجسمها، والوصفية أن يصنع صورة ملونة، لأن التلوين والتخطيط باليد وصف للخلق، وإن كان الإنسان ما خلق الورقة ولا صنعها لكن وضع فيها هذا التلوين الذي يكون وصفا لخلق الله - - عز وجل - -.
هذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون، وأنهم أشد الناس عذابا، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله - - عز وجل - - وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله ، فذلك شيء آخر، فمن صنع شيئا ليعبد من دون الله ، فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتى بخشبة وقال اعبدوها، فقد دخل في التحريم، لقوله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } (المائدة: 2)، لأنه أعان على الإثم والعدوان.
__________
(1) البخاري: كتاب الحج، باب السفر قطعة من العذاب، حديث (1804)، ومسلم: كتاب الامارة /باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر، حديث (1927).
(2) البخاري: كتاب الجنائز /باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله، حديث (1288)، ومسلم: كتاب الجنائز /باب قول الميت يعذب ببكاء أهله عليه، حديث (928).(65/7)
وقوله: (يضاهئون). هل الفعل يشعر بالنية بمعنى أنه لابد أن يقصد المضاهاة، أو نقول: المضاهاة حاصلة سواء كانت بنية أو بغير نية؟
الجواب الثاني: لأن المضاهاة حصلت سواء نوي أم لم ينو لأن العلة هي المشابهة، وليست العلة قصد المشابهة، فلو جاء رجل وقال: أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله ، أنا أصور هذا للذكرى مثلا وما أشبه ذلك، نقول: هذا حرام، لأنه متى حصلت المشابهة ثبت الحكم، لأن الحكم يدور مع علته كما قلنا فيمن لبس لباسا خاصا بالكفار: إنه يحرم عليه هذا اللباس، ولو قال: إنه لم يقصد المشابهة، نقول: لكن حصل التشبه، فالحكم المقرون بعلة لا يشترط فيه القصد، فمتى وجدت العلة ثبت الحكم.
يستفاد من الحديث:
تحريم التصوير، وأنه من الكبائر، لثبوت الوعيد عليه، وأن الحكمة من تحريمه المضاهاة بخلق الله - عز وجل -.
وجوب احترام جانب الربوبية، وأن لا يطمع أحد في أن يخلق كخلق الله - - عز وجل --، لقوله: (يضاهئون بخلق الله )، ومن أجل هذا حرم الكبر، لأن فيه منازعة للرب - - سبحانه وتعالى - - وحرم التعاظم على الخلق، لأن فيه منازعة للرب -- سبحانه وتعالى --، وكذلك هذا الذي يصنع ما يصنع فيضاهي خلق الله فيه منازعة لله - عز وجل - - في ربوبيته في أفعاله ومخلوقاته ومصنوعاته، فيستفاد من هذا الحديث وجوب احترام جانب الربوبية.
قوله: (أشد الناس عذابا). فيه إشكال، لأن فيهم من هو اشد من المصورين ذنبا، كالمشركين والكفار، فيلزم أن يكونوا أشد عذابا، وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن الحديث على تقدير (من) أي: من أشد الناس عذابا بدليل أنه جاء ما يؤيده بلفظ: (إن من أشد الناس عذابا).
الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم بل يشاركهم غيرهم، قال تعالى: { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } (غافر: 46)، لكن يشكل على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط، فكيف يسوى مع من هو خارج عن الإسلام ومستكبر؟(65/8)
الثالث: أن الأشدية نسبية، يعني أن الذين يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذابا الذين يضاهئون بخلق الله ، وهذا أقرب.
الرابع: أن هذا من باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه، ولم أر من قال بهذا، ولو قيل بهذا، لسلمنا من هذه الإيرادات، وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) (1). ولهما عنه مرفوعا: (من صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولهما). أي: للبخاري ومسلم.
قوله (كل مصور في النار). (كل): من أعظم ألفاظ العموم، وأصلها من الإكليل، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه الكلالة في الميراث للحواشي التي تحيط بالإنسان.
فيشمل من صور الإنسان أو الحيوان أو الأشجار أو البحار، لكن قوله: (يجعل له بكل صورة صورها نفس) يدل على أن المراد صورة ذوات النفوس، أي: ما فيه روح.
قوله: " يجعل له بكل صورة صورها نفس ". الحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين)، لكنه بلفظ (يجعل) بالبناء للفاعل، وهذا تكون (نفس) بالنصب، وتمامه: (فتعذبه في جهنم).
قوله: (يعذب بها). كيفية التعذيب ستأتي في الحديث الذي بعده أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
وقوله: (كل مصور في النار). أي: كائن في النار.
__________
(1) مسلم: كتاب اللباس والزينة / باب تحريم تصوير صورة الحيوان، حديث (2110).
(2) سبق تخريجه.(65/9)
وهذه الكينونة عند المعتزلة والخوارج كينونة خلود، لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار، وعند المرجئة، أن المراد بالمصور الكافر، لأن المؤمن عندهم لا يدخل النار أبدا، وعند أهل السنة والجماعة أنه مستحق لدخول النار وقد يدخلها وقد لا يدخلها، وإن دخلها لم يخلد فيها.
وقوله: " بكل صورة صورها ". يقتضي أنه لو صور في اليوم عشر صور ولو من نسخة واحدة، فإنه يجعل له في النار عشر صور يقال له: أنفخ فيها الروح، وظاهر الحديث أنه يبقي في النار معذباً حتى تنتهي هذه الصور.
قوله: " كلف ". أي: ألزم، والمكلف له هو الله - عز وجل -.
قوله: (وليس بنافخ). أي: كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه، وعذب بهذا العذاب ليذوق جزاء ما عمل، وبهذا تزداد حسرته وأسفه، حيث إنه عذب بما كان في الدنيا يراه راحة له، إما باكتساب، أو إرضاء صاحب، أو إبداع صنعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم عن أبي الهياج، قال: قال لي علي. (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع صورة، إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا، إلا سويته)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن أبي الهياج). هو من التابعين.
قوله: (قال لي علي). هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
قوله: (ألا أبعثك). البعث: الإرسال بأمر مهم، كالدعوة إلى الله ، قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } (النحل: 36).
قوله: (على ما بعثني). يحتمل أن تكون (على) على ظاهرها للاستعلاء، لأن المبعوث يمشي على ما بعث عليه، كأنه طريق له، وهذا هو الأولى، لأن ما وافق ظاهر اللفظ من المعاني فهو أولى بالاعتبار، ويحتمل أن (على) بمعنى الباء، أي: بما بعثني عليه.
__________
(1) مسلم: كتابالجنائز / باب الأمر بتسوية القبر، حديث (969)، وأبو داود، حديث (3218)، والترمذي، حديث (1049)، والنسائي، حديث (2031).(65/10)
وقد بعث النبي صلى الله عيه وسلم عليا إلى اليمن بعد قسمة غنائم حنين، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مكة في حجة الوداع(1).
وقوله: (أن لا تدع). (أن): مصدرية، (لا) نافية، (تدع): منصوب بأن المصدرية وهي بدل بعض من كل من (ما) في قوله (على ما بعثني) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث علي بن أبي طالب بأكثر من ذلك، لكن هذا مما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (صورة). نكرة في سياق النفي فتعم.
وجمهور أهل العلم: أن المحرم هو صور الحيوان فقط، لما ورد في السنن من حديث جبريل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (فمر برأس التمثال يقطع، فيصير كهيئة الشجرة)(2) وسبق بيان ذلك قريبا.
قوله: (إلا طمستها). إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالا فإنه يقطع رأسه، كما في حديث جبريل السابق، وإن كانت محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه، فالطمس يختلف، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أم لا.
قوله: (ولا قبرا مشرفا): أي عاليا.
قوله: (إلا سويته). له معنيان:
الأول: أي سويته بما حوله من القبور.
الثاني: جعلته حسنا على ما تقتضيه الشريعة، قال تعالى: { الذي خلق فسوى } (الأعلى: 2) أي: سوى خلقه أحسن ما يكون، وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان.
والإشراف له وجوه:
الأول: أن يكون مشرفا بكبر الأعلام التي توضع عليه، وتسمى عند الناس (نصائل) أو (نصائب)، ونصائب أصح لغة من نصائل.
الثاني: أن يبنى عليه، هذا من كبائر الذنوب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن المتخذين عليه المساجد والسرج)(3).
الثالث: أن تشرف بالتلوين، وذلك بأن توضع على أعلامها ألوان مزخرفة.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي، حديث (4354).
(2) الإمام أحمد في (المسند) (2/ 305). وأبو داود: كتاب اللباس /باب في الصور، حديث (4158)، والترمذي، حديث (2806)وقال: حسن صحيح.
(3) سبق تخريجه.(65/11)
الرابع: أن يرفع تراب القبر عما حوله فيكون بيِّناً ظاهرا.
فكل شيء مشرف، أي ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوى بغيره، لئلا يؤدي ذلك إلى الغلو في القبور والشرك.
(ف): قال العلامة ابن القيم رحمه الله : ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم. رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً. فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها.(65/12)
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله . ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر. وامر بتسويتها، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي - فذكر حديث الباب - وحديث ثمامة بن شُفَي وهو عند مسلم أيضاً قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه. كما روى مسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه، وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه. عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها "(1) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها. كما روى أبو داود عن جابر أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه)(2) وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار. قال
__________
(1) صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز : باب في البناء على القبر بلفظ" نهى أن يقعد على القبر وأن يتجصص ويبنى عليه" ،حديث(3225)، والترمذي: كتاب الجنائز (1052) بلفظ "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو أن يبني عليها ،وأن توطأ" .وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص(204).
(2) صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز: باب في البناء على القبر ،حديث(3225) وصححه الألباني لطرقه في أحكام الجنائز ص(204).(65/13)
إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها. وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو a المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله. ولأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه تعظيم بالأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا " متفق عليه. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها. انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً. ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره.(65/14)
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعياداً. ومنها السفر إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل لقيّمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم. فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح - عليه السلام - يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرأون منهم، كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً } [الفرقان :17- 18] قال الله تعالى للمشركين: { فقد كذبوكم بما تقولون } وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [المائدة : 116] الآية وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ(65/15)
لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله ، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والإحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريباً منه. ومنها: أن الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له. وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه والى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء. ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى أنفسهم والى الميت. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " زوروا القبور، فإنها تذكر الموت " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يأهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"(1) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
__________
(1) الترمذي: كتاب الجنائز (1053): باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر ، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز(ص197) وفي ضعيف الجامع (3371)، والحديث لم يروه الإمام أحمد كما قال المؤلف.(65/16)
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وفي الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة)(1) فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من الدعاء لأصحابها والإستغفار لهم والترحم عليهم. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " وإسناده جيد ورواته ثقات مشاهير.
قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحرير النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم.
__________
(1) صحيح: أبو داود: كتاب الصلاة: باب الدعاء ،حديث(1479)، والترمذي: كتاب الدعوات: باب في فضل الدعاء (3372)، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/30) وابن ماجة: كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء (3828)وأخرجه أحمد (4/267) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - وصححه الترمذي وابن حبان (2396) والحاكم (1/490، 491) ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الجامع (3401)، وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1384).(65/17)
ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعياداً والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الدين، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم، بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأو أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبديء ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين !!فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً.(65/18)
فلغير الله - بل الشيطان - ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام. ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنه لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا ولا بحجك كل عام.
هذا - ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور، سد الذريعة إلى هذا المحظور. وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. أ.هـ.كلامه رحمه الله تعالى.
(ق): ومناسبة ذكر القبر المشرف مع الصور:(65/19)
أن كلا منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك، فإن أصل الشرك في قوم نوح أنهم صوروا صور رجال صالحين، فلما طال عليهم الأمد عبدوها، وكذلك القبور المشرفة قد يزداد فيها الغلو حتى تجعل أوثانا تعبد من دون الله ، وهذا ما وقع في بعض البلاد الإسلامية، وقد أطال الشارح رحمه الله في هذا الباب في البناء على القبور، وذلك لأن فتنتها في البلاد الإسلامية قديمة وباقية، ما عدا بلادنا ولله الحمد، فإنها سالمة من ذلك، نسأل الله أن يديم عليها، وأن يحمي بلاد المسلمين من شرها.
عقوبة المصور ما يلي:
أنه أشد الناس عذابا أو من أشدهم عذابا.
أن الله يجعل له في كل صورة نفسا يعذب بها في نار جهنم.
أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
أنه في النار.
أنه ملعون، كما في الحديث أبي جحيفة في (البخاري) وغيره.
فائدتان:
الأولى: (كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) يقتضي أن المراد بالتصوير تصوير الجسم كاملا، وعلى هذا، فلو صور الرأس وحده بلا جسم أو الجسم وحده بلا رأس، فالظاهر الجواز، ويؤيده ما سبق في الحديث: (مر براس التمثال فليقطع)، ولم يقل: فليكسر، لكن تصوير الرأس وحده عندي فيه تردد، أما بقية الجسم بلا رأس، فهو كالشجرة لا تردد فيه عندي.
الثانية: تؤخذ من حديث على رضي الله عنه، وهو قوله: (أن لا تدع صورة إلا طمستها) أنه لا يجوز اقتناء الصور، وهذا محل لا تفصيل، فإن اقتناء الصور على أقسام:
القسم الأول: أن يقتنيها لتعظيم المصور، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أٌبوّة أو نحو ذلك، فهذا حرام بلا شك، ولا تدخل الملائكة بيتا فيه هذه الصورة، لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية.
القسم الثاني: اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها، فهذا حرام أيضا، لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق.(65/20)
القسم الثالث: أن يقتنيها للذكرى حنانا وتلطفا، : الذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر، فهذا أيضا حرام للحوق الوعيد به في قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة)(1).
القسم الرابع: أن يقتني الصور لا رغبة فيها إطلاقا، ولكنها تأتي تبعا لغيرها، كالتي تكون في المجلات والصحف لا يقصدها المقتني، وإنما يقصد ما في المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك، والظاهر أن هذا لا باس به، لأن الصور فيها غير مقصودة، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة، فهو أولى.
