- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قال المصنف -رحمه الله -تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم]. بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدأ كتابه بالبسملة إقتداءً بالكتاب العزيز وعملاً بحديث [كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع](1) أخرجه ابن حبان من طريقين. قال ابن صلاح: والحديث حسن. ولأبي داود وابن ماجه [كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع](2)، ولأحمد [كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع](3) وللدارقطني عن أبى هريرة مرفوعاً [كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع](4)
__________
(1) ضعيف جداً :- الحديث بهذا اللفظ ليس عند ابن حبان وإنما عنده بلفظ "بحمد الله" رقم[(1)،(2)-الإحسان]وسيأتي تخريجه عند أبي داود وابن ماجة وإنما أخرجه بهذا اللفظ: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1210)ومن طريقه السمعاني في أدب الإملاء ص(51) ورواه السبكي في طبقات الشافعية (1/6) من طريق الرهاوي الذي أخرجه هو أيضاً في الأربعين له كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم. وهو حديث ضعيف جداً ضعفه الحافظ كما نقله صاحب الفتوحات الربانية (3/290) وضعفه السيوطي في الجامع بهذا اللفظ وحسنه بلفظ "بحمد الله" وقال الألباني في الإرواء رقم (1)" ضعيف جداً ولا تغتر بمن حسنه"أ.هـ.
(2) ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (4840): باب الهدى في الكلام. وابن ماجة: كتاب النكاح(1894):باب خطبة النكاح وفي رواية أبي داود "بالحمد فهو أجذم" وأشار إلى أنه مرسل ،ومع ذلك فقد حسنه ابن الصلاح والنووي والعراقي وأما الحافظ في الفتح (1/8)فأشار إلى في إسناده مقال. وضعفه الألباني: في الإرواء برقم (2).
(3) قال الألباني: (ضعيف) انظر الإرواء رقم (2).
(4) ضعيف: أحمد(2/359) والدار قطني (1/229) وأشار إلى أنه مرسل والحديث هو نفسه الرواية التي مرت بتخريج رقم (2).(1/1)
.
والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم ووقع لي نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله. وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبى إضافي، أي بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءاً به.
والباء في "بسم الله " متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلاً خاصاً متأخراً.
أما كونه فعلا، فلأن الأصل في العمل للأفعال.
وأما كونه خاصاً، فلأن كل مبتدئ بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له.
وأما كونه متأخراً، فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى.
وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد، منها أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله . ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة.فكان الحذف أعم. أنتهي ملخصاً.
وباء "بسم الله " للمصاحبة. وقيل: للاستعانة. فيكون التقدير: بسم الله أؤلف حال كوني مستعيناً بذكره، متبركاً به. وأما ظهوره في { اقرأ باسم ربك } وفي { بسم الله مجريها } فلأن المقام يقضتى ذلك كما لا يخفى.
(ت): قال المصنف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
الله علم على الرب تبارك وتعالى ذكر سيبويه انه أعرف المعارف ويقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى { هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ…… إلى آخر السورة } (الحشر: 23) فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له.(1/2)
(ف): قوله ( الله ) قال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة. قال العلامة ابن القيم رحمه الله : الصحيح: أنه مشتق، وأن أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ. وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى. وهى الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والسميع، والبصير، ونحو ذلك. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهى قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: أصلاً وفرعاً. ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر. وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الأخر وزيادة.
قال أبو جعفر بن جرير ( الله ) أصله (الإله) أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم. فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة وهى ساكنة فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة. وأما تأويل ( الله ) فإنه على معنى ما روى لنا عن عبد الله بن عباس قال: هو الذي يألهه كل شيئ ويعبده كل خلق وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعل ويفعل، وذكر بيت رؤبة بن العجاج.
لله در الغانيات المدة ... سبحن واسترجعن من تألهي(1/3)
يعنى من تعبدي وطلبي الله بعملي. ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله وأن معنى (أله) إذا نطق به: عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة. وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى ابن عباس (أنه قرأ " ويذرك وآلهتك " قال: عبادتك. ويقول: إنه كان يعبد) وساق بسند آخر عن ابن عباس ويذرك وإلاهتك. قال: إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن "أله" عبد وأن الإلالهة مصدره وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً [أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. فقال له المعلم: اكتب بسم الله . فقال عيسى: أتدرى ما الله ؟ الله إله الآلهة](1).
__________
(1) موضوع: ابن جرير (1/42) وسيورده المؤلف أيضاً مرفوعاً بلفظ"إن عيسى بن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم رحيم الآخرة" وهو عند ابن جرير أيضاً والحديث موضوع . قال ابن عدي كما في الميزان (1/153): باطل وحكم ابن الجوزي بوضعه في كتابه الموضوعات (1/203 ،204)وأقره السيوطي في اللألى (1/172)وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/231) والشوكاني في الفوائد المجموعة (1374).(1/4)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق - صلى الله عليه وسلم -: [لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك](1) وكيف نحصى خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر فله ومنه، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنياً، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه، وبه شقى من جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله. فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئاً منه ومنهياً إليه، وذلك موجبه ومقتضاه { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران: من
__________
(1) قطعة من حديث عائشة رضي الله عنها رواه مسلم ، كتاب الصلاة : ،حديث(486)،(222): باب ما يقال في الركوع والسجود.(1/5)
الآية191) إلى آخر كلامه رحمه الله .
(ت): (الرحمن الرحيم) قال ابن كثير اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمان اشد مبالغة من رحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أوسع رحمة وقال ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب.
قلت كأن فيه إشارة إلى معنى كلام ابن عباس لأن رحمته تعالى تغلب غضبه.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فاسمه ( الله ) دل على كونه مألوهاً معبوداً. يألهه الخلائق: محبة وتعظيماً وخضوعاً، ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه، مستلزم لجميع صفات كماله. إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم ( الله )، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع (العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم الرب)، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم (الرحمن).
وقال رحمه الله أيضاً: (الرحمن) دال على الصفة القائمة به سبحانه (والرحيم) دال على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } (الأحزاب: من الآية43) { إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة: من الآية117) ولم يجيء قط رحمان بهم.(1/6)
(ت): والجواب ما قاله ابن القيم أن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله تعالى ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورد الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به سبحانه حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله فانه دال على صفة الألوهية فلم يجئ قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الحمد لله، وصلى الله على a وعلى آله وسلم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ف): قوله (الحمد لله) معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم، فمورده: اللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقاً، وأخص منه سبباً، لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سبباً وأخص متعلقاً، لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها. فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة.
وقوله (وصلى الله على a وعلى آله وسلم). أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده: ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى عن أبى العالية قال: [صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة] وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه (جلاء الأفهام) و(بدائع الفوائد).
قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن على مرفوعاً [الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه](1).
__________
(1) صحيح: أحمد (1/144)وقال الهيثمي في المجمع (2/36): "وفيه بن السائب وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره "أ.هـ.(1/7)
قوله (وعلى آله) أي أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا. وعليه أكثر الأصحاب. وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين.
- -
- -(1/8)
الترتيب الفريد
من
شروحات كتاب التوحيد
رتبه وأعده
أبو توحيد لقمان حسن أمين
بسم الله الرحمن الرحيم(2/1)
ت ... عناوين الأبواب ... رقم الصفحة
1 ... المقدمة ... 5
2 ... شرح البسملة ... 8
3 ... كتاب التوحيد ... 13
4 ... باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ... 51
5 ... باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ... 82
6 ... باب الخوف من الشرك ... 101
7 ... باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله ... 118
8 ... باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ... 137
9 ... باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ... 160
10 ... باب ما جاء في الرقي والتمائم ... 177
11 ... باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما ... 194
12 ... باب ما جاء في الذبح لغير الله ... 213
13 ... باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ... 233
14 ... باب من الشرك النذر لغير الله ... 244
15 ... باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ... 252
16 ... باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ... 262
17 ... باب قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ... 283
18 ... باب قول الله تعالى:
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ... 302
19 ... باب الشفاعة ... 321
20 ... باب قول الله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ... 339
21 ... باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ... 353
22 ... باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ... 381
23 ... باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله ... 406
ت ... عناوين الأبواب ... رقم الصفحة
24 ... باب ما جاء في حماية المصطفى- صلى الله عليه وسلم -جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ... 424
25 ... باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ... 441
26 ... باب ما جاء في السحر ... 476(3/1)
27 ... باب بيان شيء من أنواع السحر ... 495
28 ... باب ما جاء في الكهان ونحوهم ... 511
29 ... باب ما جاء في النشرة ... 530
30 ... باب ما جاء في التطير ... 537
31 ... باب ما جاء في التنجيم ... 558
32 ... باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء ... 568
33 ... باب قول الله تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ } ... 588
34 ... باب قول الله تعالى:
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ... 608
35 ... باب قول الله تعالى: { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ... 625
36 ... باب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ... 636
37 ... باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ... 644
38 ... باب ما جاء في الرياء ... 658
39 ... باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ... 669
40 ... باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله ... 684
41 ... باب قول الله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ... } ... 701
42 ... باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات ... 716
ت ... عناوين الأبواب ... رقم الصفحة
43 ... باب قول الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } ... 734
44 ... باب قول الله تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ... 742
45 ... باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ... 753
46 ... باب قول: ما شاء الله وشئت ... 756
47 ... باب من سب الدهر فقد آذى الله ... 764(3/2)
48 ... باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه ... 773
49 ... باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك ... 781
50 ... باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ... 788
51 ... باب ما جاء في قول الله تعالى:
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي... } ... 800
52 ... باب قول الله تعالى: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } ... 815
53 ... باب قول الله تعالى:
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } ... 825
54 ... باب لا يقال: السلام على الله ... 835
55 ... باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت ... 841
56 ... باب لا يقول: عبدي وأمتي ... 848
57 ... باب لا يرد من سأل الله ... 854
58 ... باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ... 862
59 ... باب ما جاء في الّلو ... 866
60 ... باب النهي عن سب الريح ... 881
61 ... باب قول الله تعالى: { أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة... } ... 884
62 ... باب ما جاء في منكري القدر ... 894
63 ... باب ما جاء في المصورين ... 919
64 ... باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } ... 935
ت ... عناوين الأبواب ... رقم الصفحة
65 ... باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه ... 950
66 ... باب ما جاء في الإقسام على الله ... 965
67 ... باب لا يستشفع بالله على خلقه ... 971
68 ... باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد، وسده طرق الشرك ... 976
69 ... باب ما جاء في قول الله تعالى:
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ... 983
70 ... الفهرسة ... 1006
تم بحمد الله(3/3)
L
المقدمة
[الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده، وأقام بهم الحجة على عبيده، فاتفقوا أولهم وآخرهم على توحيده وتفريده، ونبذ الشرك وتنديده، وأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه، وعبادة غيره –كائناً من كان- باطلة ،فإنه ما عبد غير الله إلا بالبغي ،والظلم ،والعدوان.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تأكيدا بعد تأكيد، لبيان مقام التوحيد ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد.
فهذا الكتاب -كتاب التوحيد- من مؤلفات الإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب وهو-رحمه الله- غني عن التعريف؛ لما جعل الله -جل وعلا- لدعوته من أثر ظاهر النفع في جميع أنحاء الأرض شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً، ولا غرو في ذلك فإن دعوته –رحمه الله- إحياء لدعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وكتاب التوحيد -الذي نحن الآن بصدد شرحه- كتاب عظيم جدا ، أجمع علماء التوحيد على أنه لم يُصَنَّف في الإسلام في موضوعه مثلُه، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه لم ينسج على منواله مثله ؛ لأن المؤلف -رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضاد ذلك التوحيد ،من أصله أو ما يضاد كماله، فامتاز الكتاب بسياق أبواب توحيد العبادة مفصلة، مدللة، وعلى هذا النحو ،بتفصيل ،وترتيب وتبويب لمسائل التوحيد ،لم يوجد من سبق الشيخ إلى ذلك فحاجة طلاب العلم إليه ، وإلى معرفة معانيه ماسة، لما اشتمل عليه من الآيات والأحاديث، والفوائد.(4/1)
وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري -رحمه الله- وهذا ظاهر ذلك أن الشيخ -رحمه الله- نسج كتابه هذا نسج الإمام البخاري صحيحه من جهة أن التراجم التي يعقدها، تحتوي على آية وحديث -غالباً- ،والحديث والآية على الترجمة، وما بعدها مُفَسِّر لها، وكذلك ،ما يسوقه –رحمه الله- من كلام أهل العلم من الصحابة أو التابعين، أو من أئمة الإسلام، هو على نسق طريقة أبي عبد الله البخاري -رحمه الله- فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.
وهذا الكتاب صنَّفه إمام الدعوة ابتداءً في البصرة لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله -- جل جلاله -- ومن ضياع مفهوم التوحيد الحق عند بعض المسلمين، وما رآه عندهم من مظاهر الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فابتدأ في البصرة جمْعَ هذا الكتاب وتحرير الدلائل لمسائله، ذكر ذلك تلميذه وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في المقامات ثم إن الشيخ لما قدم نجدا حرر الكتاب، وأكمله، فصار كتابه هذا -بحق- كتاب دعوة إلى التوحيد الحق ؛ لأن الشيخ -رحمه الله- بيَّن فيه أصول دلائل التوحيد، وبيَّن فيه معناه وفضله، كما بيَّن فيه ما يضاده، والخوف من مما يضاده، وبيَّن –أيضاً- أفراد توحيد العبادة، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا، واعتنى ببيان الشرك الأكبر والأصغر وصورهما والذرائع المؤدية إليهما، وبيَّن ما يحمى به التوحيد،والوسائل إلى ذلك، وبيَّن أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية، فـ(كتاب التوحيد) كتاب عظيم جدا، جدير بأن يعنى به عناية حفظ، ودرس، وتأمل فالعبد محتاج إليه للعمل به ولتبليغ ما فيه من العلم لمن وراءه من الناس ، سواء أكانوا في المسجد، أم في البيت، أم في مقر عمله ،أم في أيِّ جهة أخرى.(4/2)
والمقصود:أن من فهم هذا الكتاب فقد فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل قد فهم جُلَّ مسائله وأغلبها](1).
وبعد: فهذا ترتيب فريد من نوعه آثرت فيه إتمام الفائدة من شروحات مشايخنا الأعلام لكتاب التوحيد وقد جمعت أهم الشروحات من الشروحات العديدة لكتاب التوحيد وهي:
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب (رحمهم الله تعالى).
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (رحمهم الله تعالى).
القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله تعالى).
التمهيد لشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (حفظه الله تعالى).
علما أن لهذا الكتاب العظيم أثر عظيم في تصحيح عقيدة المسلمين ومما حملني على هذا العمل هو جمع الفوائد والفرائد الموزعة في هذه الشروحات التي لا يستغني عنها طالب العلم وذلك لجلالة قدر شراحها وما ألهمهم الله تعالى في خدمة هذا الكتاب الجليل الذي كان سبباً في هدايتي وهداية شيخي وكثير من الأخوة إلى عقيدة التوحيد، فأحببت خدمة هذا الكتاب راجياً من المولى أن ينفع به المسلمين ويجعله في ميزان حسناتي إنه ولي ذلك والقادر عليه { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود : 88].
الرموز الدالة على الشروحات في هذا الكتاب:
(ت): تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد.
(ف) : فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد.
(ق) : القول المفيد على كتاب التوحيد.
(تم) : التمهيد لشرح كتاب التوحيد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
__________
(1) جزء من مقدمة كتاب التمهيد لشرح كتاب التوحيد/لفضيلة الشيخ العلامة صالح آل الشيخ (حفظه الله)(4/3)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ت): الكتاب مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا ومدار المادة على الجمع ومنه تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا والكتيبة لجماعة الخيل والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف وسمي الكتاب كتابا لجمعه ما وضع له ذكره غير واحد والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا أي جعله واحدا.(5/1)
(تم): قوله: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) جرت عادة المصنفين والمؤلفين أن يضعوا بعد البسملة، والحمدلة خطبة للكتاب يبينون فيها طريقتهم فيه، ومرادهم من تأليفه، وهاهنا سؤال معروف، وهو : لماذا خالف الشيخ -رحمه الله - طريقة المصنفين فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال: ((كتاب التوحيد)) وقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) فأخلاه من الخطبة؟ والسبب في ذلك والسر فيه فيما يظهر لي أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ -رحمه الله - في هذا الكتاب هو توحيد الله - جل جلاله -، وتوحيد الله قد بيَّنه الله -جل وعلا- في القرآن، فكان -لذلك- من الأدب في مقام التوحيد ألا يجعل فاصلا بين الحق، والدال على الحق، وكلام الدال عليه، فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دل على هذا الحق هو الله -- جل جلاله --، والدليل عليه هو كلامه، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -،وهذا من لطائف أثر التوحيد على القلب وهذا كصنيع الإمام البخاري -رحمه الله - في صحيحه(1)؛ إذ لم يجعل لصحيحه خطبة بل جعل صحيحه مبتدئا بالحديث ذلك أن كتابه كتاب سنة، ومن المعلوم أن من الأدب،أو من مراعاة الأدب ألا يتقدم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدم كلامه على كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فجعل البخاري صحيحه مفتتحا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ))(2) لأن كتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدئا بكلام صاحب السنة -عليه الصلاة والسلام- وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها مَن نوَّر الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البخاري : كتاب بدء الوحي.
(2) البخاري: (1)،(54)،(2529)،(3898)،(5070)،(6689)،(6953)،ومسلم: (1907).(5/2)
(ق): والتوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحد يوحد، أي: جعل الشيء واحداً، وفي الشرع: إفراد الله -سبحانه- بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
(ت): وسمي دين الإسلام توحيدا لأن مبناه على ان الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له والى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله وهي متلازمة كل نوع منها لا ينفك عن الآخر فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب وان شئت قلت التوحيد نوعان توحيد في المعرفة والإثبات وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الإلهية والعبادة ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وذكر معناه غيرهما.(5/3)
(ق): أقسامه: ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: 1- توحيد الربوبية. 2- توحيد الألوهية. 3- توحيد الأسماء والصفات. وقد اجتمعت في قوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } (مريم: 65) القسم الأول: توحيد الربوبية: هو إفراد الله - - عز وجل - - بالخلق، والملك، والتدبير. فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله ، قال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [الأعراف: 54]، فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض } [فاطر: 3]؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي. أما ما ورد من إثبات خلق غير الله ؛ كقوله تعالى: { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14]، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في المصورين: يقال لهم [أحيوا ما خلقتم]. فهذا ليس خلقاً حقيقة، وليس إيجاداً بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضاً ليس شاملاً، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد: -(5/4)
قال الله تعالى: { مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 91]، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك؛ إذا لا يرضى أن يشاركه أحد، وإذا استقل به؛ فإنه يريد أيضاً أمراً آخر، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد. وحينئذ إذا أرادا السلطان؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعاً؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربّاً.(5/5)
وأما إفراد الله بالملك: فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم؛ كما قال تعالى: { ولله ملك السماوات والأرض } [آل عمران: 19]، وقال تعالى: { قل من بيده ملكوت كل شيء } [المؤمنون: 88]. وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله ؛ كقوله تعالى: { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } [المؤمنون: 6]، وقال تعالى: { أو ما ملكتم مفتاحه } [النور: 61]، فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئاً يسيراً من هذه المخلوقات؛ فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يملك ما تحت يد غيره، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعاً، فمثلاً: لو أراد أن يحرق ماله، أو يعذب حيوانه؛ قلنا: لا يجوز، أما الله - سبحانه -، فهو يملك ذلك كله ملكاً عاماً شاملاً. وأما إفراد الله بالتدبير: فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } [يونس: 31]. وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده، ومحصور بما أذن له فيه شرعاً. وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا مقرين به، قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } [الزخرف: 9]، فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين.(5/6)
(ت): فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قال مجاهد في الآية إيمانهم بالله قولهم إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدعون أنهم على ملة إبراهيم - عليه السلام - فأنزل الله تعالى { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر.
كما قال زهير
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخرڑليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال عنترة:
ياعبل أين من المنية مهربڑإن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى ان ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لاشتراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا اله إلا الله .
(ق): فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه: { فقال أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24]، { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38]. وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [النمل: 14]، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } [الإسراء: 102]؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله -- عز وجل --.(5/7)
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا: إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضاً؛ فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته.
ويقولون أيضاً بفرق ثالث، وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة، هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين.
القسم الثاني: توحيد الألوهية: ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين؛ فاعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة. وهو إفراد الله - - عز وجل - - بالعبادة. فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } [لقمان: 30].
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله - - عز وجل - - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيماً.
الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(5/8)
(ت): النوع الثالث توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والدعاء لله وحده وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له لا يجعل فيها شيئا لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله تعالى { فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون } وقوله تعالى { فان تولوا فقل حسبي الله لا اله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } وقوله تعالى { رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } وقوله تعالى { عليه توكلت واليه أنيب } وقوله تعالى { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا } وقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو أول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم وجميع أنواع العبادة ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار قال الله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } فهذا أول أمر في القرآن. وقال تعالى { لقد أرسلنا نوحا إلى وقومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك وقال هود لقومه { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال صالح لقومه { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال شعيب لقومه { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال إبراهيم - عليه السلام - لقومه { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون } وقال تعالى(5/9)
{ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقول لكم قال يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - [لمعاذ انك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ] وفي رواية[ان يوحدوا الله ] وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في الله كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من معاني الكتاب والحكمة فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال - صلى الله عليه وسلم - [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة] حديث صحيح وقال - صلى الله عليه وسلم - [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ] متفق عليه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح وأبدأ فيه وأعاد وضرب لذلك الأمثال بحيث أن كل سورة في القرآن فيها الدلالة على هذا التوحيد ويسمى هذا النوع توحيد الإلهية لأنه مبني على إخلاص التأله وهو أشد المحبة لله وحده وذلك يستلزم إخلاص العبادة وتوحيد العبادة لذلك وتوحيد الإرادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال وتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده قال الله تعالى { فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين } { قل الله اعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه } إلى قوله { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } إلى قوله { قل أفرأيتم ما تدعون من دون(5/10)
الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } الآية إلى قوله { اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا } الآية إلى قوله { وأنيبوا إلى ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } إلى قوله { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } إلى آخر السورة فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد والأمر به والجواب عن الشبهات والمعارضات وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم وما أعد لمن خالفه من العذاب الأليم وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن فهي داعية إلى هذا التوحيد شاهدة به متضمنة له لأن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الربوبية وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا متضمن له وإما دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه أوامر بأنواع من العبادات ونهي عن المخالفات فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما أيضا وأما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرههم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.(5/11)
(ف): قال شيخ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله : لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالى إلا له، ولا يعادى إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى: '2: 163' "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" قال تعالى: '16: 51' " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون " وقال تعالى: '23: 117' "ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" وقال تعالى: '43: 45' "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: '60: 4' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وقال عن المشركين: '37: 35، 36' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " وهذا في القرآن كثير.(5/12)
وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية. وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه. وأقر بأنه وحده خالق كل شيئ، لم يكن موحداً حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده. فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة. ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع. فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله. وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية. وهو الذي يقولونه عن أبى الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيئ. وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: '12: 106' "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قالت طائفة من السلف تسألهم: من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى: '23: 84 - 89' " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون " فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيئ وخالقه يكون عابداً له، دون ما سواه. داعيا له دون ما سواه راجياً له خائفاً منه دون ما سواه. يوالى فيه ويعادى فيه. ويطيع رسله ويأمر بما أمر به. وينهى عما نهى عنه. وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيئ. وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به(5/13)
وجعلوا له أنداداً. قال تعالى: '39: 43، 44 '" أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " وقال تعالى: '10: 18' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض - سبحانه وتعالى - عما يشركون " وقال تعالى: '6: 14' "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون" وقال تعالى: '2: 165' "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله " ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها. ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها. ثم يقول: إن هذا ليس بشرك. إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي. فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
(ق): تنبيه: من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواماً ينكرون وجود الرب - وإن كان يوجد من ينكر الرب -، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة!!. ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله - - عز وجل - - بما له من الأسماء والصفات. وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - - عز وجل - - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.(5/14)
الثاني: نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11]. فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعماً أنه منزه لله، وقد ضل، لأن المنزه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاً، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله ، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل، لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، (سميع بصير)، (عزيز حكيم)، (غفور رحيم)، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله - - عز وجل - -، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعماً بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذا وصموه بالعيب والنقص، لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه. وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدرهڑإذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله - - عز وجل --، وإن كان المعطلون أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.(5/15)
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم. فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة. ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرُ من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه. وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلاً بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير. وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة. وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف. وأيضاً الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضاً، ويتناقض هو بنفسه. وقد نقل شارح "الطحاوية" عن الغزالي - وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام - كلاماً إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطر، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم. وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر…… سعي العالمين ضلال
وأرواحنا وفي وحشة من جسومنا …… وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا…… سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(5/16)
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5] (إليه يصعد الكلم الطيب) [فاطر: 10]؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء) [الشورى: 11]، (ولا يحيطون به علماً) [طه: 110]؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علماً، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي أ.هـ.
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئناً منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبراً من خبر الله ، ولا أصح بياناً من بيان الله ؛ كما قال تعالى: (يريد الله ليبين لكم) [النساء: 26]، (يبين الله لكم أن تضلوا) [النساء: 176]، (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) [النحل: 89]، (ومن أصدق من الله قيلاً) [النساء: 122]، (ومن أصدق من الله حديثاً) [النساء: 87]. فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبداً؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقاً. ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزاً عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لِمَ" و"كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية. وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً، وهذه حال السلف رحمهم الله ، ولهذا لما جاء(5/17)
رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبدالله! (الرحمن على العرش استوى)، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً". أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فأجابهم. فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة. والجواب عن الإشكال في حديث النزول: أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله - - عز وجل - - ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر. وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعناً، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.
(ت): وهذا أيضا لا يكفي في حصول الإسلام بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبيه والإلهية والكفار يقرون بجنس هذا النوع وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك إما جهلا وإما عنادا كما قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فأنزل الله فيهم { وهم يكفرون بالرحمن } قال حافظ ابن كثير والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فانه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن، قال الشاعر
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال الآخر
ألا قبض الرحمن ربي يمينها(5/18)
وهما جاهليان
وقال زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكمڑليخفى ومهما يكتم الله يعلم
قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة ولو كانوا ينكرونه لردوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما ردوا عليه توحيد الإلهية فقالوا { اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } لا سيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد.
(تم): فهذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ -رحمه الله - في هذا الكتاب لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء -أعني: علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين الأول والثالث، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ -رحمه الله - القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس أحوج إليه، ويفتقدون التصنيف فيه، وهذه طريقة الإمام -رحمه الله - فإن كتاباته المختلفة، وإن مؤلفاته المتنوعة إنما كانت بحسب حاجة الناس إليها ليست للتكاثر، أو للاستكثار أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، فلم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يدعو وبين الأمرين فرق، فالشيخ -إذاً- بين في هذا الكتاب توحيد الإلهية والعبودية، وبيَّن أفراده من التوكل والخوف والمحبة والرجاء والرغبة والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر ونحو ذلك، فكل هذه عبادات لله سبحانه وحده دون من سواه.
ثم أن الشيخ -رحمه الله - لما بسط ذلك بيَّن أيضا ضده وهو الشرك فهذا الكتاب الذي هو كتاب التوحيد فيه بيان توحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وفيه أيضا بيان ضد ذلك، وضد التوحيد الشرك، والشرك معناه: اتخاذ الشريك، وهو أن يجعل واحدا شريكا لآخر، يقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين، فالشرك فيه تشريك، والله -جل وعلا- نهى عن الشرك، كما سيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله -.(5/19)
وقد بين أهل العلم عند كلامهم عن الشرك: أنه بحسب ما دلت عليه النصوص يقسم إلى قسمين باعتبار ويقسم إلى ثلاثة باعتبار آخر، فهو إما أن يقسم إلى شرك أكبر وشرك أصغر، فهذا باعتبار انقسامه إلى قسمين أو يقسم إلى : شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي، فهذا باعتبار انقسامه إلى ثلاثة أقسام .
والشرك هو اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في الربوبية، أو في العبادة أو في الأسماء والصفات، والمقصود هنا النهي عن اتخاذ شريك مع الله -جل وعلا- في العبادة والأمر بتوحيده سبحانه.
التقسيم الأول: وهو تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر، فالأكبر هو المُخرج من الملة، والأصغر ما حَكَمَ الشارع عليه بأنه شرك، وليس فيه تنديد كامل يلحقه بالشرك الأكبر، وعبر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، فعلى هذا يكون الشرك الأكبر منه ما هو ظاهرٌ ومنه ما هو باطن خفيّ.
فمثال الظاهر من الشرك الأكبر: عباد الأوثان والأصنام، وعباد القبور، والأموات، والغائبين. ومثال الباطن: شرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن، فشركهم أكبر ولكنه خفي، أي في الباطن وليس في الظاهر.
وكذلك الشرك الأصغر على هذا التقسيم منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي، فمثال الظاهر من الشرك الأصغر: لبس الحلقة، والخيط وتعليق التمائم، والحلف بغير الله ، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال.
ومثال الباطن الخفي منه: يسير الرياء، ونحو ذلك فيكون الرياء على هذا التقسيم أيضاً منه ما هو أكبر كرياء المنافقين الذين قال الله في وصفهم { يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلاً } (النساء: من الآية142)ومنه ما يقع فيه بعض المصلين المتصنعين في صلاتهم، لأجل نظر الناس إليهم،ومنه ما هو أصغر كمن يحب التسميع أو المراءآت.(5/20)
التقسيم الثاني للشرك: وهو جعله ثلاثة أقسام أكبر، وأصغر، وخفي، وهذا التقسيم يعنى به أن الأكبر ما كان مخرجا من الملة، مما فيه صرف العبادة لغير الله -- جل جلاله --، والأصغر ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، وفيه تنديد لا يبلغ به من أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك وحقيقة الحال: أنه ندد وأشرك.
وأما الشرك الخفي فهو: كيسير الرياء، ونحو ذلك وبعض أهل العلم يقول بالتقسيم الأول، ومنهم من يقول بالثاني، والتحقيق أنهما متساويان أحدهما يوافق الآخر ليس بينهما اختلاف، فإذا سمعت من يقول: إن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر، فقوله هذا صحيح، وإذا سمعت من يقول -وهو قول أئمة الدعوة- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر وخفي، فهذا أيضا قوله صحيح.
فإذا تبين ذلك فاعلم أن الشرك يعبر عنه بالتنديد، كما قال جل وعلا { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً } (البقرة: من الآية22)وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك ))(1) .
فالتنديد منه ما هو تنديد أعظم ومنه ما هو تنديد أصغر ليس فيه صرف العبادة لغير الله ، فإذا كان التنديد بجعل العبادة لغير الله صار التنديد شركا أكبر، وإذا كان التنديد بجعل غير الله -جل وعلا- ندا لله في عمل، ولم يبلغ ذلك الشرك الأكبر، فإنه يكون تنديدا أصغر، وهو المسمى بالشرك الأصغر، فهذه مقدمات وتعاريفات، وتنبيهات جعلتها بين يدي هذا الشرح لأهميتها،ولمسيس الحاجة إليها.والله أعلم.
قال إمام هذه الدعوة -رحمه الله -: (كتاب التوحيد)، (وقول الله تعالى) (قول) هذه كما في صحيح البخاري إما أن تنطقها على العطف فتقول : كتاب التوحيد وقول الله يعني : وكتاب قول الله ، أو تنطقها على الاستئناف، فتقول : وقول الله تعالى.
__________
(1) البخاري: (4761)،(6811)،(7520)،ومسلم(86)،(141).(5/21)
قال: (وقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56)) هذه الآية فيها بيان التوحيد، ووجه ذلك أن السلف فسروا قوله تعالى { إلا ليعبدون } بمعنى إلا ليوحدون(1).ودليل هذا الفهم إن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد، أعني توحيد العبادة فقوله { إلا ليعبدون } بمعنى إلا ليوحدون.
قوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) هذه الآية فيها حصر، لأن من المعلوم أن { ما } النافية مع { إلا } تفيد الحصر والقصر، فيكون معنى الكلام على هذا إني خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة.
(ق): قوله: (خلقت)، أي أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير. قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـڑــــض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله: (الجن): هم عالمُ غيبيُ مخفيُ عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة.
قوله: (الإنس) سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض.
(تم): وقوله: { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } و { إلا } هذه تسمى أداة استثناء والاستثناء هنا مفرغ، أي مفرغ من أعم الأحوال، كما يقول النحاة يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء أو لغاية من الغايات أبدا إلا لغاية واحدة هي أن يعبدوني.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/238).(5/22)
وقوله: { لِيَعْبُدُونِ } هذه اللام هذه تسمى لام التعليل، ولام التعليل هذه قد يكون معناها إما تعليل غاية، أو تعليل علة. فتعليل الغاية: يكون ما بعدها مطلوبا لكن قد يكون، وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية ويسميها بعض العلماء لام الحكمة، وفرق بين العلة والحكمة يوضحه إذا قيل: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ فالجواب : أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه فهذا التعليل لقوله { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } هو تعليل غاية ولو سألت شخصاً مثلا: لم أحضرت الكتاب؟ قال لك: أحضرته لأقرأ،كانت علة الإحضار أو الحكمة من الإحضار القراءة، فقد يقرأ، وقد لا يقرأ بخلاف اللام التي يكون معناها العلة وهي التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجودا وعدما.
فتلك هي علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة، فتكون اللام هنا: علة الغاية ؛ لأن من الخلق من أوجد وخلقه الله -جل وعلا- لكن عبد غيره.
ولام الحكمة شرعية، ويكون ما بعدها مطلوبا شرعا، وقد قال جل وعلا هنا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) فنفهم من هذا أن هذه الآية دالة على التوحيد من جهة أن الغاية من الخلق هو التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد.
(ق): ولهذا أعطى الله البشر عقولاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) [القصص: 85]؛ فلابد أن يردك إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
(ف): قال شيخ الإسلام: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل.
وقال أيضاً: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(5/23)
قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع. وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات. لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته. فهذا هو الحكمة في خلقهم.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية.
قال العماد ابن كثير: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام. لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع. انتهى.
وقال أيضا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء. ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم. بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه في الآية إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي وقال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله ' 75: 36 ' "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى وقال في القرآن في غير موضع "اعبدوا ربكم" "اتقوا ربكم" فقد أمرهم بما خلقوا له. وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعاً، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.(5/24)
قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى: ' 4: 64 ' "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته. ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول. وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم. الثاني: وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني. فيكونوا هم الفاعلين له. فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى.
ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث.
فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم. أن لا تشرك - أحسبه قال: ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك" فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وأن لا يشرك به شيئاً. فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره. وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم.
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق.
يجتمعان في حق المخلص المطيع. وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي. فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36].
قوله: (ولقد): اللام موطئه لقسم مقدر، وقد: للتحقيق. وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد.
قوله: (بعثنا)؛ أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة. والأمة هنا: الطائفة من الناس. وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ:(5/25)
1.الطائفة: كما في هذه الآية.
2.الإمام، ومنه قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) [النحل: 120].
3.الملة: ومنه قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) [الزخرف: 23].
4.الزمن: ومنه قوله تعالى: (وادكر بعد أمة) [يوسف: 45]. فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا a - صلى الله عليه وسلم -.
والحكمة من إرسال الرسل:
أ-إقامة الحجة: قال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165].
ب-الرحمة: لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107].
ج-بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على الوجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله: (أن اعبدوا الله ) أن: قيل تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كقوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك) [المؤمنون: 27]، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه. وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح الأول؛ لعدم التقدير. أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعريف العبادة.(5/26)
قوله: (واجتنبوا الطاغوت) أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاوزة الحد؛ كما في قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) [الحاقة: 11]؛ أي: تجاوز حده. وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: "ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع". ومراده من كان راضياً بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك. فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء. والمعبود مثل: الأصنام. والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله ، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) [النساء: 51].
(تم): وهذه الآية تفسير للآية قبلها فالآية قبلها فيها بيان معنى العبادة وفيها بيان الغرض من إيجاد الخلق، وأنه لأجل العبادة التي أرسلت بها الرسل بدليل قوله { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: من الآية36) فالله تعالى ابتعث الرسل بهاتين الكلمتين { اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ففي قوله: { اعْبُدُوا الله } إثبات، وفي قوله: { وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } نفي .(5/27)
وهذا هو معنى التوحيد المشتمل على إثبات ونفي: فقوله في الآية { اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } يتضمن معنى قول: (لا إله إلا الله )، لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت -وهو كل إله عبد بالبغي والظلم والعدوان- والإثبات فيه: إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه، ففي قوله: { اعْبُدُوا الله } التوحيد المثبت، وفي قوله: { وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } نفي الإشراك.
(ق): قوله: "الآية" أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية. ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { قضى } قضاء الله - - عز وجل - - ينقسم إلى قسمين: 1- قضاء شرعي. 2- قضاء كوني.
فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله . مثال ذلك: هذه الآية: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23]؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما.
والقضاء الكوني: لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله ، وفيما لا يحبه. مثال ذلك: قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً) [الإسراء: 4] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.
قوله: { أن لا تعبدوا } . { أن } هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا.(5/28)
قوله: { إلا إياه } ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك:
وذو اتصال منه ما لا يبـڑـتدأ ولا يلي إلا اختياراً أبداً
إشكال وجوابه: إذا قيل: ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟ فالجواب: أن المحبوب قسمان: 1- محبوب لذاته. 2- محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه، مكروهاً من وجه آخر. مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله ؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله - - عز وجل - - من وجه آخر. ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر. قال الله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [الروم: 41]. فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه مكروهاً من وجه آخر؟ فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مُرَّة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه أخر. فإن قيل: لماذا لم يكن قوله: (وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) من باب القضاء القدري؟ أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاءً قدرياً لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع. والخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه قال: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } ، ولم يقل "أن لا تعبد"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا(5/29)
طلقتم النساء } [الطلاق: 1]؛ فالخطاب الأول للرسول - صلى الله عليه وسلم - والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟ أجيب: إن الفائدة من ذلك:
1.التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب.
2.أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة.
3.الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو له ولأمته؛ إلا ما دلّ الدليل على أنه مختص به.
4.وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله: { تعبدوا } ، وكفى به شرفاً أن يكون عبداً لله - - عز وجل - - ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه: (وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا) [البقرة: 23]، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده) [الفرقان: 1]، وقال في مقام الإسراء والمعراج { سبحان الذي أسرى بعبده } [الإسراء: 1]، { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم: 10].
قوله: { وبالوالدين إحساناً } أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا، والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان، بذل المعروف، وفي قوله: { وبالوالدين إحساناً } بعد قوله: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله - - عز وجل - -.
فإن قيل: فأين حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(5/30)
وقوله: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أوفٍّ } أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: { إحساناً } : بذل المعروف، وفي قوله: { فلا تقل لهما أوفٍّ } : كف الأذى، ومعنى { أف } : أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذّيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئاً على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول.
قوله: { وقل لهما قولاً كريماً } ، أي: لينا حسناً بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجاً كرفع الصوت مثلاً، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما.
(ف): وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها: الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صعد المنبر قال: آمين، آمين، آمين، فقالوا يا رسول الله ، على ما أمنت؟ قال أتاني جبريل فقال: يا a رغم أنف امرىء ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف امرىء دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل آمين: فقلت آمين، ثم قال: رغم أنف امرىء أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، فقلت آمين"(1)
وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة "(2) قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه.
__________
(1) صحيح: حديث متواتر. انظر (نظم المتناثر) للكتاني (126)حديث خرجه عن تسعة من الصحابة.
(2) صحيح: أحمد(2/254 ،346)، مسلم (2551).(5/31)
عن أبى بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله ، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس، فقال ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين "(1).
(ق): والشاهد في هذه الآية: قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا إياه)؛ فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَاعْبُدُواْ الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } (4) الآية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): وقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (النساء:من الآية36) هذا أيضا فيه أمر ونهي، أما الأمر ففي قوله: { وَاعْبُدُوا الله } والنهي في قوله { وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } .
وقد مر معك دلالة قوله: { وَاعْبُدُوا الله } مع النفي، على توحيد الله .ثم تأمل قوله هنا: { وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } ، أن لا هنا ناهية، ومن المتقرر في علم الأصول أن النهي كالنفي إذا تسلط على نكرة فإنه يفيد العموم، وما بعد { لا } نكرة وهو المصدر أحد مدلولي الفعل؛ لأن الفعل المضارع مشتمل على مصدر وزمن، فـ { لا تُشْرِكُوا } يعني: لا إشراكا به فـ { تُشْرِكُوا } متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة، فيكون قوله: { لا تُشْرِكُوا } دل على النهي على أي نوع من الشرك كما أن قوله في الآية نفسها - { شَيْئاً } نكرة تدل على عموم الأشياء،-فصار عندنا- في قوله تعالى { وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } عمومان:
__________
(1) قال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب): (حسن لغيره) برقم (2503).(5/32)
الأول: ما دلت عليه الآية من النهي عن جميع أنواع الشرك وذلك؛ لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل دل على المصدر، والمصدر نكرة.
والثاني: أن مفعول تشرك شيئا، وهو نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي وذلك يدل على عموم الأشياء يعني لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر ولا الخفي بدلالة قوله { وَلا تُشْرِكُوا بِهِ } وكذلك ليس مأذونا أن يشرك به لا ملك ولا نبي ولا صالح ولا عالم ولا طالح ولا قريب ولا بعيد بدلالة قوله { شَيْئاً } وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد بالجمع بين النفي والإثبات.
(ق): قوله: { وبالوالدين إحساناً } يقال فيها ما قيل في الآية السابقة.
قوله: { وبذي القربى واليتامى والمساكين } ؛ أي: إحساناً. وذو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع. واليتامى: جَمْعُ يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ. والمساكين: هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر. وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة.
قوله: { والجار ذي القربى والجار الجنب } الجار: الملاصق للبيت، أو من حوله، وذي القربى؛ أي: القريب، والجار الجنب؛ أي: الجار البعيد.
قوله: { والصاحب بالجنب } ، قيل: إنه الزوجة، وقيل: صاحبك في السفر، لأنه يكون إلى جنبك، ولكل منهما حق؛ فالآية صالحة لهما.
قوله: { وما ملكت أيمانكم } هذا يشمل الإحسان إلى الأرقّاء والبهائم؛ لأن الجميع ملك اليمين.
قوله: { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } . المختال: في هيئته. والفخور: في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/33)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: من أراد أن ينظر إلى وصية a - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام: 151- 152]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الخامسة إلى السابعة قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... } . الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أمره الله أن يقول للناس: { تعالوا } ؛ أي أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعالى؛ أي: ارتفع إلي.
وقوله: { أتل } بالجزم جواباً للأمر في قوله: { تعالوا } .
وقوله: (ما حرّم ربكم عليكم) "ما" اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم. وقال: (ربكم) ولم يقل: ما حرم الله ؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته.(5/34)
(تم): قال العلماء: { أن } هنا تفسيرية متعلقة بمحذوف تقديره وصاكم؛ لأن { أن } التفسيرية هي التي تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه وإنما قدروا المحذوف بقولهم وصاكم لأنه جاء في آخر الآي قوله { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (الأنعام: من الآية151) وقال في الآية الثانية { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (الأنعام: من الآية152) وقال في الآية الثالثة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (الأنعام: من الآية153) وكل هذه الثلاث فيها التوصية.
فيكون تقدير الكلام: -إذاً- : قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم: وصاكم ألا تشركوا به شيئا. والوصية هنا شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية، فهي أمر واجب، فقوله { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (الأنعام: من الآية151) دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء قبلها.
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لنبيه ورسوله a - صلى الله عليه وسلم - (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ما حرم ربكم عليكم) حقاً، لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده (ألا تشركوا به شيئاً) وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) أ.هـ.(5/35)
قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى " أن لا تشركوا به شيئا " سبعة أقوال، أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهى (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى. ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان، لهرقل وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم [قولوا لا اله إلا الله تفلحوا](1).
(ق): قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(الأنعام: من الآية151) أي: وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
(ف): وقوله تعالى: "وبالوالدين إحساناً" قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و(إحساناً) نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً
(ق): قوله: { ولا تقتلوا أولادكم } ، بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع. والأولاد في اللغة العربية: يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } [النساء: 11].
قوله: { من إملاق } ، الإملاق: الفقر، و { من } للسببية والتعليل؛ أي: بسبب الإملاق.
__________
(1) صحيح: أخرجه ابن خزيمة (1/82) والبيهقي (1/76) والدار القطني (3/44، 45)، والحاكم (2/611 ،612). وقال :صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.(5/36)
قوله: { نحن نرزقكم وإيّاهم } ، أي: إذا أبقيتموهم؛ فإنّ الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم، لأن الذي يقوم بالرزق هو الله . وبدأ هنا برزق الوالدين؛ وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد، والحكمة في ذلك أنه قال هنا: { من إملاق } ؛ فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين اللذين أملقا، وهناك قال: { خشية إملاق } [الإسراء: 31]؛ فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين. وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناءٍ على واقع المشركين غالباً، فلا مفهوم له.
(ف): وفى الصحيحين "عن ابن مسعود رضي الله عنه (قلت: يا رسول الله ، أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك. ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً - إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } .[الفرقان :68- 70]
(ق): قوله: (ولا تقربوا الفواحش)، لم يقل: لا تأتوا؛ لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان؛ لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حَرُم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم؛ لأن ذلك يقرب من الفواحش.(5/37)
قوله: (ما ظهر منها وما بطن)، قيل: ما ظهر فحشه، وما خفي؛ لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء. وقيل: ما أظهرتموه، وما أسررتموه، فالإظهار: فعل الزنا - والعياذ بالله - مجاهرةً، والإبطان فعله سراً. وقيل: ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك؛ لأن الفواحش ليست على حد سواء، ولهذا جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"(1)، وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك.
(ف): وقوله: { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قال ابن عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهى المعاصي.
و(ظهر) و(بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء. انتهى.
(ق): قوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، النفس التي حرم الله : هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم. والحق: ما أثبته الشرع. والباطل: ما نفاه الشرع. فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج على الجماعة، أو يقطع الطريق؛ فإنه يقتل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وقال هناك: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، وقال قبلها: { ولا تقتلوا أولادكم } ؛ فيكون النهي عن قتل الأولاد مكرراً مرتين: مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم.
وقوله: { ذلكم وصاكم به } ، المشار إليه ما سبق، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال: وصيته على فلان؛ أي: عهدت به إليه ليهتم به.
__________
(1) البخاري، كتاب الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، حديث (2654)ومسلم كتاب الايمان، باب الكبائر وأكبرها، حديث (87).(5/38)
قوله: { تعقلون } ، العقل هنا: حسن التصرف، وأما في قوله تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [الزخرف: 3]، فمعناه: تفهمون. وفي هذا دليلٌ على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان؛ فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها؛ فهو سفيه ليس بعاقل.
وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا:
الأولى: توحيد الله .
الثانية: الإحسان بالوالدين.
الثالثة: أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة: أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة: أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
قوله: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [الانعام: 152]، قوله: { ولا تقربوا } هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن؛ فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحاً؛ فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحاً لأنه أحسن. والحسن هنا يشمل: الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحاً وفيه رباً، والآخر أقل ربحاً وهو أسلم من الربا؛ فنقدم الأخير؛ لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي.
قوله: { حتى يبلغ أشده } ، { حتى } هنا: حرف غاية؛ فما بعدها مخالف لما قبلها. أي: إذا بلغ أشده؛ فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا. ومعنى أشده: قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمسة عشرة سنة، أو إنبات العانة أو الإنزال.
(ف): قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ، روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم.(5/39)
(ق): قوله: { وأوفوا الكيل والميزان } ، أي: أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب. وأوفوا الميزان: إذا وزنتم فيما يوزن؛ كاللحوم مثلاً. والأمر بالإيفاء شاملٌ لجميع ما تتعامل به مع غيرك؛ فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل.
قوله: { بالقسط } ، أي: بالعدل، ولما كان قوله: { بالقسط } قد يشق بعض الأحيان؛ لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحياناً، أعقب ذلك بقوله: { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ، أي: طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص؛ فلا يعد مخالفاً؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، كما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع؛ فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن متى تبين الخطأ وجب تلافيه لأنه داخل في الوسع.
(ف): وقوله: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء { لا نكلف نفساً إلا وسعها } أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه.
(ق): قوله: { وإذ قلتم فاعدلوا } ، معناه: أي قول تقوله؛ فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك، أو لغيرك على نفسك، أو لغيرك على غيرك، أو لتحكم بين اثنين؛ فالواجب العدل؛ إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل، فلا تمل يميناً ولا شمالاً، ولم يقل هنا { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ؛ لأن القول لا يشق فيه العدل غالباً.(5/40)
قوله: { ولو كان ذا قربى } ، أي: المقول له ذا قرابة، أي: صاحب قرابة، فلا تحابيه لقرابته، فتميل معه على غيره من أجله؛ فأجعل أمرك إلى الله - - عز وجل -- الذي خلقك، وأمرك بهذا، وإليه سترجع. ويسألك - - عز وجل - - ماذا فعلت في هذه الأمانة. وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر، a - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "وايم الله ؛ لو أن فاطمة بنت a سرقت؛ لقطعت يدها".
(ف): قال الحنفي: العدل في القول في حق الولى والعدو لا يتغير في الرضى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .[المائدة : 8]
(ق): قوله: { وبعهد الله أوفوا } ، قدم المتعلق؛ للاهتمام به، وعهد الله : ما عهد به إلى عباده، وهي عبادته - سبحانه وتعالى - والقيام بأمره؛ كما قال - عز وجل -: { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } (المائدة: من الآية12)، هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى: { لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار } (المائدة: من الآية12)، هذا من جانب الله -- عز وجل - -.
قوله: { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } ، هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق - عز وجل -:
الأولى: أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية: أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة: أن نعدل إذا قلنا.
الرابعة: أن نوفي بعهد الله .