القسم الخامس: أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل، أو مفترشة، أو موطوءة، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة لأن في ذلك امتهانا للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية؟
الجواب: نقول: لا يلحق بذلك، بل لباس ما فيه صور محرم على الصغار والكبار، ولا يلحق بالمفروش ونحوه، لظهور الفرق بينهما، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بتحريم لباس ما فيه صورة، سواء كان قميصا أو سروالا أم عمامة أم غيرها.
وقد ظهر أخيرا ما يسمى بالحفائظ، وهي خرقة تلف على الفرجين للأطفال والحائض لئلا يتسرب النجس إلى الجسم أو الملابس، فهل تلحق بما يبس ويمتهن؟
هي إلى الثاني أقرب، لكن لما كان امتهانا خفيا وليس كالمفترش والموطوء صار استحباب التحرز منها أولى.
القسم السادس: أن يلجأ إلى اقتنائها إلجاء، كالصور التي تكون في بطاقة إثبات الشخصية والشهادات والدراهم فلا إثم فيه لعدم إمكان التحرز منه، وقد قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الخلق /باب ذكر الملائكة، حديث (3224).(65/21)
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة).
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. تؤخذ من قوله: (أشد الناس عذابا...).
الثانية: التنبيه على العلة، وهي ترك الأدب مع الله ، تؤخذ من قوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).فمن ذهب يخلق كخلق الله ، فهو مسيء للأدب مع الله - - عز وجل - - لمحاولته أن يخلق مثل خلق الله تعالى، كما أن من ضاده في شرعه فقد أساء الأدب معه.
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو شعيرة). لأن الله خلق أكبر من ذلك وهم عجزوا عن خلق الذرة أو الشعيرة.
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا. لقوله: (أشد الناس عذابا...) الحديث.
الخامسة: أن يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم. لقوله: (يجعل له بكل صورة يصورها نفس يعذب بها في جهنم).
السادسة: أن يكلف أن ينفخ فيها الروح. لقوله: (كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، وهذا نوع من التعذيب من اشق العقوبات.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. لقوله: (أن لا تدع صورة إلا طمستها).
وتؤخذ من حديث الباب أيضا: الجمع بين فتنة التماثيل وفتنة القبور.لقوله: (أن لا تدع صورة ألا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)، لأن في كل منهما وسيلة إلى الشرك.
ويؤخذ منه أيضا: إثبات العذاب يوم القيامة، وأن الجزاء من جنس العمل، لأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم.
ويؤخذ منه: وقوع تكليف في الآخرة بما لا يطاق على وجه العقوبة.
- - - - -(65/22)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (المائدة: من الآية89)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا باب ((ما جاء في كثرة الحلف))، ومن الظاهر والبيّن أن القلب المعظم لله -- جل جلاله --، الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، أنه لا يكثر الحلف، لأن كثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد؛ فإن من كَمُل التوحيد في قلبه -أو قارب الكمال- لا يجعل الله -جل وعلا- عرضة لأيمانه.
فالذي إذا تكلم تكلم بالحلف، وإذا باع باع بالحلف، وإذا اشترى اشترى بالحلف، ونحو ذلك؛لم يعظم التعظيم الواجب لله جل وعلا. فإن الواجب على العبد أن يعظم الله -جل وعلا-، وأن لا يكثر اليمين، والمقصود باليمين والحلف هنا اليمين المعقودة، التي عقدها صاحبها، أما لغو اليمين فإن هذا معفو عنه، مع أن الكمال فيه والمستحب: أن يخلص الموحد لسانه وقلبه من كثرة الحلف -في الإكرام ونحوه- بلغو اليمين.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أن تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد، والحلف -كما ذكرنا- هو تأكيد الأمر بمعظَّم، وهو الله -- جل جلاله --.
فمن أكد وعقد اليمين بالله -جل وعلا- وأكثر من ذلك، فإنه لا يكون معظِّما لله -- جل جلاله --؛ إذ الله -- سبحانه وتعالى -- يجب أن يصان اسمه، ويصان الحلف به واليمين به إلا عند الحاجة إليها.
أما كثرة ذلك وكثرة مجيئه على اللسان فهو ليس من صفة أهل الصلاح؛ ولهذا أمر الله -جل وعلا- بحفظ اليمين فقال: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (المائدة: من الآية89) وهذا الأمر للوجوب؛ لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله -جل وعلا-، وتحقيق كمال التوحيد.(66/1)
فقوله { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (المائدة: من الآية89) هذا إيجاب لأن يحفظ العبد يمينه، فلا يحلف عاقدا اليمين إلا على أمر شرعي بيِّن، أما أن يحلف دائما ويجعل الله -جل وعلا- في يمينه فهذا ليس من تعظيم أسماء الله -- جل جلاله --.
(ق): الحلف: هو اليمين والقسم، وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بأحد حروف القسم، وهي: الباء والواو، والتاء.
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن كثرة الحلف بالله يدل على أنه ليس في قلب الحالف من تعظيم الله ما يقتضي هيبة الحلف بالله، وتعظيم الله تعالى من تمام التوحيد.
وقوله الله تعالى { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (المائدة: من الآية89)
قوله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } (المائدة: من الآية89). هذه الآية ذكرها الله في سياق كفارة اليمين، وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط، فالابتداء الحلف، والانتهاء الكفارة، والوسط الحنث، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، وعلى هذا كل يمين على شيء ماض فلا حنث فيه، وما لا حنث فيه فلا كفارة فيه، لكن إن كان صادقاً، فقد بر، وإلا، فهو آثم، لأن الكفارة لا تكون إلا على شيء مستقبل.
(ف): قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الإستخفاف، وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافى كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
(ق): وهل يجوز أن يحلف على ما في ظنه؟
الجواب: نعم، ولذلك أدلة كثيرة، منها قول المجامع في نهار رمضان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والله، ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني).
لكن إن حلفت على مستقبل بناء على غلبة الظن ولم يحصل، فقيل: تلزمك كفارة، وقيل: لا تلزمك، وهو الصحيح، كما لو حلفت على ماض.(66/2)
مثاله: فلو قلت: والله، ، ليقدمن زيد غدا. بناء على ظنك، فلم يقدم، فالصحيح أنه لا كفارة عليك، لأنك حلفت على ما في قلبك وهو حاصل، كأنك تقول: والله، إن هذا هو ظني، لكن هل يجوز لك أن تحلف على ما في ظنك؟ سبق ذلك قريباً.
إذن قوله: (واحفظوا أيمانكم) بعد أن ذكر اليمين والكفارة والحنث، فما المراد بحفظ اليمين: هل هو الابتداء أو الانتهاء أو الوسط؟ أي: هل المراد لا تكثروا الحلف بالله؟ أو المراد: إذا حلفتم فلا تحنثوا؟ أو المراد: إذا حلفتم فحنثتم فلا تتركوا الكفارة؟
الجواب: المراد كله، فتشمل أحوال اليمين الثلاثة، ولهذا جاء المؤلف بها في هذا الباب، لأن من معنى حفظ اليمين عدم كثرة الحلف، وإليك قاعدة مهمة في هذا، وهي أن النص من قرآن أو سنة إذا كان يحتمل عدة معاني لا ينافي بعضها بعضا ولا مرجح لأحدها، وجب حمله على المعاني كلها.
والمراد بعدم كثرة الحلف: ما كان معقودا ومقصودا، أما ما يجرى على اللسان بلا قصد، مثل: لا والله، وبلى والله، في عرض الحديث، فلا مؤاخذة فيه لقوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } (المائدة: 89).
وكذلك من حفظ اليمين عدم الحنث فيها، وهذا فيه تفصيل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن سمرة: (إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منه، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)(1)، فحفظ اليمين في الحنث أن لا يحنث إلا إذا كان خيرا، وإلا، فالأحسن حفظ اليمين وعدم الحنث.
مثال ذلك: رجل قال: و الله لا أكلم فلانا. وهو من المؤمنين الذين يحرم هجرهم، فهذا يجب أن يحنث في يمينه ويكلمه وعليه الكفارة.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان / باب الكفارة قبل الحنث وبعده، ومسلم: كتاب الإيمان / باب ندب من حلف يمينا فرأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير.(66/3)
مثال آخر: رجل قال: والله لأعينن فلانا على شيء محرم. فهذا يجب الحنث فيه والكفارة، ولا يعينه، لقوله تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .(المائدة: 2).
وإذا كان الأمر متساويا والحنث وعدمه سواء في الإثم، فالأفضل حفظ اليمين.
كذلك من حفظ اليمين إخراج الكفارة بعد الحنث، والكفارة واجبة فورا، لأن الأصل في الواجبات هو الفورية، وهو قيام بما تقتضيه اليمين.
والكفارة: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهذا على سبيل التخيير، فمن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، وفي قراءة ابن مسعود متتابعة(1).
فحفظ اليمين له ثلاث معاني:
حفظها ابتداء، وذلك بعدم كثرة الحلف، وليعلم أن كثرة الحلف تضعف الثقة بالشخص وتوجب الشك في أخباره.
حفظها وسطا، وذلك بعدم الحنث فيها، إلا ما استثنى كما سبق.
حفظها انتهاء، في إخراج الكفارة بعد الحنث.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك معنى رابع، وهو أن لا يحلف بغير الله ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمي القسم بغير الله حلفا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب).أخرجاه (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (7/30) عن ابن مسعود، والحاكم في المستدرك (2/303)، حديث (3091) عن أبي بن كعب.
(2) البخاري: كتاب البيوع / باب { يَمْحَقُ الله الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } (البقرة: من الآية276)، مسلم: كتاب المساقاة/ باب النهي عن الحلف في البيع.(66/4)
قوله: (الحلف). المراد به الحلف الكاذب، كما بينته رواية أحمد: (اليمين الكاذبة)(1)، أما الصادقة، فليس فيها عقوبة، لكن لا يكثر منها كما سبق.
قوله: (منفقة للسلعة). أي: ترويج للسلعة، مأخوذ من النفاق وهو مضي الشيء ونفاذه، والحلف على السلعة قد يكون حلفا على ذاتها أو نوعها أو وصفها أو قيمتها.
الذات: كأن يحلف أنها من المصنع الفلاني المشهور بالجودة وليست منه.
النوع: كأن يحلف أنه من الحديد، وهي من الخشب.
الصفة: كأن يحلف أنها طيبة، وهي رديئة.
القيمة: كأن يحلف أن قيمتها بعشرة، وهي بثمانية.
قوله: (ممحقة للكسب). أي: متلفة له، والإتلاف يشمل الإتلاف الحسي بأن يسلط الله على ماله شيئا يتلفه من حريق أو نهب أو مرض يلحق صاحب المال فيتلفه في العلاج، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به دينا ولا دنيا، وكم من إنسان عنده مال قليل، لكن نفعه الله به ونفع غيره ومن وراءه، وكم من إنسان عنده أموال لكن لم ينتفع بها صار والعياذ بالله بخيلاً يعيش عيشة الفقراء وهو غني، لأن البركة قد محقت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن سلمان؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(ثلاث لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع / باب يمحق الله الربا، ومسلم كتاب المساقاة / باب النهي عن الحلف في البيع، أخرجه أحمد في مسنده (2/235)، حديث (7206)، وابن حبان (11/271)، حديث (4906)، البيهقي في الكبرى (5/265)، حديث (10189)من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)).
(2) الطبراني في الكبير (6/246)، حديث (6111)، والصغير (821)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3072).(66/5)
قوله: (ثلاثة). مبتدأ، وسوغ الابتداء بها أنها أفادت التقسيم.
قوله: (لا يكلمهم الله ). التكليم: هو إسماع القول، وأما ما يقدره الإنسان في نفسه، فلا يسمي كلاما على سبيل الإطلاق، وإن كان يسمى قولا بالتقييد بالنفس، كقوله تعالى: { ويقولون في أنفسهم لو لا يعذبنا الله } (المجادلة:8) وقال عمر - رضي الله عنه - - في قصة السقيفة: (زورت في نفسي كلاما)(1)، أي قدرته.
فالكلام عند الإطلاق لا يكون إلا بحرف وصوت مسموع.
واختلف الناس في كلام الله إلى ثمانية أقوال كما ذكره ابن القيم في (الصواعق المرسلة).
لكن إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأخذنا منها عقيدتنا صافية، وقطعنا النظر عن هذه المجادلات لأنه ما أوتى الجدل قوم إلا ضلوا، علمنا أن كلام الله حقيقي يسمع، ولكن الصوت ليس كأصوات المخلوقين، أما ما يسمع من كلام الله ، فلا شك أنه بحرف يفهمها المخاطب، إذ لو كان يتكلم بحروف لا تشبه الحروف التي يتكلم بها المخاطب لم يفهم كلامه أبدا، فالحروف التي تسمع هي حروف اللغة التي يخاطب الله بها من يخاطبه، والله - - عز وجل - يخاطب كل أحد بلغته.
ونفي الكلام هنا دليل على إثبات أصله، لأن لما نفاه عن قوم دل على ثبوته لغيرهم.
وبهذه الطريقة استدل بعض أهل العلم على إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين بقوله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } (المطففين: 15).فما حجب الفجار عن رؤيته إلا ورآه الأبرار، إذ لو امتنعت الرؤية مطلقا لكان الفجار والأبرار سواء فيها، كذلك هنا لو انتفى كلام الله - له - عز وجل - - عن كل أحد، فلا وجه للتخصيص بنفي الكلام عن هؤلاء.
__________
(1) البخاري: كتاب الحدود /باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، حديث (6830).(66/6)
ولا يلزم من كلامه - سبحانه - أن يكون له آلة كالآدمي، كاللسان، والأسنان، والحلق، وما أشبه ذلك، كما لا يلزم من سماع الله أن يكون له أذن، فالأرض مثلا تسمع وتحدث وليس لها لسان ولا آذان، قال تعالى: { يومئذ تحدث أخبارها - بأن ربك أوحى لها } (الزلزلة: 4، 5) وكذا الجلد ينطق يوم القيامة، قال تعالى: { حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } (فصلت: 20) وكذا الأيدي والأرجل، قال تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) (النور: 24) فالأيدي والأرجل والأيدي والألسن والجلود والسمع والأبصار ليس لها لسان ولا شفتان، وهذا هو المعلوم لنا.
(ف): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإذا قالوا لنا يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله تعالى منزه عن ذلك - ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك: مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة. أ.هـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم.
(ق): فإن قيل: إن الله يكلم من هو أعظم منهم جرما وهم أهل النار؟
فالجواب: أن المراد بنفي الكلام هنا كلام الرضا، أما كلام الغضب والتوبيخ، فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه.
قوله: (ولا يزكيهم). التزكية: بمعنى التوثيق والتعديل، فيوم القيامة لا يوثقهم، ولا يعدلهم، ولا يشهد عليهم بالإيمان، لما فعلوه من هذه الأفعال الخبيثة.
قوله: (ولهم عذاب أليم). (عذاب): عقوبة، و(أليم)، أي: شديد موجع مؤلم.(66/7)
وقوله: (أشيمط). هو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبر سنه، وكبير السن قد بردت شهوته، وليس فيه ما يدعوه إلى الزنى، ولكنه زنى مما دل على خبث في إرادته، ولأنه عادة قد بلغ اشده واستوى وعرف الحكمة، وملكه عقله أكثر من هواه، فالزنى منه غريب، إذ ليس عن شهوة ملحة، ولكن عن سوء نية وقصد وضعف إيمان بالله، فصار السبب المقتضي لزناه ضعيفا، والحكمة التي نالها ببلوغ الأشد كبيرة، وكأن تقادم سنه يستلزم أن يغلب جانب العقل، لكنه خالف مقتضى ذلك، ولهذا صغره تحقيرا لشانه، فقال: (أٌشيمط) تصغير أشمط.
قوله (زان) صفة لأشيمط، وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، والحركة التي على النون ليست حركة إعراب.
والزنى فعل الفاحشة في قبل أو دبر، وقد نهى الله عنه وبين أنه فاحشة، فقال: { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } (الإسراء: 32)
قوله: (عائل مستكبر). أي: فقير، قال تعالى: { ووجدك عائلا فأغنى } (الضحى: 8)، فالمقابلة هنا في قوله: { فأغنى } بينت أن المعنى عائلا: فقيرا.
والاستكبار: الترفع والتعاظم، وهو نوعان:
استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به.
واستكبار على الخلق باحتقارهم واستذلالهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الكبر بطر الحق وغمط الناس)(1).
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف، فيكون استكباره دليلا على ضعف إيمانه وخبث طويته، ولذلك كانت عقوبته أشد.
قوله: (ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه).
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان / باب تحريم الكبر وبيانه، حديث (91).(66/8)
أي: جعل الحلف بالله بضاعة له، وإنما ساغ التأويل هنا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فسره بذلك، حيث قال: (لا يشتري إلا بيمينه...)، وإذا كان المتكلم هو الذي أخرج كلامه عن ظاهره، فهو أعلم بمراده، وهذا كما في الحديث القدسي: (عبدي استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقيني) فبينه الله - - عز وجل - - بقوله: (عبدي فلان جاع فلم تطعمه، استسقاك فلم تسقه)(1). فقوله: (لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) استئنافية تفسيرية، لقوله: (جعل الله بضاعته)، ومعناها: أنه كلما اشترى حلف، وكلما باع حلف طلبا للكسب، واستحق هذه العقوبة، لأنه إن كان صادقا، فكثرة إيمانه تشعر باستخفافه واستهانته باليمين ومخالفته قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم).
وإن كان كاذبا جمع بين أربعة أمور محذورة:
استهانته باليمين ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين.
كذبه.
أكله المال بالباطل.
أن يمينه يمين غموس، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال أمري مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)(2).
__________
(1) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب فضل عيادة المريض، حديث (2569).
(2) البخاري: كتاب الإيمان / باب قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ، ومسلم: كتاب الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.(66/9)
وكل ما في هذا الحديث يجب الحذر منه والبعد عنه، لأن هذا ما يريده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار به، وإلا، فما الفائدة من سماعنا له إذا لم تظهر مقتضيات النصوص على معتقداتنا وأقوالنا وأفعالنا؟ فنحن والجاهل سواء، بل نحن أعظم، ولذلك لا ينبغي أن تمر علينا بلا فائدة فنعرف معناها فقط، بل يجب أن نعرف معناها ونعمل بمقتضاها، ثم يجب علينا أيضا بوصفنا ممن آتاهم الله العلم أن نُحذر الناس منها لنكون وارثين للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالما عاملا داعيا، أما طالب العلم، فإنه ليس وارثا للرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقوم بما قام به العمل من العمل والدعوة، فعلينا أن نحذر إخواننا المسلمين من هذا العمل الكثير بين الناس، وهو جعل الله بضاعة لهم، لا يبيعون إلا بأيمانهم ولا يشترون إلا بأيمانهم.
مناسبة الحديث للباب: أن من جعل الله بضاعته، فإن الغالب أنه يكثر الحلف بالله - - عز وجل - -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن عمران ابن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [(خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن](1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الصحيح). أي: (الصحيحين)، وانظر كلامنا: في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله: (خير أمتي قرني). (خير): مبتدأ، و(قرني): خبر.
__________
(1) البخاري: كتاب الشهادات /باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة /باب فضل الصحابة رضي الله عنهم،(66/10)
وفي لفظ لهما: (خيركم قرني)، وفي الحديث ابن مسعود عند البخاري: (خير الناس قرني)(1) وهذا هو المراد، إذ المراد بالخيرية هنا الخيرية المضافة إلى الناس عموما وليس للأمة فقط، ولهذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (بعثت من خير قرون بني آدم)(2).
وعليه فالخيرية في القرن الأول خيرية عامة على جميع الناس وليس على هذه الأمة فقط.
وأما قوله (خير أمتي). فإنه يقال: إن الخيرية إذا كانت مضافة إلى عموم الناس دخل فيها هذه الأمة، لكن إذا خصصناها بهذه الأمة خرج بقية الناس، والأخذ بالعموم الداخل فيه الخاص أولى، وقد يقال: إن معنى اللفظين واحد، فإن هذه الأمة خير الأمم، فإذا كان الصحابة خير قرونها لزم أن يكونوا خير الناس.
والقرن مأخوذ من الاقتران، والمراد: الطائفة المقترنون بشيء من الأشياء، كالملة، أو السن ما أشبه ذلك.
فمن العلماء من عرفه: بالطائفة كما سبق، ومنهم من عرفه بالزمن، وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوال:
فمنهم من حده بأربعين، ومنهم من حده بثمانين، ومنهم من حده بمائة، ومنهم من حده بمئة وعشرين سنة.
__________
(1) البخاري: كتاب الشهادات /باب لايشهد على شهادة جور إذا أشهد، حديث (2656)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة /باب فضل الصحابة رضي الله عنه، حديث (2533).
(2) البخاري: كتاب المناقب /باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (3557).(66/11)
فعلى الأول يكون معنى: (خير أمتي قرني): خير أمتي الصحابة، سواء بلغوا مئة سنة أم لا، والمعروف أن آخر من مات من الصحابة مات سنة مائة وعشر أو مائة وعشرين، فإذا قلنا مائة وعشرين، فهذه المدة زائدة على المائة، وإذا اعتبرناها من البعثة تكون مائة وثلاثا وثلاثين سنة، لأن التقويم مبتدأ من الهجرة، والهجرة كانت بعد البعثة بثلاث عشر سنة، وهذا القرن الأول، أما التابعون، فإن آخرهم مات سنة مائة وثمانين، فيكون بينهم وبين الصحابة ستون سنة، وأما تابعوا التابعون، فإن آخرهم مات سنة مائتين وعشرين، وهذا منتهى القرن الثالث.
فقرن الصحابة إن ابتدأته من البعثة صار ثلاثا وثلاثين ومائة سنة، وإن ابتدأته من الهجرة صار عشرين ومائة سنة.
وقرن التابعين ستون سنة.
وقرن تابعي التابعين أربعون سنة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القرن معتبر بمعظم الناس، فإذا كان معظم الناس الصحابة، فالقرن قرنهم، وإذا كان معظم الناس التابعين، فالقرن قرنهم، وهكذا.
قوله: (أمتي) المراد أمة الإجابة، لأن أمة الدعوة إذا لم يؤمنوا فليس فيهم خير.
قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا). إذا كان عمران لا يدري، فالأصل أنه ذكر مرتين، فتكون القرون المفضلة ثلاثة، وهذا هو المشهور.
قوله: (ثم إن بعدكم قوم). وفي البخاري: ثم إن بعدكم قوما) بنصب (قوما)، وهذا لا إشكال فيه، ولكن في هذه الرواية برفع (قوم) فيه إشكال، لأن (قوم) اسم إن، وقد اختلف العلماء في هذا:
فقيل على لغة ربيعة: الذين لا يقفون على المنصوب بالألف، فلم يثبت الكتاب الألف فصارت (قوم).
وهذا جواب ليس بسديد، لأن الرواية ليست مكتوبة فقط، بل تكتب وتقرأ باللفظ عند أخذ التلاميذ الرواية من المشايخ، ولأن هذا ليس محل وقف.
وقيل: إن (إن) اسمها ضمير الشأن محذوف، إلحاقا لها بإن المخففة، لأن (إن) المخففة تعمل بضمير الشأن، قال الشاعر:
وإن مالك كانت كرام المعادن(66/12)
فإن المشددة هنا حملت على إن المخففة، فاسمها ضمير الشأن محذوف، وعليه يكون (بعدكم): خبر مقدم، و(قوم): مبتدأ مؤخر، والجملة خبر (إن).
وقيل (إن) هنا بمعنى نعم، فيكون المعنى: ثم نعم بعدكم قوم، وهذا فيه تكلف.
والظاهر: القول الثاني إن صحت الرواية.
قوله: (يشهدون). أي: يخبرون عما علموه مما شاهدوه أو سمعوه أو لمسوه أو شموه، لأن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلم، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } (الزخرف: 86) ولا يشترط أن تكون بلفظ أشهد على الصحيح، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلانا يقول: (إن العشرة في الجنة ولا يقول أشهد) فقال: إن قاله فقد شهد.
قوله: (ولا يستشهدون). اختلف العلماء في معنى ذلك:
فقيل: (لا يستشهدون)، أي: لا يطلب منهم تحمل الشهادة فيكون المراد الذين يشهدون بغير علم الله فهم شهداء زور.
وقيل: لا يطلب منهم أداء الشهادة، فيكون المراد أداء الشهادة قبل أن يدعى لأدائها، فيكون ذلك دليلا على تسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها.
ولكن هذا القول يشكل عليه حديث زيد بن خالد الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها)(1)، فهذا ترغيب في أداء الشهادة قبل أن يسألها بدليل قوله: (ألا أخبركم بخير الشهداء)، وظاهره: أنه معارض لحديث عمران، فجمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له.
وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشيء من حقوق الله تعالى، لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها، فيكون المراد بهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهم.
__________
(1) مسلم كتاب الأقضية / باب خير الشهود، حديث (1719)، وأبو داود، حديث (3596)، والترمذي، حديث (2295)، وابن ماجة، حديث (2364).(66/13)
وجمع بعضهم بأن المراد بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة، فكانه لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها.
وبعض العلماء رجح حديث عمران، لأنه في (الصحيحين) على حديث زيد بن خالد، لأنه في (مسلم).
ولكن إذا أمكن الجمع، فلا يجوز الترجيح لأن مقتضاه إلغاء أحد النصين، والجمع هنا ممكن كما تقدم.
قوله: (يخونون ولا يؤتمنون). هذا هو الوصف الثاني لهم، أي: أنهم أهل خيانة وليس أهل أمانة، فلا يأتمنهم الناس، وليس المعنى أنه تقع منهم الخيانة بعد الائتمان حتى يقال: لماذا لم يقل: يؤتمنون ويخونون؟ فكأن الخيانة طبيعة لهم، فلخيانتهم لا يؤتمنون.
الخيانة: الغدر والخداع في موضع الائتمان، وهي من الصفات المذمومة بكل حال.
وأما المكر والخديعة، فهي مذمومة في حال دون حال، فقد تكون محمودة إذا كانت في مقاتلة عدو ماكر خادع لدلالتها على القوة والإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، ولهذا يوصف الله - - سبحانه وتعالى - - بالمكر والخداع في الحال التي يكون فيها مدحا، قال تعالى: { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } (الأنفال: 30) وقال تعالى: { يخادعون الله وهو خادعهم } (النساء: 142).
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها أبدا، لأنها ذم بكل حال، ولهذا كان قول العامة: خان الله من خان حراما، لأنهم وصفوا الله بما لا يصح أن يوصف به، قال الله تعالى: { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } (الأنفال 71) ولم يقل: فخانهم.
قوله: (ولا يؤتمنون). أي: ليسوا أهلا للأمانة، فلا يؤتمنون على الدماء ولا على الأموال، ولا على الأعراض، ولا أي شيء، والظاهر أن هذا في القرن الرابع، فما بالك بالقرن الخامس عشر؟ وفي حديث آخر (ويفشو بينهم الكذب)(1).
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ماجاء في لزوم الجماعة، حديث (2165)، وابن ماجة، حديث (2363).(66/14)
قوله (وينذرون ولا يوفون). هذا الوصف الثالث لهم. النذر: إلزام الإنسان نفسه بالشيء، وقد يكون للآدمي، وهذا بمعنى العهد الذي يوقعه الإنسان بينه وبين غيره، وقد يكون لله، كنذر العبادة يجب الوفاء به، فهم ينذرون لله ولا يوفون له، ويعاهدون المخلوق ولا يوفون له، وهذا من صفات النفاق.
قوله: (ويظهر فيهم السمن). هذا هو الوصف الرابع لهم، (السمن) كثرة الشحم واللحم، وهذا الحديث مشكل، لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان فكيف يكون صفة ذم؟
قال أهل العلم: المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها.
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه، فلا يذم عليه، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه عن ابن مسعود - رضي الله عنه -؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيءقوم تسبق الشهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفيه). أي: (في الصحيح) وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة من المؤلف رحمه الله . انظر: (ص146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله: (خير الناس) دليل على قرنه خير الناس، فصحابته - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (ثم يجيء قوم). أي: بعد القرون الثلاثة.
قوله: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته). يحتمل ذلك وجهين:
الأول: أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين، فتارة تسبق الشهادة وتارة تسبق اليمين.
الثاني: أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين، حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهما متسابقتان.(66/15)
والمعنيان لا يتنافيان، فيحمل عليهما الحديث جميعا.