والآية الأولى فيها خمس وصايا. صار الجميع تسع وصايا.(5/41)
(ف): وقوله { وبعهد الله أوفوا } قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هو الوفاء بعهد الله . وكذا قال غيره، وقوله { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
(ق): ثم قال - عز وجل -: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } ، هذه هي الوصية العاشرة؛ فقوله: { وأن هذا صراطي } يحتمل أن المشار إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملته وجدته محيطاً بالشرع كله؛إما نصاً، وإما إيماء، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله ؛ أي: هذا الذي جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو صراطي؛ أي: الطريق الموصل إليه - سبحانه وتعالى -.
والصراط يضاف إلى الله - - عز وجل - - ويضاف إلى سالكه؛ ففي قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } [الفاتحة: 7] هنا اضيف إلى سالكه وفي قوله { صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (الشورى: من الآية53) هنا أضيف إلى الله - - عز وجل - -؛ فإضافته إلى الله - - عز وجل - - لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده - جل وعلا -، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه.
(ف): قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. فإنه نهي وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و { أن } في موضع نصب. أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضاً. أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام. { مستقيماً } نصب على الحال ومعناه مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه.
(ق): قوله: { مستقيماً } ، هذه حال من { صراط } ؛ أي: حال كونه مستقيماً لا اعوجاج فيه فاتبعوه.(5/42)
(ف): فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان a - صلى الله عليه وسلم - وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار.
(ق): قوله: { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } السبل؛ أي: الطرق الملتوية الخارجة عنه.
وتفرق: فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها: { تتفرق } ، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت.
وهنا قال: { السبل } : جمع سبيل، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال: { سبيله } سبيل واحد؛ لأن سبيل الله - - عز وجل - - واحد، وأما ما عداه؛ فسبل متعددة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة)؛ فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة، ولا يرد على هذا قوله تعالى: { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } (المائدة: من الآية16)؛ لأن { سبل } في الآية الكريمة؛ وإن كانت مجموعة؛ لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية، ويكون المراد بها شرائع الإسلام.
(ف): وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده، ثم قال هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقاً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } الآية (1). وعن مجاهد: { ولا تتبعوا السبل } ، قال: البدع والشهوات.
__________
(1) صحيح: أحمد (1/435 ،465)، النسائي في الكبرى(7/149- تحفة)، سنن الدارمي(1/67)، مستدرك الحاكم(2/318) ومحمد بن نصر في (السنة) (11).(5/43)
قال ابن القيم رحمه الله : ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيئ واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعبادة الله وهو إفراده بالعبادات، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحداً في عبادته ولا يشرك برسوله - صلى الله عليه وسلم - أحداً في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله فأي شيئ فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته. فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله . وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله : عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه، وأذلوه وأهانوه. أ.هـ.
(ق): وقوله: { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ، أي ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى، والالتزام بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): قوله: "ابن مسعود" هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن، صحابى جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة، أمره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين - رضي الله عنه -.(5/44)
(ق): قوله: قال ابن مسعود: (من أراد...) إلخ. الاستفهام هنا للحث والتشويق، واللام في قوله: (فليقرأ) للإرشاد.
قوله: (وصية a - صلى الله عليه وسلم -)، أي: رسول الله a بن عبد الله الهاشمي القرشي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله، مثل: قال a رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصية a - صلى الله عليه وسلم - , ولا ينافي قوله تعالى: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } (النور: من الآية63)؛ لأن دعاء الرسول هنا أي: مناداته؛ فلا تقولوا عند المناداة: يا a لِلَّهِ ولكن قولوا: يا رسول الله لِلَّهِ أما الخبر؛ فهو أوسع من باب الطلب، ولهذا يجوز أن تقول: أنا تابع لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو اللهم لِلَّهِ صل على a، وما أشبه ذلك.
قوله: (التي عليها خاتمه)، الخاتم بمعنى التوقيع.
وقوله: (وصية a - صلى الله عليه وسلم -) ليست وصية مكتوبة مختوماً عليها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بشيء، ويدل لذلك: أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب: هل عهد إليكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ فقال: لا. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله تعالى في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قيل: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
فلا يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة، لكن ابن مسعود - رضي الله عنه - يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كله؛ فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبقاها لأمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(5/45)
وعن معاذ بن جبل (- رضي الله عنه -)؛ قال: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار، فقال لي: (يا معاذ لِلَّهِ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟). قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهي آيات عظيمة، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها؛ حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة: العقل، والتذكر، والتقوى.
(ف): وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى بنحوه. وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كُتِبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: (قل تعالوا -إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذى كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يوص إلا بكتاب الله ، كما قال فيما رواه مسلم: "وإنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله " وقد روى عبادة بن الصامت قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } حتى فرغ من الثلاث الآيات. ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وa بن نصر في الاعتصام(2).
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس: إرداف الرجل خلف الرجل، حديث (5967) ومسلم كتاب الإيمان، باب: الدليل على ان من مات على التوحيد دخل الجنة حديث (30).
(2) 0ضعيف الاسناد): الحاكم في المستدرك (2/318).(5/46)
قلت: ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه. وفي كتابه الذى أنزله '16: 89' { تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(ق): وقوله: (فليقرأ قوله تعالى …) إلخ الآيات سبق الكلام عليها.
(ف): هذا الحديث في الصحيحين من طرق. وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.
و معاذ بن جبل رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو عبد الرحمن صحابى مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن - رضي الله عنه -. وقال النبى - صلى الله عليه وسلم - معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة، قال في القاموس والرتوة الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي العالم الربانى. انتهى
وقال في النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم. وقيل: بميل، وقيل: مد البصر. وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثمانى عشرة بالشام في طاعون عمواس. وقد استخلفه - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.
(ق): قوله: (رديف)، بمعنى رادف؛ أي: راكب معه خلفه؛ فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل: رحيم بمعنى راحم، وسميع بمعنى سامع.
(ف): قوله: (كنت رديف النبى - صلى الله عليه وسلم -) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه.
(ق): قوله: (على حمار)، أي: أهلي؛ لأن الوحشي لا يركب.
(ف): قوله: (على حمار) في رواية اسمه عُفير، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.
وفيه: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لركوب الحمار والإرادف عليه، خلافاً لما عليه أهل الكبر.
(ق): قوله: (أتدري)، أي: أتعلم.(5/47)
قوله: (ما حق الله على العباد؟)، أي: ما أوجبه عليهم، وما يجب أن يعاملوه به، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال؛ ليكون أشد حضوراً لقلبه حتى يفهم ما يقول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله (وما حق العباد على الله ؟)، أي: ما يجب أن يعاملهم به، والعباد لم يوجبوا شيئاً، بل الله أوجبه على نفسه فضلاً منه على عباده، قال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيم } (الأنعام: من الآية54).فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوءاً بجهالة؛ أي: بسفه وعدم حسن تصرف ثم تاب من بعد ذلك وأصلح.
ومعنى كتب؛ أي: أوجب.
(تم): ثم قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا ) قوله (حق العباد على الله )، معناه أن هذا حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وأوجبه على نفسه كما في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله -.
وهل ذلك الحق المذكور في قوله ( حق العباد على الله ) هل هو واجب أم لا؟ نقول: نعم هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه، والله -جل وعلا- يحرم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته فكما أن الله حرم الظلم على نفسه كما في قوله (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ).
كذلك أوجب على نفسه أشياء، لكن بعض أهل العلم تحاشى إطلاق لفظ الإيجاب على الله ، وقال: يعبر عن ذلك بأنه حق، يتفضل به، سبحانه على من يشاء فهو حق تفضل لا حق إيجاب، بمتعين ؛ لأن الحق الواجب هو الذي أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله -جل وعلا- شيئا من الحقوق، بل هو الذي أوجبه -جل وعلا- على نفسه ؛ وتفضل على عباده، والله -- جل جلاله -- لا يخلف الميعاد.(5/48)
(ق): قوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، لفظ الجلالة الله : مبتدأ، و(رسوله): معطوف عليه، وأعلم: خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين؛ لأنه على تقدير: (من)، واسم التفضيل إذا كان على تقدير: (من)؛ فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير.
والمعنى: أعلم من غيرهما، وأعلم مني أيضاً.
قوله: (يعبدوه) أي: يتذللوا له بالطاعة.
قوله: (ولا يشركوا به شيئاً)، أي: في عبادته وما يختص به، وشيئاً نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل شيء لا رسولاً ولا ملكاً ولا ولياً ولا غيرهم.
(تم): وموطن الشاهد من هذا الحديث هو قوله (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) وهذا قد مر بيان معناه، لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبته للابتداء ابتداء كتاب التوحيد أنه أتى فيه بلفظ (حق ) الذي في قوله ( أتدري ما حق الله على العباد)، ثم قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) وهذا الحق حق واجب لله -جل وعلا- لأن الكتاب والسنة؛ بل ولأن المرسلين جميعا أتوا بهذا الحق وببيانه، وأنه أوجب الواجبات على العباد.
(ق): وقوله: (وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وهذا الحق تفضل الله به على عباده، ولم يوجبه عليه أحد، ولا تظن أن قوله: (من لا يشرك به شيئاً) أنه مجرد عن العبادة؛ لأن التقدير: من يعبده ولا يشرك به شيئاً، ولم يذكر قوله: (من يعبده)؛ لأنه مفهوم من قوله: (وحق العباد)، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابداً.
ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئاً؛ هل يعذب؟
الجواب: نعم يعذب؛ لأن الكلام فيه حذف، وتقديره: من يعبده ولا يشرك به شيئاً، ويدل لهذا أمران:
الأول: قوله: (حق العباد)، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابداً.
الثاني: أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم: (أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً)؛ فعلم أن المراد بقوله: (لا يشركوا به شيئاً)؛ أي: في العبادة.(5/49)
قوله: (أفلا أبشر الناس)، أي: أأسكت فلا أبشر الناس؟ ومثل هذا التركيب: الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة لعلماء النحو فيه قولان:
الأول: أن بين الهمزة وحرف العطف محذوفاً يقدر بما يناسب المقام، وتقديره هنا: أأسكت فلا أبشر الناس؟
الثاني: أنه لا شيء محذوف، لكن هنا تقديم وتأخير، وتقديره: فألا أبشر؟ فالجملة معطوفة على ما سبق، وموضع الفاء سابق على الهمزة؛ فالأصل: فألا أبشر الناس؟ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكاً، وهمزة الاستفهام لها الصدارة؛ قدمت على حرف العطف، ومثل ذلك قوله تعالى { أَفَلا يَنْظُرُونَ إلى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } (الغاشية: 17)، وقوله تعالى: { أفلا تُبصرون } (القصص: 72)، وقوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض } (الحج: 46).
والبشارة: هي الإخبار بما يسر.
وقد تستعمل في الإخبار بما يضر، ومنه قوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } (الانشقاق: 24)، لكن الأكثر الأول.
قوله: (لا تبشرهم)، أي: لا تخبرهم، ولا ناهية.
ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إخبارهم؛ لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها؛ لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قال تعالى: { أفرأيت من أتخذَ إلهه هواه } (الجاثية: 23).
ومناسبة الحديث للترجمة: فضيلة التوحيد، وأنه مانع من عذاب الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله ، ففيه معنى قوله(ولا أنتم عابدون ما أعبد).
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمَّت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.(5/50)
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله000) الآية.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله .
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: (لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر فتقعد مذموماً مخذولاً)؛ وختمها بقوله: (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً)، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة).
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً).
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله .
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة من خلق الجن والإنس، أخذها رحمه الله من قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (الذاريات: 56)؛ فالحكمة هي عبادة الله لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح.(5/51)
الثانية: أن العبادة هي التوحيد، أي: أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادة، لا سيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: { إلا ليعبدون } : إلا ليوحدون.
وهذا مطابق تماما لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه)
وقوله: (لأن الخصومة فيه)، أى: في التوحيد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإيتان بالتوحيد، قال تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } (التوبة: من الآية54)
وقوله في الثالثة: ففية معنى قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: من الآية36) فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، أخذها من قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } (النحل: 36).(5/52)
السادسة: أن دين الأنبياء واحد، أخذها من قوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: من الآية36)، ومثل قولة تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء: 25)، وهذا لا ينافي قوله تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا } (المائدة: من الآية48)؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (الشورى: من الآية13).
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت. ودليله قوله تعالى: { واجتنبوا الطاغوت } ، فمن عبد الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيراً من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
تنبيه: -
لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئاً من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلاً، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركاً؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباعه وانتفاء موانعه.
فإذا رأينا شخصاً يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله ؟(5/53)
الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: (اتقوا الملاعن) أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلاً بالأدب مؤذياً للمسلمين؛ فهذا شيء آخر.
فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله . فكل ما عبد من دون الله ؛ فهو طاغوت، وقد عرفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به البعد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، المحكمات؛ أي: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود - رضي الله عنه -.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الاسراء: من الآية23)، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } ، وختمها بقوله تعالى: { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } . وقد نبهنا الله - سبحانه - على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } . فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } ، والقاعد ليس قائماً؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموماً عند الله وعند أوليائه، مخذولاً لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة.
وختمها بقوله: { وَلا تَجْعَلْ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُور } (الاسراء: من الآية39)؛فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كل يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله.(5/54)
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة. بدأها بقوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } ، فأحق الحقوق حق الله ، ولا تنفع الحقوق إلا به؛ فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسلمت على ما أسلفت من الخير)؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته. وذلك من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بها حقيقة، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله : فلن نضل بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } (الأنعام: من الآية151).
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئاً.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. وذلك بأن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، أما من أشرك؛ فإنه حقيق أن يعذب.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذاً أخبر بها تأثماً، أي خروجاً من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثير من الصحابة؛ وكأنه - رضي الله عنه - علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - كتمها مطلقاً؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذاً ولا غيره.(5/55)
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً ولم يكتم ذلك مطلقاً، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائز للمصلحة؛ كما كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتكلوا عليه، وقال لمعاذ: (لا تبشرهم فيتكلوا).
ونظير هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: (بشر الناس أن من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنّة)(1)
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: (أفلا أبشر الناس؟)، وهذه من أحسن الفوائد.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله . وذلك لقوله: (لا تبشرهم فيتكلوا)؛ لأن الاتكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله .
وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله ، ولهذا قال الإمام أحمد: (ينبغي أن يكون سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه)، فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله ، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله .
وقال بعض العلماء: إن كان مريضاً غلب جانب الرجاء، وإن كان صحيحاً غلب جانب الخوف.
وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلب جانب الرجاء, وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة.
ويستدلون بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } (المؤمنون: من الآية60)؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله .
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.(5/56)
وفي قوله: (أفلا أبشر الناس؟) دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسر من أمر الدين والدنيا، ولذلك بشرت الملائكة إبراهيم، قال تعالى: { وبشروه بغلامٍ عليم } (الذاريات: 28)، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بابنه إبراهيم، فقال: (ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم)؛ فيؤخذ من أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خير كثير وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر.
وعليه؛ فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحدثني أحد عن أحد بشيء؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)(1).
وهذا الحديث فيه ضعف، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجل بسوء؛ فسيكون في قلبك عليه شيء ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيباً، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعض قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقة تظهر للعاقل بالتأمل.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً لما قالها، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، حيث عطف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الله بالواو، وأنكر على من قال: (ما شاء الله وشئت)، وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده(2).
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي واللفظ (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم و أنا سليم الصدر) . قال الألباني(ضعيف) انظر حديث رقم : 6322 في ضعيف الجامع .
(2) حسن: أحمد(1/214 ،224 ،283 ،347 )، البخاري في الأدب المفرد (783)، النسائي في (عمل اليوم والليلة) (988)، ابن ماجة( 2117)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(5/57)
فيقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على معاذ.
بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده علم منها.
فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟
جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم؛ لأنه من العلوم الكونية.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم أفتتن، قال ابن مسعود: (إنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)، وقال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون)، فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لركوب الحمار مع الإرداف عليه. النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق جاهاً، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعاً، حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب - صلى الله عليه وسلم - الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من تواضع لله -- عز وجل --رفعه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف معاذاً لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛لم يجز ذلك.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسالة. حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ - رضي الله عنه -. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بهذا العلم, واردفه معه على الحمار.
- -
- - - -(5/58)
- - - -
- -(5/59)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام: 82)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]: أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد. وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره. ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". متفق عليه(1). ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل. قوله: "وما يكفر من الذنوب". معطوف على "فضل"؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.
فمن فوائد التوحيد
1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله - - سبحانه وتعالى - -؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: "إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو".
__________
(1) البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة(6/1)
2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [الأنعام: 82].
وقول الله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الآية [الأنعام: 82].
قوله: { لم يلبسوا } ، أي: يخلطوا.
قوله: { بظلمٍ } ، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح - يعني لقمان -: { إن الشرك لظلمٌ عظيم } ](1). والظلم أنواع
1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله .
2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل؟ الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملاً لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل -؛ فله مطلق الأمن؛ أي: أمن ناقص. مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، آمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116]. وهذه الآية قالها الله تعالى حكماً بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: { وكيف أخاف ما أشركتم... } إلى قوله: { إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81، 82]؛ فقال الله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم… } الآية [الأنعام: 82]، على أنه قد يقول قائلٌ: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [الأنعام 83].
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم: كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه.(6/2)
قوله: { الأمن } ، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله: { وهم مهتدون } ، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [الصافات: 22-23]. والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة. فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: { أولئك لهم الأمن } : إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.(6/3)
(ف): قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله ، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: '35: 32' "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة :7- 8] وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ، أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به"(1)
__________
(1) صحيح: أحمد (1/11)، ابن حبان (1734 ،1735 –موارد)، الحاكم في المستدرك(3/74) عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .(6/4)
فبين: أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد. وظلمه لنفسه بما دون الشرك. كان له الأمن التام والاهتداء التام. ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق. بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى: وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة. ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام. فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة. وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة. وإن كان مراده جنس الشرك. يقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه. ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار انتهى ملخصاً.
وقال ابن القيم رحمه الله : قوله: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } قال الصحابة: وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح { إن الشرك لظلم عظيم } لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه.(6/5)
وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمناً ولا مهتدياً. أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو الجواب، الذي يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك. الذي هو وضع العبادة في غير موضعها. والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة.
والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام. ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى. فتأمله. فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة أ.هـ.ملخصاً.
(ق): مناسبة الآية للترجمة: أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك، والذي لم يشرك يكون موحدا؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن عُبادةَ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن شهِدَ أن لا إلهَ إِلا الله وحدَهُ لا شريكَ له, وأنّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ, وأنّ عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتهُ ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه, والجنةُ حَقّ والنارُ حقّ, أدخَلَهُ الله الجنةَ على ما كانَ منَ العَمل».أخرجاه(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله (عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والجنة حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). أخرجاه.
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.(6/6)
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجى، أبو الوليد، أحد النقباء بدري مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.
قوله (من شهد أن لا إله إلا الله ) أي من تكلم بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، باطناً وظاهراً، فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها، كما قال الله تعالى: '7 4: 19' { فاعلم أنه لا إله إلا الله } وقوله '43: 86' { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع.
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: باب لا يكفى مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها. ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعاً أ.هـ.
وفى هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: من شهد فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
قال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد. فإنه - صلى الله عليه وسلم - جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. فاقتصر - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم أ.هـ.(6/7)
(ق): "من شهد أن لا اله إلا الله "، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]، وهذا العلم قد يكون مكتسباً وقد يكون غريزياً. فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(1). وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله ، والتفكر فيها. ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: (أنْ)، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه.
قوله: (لا إله)، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة.
قوله: (إلا الله )، أي: لا مألوه إلا الله ، ولهذا حكي عن قريش قولهم: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ } [ص: 5].
أما قوله تعالى: { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعاً، وإذا انتفى شرعاً؛ فهو كالمنتفي وقوعاً؛ فلا قرار له، { ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها قرار } [إبراهيم: 26]. وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: { فما أغنت عنهم آلهتهم } [هود: 101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } [ص: 5]، وبين قوله تعالى: { وما من إله إلا الله } [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعاً، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [يوسف: 40].
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم: كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.(6/8)
التوحيد عند المتكلمين: يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله : لا قادر على الاختراع إلا الله . والتوحيد عندهم: أن توحد الله ، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله ؛ لما أنكرت قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله ، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: { ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله . ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً، وقال الله - - عز وجل - -: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23]. فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك.
وأما بالمعنى الأخص:
فتنقسم إلى أنواع: 1- شرك أكبر. 2- شرك أصغر. 3- معصية كبيرة. 4- معصية صغيرة.(6/9)
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله ، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق. وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية، فهي نوع من الشرك". وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: "إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!"؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: "وجدتم ذلك؟". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان"(1)؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.
قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله "، من: شرطية، وجواب الشرط: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول - صلى الله عليه وسلم -: { نشهد إنّك لرسول الله } [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: { والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل. وقوله: "لا إله إلا الله "، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله ، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان.(6/10)
قوله: (وحده لا شريك له)، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المؤمنين يلجئون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعك الله "(1)، ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذي يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النافين للصفات؛ لأن النافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله - - عز وجل - -، حيث قالوا؛ يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.
(ف): قال تعالى: '2: 163' { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } وقال: '21: 25' { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال: '7: 65' { والى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فأجابوه رداً عليه بقولهم: { أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } وقال تعالى: '22: 62' { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } .
فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله ، وهي العبادة. وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الخوف.(6/11)
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغباً ورهباً، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله. فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد جعله لله نداً، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.
(ذكر كلام العلماء، في معنى لا إله إلا الله )
قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله " قال: واسم ( الله ) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال ابن القيم في البدائع رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المستثنى، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى. وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص. فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: ( الله إله) ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (لا إله إلا الله ) أي لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس. كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.(6/12)
وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد. وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله ) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً.
وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاء، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا الله - عز وجل -، فمن أشرك مخلوقاً في شيئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله ) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله ، أي انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: (الإله) فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.(6/13)
فدلت (لا إله إلا الله ) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائناً ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: '72: 1' { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب.
فقوله في الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها. وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله ! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنى. وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً لهم من الله ، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى '29: 65' { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } الآية. فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم.
(ق): قوله: (وأن محمداً)، a: هو a بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
(ف): أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل.
(ق): وقوله: (عبده)؛ أي: ليس شريكاً مع الله .(6/14)
(ف): ومعنى العبد هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: '39: 26' { أليس الله بكاف عبده } فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيئ منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل.
(ق): وقوله: (ورسوله)؛ أي: المبعوث بما أوحي إليه؛ فليس كاذباً على الله .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئاً واحداً، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ الله } (الأعراف: من الآية188)، وقال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } (الجن: 21، 22).
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } (فصلت: من الآية6)،
ومن قال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح)، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في (البردة) المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به…… سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي…… فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن جودك الدنيا وضرتها…… ومن علومك علم اللوح والقلم(6/15)
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئاً ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمداً عبد الله ، بل شهد أن محمداً فوق الله ! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!.
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله ، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني)(1)، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي (المخرف) كلمة المصطفى قاموا جميعاً قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالاً له، والصحابة رضي الله عنهم أشد إجلالاً منهم ومناً، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو حي يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئاً؛ فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد ! فهؤلاء ما شهدوا أن محمداً عبد الله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، ، إن نظرنا إليهم بعين القدر، فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، إن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، وأتقاهم لله، قام يصلى حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)(2) وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة, أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله - - عز وجل - - بأعظم شريعة إلى جميع
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء/باب الحث على ذكر الله تعالى.
(2) البخاري: كتاب التهجد/باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورم قدماه، ومسلم: كتاب صفات المنافقين/باب إكثار الأعمال.(6/16)
الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاءوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهية له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله - - عز وجل - -؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: (أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟)، فصبر - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانة وأقواهم على الإتباع؛ الصحابة - رضي الله عنه -، وأدوها إلى الأمة نقية سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لله وفي الله ؛ فحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حب الله ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ونحقق شهادة أن محمداً رسول الله ، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته - صلى الله عليه وسلم - بجوارحنا، فنعمل بهدية،ولا نعمل له.(6/17)
(ف): فإن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان. والواقع اليوم وقبله - ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك، والله المستعان. وروى الدارمي في مسنده عن "عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله ، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً" قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعباً يقول مثل ما قال ابن سلام(1).
(ق): أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة؛ فهو:
1ـ فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2ـ الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله؛ لأنك تقربت إليه بشيء لم يشرعه.
فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي ابتدعه.
قيل له: أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق.
فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرد إبقاء على رئاستهم وجاههم.
__________
(1) صحيح : الدارمي (1/14)، والآجري في (الشريعة برقم 449).(6/18)
أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئاً، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردوه تعصباً لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (الزخرف: من الآية22).
قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمداً رسول الله ، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة: أن يكون مسكوتاً عنها في شريعتنا، وفي هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
1ـ قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام: من الآية90).
2ـ قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (يوسف: من الآية111).
وقد تطرف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وان أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعاً؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله
الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم: { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } (النساء: من الآية157)، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبه لهم وصلبوه.(6/19)
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله ، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهاً مع الله ، وكذبوا فيما قالوا.أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبدالله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن؛ فيكون.
وفي قوله: (عبدالله)، رد على النصارى.
وفي قوله: (ورسوله)، رد على اليهود.
قوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم)، أطلق الله كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة - عليه السلام -؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى - عليه السلام - ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية قال الله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران: 59)
وعيسى - عليه السلام - ليس كلمة الله ؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله - سبحانه -، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.
قوله: (ألقاها إلى مريم)، أي: وجهها إليها بقوله: { كن فيكون } ؛ كما قال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران: 59)
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم(1)؛ فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آ خر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.
قوله: (وروح منه)، أي: صار جسده - عليه السلام - بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله ؛ أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
__________
(1) مسلم: كتاب الآداب/باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء.(6/20)
و عيسى - عليه السلام - ليس روحا، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } (المائدة: من الآية75)
فبالنفخ صار جسدا، وبالروح صار جسدا وروحا.
قوله: (منه) هذه هي التي أضلت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله فضلوا وأضلوا كثيرا، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى - عليه السلام - كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضا أن اليهود يقولون إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءاً من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدعى أنه قتل وصلب؟
وعلى هذا تكون (من) للابتداء، وليست للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } (الجاثية: من الآية13)؛ فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزءاً من الله ، وهذا لم يقل به أحد. فقوله: "منه"؛ أي: روح صادرة من الله - - عز وجل - -، وليست جزءً من الله كما تزعم النصارى.
واعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } (الجاثية: 13)، وقوله تعالى: { إن أرضي واسعة } (العنكبوت: 56).
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه؛ كقوله تعالى: { وطهر بيتي للطائفين } (الحج 26) وكقوله تعالى: { ناقة الله وسقياها } (الشمس: 13)، وهذا القسم مخلوق(6/21)
الثاني: أن يكون شيئا مضافا إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: { وروح منه } (النساء: 171)؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفا؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله ، وليست جزءاً أو روحا من الله ؛ إذ أن هذه الروح حلت في عيسى - عليه السلام -، وهو عين منفصلة عن الله ، وهذا القسم مخلوق أيضا.
الثالث: أن يكون وصفا غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } (الأعراف: من الآية144)، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.
فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله ، وصفات الله غير مخلوقه.
وقد اجتمع القسمان في قوله: (كلمته، وروح منه)؛فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله ، وعلى هذا؛ فتكون كلمته صفة من صفات الله .
وروح منه: هذه أضيفت إلى عين؛ لأن الروح حلت في عيسى؛ فهي مخلوقة.
(ف): قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب. وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:
أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله ، وأرض الله . فجميع المخلوقين عبيد الله ، وجميع المال مال الله .(6/22)
الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه: فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. ا. هـ ملخصاً.
قوله: (والجنة حق والنار حق) أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: '57: 21' { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } وقال تعالى: '2: 24' { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة. وفيهما الإيمان بالمعاد.
(ق): قوله: "أدخله الله الجنة" إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين: الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل. الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل. فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116].
(ف): وقوله: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) هذه الجملة جواب الشرط وفى رواية: أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء. قال الحافظ: معنى قوله: على ما كان من العمل أي من صلاح أو فساد، لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله: على ما كان من العمل أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.(6/23)
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصاً لمن قال ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
(تم): مناسبة هذا الحديث للباب قوله: ( على ما كان من العمل ) وقوله: "على ما كان" يعني على الذي كان عليه من العمل، ولو كان مقصرا في العمل، وعنده ذنوب وعصيان، فإن لتوحيده لله وشهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وإقراره بالغيب وبالبعث، إن لذلك فضلاً عظيماً، وهو أن يدخله الله الجنة، ولو كان مقصرا في العمل، فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما في حديث عِتْبَانَ «فَإِنّ الله قَدْ حَرّمَ عَلَى النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله , يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله ».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله.وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان.
وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرة بن العجلان الأنصاري، من بنى سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.(6/24)
(ق): كان يصلى بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج إليه وأن يصلى في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت، قال: "أين تريد أن أصلى؟". قال: صل ها هنا. وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلاً يقال له: مالك بن الدُّخْشُم، فقال بعضهم: هو منافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقل هكذا؛ أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله ؟!". ثم قال: "فإن الله حرم على النار…" الحديث. فنهاهم أن يقولوا هكذا، لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنّما أتى بعبارة عامة بأن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذي ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوءً، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
قوله: "فإن الله حرم على النار"، أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.(6/25)
قوله: "من قال: لا إله إلا الله "، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: "يبتغي بذلك وجه الله "، أي: يطلب وجه الله ، ومن طلب وجهاً؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في "صحيح مسلم" (1)، حيث قال: "ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا"؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله ، حيث قال: "يبتغي بذلك وجه الله ".
قال شيخ الإسلام: إنّ المبتغي لا بد أن يكمّل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريماً مطلقاً، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإنّ النار تحرم عليه تحريماً مطلقاً، وإن أتى بشيء ناقص، فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئاً من ذلك ثم قال حين فعله: أشهد أن لا إله إلا الله ابتغي بذلك وجه الله ؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(2)، فضلاً عن أن يكون مبتغياً وجه الله . وفي الحديث ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله ، دون ابتغاء وجه الله . وفيه ردٌّ على الخوارج والمعتزلة؛ لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(2) الإمام أحمد في "المسند" 5/242، والهيثمي في "المجمع" 1/16، والخطيب في "المشكاة" 1/91، قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار وفيه انقطاع"، وضعفه الألباني في "الضعيفة" 3/477.(6/26)
(تم): فوجه الشاهد-إذاً- من الحديث للباب أن هذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد، لما ابتغى بها صاحبها وجه الله ، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار، وهذا فضل عظيم، نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهله.
(ف): وأخرج البخاري في صحيحه بسنده "عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثاً - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً ". وساق بسند آخر: "حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنساً قال: ذكر لي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ ابن جبل: من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا ".
قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.(6/27)
قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله: خالصاً من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث "سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته"(1) وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: '43: 23' { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } .
__________
(1) صحيح: أحمد(6/139)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ابن ماجة (4268) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .(6/28)
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيئ، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ، ولا كراهة لما أمر الله . وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنباً إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيئ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار. وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصاً لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصراً على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.(6/29)
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله ، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة. فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله ، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال)(1). فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه.
__________
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5232) من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً، وقال الألباني في ضعيف الجامع (4880): موضوع.(6/30)
فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقاً في قولها موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصراً على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصراً على سيئة أصلاً، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً.
وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم وابن رجب وغيرهم.
قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصاً لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(تنبيه): قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث (من إيمان) أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال أ.هـ.ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(6/31)
وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال موسى: يا رب علّمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به, قال: يا موسى لا إلَه إلا الله , قال موسى: يا رب كل عبادك يقول هذا, قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إلَه إلا الله في كفة مالت بهنّ لا إلَه إلا الله . رواه ابن حبان والحاكم وصححه.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال المصنف رحمه الله (وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال موسى - عليه السلام -: يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى لا إله إلا الله . قال: كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه).
أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وسبعين.
(ق): قوله: "أذكرك وأدعوك به"، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى - عليه السلام - طلب شيئاً يحصل به أمران:
ذكر الله . 2- دعاؤه.
فأجابه الله بقوله: "قل لا إله إلا الله "، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته إذاً؛ فهو متضمن للدعاء، قال الشاعر: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء. يعني: عطاؤك. واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
__________
(1) ابن حبان (2324)، والحاكم (1/528) - وصححه ووافقه الذهبي ـ، وقال الحافظ في "الفتح": أخرجه النسائي بسند صحيح. قال الألباني في تحقيقه لكتاب : (كلمة الإخلاص وتحقيق معناها) للحافظ ابن رجب الحنبلي، (ضعيف).(6/32)
إذا أثنى عليك العبد يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
(ف): قوله (قل يا موسى لا إله إلا الله ) فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على (هو) كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال.
قوله: (كل عبادك يقولون هذا) ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى قوله كل عبادك يقولون هذا أي إنما أريد شيئاً تخصني به من بين عموم عبادك، وفى رواية بعد قوله كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا الله ، قال لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئاً تخصني به.
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجوداً، وأيسرها حصولاً، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.
(ق): قوله: "كل عبادك يقولون هذا"، ليس المعنى أنها كلمة هينة كلٌّ يقولها؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظَم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئاً يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأنّ لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظَمها، لكن لابد من الإتيان بشروطها، أما مجرد أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئاً؛ لأنّه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع.
قوله: "والأرضين السبع"، في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح؛ لأنه إذا عطف على اسم أنّ قبل استكمال الخبر وجب النصب.
قوله: "مالت"، أي: رجحت حتى يملن.
قوله: "عامرهن"، أي: ساكنهن، فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.(6/33)
قوله: "غيري"، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء؛ لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجاً إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظانٌّ أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستوٍ على عرشه، لا يقله شيء من خلقه.
(تم): أن قوله: (وعامرهن غيري) راجع إلى عمارة السماء بصفات الله -جل وعلا- وبما يستحقه سبحانه من التأله والعبودية، وما فيها من علم الله ورحمته وقدرته وتصريفه للأمر وتدبيره ونحو ذلك من المعاني.
(ف): قوله (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله .
وروى الإمام أحمد عن "عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نوحاً - عليه السلام - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله ، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله ".
قوله: (في كفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان.
(تم): - والأرضين السبع في كفة- يعني لو تمثلت السماوات والأرضون أجساما- ووضع الجميع في ميزان له كفتان وجاءت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لمالت بهن لا إله إلا الله .(6/34)
فلا إله إلا الله كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها، وعظم في الفضل لمن اعتقدها، وما دلت عليه؛ فلهذا قال: ( مالت بهن لا إله إلا الله ).
(ف): قوله: (مالت بهن) أي رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال. وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيئ، كما قال الله تعالى: '46: 13' { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير(1) رواه أحمد والترمذي.
(تم): وجه الدلالة أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض، لكانت لا إله إلا الله مائلة بذلك الثقل من الذنوب، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جعل على أحد العصاة سجلات عظيمة ( فقيل له: هل لك من عمل؟ فقال: لا؟ فقيل له: بلى ثم أخرجت له بطاقة فيها لا إله إلا الله فوضعت في الكفة الأخرى فطاشت سجلات الذنوب وثقلت البطاقة).
__________
(1) الترمذي :كتاب الدعوات (3585): باب في دعاء يوم عرفة ،وحسنه الألباني لشواهده في الصحيحة (1503)والحديث ليس في مسند أحمد كما عزاه المؤلف وإنما الذي عنده (2/210) عن ان عمرو "كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة :لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ".(6/35)
وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد إنما هو لمن قويت في قلبه، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية؛ لأنه مخلص فيها مُصَدِّق لا ريب عنده فيما دلت عليه، معتقد ما فيها محب لما دلت عليه فيقوى أثرها ونورها في القلب، فإذا كان كذلك فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب.
وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب، فيكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدلان على أن لا إله إلا الله لا يقابلها ذنب، ولا تقابلها خطيئة، لكن هذا في حق من كملها وحققها بحيث لم يخالط قلبه في معناها ريب، ولا تردد ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن وعلى الأسماء والصفات باللزوم، وعلى الإلهية بالمطابقة، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال ولو بلغت ذنوبه ما بلغت، وكانت سجلاته كثقل السموات والأرضين السبع هو الذي كمل ما دلت عليه من التوحيد، وهذا معنى هذا الحديث، وحديث البطاقة، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس.
وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه.(6/36)
قوله: (رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه a بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة.
وأما الحاكم فاسمه a بن عبد الله بن a النيسابوري أبو عبد الله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى:
((يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف) :قال المصنف رحمه الله (وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: "عن أنس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا بن آدم، إنك لو أتيتني - الحديث ".
__________
(1) صححه الألباني في صحيح الترمذي (2805) وكذلك في (سلسلة الأحاديث الصحيحة 127 و 128 ، الروض النضير 432 ، المشكاة 4336 التحقيق الثاني التعليق الرغيب)(6/37)
الترمذي: اسمه a بن عيسى بن سَورة - بفتح المهملة - بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق. مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
وأنس: هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين، وقال له: اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة مات سنة اثنتين وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة.
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة" ورواه مسلم، وأخرجه الطبراني(1) من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ق): قال الله تعالى: يا ابن آدم..." إلخ. هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي: ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الله - - عز وجل - -وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - معناه واللفظ لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لاسيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لوجهين:
__________
(1) قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 8141 في صحيح الجامع.(6/38)
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً ومعنى؛ لكان أعلى سنداً من القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل؛ كما قال تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102]، وقال: { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [الشعراء: 193-195].
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله ، لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى؛ كما قال سبحانه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9]، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.(6/39)
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجاب هؤلاء عن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى الله ، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنىً لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنىً لا لفظاً، كما في "قصص الأنبياء" وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً. وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى، لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالى يخلق صوتاً يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي -: إن الأولى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.(6/40)
(فائدة): إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي(قدسياً)؛ لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمي مرفوعاً، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفاً، وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعاً.
قوله: "بقراب الأرض"، أي: ما يقاربها؛ إما ملئاً، أو ثقلاً، أو حجماً.
قوله: "خطايا"، جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب، ولو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } [البقرة: 81].
قوله: "لا تشرك بي شيئاً" جملة "لا تشرك" في موضع نصب على الحال في التاء، أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئاً.
قوله: "شيئاً" نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا شركاً أصغر ولا أكبر. وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك وهو لا يدري؛ فحب المال مثلاً بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة...." الحديث(1). فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان هذا همه سماه: عبداً له.
قوله: "لأتيتك بقرابها مغفرة"، أي: أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئاً، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.
(ف): قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله : محبة وتعظيماً، وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر أ.هـ.ملخصاً.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير/ باب الحراسة في الغزو في سبيل الله ، حديث (2887).(6/41)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده. فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى. أ.هـ.
وفى هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. و"عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثاً: أعطى الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً: المقحمات " رواه مسلم.
قال المصنف رحمه الله : (تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين).
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه. وفيه إثبات الصفات خلافاً للمعطلة. وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في "حديث عتبان إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط.(6/42)
(تم): ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة، وهي أنه ممن أتى بذنوب عظيمة، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا لأتى الله ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة، وهذا لأجل فضل التوحيد، وعظم فضل الله -جل وعلا- على عباده بأن هداهم إليه ثم أثابهم عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله .
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله .
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: (لا إله إلا الله ) وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ) أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله .
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: (على ما كان من العمل).
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل
الأولى: "سعة فضل الله "، لقوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".(6/43)
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله ، لقوله: "مالت بهن لا إله إلا الله ".
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب، لقوله: "لأتيتك بقرابها مغفرة"؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحياناً؛ فيقع في الخطايا لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالظلم } ؛ فالظلم هنا الشّرك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } "(1).
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة:
1- 2- الشهادتان.
3- أن عيسى عبد الله ، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه.
4- أن الجنة حق.
5- أن النار حق.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله ، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنّه لا بد أن يبتغي بها وجه الله ، وإذا كان كذلك؛ فلابد أن تحمل المرء على العمل الصالح.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله ، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله ، فغيرهم من باب أولى.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرطٌ من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة } (لقمان: من الآية12) حديث.(6/44)
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحاً أن السماوات سبع بقوله تعالى: { قل من رب السماوات السبع } [المؤمنون: 86]، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12]؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد. أما السنة؛ فهي صريحة جداً بأنها سبع؛ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتطع شبراً من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين"(1) وقد اختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سبع أرضين"؛ كيف تكون سبعاً؟ فقيل: المراد: القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله: "طوقه من سبع أرضين"، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً، أي: السماوات، وعمارهن الملائكة.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافاً للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم؛ ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله: "يبتغي وجه الله "، وإثبات الكلام بقوله: "وكلمته ألقاها"، وإثبات القول في قوله: "قل لا إله إلا الله ".
__________
(1) البخاري يلفظ "من ظلم قيد شبر....": كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم: كتاب المساقاة/باب تحريم الظلم وغصب الأرض.(6/45)
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أن ترك الشرك. وفي بعض النسخ: إذا ترك الشرك. أي: أن قوله: "حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك (يعني: ترك الشرك)"، وليس مجرد قولها باللسان؛ لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبداً.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. عبدي: منصوب على أنه خبر كون؛ لأن كون مصدر كان وتعمل عملها.
وعيسى ومحمد: اسم كون.
وتأمل الجميع من وجهين:
الأول: أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة.
الثاني: أنه جمع بين الرجلين؛ فتبين أن عيسى مثل a، وأنه عبد ورسول، وليس رباً ولا ابناً للرب -سبحانه- وقول المؤلف: "تأمل"؛ لأن هذا يحتاج إلى تأمل.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله ، أي: أن عيسى انفرد عن a في أصل الخلقة؛ فقد كان بكلمة، أما a - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد خلق من ماء أبيه.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه، أي: أن عيسى روح من الله ، و"من" هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض؛ أي: روح جاءت من قبل الله وليست بعضاً من الله ، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، لقوله في حديث عبادة: "وأن الجنة حق، والنار حق"، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.(6/46)
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل"، أي: على ما كان من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل. ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر، فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها، لكن الصحيح خلاف ذلك.
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان، أخذها المؤلف من قوله: "لو أن السماوات…. إلخ، وضعت في كفّة ولا إله إلا الله في كفة"، والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول: لا إله إلا الله أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة.
العشرون: معرفة ذكر الوجه، يعني: وجه الله تعالى، وهو صفة من صفاته الخبرية الذاتية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله -تعالى الله -.
- -
- -(6/47)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب"، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل، وهو دخول الجنة بغير حساب.
قوله: "من"، شرطية، وفعل الشرط: "حقق"، وجوابه: "دخل".
قوله: "بلا حساب"؛ أي: لا يحاسب لا على المعاصي ولا على غيرها. وتحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئاً قبل أن تعلمه، قال الله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [a: 19].
الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت؛ لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } . [ص: 5]؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد؛ لم تحقق التوحيد، قال تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون - ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 35-36]. فإذا حصل هذا وحقق التوحيد؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله ؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعاً، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله . أما بالنسبة للرجل المعين؛ فإننا نقول: إن شاء الله . وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله.
(تم): وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، ولا شك أن لكل مسلم نصيب من التوحيد فيكون له تبعاً لذلك نصيب من فضل التوحيد وتكفير الذنوب.(7/1)
أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد؛ ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله ؛ لأنه أخص، وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب، وتحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين لا إله إلا الله a رسول الله .
ومعنى تحقيق الشهادتين تصفية الدين من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء:
الأول: ترك الشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي.
والثاني: ترك البدع بأنواعها.
والثالث: ترك المعاصي بأنواعها.
فيكون تحقيق التوحيد على هذا على درجتين: درجة واجبة ودرجة مستحبة، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا، فالدرجة الواجبة أن يترك ما يجب تركه من الأشياء الثلاث التي ذكرت فيترك الشرك خفيه وجليه صغيره وكبيره، ويترك البدع، ويترك المعاصي هذه درجة واجبة.
والدرجة المستحبة في تحقيق التوحيد، وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل، هي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله -جل وعلا- يعني: أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته ليس فيه إلتفات إلى غير الله ، فيكون نطقه لله وفعله وعمله لله، بل وحركة قلبه لله -- جل جلاله --.
وقد عبر عنها بعض أهل العلم أعني: هذه الدرجة المستحبة أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، يعني في مجال أعمال القلوب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.(7/2)
فإذا رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله، وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ولا عذاب، رجع إلى تينك المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين "لا إله إلا الله ، a رسول الله "؛ لأن في قوله: "لا إله إلا الله " الإتيان بالتوحيد، والبعد عن الشرك بأنواعه؛ ولأن في قوله: "أشهد أن محمدا رسول الله " البعد عن المعصية، والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله : أن يطاع فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب، أو البدع ثم لم يتب منها، أو لم تكفر له، فإنه لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا لم يأتِ شيئا من البدع، ولكن حسَّنها بقلبه، أو قال: لا شيء فيها، فإن حركة القلب من هذا شأنه لما كانت في غير تحقيق التوحيد، وفي غير تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله ، فإنه لا يكون من أهل تحقيق التوحيد، وكذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد.
وأما مرتبة الخاصة التي ذكرت، ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثم إلا عفو الله ومغفرته ورضوانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [النحل: 120]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الأولى: قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة... } الآية.
قوله: { أمة } ، أي: إماماً، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه، إمام، ودهر، وجماعة، ودين.
وقوله: { إن إبراهيم كان أمة } ، هذا ثناء من الله - - سبحانه وتعالى - - على إبراهيم بأنه إمام متبوع؛ لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر.(7/3)
ثم ابتلاه الله - - سبحانه وتعالى - - بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ معه السعي(أي: شب وترعرع)؛ فليس كبيراً قد طابت النفس منه، ولا صغيراً لم تتعلق به النفس كثيراً، فصار على منتهى تعلق النفس به.
ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه: { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [الصافات: 102]، لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه، وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه - سبحانه وتعالى -، وأنظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في قوله: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } .
فالسين في قوله: { ستجدني } تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: { إن شاء الله } .
وامتثلا جميعاً وأسلما، وانقاداً لله - - عز وجل - -، وتله للجبين؛ أي: على الجبين، أي جبهته؛ لأجل أن يذبحه وهو لا يرى وجهه، فجاء الفرج من الله تعالى: { وناديناه أن يا إبراهيم - قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 104- 105]، ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديداً، ونحو ذلك.
قوله: { قانتاً } ، القنوت: دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال؛ فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال. كما أن ابنه محمداً - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه(1): إن قام ذكر الله ، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر الله ؛ فهو قانت آناء الليل والنهار.
قوله: { حنيفاً } ، أي: مائلاً عن الشرك، مجانباً لكل ما يخالف الطاعة، فوصف بالإثبات والنفي، أي: بالوصفين الإيجابي والسلبي.
__________
(1) مسلم: كتاب الحيض/ باب ذكر الله تعالى حال الجنابة.(7/4)
قوله: { ولم يك من المشركين } ، تأكيد، أي لم يكن مشركاً طول حياته؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام معصوماً عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمراراً في قوله: { حنيفاً } ، وابتداءً في قوله: { ولم يك من المشركين } ، والدليل على ذلك: أن الله جعله إماماً، ولا يجعل الله للناس إماماً من لم يحقق التوحيد أبداً.
(تم): في تفسير إمام الدعوة المصنف الشيخ a بن عبد الوهاب-رحمه الله -، في تفسيره لآخر سورة النحل، فسر هذه الآية، فقال -رحمه الله -: { إن إبراهيم كان أمة } لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين"، { قانتا لله } : لا للملوك ولا للتجار المترفين، { حنيفا } : لا يميل يمينا ولا شمالا، كحال العلماء المفتونين، { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (النحل: من الآية120) خلافا لمن كثَّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين، وهو من التفاسير الرائقة الفائقة البعيدة المعاني { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت: 35).
(ف): قال العلامة ابن القيم(رحمه الله )في مفتاح دار السعادة في الوجه(147)من فضل العلم: إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (النحل: 120) فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه "أمة" وهو القدوة الذي يؤتم به قال ابن مسعود: "الأمة: المعلم للخير"وهي فعلة - بضم الفاء- من الائتمام كالقدوة، وهو الذي يقتدى به والفرق بين "الأمة" والإمام" من وجهين.
أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به، سواء كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمي الطريق إماماً.كقوله تعالى { وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } (الحجر: 79) أي بطريق واضح لا يخفى على السالك.ولا يسمى الطريق أمة.(7/5)
الثاني: أي (الأمة) فيه زيادة معنى. وهو الذي جمع صفات الكمال في العلم والعمل وهو الذي بقي فيها فرداً وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره.ولفظ (الأمة) يشعر بهذا المعنى، لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضم أوله. فإن الضم من الواو، ونخرجها فيضم عند النطق بها. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة.ومنه الحديث: " إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده" فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة. ومنه سميت الأمة التي هي آحاد الأمم، لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد أو في عصر واحد.
الثاني: قوله { قَانِتاً } قال ابن مسعود: " القانت: المطيع. والقنوت يفسر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة.
الثالث: قوله { حَنِيفاً } والحنيف: المقبل على الله .ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه، فالميل لازم معنى الحنيف، لا أنه موضوعة لغة.
الرابع: قوله " شاكراً لأنعمه" والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب. فلا يكون العبد شاكراً إلا بهذه الثلاثة.
والمقصود: انه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره.فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه.أ.هـ.(7/6)
(ق): ومن تأمل حال إبراهيم - عليه السلام - وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفى غاية ما يكون من مراتب اليقين؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على هذا؛ لأن النفس لا تدع شيئاً إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئاً إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت. ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان: الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، كما أن من أثنى الله عليه شراً، فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم - عليه السلام -؛ لأنه كان إماماً حنيفاً قانتاً لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه؛ لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا؛ لأنهم قائمون بأمر الله ، ونكره الشياطين، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره أتباع الشياطين؛ لأنهم عاصون لله أيضاً وأعداء لله ولنا. الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111]، وقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } [الممتحنة: 6]. وهذه مسألة مهمة؛ لأن الإنسان أحياناً يغيب عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، ولكن لا ينبغي أن يغيب؛ لأن الحب في الله ، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.(7/7)
فائدة: أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر؛ كما قال الله تعال: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة } [الأنعام: 74]، وقال تعالى: { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } [التوبة: 114]؛ لأنه قال: { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } [مريم: 47]، { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } [التوبة: 114]، وفي سورة إبراهيم قال: { ربنا أغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [إبراهيم: 41]، ولكن فيما بعد تبرأ منه. أما نوح؛ فقال: { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات } [نوح: 28]، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين.