وقوله: (ثم يجيء قوم) يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذا الوصف، لأنه لم يقل: ثم يكون الناس، الفرق واضح.
وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس، لا من حيث الأفراد، فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة، فلا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من هو أكثر من بعضهم علما وعبادة.
تنبيه:
ساق المؤلف رحمه الله الحديث في بعض النسخ بتكرار قوله: (ثم الذين يلونهم) ثلاث مرات، وهو في (الصحيحين) بتكرارها مرتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقال إبراهيم). هو إبراهيم النخعي، من التابعين ومن فقهائهم.
قوله: (كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار) في نسخة: (على الشهادة والعهد)، والظاهر أن الذي يضربهم ولي أمرهم.
قوله: (على الشهادة) أي: يضربوننا عليها إن شهدنا زورا، أو إذا شهدنا ولم نقم بأدائها، ويحتمل أن المراد بذلك ضربهم على المبادرة بالشهادة والعهد، وبه فسر ابن عبد البر.
قوله: (والعهد). أي: إذا تعاهدوا يضربونهم على الوفاء بالعهد.
قوله: (ونحن صغار) الجملة حالية، وإنما يضربونهم وهم صغار للتأديب.
ويستفاد من كلام إبراهيم أن الصبي تقبل منه الشهادة، لأن قوله: (ونحن صغار)، أي: لم يبلغوا، وهذا محل خلاف بين أهل العلم.
فقال بعضهم: يشترط لأداء الشهادة أن يكون بالغاً، فإذا تحمل وهو صغير، لم تقبل منه حتى يبلغ.
فقال بعضهم: شهادة الصغار بعضهم على بعض مقبولة تحملا وأداء، لأن البالغ يندر أن يوجد بين الصغار.
__________
(1) البخاري: كتاب الشهادات /باب لايشهد على شهادة جور إذا أشهد، حديث (2656).(66/16)
وقال بعضهم: تقبل شهادة الصغار بعضهم على بعض إن شهدوا في الحال، لأنه بعد التفرق يحتمل النسيان أو التلقين، ولا يسع العمل إلا بهذا، وإلا لضاعت حقوق كثيرة بين الصبيان.
ويستفاد من هذا الأثر جواز ضرب الصبي على الأخلاق إذا لم يتأدب إلا بالضرب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. تؤخذ من قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) والأمر وصية.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحلف منفقة للسلعة...) إلخ.
الثالثة: الوعيد الشديد لمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -(ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه...) إلخ في ضمن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزيكيهم.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. تؤخذ من حديث سلمان، حيث ذكر الأشيمط الزاني والعائل المستكبر، وغلظ في عقوبتهم، لأن الداعي إلى فعل المعصية المذكورة ضعيف عندها.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه...)(66/17)
ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ولم يستحلف في مواضع عديدة، بل أمره الله - - سبحانه وتعالى - أن يحلف في ثلاثة مواضع من القرآن بدون أن يستحلف:
في قوله: { ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي } (يونس: 53).
وفي قوله: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } (التغابن: 7).
وفي قوله: { وقالوا الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } (سبأ: 3).
وعليه، فإن الحلف إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة، فإنه جائز، بل قد يكون مندوبا إليه، كحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المخزومية، حيث قال: (وإيم الله ، لو أن فاطمة بنت a سرقت لقطعت يدها)(1)، فقد وقع موقعا عظيما من هؤلاء القوم الذين أهمهم شأن المخزومية وممن يأتي بعدهم.
السادسة: ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني...)، وقوله: (أو الأربعة) بناء على ثبوت ذكر الرابع، وأكثر الروايات وأثبتها على حذفه.
وقوله: (وذكر ما يحدث). لو جعلت هذه المسألة مستقلة، لكان أبين وأوضح، لأن الأخبار عن شيء مستقبل ووقوعه كما أخبر دليل على رسالته - صلى الله عليه وسلم -.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. تؤخذ من حديث عمران، وكذا ذم الذين يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، والذين يتعاطون أسباب السمن ويغفلون عن سمن القلب بالإيمان والعلم.
__________
(1) البخاري: كتاب الحدود / باب كراهة الشفاعة في الحد حديث (3475)، ومسلم: كتاب الحدود / باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة، حديث (1688).(66/18)
الثامنة: كون السلف يضربون على الشهادة والعهد. تؤخذ من قول إبراهيم النخعي: (كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد)، فيؤخذ منه تعظيم شأن العهد والشهادة وضرب الصغار على ذلك، ويؤخذ منه أيضا عناية السلف بتربية أولادهم، وأن من منهجهم الضرب على تحقيق ذلك استنادا إلى إرشاد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، حيث أمر بضرب من بلغ عشر سنين على الصلاة، لكن يشترط لجواز الضرب:
الأول: أن يكون الصغير قابلا للتأديب، فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب.
الثاني: أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه.
الثالث: أن لا يسرف في ذلك كمية أو كيفية أو نوعا أو موضوعا أو غير ذلك.
الرابع: أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه.
الخامس: أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام، لم يكن مؤدبا بل منتصر.
- - - - -(66/19)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى:
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً }
(النحل: الآية91)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (ذمة الله وذمة نبيه).
الذمة: العهد، وسمي بذلك، لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته.
والله له عهد على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
وللعباد عهد على الله وهو: لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قال الله تعالى: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا } ، فهذا عهد الله عليهم، ثم قال: { لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } (المائدة: 12)، وهذا عهدهم على الله .
وقال تعالى: { وأفوا بعهدي أوف بعهدكم } (البقرة: 40) وللنبي - صلى الله عليه وسلم - عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئا.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما هو خير(1).
والمراد بالعهد هنا: ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة في صلح الحديبية.
قوله تعالى: { وأوفوا } . أمر الرباعي من أوفى يوفي، والإيفاء إعطاء الشيء تاما، ومنه إيفاء المكيال والميزان.
__________
(1) مسلم: كتاب الأمارة / باب وجوب الوفاء ببيعه الخليفة الأول فالأول، حديث (1844).(67/1)
قوله: { بعهد الله } . يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله، أي: بعهدكم الله ، أو بعهد الله إياكم، لأن الفعل إذا كان على وزن فاعل اقتضى المشاركة من الجانبين غالبا، مثل: قاتل ودافع.
قوله: { إذا عاهدتم } . فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء، أي: إذا صدر منكم العهد، فإنه لا يليق منكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله: { ولا تنقضوا الإيمان } . نقض الشيء هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين.
قوله: { بعد توكيدها } . توكيد الشيء بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكّد، يقال: وكّد الأمر وأكده تأكيدا وتوكيدا، والواو أفصح من الهمزة.
قوله: { وقد جعلتم الله لكم كفيلا } . الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ أنه جعل الله عليه كفيلاً.
قوله: { إن الله يعلم ما تفعلون } . ختم الله الآية بالعلم تهديدا عن نقض العهد، لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعله، فإنه لا ينقض العهد.
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جدا، لأن الله قال: { أوفوا بعهد الله } ، وقال: { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } . والعهد: الذمة.
ومناسبة الباب للتوحيد: أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد.
- - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(67/2)
عن بريدة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: (اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب فيهم حكم الله أم لا) رواه مسلم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إذا أمر) أي: جعله أميراً، والأمير في صدر الإسلام يتولى التنفيذ والحكم والفتوى والإمامة.
قوله: (أو سرية). هذه ليست للشك، بل للتنويع، فإن الجيش ما زاد على أربع مائة رجل والسرية ما دون ذلك.
والسرايا ثلاثة أقسام:
قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، ويقسم غنمه كقسمة ما غنم الجيش.
قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم.
__________
(1) مسلم: كتاب الجهاد / باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته، حديث(1731).(67/3)
قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش. وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة، فلسرية الابتداء الربع بعد الخمس، لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس، لأن الجيش قد ذهب عنها، فالخطر عليها أشد.
وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام: إن شاء أعطى وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة.
قوله: (أوصاه). الوصية: العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به.
قوله: (بتقوى الله ). التقوى: هي امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله ، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها…… وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أ…… رض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة…… إن الجبال من الحصى
وهذه التعريفات كلها تؤدي معنى واحدا وكانت الوصية بالتقوى لأمير الجيش، لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفُع يخشى منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته.
قوله: (وبمن معه من المسلمين خيرا). أي: أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرا في أمور الدنيا والآخرة، فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، ويمنع عنهم الظلم ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب أن على من تولى أمرا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الأخير، بخلاف عمل الإنسان بنفسه، فإنه لا يلزم إلا بالواجب.
قوله: (اغزوا باسم الله ). يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائما مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتتح الغزو باسم الله .
والأول أظهر، والثاني أيضا محتمل، لأنه بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله ، فهو أبتر.(67/4)
قوله: (في سبيل الله ). متعلق ب(اغزوا) وهو تنبيه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حسن النية والقصد، لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدى الحسنيين ما كان خالصا لله. وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليرى مكانه أو لطلب دنيا.
فإذا قاتل لأجل الوطن: فمن قاتل لأنه وطن لإسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه، فهذه نية إسلامية صحيحة، وإن كان للقومية أو الوطنية فقط فهو حمية وليس في سبيل الله .
وقوله: (في سبيل الله ). تشمل النية والعمل، فالنية سبقت، والعمل: أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع.
قوله: (قاتلوا من كفر بالله). (قاتلوا): فعل أمر وهو للوجوب، أي: يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } (التحريم: 9). وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } (التوبة: 123) فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها.
(ومن): اسم موصول، وصلته (كفر)، واسم الموصول وصلته يفيد العلية، أي: لكفره، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار.
والكفر مداره على أمرين: الجحود، والاستكبار.
أي: الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديق.
قوله: (اغزو). تأكيد، وأتى بها ثانية كأنه يقول: لا تحقروا الغزو واغزوا بجد.(67/5)
قوله: (لا تغلوا). الغلول: أن يكتم شيئا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } (آل عمران: 161)، أي معذبا به، فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم: يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه روح، لأنه لا يجوزه تعذيبه بالنار.
قوله ولا(تغدروا). الغدر: الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا، فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد، فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن على بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه، فلما أقبل الرجل على على صاح به على: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله علي رضي الله عنه.
وليعلم لنا مع المشركين ثلاث حالات.
الحالة الأولى: أن لا يكون بيننا وبينهم عهد، فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك.
الحالة الثانية: أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه، فهنا يجب الوفاء لهم بعدهم، لقوله تعالى: { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } (التوبة: 7) وقوله: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } (الأنفال: 58).
الحالة الثالثة: أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه، فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا، لقوله تعالى: { وإما تخافن من قوم من خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } (الأنفال: 58).
قوله: (و لا تمثلوا). التمثيل: التشويه بقطع بعض الأعضاء، كالأنف واللسان وغيرها، وذلك عند أسرهم، لأنه لا حاجة إليه، لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء على فيما لو كانوا يفعلون بنا ذلك:(67/6)
فقيل: لا يمثل للعموم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن شيئا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم، فقد يكون لا يرضى بما فعله قومه، فكيف نمثل به؟
وقيل: نمثل بهم كما مثلوا بنا، لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } (البقرة: 194). وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا، فقد يفسر هذا بأنه ضعف، وإذا مثلنا بهم في هذه الحال، عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية.
والظاهر القول الثاني.
فإن قيل: قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضى بالتمثيل؟
فيقال: إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله - - عز وجل -- يخاطب اليهود في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمور جرت في عهد موسى، قال تعالى: { وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها } (البقرة: 72)، وقال تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } (البقرة: 93)، وما أشبه ذلك.
قوله: (ولا تقتلوا وليدا). أي: لا تقتلوا صغيرا، لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم.
وورد في أحاديث أخرى: أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فان ولا امرأة(1)، إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا على القتال، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصّمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه(2).
واستدل بهذ الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيخ الإسلام هذا القول، وله رسالة في ذلك اسمها (قتال الكفار).
__________
(1) أبو داود: كتاب الجهاد / باب دعاء المشركين.
(2) البخاري: كتاب المغازي / باب غزوة أوطاس.(67/7)
قوله: (وإذا لقيت عدوك). أي قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجا لقتالهم، لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك، فإن ذلك يدعوك إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى: { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } (الممتحنة: 1) وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } (المائدة: 51)، لكن خص في هذه الآية باليهود والنصارى، لأن المقام يقتضيه.
والعدو ضد الولي، والولي من يتولى أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك، ويعتدي عليك ما أمكنه.
قوله: (من المشركين). يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصارى.
قوله: (خصال أو خلال). بمعني واحد، وعليه، فـ " أو " للشك في اللفظ، والمعني لا يتغير.
قوله: (فأيتهن ما أجابوك). (أيتهن): اسم شرط مبتدأ، (ما): زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدا للعموم، كقوله تعالى: { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } (الإسراء: 110) والكاف مفعول به، والعائد إلى اسم الشرط محذوف، والتقدير: فأيتهن ما أجابوك إليه، فاقبل منهم وكف عنهم، فلا تقاتلهم.
قوله: (ثم ادعهم). (ثم): زائدة، كما في رواية أبي داود، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال: أنها ليست من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.، بل من كلام الراوي على تقدير: ثم قال ادعهم.
وقوله: (إلى الإسلام). أي: المتضمن للإيمان، لأنه إذا أفرد شمل الإيمان، وإذا اجتمعا، افترقا، كما فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في حديث جبريل.(67/8)
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال، قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)(1)، فإن أجابوا للإسلام، فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقبل منهم).
قوله: (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين). هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية، فإذا أسلموا، طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله ، لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم، كما قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } (التوبة: 97)، وهذا أصل في توطين البوادي.
وقوله: (إلى دار المهاجرين) , يحتمل أن المراد بها العين، أي: المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس، أي: الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت المدينة أو غيرها.
ويقوى الاحتمال الثاني - وهو أن المراد بها الجنس - أنه لو كان المراد المدينة، لكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعبر عنها باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوى الاحتمال الأول: أن دار المهاجرين الأولى هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان / باب أمور الإيمان، حديث (9)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، حديث (35)، وأبو داود، حديث (4676)، والنسائي، حديث (5005)، وابن ماجة، حديث (57).(67/9)
(ف): قوله: فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئاً. وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئاً. وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين، وجوزا صرفهما للضعيف.