فائدة أخرى: قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: المغازي، والملاحم، والتفسير؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهذا؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم، { فلما آتاهما صالحاً } [الأعراف: 190]، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك.
فالقاعدة إذاً: أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئاً إلا من طريق الوحي، قال تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } [إبراهيم: 9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: { والذين هم بربهم لا يشركون } [المؤمنون: 59].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية: قوله: { والذين هم بربهم لا يشركون } . هذه الآية سبقها آية، وهي قوله: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } [المؤمنون: 57]. لكن المؤلف ذكر الشاهد. وقوله تعالى: { من خشية ربهم } ؛ أي: من خوفهم منه على علم، و { مشفقون } ؛ أي: خائفون من عذابه إن خالفوه. فالمعاصي بالمعنى الأعم - كما سبق- شرك؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال الله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23].(7/8)
أما بالنسبة للمعنى الأخص؛ فيقسمها العلماء قسمين:
1- شرك.
2- فسوق.
وقوله: { لا يشركون } ، يراد به الشرك بالمعنى الأعم؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا؛ فإنهم يتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال الله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } [آل عمران: 135].
(تم): قال بعد ذلك: وقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } (المؤمنون: 59) وهذه الآيات في سورة المؤمنون، وهي في مدح خاصة المؤمنين، ووجه الاستدلال من الآية على الباب أن الله قال: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } (المؤمنون: 59) فقوله { لا يشركون } نفي للشرك،... وأن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع، فإنه يفيد عموم المصدر الذي يدل عليه الفعل: فكأنه -جل وعلا- قال: "والذين هم بربهم لا يفعلون شركا، أو لا يشركون، لا بشرك أكبر، ولا أصغر، ولا خفي"، والذي لا يشرك هو الموحد، فصار عندنا لازم، وهو أن من لم يشرك أي نوع من أنواع من الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده.
قال العلماء: قدَّم هنا قوله: { بِرَبِّهِمْ } في قوله { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } ؛ لأن الربوبية تستلزم العبودية، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة، وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا التوحيد؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك ألا يشرك هواه، لأن المرء إذا أشرك هواه أتى بالبدع، أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه، ونفيا للبدعة، ونفيا للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله -جل وعلا-. فالآية –إذاً- دالة على ما ترجم له الإمام -رحمه الله - بقوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب".(7/9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الّذِي انْقَضّ الْبَارِحَةَ؟ فقُلْتُ: أَنَا. ثُمّ قُلْتُ: أَمَا إِنّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ. وَلَكِنّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: ارْتقَيْتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدّثَنَاهُ الشّعْبِيّ.قَالَ: وَمَا حَدّثَكُمُ؟ قُلْتُ: حَدّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ, أَنّهُ قَالَ: لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إلى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ. فَرَأَيْتُ النّبِيّ وَمَعَهُ الرّهَطُ. وَالنّبِيّ وَمَعَهُ الرّجُلُ وَالرّجُلاَنِ. وَالنّبِيّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَظَنَنْتُ أَنّهُمْ أُمّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَىَ وَقَوْمُهُ. فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حسابٍ وَلاَ عَذَابٍ».(7/10)
ثُمّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله شيئاً. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ, فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -... فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: «هُمُ الّذِينَ لايَسْتَرْقُونَ.ولا يكتوون وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ» فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ».(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن (حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي، أبو الهذيل الكوفى. ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
وسعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبى موسى مرسلة. وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.
(ق): قوله: "انقض البارحة"، أي: سقط البارحة، والبارحة: أقرب ليلة مضت، وقال بعض أهل اللغة: تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال. وفي عرفنا؛ فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول: البارحة لليلة الماضية، ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول: الليلة لليلة التي نحن فيها.
بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال: البارحة؛ وإن كان في ليلته.
قوله: "فقلت أنا"، أي: حصين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، حديث (6541)ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب حديث (216).(7/11)
قوله: "أما إني لم أكن في صلاة"، أما: أداة استفتاح، وقيل: إنها بمعنى حقاً، وعلى هذا؛ فتفتح همزة "إن"، فيقال: أما أني لم أكن في صلاة، أي حقاً لم أكن في صلاة.
وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلى فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلى، وهذا من نقص التوحيد.
وقول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة، بل هو من باب الحسنات، وليس كمن يترك الطاعات خوفاً من الرياء؛ لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزيِّن له ترك الطاعة خشية الرياء، بل أفعل الطاعة، ولكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس.
قوله: "لدغت"، أي: لدغته عقرب أو غيرها، والظاهر أنها شديدة؛ لأنه لم ينم منها.
قوله: "ارتقيت"، أي: استرقيت؛ لأن افتعل مثل استفعل، وفي رواية مسلم: "استرقيت"؛ أي طلبت الرقية.
قوله: "فما حملك على ذلك"، أي: قال سعيد: ما السبب أنك استرقيت.
(ف): وقوله (حديث حدثناه الشعبي) اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة ثلاث ومائة.
قوله: (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة. ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد.
(ق): قوله: "حديث حدثناه الشعبي"، وهذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة، فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده.
قوله: "لا رقية"، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب.
قوله: "إلا من عين"، وهي نظرة من حاسد، نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة فينبعث منها ما يؤثر على المصاب، ويسميها العامة الآن: "النحاتة"، وبعضهم يسميها "النفس"، وبعضهم يسميها "الحسد".
قوله: "حُمَة"، بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها: وهي كل ذات سم، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم.(7/12)
فقال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس.. إلخ. إذن، فحصين استند على حديث: "لا رقية إلا من عين أو حمة"، وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع؛ فإن الرُّقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضاً، وكثير من الناس يقرؤون على الملدوغ فيبرأ حالاً، ويدل لهذا قصة الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فاستضافوا قوماً، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم لدغة عقرب، فقالوا: من يرقي؟ فقالواً: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، فجاؤوا إلى السرية، قالوا: هل فيكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، فقالوا: نعطيكم. فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثاً أو سبعاً، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "وما يدريك أنها رقية؟" (يعني: الفاتحة)(1)، وكذا القراءة من العين مفيدة.
ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتي بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله . وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضاً، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب. وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرّك عليه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "هلا برّكت عليه"(2)؛ أي: قلت: بارك الله عليك.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/ باب الرقي بفاتحة الكتاب، ومسلم: كتاب السلام/ باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن.
(2) مسند الإمام أحمد (3/486)، وموطأ الإمام مالك (211/938)، وشرح السنة (1211/164)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(4020).(7/13)
قوله "ولكن حدثنا": القائل سعيد بن جبير.
(ف): قوله: (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. دعا له فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل "(1) فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين.
(ق): قوله: "عرضت علي الأمم"، العارض لها الله - - سبحانه وتعالى - -، وهذا في المنام فيما يظهر. وأنظر: "فتح الباري"(11/407، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً، كتاب الرقاق)، والأمم: جمع أمة وهي أمم الرسل.
قوله: "الرهط"، من الثلاثة إلى التسعة.
قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان"، الظاهر أن الواو بمعنى أو؛ أي: ومعه الرجل أو الرجلان؛ لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول: ومعه ثلاثة، لكن المعنى: والنبي ومعه الرجل، النبي الثاني ومعه الرجلان.
قوله: "والنبي وليس معه أحد"، أي: يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ، يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة.
قوله: "إذ رفع لي"، هذا على تقدير محذوف؛ أي: بينما أنا كذلك؛ إذ رفع لي.
قوله: "سواد عظيم"، المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال: ما رأيت سواده، أي: شخصه، أي أشخاصاً عظيمة كانوا من كثرتهم سواداً.
قوله: "فظنت أنهم أمتي"، لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم؛ فظن هذا السواد أمته - عليه الصلاة والسلام -.
قوله: "فقيل لي: هذا موسى وقومه"، وهذا يدل على كثرة أتباع موسى - عليه السلام - وقومه الذين أرسل إليهم.
قوله: "فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك"، وهذا أعظم من السواد الأول؛ لأن أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر بكثير من أمة موسى - عليه السلام -.
قوله: "بغير حساب ولا عذاب"، أي: لا يعذبون ولا يحاسبون كرامةً لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم ولا بعد قيام الساعة.
__________
(1) رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه.(7/14)
قوله: "فخاض الناس في أولئك"، هذا الخوض للوصول إلى الحقيقة نظرياً وعملياً حتى يكونوا منهم.
قوله: "الذين صحبوا رسول الله "، يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ.
ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة، لقالوا: نحن؛ لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد: "لا تسبوا أصحابي"(1)؛ فإن المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفاً.
ويمنع الاحتمال الأول: أن الصحابة أكثر من سبعين ألفاً، ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى فتح مكة؛ لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً. وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر.
قوله: "الذين ولدوا في الإسلام"، أي: من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا: ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفاً.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذاً خليلاً، حديث (3673)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنه حديث (2540).(7/15)
(ف): قوله: (فقال هم الذين لا يسترقون) هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك فهي حديث ابن مسعود في مسند أحمد. وفى رواية لمسلم ولا يرقون قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يرقون وقد "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرقي: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"(1). و"قال: لا بأس بالرقي ما لم تكن شركاً"(2) قال: وأيضاً فقد "رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -" و"رقى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه" قال والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقى سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلب، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفاً بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم.
(ق): واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل: استغفر؛ أي: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى؛ أي: طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم، لما يلي:
لقوة اعتمادهم على الله .
لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله .
ولما في ذلك من التعلق بغير الله .
وقوله: "ولا يكتوون"، أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم.
ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: "ولا يسترقون". أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذل؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
(ف): قلت: والظاهر أن قوله لا يكتوون أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم. أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح "عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبى بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه".
__________
(1) مسلم (2199) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
(2) مسلم حديث(2200) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -.(7/16)
وفى صحيح البخاري "عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي" وروى الترمذي وغيره "عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أسعد بن زرارة من الشوكة"(1).
وفي صحيح البخاري "عن ابن عباس مرفوعاً الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي وفى لفظ: وما أحب أن أكتوي".
قال ابن القيم رحمه الله : قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع (أحدها) فعله. (والثاني) عدم محبته. (والثالث) الثناء على من تركه. (والرابع) النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله ، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
قوله: (ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها.وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
__________
(1) صحيح : الترمذي (2055)، ابن حبان (1404- موارد).(7/17)
(ق): قوله: "ولا يتطيرون"، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطيّر، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان. وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيراً ثم رأى الطير سنحت يميناً أو شمالاً حسب ما كان معروفاً عندهم، تجده يتأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتاً أو رأى شخصاً تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: "عقد علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده"(1)، ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله الشرع؛ لضرره على الإنسان عقلاً وتفكيراً وسلوكاً، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله ، ولهذا ختم المسألة بقوله: "وعلى ربهم يتوكلون"؛ فانتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.
(ف): قوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله ، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به رباً وإلهاً، والرضا بقضائه.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل: مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: '65: 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها، توكلاً على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سبباً لشفائه - بخيط العنكبوت.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب التزوج والتزويج في شوال، حديث(1423).(7/18)
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، لما في الصحيحين "عن أبي هريرة مرفوعاً ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله". "وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب، فقالوا يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم. يا عباد الله تداووا، فإن الله - عز وجل - لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: الهرم"(1) رواه أحمد.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد: بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً.
وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح، وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب؟
__________
(1) رواه أحمد في المسند (4/278) وصححه الألباني في غاية المرام(179).(7/19)
فالمشهور عند أحمد: الأول لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو الظفر. قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد.
(ق): وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلاً.
أما بالنسبة لطلب العلاج، فالظاهر أنه مثله لأنّه عام، وقد يقال: إنّه لولا قوله: "ولا يسترقون"؛ لقلت: إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق: إحراق بالنار، وألم للإنسان، ونفعه مرتجى، لكن كلمة "يسترقون" مشكلة؛ فالرقية ليس فيها ضرر، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها، لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضر أيضاً؛ لأن الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره. وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلاً: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهو لا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلاً، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها. ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه.
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟(7/20)
الجواب: لا يفوتك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عائشة أن ترقيه، وهو أكمل الخلق توكلاً على الله وثقةً به، ولأن هذا الحديث: "لا يسترقون..." إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب.
(ف): فقوله: (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.
قوله: (فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم) وللبخاري في رواية: فقال اللهم اجعله منهم وفيه: طلب الدعاء من الفاضل.
(ق): قوله: "فقال: أنت منهم"، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟ مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول، أو وحي إقراري بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحياً إقرارياً.
لكن رواية البخاري: "اللهم اجعله منهم" تدل على أن الجملة: "أنت منهم" خبر بمعنى الدعاء.
قوله: "ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة"، لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول له: لا، ولكن قال: سبقك بها، أي: بهذه المنقبة والفضيلة، أو بهذه المسألة عكاشة بن محصن.
وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام؟(7/21)
فقيل: إنه كان منافقاً، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يجابهه بما يكره تأليفاً. وقيل: خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً، وهذا أقرب.
(ف): قوله: (فقال سبقك بها عكاشة) قال القرطبي: لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه، إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضراً فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك. أ. هـ.
(تم): هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل، وليسوا بكثير ؛ ولهذا جاء عددهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا، قد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره بأن الله -جل وعلا- أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كل ألف من السبعين ألفا أعطاه سبعين ألفا(1)، فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة، فإن كان ذلك الحديث صحيحا، فقد صحَّح إسناده بعض أهل العلم، فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم، أو كان ذلك قبل سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد.
فإن قيل: ما معنى أن يُزاد في عددهم؟ فالجواب: يعني: أن المعنى أن الله -جل وعلا- يمن على أناس من هذه الأمة -غير السبعين ألفا- ممن سيأتون بعد، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، فالله -جل وعلا- هو الذي يوفق، وهو الذي يهدي، ثم هو الذي يجازي، فما أعظمه من محسن بٍّر كريم رحيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند(2/359) والبيهقي في الشعب (416).(7/22)
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: "فيه مسائل"، أي: في هذا الباب مسائل:
المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد، وهذه مأخوذة من قوله: "يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب". ثم قال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون".
الثانية: ما معنى تحقيقه؟ أي: تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه: تخليصه من الشرك.
الثالثة: ثناؤه - سبحانه - على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين، وهو ظاهر في الآية الكريمة: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [النحل: 120]؛ فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه؛ دل ذلك على أن كل من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله - - سبحانه وتعالى - -.(7/23)
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، لقوله تعالى: { والذين هم بربهم لا يشركون } ، وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله: { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 57-61]؛ فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: الأولياء السادات، وليس يريد رحمه الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذي هم سادات الخلق.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، لقوله: "الذين لا يسترقون ولا يكتوون"؛ فالمراد بقول المؤلف: "الرقية والكي": الاسترقاء والاكتواء.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل، والخصال هي: ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير، يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله - - عز وجل -.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، أي: لم ينل هؤلاء السبعون ألفاً هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء.
الثامنة: حرصهم على الخير، وجهه خوضهم في هذا الشيء؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكميّة والكيفيّة، أما الكميّة، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى سواداً عظيماً أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفيّة؛ فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.(7/24)
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى، وهو مأخوذ من قوله: "إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ"، ولكن قد يقال: إن التعبير بقول: كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث؛ لأن الحديث يقول: "سواد عظيم فظننت أنهم أمتي"، وهذا يدل على الكثرة.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام -، وهذا له فائدتان:
الفائدة الأولى: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد، فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول: { ما كنت بدعاً من الرسل } .
الفائدة الثانية: بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان أكثر أتباعاً وأفضلهم؛ فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها، لقوله: "رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ، ولولا أنّ كل نبي متميز عن النبي الآخر؛ لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله - سبحانه وتعالى -: { وترى كل أمةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها } [الجاثية: 28]؛ فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء، وهو واضح من قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد".
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده، لقوله: "والنبي وليس معه أحد".
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة.. إلخ، فإن الكثرة قد تكون ضلالاً، قال الله تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [الأنعام: 116]، وأيضاً الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنّه منصور؛ فهذا أيضاً سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟. كذلك أيضاً لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق؛ فكلام المؤلف له وجهان:
الوجه الأول: أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم.(7/25)
الوجه الثاني: أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في القلة، أي أن لا نزهد بالقلة؛ فقد تكون القلة خيراً من الكثرة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة، مأخوذ من قوله: "لا رقية إلا من عين أو حمة".
السابعة عشرة: عمق علم السلف، لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا"؛ فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني، لأن قوله: "لا رقية إلا من عينٍ أو حمة" لا يخالف الثاني؛ لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء، والأول في الرقية؛ فالإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه؛ فإنه لا ينافي قوله: "ولا يسترقون"، لأن هناك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يطلب من يرقيه، وهذا قد فاته الكمال.
المرتبة الثانية: أن لا يمنع من يرقيه، وهذا لم يفته الكمال؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب.
المرتبة الثالث: أن يمنع من يرقيه، وهذا خلاف السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عائشة أن ترقيه، وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحداً أن يرقيهم؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه، يؤخذ من قوله: "أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت"؛ لأنه إذا كان رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان، واليقظان: إما أن يصلى، وإما أن يكون له شغل آخر، وإما أن يكون لديه مانع من النوم.(7/26)
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة. يعني: دليلاً على نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكيف ذلك؟، لأن عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - بقي محروساً من الكفر حتى مات على الإسلام، فيكون في هذا علم، يعني: دليلاً من دلائل نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هذا إذا قلنا: إن الجملة خبرية وليس جملة دعائية، فإن قلنا: إنها جملة دعائية، فقد نقول أيضاً: فيه علم من أعلام النبوة، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء؛ فقد تجاب دعوة من ليس بنبي، وحينئذ لا يمكن أن تكون علماً من أعلام النبوة إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة.
العشرون: فضيلة عكاشة، بكون ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهل نشهد له بذلك؟ نعم، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهد له بها.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وذلك لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "سبقك بها عكاشة"؛ فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح: إما أن يكون هذا الرجل منافقاً فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وإما خوفاً من انفتاح الباب؛ فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها.
الثانية والعشرون: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -. وذلك لأنه رد هذا الرجل وسدَّ الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد ولا كراهة.
- - - - - -
- - - - - -(7/27)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب الخوف من الشرك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك؛ ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد a -عليه الصلاة والسلام- يكثر من الدعاء بأن يبعد عنه الشرك، وكذلك كان إبراهيم -- عليه السلام -- يكثر من الدعاء لئلا يدركه الشرك، أو عبادة الأصنام.
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بد أن يقترن معه الخوف من الشرك، وقل من يكون مخاطراً بتوحيده، أو غير خائف من الشرك، ويكون مع هذا على مراتب الكمال، بل لا يوجد، فكل محقق للتوحيد، وكل راغب فيه حريص عليه: يخاف من الشرك، وإذا خاف من الشرك، فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه يجعل العبد حريصاً كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه.
والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها:
أن يكون متعلما للشرك بأنواعه حتى لا يقع فيه.
ومنها: أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك، ويعظم ويستمر على ذلك.(8/1)
ومنها: أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغيا مرضاة الله ، فإن عصى أو غفل كان استغفاره استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار، وعظم حاجته للاستغفار؛ لأن الناس في الاستغفار أنواع، لكن من علم منهم حق الله -جل وعلا- وسعى في تحقيق التوحيد، وتعلم ذلك وسعى في الهرب من الشرك، فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار؛ ولأجل صلاح هذا بوَّب الشيخ-رحمه الله - هذا الباب الذي عنوانه "باب الخوف من الشرك"، فكأنه يقول لك: إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم -- عليه السلام --، وعرفت ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلم ما سيأتي في هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد، وللخوف من الشرك، والبعد عنه، فما بعد هذين البابين -باب من حقق التوحيد، وباب الخوف من الشرك- تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتين هما-تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك ببيان معناه، وبيان أنواعه-.
وقد ذكرنا فيما سبق أن الشرك: هو إشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة، وقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، وقد يكون خفيا.(8/2)
(ت): لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي نسائهم وأولادهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه ولهذا قال حذيفة كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه رواه البخاري وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فأما أن يقع فيه وأما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية قال شيخ الإسلام وهو كما قال عمر فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف فلم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله - عز وجل - { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء:48)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الأولى قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به). (لا): نافية، (أن يشرك به): فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره: أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكاً به.(8/3)
(تم): والمغفرة: هي الستر لما يخاف وقوع أثره، ويقال في اللغة: غفر إذا ستر، ومنه سمي ما يوضع على الرأس "مغفرا"؛ لأنه يستر الرأس، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه، فمادة (المغفرة) راجعه إلى ستر الأثر الذي يخاف منه، والشرك والمعصية لها أثرهما إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا، وأعظم ما يمن به على العبد أن يغفر ذنبه، وذلك بأن يستر عليه، ويمحى عنه أثره، فلا يؤاخذ به الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة، فلولا المغفرة لهلك الناس.
ومعنى قوله -جل وعلا- في هذه الآية { لا يغفر } أي: أبدا فقوله { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: من الآية48) هذا وعيد بأنه - تعالى- لم يجعل مغفرته لمن أشرك به.(8/4)
(ت): قال ابن كثير أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء من عباده قلت فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا لذنب الذي هذا شأنه عند الله وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به كما قال تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة كما قال - صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله رواه مسلم ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره شبيها بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فأزمة الأمور كلها بيديه سبحانه ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ولك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية(8/5)
الذل كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
(ق): فالشرك لا يغفره الله أبداً، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد. أما المعاصي، كالزنى والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة، أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13].
(ت): وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد ولا يخرجون منها وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال تعالى في الآية الأخرى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به ما لم يتب قاله شيخ الإسلام.
(ق): وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟ قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو كان أصغر، كالحلف بغير الله ، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله ، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر.(8/6)
(تم): قال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا: { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: من الآية48) دالة على العموم، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر، فالمقصود بالشرك في قوله { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: من الآية48) هو الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر، فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مرادا به الخصوص لأنه غالباً ما يرد في القرآن هذا اللفظ { أن يشرك به } ونحو ذلك، ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر وهذا في الغالب كما سبق.(8/7)
فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، ومن شواهد ذلك قوله -جل وعلا-: { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة: من الآية72) فقوله في الآية { يُشْرِكْ } هو-أيضا- فعل داخل في سياق الشرط فيكون عاما، لكن هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي؟ الجواب: إنه لا يدخل بالإجماع لأن تحريم الجنة، وإدخال النار والتخليد فيها إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلنا ذلك على أن المراد بقوله { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة: من الآية72) أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر، فلم يدخل فيه الأصغر، ولم يدخل ما دونه، من أنواع الأصغر، فيكون المفهوم إذاً من آيتي سورة "النساء" كالمفهوم من آية سورة "المائدة" ونحوها، وهذا كقوله في سورة الحج { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } (الحج: من الآية31)، فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر، فيكون على هذا القول المراد بما نفي هنا في قوله { لا يغفر أن } الشرك الأكبر.(8/8)
ولما كان اختيار إمام الدعوة كما هو اختيار عدد من المحققين كشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما أن العموم هنا شامل لأنواع الشرك: الأكبر، والأصغر، والخفي، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحا؛ لأن الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف، فإذا كان الشرك الأصغر كالحلف بغير الله ، وتعليق التميمة والحلقة والخيط، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر، كقولك، ما شاء الله وشئت، ونسبة النعم إلى غير الله ، إذا كان ذلك لا يغفر، فإنه يوجب أعظم الخوف، كالشرك الأكبر، وإذا كان كذلك فيقع في الخوف من الشرك من هم على غير التوحيد كمنْ يعبدون غير الله ، ويستغيثون بغير الله ، ويتوجهون إلى غيره، ويذبحون وينذرون لغيره، ويحبون غير الله محبة العبادة، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السر من غير الله إلى غير ذلك، يكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك، لأنهم وقعوا فيما هو اتفق عليه أنه لا يغفر، كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام، الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه، وهم لا يشعرون، أو وهم لا يحذرون.
فإذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر وأنه مؤاخذ به، وأن الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا تكفر ذنب الوقوع في الشرك الأصغر فيجب أن يعظم في قلبه الخوف منه فإن قيل فبماذا يغفر إذا؟ فالجواب: إنه لا يغفر إلا بالتوبة فقط، فإن لم يتب، فثمة الموازنة بين الحسنات والسيئات، ولكن ما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات؟ فمن ينجو من ذلك؟!! لا ريب إنه لا ينجو إلا من عظمت حسناته، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك، ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك بعامة ؛ لأن المرء يكون على خطر عظيم إذا وزنت حسناته وسيئاته، ثم كان في سيئاته نوع من أنواع الشرك، لان من المعلوم أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من، كبائر الأعمال المعروفة.(8/9)
فوجه الاستدلال من آية "النساء" وهي قوله -جل وعلا { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: من الآية48)أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعا، وأنها كلها لا تغفر؛ فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك، وإذا وقع أو حصل الخوف والوجل من الشرك في القلب، فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه، ويطلب معرفة أصنافه وأفراده حتى لا يقع فيها، وحتى يحذر أحبابه، ومن حوله منها؛ لذلك كان أحب الخلق، أو أحب الناس، وخير الناس للناس من يحذرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا به، ولو لم يعقلوه، قال -جل وعلا- : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (آل عمران: من الآية110)؛ لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛ لأن هذا أعظم ما يدعى إليه.
ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد، وشك، ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهم ما جاء به الشيخ-رحمه الله -، وكتبوا للشيخ وغلظوا له القول، وقالوا: إن ما جئت به ليس بصحيح، وإنك تريد كذا وكذا، لما حصل منهم ذلك أجابهم بكتاب قال في آخره: بعد أن شرح التوحيد وضده ورغَّب ورهَّب ((ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم، ولكنكم قوم لا تعقلون)) أ.هـ.، وهذا كلام صحيح، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله - جل وعلا-، فرحمه الله تعالى-، وأجزل له المثوبة، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ورفع درجته في المهديين والنبيين والصالحين.
(ق): قوله: (ويغفر ما دون ذلك)، المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك.(8/10)
(ف): في قرة عين الموحدين قال النووي (رحمه الله تعالى) أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصراً عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة فإن عفي عنه دخل الجنة أو لا وإلا عذب في النار ثم أخرج منها وأدخل الجنة.أ.هـ.
قلت: هذا قول أهل السنة والجماعة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك، لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد، ثم قال { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء: من الآية48)، فخصص وقيد فيما دون الشرك، فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمل أن يقع فيه فلا يرجى له معه نجاة، إن لم يتب منه قبل الوفاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الخليل - عليه السلام - { وَاجْنُبْنِي وَبَنيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (إبراهيم: من الآية35)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(8/11)
(ق): الآية الثانية: قوله: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام). قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم فلم يجب الله دعاءه. وأيضاً يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل. ومعنى: (اجنبني)، أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام، لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.
(تم): { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (إبراهيم: من الآية35)، وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم -- عليه السلام --، ومر بنا في الباب قبله: أن إبراهيم قد حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا، وبأنه لم يك من المشركين، فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله ، ولن يعبد الأصنام ، أو يظل مقيما على خوفه؟؟!! وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون؟؟! هذا إبراهيم- - عليه السلام - -كما في هذه الآية خاف الشرك، وخاف عبادة الأصنام، فدعا الله بقوله: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ - رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاس } (إبراهيم: من الآية36) فكيف ممن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا فهم عامة هذه الأمة؟ والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك فمن الذي يخاف-إذاً؟ هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.(8/12)
قال إبراهيم التيمي-رحمه الله من سادات التابعين- لما تلا هذه الآية قال: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم"(1)، إذا كان إبراهيم -- عليه السلام -- هو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وصف بما وصف به، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده، يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده؟
إذا ما ثم إلا غرور أهل الغرور. والمقصود أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك؛ لأن إبراهيم (- عليه السلام -) مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه بل وبعد زمانه إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك، وألا يزيغ قلبه، وكذلك الحال مع نبينا a - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به(2)
__________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور(5/46).
(2) في قرة العيون: فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة، وابتلاه بكلمات فأتمهن، وقال {وإبراهيم الذي وفى} (النجم: 37) وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه، وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك، ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام، لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه، لا بحوله وقوته.
فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه، فقد وقع فيه من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأصنام وعبدت، فالذي خافه الخليل - عليه السلام - على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها، واتخذ ذلك ديناً، وهي أوثان وأصنام كأصنام نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم، فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم، بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده، فذكر - عليه السلام - السبب الذي أوجب الخوف عليه وعلى ذريته بقوله { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم: 36) وقد ضلت الأمم بعبادة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده. فمن تدب القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه والوعيد على فعله، والثواب على تركه.وقد هلك من هلك باعراضه عن القرآن، وجهله بما أمر الله به ونهى عنه.نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة بالله إ لا بالله العلي العظيم، وقال تعالى عن عيسى: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]رد أمرهم إلى الله كما رده a - عليه السلام -، وقد بين الله تعالى فيما أنزله على نبيه a - صلى الله عليه وسلم - حكمه في أهل الشرك بأنه لا يغفره لهم فلا معارضة، وقد بين حكمه فيهم في هذا الكتاب العزيز الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42]. فإن أكثر الناس يعتقدون أن الأقطاب الأربعة وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء والإماتة والرزق والضر والنفع: وأن مجلس أوليائهم تعرض عليه شؤون العالم.إقرأ كتاب الشعراني و"الابريز" للدباغ وكتب التيجانية وغيرها من كتب أولئك الضالين المضلين، تجد الشرك الذي ما كان يخطر على بال أبي جهل وإخوانه، لانهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم.(8/13)
.
(تم): قوله هنا { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (إبراهيم: من الآية35) الأصنام: جمع صنم، والصنم هو: ما كان على صورة مما يعبد من دون الله ، يصور صورة على شكل وجه رجل، أو على شكل جسم حيوان، أو رأس حيوان، أو على شكل صورة كوكب، أو نجم، أو على شكل الشمس والقمر ونحو ذلك، فإذا صوَّر صورة، فتلك الصورة يقال لها: صنم.
والوثن: هو ما عبد من دون الله مما هو ليس على شكل صورة، فالقبر وثن، وليس بصنم، والمشهد، مشاهد القبور عند عبادها هذه أوثان، وليست بأصنام، وقد يطلق على الصنم أنه وثن، كما قال -جل وعلا- في قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } (العنكبوت: من الآية17) ولكن هذا يطلق على قلة، وقال بعض أهل العلم: هم عبدوا الأصنام، وعبدوا الأوثان جميعا، فصار في بعض الآيات ذكر الأصنام لعبادتهم الأصنام، وفي بعض ذكر الأوثان لعبادتهم الأوثان، والأول أظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)(1)فدعا الله أن لا يجعل قبره وثنا، فصار الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس على هيئة صورة.
(ق): الشاهد من هذه الآية: أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "وفي الحديث". الحديث: ما أضيف إلى الرسول، والخبر: ما أضيف إليه والى غيره، والأثر: ما أضيف إلى غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي: إلى الصحابي فمن بعده، إلا إذا قيد فقيل: وفي الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون على ما قيد به.
قوله: "أخوف ما أخاف عليكم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه أحمد (2/246).(8/14)
وفي الحديث [إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه، فقال: الرياء](1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الخطاب للمسلمين، إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر، وليس لجميع الناس.
(ت): هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معرف وقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد وهذا لفظ أحمد قال حدثنا يونس ثنا ليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء قال المنذري ومحمود بن لبيد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح له منه سماع فيما أرى وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال له صحبة قال وقال أبي لا تعرف له صحبة ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبه وقال رجل روايته عن الصحابة وقد رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود ابن لبيد عن رافع بن خديج وقيل إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع.
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائي (5/428)، حديث (23680) والبيهقي في الشعب (5/333)، حديث (6831)من حديث محمود بن لبيد، وأرجه الطبراني في الكبير (4/253)، حديث (4301) من حديث محمود بن لبيد بن رافع بن خديج.وصححه الألباني في صحيح الجامع (1555).(8/15)
(ق): قوله: "الرياء"، مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء، كقاتل يقاتل قتالاً. والرياء: أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابداً، وليس يريد أن تكون العبادة للناس، لأنه لو أراد ذلك، لكان شركاً أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا، فقد يكون رياء، وقد يكون سماعاً، أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء، فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب. أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها، فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله - - عز وجل - -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فعلت هذا لتأتموا بي وتعلموا صلاتي"(1).
(تم): والرياء قسمان: رياء المسلم، ورياء المنافق، رياء المنافق: رياء في أصل الدين. يعني: راءى بإظهار الإسلام، وأبطن الكفر ?، قال تعالى { يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلاً } (النساء: من الآية142) ورياء المسلم الموحد أن يحسن صلاته من أجل نظر الرجل، أو أن يحسن تلاوته لأجل التثنية، أن يمدح ويثنَّى، لا لأجل التأثير.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب: الخطبة على المنبر، حديث (917) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب: جواز الخطوة والخطوتين، حديث (544).(8/16)
فالرياء مشتق من الرؤية، فما كان من جهة الرؤية، يعني: أن يحسن عبادة لأجل أن يُرَى من المتعبدين، يطيل في صلاته، يطيل في ركوعه في سجوده، يقرأ في صلاته أكثر من العادة من أجل أن يُرَى ذلك منه، يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه أنه يقوم الليل، هذا شرك أصغر، والشرك الأصغر هذا الذي هو الرياء قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها؛ فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به إذا ابتدأ النية بالرياء، يعني: فيما لو صلى دخل الصلاة لأجل أن يُرى أنه يصلي، ليس عنده رغبة في أن يصلي الراتبة، لكن لما رأى أنه يُرى، ولأجل أن يمدح بما يراه الناس منه صلى، فهذا عمله يعني: تلك الصلاة حابطة، ليس له فيها ثواب، وإن جاء الرياء في أثناء العبادة، فإن ما زاده لأجل الرؤية يبطل، كما قال عليه -الصلاة والسلام-: { قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه }(1). فالشاهد من الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) هو أخوف الذنوب التي خافها النبي -عليه الصلاة والسلام- على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد، فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر، فبقي أن يخاف عليهم الشرك الأصغر، والشرك الأصغر تارة يكون في النيات، وتارة يكون في الأقوال، وتارة يكون في الأعمال، يعني: في القلب يكون الشرك الأصغر، وفي المقال، وفي الفعال -أيضا-، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف من كل واحدة من هذه الثلاث. إذن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) فهو أخوف الذنوب على هذه الأمة؛ لماذا خافه -عليه الصلاة والسلام -، وكان أعظم الذنوب خوفا؟ لأجل أثره وهو أنه لا يغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه؛ ولهذا خافه عليهم -عليه الصلاة والسلام-، والشيطان حرصه على أهل التوحيد أن يدخل فيهم الشرك الأصغر من جهة
__________
(1) مسلم: حديث(2985)(8/17)
الرياء، ومن جهة الأقوال، والأعمال، والنيات أعظم من فرحه بغير ذلك من الذنوب.
(ت): هذا من رحمته - صلى الله عليه وسلم - لأمته وشفقته عليهم وتحذيره مما يخاف عليهم فانه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلم الله كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين لقوة الداعي إلى ذلك والمعصوم من عصمه الله وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر وإما ضعيف هذا مع العافية وإما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فلذلك صار خوفه - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر لما تقدم مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله.
(ف): خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله .(8/18)
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(1): " الشرك أخفى من دبيب النمل. قال أبو بكر: يا رسول الله ، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله ؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل" الحديث. وفيه: أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان أ.هـ. من الدر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبدِ الله ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
[من ماتَ وهوَ يَدعو من دون الله نِدّاً دخلَ النار].(2) رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (من). هذه شرطية تفيد العموم للذكر والأنثى.
قوله: (يدعو من دون الله ندا).
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان، وند يده، أي مثله وشبيهه.أ.هـ
(ق): أي: يتخذ لله نداً سواء دعاء عبادة أم دعاء مسألة، لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين:
__________
(1) صحيح :أبو يعلى ص (19-20) مصورة المكتب الاسلامي ،وابن المنذر كما في الدرر المنثور(4/54) والحديث صححه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (17) وذلك لشواهده الكثيرة.
(2) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، حديث (4497).(8/19)
الأول: دعاء عبادة، مثاله: الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان أو صام، فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال. ويدل لهذا القسم قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [غافر: 60]، فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله شرك، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله ، فقد كفر كفراً مخرجاً له عن الملة، فلو ركع لإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركاً، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الانحناء عن الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن يحني له؟ قال: "لا"(1). خلافاً لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك، فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره، لأنه عظمك على حساب دينه.
الثاني: دعاء المسألة، فهذا ليس كله شركاً، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادراً على ذلك، فليس بشرك، كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من دعاكم فأجيبوه"(2)، وقال تعالى: { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } [النساء: 8]. فإذا مد الفقير يده، وقال: ارزقني، أي: اعطني، فليس بشرك، كما قال تعال: { فارزقوهم منه } ، وأما أن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله ، فإن دعوته شرك مخرج عن الملة.
مثال ذلك: أن تدعو إنساناً أن ينزل الغيث معتقداً أنه قادر على ذلك.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/198)، والترمذي: كتاب الاستئذان/ باب ما جاء في المصافحة، وقال: (حديث حسن)، وابن ماجة: كتاب الأدب/ باب في المصافحة.
(2) مسند الإمام أحمد (2/68)، وأبو داود (3/17)، والنسائي (5/28)، والحاكم وصحح، وهذا اللفظ أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله، حديث (1672)، وفي الأدب، باب: في الرجل يستعيذ بالرجل، حديث (5109).(8/20)
والمراد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو من دون لله نداً" المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة، ففيه التفصيل السابق. ومع الأسف، ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي بقى جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط، لأنه إقرار على كفر، وليس إقراراً على فسوق فقط.
(ف): واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:
الأول: أن يجعله لله شريكاً في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر.
والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتنى لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده" رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه(1). وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.
وفيه: بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات، فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيئ، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
(ق): قوله: "دخل النار". أي: خالداً، مع أن اللفظ لا يدل عليه، لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.
__________
(1) حسن: أحمد(1/214 ،224 ،283 ،347 )، البخاري في الأدب المفرد (783)، النسائي في (عمل اليوم والليلة) (988)، ابن ماجة(2117)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(8/21)
(تم): وقوله: "دخل النار" يعني: كحال الكفار "فيكون خالدا فيها"؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر: فإنه يحبط العمل بذلك، ولو كان أصلح الصالحين، وقد قال -جل وعلا- لنبيه: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَالى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين - بَلِ الله فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (الزمر: 65-66)فالله فإن الله عظيم، والله أكبر، وخلقه كلهم محتاجون إليه، وعبيد له سبحانه، بمن فيهم أفضلهم وهم الأنبياء والمرسلون، فلو فرض أن أشرك النبي - عليه الصلاة والسلام - لحبط عمله، ولكان في الآخرة من الخاسرين، أفلا يوجب هذا أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك، ويحض عليه، ويكره ويبغض في التوحيد، وهذا كما قال الله -جل وعلا- عن أسلافهم: { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (الزمر: 45).(8/22)
(ق): وأيضاً قال الله تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة : 72]، وإذا حرمت الجنة، لزم أن يكون خالداً في النار أبداً، فيجب أن نخاف من الشرك مادامت هذه عقوبته، فالمشرك خسر الآخرة، لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضاً، لأنه لم يستفد منها شيئاً، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر - والعياذ بالله -، ما استفاد شيئاً من الدنيا، قال تعالى: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ } [فاطر: 37]، وقال الله - - عز وجل - -: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ - يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ - يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج: 11-13]، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الزمر: 15]. فخسر نفسه، لأنه لم يستفد منها شيئاً، وخسر أهله، لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جداً، فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص". فالشرك أمره صعب جداً ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه، فالناس لا(8/23)
ينفعونه أبداً، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج مع الميت أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان: أهله وماله، ويبقى عمله". وكذلك أيضاً من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله، لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص.
فالإخلاص صعب جداً، إلا أن الإنسان إذا كان متجهاً إلى الله اتجاهاً صادقاً سليماً على صراط مستقيم، فإن الله يعينه عليه، ويسره له.
(تم): فوجه الاستدلال ظاهر، -إذاً - في قوله- صلى الله عليه وسلم -? (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار) وأنه يوجب الخوف؛ لأن قصد المسلم، بل قصد العاقل أن يكون ناجيا من النار، ومتعرضا لثواب الله في الجنة.
ولفظ: (من دون الله ) يكثر في القرآن والسنة، "ومن دون الله " عند علماء التفسير وعلماء التحقيق، يراد بها شيئان:
الأول: أن تأني بمعنى (مع): فيكون معنى: (من دون الله ) أي مع الله ، وعبر عن المعية بلفظ "من دون الله "؛ لأن كل من دُعي مع الله فهو دون الله -جل وعلا - فهم دونه والله -جل وعلا - هو الأكبر، وهوالأعظم وفي هذا دليل على بشاعة عملهم.
والثاني: أن تأتي بمعنى: (غير) فيكون معنى: (من دون الله ) أي: يدعو إلهاً غير الله ، يعني: أنه لم يعبد الله ، وأشرك معه غيره، بل دعا غيره استقلالا، فشملت ((من دون الله )) الحالين: من دعا الله ودعا غيره، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
[من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار] (1).
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب سكرات الموت، ومسلم (كتاب الزهد والرقاق.(8/24)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولمسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار").
جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة.
(ق): قوله: "من". شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط: "لقي"، وجوابه قوله: "دخل الجنة"، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوب إن كانت عليه ذنوب، لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له، لأنه داخل تحت المشيئة.
قوله: "لا يشرك". في محل نصب على الحال من فعل "لقي".
قوله: "شيئاً". نكرة في سياق الشرط، فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل النار، فكيف بمن يجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الله ، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله ، بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقاً أم كاذباً، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقاً، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يحلف بقوميته إلا صادقاً، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكن لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقاً، فلزمته يمين، هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟ فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح. وقيل: يحلف بغير الله ، لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذباً لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقاً حلف ووقع في الشرك.
(ق): مسألة: هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟(8/25)
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت على ذلك النصوص، فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار. وإن كان أكبر، فإنه يلزم منه الخلود في النار. لكن لو حمَّلنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"، وفي قوله: "ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار"، وقلنا: من لقي الله لا يشرك به شركاً أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق، فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركاً أكبر دخل النار مخلداً فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل.
(تم): وعلى المرء أن يستعيذ بالله -جل وعلا- من الشرك الأصغر والخفي، بقوله: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه)؛ لأنه إذا علم، فأشرك، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه، وهو عدم المغفرة ففي هذا الدعاء الذي علمناه رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فيه التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم، والشرك الأصغر مع الجهل، فقال: (أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه)؛ لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم؛ فيجب أن يستعيذ المرء بالله من أن يشرك شركا أصغر، وما هو أعلى منه من باب أولى، وهو يعلم.(8/26)
ثم قال: (وأستغفرك لما لا أعلم) لأن المرء قد يكون شيئا على فلتات لسانه، وهو لا يعلم ولم يقصد ذلك، ويستغفر الله -جل وعلا- منه، هذا يدلكم على أن الشرك أمره عظيم، ولا يتهاون أحد بهذا الأمر؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد، فإنه تهاون بأصل دين الإسلام، بل تهاون بدعوة النبي -صلى الله على وسلم- في مكة سنين عددا، بل تهاون بدعوة الأنبياء والمرسلين، فإنهم اجتمعوا على شيء ألا وهو العقيدة، وهو توحيد العبادة، والربوبية، والأسماء والصفات، وأما الشرائع فشتى؛ لهذا وجب عليك الحذر كل الحذر من الشرك بأنواعه، وأن تتعلم ضده، وأن تتعلم -أيضا- أفراد الشرك، وأفراد التوحيد، وإنما يستقيم العلم بذلك إذا تعلمت الأفراد، أما التعلم الإجمالي بذلك، فهذا كما يقال نحن على الفطرة، لكن إذا أتت الأفراد ربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال، أو الأعمال التي هي من جنس الشرك، وهم لا يشعرون؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك، نسأل الله -جل وعلا- العفو والعافية.
أحرص إذن على تعلم هذا الكتاب، ومدارسته، وعلى كثرة مذاكرته، وفهم ما فيه من الحجج والبينات؛ لأنه أفضل ما تدعوه صدرك بعد كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فلعله أن يكون إن شاء الله سبباً عظيما من اسباب النجاة والفلاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } .(8/27)
العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله ) كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك. لقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، ولقوله: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).
الثانية: أن الرياء من الشرك. لحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال "الرياء"، وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنه فقال: "الرياء"، فسماه شركاً أصغر، وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر؟ ظاهر الحديث لا يمكن، لأنه قال: "الشرك الأصغر"، فسئل عنه، فقال: "الرياء". لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال: كيسير الرياء، فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر، لكن إن أراد بالكمية، فنعم، لأنه لو كان يرائي في كل عمل لكان مشركاً شركاً أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية، فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقاً.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. وتؤخذ من قوله: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيراً من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله.
الخامسة: قرب الجنة والنار. لقوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً، دخل النار".
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. "من لقي الله لا يشرك به شيئاً...." الحديث.
السابعة: أن من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. تؤخذ من العموم في قوله: "من لقي الله "، لأن "من" للعموم، لكن إن كان شركه أكبر، لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس، لقوله تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) [المائدة: 72]، وإن كان أصغر، عذب بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة.(8/28)
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، تؤخذ من قوله تعالى: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس). وفيه إشكال، إذ المؤلف يقول: بحال الأكثر، والآية: (كثيراً من الناس)، وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قال تعالى في بني آدم: (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) [الإسراء: 70]، فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق، فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله ، وليسوا أكرم الخلق على الله ، ولكنه كرمهم.
العاشرة: فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري. الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب، لأن لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. لقوله: (ويغفر ما دون ذلك)، وقوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة".(8/29)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إِلهَ إلاّ الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب هو باب "الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله "، باب الدعوة إلى التوحيد، وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك، وقبله ذكر فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وباب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، ولما ذكر بعده باب الخوف من الشرك اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في النفس، في نفس الموحد، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه بأن عرف فضله، وعرف معناه، وخاف من الشرك، واستقام على التوحيد، وهرب من ضده، هل يبقي مقتصرا بذلك على نفسه ويظن به على غيره وهل تتم حقيقة التوحيد في القلب إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم؟، ألا وهو إفراده -جل وعلا- بالعبادة، وبما يستحقه -- سبحانه وتعالى -- من نعوت الجلال، وأوصاف الجمال.(9/1)
بوَّب الشيخ (رحمه الله )بهذا الباب ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك، ومن تمام التوحيد أن يدعو المرء غيره إلى التوحيد، فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله علمت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية، بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله ، وشهادته معناها اعتقاده، ونطقه، وإخباره الغير بما دلت عليه، فلا بد -إذن- في حقيقة الشهادة وفي تمامها من أن يكون المرء المكلف الموحد أن يكون داعيا إلى التوحيد؛ لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله، ثم إن له مناسبة أخرى لطيفة، وهي أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان أفراده، وتفسير للشرك وبيان إفراده، فتكون الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله والى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك، وهذا من المهمات؛ لأن كثيرين من المنتسبين للعلم من أهل الأمصار يسلمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد، أو جاء التفصيل ببيان أفراد الشرك، فإنهم يخالفون في ذلك وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس في حقائق إفراد التوحيد وإفراد الشرك.
إذن فالذي تميزت بها هذه الدعوة -دعوة الإمام المصلح رحمه الله - أن الدعوة فيها إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية، ليست إجمالية، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون، ممن يقولون: نهتم بالتوحيد، ونبرأ من الشرك، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك، والذي ذكره الإمام-رحمه الله - في بعض رسائله أنه لما أراد عرض هذا الأمر يعني: الدعوة إلى التوحيد على علماء الأمصار قال: وافقوني على ما قلت، وخالفوني في مسألتين: في مسألة التكفير، وفي مسألة القتال، وهاتان المسألتان سبب المخالفة -مخالفة أولئك العلماء للشيخ- لأنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد، والنهى عن أفراد الشرك.(9/2)
فالدعاء إذن إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة، وفي الربوبية، وفي الأسماء والصفات عن الله -جل وعلا-، وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية؛ ولهذا فصَّل الإمام-رحمه الله - في هذا الكتاب أنواع التوحيد، وأفراد توحيد العبادة، وفصل الشرك الأكبر والأصغر، فبيَّن أفرادا من ذا وذاك.
وسيأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده؛ لأنه باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف: 108)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { قل هذه سبيلي } ، المشار إليه ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشرع عبادة ودعوة إلى الله . سبيلي: طريقي.
قوله: { أدعو } ، حال من الياء في قوله: { سبيلي } ، ويحتمل أن تكون استئنافاً لبيان تلك السبيل.
وقوله: { إلى الله } ، لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
داع إلى الله .
داع إلى غيره.(9/3)
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى. والداعي إلى غيره قد يكون داعياً إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهياً أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه. وقد يكون داعياً إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم. من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة، فهؤلاء دعوا إلى غير الله . ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه، فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "انفذ على رسلك، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب، فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا، فمعناه أنه يدعو إلى الله ، فإذا استجاب واحد، كفى، وإذا لم يستجب أحد، فقد أبرأ ذمته أيضاً، وفي الحديث: "والنبي وليس معه أحد".
ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل، لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقروا الباطل مع طول الزمن، ينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً.
قوله: { على بصيرة } ، أي: علم، فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم، لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله { على بصيرة } العلم بالشرع فقط، بل يشمل، العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة.(9/4)
فيكون بصيراً بحكم الشرع، وبصيراً بحال المدعو، وبصيراً بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب". وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي، لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً، فله سلبه"(1)، أو بالتأليف، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مئة بعير، فهذا كله من الحكمة، فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محموداً وليست طريقته طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.
قوله: { أنا ومن اتبعني } ، ذكروا فيها رأيين:
الأول: "أنا" مبتدأ، وخبرها "على بصيرة"، "ومن اتبعني" معطوفة على "إنا" أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة، أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: "أنا" توكيد للضمير المستتر في قوله: "أدعو"، أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضاً، أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.
قوله: { وسبحان الله } ، أي: أن أكون أدعو على غير بصيرة! وإعراب "سبحان": مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح.
قوله: { وما أنا من المشركين } ، محلها مما قبلها في المعنى توكيد، لأن التوحيد معناه نفي الشرك.
__________
(1) البخاري، كتاب الغزوات: باب قول الله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم...? } ومسلم: كتاب الجهاد/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل.(9/5)
(ف): قال أبو جعفر ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه a - صلى الله عليه وسلم - { قل } يا a { هذه } الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأوثان. والإنتهاء إلى طاعته وترك معصيته { سبيلي } طريقتي، ودعوتي { أدعو إلى الله } تعالى وحده لا شريك له { على بصيرة } بذلك، ويقين علم مني به { أنا } ويدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وصدقني وآمن بي { وسبحان الله } يقول له تعالى ذكره: وقل. تنزيهاً لله تعالى وتعظيماً له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه { وما أنا من المشركين } يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به. لست منهم ولاهم منى انتهى.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في معنى قوله تعالى: '16: 125' " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " الآية. ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق محباً له. مؤثراً له على غيره إذا عرفه. فهذا يدعى بالحكمة. ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق. لكن لو عرفه آثره واتبعه. فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معانداً معارضاً، فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن. انتهى.(9/6)
(تم): فأحسن الأقوال قول من دعا إلى الله ، وأحسن الأعمال عمل من دعا إلى الله -جل وعلا-؛ ولهذا قال سبحانه: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت: 33). قال الحسن البصري-رحمه الله - في تفسير هذه الآية ما معناه "هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله من خلقه، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، هذا حبيب الله "، وهذا أمر عظيم فالداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا، كما دلت عليه الآية السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: أَنّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قَالَ له: «إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فليكن أول ما تدعوهم إِلَيه شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله … "وَفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ. فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وتُرَدّ علىفُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ, فَإِيّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. وَاتّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجَابٌ».أخرجاه (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب التوحيد: ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك الله وتعالى، حديث (7372)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث (19).(9/7)
(ق): وقوله (أي: قول ابن عباس): "بعث معاذاً" أي: أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذاً إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما: "أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا وذكرا ولا تنفرا"(1).
قوله: "لما"، إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و"لو": حرف امتناع لامتناع، و"لولا" حرف امتناع لوجود.
قوله: "إنك تأتي قوماً من أهل كتاب"، قال ذلك مرشداً له، وهذا دليل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم، فله طريقان: 1- الوحي. 2- العلم والتجربة.
قوله: "من" بيانية، والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون، لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر. وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، لأمرين:
الأول: أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعداً لهم، لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.
قوله: "فليكن"، الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و"أول": اسم يكن، وخبرها "شهادة"، وقيل العكس، يعني "أول" خبر مقدم و"شهادة" اسم يكن مؤخراً. والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك، يكون "أول" مرفوعاً على أنه اسم يكن، أي: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله .
قوله: "شهادة"، الشهادة هنا من العلم، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]، فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان، لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لابد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان، أي: انقياد.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.(9/8)
فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إنه ليس بمسلم بالإجماع حتى ينطق بها، لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلابد من النطق، فالنية فقط لا تجزئ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمه أبي طالب: "قل"(1)، ولم يقل: اعتقد أن لا إله إلا الله .
قوله: "لا إله"، أي: لا معبود، فإله بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين، إله بمعنى آله، فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله، أي: لا قادر على الاختراع، وهذا باطل، ولو قيل بهذا المعنى، لكان المشركون الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - موحدين لأنهم يقرّون به، قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [الزخرف: 87]، وقال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [الزمر: 38]. فإن قيل: كيف يقال: لا معبود إلا الله ، والمشركون يعبدون أصنامهم؟! أجيب: بأنهم يعبدونها بغير حق، فهم وإن سموها آلهة، فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر، لجؤوا إلى الله تعالى، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة. فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط، فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59]، لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقاً هو الله - - سبحانه وتعالى - -. وفي قوله: "لا إله إلا الله " نفي الألوهية لغير الله ، وإثباته لله، ولهذا جاءت بطريق الحصر.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.(9/9)
(ف): قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، أحدها: العلم المنافي للجهل.
الثاني: اليقين المنافي للشك.
الثالث: القبول المنافي للرد.
الرابع: الانقياد المنافي للترك.
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.
السادس: الصدق المنافي للكذب.
السابع: المحبة المنافية لضدها.
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام: "أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" وقال نوح: "أن لا تعبدوا إلا الله " وفيه معنى (لا إله إلا الله ) مطابقة.
قال شيخ الإسلام: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله: معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان. قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء.أ. هـ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وفيه أن الإنسان قد يكون عالماً وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به).
قلت: فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى.
قوله: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة. والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه. وهذا قول الأكثرين أ.هـ.(9/10)
قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية.
وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها: إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن آدائها إليه أخذت منه قهراً.
في الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد.
وفيه: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف، وإن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور، لعموم الحديث.
قلت: والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره. كما قرره شيخ الإسلام.
قوله (إياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم على التحذير، وجمع كريمة قال صاحب المطالع هي الجامعة للكمال الممكن في حقها، من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف. ذكره النووي (قلت) وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً.
وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال. بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.
قوله: (واتق دعوة المظلوم) أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.
قوله: (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفى الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به. وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته. والتنبيه على التعليم بالتدريج. قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم.(9/11)
واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء. قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس: أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك. فإن هذا طعن في الرواة. لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس(1) حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
__________
(1) متفق عليه: ونص الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من القوم ؟ أو : من الوفد ؟ " قالوا : ربيعة . قال : " مرحبا بالقوم أو : بالوفد غير خزايا ولا ندامى " . قالوا : يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة وسألوه عن الأشربة . فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع : أمرهم بالإيمان بالله وحده قال : " أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس "ونهاهم عن أربع : عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وقال : " احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم " ولفظه للبخاري.(9/12)
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه. فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها: كالصلاة والزكاة. ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم. فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سراً، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها. فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجباً كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم، لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه.
قوله (أخرجاه) أي البخاري ومسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(9/13)
ولهما عن سهلِ بن سعدٍ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال يومَ خَيبرَ: لأُعطِينّ الرايةَ غداً رجلاً يُحِبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسولهُ يَفتحُ الله على يديهِ. فباتَ الناسُ يدُوكون لَيلَتَهم أيهم يعطاها, فلما أصبحوا غَدَوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلّهم يَرجو أن يُعطاها, فقال: أين عليّ؟ فقِيل: يَشتَكي عينيهِ, فأرسلوا إليه فأتى به فبصَقَ في عَينيهِ ودَعا لهُ فبَرأَ كأنْ لم يكن بهِ وجَعٌ, فأعطاهُ الراية , قال: انفُذ على رِسْلكَ حتّى تنزِلَ بساحتِهم, ثمّ ادعُهم إلى الإسلام, وأخبِرْهم بما يَجبُ عليهم, من حق الله تعالى فيه فوالله، لأن يَهدِيَ الله بكَ رجُلاً واحداً خَيرٌ لكَ من حُمْرُ النّعَم».(1) يدُكون: أي يخوضون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (عن سهل بن سعد) أي ابن مالك بن خالد الأنصارى الخزرجى الساعدى، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضاً، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: (قال يوم خيبر) وفى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: "كان علي - رضي الله عنه - قد تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فى خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله - عز وجل - فى صباحها قال - صلى الله عليه وسلم -: لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غداً رجل يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية ففتح الله عليه".
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر حديث (4210) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب حديث (2406).(9/14)
(ق): قوله: "لأعطين"، هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لأعطين.
قوله: "الراية"، العلم، وسمي راية، لأنه يُرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه. واللواء، قيل: إنه الراية، وقيل ما لوي أعلاه، أو لوي كله، فيكون الفرق بينهما، أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علماً.
(ف): قال الحافظ: في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس "كانت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوداء، ولواؤه أبيض" ومثله عند الطبراني عن بريدة(1). وعند ابن عدي عن أبى هريرة وزاد مكتوب فيه: لا إله إلا الله a رسول الله (2).
(ق): قوله: "غداً"، يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله. والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى: { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } [الحشر: 18]، أي: يوم القيامة. وكذلك بالأمس قد يراد به ما وراء ذلك، أي: ما وراء اليوم الذي يليه يومك.
قوله: "يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يحب ويحب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا: المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب، فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب، فقد يبغض الله إنساناً في وقت ويحبه في وقت لسبب من الأسباب.
__________
(1) الطبراني (1161). (حسن).
(2) ابن عدي في الكامل (2/658). (ضعيف).(9/15)
(ف): قوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصاً بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي، يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه، كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، ولكن هذا باطل، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً.
قوله: (يفتح الله على يديه) صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة.
(ق): قوله: "على يديه"، أي يفتح خيبر على يديه.
(تم): قوله: "بات" البيتوتة: هي المكث في الليل، سواء أكان نوم، أم لم يكن ومعنى قوله: (يدوكون ليلتهم) أي: يخوضون في تلك الليلة، و(باتوا) يعني: ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم لعِظم هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام.
(ق): وجملة يدوكون خبر بات.
(ف): وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان.
قوله: (أيهم) هو برفع أي على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها.
قوله: (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها) وفى رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ".(9/16)
قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعين بشهادة، أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس وعبد الله بن سلام وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر.
(ق): قوله: "غدوا على رسول الله "، أي: ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها لينال محبة الله ورسوله. قوله "فقال: أين علي؟". القائل: الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): فيه سؤال الإمام عن رعيته، وتفقد أحوالهم.
قوله: (فقيل هو يشتكي عينيه) أي من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال: ادعوا لي علياً فأتي به أرمد الحديث، وفى نسخة صحيحة بخط المصنف: فقيل هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسم فاعله.
(ق): وقوله: "فأرسلوا إليه": بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "فأتى به"، كأنه - رضي الله عنه - قد عمم على عينيه، لأن قوله: "أتي به"، أي: يقاد.
(ف): ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد.
قوله: (فبصق) بفتح الصاد، أي تفل.
وقوله: (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر.
وعند الطبراني من حديث علي (فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي الراية)(1) وفيه دليل على الشهادتين.
__________
(1) حسن : أحمد(1/78)، الطيالسي(189)، وبنحوه الطبراني في الأوسط (9/122-مجمع).(9/17)
(ق): هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله: لتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - له ذلك من بين سائر الصحابة.
(ف): قوله (فأعطاه الراية) قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى.
وفيه أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل.
(ق): قوله: "انفذ على رسلك"، أي: مهلك، مأخوذ من رسل الناقة، أي: حليبها يحلب شيئاً فشيئاً، والمعنى: امش هويناً هويناً، لأن المقام خطير، لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر.
(ف): وفيه: الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش، والأصوات التي لا حاجة إليها.
(ق): قوله: "حتى تنزل بساحتهم"، أي: ما يقرب منهم وما حولهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"(1).
وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم، فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل.
قوله: "ثم ادعهم"، أي: أهل خيبر، "إلى الإسلام"، أي: الاستسلام لله.
قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم"، أي: فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه حتى يقتنعوا به ويلتزموا، لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ.
وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها: هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده؟
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء، ومسلم: كتاب الحج/باب فضل المدينة.(9/18)
فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا، فإننا نقول: الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره. وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع، فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا: يخبرون أولاً بما يجب عليهم من حق الله فيه، لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون. ويحتمل أن يقال: تترك هذه المسألة للواقع وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا.
(ف): وفيه: أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة، كما يشير إليه قوله ثم ادعهم إلى الإسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإن شئت قلت الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: '3: 64' " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ".
قال شيخ الإسلام رحمه الله : والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة.
وقال رحمه الله تعالى: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله: هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب. والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً. ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، وفى الأصل: هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى.(9/19)
فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله: '71: 3' "أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون".
وفيه: مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بنى المصطلق وهم غارون(1) وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم.
قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه" أي في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لابد لهم من فعلها: كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبى هريرة: "فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "(2) ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: " كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله . فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم على منعها "(3).
وفيه: بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدون يفعلون.
(ق): قوله: "لأن يهدي الله "، اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، "وخير": خبر، ونظيرها قوله تعالى: { وإن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184].
قوله: "حمر النعم" بتسكين الميم: جمع أحمر، وبالضم: جمع حمار، والمراد بالأول. وحمر النعم: هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.
__________
(1) الغار: الغافل
(2) مسلم :حديث(21).
(3) البخاري، حديث (1339، 1457، 6924، 7284)، ومسلم (20).(9/20)
وقوله: "لأن يهدي الله بك"، ولم يقل: لأن تهدي، لأن الذي يهدي هو الله . والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة.
(ف): قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها.
وفيه: فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف.
(ق): وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية؟
نقول: هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول: إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل في مسألة فرعية من مسائل الدين لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام، لأن علياً موجه إلى قوم كفار يدعوهم الإسلام، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه - صلى الله عليه وسلم -.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: وهي من أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: (أن يوحدوا الله )، معنى شهادة: أن لا إله إلا الله .
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.(9/21)
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: (لأعطين الراية) إلخ. علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً.
الحادية والعشرون: فضيلة علي - رضي الله عنه -.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: (على رسلك).
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: (أخبرهم بما يجب عليهم).
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتؤخذ من قوله تعال: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } . والأشمل من ذلك والأبلغ في مطابقة الآية أن يقال: إن الدعوة إلى الله طريق الرسل وأتباعهم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، وتؤخذ من قوله: "أدعو إلى الله "، ولهذا قال: "لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه"، فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله ، والذي يدعو إلى نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقاً كان أم باطلاً.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض، وتؤخذ من قوله تعالى: { أدعو إلى الله على بصيرة } ، ووجه كون البصيرة من الفرائض، لأنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة. فيكون العلم بذلك فريضة.(9/22)
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهاً لله عن المسبة، وتؤخذ من قوله تعالى: { سبحان الله وما أنا من المشركين } ، فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله. ومعنى عن المسبة، أي: وعن مماثلة الخالق للمخلوق، إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله، وتؤخذ من قوله تعالى: { وما أنا من المشركين } بعد قوله: { وسبحان الله } .
السادسة - وهي من أهمها -: إبعاد المسلم عن المشركين، لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك. لقوله تعالى: { وما أنا من المشركين } ، ولم يقل: "وما أنا مشرك"، لأنه إذا كان بينهم، ولو لم يكن مشركاً، فهو في ظاهره منهم، ولهذا لما قال الله للملائكة: { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } [البقرة: 34]، توجه الخطاب له ولهم.
السابعة: كون التوحيد أول واجب، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله "، وفي رواية: "أن يوحدوا الله ". وقال بعض العلماء، أول واجب النظر، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد، لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".
التاسعة: أن معنى أو يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في رواية بقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله "، وفي رواية عبر بقوله: "أن يوحدوا الله ".
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها، ومراده بقوله: "لا يعرفها، أو يعرفها" شهادة أن لا إله إلا الله ، وتؤخذ من قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله "، إذ لو كانوا يعرفون لا إله إلا الله ويعملون بها ما احتاجوا إلى الدعوة إليها.(9/23)
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "ادعهم إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم..." إلخ الحديث.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. تؤخذ من أمره - صلى الله عليه وسلم - معاذاً بالتوحيد ليدعو إليه أولاً، ثم الصلاة، ثم الزكاة.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. تؤخذ من قوله: "فترد على فقرائهم".
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. المراد بالشبهة هنا: شبهة العلم، أي: يكون عنده جهل. تؤخذ من قوله: "إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء، وأن مصرفها الفقراء.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. تؤخذ من قوله: "فإياك وكرائم أموالهم"، إذ إياك تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. تؤخذ من قوله: "واتق دعوة المظلوم".
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. تؤخذ من قوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام، مما يحث النفس إن كان ترغيباً، ويبعدها ويزجرها إن كان ترهيباً، لقوله: "اتق دعوة المظلوم"، فالنفس قد لا تتقي، لكن إذا قيل: ليس بينها وبين الله حجاب، خافت ونفرت من ذلك.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جري على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خيبر، إذ وقع فيها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جوع عظيم، حتى إنهم أكلوا الحمير والثوم، وأما الوباء، فهو ما وقع في عهد علي - رضي الله عنه -، وأما المشقة، فظاهرة. ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد: أن الصبر والتحمل في مثل هذه الأمور يدل على إخلاص الإنسان في توحيده وأن قصده الله ، ولذلك صبر على البلاء.(9/24)
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية" علم من أعلام النبوة. لأن هذا حصل، فعلي بن أبي طالب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. لأن بصق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع.
الحادية والعشرون: فضيلة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وهذا ظاهر، لأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. لأن الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها ولم يعطوها، وعلى بن أبي طالب مريض ولم يسع لها، ومع ذلك أعطي الراية.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسله". ووجهه: أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع.
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. لقوله: "انزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام".
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم". لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولاً، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله ، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام، لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به وقد لا يطبقه، بل لابد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر.
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. تؤخذ من قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. لقوله: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، أي: خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم، خير لك من أن تتصدق بنعم حمر.(9/25)
الثلاثون: الحلف على الفتيا. لقوله: "فوالله لأن يهدي الله ...." إلخ، فأقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لم يستقسم، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به والتوكيد عليه. ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة، لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده. والإمام أحمد رحمه الله أحياناً يقول في إجابته: إي والله، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن:
في قوله تعالى: { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } [يونس: 53].
وفي قوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } . [التغابن: 7].
وفي قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بل وربي لتأتينكم } [سبأ: 3].
فإذا كان في القسم مصلحة ابتداءاً، أو جواباً لسؤال، جاز وربما يكون مطلوباً.(9/26)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إِلهَ إلاّ الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): التفسير معناه: الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم: فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان: فسرت ثوبي، فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم. والتوحيد تقدم تعريفه، والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته.
وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله "، معطوف على التوحيد، أي: وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله . والعطف هنا من باب عطف المترادفين، لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله . وهذا الباب مهم، لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه). فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد.
(ف): قلت: هذا من عطف الدال على المدلول.
فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى لا إله إلا الله وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى '17: 23' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة؟
قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة. وفيها: الحجة على من تعلق من الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم. لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى: '17: 56' "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهى، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله، ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده.وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له.(10/1)
وفي هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة.ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائناً من كان، لأن دعوته تكون داعيه أحوج ما كان إليها، لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله .
(تم): ولهذا قال العلماء: إن العطف في قوله (التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله ) من عطف المترادفات، ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود، أعني: الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود، فيكون إذا باب تفسير التوحيد، يعني: الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد، وقد تقدم: إن التوحيد هو اعتقاد أن الله -جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له واحد في إلاهيته لا نِدَّ له، واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له - سبحانه وتعالى -، قال جل وعلا: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى: من الآية11)
وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا، فالتوحيد إذاً هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.
قوله: (وشهادة أن لا إله إلا الله ) يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ، فهذه الشهادة هي أعظم كلمة قالها مكلف، ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبَّدَ المتعبدون إلا بتحقيقها ولامتثالها، والشهادة تارة تكون شهادة حضور وبصر، وتارة تكون شهادة عن علم بمعنى أنه، إما أن يشهد على شيء حضره ورآه أو يشهد على شيء علمه، فهذان معنيان للشهادة.(10/2)
فإذا قال قائل: أشهد فيحتمل أنها بمعنى: المشاهدة والرؤيا، ويحتمل أنها بمعنى العلم ومعنى الشهادة في قولنا: أشهد أن لا إِلهَ إلاّ الله شهادة علمية، ولهذا تضمَّن قوله: أشهد، العلم.والشهادة في اللغة والشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ شهد كقوله: { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران: 18) وكقوله { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (الزخرف: من الآية86) تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به، والاعتقاد بما شهده، فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم: أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة، عن علم، ويقين، لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلا إذا كان ثم علم ويقين.
الثاني: التكلم بها فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقادا، فإنها تقتضي أيضاً إعلاما ونطقاً.
والثالث: الإخبار بذلك، والإعلام به فينطقه بلسانه وهذا من جهة الواجب، وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يخبر غيره بما شهد، هذا من جهة الشهادة، فيكون: أشهد أن لا إله إلا الله : أعتقد وأتكلم وأعلم، وأخبر بأن لا إله إلا الله .
فافترقت بذلك عن حال الاعتقاد، وافترقت عن حال القول، كما افترقت أيضاً عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد لتحققها من حصول الثلاثة مجتمعة؛ ولهذا نقول في الإيمان: إنه اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
فـ(لا إله إلا الله ) هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ:
1.(لا).
2.(إله).
3.(إلا).
4.لفظ الجلالة ( الله ).(10/3)
أما لا هنا فهي النافية للجنس تنفى جنس الألوهية الحقة عن أحد إلا الله -جل وعلا- يعني في هذا السياق وإذا أتى بعد النفي "إلا" وهي أداة الاستثناء صارت أفادت معنى زائدا وهو الحصر والقصر، فيكون المعنى الإلهية الحقة أو الإله الحق هو الله ، بالحصر والقصر ليس ثم إله حق إلا هو دون من سواه.
وكلمة (إله) على وزن فِعَال وتأتى أحيانا بمعنى فاعل، وتأتى أحيانا بمعنى مفعول، وهي لغة مشتقة من آله بمعنى عبد، وقال بعض اللغويين: أنها من أله يأله إذا تحير، فـ(أله) فلان يأله أو تأله إذا تحير، وسمي الإله عندهم إلها؛ لأن الألباب تحيرت في كنه وصفه، وكنه حقيقته.
وهذا القول ليس بجيد، بل الصواب أن كلمة إله فعال بمعنى مفعول وهو المعبود ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف: { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك } .
كان ابن عباس يقرأها هكذا "ويذرك وإلهتك" قال: لأن فرعون كان يُعْبَد ولم يكن يَعْبُد، فصوب القراءة بـ { وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ } (الأعراف: من الآية127) يعني وعبادتك، وقراءتنا وهي قراءة السبعة { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ (الأعراف: من الآية127) يعني المتقدمين، فهذا معناه أن ابن عباس فهم من الإلهة معنى العبادة، وقد قال الراجز:
لله درُّ الغانيات المدَّهڑسبحن واسترجعن من تأله
يعني: من عبادتي، فيكون إذن الإله هو المعبود، فمعنى لا إله (لا معبود إلا الله فـ(لا) في قوله (لا معبود) هي: النافية للجنس وهي -كما تعلمون- تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل "إن" كما قال ابن مالك في الألفية
عمل (إن) اجعل لـ (لا) في نكرة………
فإن قيل فأين خبر لا النافية للجنس؟
فالجواب أن كثير من المنتسبين للعلم قدروا الخبر بـ(لا إله موجود إلا الله ).(10/4)
ووجه هذا التقدير، وسببه: يحتاج إلى مقدمة قبله، وهي أن المتكلمين والأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا: إن كلمة إله هي بمعنى فاعل؛ لأن فعال تأتي بمعنى مفعول أو فاعل.
فقالوا: هي بمعنى أله، والإله هو القادر ففسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، وهذا تجده في مسطوراً في عقائد الأشاعرة كما في شرح العقيدة السنوسية التي تسمى عندهم بـ "أم البراهين" إذ قال فيها ما نصه: " الإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، قال: فمعنى لا إله إلا الله : لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله ، ففسروا الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه.(10/5)
ولذلك يقدرون الخبر موجود، فـ(لا إله) خبرها موجود، يعني: لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله ، ولا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجود إلا الله ؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم، وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك على المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله بالربوبية؛ فإذا اعتقد المرء أن القادر على الاختراع هو الله وحده صار موحدا، إذا اعتقد أن المستغني عما سواه، والمفتقر إليه كل ما عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا، وهذا من أبطل الباطل. لأن مشركي قريش كانوا على إقرار بالربوبية كما دل القرآن على ذلك كقوله تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله } (العنكبوت: 61) وفي آية أخرى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } (الزخرف: 9) ونحو ذلك من الآيات وهي كثيرة كقوله { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ - فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلال } (يونس31-32) الآيات من سورة يونس.(10/6)
فعلم بذلك أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية، فصارت هذه الكلمة إذا ًدالة على غير ما أراد أولئك المتكلمون، وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى (لا إله): هو (لا معبود)، وأن تقدير الخبر: (موجود) فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله ، وهذا باطل؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة وقد قال جل وعلا: مخبرا عن قول الكفار { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً } (صّ: من الآية5) فدل ذلك أن المعبودات كثيرة والمعبودات موجودة.
فتقدير الخبر بـ(موجود) غلط، ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر لا النافية للجنس يكثر حذفُه في لغة العرب، وفي نصوص الكتاب والسنة؛ ذلك أن خبر لا النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك.
وقد قال ابن مالك في آخر باب لا النافية للجنس لما ساق هذه المسألة:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبرڑإذا المراد مع سقوطه ظهر
فإذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر؛ لأن الأنسب أن يكون الكلام مختصرا كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول).
فأين الخبر فيما تقدم؟.
الجواب: إنه في كل ذلك محذوف لكونه معلوماً لدى السامع؛ إذن فخبر (لا إله) هنا معلوم، ولا يصح تقديره: بـ(موجودا)، لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة، فالصحيح تقدير الخبر بقولك بحق، أو حق يعني لا إله بحق، أولا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله .
وإن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة فلا بأس، فلا معبود حق إلا الله ، هذا معنى كلمة التوحيد فيكون كل معبود غير الله -جل وعلا- قد عبد، ولكن هل عبد بالحق أم عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي الجواب عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي، وهذا يفهمه العربي بمجرد سماعه كلمة لا إله إلا الله .(10/7)
ولهذا قال الشيخ a بن عبد الوهاب -رحمه الله -: بئس قومٍ أبو جهل أعلم منهم بـ(لا إله إلا الله )، فأبو جهل كان يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها، ولو كان معناه (لا إله موجود)كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله لقالوها بسهولة، ولم يدروا ما تحتها من المعاني لكنهم كانوا يعلمون أن معناها لا معبود حق إلا الله ، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم، فهل يقرون على أنفسهم بالظلم وبالبغي والعدوان، فحقيقة معنى لا إله إلا الله ، هي ما شرحناه وبيناه وفيها الجمع بين النفي والإثبات، كما سيأتي في بيان آية الزخرف: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (الزخرف: 26-27).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } (الإسراء: من الآية57)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): وقد ذكر المؤلف خمس آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: { أولئك } .
"أولاء": مبتدأ.
{ الذين } : اسم موصول بدل منه. { الذين } : صلة الموصول.
وجملة { يبتغون } : خبر المبتدأ، أي: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون؟! فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي وهو داع، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين، وأما الشجر والحجر، فلا يدخل في الآية.(10/8)
فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبيناً حال هؤلاء المدعوين: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 13، 14].
قوله: { يدعون } ، أي: دعاء مسألة، كمن يدعو علياً عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به…… سواك عند حلول الحادث العمم
وقد يكون دعاء عبادة، كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود.
قوله: { يبتغون } : يطلبون.
قوله: { الوسيلة } ، أي: الشيء الذي يوصلهم إلى الله ، يعني: يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله - - سبحانه وتعالى - - أيهم اقرب إلى الله ، وكذلك أيضاً يرجون رحمته ويخافون عذابه.
(تم): وفي مسائل نافع بن الأزرق المعروفة لابن عباس -رضي الله عنهما- إنه سئله عن قوله تعالى في سورة المائدة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } (المائدة: من الآية35) ما معنى الوسيلة؟ فقال: الوسيلة الحاجة، فقال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، ألم تسمع قول الشاعر، وهو عنترة يخاطب امرأة:
إن الرجال لهم إليك وسيلةڑأن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فقول عنترة: (لهم إليك وسيلة) يعني: لهم إليك حاجة.(10/9)
ووجه الاستدلال من آية المائدة أنه قال: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } فقدم الجار والمجرور على لفظ الوسيلة، وتقديم الجار والمجرور، وحقه التأخير يفيد الحصر والقصر، وعند عدد من علماء المعاني يفيد الاختصاص، وسواء أكان هذا أم ذاك، فوجه الاستدلال ظاهر في أن قوله تعالى في آية الإسراء { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } (الإسراء: من الآية57) معناه أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله ، وقد اختص الله -جل وعلا- بذلك، فلا يتوجهون إلى غيره.
وقد حصروا وقصروا التوجه لله -جل وعلا- وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية قوله تعالى { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة? } ولم يقل يبتغون إلى الله الوسيلة؛ لأن إجابة الدعاء والإثابة هي من مفردات الربوبية؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعائهم، وأن يعطيهم سؤلهم؛ فظهر من قوله?? { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة? } أن فيها تفسير التوحيد، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنزلها بالله -جل وعلا- وكذلك قوله "يدعون" فيه تفسير التوحيد أيضاً لأن معنى { يَدْعُون } يعبدون.
فهم إنما يطلبون حاجاتهم من الله -جل وعلا-، فلا يعبدون غير الله ، بنوع من العبادات ولا يتوجهون بها لغير الله ، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا صلوا فإنما يصلون يبتغون إلى ربهم القربة، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه رفيع الدرجات دونما سواه، إلى آخر مفردات توحيد العبادة.(10/10)
فهذه الآية دالة بظهور على أن قوله: { يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة } (الاسراء: من الآية57)أنه هو التوحيد، وقد استشكل بعض أهل العلم إيراد هذه الآية في هذا الباب وقال: ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب، وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جلية وقوله جل وعلا: { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } (الإسراء: من الآية57) فيه بيان لحال خاصة عباد الله الذين جمعوا بين العبادة والخوف والرجاء فيرجون رحمته ويخافون عذابه، وهم إنما توجهوا إليه وحده دون ما سواه فأنزلوا الخوف والمحبة والدعاء والرغب والرجاء في الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، وهذا هو تفسير التوحيد.
(ف): قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب، وهو ابتغاء التقرب إليه. والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف. وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - " والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك. فبالذي بعثك بالحق، ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله ، وأن تصلى الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة"(1) وأخرج a بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق. من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(2) وهذا معنى قوله تعالى: '31: 22' "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور".
__________
(1) حسن: أحمد(5/3).
(2) صحيح: المروزي في (تعظيم قدر الصلاة)(405). والحاكم في المستدرك(1/21).(10/11)
وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا " وفى رواية: "كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم".
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في هذه الآية، لما ذكر أقوال المفسرين: وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابداً لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفاً، فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً، وذلك المدعو يبتغي الى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله أ.هـ.
وفى هذه الآية رد على من يدعو صالحاً ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، الشرك عبادة الأصنام.
(ق): وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله :(10/12)
أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرؤا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى، فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم، فكيف يغنون غيرهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (الزخرف: 27)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية والثالثة: قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه… } الآيتين.
قوله: { براء } : على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي، أي: إنني متخل غاية التخلي عما تعبدون إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله ، فقال ذلك معلناً به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر.
قوله: { تعبدون } : العبادة هنا التذلل والخضوع، لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب.
قوله: { إلا الذي فطرني } : جمع بين النفي والإثبات، فالنفي: { براء مما تعبدون } ، والإثبات: { إلا الذي فطرني } ، فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده، { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } ]البقرة: 256]، وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره، لأنه قال: { إلا الذي فطرني } ، والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم.
(تم): قال: بعض أهل العلم تبرأ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين لأنه إذا تبرأ من أولئك فقد بلغ به الحنق والكراهة والبغضاء، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم.(10/13)
وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم. إذن فمناسبة هذه الآية للباب أن قوله: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (الزخرف: 26-27) اشتملت على نفي وإثبات فهي مساوية لكلمة التوحيد بل هي التوحيد ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال-جل وعلا- بعدها: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } (الزخرف: من الآية28)فما هذه الكلمة؟ هي قول لا إله إلا الله كما عليه تفاسير السلف.
فقوله جل وعلا: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } (الزخرف: من الآية26) فيه النفي الذي نعلمه من قوله "لا إله" وقوله "إلا الذي فطرني" فيه الاثبات الذي نفهمه من قولنا "إلا الله " فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله هو في هذه الآية لأن: "لا إله" معناها أنني براء مما تعبدون و"إلا الله " معناها إلا الذي فطرني.
ففي آية سورة الزخرف هذه أن إبراهيم -- عليه السلام -- شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله: إنني براء مما تعبدون، والبراءة هي الكفر والبغضاء، والمعاداة والتبرأ من عبادة غير الله ، فهذه البراءة لا بد منها، لا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه البراءة في قلبه؛ لأنه إن لم تقم هذه البراءة في قلبه، فلا يكون موحدا، والبراءة هي أن يكون مبغضا لعبادة غير الله ، كافرا بعبادة غير الله ، معاديا لعبادة غير الله .
كما قال في الآية هنا: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } أما البراءة من العابدين فإنها من لوازم التوحيد، وليست من أصل كلمة التوحيد، بمعنى أنه قد يعادي، وقد لا يعادي، وهذه لها مقامات منها ما هو مُكَفِّر، ومنها ما هو نوع موالاة، ولا يصل بصاحبه إلى الكفر.(10/14)
فتَحَصَّل لك إذاً أن البراءة التي هي مضمَّنَة في النفي في قول"لا إله" تقتضي بغض لعبادة غير الله ، وكفر بعبادة غير الله ، وعداوة لعبادة غير الله . وهذا القدر لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك.
(ق): وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلى ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون، فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية، لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم، لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس -والعياذ بالله - عالم دولة لا عالم ملة. وفي قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: { إلا الذي فطرني } ، ولم يقل إلا الله لفائدتان:
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه منفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة.
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم - عليه السلام -. يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
"قسم يعبد الله وحده.
"وقسم يعبد غيره فقط.
"وقسم يعبد الله وغيره.
"والأول فقط هو الموحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة: 31)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الرابعة: قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ... } الآية.(10/15)
قوله: { أحبارهم } : والمعطوف عليها المفعول الأول لـ { اتخذوا } ، والثاني: "أرباباً" أي: هؤلاء اليهود والنصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أرباباً. والأحبار: جمع حبر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضاً بحر لكثرة علمه. والحبر، بفتح الحاء، وكسرها يقال: حبر، وحبر. قوله تعالى: { ورهبانهم } ، أي: عبادهم.
وقوله: { أرباباً } : جمع رب، أي يجعلونهم أرباباً من دون الله ، فيجعلون الأحبار أرباباً لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخافة أمر الله ، فيطيعونهم في معصية الله . وجعلوا الرهبان أرباباً باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله .
قوله: { من دون الله } ، أي: من غير الله .
(تم): والربوبية هنا هي العبادة، يعني اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين من دون الله يعني مع الله ، وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، والطاعة من التوحيد، وفرد من أفراد العبادة، فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم، فإنه يكون قد عبد ذلك الغير فهذه الآية فيها ذكر أحد أفراد التوحيد، وأحد أفراد العبادة وهو الطاعة.
(ف): قال شيخ الإسلام في معنى قوله "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركاً مثل هؤلاء.(10/16)
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما الطاعة في المعروف"(1).
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول. فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول. فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجز عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى: '3: 199 ' "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم" وقوله: '5: 83 ' "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " الآية وقوله '7: 159 ' "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ". وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا
__________
(1) البخاري، حديث(4340، 7145، 7257)،مسلم ، حديث(1840)، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.(10/17)
من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً. كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار، وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبداً له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك، وفي الحديث: "إن يسير الرياء شرك"(1) وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب. انتهى.
(ق): قوله: { والمسيح ابن مريم } : معطوف على أحبارهم، أي: اتخذوا المسيح ابن مريم أيضاً رباً حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: { إلا ليعبدون } ، أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض.
قوله: { لا إله إلا هو } ، أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: { سبحانه } : تنزيه لله عما يشركون. وجه كون هذه الآية تفسيراً للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله : أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله ، فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا. إذاً، فتفسير التوحيد أيضاً بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لطاعة ولاة الأمر، قال: "إنما الطاعة في المعروف"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) صحيح بطرقه وشواهده: ابن ماجه(3989)، الحاكم (1/4)(4/328) من حديث معاذ - رضي الله عنه -.
(2) البخاري: كتاب الأحكام/ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم: كتاب الإمام/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.(10/18)
وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ } (البقرة: 165)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الخامسة: قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ... } الآية.
قوله: { من الناس } : من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و { من يتخذ } مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أنداداً، ومفعولها الأول "أنداداً" مؤخراً، ومفعولها الثاني "من دون الله " مقدماً.
وقوله: { يتخذ } : جاءت بالإفراد مراعاة للفظ "من".
وقوله: { يحبونهم } : بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: { أنداداً } : جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"(1).
وقوله: { يحبونهم كحب الله } : هذا وجه المشابهة، أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله .
واختلف المفسرون في قوله: { كحب الله } :
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله ، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله ، فيكون المصدر مضافاً إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله.
__________
(1) صحيح أخرجه النسائي في الكبرى (6/245)، حدي (1825)وفي عمل اليوم والليلة (988)وأحمد في مسنده (1/214)حديث (1839)والخطيب في التاريخ (8/104) من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) وصححه الألباني في الصحيحة (157).(10/19)
(تم): أي أنهم سووا تلك الآلهة بالله تعالى في المحبة، فهم يحبون الله حبا عظيما، ولكنهم يحبون تلك الآلهة أيضا حبا عظيما، وهذا التسوية هي الشرك، وهي التي جعلتهم من أهل النار كما قال جل وعلا في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء: 97-98) ومعلوم أنهم ما سووا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق والرزق ومفردات الربوبية، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة.
فيكون معنى قوله جل وعلا: { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله } (البقرة: من الآية165): أنهم يحبونهم محبة مثل محبتهم لله.
(ق): وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
(تم): فـ(الكاف) هنا بمعنى: (مثل)، كقوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة: من الآية74)، فـ(الكاف) هنا اسم بمعنى: مثل، لانه عطف عليها اسماً آخر وهو قوله { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } .
(ف): هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة لأن حب الله لا يكون إلا عن معرفة بالله بأسمائه وصفاته ومن أحب الله - عز وجل - حقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه نداً. وليس معنى { كحب الله } أي كحبهم لله ولكن معناها والله أعلم: يحبونهم حباً من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الحب والتعظيم فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حباً لله. والمشركون يجردونه لأوليائه أو يشركونهم مع الله ولا يرجون لله وقاراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة: لزم أن يكون محباً له ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى.(10/20)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، أي مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب: أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمى عشقاً - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله ، ولا يحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح (ثلاث من كن فيه...)(1) الحديث.
__________
(1) البخاري، حديث(16)، مسلم ، حديث(43).من حديث أنس - رضي الله عنه -.(10/21)
ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي من محبة الله ، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة. كما لا مثل لمن تعلقت به، وهى محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد. وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهراً وباطناً. وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركاً شركاً لا يغفره الله . كما قال تعالى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله" والصحيح: أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلاً، كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته. وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين محبته. ومن ضرب لمحبته الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر والتجنى بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً. فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت. انتهى.
(ق): وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.(10/22)
وقوله: { والذين آمنوا أشد حباً لله } . على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر. فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله ؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله ، ولهذا لو قيل له: أحلف بالله، حلف صادقاً أو كاذباً، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقاً.
وتجد كثيراً منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لحب الله ، ولأنه رسول الله ، ما أحببناه لأنه a بن عبدالله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نحبه بمحبة الله ، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن أحبوا الله .
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضاً أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلى هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.(10/23)
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله ، وأيضاً خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يوماً من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قرباً من الله أو بعداً من الله ؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟.
فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته؟.
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصوراً كثيراً وتقصيراً، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟ هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله .
قال ابن القيم رحمه الله : كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلاً لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله. والمحبة أنواع
الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله ، والبغض في الله . والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصاً أو عملاً، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلي:
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبيڑأقبل ذا الجدار وذا الجدار
ولكن حب من سكن الديارا(10/24)
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله ، فهذه لا تنافي محبة الله ، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها"(1). ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله ، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله ، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله ، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها. الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أنداداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال:
"مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله , وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله , حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ. وَحِسَابُهُ عَلَى الله - عز وجل -"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله في الصحيح: أي صحيح مسلم عن أبى مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -فذكره.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذاً خليلاً)، ومسلم: كتاب الفضائل / باب فضائل أبي بكر.
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله .(10/25)
وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة. وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه. وفى مسند الإمام أحمد عن أبى مالك قال: وسمعته يقول للقوم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله - عز وجل -" ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه. ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبى - الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر: لا إله إلا الله .
(ق): قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله " أي لا معبود حق إلا الله ، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن "لا" تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.
قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله "، أي: بعبادة من يعبد من دون الله ، قلنا ذلك، لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله ، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة، كما قال تعالى: { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم } [المائدة: 116].
(ف): قوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله ) اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين.
الأول: قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم.
والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله ، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها والعمل بها.(10/26)
قلت: وفيه معنى '2: 256' "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".
(ق): وفي قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله " دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله ، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله بل وتكفر أيضاً بكل كفر فمن يقول لا إله إلا الله ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح، فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكاراً يختار منها ما يريد، فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله - - عز وجل - -، يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي، لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.
(ف): قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله ، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع) انتهى.
قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً. قال تعالى: '8: 39' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" وقال: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً.(10/27)
وفى صحيح مسلم عن "أبى هريرة مرفوعاً أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وفى "الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها. أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره.
انتهى ملخصاً.
وقال النووي: لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الرواية ويؤمنوا بي وبما جئت به.(10/28)
وقال شيخ الإسلام، لما سئل عن قتال التتار فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه. كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة. وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام، أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال أو الخمر، أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار. أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام. انتهى.
(تم): في هذا الحديث بيان التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول لا إله إلا الله ، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله فالتوحيد والشهادة أرفع درجة، ويختلفان عن مجرد القول.
وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ) فتكون الواو هنا عاطفة ويكون ما بعدها غير ما قبلها؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، فتضمن قوله (كفر بما يعبد من دون الله ) أمراً زائداً على مجرد القول، فيكون المعنى: أنه قال لا إله إلا الله ومع قوله: (كفر بما يعبد من دون الله ) يعني تبرأ مما يعبد من دون الله ، هذا قول.(10/29)
والقول الثاني: أن الواو هنا وإن كانت عاطفة فليست لتمام المغايرة، وإنما هي من باب عطف التفسير فيكون ما بعدها بعض ما قبلها كقوله جل وعلا: { مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة: 98)، جبريل وميكال بعض الملائكة فعطفهم وخصهم بالذكر، وأظهر اسم جبريل وميكال؛ لبيان أهمية هذين الاسمين وأهمية هذين الملكين؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام بالقدح في جبريل وميكال.
فالمقصود: أن العطف هنا عطف خاصٍ بعد عام، أو عطف تفسير؛ لأن ما بعدها داخل فيما قبلها، وهذا تفسير لقوله: "لا إله إلا الله ".
فيكون إذن لا إله إلا الله ، على هذا القول الثاني متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله ، وهذا سبق ذكره لك في تفسير معنى البراء المذكورة في آية سورة الزخرف وهي قوله تعالى: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (الزخرف: 26-27). إذ قلنا: إن البراءة تتضمن البغض والكفر والمعاداة، والكفر يكون بما يعبد من دون الله ، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد، والوجه الثاني هو الأظهر والأنسب لسياق الشيخ -رحمه الله تعالى- بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة.
(ف): قوله: (وحسابه على الله ) أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه.
قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول لا إله إلا الله ولا يكفر بما يعبدون من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.(10/30)
(ق): قوله: "وشرح هذه الترجمة"، المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا، أي: بوب له.
(ف): قلت: وذلك أن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى لا إله إلا الله وفيه أيضاً: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون لا إله إلا الله فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله وما دلت عليه من الإخلاص ونفى الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافى كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقاً، وبمعرفة وسائل الشرك والنهى عنها لتجتنب تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه. وفيه أيضاً من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبيَّنَها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لادعائهم إياهم.(10/31)
ومنها قول الخليل - عليه السلام - للكفار: { إنني برآء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله . فقال: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } .
ومنها: آية البقرة: في الكفار الذين قال الله فيهم: { وما هم بخارجين من النار } ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله ، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟! فكيف لمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله ؟!.
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله ) وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى (لا إله إلا الله ) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: "فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد". فتفسير التوحيد أنه لا بد فيه من أمرين:
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله - - عز وجل - -.
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده، فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد، لأن التوحيد جعل الشيء واحداً بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات. فإذا قلت: زيد قائم، أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد، أثبت له القيام ووحدته به. وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره، فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت: لا إله إلا الله ، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.(10/32)
قوله: "تفسير الشهادة". الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه فقول: أشهد أن لا إله إلا الله . أي أنطق بلساني معبراً عما يكنه قلبي من اليقين وهو أنه لا إله إلا الله .
قوله: "منها آية الإسراء. وهو قوله تعالى: { أولئك الذين يدعون.... } [الإسراء: 57]، فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر، لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [غافر: 60]، فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحداً غير الله حياً أو ميتاً، فهو مشرك شركاً أكبر.
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا دعاك فأجبه"(1).
الثاني: أن تدعو مخلوقاً مطلقاً، سواء كان حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا شرك أكبر لأنك جعلته نداً لله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً.
الثالث: أن تدعو مخلوقاً ميتاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة، فهذا شرك أكبر أيضاً لأنه لا يدعو من كان هذه حاله حتى يعتقد أن له تصرفاً خفياً في الكون.
قوله: "ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ". وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد الألوهية، لأن الحكم شرعياً كان أو كونياً إلى الله تعالى، فهو من تمام ربوبيته، قال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [الشورى: 10]، وقال تعالى: { له الحكم وإليه ترجعون } [القصص: 70].
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب الأمر بإتباع الجنائز، ومسلم: كتاب السلام/ باب من حق المسلم للمسلم رد السلام.(10/33)
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
قوله: "ومنها: قول الخليل - عليه السلام - للكفار: { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } ، فاستثنى من المعبودين ربه". فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله ، وإخلاص العبادة لله وحدة.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ، فقال: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } ، وهي لا إله إلا الله ، فكان معنى قوله: { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } هو معنى قول: لا إله إلا الله .
قوله: "ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: { وما هم بخارجين من النار } . فجعل الله المحبة شركاً إذا أحب شيئاً سوى الله كمحبته لله، فيكون مشركاً مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلولا أنه رسول ما وجب طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله ، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته، كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك محبة الله , قال المؤلف: "فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟!".
فالأقسام الأربعة:
الأول: أن يحب الله حباً أشد من غيره، فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله ، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حباً من الله ، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم.(10/34)
والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقه وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب، فليس هذا كفرحه بذكر الله ونحوه. حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق.
فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } .
قوله: "ومنها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله ...." إلخ. إذاً، فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [البقرة: 256].
قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله ". أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقاً، فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ، ولا أعبد صنماً، بل لا بد أن يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها.
فمثلاً لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا، كان مقراً بالكفر.
فمن رضي دين النصارى ديناً يدينون الله به، فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام، فقد كذب قوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [آل عمران: 85].
وبهذا يكون كافراً، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحاً ومساءاً، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء، { ودوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9]، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.
} - - - - - {(10/35)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا باب شرع به الشيخ -رحمه الله - في تفصيل ما سبق فقال: وهو بيان التوحيد ببيان ضده، ومن المعلوم أن الشيء يعرف ويتميز بشيئين بحقيقته، وبمعرفة ضده، والتوحيد يتميز بمعرفته في نفسه أي: بمعرفة معناه، وإفراده وبمعرفة ضده أيضا.
وقد قال الشاعر:
………… ... وبضدها تتميز الأشياء
وهذا صحيح فإن التوحيد يعرف حسنه بمعرفة قبح الشرك، وقد بدأ الإمام -رحمه الله - في ذكر ما هو مضاد للتوحيد، وما يضاد التوحيد، منه ما يضاد أصله، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلف فإنه ينقض توحيده، ويكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة، فمثل هذا يقال فيه: أنه قد أتى بما ينافي التوحيد، أو ينافي أصل التوحيد.
والثاني: ما ينافي كمال التوحيد الواجب، وهو ما كان حاصلاً من جهة الشرك الأصغر فإنه ينافي كماله الواجب، فإذا أتي بشيء منه فقد نافى بذلك كمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعا، وكذلك الرياء، فإنه من أفراد الشرك الأصغر أعني يسير الرياء، وهذا ينافي كمال التوحيد.
ومنها أشياء يقول العلماء عنها: إنها نوع شرك فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات بأنها نوع شرك، أو نوع تشريك، فصارت ألفاظهم عندنا في هذا الباب أربعة:
الأول: الشرك الأكبر.
الثاني: الشرك الأصغر.
الثالث: الشرك الخفي.
الرابع: قولهم: في بعض المسائل: فيها نوع شرك أو نوع تشريك.
وذلك مثل ما سيأتي في قوله جل وعلا: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } (النحل: من الآية83)وفي نحو قوله { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } (الأعراف: 191) وهذا يدخل في باب الطاعة كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله .(11/1)
ابتدأ الشيخ -رحمه الله - في هذا الباب: بتفصيل وبيان صور من الشرك الأصغر التي يكثر وقوعها، وقدم الأصغر على الأكبر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى فإنها أقوى لأن شبهة المتعلق بالخيط، وبالتمائم، أضعف من شبهة المتعلق بالأولياء والصالحين، فإذا علم المتعلق بالخيط، والتمائم ونحوها خطأه وبطلان تعلقه سهل بعد ذلك إقناعه ببطلان التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين وبأنه أقبح من الأول، كما هو الحال في الشرك الأكبر، أما إذا جاء إلى من هو متلبس بالشرك الأكبر كالذي يتعلق بالأولياء ويدعوهم، ويسألهم، ويذبح لهم فلا يحسن فيمن هذه حاله أن يُنتقل في إقناعه ببطلان ما هو عليه من الأعلى إلى الأدنى لقوة الشبهة عنده تجاه من أشرك بهم، وهي بزعمه أن أولئك لهم مقامات عند الله -جل وعلا- فهذه حقيقة حال الذين يتوجهون إلى أولئك، المدعوين ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة، والعياذ بالله، فإنهم يقولون: إنما أردنا الوسيلة، وهؤلاء الذين ندعوهم لهم مقامات عند الله ، وإنما أردنا الوسيلة، فحال هؤلاء كحال المشركين الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله -جل وعلا- فيهم: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى } (الزمر: من الآية3) والمقصود أن الشيخ -رحمه الله - بدأ أولاً بتفصيل الشرك الأصغر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى، حتى يكون ذلك أقوى في الحجة، وأمكن في النفوس من جهة ضرورة التعلق بالله، وإبطال التعلق بغيره.(11/2)
قال -رحمه الله -: باب من الشرك "من" هنا تبعيضية، يعني: أن هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك لكن. هل هي بعض أفراده أو بعض أنواعه؟ الجواب: أنها شاملة للأمرين، لأن ما ذكر وهو لبس الحلقة أو الخيط هو أحد أنواع الشرك، وهو الشرك الأصغر، وهو أيضاً أحد أفراد الشرك بعمومه، لأنها صورة من صور الإشراك.