(ق): قوله: (فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين). هذا تمام العدل، ولا يقال: إن الحق لصاحب البلد الأصلي، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة.
قوله: (ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين). يعني إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين، فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء.
والغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به.
والفيء: ما يصرف لبيت المال، كخمس خمس الغنيمة، والجزية، والخراج، وغيرها.
قوله: (إلا أن يجاهدوا مع المسلمين). يفيد أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم.
وأما الفيء: فاختلف أهل العلم في ذلك:
فعند الإمام أحمد: لهم حق في الفيء مطلقا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا.
وقيل: لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة، إذ ليس من في البلد مستعدا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله.
فإذا أسلموا، فلهم ثلاث مراتب:
التحول إلى دار المهاجرين، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
البقاء في أماكنهم مع الجهاد، فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة، وفي الفيء الخلاف.
البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد، فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء.(67/10)
وقوله: (فإن هم أبوا).(هم) عند البصريين: توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، التقدير: فإن أبوا هم، وعند الكوفيين: مبتدأ خبره الجملة بعده.
والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة: أن نتبع الأسهل، والأسهل هنا إعراب الكوفيين.
قوله: (فاسألهم الجزية). سؤال عطاء لا سؤال استفهام، والفرق بين سؤال الاستفهام وسؤال العطاء: أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني بـ(عن)، قال الله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } . وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية، كقوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل الله لهم } (المائدة: 4).
وأما سؤال الإعطاء، فيتعدى إليه بنفسه، كقولك: سألت زيدا كتابا.
والجزية: فعلة من جزى يجزي، وظاهر فيها أنها مكافأة على شيء، وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضا عن حمايته وإقامته بدارنا.
والذمي معصوم ماله ودمه وذريته مقابل الجزية، قال تعالى: { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (التوبة: 29)، أي: يسلموها بأيديهم، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو أبنه، بل لا بد يأتي بها هو.
وقيل: { عن يد } : عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة للمعنيين.
وقيل: { عن يد } : أن يعطيك إياه فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه.
وقوله: { وهم صاغرون } . أي: يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند إعطائها، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عند تسلمها منهم.
(ف): قوله: فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر: عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس.(67/11)
قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها منهم. وقال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "(1).
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق. وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة رحمه الله ، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهماً والوسط أربعة وعشرون درهماً. والفقير اثنا عشر درهماً، وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله .
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله :
وقاتل يهودا والنصارى وعصبة الـ
على الأدون اثني عشر درهماً افرضن
لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ـمجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد
وأربعة من بعد عشرين زد
ثمانية مع أربعين لتنقد
وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد
ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
(ق): قوله (فاستعن بالله وقاتلهم). بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب العون من الله ، لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه، فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط.
قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن). الحصر: التضييق، أي: طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يخرجون من حصنهم ولا يدخل عليهم أحد.
والحصن: كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها.
قوله: (فأرادوك). أي: طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا فإن الأصل أن تتعدى ب(من)، فيقال أرادوا منك.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ (1/278) في الزكاة باب جزية أهل الكتاب والمجوس . وله شواهد تقويه وراجع جامع الأصول (2/660، 661) بتحقيق الأرناؤوط.(67/12)
قوله: (فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه). الذمة: العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون: نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله، فإنه لا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون...)
قوله: (أن تخفروا) بضم التاء وكسر الفاء: من أخفر الرباعي، أي: غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أجار، والمتعين الأول.
وقوله: (أن تخفروا). (أن) بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع (أهون) على أنها خبر، وأن وما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم(إن)، والتقدير: فإن إخفاركم ذممكم، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق.
قوله: (أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه). لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم، وقوله: (أهون) من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعنى، لأن قوله: (أهون) يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهوان، والأمر ليس كذلك، لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين، كله ليس بهين، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته.
فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء، بل يعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك.
قوله: (وإذا حاصرت). أي: ضربت حصارا يمنعهم من الخروج من مكانهم. (أهل الحصن): أهل البلد أو مكان يتحصنون به.
(فأرادوك): طلبوا منك.
(حكم الله )، أي: شرع الله .
قوله: (ولكن الله أنزلهم على حكمك). فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله ، فإنهم لا يجابون، فإننا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا؟
ولهذ قال: (أنزلهم على حكمك)، ولم يقل: وحكم أصحابك كما قال في الذمة، لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد، فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد.(67/13)
وقوله: (لا تدري). أي: لا تعلم (أتصيب فيهم حكم الله أم لا)، وذلك لأن الإنسان قد يخطيء حكم الله تعالى.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء:
فقيل: إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله ، لأن قائد الجيش وإن اجتهد، فإنه لايدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: بل ينزلون على حكم الله . والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم، إذ من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يغير هذا الله الحكم، إذ ا كان كذلك، فلا تنزلهم على حكم الله ، لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه.
أما بعد انقطاع الوحي، فينزلون على حكم الله ، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابا إذا لم يتبين خطؤه، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن: 16) وهذا اصح، لإنه يحكم المجتهد بإصابته الحكم ظاهرا شرعا وإن كان قد يخطي، وإن حصل الاحتراز بأن يقول: ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله، فهو أولى، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه.
واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، فيقول الكفار: إن أحكام المسلمين متناقضة.
ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:
تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد، وقد سبق الكلام عليه.
يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا.
لا يجوز القتال قبل الدعوة، لأنه جعل القتال آخر مرحلة.(67/14)
وأما ما ورد في (الصحيح) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون(1)، فقد أجيب: أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع في المصلحة.
جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس، لأن أهل الكتاب نص القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ماعدا هؤلاء فاختلف أهل العلم: فقيل: لا تؤخذ من غير هؤلاء، وقيل: لا تؤخذ من مشركي العرب، لأن فيها إذلالا. والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كفر بالله ولم يقل: اليهود والنصارى)
الإشارة إلى القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، ولو كان كذلك ما شرعت الجزية، لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أٌقاتل الناس..)(2) الحديث، فهو عام مخصوص بأدلة الجزية.
عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدا لله ورسوله.
جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش.
أنه لا يجوز أن ينزلهم على حكم الله أما في عهد رسول الله أو مطلقا حسب الخلاف السابق.
__________
(1) البخاري: كتاب العتق/باب من ملك من العرب عقيقا فوهب وباع وجامع، حديث (2541)، مسلم: كتاب الجهاد والسير / باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة، حديث(1730).
(2) البخاري: كتاب الإيمان / باب (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، حديث(25)، ومسلم: كتاب: الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، حديث(22).(67/15)
أن المجتهد قد يصيب وقد يخطيء، لقوله: (فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا)، وقال النبي: - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وأن أخطأ، فله أجر واحد)(1)، وعليه، فهل نقول: إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب.
وقيل: ليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق، فإنه يخطىء ويصيب، ويدل له قول - صلى الله عليه وسلم -: " فاجتهد فأصاب واجتهد فأخطأ "، فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطىء ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين، لأنه لا يمكن أن يكون مصيباً والسلف غير مصيبين، سواء في علم الأصول والفروع.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث (7352)، ومسلم: كتاب الأقضية / باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث (1716)، وأبو داود، حديث (3574)، وابن ماجة، حديث (2314).(67/16)
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام، ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: أنها من الفروع، لأنها ليست من العقيدة ولكن فروع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة، فكل الدين أصول، لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها، والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمى بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف، فليس بمقبول مطلقا.
أن باب الاجتهاد باق، لقوله: (لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟) وبهذا يتبين ضعف قول من قال: إن باب الاجتهاد قد انسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذه منهما، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثا في هذا الحكم حتى يتثبّت، لأن هذا الحكم قد يكون منسوخا أو مقيدا أو عاما وأنت تظنه بخلاف ذلك.(67/17)
وأما أن نقول: لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم، لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليس بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم، فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون: كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدهم وأصولها؟
فيه إثبات الحكم لله - - عز وجل --، وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخلفه، ومنه قوله تعالى { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي } (يوسف: 80).
حكم شرعي، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } (الممتحنة: 10).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً.
الثالثة: قوله: (اغزوا بسم الله في سبيل الله ).
الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله).
الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم).
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:(67/18)
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين. لو قال الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين، لكان أوضح، لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها، فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين.
والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين محرمة، وجعل ذمة المحاصرين - بكسر الصاد - ذمة جائزة.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.لقوله: (ولكن اجعل ذمتك وذمة أصحابك...)إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر وهو: ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لابد من ارتكاب إحداهما، وقد دل عليها الشرع، قال تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } (الأنعام: 108)، فسب آلهة المشركين مطلوب، لكن إذا تضمن سب الله - - عز وجل - - صار منهيا عنه، لأنه مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في هذا السكوت شيء من المفسدة، ولكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضا العقل دل عليها.
وفيه قاعدة مقابلة، وهي ترك أدنى المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لا بد من ترك إحداهما، فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعا، فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما، فخذ بأدناهما.
الثالثة: قوله: (اغزو بسم الله في سبيل الله ). يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه.
الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله). يستفاد منها وجوب قتال الكفار، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال، فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا ترك أهل بلد صلاة عيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك.
وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله ، قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر.(67/19)
الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم). يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته.
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. وفيه فرقان:
أن حكم الله مصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب.
تنزل أهل الحصن على حكم الله ممنوع، إما في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط أو مطلقا، وأما على حكم العلماء ونحوه، فهو جائز.
فائدة: لا ينبغي أن يقال لمفت: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا، فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام، ولا يقول مفت: حكم الإسلام كذا، لأنه قد يخطي، ولكن يقيد، فيقول: حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح، فلا بأس، مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟ وهذا ليس خاصا بالصحابة، بل حتى من بعدهم، فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.
- - - - -(67/20)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الأقسام على الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): الإقسام: مصدر أقسم يُقسم إذا حلف.
والحلف له عدة أسماء، وهي: يمين، وآلية، وحلف، وقسم، وكلها بمعنى واحد، قال تعالى: { فلا أقسم بمواقع النجوم } (الواقعة: 75)، وقال: { للذين يؤلون من نسائهم } (البقرة: 226)، أي: يحلفون، وقال تعالى: { ولا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } (البقرة: 225)، وقال تعالى: { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } (التوبة: 62) وقال تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } (النور: 53).
واختلف أهل العلم في { لا } في قوله { لا أقسم } .
فقيل: أنها نافية على الأصل، وأن معنى الكلام: لا أقسم بهذا الشيء على المُقسم به، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، وهذا فيه تكلف، لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي.
وقيل: إن { لا } زائدة، والتقدير اقسم.
وقيل: إن { لا } للتنبيه، وهذا بمعنى الثاني، لأنها من حيث الإعراب زائدة.
وقيل: إنها نافية لشي مقدر، أي: لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث، وهذا في قوله تعالى: { لا أقسم بيوم القيامة } وفيه شيء من التكلف، والصواب أنها زائدة للتنبيه.
والإقسام على الله : أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله، ليفعلن كذا، أو والله، لا يفعل الله كذا.
والقسم على الله ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يقسم على ما أخبر الله به ورسوله من نفي وإثبات، فهذا لا بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله، مثل: والله، ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة، ومثل: والله، لا يغفر الله لمن أشرك به.(68/1)
الثاني: أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه، فهذا جائز لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الربيّع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما (حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر سنية الربيع. وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنس! كتاب الله القصاص)، يعني السن بالسن. قال والله، لا تكسر ثنية الربيع)، وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك.
فلما عرفوا أنه مصمم ألقى الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)(1)، فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه أقسم على الله أن لا تكسر ثنية الربيع، فألقى الله العفو في قلوب هؤلاء الذين صمموا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القصاص، فعفوا وأخذوا الأرش.
فثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهادة بأن الرجل من عباد الله ، وأن الله أبر قسمه ولين له هذه القلوب، وكيف لا وهو الذي قال: بأنه يجد ريح الجنة دون أحد، ولما استشهد وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، ولم يعرفه إلا أخته ببنانه(2)، وهي الربيع هذه، رضي الله عن الجميع وعنا معهم.
__________
(1) البخاري: كتاب الصلح / باب الصلح في الدية، حديث (2703)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين / باب لإثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، حديث (1675).
(2) البخاري: كتاب: الجهاد والسير / باب قول الله تعالى { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله } (الأحزاب: من الآية23)، حديث (2806)، ومسلم كتاب: الامارة /باب ثبوت الجنة للشهيد، حديث (1903).(68/2)
ويدل أيضا لهذا القسم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)(1).
القسم الثالث: أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله - - عز وجل - - وسوء الظن به تعالى، فهذا محرم، وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المُقسم، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله.
مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد: أن من تالى على الله - - عز وجل - -، فقد أساء الأدب معه وتحجر فضله وأساء الظن به، وكل هذا ينافي كمال التوحيد، وربما ينافي أصل التوحيد، ، فالتألي على من هو عظيم يعتبر تنقصا في حقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال رجل والله لا يغفر الله لفلان؛ فقال الله - عز وجل -، من ذا الذي يتألي علي أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له واحبطت عملك). رواه مسلم(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قال رجل). يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره.
(والله يغفر لفلان). هذا يدل على اليأس من روح الله ، واحتقار عباد الله عند هذا القائل، وإعجابه بنفسه.
والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يغطي به الرأس عند الحرب، وفيه وقاية وستر.
قوله: (من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان). (من): اسم استفهام مبتدأ، (ذا) ملغاة، (الذي): اسم موصول خبر مبتدأ، يتألى: يحلف، أي: من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي، والاستفهام، للإنكار.
__________
(1) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب فضل الضعفاء والخاملين، حديث (2622).