(ق): ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك، لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً، فقد جعل نفسه شريكاً مع الله . فمثلاً: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء. وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري، لأنه يعلم بالتجارب والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله ، كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سبباً، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالثة: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سبباً شرعياً أو كونياً.(11/3)
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً، وآمنوا بحكمته، حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة. ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله ، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره. وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه، فهو مشرك شركاً أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسب سبباً فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً. وطريق العلم بأن الشيء سبب، إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل { فيه شفاء للناس } [النحل: 69]، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [الإسراء: 82]. وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم أو المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهراً مباشراً كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلاً، فهذا سبب ظاهر بين، وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أن جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشراً، كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لأن للانفعال النفسي للشيء أثراً بيناً، فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناءً على اعتقادهم نفعها. وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقاً شرعياً لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقاً للتشريع.(11/4)
(تم): قوله: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، المقصود بقوله(ونحوهما) ما يكون نحو الحلقة والخيط مثل الخرز والتمائم والحديد، ونحو ذلك مما قد يلبس.ومثله أيضاً ما يعلق في البيوت، أو في السيارات، أو يعلق على الصغار، ونحو ذلك مما فيه لبس أو تعليق، فكل ذلك يدخل في هذا الباب، وإنه من الشرك.
والحلقة: إما أن تكون من صفر يعني من نحاس، وإما أن تكون من حديد، أو تكون من أي معدن، والخيط معروف، والمراد عقدهُ في اليد على وجه الاعتقاد، وليس المراد خيطا بعينه.
(ق): قوله: "لرفع البلاء، أو دفعه"، الفرق بينهما: أن الرفع بعد نزول البلاء، والدفع قبل نزول البلاء. وشيخ الإسلام a بن عبد الوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
(تم): وكان للعرب اعتقاد في الحلقة والخيط ونحوهما كالتمائم وغيرها إذ كانوا يعتقدون أن من تعلق شيئاً من ذلك أثر فيه ونفع، إما من جهة دفع البلاء قبل وقوعه، وإما من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه.
ولهذا قال الشيخ -رحمه الله - لرفع البلاء أو دفعه؛ لأن الحالتين موجودتان فمنهم من يعلق الحلق والخيوط ونحوهما قبل وقوع البلاء لدفعه، ولا شك أن هذا أعظم إثما وذنباً من الذي يعلق هذه الأشياء لرفع البلاء بعد حصوله لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة الوضيعة تدفع قدر الله جل وعلا.
فالصنف الأول هم من ذكرنا والصنف الثاني: هم الذين يلبسون تلك الأشياء ويعلقونها لرفع البلاء بعد حصوله كمن مرض فلبس خيطا ليرفع ذلك المرض، أو أصابته عين فلبس الخيط؛ ليرفع تلك العين، وهكذا في أصناف شتى من أحوال الناس في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/5)
وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (الزمر: 38)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): وقول الله تعالى: "أفرأيتم"، أي: أخبروني، وهذا تفسير باللازم، لأن من رأى أخبر، وإلا، فهي استفهام عن رؤية، قال تعالى: { أرأيت الذي يكذب بالدين } [الماعون: 1]، أي: أخبرني ما حال من كذب بالدين؟ وهي تنصب مفعولين، الأول مفرد، والثاني جملة استفهامية.
(تم): قال بعض أهل العلم: إن الفاء إذا جاءت بعد همزة الاستفهام، فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق.
وهذه الآية أولها: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } (الزمر: من الآية38) يعني: قل: أتقرون بأن الذي خلق السموات والأرض هو الله وحده ومع ذلك تدعون غيره، وتتوجهون لغيره؟! أتقرون بذلك فتفعلون هذه الأشياء؟.
أو يكون التقدير: أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض وحده؟؟ إذا أقررتم بهذا أفرأيتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله هل هي قادرة على دفع المضار عنكم؟ أو هل تجلب لكم رحمة من دون الله ؟؟!!.
فعلى هذا تكون الفاء هنا ترتيبية رتبت ما بعدها على ما قبلها، وهذا هو المقصود هنا من هذا الاحتجاج؛ لأن طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية.
وهم أقروا بالربوبية فرتب على إقرارهم بهذا، أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله -جل وعلا- ومعنى قوله: { تَدْعُونَ } (الزمر: من الآية38) أي تعبدون، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة، وقد تكون بأنواع العبادة الأخرى.(11/6)
وقوله: { تَدْعُونَ } يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة؛ لأنهما حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله.
و { ما } في قوله { ما تَدْعُونَ } عامة؛ لأنها اسم موصول بمعنى الذي، أي أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله ، والذي يدعونه من دون الله - الذي شملته هذه الآية- أنواع، وهو كل ما دعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن. وقد جاء في القرآن بيان الأصناف التي أشرك بها من دون الله -جل وعلا- وتوجه لها بالعبادة وهي أنواع:
الأول: بعض الأنبياء والرسل والصالحون كما قال جل وعلا في آخر سورة المائدة: { وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ } (المائدة: من الآية116)، فهذا فيه بيان هذا النوع من المعبودين.
الثاني: الملائكة كما جاء بيان ذلك في آخر سورة سبأ في قوله تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } (سبأ: 40-41).
ونوع آخر من المشركين كانوا يتوجهون للكواكب بالعبادة مثل من يعبد: الشمس والقمر، وغيرهما من الكواكب.
ونوع آخر كانوا يتوجهون إلى الأشجار والأحجار.
ونوع كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان.
فقوله: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله } (الزمر: من الآية38) يدخل فيه كل من توجه إليه بشيء من أنواع العبادة، وذلك يفيدنا في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية، كما سيأتي.(11/7)
قوله: { إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } (الزمر: من الآية38) فيه إبطال أن يكون لتلك الآلهة- بأنواعها- إضرار أو نفع ومعنى قوله: { إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } أي لا يستطيعون ذلك، كما إنه إن أرادني الله -جل وعلا- برحمة فهل تستطيع هذه الآلهة أن تدفع رحمة الله ؟! الجواب: أنها لا تستطيع أيضا، فبطل إذاً أن يكون ثم تعلق بتلك الآلهة العظيمة التي يظن أن لها مقامات عند الله -جل وعلا - موجبة لشفاعتها.
(ق): وقوله: { كاشفات } ، يشمل الدفع والرفع، فهي لا تكشف الضر بدفعه وإبعاده، ولا تكشفه برفعه وإزالته.
(تم): إذا تبين ذلك فقد قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر فلم جعلها الشيخ -رحمه الله - في سرد بيان أصناف من الشرك الأصغر؟؟ والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن الآيات الواردة في الشرك الأكبر، دلت من جهة المعنى، على وجوب التعلق بالله - جل وعلا - وبطلان التعلق بغيره، وهذا المعنى متحقق في الشرك الأصغر - أيضا - ولذا فإن من السلف من نزَّل الآيات الواردة في الشرك الأكبر، على الشرك الأصغر، بجامع أن في كلا الشركين تعلقا بغير الله -جل وعلا-، فإذا بطل التعلق في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر، ولكن المعنى الذي دارت عليه هو تقرير أن كل من يدعي من دون الله لا يستطيع من الأمر شيئاً، فلا يقدر أن يرفع ضراً ولا بلاء، ولا أن يمنع رحمة وفضلاً عمن أراده الله بذلك.(11/8)
وهذا المعنى - الذي هو التعلق بما يعتقد أنه يضر وينفع - هو المعنى الذي من أجله تعلق المشرك -الشرك الأصغر- بالحلقة وبالخيط؛ لأنه ما علق الخيط ولا علق الحلقة؛ وغيرهما إلا لأنه يعتقد أن لهما تأثيراً من جهة رفع البلاء، أو دفع الضر، وأنهما يجلبان النفع أو يدفعان الضر.
مع أن هذه أشياء مهينة وأمور وضيعة فإذا نفي عن الأشياء العظيمة كالأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون، فإن انتفاء النفع والضر عما سواها مما هو أدنى لا شك أنه أظهر في البرهان وأبين.
وقوله: { بِضُرّ } الواردة في سياق قوله تعالى { إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرّ } (الزمر: من الآية38)، نكرة في سياق الشرط فهو يعم جميع أنواع الضرر يعني: أن غير الله -جل وعلا- لا يستطيع أن يرفع ضرا -أي ضرِّ- أنزله الله -جل وعلا- إلا بإذنه سبحانه.
(ق): وقوله: { قل حسبي } الله ، أي: كافيني، والحسب: الكفاية، ومنه قوله تعالى: { جزاء من ربك عطاء حساباً } [النبأ: 36]، من الحسب، وهو الكفاية، وحسبي، مبتدأ ولفظ الجلالة خبر، وهذا أبلغ. وقيل العكس، والراجح الأول، لوجهين: الأول: أن الأصل عدم التقديم والتأخير. الثاني: أن قولك: حسبي الله فيه حصر الحسب في الله ، أي حسبي الله لا غيره، فهو كقولك: لا حسب لي إلا الله ، بخلاف قولك: الله حسبي، فليس فيه الحصر المذكور، فلا يدل على حصر الحسب في الله .(11/9)
قوله: { عليه يتوكل المتوكلون } . قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. والمعنى أن المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله ، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة، فليس بمتوكل على الله تعالى. وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنساناً في شيء ويعتمد عليه، لأن هناك فرقاً بين التوكل على الإنسان الذي يفعل لك شيئاً بأمرك، وبين توكلك على الله ، لأن توكلك على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر، وأنك متذلل، معتمد عليه، مفتقر إليه، مفوض أمرك إليه. والشاهد من هذه الآية: أن هذه الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع ولا بدفع ضر، فليست أسباباً لذلك، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري، فيعتبر اتخاذه سبباً إشراكاً بالله. وهناك شاهد آخر في قوله: { حسبي الله } ، فإن فيه تفويض الكفاية إلى الله دون الأسباب الوهمية، وأما الأسباب الحقيقية، فلا ينافي تعاطيها توكل العبد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه، لأنها من عنده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَىَ رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: «مَا هَذِا؟» قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ. فقَالَ: «انْزِعْهَا, فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" (1).رواه أحمد بسند لا بأس به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ضعيف: مسند الإمام أحمد (4/445) ـ واللفظ له ـ، وابن ماجة (كتاب الطب، باب تعليق التمائم) وليس فيه: (فإنك لو مت …) إلخ. وفي (الزوائد): (إسناده حسن؛ لأبن مبارك هذا هو ابن فضالة). ورواه ابن حبان أيضاً (1410) بلفظ (إنك إن نمت وهي عليك وكلت إليها). ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه، رواه ابن حبان(1411) والحاكم (4/216)، وصححه ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في الضعيفة (1029).(11/10)
(ف): قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن "الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر على عضد رجل حلقة - قال أراها من صفر - فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهناً. انبذها عنك فإنك لو إن مت وهي عليك ما أفلحت أبداً " رواه ابن حبان في صحيحه فقال: فإنك لو مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران، وقوله في الإسناد: أخبرني عمران يدل على ذلك.
قوله (عن عمران بن حصين) أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد -بنون وجيم- مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
قوله (رأى رجلاً) في رواية الحاكم (دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه) الحديث فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث.
(ق): قوله: "حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة"، والحلقة والصفر معروفان، وأما الواهنة، فوجع في الذراع أو العضد.
(ف): قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات: الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء وإنما نهى عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
(تم): وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (انزعها)، هذا أمر، وفيه أن تغيير المنكر يكون باللسان، إذا كان المأمور يطيع الآمر، ويكتفي بذلك عن تغييره باليد، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- له حق الولاية وبإمكانه تغيير هذا المنكر بيده، لكن لما علم من حال ذلك المأمور أنه يمتثل الأمر، قال له: (انزعها) فلا تعارُض بين هذا، وبين ما سيأتي من أن حذيفة - رضي الله عنه - قطع خيطا من يد رجل، فإن ذلك مبني على حال أخرى.(11/11)
قوله: (فإنها لا تزيدك إلا وهنا) يعني: أن ضررها أقرب من نفعها، وهذا شامل لجميع أنواع الشرك. فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه لو فرض أن فيه نفعا.
وقد قال العلماء في قوله -هنا-: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا) يعني لو كان فيها أثر، فإن أثرها الإضرار بدنيا، وروحيا، ونفسيا لأنها تضعف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض؛ فيكون تعلقه بذلك الحلقة أو الخيط سبباً في حصول الضعف.
قوله: (فإنها لا تزيدك إلا وهنا) وهذا حال كل من أشرك فإن شركه يجره من ضررٍ إلى ضررٍ أكثر منه، وإن ظن أنه في انتفاع. قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)
(ق): "ما أفلحت": الفلاح هو النجاة من المرهوب وحصول المطلوب.
(تم): لأن حال المعلق يختلف، فقد يكون علقها لاعتقاده أنها تؤثر استقلالا، وقد يكون علقها من جهة التسبب فإذا كان الذي رئيت في يده صحابياً، تعين أن تعليقه لها من جهة التسبب لا من جهة اعتقاده تأثيرها استقلالاً، ولكن الفائدة من قوله (ما أفلحت أبدا) حصول العبرة له، ولغيره، وبيان عاقبة ذلك. والفلاح المنفي - في هذا الحديث - يختلف معناه باختلاف حال المعلق، فيكون المراد: إما نفي الفلاح المطلق، بمعنى: الحرمان من دخول الجنة والخلود في النار وهذا في حق من اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط ينفع استقلالاً فهذا شرك أكبر وأما نفي مطلق الفلاح أو نفي نوع منه أو درجة من درجاته فيكون واقعاً في الشرك الأصغر وهذا إن اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط سبب لحصول النفع، فهذا: قد اتخذ من الأسباب ما لم يجعله الله -- عز وجل -- سببا لا شرعا، ولا قدرا.(11/12)
ومطلق الشيء، والشيء المطلق: مصطلحان يكثر ورودهما في كتب أهل العلم، وفي كتب التوحيد خاصة: فتجدهم يقولون مثلا: التوحيد المطلق، ومطلق التوحيد، والإسلام المطلق، ومطلق الإسلام، والإيمان المطلق، ومطلق الإيمان، والشرك المطلق، ومطلق الشرك، والفلاح المطلق، ومطلق الفلاح، والدخول المطلق، ومطلق الدخول، والتحريم المطلق يعني: تحريم دخول الجنة، أو تحريم دخول النار، ومطلق التحريم.
ومن المهم أن تعلم أن الشيء المطلق هو الكامل، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، والإسلام المطلق هو الإسلام الكامل، والتوحيد المطلق هو التوحيد الكامل، الفلاح المطلق هو الفلاح الكامل، وأما مطلق الشيء فهو أقل درجاته، أو درجة من درجاته، فمطلق الإيمان هو أقل درجاته فنقول: مثلا هذا ينافي الإيمان المطلق، يعني: ينافي الإيمان، أو نقول: هذا ينافي مطلق الإيمان يعني: ينافي أقل درجات الإيمان.
وإذا تقرر هذا فإنا نقول الفلاح المنفي يحتمل أن يكون المنفي الفلاح المطلق، يعني: كل الفلاح أو يكون المنفي: مطلق الفلاح أي درجة من درجاته وقد تقدم أن هذا يعتبر بحسب حال المعلق، فإن كان معتقدا فيها أنها تنفع استقلالاً، فهو من أهل النار، وإن كان يعتقد أنها سبب فهو من أهل النار، لكنه لا يُخلد فيها، كعصاة الموحدين.
(ق): وهذا الحديث مناسب للباب مناسبة تامة، لأن هذا الرجل لبس حلقة من صفر، إما لدفع البلاء أو لرفعه. والظاهر أنه لرفعه، لقوله: "لا تزيدك إلا وهنأ"، والزيادة تكون مبنية على أصل. ففي هذا الحديث دليل على عدة فوائد:(11/13)
أن ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولاً عن الحال، لأنه قد يظن ما ليس بمنكر منكراً، ودليله أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هذه". والاستفهام هنا للاستعلام فيما يظهر وليس للإنكار، وقول الرجل: "من الواهنة": من للسببية، أي: لبستها بسبب الواهنة، وهي مرض يوهن الإنسان ويضعفه، قد يكون في الجسم كله وقد يكون في بعض الأعضاء كما سبق.
وجوب إزالة المنكر، لقوله: "انزعها"، فأمره بنزعها، لأن لبسها منكر، وأيد ذلك بقوله: "إنها لا تزيدك إلا وهناً"، أي: وهناً في النفس لا في الجسم، وربما تزيده وهناً في الجسم، أما وهن النفس، فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت واعتمدت عليها ونسيت الاعتماد على الله - - عز وجل - -، والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان، فأحياناً يتوهم الصحيح أنه مريض فيمرض، وأحياناً يتناسى الإنسان المرض وهو مريض فيصبح صحيحاً، فانفعال النفس بالشيء له أثر بالغ، ولهذا تجد بعض الذين يصابون بالأمراض النفسية يكون أصل إصابتهم ضعف النفس من أول الأمر، حتى يظن الإنسان أنه مريض بكذا أو بكذا، فيزداد عليه الوهم حتى يصبح الموهوم حقيقة. فهذا الذي لبس الحلقة من الواهنة لا تزيده إلى وهناً، لأنه سوف يعتقد أنها ما دامت عليه فهو سالم، فإذا نزعها عاد إليه الوهن، وهذا بلا شك ضعف في النفس.
أن الأسباب لا أثر لها بمقتضى الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان.
أن لبس الحلقة وشبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك، لقوله: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، وانتفاء الفلاح دليل على الخيبة والخسران. ولكن هل هذا شرك أكبر أو أصغر؟. سبق لنا عند الترجمة أنه يختلف بحسب اعتقاد صاحبه.
أن الأعمال بالخواتيم، لقوله: "لو مت وهي عليك"، فعرف أنه لو أقلع عنها قبل الموت لم تضره لأن الإنسان إذا تاب قبل أن يموت صار كمن لا ذنب له.(11/14)
(ف): قوله: (رواه أحمد بسند لا بأس به) هو الإمام أحمد بن a بن حنبل بن هلال ابن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان - الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعاً ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها، خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول.
وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك، وهي سنة تسع وسبعين فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد. روى عنه ابناه صالح وعبد الله ، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي، وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين. قال البخاري: مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/15)
وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: [من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له] (1)وفي رواية. [من تعلق تميمة فقد أشرك] (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية: من تعلق تميمة فقد أشرك) الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضاً أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.
قوله: (وفى رواية) أي من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دجين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا يا رسول الله ، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك" ورواه الحاكم ونحوه. ورواته ثقات.
قوله: (عن عقبة بن عامر)صحابي مشهور فقيه فاضل، ولى إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريباً من الستين.
__________
(1) ضعيف: أخرجه الحاكم في المستدرك (4/240)حديث (7501)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وابن حبان (13/450)حديث (8086)والبيهقي في الكبرى (9/350)، وأحمد في مسنده (4/154) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/325)، وضعفه الألباني في الضعيفة (1266).
(2) صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك (4/243)، حديث (7513)وأحمد في مسنده (4/156)، وصححه الألباني في الصحيحة(495).(11/16)
(تم): المقصود من هذا الحديث ذكر لفظ التعلق، وتعلق يعني: أنه علق وتعلق قلبه بما علق، ولفظ (تعلق) يشمل التعليق وتعلق القلب بما علق فهو نوع لبس. والمعنى: أنه تعلق قلبه بما لبس، سواء كان المعلق في صدره أو يده أو في أي موضع آخر، فالمقصود أن يكون قلبه معلقاً بما تعلقه. والتميمة لها معنى سيأتي شرحه لاحقاً -إن شاء الله تعالى- لكن هي نوع خرزات وأشياء توضع على صدور الصغار غالباً، وقد يضعها الكبار لأجل دفع العين أو دفع الضرر أو الحسد أو أثر الشياطين ونحو ذلك.
وقوله: (فلا أتم الله له) دعاء منه - صلى الله عليه وسلم - على معلقها بألا يتم الله له مراده؛ لأن التميمة أخذت من تمام الأمر وسميت تميمة؛ لاعتقاده فيها أنه بها يتم له الأمر الذي أراد فدعا عليه الرسول-عليه الصلاة والسلام- بألا يتم الله -جل وعلا- له ما أراد.
وقوله: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) الودعة نوع من الصدف أو الخرز يوضع على صدور الناس أو يعلق على العضد ونحو ذلك، لأجل دفع أو رفع العين ونحوها من الآفات ومعنى قوله: (فلا ودع الله له) دعاء عليه - أيضاً- ومعناه: فلا تركه ذلك ولا جعله في دعة وسكون وراحة، وإنما دعا -عليه الصلاة والسلام- عليه بذلك؛ لأن ذاك المعلق أشرك بالله -جل وعلا-.
(ق): وقيل: لا ترك الله له خيراً، فعومل بنقيض قصده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): قال: وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)؛ لأن تعليق التمائم والتعلق بها شرك أصغر، وقد يكون أكبر بحسب حال المعلق.
(ف): قال أبو السعادات: إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله:(11/17)
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (يوسف: 106)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال المصنف رحمه الله (ولابن أبي حاتم عن حذيفة) أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه، وتلا قوله تعالى: [12: 106] " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا a بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن a حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه. ثم قال: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ".
وابن أبي حاتم هو الإمام أبو a عبد الرحمن بن أبي حاتم a بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
وحذيفة هو ابن اليمان. واسم اليمان: حسيل بمهملتين مصغراً، ويقال حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين ويقال له صاحب السر وأبوه أيضاً صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين.
(ق): قوله: "من الحمى"، "من" هنا للسببية، أي: في يده خيط لبسه من أجل الحمى لتبرد عليه، أو يشفى منها.
(ف): قوله: (رأى رجلاً في يده خيط من الحمى) أي عن الحمى. وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى وروى وكيع عن حذيفة: أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيئ رقى لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.(11/18)
(ق): قوله: "فقطعه" أي: قطع الخيط، وفعله هذا من تغيير المنكر باليد، وهذا يدل على غيرة السلف الصالح وقوتهم في تغيير المنكر باليد وغيرها.
وقوله: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ، أي وتلا حذيفة هذه الآية. والمراد بها المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية ويكفرون بتوحيد الألوهية.
وقوله: { وهم مشركون } في محل نصب على الحال، أي: وهم متلبسون بالشرك، وكلام حذيفة في رجل مسلم لبس خيطاً لتبريد الحمى أو الشفاء منها. وفيه دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان وشرك، ولكن ليس الشرك الأكبر، لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان، ولكن المراد هنا الشرك الأصغر، وهذا أمر معلوم.
(تم): ومع أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر إلا أنه يصح الاستدلال به على الشرك الأصغر والى هذا أشار المصنف -رحمه الله -: بقوله: فيه أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله: (لا تزيدك إلا وهناً).
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر بن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة، أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(11/19)
(ق): فيه مسائل: أي في هذا الباب مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزعها -لا تزيدك إلا وهناً-، لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، وهذا تغليظ عظيم في لبس هذه الأشياء والتعلق بها.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، هذا وهو صحابي، فكيف بمن دون الصحابي؟! فهو أبعد عن الفلاح. قال المؤلف: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر".
قوله: "لكلام الصحابة"، أي: لقولهم، وهو كذلك، فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"(1)، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة، لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر، بخلاف الكبائر، فإنها تحت المشيئة.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. هذا فيه نظر، لأنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، أي: بعد أن علمت وأمرت بنزعها.
وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فنقول: الجهل نوعان:
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (8/469)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177)، وقال: أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح". (1) مسند الإمام أحمد (4/310)، والترمذي (أبواب الطب، باب ما جاء في كراهة التعليق (2073).(11/20)
جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئا عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئا عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار.
فعلى هذا من نشأ ببادية بعيد ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة منها:
رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشر سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابه، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي. وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر، لقوله: "لا تزيدك إلا وهناً". والمؤلف استنبط المسألة وأتى بوجه استنباطها.
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، أي: ينبغي أن ينكر إنكاراً مغلظاً على من فعل مثل هذا، ووجه ذلك سياق الحديث الذي أشار إليه المؤلف، وأيضاً قوله: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له".(11/21)
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه. تؤخذ من قوله: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له" إذا جعلنا الجملة خبرية، وأن من تعلق تميمة، فإن الله لا يتم له، فيكون موكولاً إلى هذه التميمة، ومن وكل إلى مخلوق، فقد خذل، ولكنها في الباب الذي بعده صريحة، "من تعلق شيئاً وكل إليه"(1).
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة، فقد أشرك. وهو إحدى الروايتين في حديث عقبة بن عامر.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. يؤخذ من فعل حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة. أي أن قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } في الشرك الأكبر، لكنهم يستدلون بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الأصغر، لأن الأصغر شرك في الحقيقة وإن كان لا يخرج من الملة، ولهذا نقول: الشرك نوعان: أصغر وأكبر.
وقوله: "كما ذكر ابن عباس في آية البقرة"، وهي قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله... } [البقرة: 165]، فجعل المحبة التي تكون كمحبة الله من اتخاذ الند لله- - عز وجل - -.
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك، وقوله: "من ذلك"، أي: من تعليق التمائم الشركية، لأنه لا أثر لها ثابت شرعاً ولا قدراً.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي: ترك الله له.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/130)، والترمذي (أبواب الطب، باب ما في كراهة التعليق (7302).(11/22)
تؤخذ من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء الذين اتخذوا تمائم وودعاً، وليس هذا بغريب أن نؤمر بالدعاء على من خالف وعصى، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم من ينشد الضالة في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك"(1)، "وإذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"(2). فهنا أيضاً تقول له: لا أتم الله لك، ولكن الحديث إنما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العموم، فلا نخاطب هذا بالتصريح ونقول لشخص رأينا عليه تميمة: لا أتم الله لك، وذلك لأن مخاطبتنا الفاعل بالتصريح والتعيين سوف يكون سبباً لنفوره، ولكن نقول دع التمائم أو الودع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولك "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له".
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله في سمع الناشد حديث (568).
(2) الترمذي: كتاب البيوع /باب النهي عن البيع في المسجد، 2/472، وحسنه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (حديث صحيح) الإرواء 5/134.(11/23)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الرقى والتمائم
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): في الباب السابق قال الإمام -رحمه الله -: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط وقال هنا: باب ما جاء في الرقى والتمائم، ولم يقل باب من الشرك الرقى والتمائم وذلك؛ لأن الرقى منها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شرك ممنوع والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أو لا؟ لهذا عبر -رحمه الله - بقوله: باب ما جاء في الرقى والتمائم وهذا من أدب التصنيف العالي.
والرقى جمع رقية، وهي معروفة وقد كانت العرب تستعملها، وحقيقتها أنها أدعية وألفاظ تقال أو تتلى ثم ينفث بها، ومنها ما له أثر عضوي في البدن ومنها ما له أثر في الأرواح ومنها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شرك ممنوع وثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- رَقى نفسه ورَقى غيره، بل ثبت أنه رُقي أيضا رقاه جبريل ورقته عائشة فهذا الباب باب ما جاء في الرقى والتمائم، معقود لبيان حكم الرقى، وقد رخص الشارع في الرقى ما لم تكن شركاً، وهي الرقى التي خلت من الشرك، وقد سأل بعض الصحابة النبي -عليه الصلاة والسلام- عن حكم الرقى: فقال: (اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك).
وقد قال العلماء: الرقية تجوز بثلاثة شروط مجمع عليها:
الأول: أن تكون بالقرآن أو بأسماء الله أو بصفاته.
الثاني: أن تكون بالكلام العربي أي بلسان عربي معلوم المعنى.
والثالث: ألا يعتقد أنها تنفع بنفسها بل بتقدير الله -- عز وجل --.
قال بعض العلماء: يدخل في الشرط الأول أيضا أن تكون بما ثبت في السنة وعلى هذا فيكون الشرط الأول أن تكون من القرآن أو السنة أو بأسماء الله وبصفاته فلا تكون الرقي جائزة إلا باجتماع هذه الشروط الثلاثة.(12/1)
فإذا تخلف الشرط الأول أو الثاني: ففي جواز الرقية خلاف بين أهل العلم، والشرط الثالث متفق عليه بينهم وأما اشتراط كونها بأسماء الله وصفاته أو بالكتاب والسنة، أو أن تكون بلسان عربي مفهوم، فإن هذا مختلف فيه كما تقدم.
وقال بعضهم: يسوغ أن تكون الرقية بما يعلم معناه ويصح المعنى بلغة أخرى ولا يشترط أن تكون بالعربية ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة وهذه مسائل فيها خلاف وبحث وما من جهة تأثير غير القرآن على المرقي وما سبق من الخلاف ففيه مسائل نرجئ تفصيل الكلام فيها إلى موضع آخر إن شاء الله فالمقصود أن الرقى الجائزة بالإجماع هي ما اجتمعت فيها الشروط الثلاثة.
وأما الرقى الشركية المحرمة فهي التي فيها استعاذة أو استغاثة بغير الله ، أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين، أو اعتقد المرقي فيها بأنها تؤثر بنفسها، وهي التي قال -عليه الصلاة والسلام- فيها (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) كما سيأتي بيانه فالحاصل من ذلك أن الرقى منها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شركي ممنوع، وقد علمت ضابط الرقى الجائزة المشروعة، والمحرمة الشركية الممنوعة.
والتمائم جمع تميمة وقد ذكر تفسيرها مختصرا من قبل وهي تجمع أنواعا كثيرة، فالتمائم تجمع كل ما يعلق أو يتخذ مما يراد منه تتميم أمر الخير للعبد أو دفع الضرر عنه، ويعتقد فيه أنه سبب ولم يجعل الله -جل وعلا- ذلك الشيء سببا لا شرعا ولا قدرا، فالتميمة إذاً شيء يتخذ من جلد أو ورق ويكون فيه أذكار وأدعية وتعوذات تعلق على الصدر أو في العضد وقد تتخذ التميمة من خرزات وحبال ونحو ذلك يعلق على الصدر وقد تكون التميمة باتخاذ شيء يجعل على باب البيت أو في السيارة أو أي مكان ما، فالحاصل: أن التمائم يجمعها أنها: شيء يراد منه تتميم أمر الخير وتتميم أمر دفع الضر وذلك الشيء لم يؤذن به شرعا ولا قدرا.(12/2)
فالتميمة إذاً ليست خاصة بصورة معينة بل تشمل أموراً كثيرة وتعم أصنافا عديدة مثل ما نراه على الكثيرين من أهل زماننا من تعليقهم أشياء على صدورهم مثل جلود صغيرة يجعلونها على رقابهم أو تكون على العضد أو يربطونها على بطونهم لرفع الأمراض الباطنية كالإسهال والقيء ونحوهما.
ومنهم من يجعل في السيارة رأس دب أو أرنب أو غيرها من الأشكال كحدوة فرس، أو يعلق خرزات ومسابح خشبية ونحو ذلك على المرايا الأمامية للسيارة ومنهم من يلبس سلسلة يجعل فيها شكل عين صغيرة وبعضهم قد يعلق على مدخل الباب رأس ذئب أو غزال أو يضع على مطرق الباب حذوة فرس اعتقاداً من أصحابها أنها تدفع العين أو أن تجلب لهم نفع فكل هذه أنواع وأصناف وصور للتمائم على اختلاف الأزمان.
لكن من الناس من يقول: إنما أعلق هذه الأشياء للزينة ولا أستحضر هذه المعاني المحضورة فهذا يقوله طائفة قليلة من الناس فنقول: إن علق التمائم لدفع الضرر واعتقد أنها سبب فيكون قد أشرك الشرك الأصغر، وإن علقها للزينة فهو محرم؛ لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر، فدار الأمر إذاً على النهي على التمائم كلها سواء اعتقد فيها أو لم يعتقد؛ لأن حاله إن اعتقد أنها سبب فهو شرك أصغر، وإن لم يعتقد فيكون قد شابه أولئك المشركين وقد قال عليه الصلاة والسلام- (من تشبه بقوم فهو منهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن أَبَي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيّ - رضي الله عنه - أَنّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. فَأَرْسَلَ رَسُولاً (أن لاَ يَبْقَيَنّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةٌ, إِلاّ قُطعَتْ)(1).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل حديث (3005)ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير حديث (2115).(12/3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: (عن أبى بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين. ويقال: إنه جاوز المائة.
قوله: (في بعض أسفاره) قال الحافظ: لم أقف على تعيينه.
(ق): قوله: "أسفاره"، السفر: مفارقة محل الإقامة، وسمي سفراً، لأمرين: الأول: حسي، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان. الثاني: معنوي، وهي أن يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يكشف عنها وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار.
(ف): قوله: (فأرسل رسولاً) هو زيد بن حارثة. روى ذلك الحارث بن أبى أسامة في مسنده قاله الحافظ.
(ق): قوله: "قلادة من وتر، أو قلادة"، شك من الراوي، والأولى أرجح، لأن القلائد كانت تتخذ من الأوتار، ويعتقدون أن ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقاد فاسد، لأنه تعلق بما ليس بسبب، وقد سبق أن التعلق بما ليس بسبب شرعي أو حسي شرك، لأنه بتعلقه أثبت للأشياء سبباً لم يثبته الله لا بشرعه ولا بقدره، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقطع هذه القلائد. أما إذا كانت هذه القلادة من غير وتر، وإنما تستعمل للقيادة كالزمام، فهذا لا بأس به لعدم الاعتقاد الفاسد، وكان الناس يعملون ذلك كثيراً من الصوف أو غيره.
قوله: "في رقبة بعير"، ذكر البعير، لأن هذا هو الذي كان منتشراً حينذاك، فهذا القيد بناء على الواقع عندهم، فيكون كالتمثيل، وليس بمخصص.
يستفاد من الحديث:
أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعياً لأحوالهم، فيتفقدهم وينظر في أحوالهم.
أنه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشريعة، فإذا فعلوا محرماً منعهم منه، وإن تهاونوا في واجب حثهم عليه.(12/4)
أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء تجعل سبباً في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي ليس كذلك لا شرعاً ولا قدراً، لأنه شرك، ولا يلزم أن تكون القلادة في الرقبة، بل لو جعلت في اليد أو الرجل، فلها حكم الرقبة، لأن العلة هي هذه القلادة، وليس مكان وضعها، فالمكان لا يؤثر.
أنه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيره بيده.
(تم): وجه الاستدلال بهذا الحديث أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمور بقطعه، والأمر بقطعه؛ لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة، والنعم فيعلقون عليها الأوتار على شكل قلائد وربما ناطوا بالأوتار أشياء من خرز أو من شعر أو نحو ذلك لدفع العين، فهذا نوع من أنواع التمائم.
فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة وهي أن قوله: (لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت) ظاهر في النهي عن التمائم وأن هذا النوع يجب قطعه وإنما يجب قطعه؟؛ لأن في تعليقه اعتقاد أنه يدفع الضر أو أنه يجلب النفع وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((إِنّ الرّقَى وَالتّمَائِمَ وَالتّوَلَةَ شِرْكٌ)) (1) رواه أحمد وأبو داود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال المصنف: "(وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود) ".
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/381) وحسن إسناده أحمد شاكر (3615)، وأبو داود (كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، 5/212)، والحاكم في (الرقى والتمائم، 4/418) ـ وقال: (صحيح الإسناد على شرط الشيخين)، وأقره الذهبي، وصححه الألباني.(12/5)
وفيه قصة، ولفظ أبى داود: عن "زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله رأى في عنقي خيطاً فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقى لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك. فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أذهب البأس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً)(1) ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي.
(تم): قوله: وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك).
فهذا الحديث تضمَّن تأكيداً لأن دخول "إن" على الجملة الخبرية بعدها يفيد تأكيد ما تضمنته.
وقوله هنا: (الرقى) لما دخلت عليها الألف واللام أفادت العموم، فهذا الحديث أفاد بعمومه أن كل الرقى من الشرك، وأن كل التمائم من الشرك وأن كل التولة من الشرك، فتكون هذه الأنواع كلها من الشرك، وهذا العموم خص الدليل منه الرقى وحدها، وهو قوله: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) وبأن النبي -عليه الصلاة والسلام- رقى ورقي -عليه الصلاة والسلام-.
__________
(1) صحيح :أحمد (1/381)، وأبو داود: كتاب الطب(3883): باب في تعليق التمائم وابن ماجة :كتاب الطب (3530): باب في تعليق التمائم والحاكم (4/417، 418)وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وابن حبان (1412- موارد)وصححه الألباني في الصحيحة (331).(12/6)
فدل الدليل إذاً على أن العموم هاهنا مخصوص، فليس كل أنواع الرقية شرك، بل بعض أنواع الرقية، وهي: التي اشتملت على شرك، فالعموم هنا مخصوص، وقد خرج منه ما لم يكن فيه شرك وقد جاء الحديث بلفظ (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) وفي لفظ آخر قال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك).
أما التمائم فلم يخص الدليل بالجواز منها نوعا دون نوع فتكون التمائم بكل أنواعها شركاً لعدم ورود ما يخصص بعضها، إذ لم يستثن الشارع منها شيئاً والأصل بقاء العام على عمومه، والتخصيص يكون بالشرع، ولم يرد هنا، فيبقى على الأصل.
(ف): قوله (فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحمة) كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد. وكذا رخص في الرقى من غيرها، كما في صحيح مسلم عن "عوف بن مالك: كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم. لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً" وفى الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان - عليه السلام - قد رقى ورقى، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله شرك.
قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم. وبنحو هذا ذكر الخطابي.
وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلاً أن يدعو به، ولو عرف معناه: لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام.
وقال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاث شروط:
أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
وباللسان العربي: ما يعرف معناه.
وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.(12/7)
(ق): قوله: "التمائم"، فسرها المؤلف بقوله: "شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين"، وهي من الشرك، لأن الشارع لم يجعلها سبباً تتقى به العين. وإذا كان الإنسان يلبس أبناءه ملابس رثة وبالية خوفاً من العين، فهل هذا جائز؟ الظاهر أنه لا بأس به، لأنه لم يفعل شيئاً، وإنما ترك شيئاً، وهو التحسين والتجميل، وقد ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" أن عثمان رأى صبياً مليحاً، فقال: دسموا نونته، والنونة: هي التي تخرج في الوجه عندما يضحك الصبي كالنقرة، ومعنى دسموا، أي: سودوا. وأما الخط: وهي أوراق من القرآن تجمع وتوضع في جلد ويخاط عليها، ويلبسها الطفل على يده أو رقبته، ففيها خلاف بين العلماء. وظاهر الحديث: أنها ممنوعة، ولا تجوز. ومن ذلك أن بعضهم يكتب القرآن كله بحروف صغيرة في أوراق صغيرة، ويضعها في صندوق صغير، ويعلقها على الصبي، وهذا مع أنه محدث، فهو إهانة للقرآن الكريم، لأن هذا الصبي سوف يسيل عليه لعابه، وربما يتلوث بالنجاسة، ويدخل به الحمام والأماكن القذرة، وهذا كله إهانة للقرآن. ومع الأسف أن بعض الناس اتخذوا من العبادات نوعاً من التبرك فقط، مثل ما يشاهد من أن بعض الناس يمسح الركن اليماني، ويمسح به وجه الطفل وصدره، وهذا معناه أنهم جعلوا مسح الركن اليماني من باب التبرك لا التعبد، وهذا جهل، وقد قال عمر في الحجر: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك"(1).
قوله: "التولة"، شيء يعلقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك، لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحب.
__________
(1) البخاري: كتاب الحج/باب تقبيل الحجر، ومسلم: كتاب الحج/ باب استحباب تقبيل الحجر.(12/8)
(ف): قوله: (التولة)، قال المصنف: (هي شيئ يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث: كما في صحيح ابن حبان والحاكم(1) قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيئ نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن.
قال الحافظ: التولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففاً - شيئاً كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، والله أعلم وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
(ق): ومثل ذلك الدبلة، والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج، قالت المرأة: إنه لا يحبها، فهم يعتقدون فيه النفع والضرر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج، فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية، فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية - وهي بعيدة ألا تصحبها -، ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم. وإن كانت من الذهب، فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث، وهو لبس الذهب، فهي إما من الشك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك، فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: "شرك"، هل هي شرك أصغر أو أكبر؟ نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها إن اتخذها معتقداً أن المسبب للمحبة هو الله ، فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها، فهي شرك أكبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(التمائم): شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه -.
__________
(1) تفسير ابن مسعود راوي الحديث عند ابن حبان (1412)، الحاكم (4/418)، وصححه ووافقه الذهبي.(12/9)
و(الرقى): هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحمة.
و(التولة): شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): قوله: (التمائم شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين) (شيء) هنا شاملة لأي شيء يعلق دون صفة معينة، وخصَّ بعض العلماء التمائم بما كان متخذاً من الخرز، وبعضهم خصه بما كان مصنوعاً من الجلد ونحوه، وهذا ليس بجيد، بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين واتقاء الضرر أو لجلب خير نفسي.
ثم قال: (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف) يعنى: إذا كان المعلق من القرآن بمعنى أنه جعل في منزله مصحفا ليدفع العين أو علق على صدره شيئا كسورة الإخلاص أو آية الكرسي؛ ليدفع العين، أو ليدفع الضرر عنه فهذا من حيث التعليق يسمى تميمة فهل هذه التميمة جائزة؟ أم غير جائزة؟
قال الشيخ - رحمه الله - إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف، فجوزها ورخص فيها بعض السلف، ويعني ببعض السلف: بعض كبار الصحابة، ومال إلى هذا القول بعض أهل العلم الكبار وبعضهم لم يرخص فيها كابن مسعود - رضي الله عنه - وكأصحاب ابن مسعود الكبار منهم: إبراهيم النخعي، وعلقمة وعبيدة والربيع بن خثيم والأسود وأصحاب ابن مسعود جميعا فالحاصل أن السلف اختلفوا في ذلك.(12/10)
ومن المعلوم أن القاعدة أن السلف إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل، والدليل قد دل على أن كل أنواع التمائم منهي عنها كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من تعلق شيئا وكل إليه)، وقوله (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) فمن تعلق القرآن أو شيئاً منه كان داخلا في النهي، لكن إذا كان المعلق للقرآن فلا يكون مشركاً؛ لأنه علق شيئا من صفات الله -جل وعلا- وهو كلام الله -جل وعلا- فلا يكون قد أشرك مخلوقا؛ لأن الشرك معناه أن تشرك مخلوقا مع الله -جل وعلا-، والقرآن ليس بمخلوق بل هو كلام الباري -جل وعلا- منه بدأ وإليه يعود.
فإذا أخرجت التميمة المتخذة من القرآن عن كونها شركاً من عموم قوله: (إن التمائم شرك) فلأجل كون القرآن كلام الله ليس بمخلوق. لكن هل هي منهي عنها، أو غير منهي عنها؟؟ الجواب: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: (من تعلق شيئا وكل إليه) ونهيه عن التمائم بأنواعها، دليل على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم ومن بين ما يعلق: يحتاج إلى دليل خاص، لأن إبقاء العموم على عمومه هو إبقاء لدلالة ما أراد الشارع الدلالة عليه بالألفاظ اللغوية، والتخصيص نوع من أنواع التشريع، فلا بد فيه من دليل واضح؛ لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يرخص فيه كابن مسعود وكغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- وكذلك هو قول عامة أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المحققون من أصحابه، وعليها المذهب عند المتأخرين.
بقي أن نقول: إن تجويز اتخاذ التمائم من القرآن يترتب عليه مفاسد منها:(12/11)
أولاً: أنه يفضي إلى الاشتباه، فقد نرى من عليه التميمة فيشتبه علينا الأمر هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟ وإذا ورد هذا الاحتمال، فإن المنكر على الشركيات يضعف عن الإنكار لأنه سيقول: يحتمل أنه تكون من القرآن، فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء للتمائم الشركية؛ لأن التمائم تكون مخفية غالبا، واما في جلد أو في نوع من القماش ونحو ذلك، فإذا رأينا من علق تميمة: وقلنا: يحتمل أن تكون من القرآن، أو غيره، فإذا استفصلت منه وقلت له: هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟ فمعلوم أن صاحب المنكر سيجيب أنها من القرآن حتى ينجو من الإنكار؛ لأنه يريد أن يسلم له تعليقها، فمن المفاسد العظيمة أن في إقرار التمائم من القرآن إبقاء للتمائم الشركية، وفي النهي عنها سد لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية ولو لم يكن إلا هذا لكان كافيا.
ثانياً: أن الجهلة من الناس إذا علقوا التمائم من القرآن تعلقت قلوبهم بها، فلا تكون عندهم مجرد أسباب، بل يعتقدون أن فيها خاصية بنفسها بجلب النفع أو دفع الضرر ولاشك أن في هذا فتحاً لباب الاعتقادات الفاسدة على الناس يجب وصده ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع.
ثالثاً: ومن المفاسد المتحققة أيضاً أنه إذا علق شيئا من القرآن فإنه يعرضه للامتهان فقد ينام عليه أو يدخل به مواضع قذرة أو يكون معه في حالات لا يليق أن يكون معه فيها شيء من القرآن فهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه. فتحصل -بالدليل وبالتعليل- أن تعليق التمائم بكل أنواعها لا يجوز فما كان منها من القرآن فنقول: يحرم على الصحيح ولا يجوز ويجب إنكاره، وما كان منها من غير القرآن فهذا نقول فيه: إنه من الشرك بالله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) والتخصيص نوع من العلم فيجب أن يكون فيه دليل خاص.(12/12)
(ق): أقسام التعلق بغير الله : الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتماداً معرضاً عن الله ، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة. الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب، وهو الله -- عز وجل --، وعدم صرف قلبه إليه، فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر، لأن هذا السبب جعله الله سبباً. الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط، مع اعتماده الأصلي على الله ، فيعتقد أن هذا السبب من الله ، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله -- عز وجل --، فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً، وعلى هذا لا إثم فيه. ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله. فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقاً كاملاً، مع الغفلة عن المسبب، وهو، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد ان المرتب سبب، والمسبب هو الله -- سبحانه وتعالى --، وجعل الاعتماد على الله ، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكل. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله - - عز وجل - -. وجاء في الحديث: "من تعلق"، ولم يقل: من علق، لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به، وليس كذلك من علق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). رواه أحمد والترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(12/13)
(ف): قال المصنف: (وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً من تعلق شيئاً وكل إليه رواه أحمد والترمذي) ورواه أبو داود والحاكم(1)، وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغراً، ويكنى أبا معبد، الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم. قال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة، وذكر ابن سعد من غيره أنه مات في ولاية الحجاج.
(تم): وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا (من تعلق شيئا وكل إليه) (شيئا)- هنا- نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء، فكل من علق شيئا وكل إليه فمن أخرج صورة من صور التعليق عن هذا العموم كانت الحجة عليه؛ لأن هذا الدليل عام.
ويفيد أن من تعلق أي شيء من الأشياء فإنه يوكل إليه والعبد إذا وكل إلى غير الله -جل وعلا- فإن الخسارة أحاطت به من جنباته، والعبد إنما يكون عزه ويكون فلاحه ونجاحه وحسن قصده وحسن عمله في تعلقه بالله وحده، فيتعلق بالله وحده في أعماله وفي أقواله وفي مستقبله وفي دفع المضار عنه فيكون انس قلبه بالله وسروره بالله وتعلقه بالله وتفويض أمره إلى الله وتوكله على الله -جل وعلا-.
فمن كان كذلك وتوكل على الله وطرد الخلق من قلبه فإنه لو كادته السماوات والأرض لجعل الله -جل وعلا- له من بينها مخرجا؛ لأنه توكل وفوض أمره على العظيم -- جل جلاله -- وتقدست أسماؤه فقال هنا (من تعلق شيئاً وكل إليه) فإذا تعلق العبد تميمة وكل إليها فما ظنك بمن وكل إلى خرقة أو إلى خرز أو إلى حدوة حصان أو إلى شكل حيوان ونحو ذلك لا شك أن خسارته أعظم الخسارة.
__________
(1) حسن :الترمذي : كتاب الطب (1072) باب ما جاء في كراهية التعليق وأحمد(4/310، 311) ،الحاكم(4/216) وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (7/575) والحديث لا يوجد عند أبي داود كما أشار إلى ذلك المصنف ووهم في ذلك أيضاً ابن الأثير في جامع الأصول.(12/14)
ووجه الاستدلال هنا في قوله (من تعلق شيئاً) أنه ذكر نتيجة التعلق وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء الذي تعلقه فمن تعلق شيئا وكل إليه، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر في ذلك الخسران المبين.
والشيخ -رحمه الله - لم يصدر الباب بحكم فيكون الاستدلال على حكمها مستفاد من هذه الأحاديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى أحمد عن رُوَيْفِعُ قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ( يَا رُوَيْفِعُ لَعَلّ الحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ فَاخْبِرْ النّاسَ أنّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ, أَوْ تَقَلّدَ وَتَراً, أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابّةٍ أَوْ عَظْم, فإِنّ مُحمّداً بَرىءٌ مِنْهُ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قال المصنف: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه ".
الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة. وفيه قصة اختصرها المصنف. وهذا لفظ حسن: حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح. ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... الحديث.
ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان حدثني الفضل حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني - الحديث. ابن لهيعة فيه مقال. وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني، قيل فيه مجهول. وبقية رجالها ثقات.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينص عنه أن يستنجي به حديث (36) والنسائي حديث (5067)، وصححه الألباني.(12/15)
قوله: (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصاً برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية. قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.
قوله: (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها، وهو من الأنصار. وقيل مات سنة ثلاث وخمسين.
(ق): قوله: "من عقد لحيته"، اللحية عند العرب كانت لا تقص ولا تحلق، كما أن ذلك هو السنة، لكنهم كانوا يعقدون لحاهم لأسباب:
منها: الافتخار والعظمة، فتجد أحدهم يعقد أطرافها، أو يعقدها من الوسط عقدة واحدة ليعلم أنه رجل عظيم، وأنه سيد في قومه.
الثاني: الخوف من العين، لأنها إذا كانت حسنة وجميلة ثم عقدت أصبحت قبيحة، فمن عقدها لذلك، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريء منه. وبعض العامة إذا جاءهم طعام من السوق أخذوا شيئاً منه يرمونه في الأرض، دفعاً للعين، وهذا اعتقاد فاسد ومخالف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط ما بها من الأذى، وليأكلها"(1).
(ف): قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين.
أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبراً وعجباً.
ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث وقال أبو زرعة بن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية a بن الربيع. وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة.
__________
(1) مسلم: كتاب الأشربة/ باب استحباب لعق الأيادي والقصعة وأكل اللقمة، حديث (2033).(12/16)
(ق): قوله: "أو تقلد وتراً"، الوتر: سلك من العصب يؤخذ من الشاة، وتتخذ للقوس وتراً، ويستعملونها في أعناق إبلهم أو خيلهم، أو في أعناقهم، يزعمون أنه يمنع العين، وهذا من الشرك.
(ف): وفي رواية a بن الربيع أو تقلد وتراً - يريد تميمة.
فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، الذي جاء النهى عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟.
(ق): قوله: "أو استنجى برجيع دابة". الاستنجاء: مأخوذ من النجو، وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين، لأن الإنسان الذي يتمسح بعد الخلاء يزيل أثره. ورجيع الدابة: هو روثها.
قوله: "أو عظم". العظم معروف وإنما تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن استنجى بهما، لأن، الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم، يجدونه أو ما يكون لحماً.
(ف): وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن.
(تم): وقوله في هذا الحديث: (فإن محمداً بريء منه): هذا من الألفاظ التي تدل على أن هذا الفعل من الكبائر، لان مما يستدل به على كون الفعل، أو القول، من الكبائر: أن يقال عن مرتكبه: الله ورسوله منه بريئان، أو يتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، لان ذلك يدل على عظم المعصية، وأن الشرك الأصغر من الكبائر كما أن الشرك الأكبر من الكبائر، والكبائر العملية -التي ليس معها اعتقاد- كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر: هي من حيث جنس المحرم والكبيرة، أقل مرتبة من الشرك الأصغر فضلاً عن الشرك الأكبر، ولهذا نقول: إن جنس الشرك الأصغر- كاتخاذ التمائم، أو نحو ذلك- هذا جنسه أعظم من حيث الذنب والكبيرة من جنس الكبائر العملية التي لا يصحب فاعلها حين فِعلها اعتقاد، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك.(12/17)
(ف): قوله: (وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع) هذا عند أهل العلم له حكم الرفع، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلاً لأن سعيداً تابعى. وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك. ووكيع هو ابن الجراح ابن وكيع الكوفى، ثقة إمام، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن سعيد بن جبير - رضي الله عنه -، قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) رواه وكيع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): قوله: (وعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة): يعني كان كتحرير رقبة، وهذا فيه فضيلة قطع التمائم وذلك لأنها شرك بالله - جل وعلا -، والشرك الأصغر مُدخل للنار، وفاعله متوعّدٌ بالنار كما في قوله - جل وعلا - { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } (النساء: 48-116) ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ن مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) وفي نحو قوله -أيضاً-: (ن مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار)فمن قطع تميمة من عنق من علقها: فهو في مقام إعتاق رقبة ذاك الذي قطعت منه التميمة لأنه استوجب بذلك الفعل الوعيد بالنار، فإذا قطع التميمة كان جزاؤه من جنس فعله، فكما أنه أعتق رقبة هذا المسلم من النار أثيب بأن له مثل إعتاق رقبة أي: في الأجر.
وهذا القول من سعيد بن جبير محمول على أنه مما سمعه من الصحابة رضوان الله عليهم، لأن هذا مما لا يقال بالرأي، وإذا كان كذلك فله حكم المرسل، لأن فيه فضيلة خاصة جعلها سعيد بن جبير لمن قطع تميمة من رقبة إنسان، فيكون ذلك من قبيل المرسل، يعني: من قبيل المرفوع، وسعيد بن جبير تابعي من أصحاب ابن عباس فيكون مرسلاً.(12/18)
وفي حجية المرسل كلام: فالإمام أحمد، ومالك، يحتجون بالمرسل وكذلك الإمام أبو حنيفة يحتج بالمرسل، ومنهم من يجعل له شروطاً كالشافعي، ومنهم من يحتج بالمرسل إذا كان المعنى معروفاً في الباب كما هاهنا.
وقال بعض أهل العلم: قول التابعي في الأشياء التي لا تدرك بالاجتهاد ولا يناط بها الرأي يكون محمول على أنه قول صحابي، يعني: انه سمعه من الصحابي، فيكون اجتهاد صحابي، وهذا ليس بقوي، لأنه إذا كان محمولاً على أنه سمعه من الصحابي، فنقول أيضاً: الصحابي لا يقوله من جهة الرأي، فلا بد أن يكون -إذاً - سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن مثل هذا لا مدخل فيه للاجتهاد، والقول الأول هو المعروف، وهو أن هذه الصيغة من قبيل المرسل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): قوله (وله) يعني لوكيع.
(عن إبراهيم) وهو النخعي، تلميذ ابن مسعود وإبراهيم النخعي عالم أهل الكوفة بعد ابن مسعود.
(ف): قوله: وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن وإبراهيم: هو الإمام بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء. قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع منها. مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: كانوا يكرهون التمائم إلى آخره، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيد السلماني ومسروق والربيع بن خثيم، وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ العراقي وغيره.(12/19)
(ق): قوله: "التمائم"، هي ما يعلق على المريض أو الصحيح، سواء من القرآن أو غيره للاستشفاء أو لاتقاء العين، أو ما يعلق على الحيوانات. وفي هذا الوقت أصبح تعليق القرآن لا للاستشفاء، بل لمجرد التبرك والزينة، كالقلائد الذهبية، أو الحي التي يكتب عليها لفظ الجلالة، أو آية الكرسي، أو القرآن كاملاً، فهذا كله من البدع. فالقرآن ما نزل ليستشفى به على هذا الوجه، إنما يستشفى به على ما جاء به الشرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقي والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين، من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
قوله: الأولى: تفسير الرقى والتمائم، وقد سبق ذلك.
الثانية: تفسير التولة، وقد سبق ذلك، وعندي أن منها ما يسمى بالدبلة إن اعتقدوا إنها صلة بين المرء وزوجته.
الثالثة: أنه هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء، ظاهر كلامه حتى الرقى، وهذا فيه نظر، لأن الرقى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يرقى ويرقى، ولكنه لا يسترقي، أي: لا يطلب الرقية، فإطلاقها بالنسبة للرقى فيه نظر، وقد سبق للمؤلف رحمه الله أن الدليل خص منها ما خلا من الشرك، وبالنسبة للتمائم، فعلى رأي الجمهور فيه نظر أيضاً. وأما على رأي ابن مسعود، فصحيح، وبالنسبة للتولة، فهي شرك بدون استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.(12/20)
قوله: (الكلام الحق)، ضده الباطل، وكذا المجهول الذي لا يعلم أنه حق أو باطل. والمؤلف رحمه الله تعالى خصص العين أو الحمة فقط استناداً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا رقية إلى من عين أو حمة"(1)، ولكن الصحيح أنه يشمل غيرهما، كالسحر.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن، فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟
قوله: "ذلك" المشار إليه: التمائم المحرمة. وقد سبق بيان هذا الخلاف، والأحوط مذهب ابن مسعود، لأن الأصل عدم المشروعية حتى يتبين ذلك من السنة.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك، أي: من الشرك.
(تنبيه): ظهر في الأسواق في الآونة الأخيرة حلقة من النحاس يقولون: إنها تنفع من الروماتيزم، يزعمون الإنسان إذا وضعها على عضده وفيه روماتيزم نفعته من هذا الروماتيزم، ولا ندري هل هذا صحيح أم لا؟ لكن الأصل أنه ليس بصحيح، لأنه ليس عندنا دليل شرعي ولا حسي يدل على ذلك، وهي لا تؤثر على الجسم، فليس فيها مادة دهنية حتى نقول: إن الجسم يشرب هذه المادة وينتفع بها، فالأصل أنها ممنوعة حتى يثبت لنا بدليل صحيح صريح واضح أن لها اتصالاً مباشراً بهذا الروماتيزم حتى ينتفع بها.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً. وذلك لبراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن تعلق وتراً، بل ظاهره أنه كفر مخرج من الملة، قال: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) [التوبة: 3]، لكن قال أهل العلم: إن البراءة هنا براءة من هذا الفعل، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا، فليس منا"(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، حديث (5705)ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، حديث(220).
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا".(12/21)
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان، لقول سعيد بن جبير: "كان كعدل رقبة"، ولكن هل قوله حجة أم لا؟.
إن قيل: ليس بحجة، فكيف يقول المؤلف: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان؟!
فيقال: أنه إنما كان كذلك، لأنه إنقاذ له من رق الشرك، فهو كمن أعتقه، بل أبلغ. فهو من باب القياس، فمن أنقذ نفساً من الشرك، فهو كمن أنقذها من الرق لأنه أنقذه من رق الشيطان والهوى.
فائدة:
إذا قال التابعي: من السنة كذا، فهل يعتبر موقوفاً متصلاً ويكون المراد من السنة أي سنة الصحابة، أو يكون مرفوعاً مرسلاً؟ اختلف أهل العلم في هذا، فبعضهم قال: إنه يكون موقوفاً. وبعضهم قال: يكون مرفوعاً مرسلاً. وتقدم لنا أنه ينبغي أن يفصل في هذا، وإن التابعي إذا قاله محتجاً به، فإنه يكون مرفوعاً مرسلاً، أما إذا قاله في سياق غير الاحتجاج، فهذا قد يقال: إنه من باب الموقوف الذي ينسب إلى الصحابي.
التاسعة: أن كلام إبراهيم النخعي لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبدالله بن مسعود، وليس مراده الصحابة، ولا التابعين عموماً.(12/22)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) يعني: ما حكم هذا الفعل؟ الجواب هو مشرك، يعني: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك وقوله: (من تبرك) التبرك تفعل من البركة وهو طلب البركة.
والبركة مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة بروك أو من كلمة (برْكَة)، أما اشتقاقها من البروك: فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان، وأما اشتقاقها من البِرْكة: فالبرِْكَة: هي مجتمع الماء وهي تدل على كثرة الماء في هذا الموضع وعلى لزومه له وعلى ثباته فيه.
فيكون معنى البركة-إذاً- كثرة الشيء الذي فيه الخير وثباته ولزومه، فالتبرك هو طلب الخير الكثير وطلب ثباته وطلب لزومه، فتبرك يعني: طلب البركة.
(ق): والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك } [ص: 29]، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
أن يكون بأمر حسي معلوم، مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً.(13/1)
وقال أسيد بن حضير: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر"(1)، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر. وهناك بركات موهومة باطلة، مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلاناً الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنا لا تعدو أن تكون آثاراً حسية، بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ، فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة، فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة، فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره. ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيمية من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته. أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل، فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أن يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه(2).
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة / باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذاً خليلاً)، ومسلم: كتاب الحيض/ باب التميم.
(2) مجموع الفتاوى) (1/83).(13/2)
(تم): والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله -جل وعلا- وأن الله -جل وعلا- هو الذي يبارك، وأنه لا أحد من الخلق يبارك أحدا، قال سبحانه: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (الفرقان: من الآية1) يعني: عظم خير من نزل الفرقان على عبده، وكثر ودام وثبت وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } (الملك: من الآية1) وقال سبحانه: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاق } (الصافات: من الآية113)وقال: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } (مريم: من الآية31) فالذي يبارك هو الله -جل وعلا- فلا يجوز للمخلوق أن يقول باركت على الشيء أو أبارك فعلكم؛ لأن البركة وكثرة الخير ولزومه وثباته إنما ذلك من الذي بيده الأمر، وهو الله - عز وجل -. وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله -جل وعلا- البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة، وقد تكون مخلوقات آدمية، فهذان قسمان:
القسم الأول: أن الله تعالى بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام، وحول بيت المقدس كما قال سبحانه { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه } (الإسراء: من الآية1) ومعنى كون الأرض مباركة، أن يكون فيها الخير الكثير اللازم الدائم لها ليكون ذلك أشجع في أن يلازمها أهلها الذين دعوا إليها، وهذا لا يعني أبداً أن يتمسح بأرضها أو أن يتمسح بحيطانها، لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات.
فبركة الأماكن أو بركة الأرض ونحو ذلك بركة لازمة لا تنتقل بالذات يعني أنك إذا لامست الأرض أو دفنت فيها أو تبركت بها فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط.(13/3)
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته يعني ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى، يعني اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية من جهة تعلق القلوب بها وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها وأتاها وطاف بها وتعبد عندها وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل العبادة يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في استلامه له وفي تقبيله فإنه يناله به بركة الإتباع، وقد قال عمر - رضي الله عنه - لما قبل الحجر: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر).
فقوله: لا تنفع ولا تضر يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء تعبداً لله ولذلك قال (ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك) فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة وأما معنى كون الزمان مباركا مثل شهر رمضان أو بعض أيام الله الفاضلة، فيعني: أن من تعبد فيها ورام الخير فيها فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة.(13/4)
القسم الثاني: البركة المنوطة ببني آدم وهي البركة التي جعلها الله -جل وعلا- في المؤمنين من الناس، وعلى رأسهم: سادة المؤمنين من الأنبياء والرسل، فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية يعني أن أجسامهم مباركة فالله -جل وعلا- هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم -- عليه السلام -- مباركا، وجعل جسد نوح مباركا، وهكذا جسد عيسى وموسى -عليهم جميعا الصلاة والسلام- جعل أجسادهم جميعاً مباركة بمعنى أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم، إما بالتمسح بها أو بأخذ عرقها أو بالتبرك ببعض أشعارهم فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية وهكذا نبينا a بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - جسده أيضا جسد مبارك ولهذا ورد في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه، ويتبركون بشعره، وإذا توضأ اقتتلوا على وضوءه إلى آخر ما ورد في ذلك، ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء من بركتهم بركة ذاتية حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر فقد جاء بالتواتر القطعي أن الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما كانوا يتبركون بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بوضوئه أو بنخامته أو بعرقه أو بملابسه ونحو ذلك.
فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم) فدل هذا على أن في كل مسلم بركة وفي البخاري أيضاً قول أسيد بن حضير: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر) فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر هي بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان والى العلم والدعوة والعمل.(13/5)
فكل مسلم فيه بركة وهذه البركة ليست بركة ذات وإنما هي بركة عمل وبركة ما معه من الإسلام والإيمان وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله -جل وعلا- والإجلال له والاتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذه البركة التي في العلم أو العمل أو الصلاح لا تنتقل من شخص إلى آخر، وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا، ولا يجوز أن يتبرك بهم بمعنى يتمسح بهم أو يتبرك بريقهم؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا أمر مقطوع به.
فمعنى تبرك المشركين أنهم كانوا يرجون كثرة الخير ودوام الخير ولزوم الخير وثبات الخير بالتوجه إلى الآلهة، وهذه الآلهة يكون منها الصنم الذي من الحجارة، والقبر من التراب ويكون منها الوثن، والشجر، ويكون منها البقاع المختلفة كالغار أوعين ماء أو نحو ذلك فهذه التبركات المختلفة جميعها تبركات شركية، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله -: (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) والشجر جمع شجرة والحجر معروف ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار والأحجار التي يتبرك بها كثيرة.
(ق): قوله: قوله: "شجر" اسم جنس، فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.(13/6)
قوله: "وحجر"، اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس، فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد الله بمسحه وتقبيله، اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك تحصل بركة الثواب. ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك، ما قبلتك"(1). فتقبيله عبادة محضة خلافاً للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركاً بذلك.
(تم): قوله: (ونحوهما) يعني نحو الشجر والحجر مثل البقاع المختلفة أو غار معين أو قبر أو عين ماء أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة. فما حكم فاعل ذلك؟ الجواب أنه مشرك كما صرح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه [فتح المجيد (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)] حيث قال رحمه الله أي فهو مشرك.
لم يفصح الشراح في هذا الموضوع عن نوع شرك المتبرك بالشجر والحجر هل هو شرك أكبر أو شرك أصغر؟ وإنما أدار الشيخ سليمان -رحمه الله - المعنى في التيسير بعد أن ساق تفسير آية النجم { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } (النجم: 19) على الاحتمالين. فقال في آخره: مناسبة الآية للترجمة أنه إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر، وإن كان شركا أصغر، فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر.
__________
(1) سبق تخريجه.(13/7)
وتحقيق المقام أن التبرك بالشجر أو بالحجر أو بالقبر أو ببقاع مختلفة قد يكون شركا أكبر، وقد يكون شركا أصغر. فيكون شركا أكبر: إذا طلب بركتها معتقدا أنه بتمسحه بهذا الشجر أو الحجر أو القبر أو تمرغه عليه أو التصاقه به يتوسط له عند الله ، فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله فهذا اتخاذ إله مع الله -جل وعلا- وشرك أكبر، وهذا هو الذي كان يعتقده أهل الجاهلية بالأشجار والأحجار التي يعبدونها وفي القبور التي يتبركون بها يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها وتمسحوا بها أو نثروا ترابها على رؤسهم فإن هذه البقعة أو صاحب هذه البقعة أو الروحانية وهي الروح التي تخدم هذه البقعة أنه يتوسط له عند الله -جل وعلا- فهذا الفعل -إذاً- راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله -جل وعلا- وقد قال سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى } (الزمر: من الآية3).
ويكون التبرك شركا أصغر إذا كان يتخذ هذا التبرك بنثر التراب عليه أو إلصاق الجسم به أو التبرك بعين ونحوها، أسباباً لحصول البركة بدون اعتقاد أنها توصل وتقرب إلى الله يعني: أنه جعلها أسباباً فقط كما يفعل لابُس التميمة أو الحلقة أو الخيط فكذلك هذا المتبرك يجعل تلك الأشياء أسباباً، فإذا أخذ - من هذه حالُهُ- تراب القبر ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك به أي من جهة السببية فهذا شرك أصغر؛ لأنه لا يكون عبادة لغير الله جل علا وإنما اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا سببا، وأما إذا تمسح بها كما هي الحال الأولى وتمرغ والتصق بها لتوصله إلى الله -جل وعلا- فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.
ولهذا قال الشيخ سليمان كما تقدم: إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر في الاستدلال بالآية وإن كان شركا أصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال في مسائل الشرك الأصغر?(13/8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول? الله ?تعالى? { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثالثة الْأُخْرَى } الآيات (النجم: 19-20)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { أفرأيتم اللات والعزى } ، لما ذكر الله - - عز وجل - - المعراج بقوله: { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى.. } [النجم: 1-2]، قال: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم 18]، أي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: { الكبرى } : هل هي مفعول لـ { رأى } ، أو صفة لـ { آيات } ؟
وقوله: { الكبرى } قيل: أنها مفعول: لـ { رأى } ، والتقدير: لقد رأى من آيات الله الكبرى.
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.
وعلى الثاني: يكون المعنى أنه رأى بعض الآيات الكبرى، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة لـ { آيات } ، وليست مفعولاً لـ { رأى } ، إذا إن ما رآه ليس أكبر آيات الله . وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الآيات، قال: { أفرأيتم اللات والعزى - ومناة الثالثة الأخرى } ، أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء. والاستفهام: للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
(ف): وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبنى كنانة، ومناة لبنى هلال. وقال ابن هشام: كانت لهذيل وخزاعة.
فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس بتشديد التاء.
فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى، قالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً قال: وكذا العزى من العزيز.(13/9)
وقال ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت الطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن هشام: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
وعلى الثانية قال ابن عباس: كان رجلاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري قال ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاماً لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال: فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور. وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم.
قلت: لا منافاة بين القولين. فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليهاً وتعظيماً.
ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثاناً. وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام.(13/10)
وأما العزى فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - بين مكة والطائف - كانت قريش يعظمونها... كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم "(1) وروى النسائي(2) وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة - وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات - فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئاً، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال: تلك العزى قلت: وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد.
وأما مناة فكانت بالمشلل عند قُديد، بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج، وأصل اشتقاقها: من اسم الله المنان، وقيل: لكثرة ما يمنى - أي يراق - عندها من الدماء للتبرك بها.
قال البخاري رحمه الله ، في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: إنها صنم بين مكة والمدينة قال ابن هشام: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً فهدمها عام الفتح فمعنى الآية كما قال القرطبي: أن فيها حذفاً تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة، أنفعت أو ضرت، حتى تكون شركاء لله تعالى؟.
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي : ،حديث(4043)، باب غزوة أحد من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -.
(2) إسناده حسن : النسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف (4/235))وإسناده حسن من أجل الوليد بن جميع قال في التقريب(2/333) صدوق يهم.(13/11)
(ق): قوله: { الثالثة الأخرى } ، إشارة إلى أن التي تعظمونها، وتذبحون عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها: أنها أخرى بمعنى متأخرة، أي: ذميمة حقيرة، مأخوذة من قولهم: فلا أخر، أي: ذميم، حقير، متأخر. فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حلها بالنسبة لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لا شيء، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها اشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: "الآيات"، أي: أكمل الآيات بعدها.
قوله: "ألكم الذكر وله الأنثى"، هذا أيضاً استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسوداً، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله ، فيجعلون البنات لله - والعياذ بالله - ولهم ما يشتهون.
قوله: { تلك إذا قسمة ضيزى } ، ضيزى: جائرة، لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة، فاجعلوا لكم من البنات نصيباً، واجعلوا لله من البنين نصيباً، أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله، فهذه قسمة جائرة.
قوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم ما أنزل إله بها من سلطان } ، الضمير في { هي } يعود إلى الأصنام، أي: هذه الأصنام { اللات والعزى ومناة } التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان، أي: من حجة ودليل.(13/12)
بل أبطلها الله - سبحانه -، قال تعالى: { ذلك بان الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } [الحج: 62]. وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم، فهو العلم، وإن كان في مقام القدوة، فهو القدوة، وإن كان في مقام الأمر والنهي، فهو من له الأمر والنهي، فمثلاً قوله تعالى: { لا تنفذون إلا بسلطان } [الرحمن: 33]، أي: بقدرة وقوة، ومثل قوله تعالى: { ما أنزل الله بها من سلطان } [النجم: 23]، أي: من حجة وبرهان. وفي الحديث: "السلطان ولي من لا ولي له"(1)، أي: من له الأمر والنهي.
قوله: { إن يتبعون إلا الظن } ، { إن } هنا بمعنى ما، وعلامة إن التي بمعنى ما تأتي بعدها إلا، قال تعالى: { إن هذا إلا ملك كريم } [يوسف: 31]، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى: { إن هذا إلا قول البشر } [المدثر: 25]، أي: ما هذا إلا قول البشر، وقال تعالى: { إن يتبعون إلا الظن } [النجم: 23]، أي: ما يتبعون إلا الظن. والظن الذين يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى في آية أخرى.
قوله: { وما تهوى الأنفس } ، كذلك أيضاً يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما يهوى، فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى، فإنه لا يعبد الله حقاً، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23]، لكن الذي يعبد الله بالهدى لا بالهوى هو الذي على الحق.
قوله: { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ، أي: على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/47) وسنن أبي داود: كتاب النكاح/ باب في الولي، 2/568 ـ وسكت عنه ـ، والترمزي: كتاب النكاح / باب لا نكاح إلا بولي، رقم 1102 ـ وقال: (حديث حسن) ـ وصححه الألباني.(13/13)
مناسبة الآية للترجمة: أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها، يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك، ابتلاءً من الله وامتحاناً، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.
(تم): أن ما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأحجار والأشجار والغيران والقبور، ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة وأن الناس كانوا على شرك عظيم. وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة والتبرك بها الشيء الكثير وأعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها ويتعبد عندها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي واقِدٍ اللّيْثِيّ قالَ: خرجْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنَيْنٍ,ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سِدْرَةٍ يعْكُفُونَ عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذاتُ أنْواطٍ فمرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فقُلنا: يا رسول الله , اجْعَل لنا ذاتَ أنْواطٍ كَما لهم ذاتُ أنْواطٍ, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « الله أكْبَرُ!, إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كَمَا قَالتْ بَنُو إسْرائيلَ لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قال إنكم قوم تجهلون } (الأعراف: 138). لترْكَبُنَ سَنَنَ منْ كان قبْلِكُمْ» رواه الترمذي وصححه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/218)، والترمذي: أبواب الفتن/ باب ما جاء: (لتركبن سنن من كان قبلكم)، 6/343 ـ وقال (حسن صحيح) وصححه الألباني.(13/14)
(ف): قوله: (عن أبي واقد) اسمه الحارث بن عوف وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة.
(ق): قوله: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -"، أي: بعد غزوة الفتح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم كثير جداً. فقصدهم - صلى الله عليه وسلم - ومعه اثنا عشر ألفاً: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عنده سبحانه وليس بالكثرة، قال تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت... } الآيتين [التوبة: 25]، ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا في الوادي، فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق معه إلا نحو مئة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والحمد لله.
قوله: "حدثاء"، جمع حديث، أي: أننا قريبوا عهد بكفر، وإنما ذكر ذلك - رضي الله عنه - للاعتذار لطلبهم وسؤالهم، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.
قوله: "يعكفون عندها"، أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: { وأنتم عاكفون في المساجد } [البقرة: 187].
(ف): ومنه قول الخليل - عليه السلام -: '21: 52' " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركاً بها وتعظيماً لها وفي حديث عمرو كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله .
قوله: وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة.
قلت: ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها.(13/15)
(ق): قوله: "يقال: لها ذات أنواط"، أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها، فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركاً بها.
(ف): قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمى بها المنوط. ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به، وإلا فهم أجل قدراً من أن يقصدوا مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله أكبر وفي رواية سبحان الله والمراد تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن هذا الشرك بأي نوع كان، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيماً لله وتنزيهاً له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية.
(ق): لكن: "إنها السنن"، أي: الطرق التي يسلكها العباد.
قوله: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } "، أي: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده" المراد أن نفسه بيد الله ، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب، بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضاً، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها - - سبحانه وتعالى - -.(13/16)
(ف): ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله ، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلى من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيئ وهو الذنب الذي لا يغفره الله .
قال الحافظ أبو a عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث. انتهى.
وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله ، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد".(13/17)
وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً وطلبوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: ' 7: 138 ' { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟ ! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكبروا فعله واتخذوه قربة.
وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط. فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه. كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيماً ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه. وقس على ذلك.
قوله: لتركبن سنن من كان قبلكم بضم الموحدة وضم السين أي طرقهم ومناهجهم وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح. والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له.
وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الحديث: النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة a - صلى الله عليه وسلم -.
قال المصنف رحمه الله : (وفيه التنبيه على مسائل القبر، أما: من ربك؟ فواضح. وأما: من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما: ما دينك؟ فمن قولهم اجعل لنا إلهاً إلخ. وفيه: أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك، وفيه الغضب عند التعليم، وإن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قال لنا لنحذره) قاله المصنف رحمه الله .(13/18)
وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه:
منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا في حياته ولا بعد موته. ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة. فلا يجوز أن يقاس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد من الأمة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم في الأمر، بل رد عليهم بقوله: ( الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم) فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا).
التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله )، مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.(13/19)
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله (إنها السنن).
الثامنة عشرة: أن هذا عَلم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما (من ربك)؟ فواضح، وأما (من نبيك)؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك)؟ فمن قولهم: (اجعل لنا إلهاً) إلخ.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الأولى: تفسير آية النجم، أي: قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى - تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ.... } [النجم: 19- 23] الآية، وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وهو أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها، فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.(13/20)
الثالثة: كونهم لم يفعلوا، أي: لم يعلقوا أنواطاً على الشجرة، ويطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذلك.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، "بذلك"، أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا طلبوا ذلك من الرسول لتكتسب بهذا المعنى العبادة.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل، لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله ، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا نوع من اتخاذها إلهاً، فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس، لأن عمل الناس قد يكون عن جهل، فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [الحديد: 10]، فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة وأسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الطلب. بل رد عليهم بقول[ الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم].
السابعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وهي قوله: " الله أكبر"، وقوله: "إنها السنن"، وقوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظاماً للأمر الذي طلبوه، و"أنها السنن": تحذير، و"لتركبن سنن من كان قبلكم" كذلك أيضاً تحذير.(13/21)
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد، لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلهاً شرك واضح.
التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، أي: أن نفي التبرك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله ، فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله ، وتنفي الألوهية عما سوى الله - - عز وجل - -، فكذلك البركة لا تكون من غير الله - - سبحانه وتعالى - -.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة، أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف على الفتيا في قوله: "قلتم، والذي نفسي بيده"، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحلف إلا لمصلحة، أو دفع مضرة ومفسدة، فليس ممن يحلف على أي سبب يكون، كما هي عادة بعض الناس.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها، بل للتبرك بها، والشرك فيه أصغر وأكبر، وفيه خفي وجلي.
فالشرك الأكبر: ما يخرج الإنسان من الله .
والشرك الأصغر: ما دون ذلك.
لكن كلمة { ما دون ذلك } ليس ميزاناً واضحاً.
ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين:
القول الأول: أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل: "من حلف بغير الله ، فقد أشرك"(1)، فالشرك هنا اصغر، لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/125)، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان / باب من كراهية الحلف بالآباء ـ وسكت عنه ـ، والترمذي: النذور / باب كراهية الحلف بغير الله تعالى ـوحسنه ـ(13/22)
القول الثاني: أن الشرك الأصغر: ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل: أن يعتمد الإنسان على شيء كاعتماده على الله ، لكنه لم يتخذه إلهاً، فهذا شرك أصغر، لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول، لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك دليل، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك، وربما نقول على هذا التعريف: إن المعاصي كلها شرك أصغر، لأن الحامل عليها الهوى، وقد قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ من إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23]، ولهذا أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرك على تارك الصلاة، مع أنه لم يشرك، فقال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة"(1).
فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقول إن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، وسبق وجه ذلك.
الجلي والخفي، فبعضهم قال: إن الجلي والخفي هو الأكبر والأصغر، وبعضهم قال: الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر، كالحلف بغير الله ، والسجود للصنم.
والخفي: ما لا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر، كالرياء، واعتقاد أن مع الله إلهاً آخر.
وقد يقال: إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركاً، ولو كان أصغر، والخفي: ما سوى ذلك.
وأيهما الذي لا يغفر؟
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان / باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.(13/23)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الشرك لا يغفره الله لو كان أصغر، لعموم قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116]، و { أن يشرك به } مؤول بمصدر تقديره: شركاً به، وهو نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم. وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن المراد بقوله: { إن يشرك به } هو الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة، فإنه تحت المشيئة، وعلى كل، فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً".
الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر..."، معناه: أنه يعتذر عما طلبوا، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه، فلا يجهل ذلك.
وعلى هذا، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه، ويدل لذلك حديث صفية حين شيعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف، فمر رجلان من الأنصار، فقال: "إنها صفية بنت حيي"(1).
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب.. إلخ، تؤخذ من قوله: " الله أكبر"، أي: الله أكبر وأعظم من أن يشرك به، وفي رواية الترمذي أنه قال: "سبحان الله "، أي: تنزيهاً لله عما لا يليق به.
الرابعة عشرة: سد الذرائع، الذرائع: الطرق الموصلة إلى الشيء، وذرائع الشيء: وسائله وطرقه.
والذرائع نوعان:
ذرائع إلى أمور مطلوبة، فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ذرائع إلى أمور مذمومة، فهذه تسد، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتكاف / باب هل يخرج المعتكف، ومسلم: كتاب السلام / باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة...(13/24)
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها، يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، تؤخذ من قوله: "قلتم كما قالت بنو إسرائيل"، فأنكر عليهم، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين، فهو من أهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم، والحديث ليس بصريح في ذلك، وربما يؤخذ من قرائن قوله: " الله أكبر إنها السنن...."، لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: "إنها السنن"، أي: الطرق، وأن هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها، وهذا لا يعني الحل والإباحة، ولكنه للتحذير، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"، وقال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير..."(1) الحديث، وقال: "إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله "(2)، وما أشبه ذلك من الأمور التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقوعها مع تحريمها.
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكون وقع كما أخبر، يعني اتباع سنن من كان قبلنا.
فإن قال قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خطب الناس بعرفة، وقال: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"(3)، فكيف تقع عبادته.
__________
(1) البخاري تعليقا: كتاب الأشربة /باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه.
(2) البخاري: كتاب المناقب / باب علامات النبوة.
(3) مسلم: كتاب صفات المنافقين /باب تحريش الشيطان.(13/25)
فالجواب: أن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان، لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك، وهذا نقوله ولا بد، لئلا يقال: إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة العربية لا يمكن أن تكون شركاً، ومعلوم أن الشيخ a بن عبد الوهاب رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك وغير المشرك. فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع، وهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا، هذا ليس على إطلاقه وظاهرة بل يحمل قوله: "لنا"، أي: لبعضنا، ويكون المراد به المجموع لا الجميع، كما قال العلماء في قوله تعالى: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } [الأنعام: 130]، والرسل كانوا من الإنس فقط.
فإذا وقع تشبه باليهود والنصارى، فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا، وما من أحد من الناس غالباً إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى، فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود، والذي يعبد الله على ضلالة فيه شبه من النصارى، والذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود، وهلم جرأ.
وإن كان يقصد رحمه الله أنه لا بد أن يكون في الأمة خصلة، فهذا على إطلاقه وظاهره، لأنه قل من يسلم. وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود والنصارى، فهو لهذه الأمة على سبيل العموم، فلا.(13/26)
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر... الخ"، وهذا واضح، فالعبادات مبناها على الأمر، فما لم يثبت فيه أمر الشارع، فهو بدعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد"(1)، وقال: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(2).
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل على مشروعيتها. وأما الأكل والمعاملات والآداب واللباس وغيرها، فالأصل فيها الإباحة، إلا ما قام الدليل على تحريمه.
وقوله: "مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟". ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث، وليس مراده أن فيها دليلاً على أن الإنسان يسأل في قبره، بل فيها دليل على إثبات الربوبية والنبوة والعبادة. أما "من ربك"، فواضح، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى. وأما "من نبيك" فمن إخباره بالغيب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"(3)، فوقع كما أخبر.
أما "ما دينك"، فمن قولهم: { اجعل لنا إلهاً } ، أي: مألوهاً معبوداً، والعبادة هي الدين. والمؤلف a بن عبد الوهاب رحمه الله فهمه دقيق جداً لمعاني النصوص، فأحياناً يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين، تؤخذ من قوله: "كما قالت بنو إسرائيل لموسى".
__________
(1) مسلم: كتاب الأقضية /باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) مسند الإمام أحمد (4/126)، وسنن أبي داود: كتاب السنة /باب لزوم السنة، 5/13، والترمذي: العلم /باب الأخذ بالسنة، رقم 2678-وقال: (حسن صحيح) –وصححه الألباني.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتتبعن سنن من كان قبلكم) حديث (7320) ومسلم في كتاب العلم باب: إتباع سنن اليهود والنصارى، حديث (2669).(13/27)
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العبادة، وهذا صحيح، فالإنسان المنتقل من شيء، سواء كان باطلاً أو لا، لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا
تزول إلا بعد مدة، لقول: "ونحن حدثاء عهد بكفر"، فكأنه يقول: ما سألناه إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية،
ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة، لئلا يعود إليها. فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر والشرك والفسوق، حتى لا يقع في قلبه شيء منها.(13/28)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في الذبح لغير الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): قول الشيخ -رحمه الله -: باب: ما جاء في الذبح لغير الله ، الذبح معروف، وهو إراقة الدم. وقوله (لغير الله ): يعني: متقربا به إلى غير الله ، أي ذبح لأجل غير الله ، والذبح فيه شيئان مهمان، وهما نكتة هذا الباب وعقدته.
الأول: الذبح بسم الله ، أو الذبح بالإهلال باسم ما.
والثاني: أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه؛ فإذا ثَمَّ تسمية، وثم القصد وهما شيئان.
أما التسمية فظاهر أن ما ذكر عليه اسم الله فإنه جائز كما قال الله تعالى { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ } (الأنعام: 118)، وأن ما لم يذكر اسم الله عليه فهذا الذي أُهِلَّ لغير الله ، يعني: ذكر غير اسم الله عليه، فهذا مما أهل لغير الله به كما في قوله تعالى: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } (البقرة: من الآية173) وقوله { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } (المائدة: من الآية3).
فالتسمية على الذبيحة من جهة المعنى استعانة، فإذا سمَّى الله : فإنه استعان في هذا الذبح بالله -جل وعلا-؛ لأن الباء في قولك: بسم الله يعني: أذبح متبركا ومستعينا بكل اسم لله -جل وعلا-، أو بالله -جل وعلا- الذي له الأسماء الحسنى.
فجهة التسمية إذاً جهة استعانة، وأما القصد فهذه جهة عبودية، ومقاصد فمن ذبح باسم الله لله كانت الاستعانة بالله، والقصد من الذبح أنه لوجه الله ، تقرب لله -جل وعلا- فصارت الأحوال عندنا أربعة:
1.أن يذبح باسم الله ، لله، فهذا هو التوحيد.
2.أن يذبح باسم الله لغير الله ، وهذا شرك في العبادة.
3.أن يذبح باسم غير الله لغير الله ، وهذا شرك في الاستعانة، وشرك في العبادة -أيضا-.
4.أن يذبح بغير اسم الله ، ويجعل الذبيحة لله، فهذا شرك في الربوبية.(14/1)
فإذن الأحوال عندنا أربعة، إما أن يكون هناك تسمية بالله مع القصد لله -جل وعلا- وحده، وهذا هو التوحيد، وهو العبادة، فالواجب أن يذبح لله قصدا تقربا، وأن يسمي الله -جل وعلا- على الذبيحة، فإن لم يسم الله -جل وعلا-، وترك التسمية عمدا، فإن الذبيحة لا تحل، وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله -جل وعلا-، ولا التقرب لغيره، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده، أو لأجل أن يأكلها، يعني: ذبحها لقصد اللحم، لم يقصد بها التقرب، فهذا جائز، وهو من المأذون فيه؛ لأن الذبح لا يشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله - جل وعلا-.
فالحاصل من الحالة الأولى أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب، وأن يكون قصد الذابح بها التقرب إلى الله إن كان - قد نوي بها تقربا - وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي، أو يذبح من الهدي، ونحو ذلك مما يذبحه المرء تعظيما لله - جل وعلا - مما أمر به شرعا، فهذا الذي تذبحه لله، تقصد التقرب به إليه -سبحانه- فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله -جل وعلا-، وهي عبادة النحر والذبح.
لكن قد يذبح المرء باسم الله ، ولكن يقول: أريدها للأضياف، أو أريدها للحم، يعني للأكل، ولم أتقرب بها لغير الله ، وأيضا لم أتقرب بها لله، فنقول: هذه الحالة جائزة؛ لأنه سمى وقال باسم الله ، ولم يذبح لغير الله ، فليس داخلا في الوعيد، ولا في النهي، بل ذلك من المأذون فيه.
الحالة الثانية: أن يذبح باسم الله ، ويقصد بذلك التقرب لغير الله ، فيقول -مثلا-: باسم الله ، وينحر الدم، وهو ينوي بإزهاق النفس، وبإراقة الدم ينوي التقرب لهذا العظيم المدفون، أو لهذا النبي، أو لهذا الصالح فهذا وإن ذكر اسم الله ، فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمدفون، وتعظيما لغير الله ، ويدخل في ذلك أيضاً أن يذكر اسم الله على الذبيحة، أو على المنحور، ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان، أو للملك، أو لأمير ما، كما يحدث عند بعض البادية.(14/2)
وكذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكا قادما، أو أميرا، أو سلطانا، أو شيخ قبيلة، فإنهم يستقبلونه بالجمال، أو بالبقر، أو بالشياه، ويذبحونها في وجهه؛ فيسيل الدم عند إقباله فهذا الذبح، وإن سمى الله عليه، فإن الذبيحة قصد بها غير الله -جل وعلا-، ولذا أفتى العلماء بتحريمها؛ لأن فيها إراقة دم لغير الله -جل وعلا- فلا يجوز أكلها، ومن باب أولى قبل ذلك لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله -جل وعلا- وحده؛ لأنه -سبحانه- هو الذي يستحق العبادة، والتعظيم بهذه الأشياء وحده، فهو الذي أجرى الدماء في العروق -- سبحانه وتعالى --.
الحالة الثالثة: أن يذكر غير اسم الله على الذبيحة، وأن يقصد بها غير الله -جل وعلا- فيقول -مثلا-: باسم المسيح، ويحرك يده، ويقصد بها التقرب للمسيح، فهذا الذبح جمع شركا في الاستعانة، وشركا في العبادة، ومثله الذين يذبحون باسم البدوي، أو باسم الحسين، أو باسم السيدة زينب، أو باسم العيدروس، أو باسم الميرغياني، أو غيرهم من الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة، فيذبح باسمهم، ويقصد بذبحه هذا المخلوق، وينوي حين ذبح أن يريق الدم تقربا لهذا المخلوق، فهذا الشرك جاء من جهتين:
الجهة الأولى: جهة الاستعانة.
والجهة الثانية: جهة العبودية والتعظيم وإراقة الدم لغير الله -جل وعلا-.
والحالة الرابعة: أن يذبح باسم غير الله ، ويجعل ذلك لله -جل وعلا-، وهذا نادر الوقوع، وربما يحصل كمن يذبحون لمعظميهم كالبدوي، أو العيدروس، أو الشيخ عبد القادر أو غيرهم، فينوون بذلك الذبح التقرب إلى الله -جل وعلا-، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة، والشرك في العبادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - في معرض كلام له في هذه المسائل قال: "ومعلوم أن الشرك في العبودية أعظم من الاستعانة بغير الله "، فهذه المراتب كلها شرك بالله -جل وعلا-.(14/3)
والصورة المتقدمة في الحالة الثانية وهي أن يذبح لسلطان، ونحوه، فبعض العلماء لم يطلق القول عليها بأنها شرك، وإنما قال: تحرم لأجل أنه قد لا يقصد بذلك تعظيم المذبوح له كتعظيم الله -جل وعلا-.
فالمقصود أن قصد غير الله بالذبح شرك في العبودية، وذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة؛ ولهذا قال - جل وعلا -: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } (الأنعام: 121) يعني: إن أطعتموهم في الشرك، فإنكم مشركون كما أنهم مشركون.
وأنبه هنا على مسألة مهمة وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا واستدلالا وبيان وجه الاستدلال من الأمور الدقيقة، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبِّر، وأيضا من جهة المتلقي.
أقول هذا لأن بعض الناس قد استشكلوا بعض العبارات، ومدار الاستشكال: أنهم لم يدققوا ولم يقيدوا ما يقال، فهم إما أن يحذفوا قيدا، أو يحذفوا كلمة، أو يأخذوا المعنى الذي دل عليه الكلام، ويعبر عنه بطريقتهم، وهذا غير مناسب؛ لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها، ولها قيودها، وأيضا فإن بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، ويكون المتلقي قد سمع أحد أحوال المسألة، وهي تحتمل تفصيلاً، لكن كان الكلام فيها مجملاً ومن المعلوم أن الكلام في مقام الاجمال غير الكلام في مقام التفصيل.(14/4)
(ق): وقوله في الترجمة: "باب ما جاء في الذبح لغير الله "، أشار إلى الدليل دون الحكم، ومثل هذه الترجمة يترجم بها العلماء للأمور التي لا يجزمون بحكمها، أو التي فيها تفصيل، وأما الأمور التي يجزمون بها، فإنهم يقولونها بالجزم، مثل باب وجوب الصلاة، وباب تحريم الغيبة، ونحو ذلك. والمؤلف رحمه الله تعالى لا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربية العلمية، فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحاً، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (الأنعام: 162-163)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { قل } : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قل لهؤلاء المشركين معلناً لهم قيامك بالتوحيد الخالص، لأن هذه السورة مكية.
قوله: { إن صلاتي } ، الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة لله ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
قوله: { ونسكي } ، النسك لغة: العبادة، وفي الشرع: ذبح القربان. فهل تحمل هذه الآية على المعنى اللغوي أو على المعنى الشرعي؟ سبق أن ما جاء في لسان الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية، كما أن ما جاء في لسان العرف، فهو محمول على الحقيقة العرفية وفي لسان العرب على الحقيقة اللغوية. فعندما أقول لشخص: عندك شاة؟ يفهم الأنثى من الضأن، لكن في اللغة العربية الشاة تطلق على الواحدة من الضأن والمعز، ذكراً كان أو أنثى، وعلى هذا، فيحمل النسك في الآية على المعنى الشرعي.(14/5)
(تم): والنسك في قوله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } (الأنعام: من الآية162)هو الذبح، أو النحر يعني: التقرب بالدم، والتقرب بالدم لله -جل وعلا- عبادة عظيمة؛ لأن الذبائح أو المنحورات، من الإبل، أو البقر، أو الغنم أو الضأن، مما تعظم في نفوس أهلها، ونحرها تقربا إلى الله -جل وعلا-، والصدقة بها عبادة عظيمة فيها إراقة الدم لله، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله -جل وعلا-، وفيها حسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وفيها التخلص من الشح، والرغب فيما عند الله -سبحانه- بإزهاق نفس عزيزة عند أهلها، ولهذا كان النحر والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله -جل وعلا-.
وقد دلت هذه الآية على أن النحر والصلاة عبادتان؛ لأنه جعل النسيكة لله، والله -جل وعلا- له من أعمال خلقه العبادات؛ فدل قوله: "ونسكي" على أن النسك عبادة من العبادات، وأنه مستحق لله -جل علا-.
(ق): وقيل: تحمل على المعنى اللغوي، لأنه أعم، فالنسك العبادة، كأنه يقول: أنا لا أدعو إلا الله ، ولا أعبد إلا الله ، وهذا عام للدعاء والتعبد. وإذا حملت على المعنى الشرعي، صارت خاصة في نوع من العبادات، وهي: الصلاة، والنسك، ويكون هذا كمثال، فإن الصلاة أعلى العبادات البدنية، والذبح أعلى العبادات المالية، لأنه على سبيل التعظيم لا يقع إلى قربة، هكذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة. ويحتاج إلى مناقشة في مسألة أن القربان أعلى أنواع العبادات المالية، فإن الزكاة لا شك أنها أعظم، وهي عبادة مالية. وهناك رأي ثالث يقول: إن الصلاة هي الصلاة المعروفة شرعاً، والنسك: العبادة مطلقاً، ويكون ذلك من عطف العام على الخاص.(14/6)
(تم): واللام هنا في قوله: { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام: من الآية162)متعلقة بمحذوف خبر إن في قوله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } (الأنعام: من الآية162) وهي تفيد الاستحقاق واللام في اللغة تأتي لمعاني واستعمالات فتأتي للملك كما في قوله تعالى: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } (الكهف: من الآية79)يعني: يملكونها، وتأتي للاختصاص، وهو شبه الملك، وتأتي للاستحقاق كما في قوله تعالى { الحمد لله } يعني: أن جميع أنواع المحامد مستحقة لله، فكذلك اللام في قوله سبحانه: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } (الأنعام: من الآية162) والمعنى أنها مستحقة لله -جل وعلا-.
واللام في قوله سبحانه: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } (الأنعام: من الآية162)مع أنها واحدة، لكن يكون برجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات، فإن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّه } والمحيا والممات يعني: الإحياء والإماتة، وهذه بيد الله -جل وعلا- وملك له فهو الذي يملكها -- سبحانه وتعالى --؛ لأنها من أفراد ربوبيته -جل وعلا- على خلقه.
فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية، وعلى توحيد الربوبية فقوله: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } يدل على توحيد العبادة، وقوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } يدل على توحيد الربوبية واللام في قوله { لِلَّه } إذا أرجعتها للأوليين وهما الصلاة والنسك كان معناها الاستحقاق، وإذا أرجعتها للأخير كان معناها الملك؛ ولهذا يقول أهل التفسير هنا: قل إن صلاتي ونسكي لله استحقاقا، ومحياي ومماتي لله ملكا وتدبيرا وتصرفا(14/7)
(ق): قوله: { لله } ، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية، وأصله: الإله، فحذفت الهمزة، لكثرة الاستعمال تخفيفاً. وهو بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، مثل غراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: المحبوب المعظم.
قوله: { رب العالمين } ، المراد بـ { العالمين } : ما سوى الله ، وسمي بذلك، لأنه علم على خالقه. قال الشاعر:
فوا عجباً كيف يعصى الإله
وفى كل شيء له آيةڑأم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد
وهي تطلق على العالمين بهذا المعنى، وتطلق على العالمين في وقت معين، مثل قوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين } [البقرة: 47]، يعني: عالمي زمانهم. والرب هنا: المالك المتصرف، وهذه ربوبية مطلقة.
الآية الثانية: قوله: { لا شريك له } ، الجملة حالية من قوله: ( الله )، أي: حال كونه لا شريك له، والله - سبحانه- لا شريك له في عبادته ولا في ربوبيته ولا أسمائه وصفاته، ولهذا قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11]. وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أو عيسى بن مريم - عليه السلام -، وكذلك بعض غلاة الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق، كقول بعضهم يخاطب ممدوحاً له:
فكن كمن شئت يا من لا شبيه لهڑوكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي
فإن من جودك الدنيا وضرتهاڑسواك عند حلول الحادث العمم
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا من أعظم الشرك، لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول، ومقتضاه أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء. وقال: إن "من علومك علم اللوح والقلم"، يعنى: وليس ذلك كل علومك، فما بقي لله علم ولا تدبير -والعياذ بالله-.(14/8)
قوله: { بذلك } ، الجار والمجرور متعلق بـ { أمرت } ، فيكون دالاً على الحصر والتخصيص، وإنما خص بذلك، لأنه أعظم المأمورات، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أن من أخلص لله تعالى، فسيقوم بعبادة الله - - سبحانه وتعالى - - في جميع الأمور.
قوله: { أمرت } ، إبهام الفاعل هنا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا، فمن المعلوم أن الآمر هو الله تعالى.