(2) مسلم: كتاب البر والصلة /باب النهي عن تقنيط الإنسان رحمة الله ، حديث (2621).(68/3)
والحديث ورد مبسوطا في حديث أبي هريرة(1) أن هذا الرجل كان عابدا وله صاحب مسرف على نفسه، وكان يراه على المعصية، فيقول: أقصر. فوجده يوما على ذنب، فقال أقصر.فقال خلني وربي، أبُعثت علىّ رقيبا؟ فقال: والله، لا يغفر الله لك.
وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن الظن بالله ورجاء له، ولعله كان يفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه، لأنه قال: خلني وربي، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحا ثم غلبته عليه نفسه مرة أخرى، فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة، لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود، وليس من شروط التوبة أن لا يعود.
وهذا الرجل الذي قد غفر الله له، إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له، أما لو كان شركا ومات بدون توبة، فإنه لا يغفر له، لأن الله يقول: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } (النساء: 116).
قوله: (وأحبطت عملك). ظاهر الإضافة في الحديث: أن الله أحبط عمله كله، لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عاما.
ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم - حسب فهمنا والعلم عند الله - أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركنا عظيما من أركان العبادة، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع، فلا بد أن تكون عبدا لله- - عز وجل - - بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبدا فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعا كاملا حتى تحقق العبودية.
__________
(1) أبو داود: كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي، حديث (4901)، وأحمد (2/323)، حديث (8275).(68/4)
ويحتمل معنى (أحبطت عملك)، أي: عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، وهذا أهون، لأن العمل إذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال: أذهبوا به إلى النار.
ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله - صلى الله عليه وسلم -: في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة: (فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)(1).
فقوله (وشطر ماله) هل المراد جميع ماله، أو ماله الذي منع زكاته؟
يحتمل الأمرين، فمثلاً: إذا كان عنده عشرون من الإبل، فزكاتهما أربع شياه، فمنع الزكاة، فهل نأخذ عشراً من الإبل فقط مع الزكاة، أو إذا كان عنده أموال أخري من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة؟.
اختلف في ذلك:
فقيل: نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة.
وقيل: نأخذ نصف جميع المال.
والراجح أنه راجع إلى رأي الإمام حسب المصلحة، فإن كان أخذ نصف المال كله أبلغ في الردع، أخذ نصف المال كله، وإلا، أخذ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و في حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: ((تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته))(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تكلم بكلمة). يعني قوله: و الله ، لا يغفر الله لك.
قوله: (أوبقت). أي: أهلكت، ومنه حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)(3)، أي المهلكات.
__________
(1) الإمام أحمد في (المسند) (5/ 2، 4)، وأبو داود: كتاب الزكاة / باب زكاة السائمة، حديث (1575)، والنسائي: كتاب الزكاة / باب عقوبة مانع الزكاة / باب عقوبة مانع الزكاة، حديث (2444)، والحاكم (1/555) – صححه على شرطهما ووافقه الذهبي، قال الشيخ الألباني وهو حسن للخلاف المعروف في بهز بن حكيم، أنظر الأرواء (791).
(2) سبق تخريجه.
(3) الإمام أحمد في المسند (2/323)، وأبو داود كتاب الأدب / باب في النهي عن البغي.(68/5)
قوله: (دنياه وآخرته). لأن من حبط عمله، فقد خسر الدنيا والآخرة.
أما كونها أوبقت آخرته، فالأمر ظاهر، لأنه من أهل النار والعياذ بالله، وأما كونها أوبقت دنياه، فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملا صالحا، وإلا، فهي خسارة، قال تعالى: { والعصر - إن الإنسان لفي خسر - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } (العصر: 1-3) وقال: { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } (الزمر: 15)، فمن لم يوفق للإيمان والعمل الصالح، فقد خسر دنياه حقيقة، لأن مآلها للفناء، وكل شيء فان فكأنه لم يوجد، واعتبر هذا بما حصل لك مما سبق من عمرك تجده مر عليك وكأنه لم يكن، وهذا من حكمة الله - - عز وجل - - لئلا يركن إلى الدنيا.
وقوله: (قال أبو هريرة). يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله .
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله (إن الرجل ليتكلم بالكلمة) الخ..
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله . لقوله: (من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان)، وكونه أحبط عمله بذلك.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
هاتان المسألتان اللتان ذكرهما المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتألي والمغفرة للمسرف على نفسه، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) ويقصد بها تقريب الجنة أو النار، والشراك: سير النعل الذي يكون بين الأبهام والأصابع.(68/6)
الرابعة: فيه شاهد لقوله: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة...) إلى آخره. يشير المؤلف إلى حديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى أن تبلغ حيث بلغت يهوى بها في النار سبعين خريفا)(1)، أو(أبعد مما بين المشرق والمغرب)(2)، وهذا فيه الحذر من مزلة اللسان، فقد يسبب الهلاك، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يضمن لي ما بين لحييه وبين رجليه أضمن له الجنة)(3)، وقال لمعاذ كف عليك هذا - يعني لسانه-) قلت: يارسول الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: (ثكلتك أمك يا معاذّ وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟)(4).
ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدي به، كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله، فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة.
__________
(1) أخرجه أحمد في (المسند) (2/ 297، 355)، والترمذي: كتاب الزهد / باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس، حديث (2314) واللفظ له، وقال (حسن غريب)، وبنحوه للبخاري: كتاب الرقاق /باب حفظ اللسان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت]، حديث (6477)، ومسلم: كتاب الزهد والرقاق / باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث (2988) وابن ماجة، حديث (3970).
(2) البخاري: كتاب الرقاق /باب حفظ اللسان، ومسلم: كتاب الزهد / باب التكلم بكلمة يهوى بها في النار، ولفظه عند مسلم. (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوى بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
(3) البخاري: كتاب الرقاق /باب حفظ اللسان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت]، حديث (6477)، والترمذي، حديث (2408).
(4) ، والترمذي: كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث (2616)وابن ماجة، حديث (3973)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (5136).(68/7)
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله: (قد غفرت له).
ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشيء هو من أكره الأمور إليه، مثل الجهاد في سبيل الله ، قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (البقرة: 216).
- - - - -(68/8)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يستشفع بالله على خلقه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): استشفع بالشيء، أي: جعله شافعا له، والشفاعة في الأصل: جعل الفرد شفعا، وهي التوسط، للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه.
مناسبة الباب لكتاب للتوحيد:
أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله - - عز وجل --، لأنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه، إذ لو كان أعلى مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده، بل يأمره أمرا والله - - عز وجل - - لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد، لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعا، ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على الأعرابي، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: يا رسول الله : نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبحان الله ! سبحان الله !) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويحك، أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)(1) وذكر الحديث. رواه أبو داود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أعرابي). واحد الأعراب، وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجفاء، لأنهم أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله .
قوله: (نهكت الأنفس). (نهكت)، أي: ضعفت.
قوله: (جاع العيال وهلكت الأموال)، أي: من قلة المطر والخصب، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيها إذا لم يكن هناك خصب، وجاع العيال لقلة العيش، وهلكت الأموال، لأنها لم تجد ما ترعاه.
__________
(1) أبو داود: كتاب السنة /باب في الجهمية، حديث (4726).(69/1)
قوله: (فاستق لنا ربك). أي: اطلب من الله أن يسقينا، وهذا لا بأس به، لأن طلب الدعاء ممن ترجى أجابته من وسائل إجابة الدعاء.
قوله: (نستشفع بالله عليك): أي: نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا، وهذا يقتضي أنه جعل مرتبة الله في مرتبة أدنى من مرتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (ونستشفع بك على الله ) أي: نطلب منك أن تكون شافعا لنا عند الله ، فتدعو الله لنا، وهذا صحيح.
قوله: (سبحان الله ، سبحان الله ). قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعظاما لهذا القول، وإنكارا له، وتنزيها لله - - عز وجل - - عما لا يليق به من جعله شافعا بين الخلق وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
و(سبحان): اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح يسبح تسبيحا، وإذا جاءت الكلمة بمعنى المصدر وليس فيها حروفه، فهي اسم مصدر، مثل: كلام اسم مصدر كلم والمصدر تكليم، ومثل سلام اسم المصدر سلم والمصدر تسليم.
(وسبحان): مفعول مطلق، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضا، فلا يأتي مع الفعل، فلا تقول: سبحت الله سبحانا إلا نادرا في الشعر ونحوه.
والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من نقص، أو عيب، أو مماثلة للمخلوق، أو ما أشبه ذلك.
وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب، لأن مماثلة الناقص نقص، بل مقارنة الكامل بالناقص تجعله ناقصا، كما قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره…… إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
قوله: (فما زال). إذا دخلت (ما) على زال الذي مضارعها يزال، صار النفي إثباتاً مفيداً للاستمرار، كقوله تعالى: { فما زالت تلك دعواهم.. } الآية [الأنبياء: 15]، وكقوله تعالى في المضارع: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } [هود: 118، 119].
وجملة (يسبح): خبر زال.(69/2)
قوله: (حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه). أي: عرف أثره في وجوه أصحابه، وأنهم تأثروا بذلك، لأنهم عرفوا أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من التنقص لله تعالى، فسبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه تنزيها له عما توهمه هذه الكلمة، ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السفر إذا هبطوا واديا سبحوا، تنزيها لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم، وإذا علوا نشزا كبروا، تعظيما لله - - عز وجل - -(1)وأن الله تعالى هو الذي له الكبرياء في السماوات والأرض.
قوله: (ويحك). ويح: منصوب بعامل محذوف، تقديره ألزمك الله ويحك.
وتارة تضاف، فيقال: ويحك، وتارة تقطع عن الإضافة، فيقال: ويحا لك، وتارة ترفع على أنها مبتدأ، فيقال: ويحه أو ويح له.
وهي وويل وويس كلها متقاربة في المعنى.
ولكن بعض علماء اللغة قال: إن ويح كلمة ترحم، وويل كلمة وعيد.
فمعنى كلمة ويحك: إني أترحم لك وأحن عليك.
ومنهم من قال: كل هذه الكلمات تدل على التحذير.
فعلى معنى أن ويح بمعنى الترحم يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل ترحما لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام، كأنه لم يعرف قدر الله .
قوله: (أتدري ما الله ). المراد بالاستفهام التعظيم، أي: شأن الله عظيم، ويحتمل أن المعنى: لا تدري ما الله ، بل أنت جاهل به، فيكون المراد بالاستفهام النفي.
وقوله: (ما الله ). جملة استفهامية معلق ل(تدري) عن العمل، لأن درى تنصب مفعولين، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرى.
قوله: (إن شأن الله أعظم من ذلك). أي: إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا الفظ.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد / باب التسبيح إذا هبط واديا، حديث (2993)(69/3)
قوله: (إنه لا تستطيع بالله على أحد) أي: لا يطلب منه أن يكون شفيعا إلى أحد، وذلك لكمال عظمته وكبريائه، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول: نستشفع بالله عليك.
فإن قيل: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سأل بالله فأعطوه)(1)، وهذا دليل على جواز السؤال بالله إذ لو لم يكن السؤال بالله جائزا لم يكن إعطاء السائل واجبا؟
والجواب أن يقال: إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المسؤل به أدنى من مرتبة المسؤول بخلاف الاستشفاع، بل يدل على أن مرتبة المسؤول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطي.
على أن بعض العلماء قال: (من سألكم بالله)، أي: من سألكم سؤالا بمقتضى شريعة الله فأعطوه، وليس المعنى من قال: أسألك بالله.
والمعنى الأول أصح، وقد ورد مثله في قول الملك: (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك.
الثانية: تغيره تغيراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله ).
الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله ).
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال (نستشفع بالله عليك) تؤخذ من قوله: (سبحان الله أتدري ما الله )، وقوله: (إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه).
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. تؤخذ من قوله: (فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه)، وكونه يكرر سبحان الله هذا يدل على أنه تغير حتى عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة، وهذا دليل على أن هذه الكلمة كلمة عظيمة منكرة.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(69/4)
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله ). لأنه قال: لا يستشفع بالله على أحد، فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: (نستشفع بك على الله )، وهذا يدل على جواز ذلك، وهنا قاعدة هي: (إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض، دل على أن ما لم ينكر فهو حق، مثال ذلك قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الأعراف: 28)، فأنكر قولهم: (والله أمرنا بها)، وسكت عن قولهم: (وجدنا عليها آباءنا) فدل على أنها حق، ومثلها عدد أصحاب الكهف، حيث قال عن قول: (ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب)، وسكت عن قول سبعة وثامنهم كلبهم) (الكهف: 22).
الرابعة التنبيه على تفسير(سبحان الله ). لأن قوله: (إن شأن الله أعظم) دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء. وهذا في حال حياته، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - انقطع عمله بنفسه وعبادته، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، فقال: (اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا). وتوسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بطلبهم الدعاء منه، ولهذا جاء في بعض الروايات: أن عمر كان يأمر العباس فيقوم فيدعو.
وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليكم يا رسول الله سمعت الله يقول: (و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) (النساء: 64)، وإني قد جئت مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه…… فطاب من طيبهن القاع والأكمُ(69/5)
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه…… فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال: يا عتبي، بشر الأعرابي أن الله قد غفر له.
فهذه الرواية باطلة لا صحة لها، لأن صاحبها مجهول، وكذلك من رواها عنه مجهولون، ولا يمكن أن تصح، لأن الآية: (ولو أنهم إذ ظلموا) ولم يقل إذا ظلموا، و(إذ) لما مضى بخلاف (إذا) والصحابة رضي الله عنهم لما لحقهم الجدب في زمن عمر بن الخطاب لم يستسقوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما استسقوا بالعباس بن عبد المطلب بدعائه وهو حاضر فيهم(1).
ومن فوائد الحديث:
أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه، لقوله: (نهكت الأنفس).
الترحم على المذنب إذا قلنا: إن (ويح) للترحم.
- - - - -
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة / باب سؤال الناس الامام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث (1010).(69/6)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسَدِّه طرق الشرك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): النبي -عليه الصلاة والسلام- حَمَى وحرس جناب التوحيد، وحَمى حِمَى التوحيد، وسد كل طريق توصل إلى الشرك؛ فإن في سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه.
ومن تلك الذرائع: قول القائل: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، ونحو ذلك؛ فإن مثل هذه الأقوال فيها من التعظيم الذي لا يجوز أن يواجَه به بشر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو سيد ولد آدم كما أخبر به -عليه الصلاة والسلام-، لكن كره المواجهة كما سيأتي.
فحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حِمى التوحيد، وسده طرق الشرك كان في جهة الاعتقادات، ومن جهة الأقوال والأفعال، فإذا تأملت سنته وما جاء في هذا الكتاب -كتاب التوحيد- وجدت أنه -عليه الصلاة والسلام- سد الباب في الاعتقادات الباطلة، وسد الباب في الأفعال الباطلة كقوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وسد الباب -أيضا- في الأقوال التي توصل إلى الغلو المذموم، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وهذا الباب أيضا من ذلك في بيان حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حِمى التوحيد فيما يتعلق بالقول الذي قد يتبعه اعتقاد.
(ق): مناسبة الباب للتوحيد:
لما تكلم المؤلف رحمه الله فيما مضى من كتابه على إثبات التوحيد، وعلى ذكر ما ينافي كماله، ذكر ما يحمي هذا التوحيد، وأن الواجب سد طرق الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(70/1)
عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)(1) رواه أبو داود بسند جيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (انطلقت في وفد بني عامر). الظاهر أن هذا الوفد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام التاسع، لأن الوفود كثرت في ذلك العام، ولذلك يسمى عام الوفود.
قوله: (أنت سيدنا). السيد: ذو السؤدد والشرف، والسؤدد معناه: العظمة والفخر وما أشبهه.
وسيد: صفة مشبهة على وزن فيعل، لأن الياء الأولى زائدة.
قوله: (السيد الله ). لم يقل - صلى الله عليه وسلم -: سيدكم كما هو المتوقع، حيث إنه رد على قولهم سيدنا لوجهين:
الوجه الأول: إرادة العموم المستفاد من (أل)، لأن (أل) للعموم، والمعنى: أن الذي له السيادة المطلقة هو الله - عز وجل - ولكن السيد المضاف يكون سيدا باعتبار المضاف إليه، مثل: سيد فلان، سيد البشر، وما أشبه ذلك.
الوجه الثاني: لئلا يتوهم أنه من جنس المضاف إليه، لأن السيد كل شيء من جنسه.
والسيد من أسماء الله تعالى، وهي من معاني الصمد، كما فسر ابن عباس الصمد بأنه الكامل في علمه وحلمه وسؤدده وما أشبه ذلك.
ولم ينههم - صلى الله عليه وسلم - عن قولهم: (أنت سيدنا)، بل أذن لهم بذلك، فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان فيترقوا من السيادة الخاصة إلى السيادة العامة المطلقة. لأن سيدنا سيادة خاصة مضافة، و(السيد) سيادة عامة مطلقة غير مضافة.
قوله: (تبارك). قال العلماء: معنى تبارك، أي: كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون إن هذا لا يوصف به إلا الله ، فلا يقال: تبارك فلان، لأن هذا الوصف خاص بالله.
__________
(1) سبق تخريجه.(70/2)
وقول العامة: (أنت تباركت علينا) لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله - - عز وجل - -، وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان إذا كان أهلا لذلك، فقال أسيد بن حضير حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر)(1).
قوله: (وأفضلنا). أي: فضلك أفضل من فضلنا.
قوله: (وأعظمنا طولا). أي: أعظمنا شرفا وغنى، والطول: الغنى، قال تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } (النساء: 25) ويكون بمعنى العظمة، قال تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } (غافر: 3) أي: ذي العظمة والغنى.
قوله: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم). الأمر للإباحة والأذن كما سبق.
وقوله: (قولوا بقولكم): يعني قولهم أنت سيدنا، أو أنت أفضلنا، وما أشبه ذلك.
وقوله: (أو بعض قولكم) يحتمل أن يكون شكا من الراوي، وأن يكون من لفظ الحديث، أي اقتصروا على بعضه.
قوله: (ولا يستجرينكم الشيطان). استجراه بمعنى: جذبه وجعله يجري معه، أي: لا يستميلنكم الشيطان ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولا منكرا، فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ما ينبغ أن يفعل ونهاهم عن الأمر الذي لا ينبغي أن يفعل، حماية للتوحيد من النقص أو النقض.
__________
(1) البخاري: كتاب التيمم / باب وقول الله تعالى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } ، حديث (334)، ومسلم: كتاب الحيض / باب التيمم، حديث (367)، والنسائي، حديث (310).(70/3)
وقال في النهاية: (لا يستجرينكم الشيطان)، أي: لا يستغلبنكم فيتخذكم جريا، أي: رسولا ووكيلا.وعلى التفسيرين، فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - حماية التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، والحماية من المنكر تعظم كلما كان المنكر أعظم وأكبر أو كان الداعي إليه في النفوس أشد. ولهذا تجد أن باب الشرك حماه النبي عليه الصلاة والسلام حماية بالغة حتى سد كل طريق يمكن أن يكون ذريعة إليه، لأنه أعظم الذنوب، وأيضا باب الزنا حمي حماية عظيمة، حتى منعت المرأة من التبرج وكشف الوجه وخلوتها بالرجل بلا محرم وما أشبه ذلك، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الزنا، لأن النفوس تطلبه، وفي باب الربا أيضا حمي الربا حماية عظيمة، حتى أن الرجل ليعطي الرجل صاعا طيبا من البر بصاعين قيمتها واحدة، ويكون ذلك رباً محرم، مع أنه ليس فيه ظلم.
فالشرك قد يكون من الأمور التي لا تدعوا إليه النفوس كثيرا لكنه أعظم الظلم، فالشيطان يحرص أن يوصل ابن آدم إلى الشرك بكل وسيلة، فحماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حماية تامة محكمة، حتى لا يدخل الإنسان فيه من حيث لا يشعر، وهذا هو معنى الباب الذي ذكره المؤلف.(70/4)
(ف): قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: يا سيدنا قال: (السيد الله تبارك وتعالى)(1) وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: (قوموا إلى سيدكم)(2) وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي سيد كندة، ولا يقال الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب. لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: ' 6: 164 ' { قل أغير الله أبغي ربا } أي إلهاً وسيداً وقال في قول الله تعالى: " الله الصمد " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد: وقال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. وأما استدلالهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار (قوموا إلى سيدكم) فالظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يواجه سعداً به، فيكون في هذا المقام تفضيل والله أعلم.
(ق): تنبيه:
__________
(1) صحيح: أبو داود: كتاب الأدب: باب في كراهية التمادح ،حديث(4806)، أخرجه أحمد (4/25) وقال الحافظ في الفتح (5/179) رجاله ثقات وقد صححه غير واحد. أ.هـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3594).
(2) جزء من حديث أبي سعيد الخدري الذي اخرجه البخاري :كتاب المغازي: باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة (4121) ومسلم ، كتاب الجهاد والسير: باب جواز قتال من نقض العهد ،حديث(1768)،(64).(70/5)
جرى شرح هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن قول سيدنا: فحاولوا الجمع بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم(1)، وقوله: (قوموا إلى سيدكم)(2)، وقوله في الرقيق: (وليقل سيدي ومولاي)(3) بواحد من ثلاثة أوجه:
الأول: أن النهي على سبيل الكراهة والأدب، والإباحة على سبيل الجواز
الثاني: أن النهي حيث يخشى منه المفسدة، وهي التدرج إلى الغلو والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
الثالث: أن النهي بالخطاب، أي: أن تخاطب الغير بقولك: أنت سيدي أو سيدنا، بخلاف الغائب، لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو وترفع، ثم إن فيه شيئا آخر، وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له بخلاف ما إذا جاء من الغير، مثل: (قوموا إلى سيدكم)، أو على سبيل الغيبة، كقول العبد: قال سيدي ونحو ذلك، لكن هذا يرد عليه إباحته - صلى الله عليه وسلم - للرقيق أن يقول لمالكه: سيدي.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب إذا نزل العدو على حكم رجل، حديث (3043)، ومسلم: كتاب: الجهاد والسير / باب جواز قتال من نقض العهد، حديث (1768)، وأبو داود، حديث (5215).
(3) تقدم تخريجه.(70/6)
والذي يظهر لي أن لا تعارض أصلا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم أن يقولوا بقولهم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان بالغلو مثل (السيد)لأن السيد المطلق هو الله تعالى، وعلى هذا فيجوز أن يقال: سيدنا وسيد بني فلان ونحوه، ولكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلا لذلك، أما إذا لم يكن أهلا كما لو كان فاسقا أو زنديقا، فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاها، وقد جاء في الحديث: لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يكن سيد فقد أسخطتم ربكم - عز وجل -)(1)، فإذا كان أهلا لذلك وليس هناك محذور فلا باس به، وأما أن خشي المحذور أو كان غير أهل، فلا يجوز.
والمحذور: هو الخشية من الغلو فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أنس - رضي الله عنه -، أن ناساً قالوا: يا رسول الله : يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: (يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا a، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل -). رواه النسائي بسند جيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قالوا: يا رسول الله ) هذا النداء موافق لقوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } (النور: 63) أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، فتقولوا: يا a ! ولكن قولوا: يا رسول الله ! أو يا نبي الله !
وفي الآية معنى آخر: أي إذا دعاكم الرسول، فلا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا إن شئتم أجبتم وإن شئتم أبيتم، فهو كقوله: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم } (الأنفال: 24) وعلى المعنى الأول تكون (دعاء) مضافة إلى المفعول، وعلى الثاني تكون مضافة إلى الفاعل.
__________
(1) أبو داود: كتاب الأدب / باب لا يقول المملوك ربي وربتي، حديث (3977)، وصححه الشيخ الألباني كما في الصحيحة (371).(70/7)
قوله: (يا خيرنا). هذا صحيح، فهو خيركم نسبا، ومقاما، وحالا.
قوله: (وابن خيرنا). أي: في النسب لا في المقام والحال، وكذلك يقال في قوله: (وابن سيدنا).
قوله: (قولوا بقولكم). سبق القول فيه.
قوله: (لا يستهوينكم الشيطان). أي: لا يستميلنكم الشيطان فتهووه وتتبعوا طرقه حتى تبلغوا الغلو ونظيره قوله تعالى: { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } (الأنعام: 71)
قوله: (أنا a عبد الله ورسوله). a اسمه العلم، وعبد الله ورسوله وصفان له.
وهذان الوصفان أحسن وأبلغ وصف يتصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك وصفه الله تعالى بالعبودية في أعظم المقامات، فوصفه بها في مقام إنزال القرآن عليه، قال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } (الفرقان: 1) ووصفه بها في مقام الإسراء، قال تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } (الإسراء: 1)، ووصفه بها في مقام المعراج قال تعالى: { فأوحى إلى عبده ما أوحى } (النجم: 10) ووصفه في مقام الدفاع عنه والتحدي، قال تعالى: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } (البقرة: 23).
وكذلك بالنسبة للأنبياء، كقوله تعالى: { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا } (الإسراء: 3) وهذه العبودية خاصة، وهي أعلى أنواع الخاصة.
والعبودية لله من أجل أوصاف الإنسان، لأن الإنسان إما أن يعبد الله أو الشيطان، قال تعالى: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين - وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } (يس: 60 -61) قال ابن القيم:
هربوا من الرق الذي خلقوا له…… فبلوا برق النفس والشيطان
وقال الشاعر:
لاتدعني إلا بيا عبدها … فإنه أشرف أسمائي(70/8)
قوله: (ورسوله). أي: المرسل من عنده إلى جميع الناس، كما قال تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } الأعراف: 158). ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قمة الطبقات الصالحة، قال تعالى: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } (النساء: 69) والنبيون فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل هو أفضلهم، ومن عبارة المؤلف رحمه الله في الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب).
وقد تطرف في الرسول صلى الله عليه طائفتان:
طائفة غلت فيه حتى عبدته، وأعدته للسراء والضراء، وصارت تعبده وتدعوه من دون الله .
وطائفة كذبته، وزعمت أنه كذاب، ساحر، وشاعر، مجنون، كاهن، ونحو ذلك.
وفي قوله: (عبد الله ورسوله) رد على الطائفتين.
قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي). (ما) نافية و(إن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أحب، أي: ما أحب رفعتكم إياي فوق منزلتي، لا في الألفاظ، ولا في الألقاب، ولا في الأحوال.
قوله (التي أنزلني الله ). يستفاد منه أن الله تعالى هو الذي يجعل الفضل في عباده، وينزلهم منازلهم.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن التوحيد يجب أن يحمى من كل وجه حتى في الألفاظ، ليكون خالصا من كل شائبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو. تؤخذ من قوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) ووجهه: أن الرسول جعل هذا من استجراء الشيطان، والإنسان يجب عليه أن يحذر كل ما كان من طرق الشيطان.(70/9)
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: (أنت سيدنا). وتؤخذ من قوله: (السيد الله ) فينبغي أن يقول من قيل له ذلك: (السيد الله ).
الثالثة: قوله: (لا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. ظاهر كلام المؤلف أن هذا من استجراء الشيطان، فهذه الكلمة يحتمل أن معناها أن ما قلتم من أستجراء الشيطان.
ويحتمل أن المعنى: قولوا بهذا القول، ولكن إياكم أن تغلوا، فإن هذا من استجراء الشيطان، وهذا ظاهر الحديث كما سبق.
الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي). أي: إني أكره أن ترفعوني فوق منزلتي)، وهي العبودية والرسالة، ففيها تواضعه - صلى الله عليه وسلم -.
- - - - -(70/10)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في قوله تعالى:
{ وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ - سبحانه وتعالى - عَمَّا يُشْرِكُونَ } (الزمر: الآية67)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): قوله: { وما قدروا } . الضمير يعود على المشركين، و { ما قدروا } : عظموا، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته.
قوله: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } . يحتمل أن تكون الواو للحال، أي: ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال.
ويحتمل أن تكون للاستئناف، لبيان عظمة الله - - عز وجل - -، وهذا أقوى، لأنه يعم هذه الحال وغيرها.
والقبضة: هي ما يقبض باليد، وليس المراد بها الملك كما قيل، نعم، لو قال: الأرض في قبضته، لكان تفسيرها بالملك محتملا.
قوله { جميعا } . حال من الأرض، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها، الأرض كلها جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه، قال الله - - عز وجل -: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده } (الأنبياء: 104).