قوله: { وأنا أول المسلمين } ، يحتمل أن المراد الأولية الزمنية، فيتعين أن تكون أولية إضافية ويكون المراد أنا أول المسلمين من هذه الأمة، لأنه سبقه في الزمن من أسلموا. ويحتمل أن المراد الأولية المعنوية، فإن أعظم الناس إسلاماً وأتمهم انقياداً هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الأولية أولية مطلقة.
ومثل هذا التعبير يقع كثيراً أن تقع الأولية أولية معنوية، مثل أن تقول: أنا أول من يصدق بهذا الشيء، وإن كان غيرك قد صدق قبلك، لكن تريد أنك أسبق الناس تصديقاً بذلك، ولن يكون عندك إنكاراً أبداً، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أولى بالشك من إبراهيم حينما قال: { رب أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260]"، فليس معناه أن إبراهيم شاك، لكن إن قدر أن يحصل شك، فنحن أولى بالشك منه وإلا، فلسنا نحن شاكين، وكذلك إبراهيم ليس شاكاً.
قوله: { المسلمين } ، الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان، لأن المراد به الاستسلام لله ظاهراً وباطناً، ويدل لذلك قوله تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله } [البقرة: 112]، وهذا إسلام الباطن.
وقوله: { وهو محسن } ، هذا إسلام الظاهر، وكذا قوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [آل عمران: 85] يشمل الإسلام الباطن والظاهر، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، قال تعالى: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } [التوبة: 72].(14/9)
ومتى وجد الإيمان حقاً لزم من وجوده الإسلام. وأما إذا قرنا جميعاً صار الإسلام في الظاهر والإيمان في الباطن، مثل حديث جبريل، وفيه: أخبرني عن الإسلام، فأخبره عن أعمال ظاهرة، وأخبرني عن الإيمان، فأخبره عن أعمال باطنة. وكذا قوله تعالى: { قالت الأعرب آمناً قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14]
والشاهد من الآية التي ذكرها المؤلف: أن الذبح لابد أن يكون خالصاً لله.
(ف): قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته. لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والإنحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى. قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة. وقال الثوري عن السدى عن سعيد ابن جبير: ونسكي ذبحي. وكذا قال الضحاك. وقال غيره " ومحياي ومماتي " أي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح " لله رب العالمين " خالصاً لوجهه " لا شريك له وبذلك " الإخلاص " أمرت وأنا أول المسلمين " أي من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم.
قال ابن كثير: وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: ' 21: 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وذكر آيات في هذا المعنى.
ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه أتنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته، ظاهر في قوله: " لا شريك له " نفي أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح.(14/10)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (الكوثر: 2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثالثة: قوله: { فصل } ، الفاء للسببية عاطفة على قوله: { إنا أعطيناك الكوثر } [الكوثر: 1]، أي: بسبب إعطائنا لك ذلك صل لربك وانحر شكراً لله تعالى على هذه النعمة. والمراد بالصلاة هنا الصلاة المعروفة شرعاً.
وقوله: { وانحر } ، المراد بالنحر: الذبح، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك له، فأفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة.
وقوله: { وانحر } ، مطلق، فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا والعقائق، فهذه الثلاثة يطلب من الإنسان أن يفعلها. أما الهدايا، فمنها واجب، ومنها مستحب، فالواجب كما في التمتع: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } [البقرة: 196] وكما في حلق الرأس: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، وكما في المحصر: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى } [البقرة: 196]، هذا إن صح أن نقول: إنها هدي، ولكن الأولى أن نسميها فدية كما سماها الله - - عز وجل - -، لأنها بمنزلة الكفارة.
وأما الأضاحي، فاختلف العلماء فيها: فمنهم من قال: إنها واجبة. ومنهم من قال: إنها مستحبة.(14/11)
وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يكره للقادر تركها. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء، وأما الأموات، فليس من المشروع أن يضحي لهم استقلالاً، إلا إن أوصوا به، فعلى ما أوصوا به لأن ذلك لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما العقيقة: وهي التي تذبح عن المولود في يوم سابعه إن كان ذكراً فاثنتان، وإن كان أنثى فواحدة، وتجزئ الواحدة مع الإعسار في الذكور. وهي سنة عند أكثر أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته"(1).
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله والى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: " قل إن صلاتي ونسكي " الآية والنسك الذبيحة لله تعالى إبتغاء وجهه. فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر. وأجل العبادات البدنية: الصلاة، وأجل العبادات المالية: النحر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص، من قوة اليقين وحسن الظن: أمر عجيب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير الصلاة، كثير النحر.أ.هـ.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/7)، والترمذي: كتاب الأضحية /باب في العقيقة ـ وقال: (حديث حسن صحيح)، وصححه الألباني في الإرواء، 4/385، وفي صحيح الجامع (4541).(14/12)
قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيراً، فمن ذلك الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى، والإقبال عليه بالقلب، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شيئ لغير الله : وكذلك النسك يتضمن أموراً من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن عَلِيّ - رضي الله عنه - قال حَدّثَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ. " لَعَنَ الله مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله ، لَعَنَ الله مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ.. َلعَنَ الله مَنْ آوَىَ مُحْدِثاً. لَعَنَ الله مَنْ غَيّرَ مَنَارَ الأَرْضِ" رواه مسلم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وعن علي بن أبي طالب قال: " حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق وفيه قصة.
ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال قلنا لعلى: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما أسر إلى شيئاً كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض، يعنى المنار.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي باب (تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله)حديث (1978).(14/13)
وعلى بن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة الزهراء، كان من أسبق السابقين الأولين ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة - رضي الله عنه -، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين.
(ق): قوله: "كلمات": جمع كلمة، والكلمة في اصطلاح النحويين: القول المفرد. أما في اللغة، فهي كل قول مفيد، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"(1)، وقال تعالى: { كلا إنها كلمة هو قائلها } ، وهي قوله: { رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [المؤمنون: 99-100]. قال شيخ الإسلام: لا تطلق الكلمة في اللغة العربية إلا على الجملة المفيدة.
قوله: "لعن الله "، اللعن من الله : الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، فإذا قيل: لعنه الله ، فالمعنى: طرده وأبعده عن رحمته، وإذا قيل: اللهم العن فلاناً، فالمعنى أبعده عن رحمتك واطرده عنها.
(ف): قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقائق باب "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك "حديث (6489).(14/14)
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلى سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى: ' 33: 43، 44 ' { هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام } وقال: ' 33: 64 ' { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً } وقال: ' 33: 61 ' { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل - عليه السلام - وبلغه رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم. فالله تعالى هو المصلى وهو المثيب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة. قال الإمام أحمد رحمه الله : لم يزل الله متكلماً إذا شاء.
(ق): قوله: "من ذبح لغير الله "، عام يشمل من ذبح بعيراً، أو بقرة، أو دجاجة، أو غيرها.
قوله: "لغير الله "، يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي، أو ملك، أو جنى، أو غيرهم.(14/15)
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ' 2: 173 ' " وما أهل به لغير الله " ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله ، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للصنم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله . فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله . وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم، وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال. لكن يجتمع في الذبيحة مانعان:
الأول: أنه مما أهل به لغير الله .
والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ذبائح الجن(1) أ.هـ.
قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك.
وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله .
__________
(1) موضوع: رواه البيهقي في سننه (9/314) عن أبي هريرة مرفوعاً وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وحكم بوضعه الشيخ الألباني في الضعيفة (240)وقال : (فالعمدة في النهي عن هذه الذبائح الأحاديث الصحيحة في النهي عن الطيرة والله أعلم) أ.هـ.(14/16)
(ق): وقوله: "لعن" يحتمل أن يكون الجملة خبرية، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن الله لعن من ذبح لغير الله ، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر، أي: اللهم العن من ذبح لغير الله ، والخبر أبلغ، لأن الدعاء قد يستجاب، وقد لا يستجاب.
قوله: "والديه"، يشمل الأب والأم، ومن فوقهما، لأن الجد أب، كما أن أولاد الابن والبنت أبناء في وجوب الاحترام لأصولهم. والمسألة هنا ليست مالية، بل هي من الحقوق، ولعن الأدنى أشد من لعن الأعلى، لأنه أولى بالبر، ولعنه ينافي البر.
قوله: "من لعن والديه"، أي: سبهما وشتمهما، فاللعن من الإنسان السب والشتم، فإذا سببت إنساناً أو شتمته، فهذا لعنه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"(1). وأخذ الفقهاء من هذا الحديث قاعدة، وهي: أن السبب بمنزلة المباشرة في الإثم، وإن كان يخالفه في الضمان على تفصيل في ذلك عند أهل العلم.
قوله: "من آوى محدثاً"، أي: ضمه إليه وحماه، والإحداث: يشمل الإحداث في الدين، كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة، وغيرهم. والإحداث في الأمر: أي في شؤون الأمة، كالجرائم وشبهها، فمن آوى محدثاً، فهو ملعون، وكذا من ناصرهم، لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه، فمن ناصره، فهو أشد وأعظم. والمحدث أشد منه، لأنه إذا كان إيواؤه سبباً للعنة، فإن نفس فعله جرم أعظم. ففيه التحذير من البدع والإحداث في الدين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"، وظاهر الحديث: ولو كان أمراً يسيراً.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (باب لا يسب الرجل والديه، حديث (5973)، ومسلم كتاب الإيمان باب بيان الكبائر أكبرها حديث (90).(14/17)
(ق): قوله: "منار الأرض"، أي: علاماتها ومراسيمها التي تحدد بين الجيران، فمن غيرها ظلماً، فهو ملعون، وما أكثر الذين يغيرون منار الأرض، لا سيما إذا زادت قيمتها، وما علموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه من سبع أرضين"(1)، فالأمر عظيم، مع أن هذا الذي يقتطع من الأرض ويغير المنار، ويأخذ ما لا يستحق لا يدري: قد يستفيد منها في دنياه، وقد يموت قبل ذلك، وقد يسلط عليه آفة تأخذ ما أخذ. فالحاصل: أن هذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب، ولهذا قرنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك وبالعقوق وبالإحداث، مما يدل على أن أمره عظيم، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه، وأن يخاف الله - - سبحانه وتعالى - - حتى لا يقع فيه.
(ف): ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين.وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان:
أحدهما: أنه جائز. اختاره ابن الجوزي وغيره.
ثانيهما: لا يجوز، اختاره، أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله - عز وجل -. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله (عن طارق بن شهاب).
(ف): وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمس، أبو عبد الله . رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أحمد في الزهد.(14/18)
قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً. قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي فهو صحابي. وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته - على ما جزم به ابن حبان - سنة ثلاث وثمانين.
قوله: "دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجله".
قوله: قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله كأنهم تقالوا ذلك، وتعجبوا منه. فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيماً يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
قوله: "فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم" ، الصنم ما كان منحوتاً على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر.
قوله: لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئاً وإن قل.
قوله: قالوا له قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك، ولو في شيئ قليل، وأنه يوجب النار. كما قال تعالى: ' 5: 72 ' " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
(تم): ووجه الدلالة منه أن التقريب للصنم بالذبح كان سببا لدخول النار، وذلك أن ظاهر المعنى يدل أن من فعله كان مسلما، وإنه دخل النار بسبب ما فعل، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك أكبر لأن ظاهر قوله: (دخل النار) يعني: استوجبها مع من يخلد فيها.(14/19)
وفيه وجه آخر للدلالة وهو أنه إذا كان تقريب هذا الذي لا قيمة له -وهو الذباب- سبباً في دخول النار فإنه يدل على أن من قرَّب ما هو أبلغ وأعظم منفعة، عند أهله، وأغلى أنه سبب أعظم لدخول النار، وقولهم هنا: "قرِّب" يعني: اذبح تقربا، والملاحظ هنا في هذا الحديث إنه لم يدل على أنهم أكرهوه على هذا الفعل؛ لأنه قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا) فظاهر قوله: (لا يجوزه أحد) يعني: أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عن ذلك الطريق حتى يقرب، وهذا ليس إكراها، إذ يمكن أن يقول: سأرجع من حيث أتيت، ولا يجوز ذلك الموضع، ويتخلص من آذاهم.
فهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك، فلا يدخل هذا في قوله: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } (النحل: من الآية106)؛ لأنه ليس في الحديث دلالة -كما هو ظاهر- على حصول الإكراه، وإنما قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا) فما صفة عدم السماح، بعدم المجاوزة، هل هي أنه لا يجوزه حتى يقتل، أو يقرب؟ أو لا يجوزه حتى يقرب، أو يرجع؟
استظهر بعض العلماء من قتلهم لأحد الرجلين أن المعنى أنه لا يجوزه حتى يقرب أو يقتل، وأن هذا علم بالسياق، فصار ذلك نوع إكراه؛ فلهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالا على أن من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مكره.
والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا الحديث على هذا القول، وما فيه من عدم إعذار المكره ولو بالقتل كان في شرع من قبلنا أما رفع الإكراه أو جواز قول كلمة الكفر، أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فهذا خاص بهذه الأمة، هذا ما أجاب به بعض أهل العلم.
وعلى القول الاول الذي قدمناه وهو أن السياق ليس فيه ما يعين أنهم هددوه بالقتل، فيكون الحديث مجملاً فكيف يحمل الحديث على شيءٍ مجمل لم يعين.(14/20)
قوله: (فضربوا عنقه) ليس فيه اشكال ولا يرد على ما قلنا لانهم ربما قتلوا الذي لم يقرب شيئاً لأنه أهان صنمهم بقوله (ما كنت لأقرب لأحد شيئاًدون الله -- عز وجل --) لهذا استشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم كما سبق، وهو -بحمد الله - ليس بمشكل، لأنه إما أن يحمل على أنه فيمن كان قبلنا، فلا وجه -إذن- لدخول الإكراه، أو يحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة، ولكن قتلوه لأجل قوله: (لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل -).
إذن فهذا الباب -وهو قوله: باب: "ما جاء في الذبح لغير الله "- ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله -جل وعلا- بالذبح شرك به -سبحانه- في العبادة، فمن ذبح لغير الله تقربا وتعظيما، فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة.
(ق): في الحديث علتان:
الأولى: أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في صحبته، والأكثرون على أنه صحابي. لكن إذا قلنا: إنه صحابي، فلا يضر عدم سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن مرسل الصحابي حجة، وإن كان غير صحابي، فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف.
الثانية: أن الحديث معنعن من قبل الأعمش، وهو من المدلسين، وهذا آفة في الحديث، فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين. ثم للحديث علة ثالثة، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفاً من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة، فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل.
قوله: "في ذباب"، في: للسببية، وليست للظرفية، أي: بسبب ذباب، ونظيره قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت النار امرأة في هرة حبستها"..." الحديث، أي: بسبب هرة.
قوله: "فدخل النار"، مع أنه ذبح شيئاً حقيراً لا يؤكل، لكن لما نوى التقرب به إلى هذا الصنم، صار مشركاً، فدخل النار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } .(14/21)
الثانية: تفسير { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله .
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثاً وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق لله فيلتجيء إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك في الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعيّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: (دخل النار في ذباب).
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير: { قل إن صلاتي ونسكي } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: تفسير: { فصل لربك وانحر } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله ، بدأ به، لأنه من الشرك، والله إذا ذكر الحقوق يبدأ أولاً بالتوحيد، لأن حق الله أعظم الحقوق، قال تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [النساء: 36]، وقال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } [الإسراء: 23]، وينبغي أن يبدأ في المناهي والعقوبات بالشرك وعقوبته.
الرابعة: لعن من لعن والديه.
ولعن الرجل للرجل له معنيان:
الأول: الدعاء عليه باللعن.(14/22)
الثاني: سبه وشتمه، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسره بقوله: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
الخامسة: لعن من آوى محدثاً، وقد سبق أنه يشمل الإحداث في الدين والجرائم، فمن آوى محدثاً ببدعة، فهو داخل في ذلك، ومن آوى محدثاً بجريمة، فهو داخل في ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وسواء كانت بينك وبين جارك أو بينك وبين السوق مثلاً، لأن الحديث عام.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم، فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدثاً، فلا تقل: لعنك الله ، بل قل: لعن الله من آوى محدثاً على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صار يلعن أناساً من المشركين من أهل الجاهلية بقولك: "اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً" نهي عن ذلك بقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } (1) [آل عمران: 128]، فالمعين ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب الله عليه، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل، وكأن المؤلف رحمه الله قال: الأصل عدم جواز إطلاق اللعن، فجاء هذا الحديث لاعناً للعموم، فيبقى الخصوص على أصله، لأن المسلم ليس بالطعان ولا باللعان، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس طعاناً ولا لعاناً، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث، وإلا، فالحديث لا تفريق فيه.
الثامنة: هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب، كأن المؤلف رحمه الله يصحح الحديث، ولهذا بنى عليه حكماً، والحكم المأخوذ من دليل فرع عن صحته، والقصة معروفة.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير /باب قول الله تعالى: (وليس لك من الأمر شيء).(14/23)
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم، هذه المسألة ليست مسلمة، فإن قوله: قرب ولو ذباباً يقتضي أنه فعله قاصداً التقرب، أما لو فعله تخلصاً من شرهم، فإنه لا يكفر لعدم قصد التقرب، ولهذا قال الفقهاء: لو أكره على طلاق امرأته فطلق تبعاً لقول المكره، لم يقع الطلاق، بخلاف ما لو نوى الطلاق، فإن الطلاق يقع، وإن طلق دفعاً للإكراه، لم يقع، وهذا حق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"(1).
وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب، لأن الأصل أن الفعل المبني على طلب يكون موافقاً لهذا الطلب.
ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله ، أي أنه لو فعله بقصد التخلص ولم ينو التقرب لهذا الصنم لا يكفر، لعموم قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً } [النحل: 106] وهذا الذي فعل ما يوجب الكفر تخلصاً مطمئن قلبه بالإيمان.
والصواب أيضاً: أنه لا فرق بين القول المكره عليه والفعل، وإن كان بعض العلماء يفرق ويقول: إذا أكره على القول لم يكفر، وإذا أكره على الفعل كفر، ويستدل بقصة الذباب، وقصة الذباب فيها نظر من حيث صحتها، وفيها نظر من حيث الدلالة، لما سبق أن الفعل المبني على طلب يكون موافقاً لهذا الطلب.
ولو فرض أن الرجل تقرب بالذباب تخلصاً من شرهم، فإن لدينا: نصاً محكماً في الموضوع، وهو قوله تعالى: { من كفر بالله... } [النحل: 106] الآية، ولم يقل: بالقول، فما دام عندنا نص قرآني صحيح، فإنه لو وردت السنة صحيحة على وجه مشتبه، فإنها تحمل على النص المحكم.
والخلاصة أن من أكره على الكفر، لم يكن كافراً ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدراً.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي /باب كيف كان بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإمارة /باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات).(14/24)
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟!
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين.. إلخ، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى.
مسألة: هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل، أو يوافق ظاهراً ويتأول؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
أولاً: أن يوافق ظاهراً وباطناً، وهذا لا يجوز لأنه ردة.
ثانياً: أن يوافق ظاهراً لا باطناً، ولكن يقصد التخلص من الإكراه، فهذا جائز.
ثالثاً: أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويقتل، وهذا جائز، وهو من الصبر.
لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل، أو أن يوافق ظاهراً؟
فيه تفصيل: إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة، فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس، مثل: صاحب المال الباذل فيما نفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة، ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل، وهو خير، وهو قد رخص له أن يكفر
ظاهراً عند الإكراه، فالأولى أن يتأول، ويوافق ظاهراً لا باطناً.
أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام، فإنه يصبر، وقد يجب الصبر، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله ، وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا لما شكى الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجدونه من مضايقة المشركين، قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد(1) ويصبر، فكأنه يقول لهم: اصبروا على الأذى. ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة، لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام. والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهراً، لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.(14/25)
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: دخل النار في ذباب، وهذا صحيح، أي أنه كان مسلماً ثم كفر بتقريبه للصنم، فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار. ولو كان كافراً قبل أن يقرب الذباب، لكان دخوله النار لكفره أولى، لا بتقريبه الذباب.
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"(1)، والغرض من هذا: الترغيب والترهيب، فإذا علم أن الجنة أقرب إليه من شراك النعل، فإنه ينشط على السعي، فيقول: ليست بعيدة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عما يدخل الجنة ويباعد من النار، فقال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه"(2)، والنار إذا قيل له: إنها أقرب من شراك النعل يخاف، ويتوقى في مشية لئلا يزل فيهلك، ورب كلمة توصل الإنسان إلى أعلى عليين، وكلمة أخرى توصله إلى أسفل سافلين.
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب اليمان حديث (2616) وابن ماجة حديث (3973) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع(5139).(14/26)
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، والحقيقة أن هذه المسألة مع التاسعة فيها شبه تناقض، لأنه في هذه المسألة أحال الحكم على عمل القلب، وفي التاسعة أحاله على الظاهر، فقال: بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصاً من شرهم، ومقتضى ذلك أن باطنه سليم، وهنا يقول: إن العمل بعمل القلب، ولا شك أن ما قاله المؤلف رحمه الله حق بالنسبة إلى أن المدار على القلب. والحقيقة أن العمل مركب على القلب، والناس يختلفون في أعمال القلوب أكثر من اختلافهم في أعمال الأبدان، والفرق بينهم قصداً وذلاً أعظم من الفرق بين أعمالهم البدنية، لأن من الناس من يعبد الله لكن عنده من الاستكبار ما لا يذل معه ولا يذعن لكل حق، وبعضهم يكون عنده ذل للحق، لكن عنده نقص في القصد، فتجد عنده نوعاً من الرياء مثلاً.
فأعمال القلب وأقواله لها أهمية عظيمة، فعلى الإنسان أن يخلصها لله. وأقوال القلب هي اعتقاداته، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وأعماله هي تحركاته، كالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، وما أشبه ذلك.
والدواء لذلك: القرآن والسنة، والرجوع إلى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمعرفة أحواله وأقواله وجهاده ودعوته، هذا مما يعين على جهاد القلب. ومن أسباب صلاح القلب أن لا تشغل قلبك بالدنيا.(14/27)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله ، فنفس الفعل لغير الله . وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن تذبح فيه، لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة، فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.
(تم): قال الإمام -رحمه الله -: باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ، قوله: "لا يذبح لله" هذا على جهة النفي المشتمل على النهي؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يعدل عن التصريح بالنهي إلى التصريح بالنفي؛ ليدل دلالة أبلغ على أن النفي والنهي معا مقصودان، فكأنه لا يصح أن يقع أصلا؛ ولهذا أتى بصيغة النفي فقال باب: "لا يذبح لله…".
وقال بعض أهل العلم: يحتمل أن تكون (لا) للنهي فيكون الفعل المضارع بعدها مجزوماً أي: باب: "لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله "، وقوله: لله، يعني: أن تكون النسيكة، أو أن تكون الذبيحة مراداً بها وجه الله -جل وعلا. (بمكان يذبح فيه لغير الله )، و(الباء) هنا لها معنى زائد على كلمة (في)، وهذا المعنى الزائد أنها أفهمت معنى الظرفية، ومعنى المجاورة جميعا؛ لأن الباء تكون للمجاورة -أيضا- كما تقول: مررت بزيد يعني: بمكان قريب من مكان زيد، أو بمكان مجاور لمكان زيد، والظرفية بـ "في" تفيد أنه في المكان نفسه، فاستعمال حرف (الباء) يفيد أنه مجاور لذلك المكان، وهذان المعنيان معا مقصودان، وهو أنه لا يذبح لله بمجاورة المكان الذي يذبح فيه لغير الله ، ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله ؛ لأنهما -بهذا- يشتركان مع الذين يذبحون لغير الله -جل وعلا-.(15/1)
وصورة المسألة أن يوجد مكان يذبح فيه لغير الله كمكان عند قبر، أو عند مشهد، أو عند مكان معظم، واعتاد المشركون التقرب بالذبائح لأصنامهم وأوثانهم في هذا المكان، فإذا كانوا يتقربون في هذا المكان للقبر، أو نحوه، ويذبحون لصاحبه يعني: من أجله، فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحد في هذا المكان، ولو ذبحه خالصا لله -- عز وجل --؛ لأنه يكون قد شابه أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات، التي يصرفونها لغير الله -جلا وعلا-.
فالذبح لله وحده وإن كان خالصاً له إن كان في المكان الذي يتقرب فيه لغير الله فإنه لا يحل، ولا يجوز بل هو من وسائل الشرك، ومما يغري بتعظيم ذلك المكان، وحكمه أنه محرم، ووسيلة من وسائل الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } (التوبة: 108)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { لا تقم فيه } ، ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } [التوبة: 107]، والمتخذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك:
مضارة مسجد قباء: ولهذا يسمى مسجد الضرار.
الكفر بالله: لأنه يقرر فيه الكفر - والعياذ بالله -، لأن الذين اتخذوه هم المنافقون.
التفريق بين المؤمنين: فبدلاً من أن يصلى في مسجد قباء صف أو صفان يصلى فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في اجتماع المؤمنين.(15/2)
الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال: إن رجلاً ذهب إلى الشام، وهو أبو عامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال الله تعالى: { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [التوبة: 107]، فهذه سنة المنافقين: الأيمان الكاذبة.
{ إن } : نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي: ما أردنا إلا الحسنى، والجواب على هذا اليمين الكاذب: { والله يشهد إنهم لكاذبون } [التوبة: 107]. فشهد الله تعالى على كذبهم، لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين كما قال الله تعالى في سورة المنافقين: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1].
وقوله: { لا تقم فيه } ، لا: ناهية وتقم: مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه السكون، وحذفت الواو، لأنه سكن آخره، والواو ساكنة، فحذفت تخلصاً من التقاء الساكنين.
قوله: { أبداً } إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق.
قوله: { لمسجد أسس على التقوى } ، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ، وخبره: قول الله { أحق أن تقوم فيه } ، وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل
قوله: { أسس على التقوى } ، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ، بدليل قوله: { أسس على التقوى } [التوبة: 109]، أي: جعلت التقوى أساساً له، فقام عليه. وهذه الأحقية ليست على بابها، وهو أن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتركا في أصل الوصف، لأنه هنا لا حق لمسجد الضرار أن يقام فيه، وهذا)أعني: كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل(موجود في القرآن كثيراً، كقوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [الفرقان: 24].(15/3)
(ف): قال المفسرون إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنى على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور قباء راكباً وماشياً وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعروة، وعطية، والشعبي، والحسن وغيرهم.
قلت: ويؤيده قوله في الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " وقيل هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث أبي سعيد قال: " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو مسجدي هذا " رواه مسلم، وهو قول عمر وابنه وزيد ابن ثابت وغيرهم.(15/4)
قال ابن كثير: وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية والحديث. لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: ' 9: 107 ' " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ". فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة. وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلى فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل - عليه السلام - راجعاً إلى المدينة، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة.
(ق): قوله: { فيه } ، أي: في هذا المسجد المؤسس على التقوى.
قوله: { يحبون أن يتطهروا } ، بخلاف من كان في مسجد الضرار، فإنهم رجس، كما قال الله تعالى في المنافقين: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس } [التوبة: 95].
قوله: { يتطهروا } ، يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.(15/5)
(ف): قوله: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا "(1) وفي رواية عن جابر وأنس (هو ذاك فعليكموه) رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدار قطني والحاكم(2).
(ق): قوله: { والله يحب المطهرين } ، هذه محبة حقيقية ثابتة لله - - عز وجل - - تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون: المراد بالمحبة: الثواب أو إرادته، فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ. وقوله: { المطهرين } أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة.
(ف): قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب.
__________
(1) حسن بشواهده: أحمد (3/422) ،وابن خزيمة(83)، والحاكم في المستدرك (1/155).
(2) حسن بشواهده :ابن ماجة(355)، سنن الدار قطني(1/62)، والحاكم في المستدرك(1/155)(2/334)، والبيهقي (1/105).(15/6)
(ق): وجه المناسبة من الآية: أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، نهى الله ورسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية، فلا تقام فيه الصلاة. وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراماً، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار. وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ثَابِتُ بنُ الضّحّاكِ - رضي الله عنه - قال: «نَذَرَ رَجُلٌ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ, فَسأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟ قالُوا: لاَ. قالَ: فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟ قالُوا: لاَ. فقالَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أوْفِ بِنَذْرِكَ فَإنّهُ لاَ وَفَاءَ لِنِذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ»رواه أبو داود وإسناده على شرطهما(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن ثابت بن الضحاك أي ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة وغيره. مات سنة أربع وستين.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/419)، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور/باب ما يؤمن به من الوفاء بالنذر حديث (3313)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2551).(15/7)
(ق): قوله: "نذر"، النذر في اللغة: الإلزام والعهد. واصطلاحاً: إلزام المكلف نفسه لله شيئاً غير واجب. وقال بعضهم: لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر الواجب صح النذر وصار المنذور واجباً من وجهين: من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء. والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه، لأن النبي نهى عنه، وقال: "لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"(1)، ولأنه إلزام لنفس الإنسان لما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه. ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يميناً وشمالاً يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها، تجده ينذر كأنه يقول: إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أو دفع الضرر إلا بهذا النذر.
قوله: "إبلاً" اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير.
قوله: "ببوانه"، الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى: بمكان يسمى بوانه.
(ف): قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع.
(ق): قوله: "هل كان فيها وثن"، الوثن: كل ما عبد من دون الله ، من شجر، أو حجر، سواء نحت أو لم ينحت. والصنم يختص بما صنعه الآدمي.
قوله: "الجاهلية"، نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك، لأنهم كانوا على جهل عظيم.
قوله: "يعبد"، صفة لقوله: "وثن"، وهو بيان للواقع، لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله .
(ف): فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن، ولو بعد زواله. قاله المصنف رحمه الله .
(ق): قوله: "قالوا: لا"، السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول.
__________
(1) البخاري: كتاب القدر/ باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم: كتاب النذر/ باب النهي عن النذر.(15/8)
قوله: "عيد"، العيد: اسم لما يعود أو يتكرر، والعود بمعنى الرجوع، أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيداً وإن لم يكن فيه وثن؟ قالوا: لا. فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمرين: عن الشرك، ووسائله. فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟
(ف): قوله: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك والمراد به هنا الإجماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً. فالزمان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة "إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً " والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمكان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تتخذوا قبرى عيداً " وقد يكون لفظ العيد إسماً لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً" انتهى.
قال المصنف: وفيه استفصال المفتى والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله.
قلت: وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك.
(ق): قوله: "أوف بنذرك"، فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكسرة دليل عليها.
وهل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟(15/9)
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي، فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي. وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة، لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان، إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة، فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر اجب. وبالنسبة للمكان، فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم، لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص، فالأمر للإباحة.
وقوله: "أوف بنذرك" علل - صلى الله عليه وسلم - ذلك بانتفاء المانع، فقال: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ".
قوله: "لا وفاء لنذر"، لا: نافية للجنس، وفاء: اسمها، لنذر: خبرها.
قوله: "في معصية الله "، صفة لنذر، أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله ، لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.
أقسام النذر:
الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله ، فليطعه"(1).
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"(2)، وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله "(3).
الثالث: ما يجري مجر اليمين، وهو نذر المباح، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب، فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.
الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.
__________
(1) البخاري: كتاب الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.
(2) انظر التخريج السابق.
(3) مسلم: كتاب النذر/ باب لا وفاء لنذر في معصية الله .(15/10)
مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلاً، فعلي لله نذر أن أصوم سنة، فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل، فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين، لأنه إن صام فقد وفى بنذره، وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر، مثل أن يقول: لله علي نذر، فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين"(1).
مسألة: هل ينعقد نذر المعصية؟
الجواب: نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه"، ولو قال: من نذر أن يعصي الله فلا نذر له، لكان لا ينعقد، ففي قوله: "فلا يعصه" دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ.
وإذا انعقد: هل تلزمه كفارة أو لا؟
اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد: فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وفاء لنذر في معصية الله ". وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه"، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة، ولو كانت واجبة، لذكرها.
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وأصله في مسلم(15/11)
القول الثاني: تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه، فعدم الذكر ليس ذكراً للعدم، نعم، لو قال الرسول: لا كفارة، صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت، والسكوت لا ينافي المنطوق، فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتماداً على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهى هذا الرجل، فاعتماداً عليه لم يقله، لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أو تخصيص يذكرها الرسول عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا، لكانت تطول السنة، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر حديثاً عاماً وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه، وإن لم يذكره حين تكلم بالعموم. وأيضاً من حيث القياس لو أن الإنسان اقسم ليفعلن محرماً، وقال: والله، لأفعلن هذا الشيء وهو محرم، فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم، وعلى هذا، فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح.
وقوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين:
الأول: ما لا يملك فعله شرعاً، كما لو قال: لله على أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثاني: ما لا يملك فعله قدراً كما لو قال: لله عليّ نذر أن أطير بيدي فهذا لا يصح لأنه لا يملكه والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } .
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.(15/12)
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: { لا تقم فيه أبداً } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة، أي: لما كانت هذه الأرض مكان شرك، حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين.
أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة، فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة، لا يكون الإنسان متشبهاً بهذا العمل، بخلاف الذبح فيه لغير الله ، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلى في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك، لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان. وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، ولهذا، فإن المساجد أفضل من الأسواق، والقديم منها أفضل من الجديد.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين ذلك بالاستفصال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفصل.
لكن هل يجب الاستفصال على كل حال، أو إذا وجد الاحتمال؟
الجواب: لا يجب إلا إذا وجد الاحتمال، لأننا لو استفصلنا في كل مسألة، لطال الأمر. فمثلاً: لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن: هل هو معلوم؟ وعن المثمن: هل هو معلوم؟ وهل وقع البيع معلقاً أو غير معلق؟ وهل كان ملكاً للبائع؟ وكيف ملكه؟ وهل انتفت موانعه أو لا؟.(15/13)
أما إذا وجد الاحتمال، فيجب الاستفصال، مثل: أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق، فيجب الاستفصال عن الأخ: هل هو شقيق أو لأم؟ فإن كان لأم، سقط، وأخذ الباقي العم، وإلا، سقط العم، وأخذ الباقي الأخ.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع، لقوله: "أوف بنذرك"، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة.
فالواقعة: أن يكون فيها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية. والمتوقعة: أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي، كان ممنوعاً، مثل: لو أراد أن يذبح عند جبل، فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية، كان ممنوعاً.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، لقوله: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟"، لأن "كان" فعل ماض، والمحظور بعد زوال الوثن باقٍ، لأنه ربما يعاد.
السابعة: المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله، لقوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟".
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية، لقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ".
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد، فإنه يمنع منه ولو لم يقصده، لكن مع القصد يكون أشد إثماً، ولهذا قال شيخ الإسلام a عبد الوهاب: ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية الله ، هكذا قال المؤلف، ولفظ الحديث المذكور: "لا وفاء لنذر"، وبينهما فرق. فإذا قيل لا نذر في معصية، فالمعنى أن النذر لا ينعقد.
وإذا قيل: لا وفاء، فالمعنى أن النذر ينعقد، لكن لا يوفى، وقد وردت السنة بهذا وبهذا. لكن: "لا نذر" يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "ومن نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه".(15/14)
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، يقال فيه ما قيل في: لا نذر في معصية.
والمعنى: لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم، ويشتمل ما لا يملكه شرعاً، وما لا يملكه قدراً.
- - - - - -
- - - - - -(15/15)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الشرك النذر لغير الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): قوله: "باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى"، (من) ها هنا تبعيضية، قوله (من الشرك النذر)، (النذر) مبتدأ مؤخر، والخبر قبله وأصل الجملة، النذر لغير الله كائن من الشرك، والشرك هنا: المقصود: به الشرك الأكبر.
(ق): النذر لغير الله مثل أن يقول: لفلان علي نذر، أو لهذا القبر علي نذر، أو لجبريل علي نذر، يريد بذلك التقرب إليهم، وما أشبه ذلك.
والفرق بينه وبين نذر المعصية: أن النذر لغير الله ليس لله أصلاً، ونذر المعصية لله، ولكنه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: لله على نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله ، فيكون النذر والمنذور معصية، ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم، والحلف بغير الله ، فالحلف بغير الله مثل: والنبي، لأفعلن كذا وكذا، ونظيره النذر لغير الله ، والحلف بالله على محرم، مثل: والله، لأسرقن، ونظيره نذر المعصية، وحكم النذر لغير الله شرك، لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادة، فقد صرفها لغير الله ، فيكون مشركاً. وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقاً، ولا تجب فيه كفارة، بل هو شرك تجب التوبة منه، كالحلف بغير الله فلا ينعقد وليس فيه كفارة. وأما نذر المعصية، فينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، كالحلف بالله على المحرم ينعقد، وفيه كفارة.
(ف): إذا علمت ذلك: فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب. كما قال تعالى: ' 6: 136 ' " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ".(16/1)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات. فإن كلاهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله "(1).
وقال فيمن نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين -: وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة. فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله . والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل - عليه السلام -: " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " والذين اجتاز بهم موسى - عليه السلام - وقومه، قال تعالى: ' 7: 138 ' " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم " فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها.
__________
(1) البخاري، كتاب الايمان والنذور : ،حديث(6650) باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت ،ومسلم، كتاب الايمان :حديث (1647)، (5): باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله من حديث عائشة رضي الله عنها.(16/2)
وقال الرافعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولى أو شيخ أو على إسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، أو قدوم غائب أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً. ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل - عليه السلام - ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركاً وتعظيماً، ظاناً أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم، سواء انتفع به هناك منتفع أم لا.(16/3)
قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه ستره، ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله ، واعتقاد ذلك كفر - إلى أن قال: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليها فحرام بإجماع المسلمين.
نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه وزاد: قد ابتلى الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله ، فيكون باطلاً. وفي التنزيل ' 6: 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ' 6: 162 ' " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له " والنذر لغير الله إشراك مع الله ، كالذبح لغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } (الإنسان: من الآية7)
وقول الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } (البقرة: من الآية270)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:(16/4)
الأولى: قوله: { يوفون بالنذر } ، هذه الآية سيقت لمدح الأبرار، { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً } [الإنسان: 5]. ومدحهم بهذا يقتضي أن يكون عبادة، لأن الإنسان لا يمدح ولا يستحق دخول الجنة إلا بفعل شيء يكون عباده. ولو أعقب المؤلف هذه الآية بقوله تعالى: { وليوفوا نذورهم } [الحج: 29]، لكان أوضح، لأن قوله: { وليوفوا نذورهم } أمر، والأمر بوفائه يدل على أنه عبادة، لأن العبادة ما أمر به شرعاً. وجه استدلال المؤلف بالآية على أن النذر لغير الله من الشرك: أن الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة، ولا يكون سبباً يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة، فيقتضي أن صرفه لغير الله شرك.
الآية الثانية قوله: { وما أنفقتم } . { ما } : شرطية، و { أنفقتم } : فعل الشرط، وجوابه: { فإن الله يعلمه } .
قوله: { من نفقة } ، بيان لـ { ما } في قوله: { ما أنفقتم } ، والنفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
قوله: { أو نذرتم } ، معطوف على قوله: { وما أنفقتم } . قوله { فإن الله يعلمه } ، تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء، إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازى الإنسان عليها، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية.
(تم): وهاهنا سؤال معروف قد يرد في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه، قد كرهه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسئل عنه فقال: (إنه لا يأتي بخير)(1) فكيف يكون عبادة، وقد كرهه - عليه الصلاة والسلام -؟.
__________
(1) أخرجه البخاري (6693)ومسلم (1639)(4).(16/5)
والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله -جل وعلا- هكذا بلا قيد، كأن: يقول -مثلا-: لله علي نذر أن أصلى ركعتين، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة كصلاة، أو صيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المطلق، وهو إلزام العبد نفسه بطاعة لله -جل وعلا- أو بعبادة. وليس هذا النذر هو الذي كرهه -عليه الصلاة والسلام-؛ بل النذر المكروه هو القسم الثاني: وهو النذر المقيد وهو الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما يستخرج به من البخيل)(1) وحقيقته أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله -جل وعلا- مقابل شيء يحدثه الله -جل وعلا- له، ويقدره ويقضيه له.
كأن يقول -مثلا-: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أتصدق بكذا وكذا، أو إن نجحت فأصلى ليلة، أو إن عُينت في هذه الوظيفة، فسأصوم أسبوعا، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله -جل وعلا- فيقول: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا صمت لك، وإن أنجحتني صليت أو تصدقت، وإن شفيت مريضي فعلت كذا وكذا، يعني: مقابلة للفعل بالفعل، وهذا هو الذي وصفه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: (إنما يستخرج به من البخيل)؛ لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار بما أعطاه الله من النعمة، أو بما دفع عنه من النقمة كأنه - في حس ذلك الناذر - قد أعطي الأجر، وأعطي ثمن تلك العبادة.
وهذا المعنى الخاطىء يستحضره كثير من العوام، الذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجاتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله -، وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجة من حاجاته إلا بالنذر فإن اعتقاده هذا محرم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله -جل وعلا-، وسوء اعتقاد فيه -- سبحانه وتعالى --، بل هو المتفضل المنعم على خلقه.
__________
(1) أخرجه مسلم (1639)(2).(16/6)
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة، لكن إذا أطلقنا القول بأن النذر عبادة، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟.والجواب: أن النذر المقيّد له جهتان:
الأولى: وفاءه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبَّد الله عبادة من هذه الجهة - فيما يظهر-.
الجهة الثانية: جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد لا إلى أصل النذر، دل على ذلك التعليل حيث قال: (فإنما يستخرج به من البخيل).
فلا إشكال إذاً، فالنذر عبادة من العبادات العظيمة، وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن عملا ما من الأعمال صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، وذلك أن الاستدلال نوعان:
النوع الأول: استدلال عام: يعني: أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة، يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة، على تحريم النذر لغير الله ، وأنه شرك كالأتي:
دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله -جل وعلا-، وأن من صرفها لغير الله -جل وعلا- فقد أشرك، والنذر عبادة من العبادات فمن نذر لغير الله : فقد أشرك.
والنوع الثاني: من الاستدلال أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة، وردت فيها، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك.(16/7)
فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال، استدلال عام بكل آية، أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك، فتدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة بجامع تعريف العبادة.
والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله - هنا: باب: "من الشرك النذر لغير الله "، واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر، وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب كقوله -جل وعلا-: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الإسراء: من الآية23) وكقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات: 56) وكقوله: { وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (النساء: من الآية36) وكقوله: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا } (الأنعام: من الآية151).
فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك، فتقول: النذر لغير الله عبادة، والله -جل وعلا- نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛لأنه داخل في حد العبادة لأن الله -جل وعلا-، يرضاها ومدح الموفين به.(16/8)
فالدليل الخاص إذاً هو: أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف، ومن الفقه في الأدلة الشرعية، أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله ، وللشرك به -جل وعلا-، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلاً خاصاً وتارة دليلاً عاماً، ونوَّعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذا لم تورد إلا دليلاً واحداً فربما أوَّله لك، أو ناقشك فيه؛ فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة، فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله -جل وعلا- وعد عباده بالنصر كما في قوله: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر: 51). وقد قال الشيخ -رحمه الله - في "كشف الشبهات": (والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، وهذا صحيح فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها عندهم من الحجج، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين).
وقول الله -تعالى-: { يُوفُونَ بِالنَّذْر } (الإنسان: من الآية7) وجه الاستدلال على كون النذر عبادة: ظاهر: وهو أن الله -جل وعلا- مدح الموفين للنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوبة له -جل وعلا-، وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله -جل وعلا- شركاً أكبر.(16/9)
وكذلك قوله: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } [البقرة: من الآية270] فإن الله عظَّم النذر بقوله: { فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } وعظَّم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله -جل وعلا-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن عائشة (رضي الله عنها), أن رسول الله قال: « مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطعهُ, وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله فَلا يَعْصِهِ »(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله (في الصحيح): أي صحيح البخاري.
قوله: عن عائشة هي أم المؤمنين، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابنة الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع وهي أفقه النساء مطلقاً، وهي أفضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة ففيها خلاف. ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها.
(ق): قوله: "من نذر"، جملة شرطية تفيد العموم، وهل تشمل الصغير؟ قال بعض العلماء: تشمله، فينعقد النذر منه. وقيل: لا تشمله، لأن الصغير ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام، وبناء على هذا يخرج الصغير من هذا العموم، لأنه ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام.
قوله: "أن يطيع الله "، الطاعة: هي موافقة الأمر، أي: توافق الله فيما يريد منك إن أمرك، فالطاعة فعل المأمور به، وإن نهاك، فالطاعة ترك المنهي عنه، هذا معنى الطاعة إذا جاءت مفردة. أما إذا قيل: طاعة ومعصية، فالطاعة لفعل الأوامر، والمعصية لفعل النواهي.
قوله: "فليطعه"، الفاء واقعة في جواب الشرط، لأن الجملة إنشائية طلبية، واللام لام الأمر. وظاهر الحديث: يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب، كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب، كتعليم العلم وغيره.
__________
(1) أخرجه البخاري: في كتاب الأيمان والنذور /باب النذر في الطاعة.(16/10)
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان جنس الطاعة واجباً، وعموم الحديث يرد عليهم. وظاهر الحديث أيضاً يشمل من نذر طاعة نذراً مطلقاً ليس له سبب، مثل: "لله علي أن أصوم ثلاثة أيام". ومن نذر نذراً معلقاً، مثل: إن نجحت، فلله علي أن صوم ثلاثة أيام. ومن فرق بينهما، فليس بجيد لأن الحديث عام. وأعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان نذر طاعة، وإنما يستخرج به من البخيل، ولهذا نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض العلماء يحرمه، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية للنهي عنه، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه، وكم من إنسان نذر وأخيراً ندم، وربما لم يفعل. ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن } [النور: 53]، فهذا التزام مؤكد بالقسم فيشبه النذر. قال الله تعالى: { قل لا تقسموا طاعة معروفة } [النور: 53]، أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بالنذر، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه. ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضاً خصوصاً النذر المعلق: أن النادر كأنه غير واثق بالله - - عز وجل - -، فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابلة، ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون، وفي هذا سوء ظن بالله- - عز وجل - -. والقول بالتحريم قول وجيه.
فإن قيل: كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به؟
فالجواب: أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر، وفرق بين عقده ووفائه، فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر.(16/11)
قوله: "ومن نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه"، لا: ناهية، والنهي بحسب المعصية، فإن كانت المعصية حراماً، فالوفاء بالنذر حرام، وإن كانت المعصية مكروهة، فالوفاء بالنذر مكروه، لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين: منهي عنه نهي تحريم، ومنهي عنه نهي تنزيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر، يعني: نذر الطاعة فقط، لقوله: "من نذر أن يطيع الله ، فليطعه"، ولقول المؤلف في المسألة الثالثة: إن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة، فصرفه إلى غير الله شرك، وهذه قاعدة في توحيد العبادة، فأي فعل كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه".
- - - -(16/12)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب عنونه الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى)، وهذا الباب مع الباب الذي قبله، والأبواب التي سلفت - أيضا - كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب، وبيان الغرض من تأليفه، وأن التوحيد إنما يعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده؛ لأنه - أعني: التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي، فيجمع بين الإيمان بالله، وبين الكفر بالطاغوت.
فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه قد عرف التوحيد، ولهذا فصل الشيخ -رحمه الله - أفراد توحيد العبادة، وفصَّل أفراد الشرك، فبيَّن أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي وبيَّن أصناف الشرك الأكبر العملي والاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله ، وذكر النذر لغير الله ، والذبح والنذر عبادتان عظيمتان.
فعبادة الذبح عبادة فعلية عملية، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً، وعملية وفاءً، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل أنواع، وقد ذكر منها -على سبيل التمثيل- الذبح لغير الله ، كما أنه ذكر النذر لغير الله مثالاً على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق كتعظيم الله -جل وعلا- وهذا شرك، قال تعالى: { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } (البقرة: من الآية165) وقال: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء: 97-98) ثم عطف على ذلك (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله )، لأن الاستعاذة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد، ولذلك ناسبت أن تكون بعد (باب من الشرك النذر لغير الله ).(17/1)
وقوله رحمه الله : "من الشرك "من" هاهنا تبعيضية كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب، والشرك المقصود -هنا- هو الشرك الأكبر، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله ؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله (الشرك) هي للعهد فتكون عائدة إلى الشرك المعهود وهو الأكبر يعني: باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله .
(ق): قوله: "من الشرك"، من: للتبعيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها، لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه، فإنه جائز، كالاستعانة.
(تم): والاستعاذة: طلب العياذ، يقال: استعاذ إذا طلب العياذ، والعياذ ما يؤمِّن من الشر، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمن منه، أو إلى من يؤمن منه، ويقابلها اللياذ: وهو الفرار إلى طلب الخير والتوجه إليه والاعتصام به، والإقبال عليه لطلب الخير.
والاستعاذة: استفعال، ومادة (استفعل)موضوعة -في الغالب- للطلب. فغالب مجيء (الألف والسين والتاء) للطلب: فمعنى: استعاذ، واستعان، واستغاث، واستسقى طلب تلك الأمور، وتأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل كما في قوله جل وعلا: { وَاسْتَغْنَى الله } (التغابن: من الآية6) فـ(استغنى) ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو الغنى.
فـ(استعاذ)و(استغاث)و(استعان)، وأشباه ذلك فيها طلب. والطلب من أنواع التوجه والدعاء، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء، ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغة، ودلالتها شرعاً هي: طلب العوذ، أو طلب العياذ، وهو الدعاء المشتمل على ذلك، والاستغاثة: هي طلب الغوث، وهو دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب نقول: إنه دعاء.(17/2)
وإذا كان دعاء فإنه عبادة والعبادة حق لله وحده دون ما سواه كما قام الاجماع على هذا ودلت النصوص عليه: كقوله سبحانه: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً } (الجن: 18) وكقوله { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الاسراء: من الآية23) وكقوله أيضاً: { وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (النساء: من الآية36)
إذاً فكل فعل من الأفعال أو قول من الأقوال فيه طلبٌ يكون عبادة، لأنه دعاء؛ وكل طلب: فهو دعاء.
والطلب يختلف نوعه ومسماه بإختلاف المطلوب منه: فإذا كان الطلب من مقارن: فيسمى التماساً وإذاكان ممن هو دونك: فيسمى أمراً، وإذا كان ممن هو أعلى منك؛ فيسمى دعاءً والمستعيذ والمستغيث لاشك أنه طالب ممن هو أعلى منه لحاجته إليه؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله -جل وعلا- بالدعاء أو بالعبادة دليلاً على خصوص هذه المسألة، وهي أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك فإن إفراد الله بها واجب.