قوله: { - سبحانه وتعالى - } . هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال: { وتعالى } ، أي: ترفع.
قوله: { عما يشركون } .أي: عن كل شرك يشركون به، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس.(71/1)
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيئ المالك لكل شيئ، وكل شيئ تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السدى: ما عظموه حق عظمته. وقال a بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيئ قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا a! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1) الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله (حبر). الحبر هو العالم الكثير العلم، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف، ولهذا كان العالم أحيانا يسمى بالحبر وأحيانا بالبحر.
قوله: (إنا نجد) أي: في التوراة.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن / باب قوله تعالى { وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ } ، حديث (4811)، مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث (2786)، والترمذي، كتاب صفة جهنم، حديث (2595).(71/2)
قوله: (فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -). ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكارا، لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه، لكنه قال: (تصديقا لقول الحبر) فكانت إقرارا لا غير، ويدل ذلك قوله: ثم قرأ: { وما قدروا الله حق قدره... } الآية، فهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله ، فضحكه وإستشهاده تقرير لقول الحبر، وسبب الضحك هو سروره، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه، لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوف يسر به، وإن كان الرسول يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله ، لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء، أرأيت أسامة بن زيد وأبوه زيد بن الحارثة؟ هل كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شك في أن أسامة ابنٌ لزيد؟
الجواب: ليس عنده شك في ذلك، ولما مر بهما مجزز المدلجي - وهو من أهل القيافة - وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما، فنظر إلى أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - سرورا عظيما حتى دخل على عائشة مسرورا تبرق أسارير وجهه،
وقال: (ألم ترى أنه مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: أن هذه الأقدام بعضها من بعض(1)، فالمهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل تبرق أسارير وجهه، لأن في ذلك تأييدا للحق، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض، لكن الأمر ليس كما قالوا، بل هم كاذبون في ذلك، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوى، فلعل المخالف في اللون نزعة عرق.
__________
(1) البخاري: كتاب الفرائض/باب القائف، حديث(6770)، ومسلم: كتاب الرضاع /باب العمل بإلحاق القائف بالولد، حديث (1459).(71/3)
قوله: (أصبع). واحدة الأصابع، وهي مثلثة الأول والثالث، ففيها تسع لغات، والعاشر أصبوع، وفي هذا يقول الناظم:
وهمز أنملة ثلث وثالثة…… التسع في أصبع واختم بأصبوع
قوله: (أنا الملك). هذه الجملة تفيد الحصر، لأنها اسمية معرفة الجزئين، ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد، قال تعالى: { يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } (غافر: 16) وكل الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلا، وبهذا يظهر ملكوت الله - - عز وجل - - في ذلك اليوم ظهورا بينا، لأنه سبحانه 0 ينادي: لمن الملك اليوم، فلا يجيب أحد، فيجيب نفسه: { لله الواحد القهار } .
وقوله: (الملك). أي: ذو السلطان، وليس مجرد المتصرف، بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو، وأما (المالك) فدون ذلك، ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك، وقوله تعالى: { مالك يوم الدين } (الفاتحة: 4) فيها قراءتان: (ملك، ومالك)، ليتبين بذلك أنه ملك مالك.
فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدبير والملك، بخلاف غيره، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكا لا يملك التصرف، ومنهم المالك وليس بملك.
وقوله: (حتى بدت نواجذه). أي: ظهرت، ونواجذ: جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس.
وهذا الضحك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تقرير لقول الحبر، ولهذا قال ابن مسعود: (تصديقا لقول الحبر) ولو كان منكرا ما ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا استشهد بالآية، ولقال له: كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذي يزني لا يرجم، ولكنه ضحك تصديقا لقول الحبر وسرورا بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحى إلى a - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: ثم قرأ { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته... } الآية.(71/4)
هذا معنى الآية التي لا تحتمل غيره، وأن السماوات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه، أي يده: تبارك وتعالى، لأن ذلك تفسيره - صلى الله عليه وسلم -، وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة.
وأما تفسير أهل التحريف، فيقول بعضهم: { قبضته } ، أي: في قبضته وملكه وتصرفه، وهو خطأ، لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله.
وقول بعضهم: { السماوات مطويات } ، أي: تالفة وهالكة، كما تقول انطوى ذكر فلان، أي: زال ذكره.
و { بيمينه } ، أي: بقسمه، لأنه قال تعالى: { كل من عليها فان - ويبقى وجه ربك } (الرحمن: 26-27) فجعلوا المراد باليمين القسم... إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف، وهذا لظنهم الفاسد بالله، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل، فصاروا ينكرون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججا.
فيقال لهم: هل أنتم أعلم بالله من الله ؟
إن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، قلنا هل أنتم أفصح في التعبير عن المعاني من الله؟
إن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا لا، خُصموا، وقلنا لهم: إن الله بين ذلك ابلغ بيان بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية، وهل أنتم أنصح من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعباد الله ؟ فسيقولون: لا.
فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام، واصدقه، وأبينه، وأعلم بما يقول، لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه، ولسنا بمذنبين، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقته التي أراده الله بها.
ومن فوائد الحديث:
إثبات الأصابع لله - - عز وجل - - لإقراره - صلى الله عليه وسلم - هذا الحبر على ما قال.(71/5)
والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله - - عز وجل - -، كاليد، وليس المراد بقوله (على إصبع) سهولة التصرف في السماوات والأرض، كما يقوله أهل التحريف، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ والتقسيم، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أثبت ذلك بإقراره، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)(1).
وقوله: (بين أصبعين) لا يلزم من البينية المماسة، ألا ترى قوله تعالى: { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } (البقرة: 164) والسحاب لا يمس الأرض ولا السماء وهو بينهما، ونقول: عنيزة بين الزلفي والرس، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما، وتقول: شعبان بين ذي القعدة وجمادى، ولا يلزم أن يكون مواليا له، فتبين أن البينية لا تسلتزم الاتصال في الزمن أو المكان، وكما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أن الله - - سبحانه وتعالى - - يكون قبل وجه المصلى(2) ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلى إليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك: الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون قِبل وجهك وهي في العلو.
فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال، وأن من قال: إن طريقتهم أعلم وأحكم، فقد ضل.
ومن المشهور عندهم قولهم: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر، فهو:
أولا: فيه تناقض، لأنهم قالوا: طريق السلف أسلم، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم وأحكم، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم، فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب.
__________
(1) مسلم كتاب القدر/ باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، حديث(2654).
(2) البخاري: كتاب الصلاة/ باب حك البزاق باليد في المسجد، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة/ باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، حديث (547).(71/6)
ثانيا: أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل؟
ثالثا: يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأن طريقة السلف هي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
رابعا: أنها قد تصل إلى الكفر، لأنها تستلزم تجهيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسفيهه، فتجهيله ضد العلم، وتسفيهه ضد الحكمة، وهذا خطر عظيم.
فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معنى صحيحا، لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها، فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذي ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: (هلك المتنطعون)(1)، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمنى أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال، ويقول بعضهم: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور.
وهذا من شدة ما وجدوا من الشك والقلق والحيرة، ولا تظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبدا، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة، وإلا ابتلى بالشك والقلق والحيرة، وقال بعضهم: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام، وما بالك - والعياذ بالله - بالشك عند الموت، يختم للإنسان بضد الإيمان.
__________
(1) مسلم: كتاب العلم: هلك المتنطعون، حديث (2670)، وأبو داود، حديث (4608)، وأحمد (1/368)، حديث (3655).(71/7)
لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهولة وبما جرى عليه السلف، نقول كما قال الرازي وهو من علمائهم ورؤسائهم: رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: { الرحمن على العرش استوى } (طه:5)، يعني: فأثبت وأقرأ في النفي: { ليس كمثله شيء } (الشورى:11) { ولا يحيطون به علما } (طه:110)، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، لأنه أقر قبل هذا الكلام، فقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رايتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن.
والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله - عز وجل - اعتمادا على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالا مبينا، فالصحابة رضي الله عنهم هل ناقشوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به إنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته، لكن يعلمون أن الله لا مثل له: فيجمعون بين الإثبات وبين النفي.
إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه إثبات الأصابع لله - - عز وجل - - نقر به ونقبله، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معنى فنكون بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل نقرؤه ونقول: المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا: إنه مثل أصابعنا، بل نقول الله أعلم بكيفية هذه الأصابع، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة، فكذلك لا نعلم كيفية صلاته، بل نكل علمها إلى الله - - سبحانه وتعالى - -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية لمسلم: (والجبال والشجر على إصبع ثم يهزهم فيقول أنا الملك أنا الله )(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث (2786).(71/8)
قوله (ثم يهزهن). أي هزا حقيقيا، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرا هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها، فصار المنبر يتحرك ويهتز لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى.
فإن قلت هل نهُزُّ أيدينا كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟.
فالجواب: إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه، فليس كل من شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول: يجب علينا ان نبلغ كما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فلو قال قائل: إن الله سميع بصير، لكن قال: سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } (النساء: 58) وضع إبهامه على أذنه والتى تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك(1)، فهذا الإنسان الذي يقول: إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر نقول له هكذا.
وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول: إن الله لا يقبض السماوات بيمينه، وأن معنى قبضته، أي: في تصرفه، فهذا نقول له كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أبو داود: كتاب السنة /باب في الجهمية، حديث (4728) وصححه الشيخ الألباني.(71/9)
فالمقام ليس بالأمر السهل، بل هو أمر صعب دقيق للغاية، فإنه يخشى من أن يقع أحد في المحذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضررا، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثا(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية للبخاري:
[يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع]أخرجاه(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والماء والثرى على إصبع). هذا لا ينافي قوله (الأرضين على إصبع)، لأنه يقال (الماء والثرى على إصبع) أي: الأرض كلها على إصبع، ويراد بالإصبع الجنس، وإلا لتناقض مع معنى الحديث الذي قبله: (الشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع)، إذ النكرة إذا كررت بلفظ النكرة، فالثاني غير الأول غالبا، وإذا كررت بلفظ المعرفة، فالثاني هو الأول غالبا، فيقال: الماء والثرى كناية على الأرض كلها، أو أن الماء والثرى على إصبع وسكت عن الباقي، إما اختصار أو اقتصار.
__________
(1) البخاري: كتاب العلم / باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر في فهم بعض الناس عنه، حديث (126)، ومسلم: كتاب الحج / باب نقض الكعبة وبنائها، حديث (1333).
(2) البخاري: كتاب تفسير القرآن / باب قوله تعالى { وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ } ، حديث (4811)، مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث (2786).(71/10)
(ف): وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف - وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه. والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم(1) من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. قال: وأنزل الله : { وما قدروا الله حق قدره } الآية.وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة عن عطاء.
__________
(1) البخاري، كتاب التفسير : باب { وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ } (4811)، كتاب التوحيد :باب قول الله تعالى { لما خلق بيدي } (7414، 7415)،حديث، ومسلم ، كتاب صفات المنافقين : ،حديث(2786)،(69)، وكتاب صفة القيامة والجنة والنار ، أخرجه أحمد (1/457)، الترمذي: كتاب التفسير: باب ومن سورة الزمر (3238).(71/11)
عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: {مر يهودي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه، والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله : { وما قدروا الله حق قدره } }وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ " تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن a حدثنا عمّي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك " تفرد به أيضاً من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر.(71/12)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله ابن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، - سبحانه وتعالى - عما يشركون " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر حتى قلنا: ليخرن به(1) أ.هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: [يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون](2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: (يطوي الله السماوات...) سبق معنى هذا الحديث، وأن المراد بالطي الطي الحقيقي.
قوله: (ثم يقول: أنا الملك). يقول ذلك ثناء على نفسه - - سبحانه وتعالى - وتنبيها على عظمته الكاملة وعلى ملكه الكامل، وهو السلطان، فهو مالك ذو سلطان، وهذه الجملة كلا جزأيها معرفة، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فإن ذلك من طرق الحصر، أي: أنا الذي لي الملكية المطلقة والسلطان التام لا ينازعني فيهما أحد.
__________
(1) صحيح: أخرجه أحمد (2/72) وابن خزيمة في التوحيد ص(72) وابن أبي عاصم في السنة (546) واسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في تخريج السنة لأبن أبي عاصم (546).
(2) مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث (2786)، وابن ماجة، حديث (4275).(71/13)
قوله: (أين الجبارون؟). الاستفهام للتحدي، فيقول: أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والتجبر والتكبر على عباد الله ؟ وفي ذلك الوقت يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم.
قوله: (يطوي الأرضين السبع). أشار الله في القرآن إلى أن الأرضين سبع، ولم يردالعدد صريحا في القرآن، قال تعالى: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } (الطلاق: 12)، والمماثلة هنا لا تصح إلا في العدد، لأن الكيفية تتعذر المماثلة فيها، وأما السنة، فقد صرحت بعدة أحاديث بأنها سبع.
قوله: (ثم يأخذهن بشماله). كلمة (شمال) اختلف فيها الرواة، فمنهم من أثبتها، ومنهم من أسقطها، وقد حكموا على من أثبتها بالشذوذ، لأنه خالف ثقتين في روايتها عن ابن عمر.
ومنهم من قال: إن ناقلها ثقة، ولكنه قالها من تصرفه.
وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في (صحيح مسلم): أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)(1)، وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال.
ولكن إذا كانت لفظة (شمال) محفوظة، فهي عندي لا تنافي(كلتا يديه يمين) لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال: (كلتا يديه يمين) أي ليست فيها نقص، ويؤيد هذا في قوله في حديث آدم: (اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة)(2) فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال، يعني: النقص في هذه اليد دون الأخرى،
قال: (كلتا يديه يمين)، ويؤيده أيضا قوله: (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن)، فإن المقصود بيان فضل مرتبتهم، وانهم على يمين الرحمن - سبحانه -.
__________
(1) مسلم: كتاب الإمارة / باب فضيلة الامام العادل وعقوبة الجائر، حديث (1827)، والنسائي، حديث (5379).
(2) الترمذي: كتاب التفسير /باب ومن سورة المعوذتين، حديث (3368)وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (5209).(71/14)