وقوله هنا: (من الشرك الاستعاذة بغير الله )، هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة ويشركونهم مع الله ويدخل في ذلك بالأولية ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة، من الجن، والملائكة، والرسل والأنبياء والصالحين، والأشجار والأحجار، وغير ذلك من معبوداتهم.
لكن هل مقصوده بقوله: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ) شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك لكل أنواع الاستعاذة ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق؟.
والجواب: أن هذا فيه تفصيل، فمن العلماء من يقول: الاستعاذة لا تصلح إلا بالله وليس ثَمَّ استعاذةٌ بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة توجه القلب، واعتصامه والتجاؤه ورغبه وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله جل وعلا.(17/3)
وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن حقيقة الاستعاذة طلب انكفاف الشر، وطلب العياذ، وهو أن يستعيذ من شر أحدق به، وإذا كان كذلك فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك. وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ، أو طُلِبتْ منه الإعاذة فيما لايقدر عليه إلا الله جل وعلا.
والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل؛ وهو أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر؛ وفيها عمل باطن، فالعمل الظاهر أن يطلب العوذ، وأن يطلب العياذ، وهو أن يُعْصَم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر، وفيها أيضاً عمل باطن، وهو توجه القلب وسكينته واضطراره، وحاجته إلى هذا المُسْتَعَاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به وتفويض أمر نجاته إليه.
فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله، لأن منهما ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالاجماع لايصلح التوجه به إلا لله.
وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهوطلب العياذ والملجأ فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها.
فحقيقة الاستعاذة إذاً تجمع بين الطلب الظاهر، والمعنى الباطن. ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذِكْرٍ: أنَّ توجُّهَ أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين أو الطالحين، أو غيرهم أنهم جمعوا بين القول باللسان، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك، فيكون إبطال مقالهم راجعاً إلى جهتين:(17/4)
الجهة الأولى: أن يبطل قولهم بأن يقال: أن هذا الميت أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه، فإذا لم يقتطع بذلك، أو حصل عنده اشتباه ما، انتقل السُّنيُّ إلى الجهة الثانية من الابطال وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار اليه واعتصام به، وافتقار اليه وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل -.
فنقول اذا الاستعاذة بغير الله شرك أكبر؛ لأنها صرف عبادة لغير الله - جل جلاله -، لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط مع طمأنينة القلب بالله، وتوجهه إلى الله ، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن لما عند الله ، فإن هذه تكون استعاذة في الظاهر، وأما القلب فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة، وإذا كان كذلك كان هذا جائزا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول? الله ?تعالى? { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ?(الجن: 6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): وقول الله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } [الجن: 6]. قوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس } ، الواو: حرف عطف، و { أن } : فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله: { أنه استمع نفر من الجن } . قال ابن مالك:
وهمز إن افتح لسد مصدر ... مسدها وفي سوى ذاك اكسر
فيؤول بمصدر، أي: قل أوحي إلى استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن.
قوله: { من الإنس } ، صفة لرجال، لأن رجال نكرة، وما بعد النكرة صفة لها.
قوله: { يعوذون } ، الجملة خبر كان، ويقال: عاذ به ولاذ به، فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحة، ولا يصلح ما قاله إلا لله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله(17/5)
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ومن أعوذ به مما أحاذره
ولا يهيضون عظماً أنت جابره
قوله: { يعوذون برجال من الجن } ، أي: يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم، ولكن زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وذعراً، وكان العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
قوله: { رهقاً } ، أي: ذعراً وخوفاً، بل الرهق أشد من مجرد الذعر والخوف، فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء، فالذعر والخوف في القلوب والرهق في الأبدان. وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام، لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقاً، فعقب بنقيض قصده، وهذا ظاهر، فتكون الواو ضمير الجن والهاء ضمير الإنس.
وقيل: إن الإنس زادوا الجن رهقاً، أي: استكباراً وعتواً، ولكن الصحيح الأول.
قوله: { برجال من الجن } ، يستفاد منه أن للجن رجالاً، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الإجماع. والفقهاء يقولون في باب الغسل، لو قالت، أن بها جنياً يجامعها كالرجل، وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن، فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم. لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالاً ونساء. وجه الاستشهاد بالآية: ذم المستعيذين بغير الله ، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك.(17/6)
(ف): قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم - إلى أن قال - قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم رهقاً أي خوفاً. وقال العوفي عن ابن عباس فزادوهم رهقاً أي إثماً، وكذا قال قتادة. ا هـ.
وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله .
وقال ملا على قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن. فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال: قال تعالى '6: 128' " ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به وخضوعه له. انتهى ملخصاً.
قال المصنف: وفيه أن كون الشئ يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(17/7)
وعَن خَوْلَةَ بِنْت الحَكِيمِ قالت: سمعت رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقَولَ: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فقَالَ أَعُوذُ بِكلِمَاتِ الله التّامّاتِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شيءٌ حَتّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» رواه مسلم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال لها أم شريك، ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون.
قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: أعوذ بكلمات الله التامات شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته.
(ق): قوله: "كلمات"، من جموع القلة، لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك.
وقيل: جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له، فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء. قال ابن مالك:
أفعلة أفعل ثم فعله ……ثمت أفعال جموع قله
وبعض ذي بكثرة وضعاً يفي …كأرجل والعكس جاء كالصفي
والراجح: أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل.
و"كلمات": جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا يمثله مداداً } [الكهف: 109]. وأبلغ من هذا قوله تعالى: { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [لقمان: 27].
والمراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونية والشرعية.
وقوله: "من نزل منزلاً" يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
وقوله: "أعوذ" بمعنى: ألتجئ وأعتصم.
قوله: "التامات"، تمام الكلام بأمرين:
الصدق في الأخبار.
__________
(1) مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من سوء القضاء، حديث (2708).(17/8)
العدل في الأحكام.
قال الله تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام: 115].
(ف): قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل معناه: الشافية الكافية. وقيل الكلمات هنا هي القرآن. فإن الله أخبر عنه بأنه: ' 10: 57 و17: 82 و41: 44 ' " هدى وشفاء " وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك.
وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يجب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداماً، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به. أ.هـ.(17/9)
(ق): قوله: "من شر ما خلق"، أي: من شر الذي خلق، لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فكان خيراً. وعلى هذا تكون "ما" موصولة لا غير، أي: من شر الذي خلق، لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك، لكان الخلق هنا مصدراً يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضاً المفعول، لكن لو جعلتها اسماً موصلاً تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق. وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
شر محض، كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
خير محض، كالجنة، والرسل، والملائكة.
فيه شر وخير، كالإنس، والجن، والحيوان. وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً أو جنياً، أو هامة أو دابة، أو ريحاً أو صاعقة، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.
و ما ههنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله ، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.(17/10)
(ق): قوله: "لم يضره شيء"، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر. ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره. ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
(ف): قوله: لم يضره شيئ حتى يرتحل من منزله ذلك قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيئ إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات.
(ق): والشاهد من الحديث: قوله: "أعوذ بكلمات الله ". والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله ، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله، فلماذا؟(17/11)
أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستعاذة بها. ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله ، أي: أو صفة من صفاته. وفي الحديث: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"(1)، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله ، وهي ليست مخلوقة. ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته، لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية، فجائز، وإن أراد الآيات الكونية، فغير جائز.
أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله ، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله ، سوى الله . ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به"(2).
__________
(1) مسلم: كتاب السلام/باب استحباب وضع يده على موضع الألم.
(2) البخاري: كتاب الفتن/باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، ومسلم: كتاب الفتن/باب نزول الفتن.(17/12)
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة(1)، والغلام الذي عاذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -(2)، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة(3)، وما أشبه ذلك. وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم، فلا شيء فيه. لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه في الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ، فهذا شرك، لأن هذا لا يكون إلا الله . وعلى هذا، فكلام الشيخ رحمه الله في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله ، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع - لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: كونه من الشرك، أي: الاستعاذة بغير الله ، وقد سبق التفصيل في ذلك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وجه الاستشهاد: أن الاستعاذة بكلمات الله لا تخرج عن كونها استعاذة بالله، لأنها صفة من صفاته.
__________
(1) مسلم: كتاب الحدود/ باب حد قطع السارق الشريف وغيره.
(2) مسلم: كتاب الأيمان/ باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده.
(3) مسلم: كتاب الفتن/ باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت.(17/13)
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره، أي: فائدته، وهي أنه لا يضرك شيء ما دمت في هذا المنزل.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك، ومعنى كلامه: أنه قد يكون الشيء من الشرك، ولو حصل لك فيه منفعة، فلا يلزم من حصول النفع أن ينتفي الشرك، فالإنسان قد ينتفع بما هو شرك. مثال ذلك: الجن، فقد يعيذونك، وهذا شرك مع أن فيه منفعة. مثال آخر:
قد يسجد إنسان لملك، فيهبه أموالاً وقصوراً، وهذا شرك مع أن فيه منفعة، ومن ذلك ما يحصل لغلاة المداحين لملوكهم لأجل العطاء، فلا يخرجهم ذلك عن كونهم مشركين. قال بعضهم:
فكن كما شئت يا من لا نظير له ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وفي الحديث فائدة، وهي: أن الشرع لا يبطل أمراً من أمور الجاهلية إلا ذكر ما هو خير منه، ففي الجاهلية كانوا يستعيذون بالجن، فأبدل بهذه الكلمات، وهي: أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. وهذه الطريقة هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن يكون عليها الداعية، أنه إذا سد الناس باب الشر، وجب عليه أن يفتح لهم باب الخير، ولا يقول: حرام، ويسكت، بل يقول: هذا حرام، وافعل كذا وكذا من المباح بدلاً عنه، وهذا له أمثلة في القرآن والسنة. فمن القرآن قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } [البقرة: 104]، فلما نهاهم عن قول { راعنا } ذكر لهم ما يقوم مقامه وهو { انظرنا } . ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن نهاه عن بيع الصاع من التمر الطيب بالصاعين، والصاعين بالثلاثة: "بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً"(1). فلما منعه من المحذور، فتح له الباب السليم الذي لا محذور فيه.
- - - - - - -
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، ومسلم: كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل.(17/14)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره". الشرك المراد به-كما ذكرنا فيما سبق- الشرك الأكبر.
قوله: (أن يستغيث) يعني الاستغاثة؛ لأن (أنْ) مع الفعل تؤول بمصدر، يعني (باب من الشرك الاستغاثة بغير الله ) أو (استغاثةٌ بغير الله )، وكذلك قوله (يدعو) يؤول بمصدر، يعني: من الشرك، (دعوة غيره)، أو (دعاء غيره). والاستغاثة كما ذكرنا طلب، والطلب نوع من أنواع الدعاء؛ ولهذا قال العلماء: إن في قوله: (أو يدعو غيره) بعد قوله (أن يستغيث بغير الله ) عطفا للعام على الخاص؛ ومن المعلوم أن الخاص قد يعطف على العام، وأن العام قد يعطف على الخاص.
وقوله: (أن يستغيث بغير الله )، هذا أحد أفراد الدعاء، كما ذكرنا لأن الاستغاثة طلب والطلب دعاء. وقوله: (أو يدعو غيره)، هذا لفظ عام يشمل الاستغاثة والاستعاذة ويشمل أصنافاً كثيرة من أنواع الدعاء.
قوله: (أن يستغيث)، الاستغاثة هي طلب الغوث والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة، أو الهلاك فيقال: أغاثه إذا فزع إليه وأعانه على كشف ما به، وخلَّصه منه، كما قال جل وعلا في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه } (القصص: من الآية15)، فقوله { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ } يعني: أن من كان من شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان عدوا لهما جميعا؛ فأغاثه موسى - عليه السلام -.
فالاستغاثة: طلب الغوث، وطلب الغوث لا يصلح إلا لله؛ إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله -- جل جلاله -- لأن الاستغاثة يمكن أن تطلب من المخلوق؛ فيما يقدر عليها.(18/1)
لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركاً أكبر؟ ضبطه بعض أهل العلم بقولهم: تكون شركاً أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق. وقال آخرون: تكون شركاً أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهاتان العبارتان مختلفتان والأصح منهما الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا شرك أكبر بالله -جل وعلا- لأن حقيقة الأمر أنه لا يقدر عليه إلا الله .
أما قول من قال من أهل العلم: إن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق في ما لا يقدر عليه، فإن هذا يرد عليه أن ثَمَّتَ أشياء قد يكون المخلوق في ظاهر الأمر قادراً عليها، ولكنه في الحقيقة لا يقدر عليها؛ لكن هذا الضابط غير منضبط لأن مَن وقع في شدة، كغرق مثلا، وتوجه لرجل يراه بأنه يغثيه فقال مخاطباً إياه: أستغيث بك، أستغيث بك، أستغيث بك، وذاك لا يحسن السباحة ولا يُحْسِن الانجاء من الغرق، فهذا يكون قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، فهل يكون شركا أكبر؟! لا يكون منه؟ لأن الإغاثة من الغرق ونحوه يصلح-في الغالب- أن يكون المخلوق قادرا عليها، فيكون الضابط الثاني هو الصحيح، وهو أن يقال: الاستغاثة بغير الله شرك أكبر إذا كان قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله .
أما إذا استغاث به فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين، لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء المعين، فإنه لا يكون شركا؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئا لا يصلح إلا لله -- جل جلاله -- فالاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهي شرك أكبر، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة كما حصل من صاحب موسى إذ استغاث بموسى - عليه السلام -.(18/2)
(ف): وقوله: أو يدعو غيره اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة : 76] وقوله: { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام : 71] وقال: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } [يونس : 106].(18/3)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف : 55]وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام : 40-41] وقال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [الرعد : 14] وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة، لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً.(18/4)
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن خليله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً - فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً } [مريم :48- 49] فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: { وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً } كقول زكريا: { إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [مريم : 4]. وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف :55- 56] وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } [الزمر : 14] وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.(18/5)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقو: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله - سبحانه وتعالى - إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر. والذي يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ } [الزمر : 3] { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } [يونس : 18] فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.أ.هـ.
وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً.
نقله عنه صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط.
وقال ابن القيم رحمه الله : ومن أنواعه - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.(18/6)
وقال الحافظ a بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: إن المبالغة في تعظيمه - أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - - واجبة. إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظمياً، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطى ويمنع لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضى حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء - فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين.
وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية: قال علماؤنا: من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم: يكفر.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي -رحمه الله - في كتابه الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدان ونقباء، وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراد، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل: ' 4: 114 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ".(18/7)
ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: ' 27: 61 - 64 ' " أإله مع الله " ' 7: 54 ' " ألا له الخلق والأمر " ' 3: 189 و5: 19 و20: 123 و24: 42 و42: 49 و45: 27 و48: 14 ' " لله ملك السموات والأرض " ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيئ لغيره في شيئ ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً، وإماتة وخلقاً. وتمدح الرب تبارك وتعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله: ' 35: 3 ' " هل من خالق غير الله ؟ " ' 35: 40 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قوله: فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره. فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته، ومن ولى وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره: ' 29: 30 ' " إنك ميت وإنهم ميتون " ' 39: 42 ' " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " ' 3: 185 و21: 34 و29: 57 ' " كل نفس ذائقة الموت " ' 74: 38 ' " كل نفس بما كسبت رهينة " وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصا، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره. فإذا عجز عن حركة نفسه. فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة ' 2: 140 ' " قل أأنتم أعلم أم الله ؟ ".(18/8)
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيئ من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدى، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره: ' 27: 62 ' " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ؟ " ' 6: 63، 64 ' " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير. فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة.
وأما الإستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال. وينادونهم ويستنجدون بهم. فهذا من المنكرات. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولى أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه: أشرك مع الله ، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوا إن منهم أبدالاً ونقباء وأوتاداً ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس. فهذا من موضوعات إفكهم. كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين، وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار.(18/9)
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء. فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولاً بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان. والله المستعان وعليه التكلان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ - وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (يونس: 106)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات.
الآية الأولى قوله: { ولا تدع من دون الله } . ظاهر سياق الآية أن الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان خاصاً به أو عاماً له ولغيره، فإن بعض العلماء قال: لا يصح أن يكون للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يقع منه ذلك، والآية على تقدير قل، وهذا ضعيف جداً، وإخراج للآيات عن سياقها.(18/10)
والصواب: أنه إما خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكناً منه، قال تعالى: { ولقد أوحى إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [الزمر: 65]، فالخطاب له ولجميع الرسل، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله لا باعتبار كونه إنساناً وبشراً. إذاً، فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسياً به، فإذا كان النهي موجهاً إلى من لا يمكن منه باعتبار حاله، فهو إلى من يمكن منه من باب أولى.
(تم): فقوله: { وَلا تَدْعُ } هذا نهي، والنهي-هنا-قد توجه إلى الفعل { تَدْعُ } ، وإذا كان كذلك فإنه يعم أنواع الدعاء، وسبق القول بأن الدعاء منه: دعاء مسألة، ومنه دعاء عبادة؛ والقاعدة: أن النكرة إذا جاءت في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق الشرط فإنها تعم، و { تدع } نكرة لأنه فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حَدَثٌ نكرة. فهو يعم نوعيْ الدعاء، وهذا مراد الشيخ، أو أحد مراداته من الاستدلال بهذه الآية، فقد نهى الله -جل وعلا- أن يتوجه لغير الله بدعاء المسألة أو بدعاء العبادة، أو بأي نوع من أنواع العبادات فلا يصلح طلب ما لا يقدر عليه إلا الله إلا منه -جل وعلا-، ويدخل في ذلك الاستعاذة، والاستغاثة التي هي طلب الغوث، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه كالصلاة والزكاة والتسبيح، والتهليل، والسجود، وتلاوة القرآن والذبح، والنذر وكذلك. أعمال القلوب: كالتوكل، والمحبة التي هي عبادة، والرجاء الذي هو عبادة، وخوف السر، فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله، وهي من أنواع دعاء العبادة.(18/11)
فهذه الآية دلت على النهي أن يتوجه أحد إلى غير الله -جل وعلا- بدعاء مسألة أو بدعاء عبادة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أعظم النهي ووجِّه إليه الخطاب بذلك، مع أنه إمام المتقين، وإمام الموحدين.
وقوله: { مِنْ دُون } يعني: مع الله ، أو: من دون الله استقلالاً.
وقوله: { مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك، و { ما } تشمل العقلاء وغير العقلاء.فالعقلاء: كالملائكة والأنبياء والرسل، والصالحين، وغير العقلاء: كالأصنام والأحجار والأشجار هذا من جهة الدلالة اللغوية لـ { ما } .(18/12)
(ق): وقوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطاً بحيث يكون له مفهوم، فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع، لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5- 6]. ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21]. فإن قوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } لبيان الواقع، إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا. ومنه قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم } [النساء: 23]، فهذا بيان للواقع الأغلب. ومنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، فهذا بيان للواقع، إذ دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيانا كله لما يحيينا. وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم، فمثلاً قوله تعالى: { يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم } [البقرة: 21]، أي اعبدوه لأنه خلقكم. وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ، أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحيكم. وكذلك قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطاً، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة.(18/13)
قوله: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } ، أي: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. و { إن } : شرطية، وجواب الشرط جملة: { فإنك إذاً } . و { إذاً } : أي: حال فعلك من الظالمين، وهو قيد، لأن { إذاً } للظرف الحاضر، أي: فإنك حال فعله من الظالمين، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظلم، فالإنسان قبل الفعل ليس بظالم، وبعد التوبة ليس بظالم، لكن حين فعل المعصية يكون ظالماً كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(1)، فنفى الإيمان عنه حال الفعل. ونوع الظلم هنا ظلم شرك، قال الله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13]، وعبر الله بقوله: { من الظالمين } ، ولم يقل: من المشركين، لأجل أن يبين أن الشرك ظلم، لأن كون الداعي لغير الله مشركاً أمر بين، لكن كونه ظالماً قد لا يكون بيناً من الآية.
(تم): ثم قال: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو } (يونس: من الآية107) اعلم أن غرض من يلجأ إلى غيرَ الله أو يستغيث، أو يستعيذ بغيره: إنما هو طلب كشف الضرّ وقد أبطل الله تعالى هذا التعلق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب حيث قال: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } يعني: إذا مَسَّكَ الله بضر فمن يكشف الضر؟؟ الجواب يكشفه من قدَّره ومَن قضاه عليك، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله - جل وعلا- أياً كانت ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه كالتوجه إليه بطلب الغوث، أو نحو ذلك؛ فإنه يكون مما رخص فيه، والحمد لله.
__________
(1) البخاري: كتاب الأشربة/باب قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر...)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب نقصان الإيمان بالمعاصي.(18/14)
وقوله: في هذه الآية { بِضُرٍّ } نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم جميع أنواع الضر، سواء أكان ضرا في الدين، أم كان ضرا في الدنيا، يعني كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان، أو من جهة الأموال، أو من جهة الأولاد، أو من جهة الأعراض، ونحو ذلك إذاً: فمعنى قوله: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } أيّ بأيّ نوع من أنواع الضر { فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } .
أي الذي يكشف الضر في الحقيقة هو الله -جل وعلا- لا يكشف البلوى إلا هو-- سبحانه وتعالى -- وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف فإنما هو من جهة أنه سبب فالله هو الذي جعله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله -جل وعلا- وإلا فالكاشف حقيقة هو الله -جل وعلا- والمخلوق، ولو كان يقدر، فإنما قدر بإقدار الله له؛ إذ هو سبب من الأسباب، فالحاصل أن الكاشف على الحقيقة هو الله وحده.
(ق): قوله: { وإن يردك بخير } ، هنا قال: { يردك } ، وفي الضر قال: { يمسسك } فهل هذا من باب تنويع العبارة، أو هناك فرق معنوي؟.
الجواب: هناك فرق معنوي، وهو أن الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله ، بل تنسب إلى فعله، أي: مفعوله. فالمس من فعل الله ، والضر من مفعولاته، فالله لا يريد الضر لذاته، بل يريد لغيره، لما يترتب عليه من الخير، ولما وراء ذلك من الحكم البالغة، وفي الحديث القدسي: "إن من عبادي من لو أغنيته أفسده الغنى"(1).
أما الخير، فهو مراد الله لذاته، ومفعول له، ويقرب من هذا ما في سورة الجن: { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } [الجن: 10].
__________
(1) ضعيف: أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر(2/232) من حديث أنس، والخطيب في التاريخ (6/14) من حديث عمر بن الخطاب. وضعفه الألباني في الضعيفة (1783) وضعيف الجامع (75).(18/15)
فإذا أصيب الإنسان بمرض، فالله لم يرد به الضرر لذاته، بل أراد المرض، وهو يضره، لكن لم يرد ضرره، بل أراد خيراً من وراء ذلك، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون ظاهرة في غيره، كما قال تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25]. فالمهم أنه ليس لنا أن نتحجر حكمة الله ، لأنها أوسع من عقولنا، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد الضرر لأنه ضرر، فالضرر عند الله ليس مراداً لذاته، بل لغيره، ولا يترتب عليه إلا الخير، أما الخير، فهو مراد لذاته، ومفعول له، والله أعلم بما أراد بكلامه، لكن هذا الذي يتبين لي.
قوله: { فلا راد لفضله } ، أي: لا يستطيع أن يرد فضل الله أبداً، ولو اجتمعت الأمة على ذلك، وفي الحديث: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"(1). وعليه، فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلم أن الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنع فضل الله ، فإنها لا تستطيع.
قوله: { يصيب به من يشاء } ، الضمير إما أن يعود إلى الفضل، لأنه أقرب، أو إلى الخير، لأنه هو الذي يتحدث عنه، ولا يختلف المعنى بذلك.
قوله: { من يشاء } ، كل فعل مقيد بالمشيئة، فإنه مقيد بالحكمة، لأن مشيئة الله ليس مجردة يفعل ما يشاء لمجرد أنه يفعله فقط، لأن من صفات الله الحكمة، ومن أسمائه الحكيم، قال الله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } [الإنسان: 30].
قوله: { من عباده } ، العبودية هنا عامة، لأن قوله: { بخير } يشمل خير الدنيا والآخرة، وخير الدنيا يصيب الكفار.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب الذكر بعد الصلاة، حديث (844)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة /باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته حديث (593).(18/16)
قوله: { وهو الغفور الرحيم } ، أي: ذو المغفرة، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر، وهو ما يتقى به السهام، والمغفرة فيه ستر ووقاية. والرحيم، أي: ذو الرحمة، وهي صفة تليق بالله - عز وجل - ، تقتضي الإحسان والإنعام. الشاهد قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } في الآية الأولى، فقد نبه الله نبيه أن من يدعو أحداً من دون الله (أي: من سواه) لا ينفعه ولا يضره. وكذلك قوله في الآية الثاني: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } [العنكبوت: 17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثالثة قوله: { فابتغوا عند الله الرزق } .
لو أتى المؤلف بأول الآية: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } لكان أولى، فهم يعبدون هذه الأوثان من شجر وحجر وغيرها، وهي لا تملك لهم رزقاً أبداً، لو دعوها إلى يوم القيامة ما أحضرت لهم ولا حبة بر، ولا دفعت عنهم أدنى مرض أو فقر، فإذا كانت لا تملك الرزق، فالذي يملكه هو الله ، ولهذا قال: { فابتغوا عند الله الرزق } ، أي: اطلبوا عند الله الرزق، لأنه سبحانه هو الذي لا ينقضي ما عنده، { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } [النحل: 96]، والرزق هو العطاء كما قال تعالى: { فارزقوهم منه } .
وقوله: { عند الله } : عند الله : حال من الرزق، وقدم الحال مع أن موضعها التأخير عن صاحبها لإفادة الحصر، إ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: فابتغوا الرزق حال كونه عند الله لا عند غيره.(18/17)
قوله: { واعبدوه } ، أي: تذللوا بالطاعة، لأن العبادة مأخوذة من التعبيد، وهو التذليل، ومنه قولهم: طريق معبد، أي: مذلل للسالكين، قد أزيل عنه الأحجار والأشجار المؤذية، لأنكم إذا تذللتم له بالطاعة، فهو من أسباب الرزق، قال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق: 3، 4]، فأمر أن نطلب الرزق عنده، ثم أعقبه بقوله: { واعبدوه } إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلب الرزق، لأن العابد ما دام يؤمن أن من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، فعبادته تتضمن طلب الرزق بلسان الحال.
قوله: { واشكروا له } ، إذا أضاف الله الشرك له متعدياً باللام، فهو إشارة إلى الإخلاص، أي: واشكروا نعمة الله لله، فاللام هنا لإفادة الإخلاص، لأن الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعم، وهذا لا بأس به، ولكن كونه يشكر لله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعاً هذا هو الأكمل والأفضل.
والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1-في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله ، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته..... } الآية [آل عمران: 164].(18/18)
2- اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله ، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله ، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم الملك بنعمة الله ، قال "نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله المال"(1)، فهذا من باب التحدث بنعمة الله . والنبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة، فقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"(2)
3- الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة. فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس. وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله ، وتنفع الناس به. وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن، فلا تبني من العجين قصراً مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشيء.
قوله: { إليه ترجعون } ، الجار والمجرور متعلق بـ { ترجعون } ، وتقديمه دل على الحصر، أي أن رجوعنا إلى الله - سبحانه -، وهو الذي سيحاسبنا على ما حملنا إياه من الأمر بالعبادة، والأمر بالشكر، وطلب الرزق منه. والشاهد من هذه الآية: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق } [العنكبوت: 17]، فالفقير يستغيث بالله لكي ينجيه من الفقر، والله هو الذي يستحق الشكر، وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك الرزق، فكيف تستغيث بها؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل حديث (3464)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، حديث(2964).
(2) أخرجه مسلم: في كتاب الفضائل/ باب تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق حديث (2278).(18/19)
وقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } (الأحقاف: 5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الرابعة قوله تعالى: { ومن أضل } .
{ من } : اسم استفهام مبتدأ، و { أضل } : خبره، والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل.
و { أضل } : اسم تفضيل، أي: لا أحد أضل من هذا. والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح. وإذا كان الاستفهام مراد به النفي كان أبلغ من النفي المجرد، لأنه يحوله من نفي إلى تحد، أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله ؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا أضل ممن يدعو، لأن هذا نفي مجرد، وذاك نفي مشرب معنى التحدي.
قوله: { ممن يدعو } ، متعلق بأضل، ويراد بالدعاء هنا دعاء المسألة ودعاء العبادة.
قوله: { من دون الله } ، أي: سواه.
قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، { من } : مفعول يدعو، أي لو بقي كل عمر الدنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [فاطر: 14]، والخبر هنا عن الله تعالى، قال تعالى: { ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14]، يعني: نفسه - سبحانه وتعالى -.
وقوله: { من لا يستجيب } أتى بـ { من } ، وهي للعاقل، مع أنهم يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وهي غير عاقلة، لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، فخوطبوا بمقتضى ما يدعون، لأنه أبلغ في إقامة الحجة عليهم في أنهم يدعون من يرونهم عقلاء، ومع ذلك لا يستجيبون لهم، وهذا من بلاغة القرآن، لأنه خاطبهم بما تقتضيه حالهم ليقيم الحجة عليه، إذ لو قيل: ما لا يستجيب له، لقالوا: هناك عذر في عدم الاستجابة لأنهم غير عقلاء.(18/20)
قوله: { وهم عن دعائهم } ، الضمير في قوله: { هم } يعود على { من } باعتبار المعنى، لأنهم جماعة، وضمير يستجيب يعود على { من } باعتبار اللفظ، لأنه مفرد، فأفرد الضمير باعتبار لفظ { من } ، وجمعه باعتبار المعنى، لأن { من } تعود على الأصنام، وهي جماعة، و { من } قد يراعى لفظها ومعناها في كلام واحد. ومنه قوله تعالى: { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } [الطلاق: 11]، فهنا راعي اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ.
قوله: { عن دعائهم } ، الضمير في دعائهم يعود إلى المدعوين، وهل المعنى: { وهم } ، أي: الأصنام، { عن دعائهم } ، أي: دعاء الداعين إياهم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أو المعنى: و { هم } عن دعاء العابدين لهم، فيكون "دعاء" مضافاً إلى فاعله، والمفعول محذوف؟ الأول أبلغ، أي عن دعاء العابدين إياهم أبلغ من دعاء العابدين على سبيل الإطلاق، فإذا قلت: { عن دعائهم } ، أي: عن دعاء العابدين إياهم، وجعلت الضمير هنا يعود على المدعوين، صار المعنى أن هذه الأصنام غافلة دعوة هؤلاء إياهم، ويكون هذا أبلغ في أن هذه الأصنام لا تفيد شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله: { وإذا حشر الناس } ، أي: يوم القيامة، { كانوا لهم أعداء } ، هل المعنى: كان العابدون للمعبودين أعداء، أو كان المعبودون للعابدين أعداء؟.
الجواب: يشمل المعنيين، وهذا من بلاغة القرآن.
الشاهد: قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله ؟! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم. فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد! المدد! أو: أغثني، لا يغني عنه شيئاً، ولكن قد يبتلي فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.(18/21)
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقاً لا تحمل، فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } . أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به، فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد. والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون قبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول، وضلال في الدين، والعامة لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (النمل: من الآية62)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الخامسة قوله تعالى: { أمن } ، أم: منقطعة، والفرق بين المنقطعة والمتصلة ما يلي:
1-المنقطعة بمعنى (بل)، والمتصلة بمعنى (أو).
2-المتصلة لا بد فيها من ذكر المعادل، والمتصلة لا يشترط فيها ذكر المعادل.
مثال ذلك: أعندك زيد أم عمرو؟ فهذه متصلة، وقوله تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } متصلة وقوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } منقطعة، لأنه لم يذكر لها معادل، فهي بمعنى بل والهمزة.
قوله: { المضطر } ، أصلها: المضتر، أي: الذي أصابه الضرر، قال تعالى: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له } [الأنبياء: 84]، فلا يجيب المضطر إلا الله ، لكن قيده بقوله: { إذا دعاه } ، أما إذا لم يدعه، فقد يكشف الله ضره، وقد لا يكشفه.
قوله: { ويكشف السوء } ، أي: يزيل السوء، والسوء: ما يسوء المرء، وهو دون الضرورة، لأن الإنسان قد يساء بما لا يضره، لكن كل ضرورة سوء.(18/22)
وقوله: { ويكشف السوء } هل هي متعلقة بما قبلها في المعنى، وإنه إذا أجابه كشف سوءه، أو هي مستقلة يجيب المضطر إذا دعاه ثم أمر آخر يكشف السوء؟
الجواب: المعنى الأخير أعم، لأنها تشمل كشف سوء المضطر وغيره، ومن دعا الله ومن لم يدعه، وعلى التقدير الأول تكون خاصة بكشف سوء المضطر، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أعم كان أولى، ويؤيد العموم قوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض } .
قوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض } ، الذين يجعلهم الله خلفاء الأرض هم عباد الله الصالحون، قال تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } [النور: 55].
قوله: { أإله مع الله } ، الاستفهام للإنكار، أو بمعنى النفي، وهما متقاربان، أي: هل أحد مع الله يفعل ذلك؟!
الجواب: لا، وإذا كان ذلك، فيجب أن تصرف العبادة لله وحده، وكذلك الدعاء، فالواجب على العبد أن يوجه السؤال إلى الله تعالى، ولا يطلب من أحد أن يزيل ضرورته ويكشف سوءه وهو لا يستطيع.
"إشكال وجوابه: وهو أن الإنسان المضطر يسأل غير الله ويستجاب له، كمن اضطر إلى طعام وطلب من صاحب الطعام أن يعطيه فأعطاه، فهل يجوز أم لا؟
"الجواب: أن هذا جائز، لكن يجب أن نعتقد أن هذا مجرد سبب لا أنه مستقل، فالله يجعل لكل شيء سبباً، فيمكن أن يصرف الله قلبه فلا يعطيك، ويمكن أن تأكل ولا تشبع فلا تزول ضرورتك، ويمكن أن يسخره الله ويعطيك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(18/23)
وروى الطبراني بإسناده(1) [أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله (وروى الطبراني)..الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير. مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.
(ق): قوله: "بإسناده"، يشير إلى أن هذا الإسناد ليس على شرط الصحيح، أو المتفق عليه بين الناس، بل هو إسناده الخاص، وعليه، فيجب أن يراجع هذا الإسناد فليس كان إسناد محدث قد تمت فيه شروط القبول. وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد": "إن رجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وابن لهيعة خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه"، ولم يذكر المؤلف الصحابي، وفي الشرح هو عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.
قوله: "في زمن النبي"، أي: عهده، وكان الكافر أولاً يعلن كفره ولا يبالي، ولما قوي المسلمون بعد غزوة بدر خاف الكفار، فصاروا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
قوله: "منافق"، المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهؤلاء ظهروا بعد غزوة بدر. ولم يسم المنافق في هذا الحديث، فيحتمل أنه عبدالله بن أبي، لأنه مشهور بإيذاء المسلمين، ويحتمل غيره.
(ف): قلت: هو عبد الله بن أبي كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/317)، حديث (22758)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/378)من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه "لا يقام لي إنما يقام لله تبارك وتعالى". وذكره الهيثمي في المجمع (10/159)وقال: "رواه الطبراني ورجاله زجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث".(18/24)
(ق): واعلم أن أذية المنافقين للمسلمين ليست بالضرب أو القتل، لأنهم يتظاهرون بمحبة المسلمين، ولكن بالقول والتعريض كما صنعوا في قصة الإفك.
(ف): قوله: فقال بعضهم أي الصحابة رضي الله عنهم، هو أبو بكر - رضي الله عنه -.
(ق): قوله: "نستغيث"، أي: نطلب الغوث وهو إزالة الشدة.
قوله: "من هذا المنافق"، إما بزجره، أو تعزيره، أو بما يناسب المقام. وفي الحديث إيجاز حذف دل عليه السياق، أي: فقاموا إلى رسول الله ، فقالوا: يا رسول الله لِلَّهِ إنها نستغيث بك من هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله).
قوله: "إنه لا يستغاث بي"، ظاهر هذه الجملة النفي مطلقاً، ويحتمل أن المراد: لا يستغاث به في هذه القضية المعينة.
فعلى الأول: يكون نفي الاستغاثة من باب سد الذرائع والتأدب في اللفظ، وليس من باب الحكم بالعموم، لأن نفي الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدر عليه.
أما إذا قلنا: إن النفي عائد إلى القضية المعينة التي استغاثوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منها، فإنه يكون على الحقيقة، أي: على النفي الحقيقي، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، ولا يمكنه حسب الحكم الظاهر للمنافقين أن ينتقم من هذا المنافق انتقاماً ظاهراً، إذ إن المنافقين يستترون، وعلى هذا، فلا يستغاث للتخلص من المنافق إلا بالله.(18/25)
(تم): وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال إنما هي بالله -جل وعلا- لا بنبيه - صلى الله عليه وسلم - فكأنه حصل منهم نوع التفات للنبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يقدر عليه، فبين لهم أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله -جل وعلا- أولاً، فقال: (إنه لا يستغاث بي) وهذا نفي فيه معنى النهي، يعني: لا تستغيثوا بي بل استغيثوا بالله في هذا الأمر، وإذا أغاثهم الله -جل وعلا- كف شر ذلك المنافق عنهم.
وقد أعل بعض العلماء هذا الحديث بأن في إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، لكن إيراد أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون في إسنادها بعض المقال، في مثل هذا المقام: لا بأس به، بل فعلهم هذا صواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عضدته الأدلة من القرآن ومن السنة، كما في هذا الحديث فإن قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله) قد دلت عليه الآيات التي سلفت.
وهذا الذي درج عليه صنيع الراسخين في العلم من أهل الحديث، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له في (الفتاوى) قال: (أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول، بل إما في تأييده يعني في تأييد ذلك الأصل أو في فرع من الفروع). وهذا هو صنيع الشيخ -رحمه الله - أيضاً في هذا الكتاب.
فإنه يستدل بأحاديث هي من جهة المعنى الذي اشتملت عليه صحيحة، -كما سبق إيضاحه- وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلا به في رده على البكري المعروف بـ(الاستغاثة) أعني: كتاب "الاستغاثة الكبرى" أو "الرد على البكري" وقال: إن هذا الحديث هو في معنى ما جاء في النصوص.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يستغاث بي) يعني: لا تستغيثوا بي، وإنما استغيثوا بالله؛ لأن لفظ(يستغاث) تقدمه نفي، والمراد منه النهي.(18/26)
وهذا الباب ظاهر المناسبة لما قبله، ولما بعده أيضا في أن الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء، وأن الدعاء عبادة، وأن الاستغاثة عبادة، وصرف العبادة لغير الله -جل وعلا- كفر وشرك.
ومما يدل على أن الدعاء عبادة قول الله -جل وعلا-: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } (البقرة: 186)، وقوله { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } يدل على أن إجابة الدعوة تكون برفع المكروه أو بمنع وقوعه وتكون أيضاً بالعطاء، والاثابة فيما إذا عُبِدَ فيجيب الدعوة؛ بإعطاء السائل سؤله، ويجيب أيضا الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته.
ولهذا يفسر السلف الآيات التي فيها إجابة الدعاء، ونحو ذلك بأن فيها إعطاء سؤل السائل، وإثابة العابد لأن الصحابة والسلف: يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا.
وقوله: { إِذَا دَعَانِ } يعني: إذا سألني أو عبدني مع أنها في السؤال ظاهرة وفي الدعاء بينة.
والآيات في مثل ذلك كثيرة كقوله -جل وعلا- في سورة إبراهيم فيما ذكره عن نبيه - عليه السلام - { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } (مريم: 48)، قال الله -جل وعلا- بعدها: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله } (مريم: من الآية49)، فإبراهيم - عليه السلام - قال: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } وقال { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ } فدل على أن الدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء. والدعاء يُفَسِّرَ تارة بدعاء المسألة، وتارة بدعاء العبادة، وهذا حاصل من أولئك لأصنامهم وأوثانهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.(18/27)
الثانية: تفسير قوله: { ولا تدع من دون ا لله ما لا ينفعك ولا يضرك }
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله ، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله .
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد والتأدب مع الله - عز وجل -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، يعني: حيث قال في الترجمة باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، ووجه ذلك في الاستغاثة طلب إزالة الشدة والدعاء طلب ذلك وغيره، إذاً الاستغاثة نوع من الدعاء، والدعاء أعم، فهو من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فهو كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم } [الحج: 77].
الثانية: تفسير قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، الخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، بدليل الآيات التي قبلها، قال تعالى: { وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين } [يونس: 105].(18/28)
فإن قيل: كيف ينهاه الله عن أمر لا يمكن أن يقع منه شرعاً؟
أجيب: إن الغرض هو التنديد بمن فعل ذلك، كأنه يقول: لا تسلك هذا الطريق التي سلكها أهل الضلال، وإن كان الرسول لا يمكن أن يقع منه ذلك شرعاً.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر، يؤخذ من قوله تعالى: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } ، مضافاً إلى قوله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13].
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره، صار من الظالمين، تؤخذ من كون الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أصلح الناس، فلو فعل ذلك إرضاء لغيره، صار من الظالمين، حتى ولو فعله مجاملة لإنسان مشرك، فدعا صاحب قبر إرضاء لذلك المشرك، فإنه يكون مشركاً، إذا لا تجوز المحاباة في دين الله .
الخامسة تفسير الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو...... } الآية [الأنعام: 17]، فإن كان لا يكشف الضر إلا الله ، وجب أن تكون العبادة له وحده والاستغاثة به وحده.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً، تؤخذ من قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } ، فلا ينتفع من دعائه هذا، فخسر الدنيا بذلك، والآخرة بكفره".
السابعة: تفسير الآية الثالثة، هي قوله تعالى: { فابتغوا عند الله الرزق } .
وقوله: { عند الله } حال من الرزق، وعليه يكون ابتغاء الرزق عند الله وحده.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله ، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه، { واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون } ، لأن العبادة سبب لدخول الجنة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: { إليه ترجعون } .
التاسعة: تفسير الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5].(18/29)
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله ، تؤخذ من قوله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، لأن الاستفهام هنا بمعنى النفي.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه، لقوله تعالى: { وهم عن دعائهم غافلون } ، { وهم } ، أي: المدعوون، { عن دعائهم } ، أي: دعاء الداعين، أو عن دعاء الداعين إياهم، فالاحتمال في الضمير الثاني وهو قوله: { عن دعائهم } ، أما الضمير الأول، فإنه يعود إلى المدعوين لا ريب، وقد سبق بيانه بالتفصيل.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له، تؤخذ من قوله تعالى: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } .
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو، تؤخذ من قوله تعالى: { وكانوا بعبادتهم كافرين } .
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة، معنى كفر المدعو: رده وإنكاره، فإذا كان يوم القيامة تبرأ منه وأنكره، تؤخذ من قوله: { وكانوا بعبادتهم كافرين } .
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس، وذلك لأمور، هي:
1-أنه يدعو من دون الله من لا يستجيب له.
2-أن المدعوين غافلون عن دعائهم.
3-أنه إذا حشر الناس كانوا له أعداء.
4-أنه كافر بعبادتهم.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة، وهي قوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } ، وقد سبق ذلك.(18/30)
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ... إلخ، وهو كما قال رحمه الله : وهذا موجود الآن، فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيماً، فإذا وقعوا في الشدة دعوا الله مخلصين له الدين، وكان عليهم أن يلجئوا للأصنام لو كانت عبادتها حقاً، إلا أن المشركين اليوم من هو أشد شركاً من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعوا أولياءهم، كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلاً دعوا الله ، وإذا حلفوا حلفاً هم فيه صادقون حلفوا بعلي أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفاً هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى حمى التوحيد، والتأدب مع الله . اختار المؤلف أن قوله: "لا يستغاث بي" من باب التأدب بالألفاظ، والبعد عن التعلق بغير الله ، وأن يكون تعلق الإنسان دائماً بالله وحده، فهو يعلم الأمة أن تلجأ إلى الله وحده إذا وقعت في الشدائد، ولا تستغيث إلا به وحده.
- - - - -(18/31)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ - وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }
(الأعراف: 191-192).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب هو باب قول الله تعالى { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ - وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً... } (الأعراف: 191-192). وإيراد هذا الباب بعد الأبواب المتقدمة هو من أحسن الإيراد ومن أعظمها فقها ورسوخا في العلم؛ ذلك أن برهان وجوب توحيد الله -جل وعلا- في إلاهيته هو ما ركز في الفِطَر من أنه جل وعلا واحد في ربوبيته.
وقد أقر بهذا وسلم به المشركون، بل كل أحد على الإقرار بهذا والاعتراف به فهي البرهان على أن المستحِق للعبادة هو من تَوَحَّد في الربوبية، فهذا الباب والباب الذي بعده أيضا: برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه بدليل فطري، ودليل واقعي، ودليل عقلي.
ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا أهل السنة والجماعة تؤخذ من الكتاب والسنة؛ لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى كما هو ظاهر لمن تأمل نصوص الوحيين.(19/1)
فهذا الباب فيه بيان أن الذي يخلق هو الله وحده، والذي يرزق هو الله وحده، والذي يملك هو الله وحده، وأن غير الله -جل وعلا- ليس له نصيب من الخلق، وليس له نصيب من الرزق، وليس له نصيب من الإحياء، وليس له نصيب من الإماتة، وليس له نصيب من الأمر، وليس له ملك حقيقي في أمر من الأمور حتى أعلى الخلق مقاما، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له الله -جل وعلا-: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (آل عمران: من الآية128) يعني: لست مالكا لشيء من الأمر، وليس من الأمر شيء تملكه، فـ(اللام)هنا لام الملك، فمن الذي يملك إذاً؟ الذي يملك هو الله جل وعلا. فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُنْفَى عنه ذلك الأمر، فإنه منفي عمن هو دونه من باب أولى.
والمتوجهون إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء يعتقدون بأن هؤلاء المتوجه إليهم يملكون شيئاً من الرزق أو التوسط أوالشفاعة بدون إذن الله -جل وعلا- ومشيئته. فهذا الباب - إذاً- أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه.
والقرآن فيه كثير من الأدلة والبراهين على أن المستحق للعبادة هو الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، فكل ذلك النوع من الأدلة فيه دليل على أن المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية.
ومن الأدلة والبراهين على ذلك - أيضاً - ما جاء في القرآن من نصر الله -- عز وجل -- رسله وأولياؤه على أعدائهم، من طوائف الشرك وكيف أنهم ذلوا وخضعوا وغلبوا أمام طوائف أهل الإيمان وجند الله -جل وعلا- من الرسل والأنبياء وأتباعهم.
فهذا نوع آخر من الأدلة: وهو أنه ما من طائفة موحدة بعث الله -جل وعلا- إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا نصرها وأظفرها حتى صارت العاقبة لهم.(19/2)
وأدلة هذا في القرآن كثيرة، نقرؤها في قصص الأنبياء وقصص القرى، وما جاء في بيان عاقبة الأمم والقرى المخالفين لرسلهم فهذا دليل على أن التوحيد هو الحق، وأن الشرك باطل.
ومن الأدلة والبراهين على تقرير استحقاق الله تعالى للعبادة دون ما سواه: ما تضمنه القرآن من بيان ضعف المخلوق، الذي يعلم هذا، ويلمسه بنفسه، وكيف أنه جاء إلى الحياة بغير اختياره؛ بل الله -جل وعلا- الذي أتى به إلى هذه الحياة، وسيخرجه منها بغير اختياره أيضا، مما يدل على أنه مقهور، وهو يعلم قطعا أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليس هي تلك الآلهة، وإنما هو الله -جل وعلا- وحده هو الذي يحيي ويميت، وهذا إقرار عام يعلمه كل أحد من فطرته.
ومن الأدلة والبراهين أيضا أن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وأنه ذو النعوت الكاملة، وذو النعوت الجليلة، فنعوت الجلال، والجمال، والكمال، له سبحانه، وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له، وفي كل نعت ووصف له، فله الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
فهذا الباب ذكر فيه الشيخ -رحمه الله - أحد أنواع أدلة الربوبية، أو براهين التوحيد، وأنه -جل وعلا- هو الواحد في ربوبيته، والباب الذي يليه هو باب قول الله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (سبأ: من الآية23) وفيه دليل على عظمة الله - جل وعلاـ في صفاته.
ففي هذا الكتاب تنويع براهين توحيد العبادة، بأدلة متنوعة من القرآن - كما سيأتي - إن شاء الله .(19/3)
(ف): قوله { أيشركون } أي في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئاً وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله ، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين. وأشرف الخلق a - صلى الله عليه وسلم - قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل " وهذا كقوله ' 25: 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " وقوله ' 7: 188 ' " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " وقوله ' 72: 21 - 23 ' " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ".(19/4)
فكفى بهذه الآيات برهاناً على بطلان دعوة غير الله كائناً من كان. فإن كان نبياً أو صالحاً فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضا به رباً ومعبوداً، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبوداً مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى: ' 28: 88 ' " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " وقال ' 12: 40 ' " إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو دين الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل - عليه السلام - قال " يا رسول الله ، ما الإسلام؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان " الحديث.
(ق): قوله: { ما لا يخلق } ، هنا عبر بـ { ما } دون "من"، وفي قوله: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له } [الأحقاف: 5] عبر بـ { من } . والمناسبة ظاهرة، لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا، فالمدعو جماد، لأن الذي لا يخلق شيئاً ولا يصنعه جماد لا يفيد.
قوله: { شيئاً } ، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: { وهم يخلقون } ، وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص.
والرب المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقاً، بل هو الخالق، فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء. والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم، لأن ما جاز انعدامه أولاً، جاز عقلاً انعدامه آخراً. فكيف يعبد هؤلاء من دون الله ، إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!.
"إشكال وجوابه: قوله: { ما لا يخلق } الضمير بالإفراد، وقوله: { وهم يخلقون } الضمير بالجمع، فما الجواب؟(19/5)
"أجيب: بأن قوله: { ما لا يخلق } عاد الضمير على { ما } باعتبار اللفظ، لأن { ما } اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع، فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع، كقوله: { من لا يستجيب له } .
وقوله: { وهم يخلقون } عاد الضمير على { ما } باعتبار المعنى، كقوله: { وهم عن دعائهم غافلون } .
قوله: { ولا يستطيعون لهم نصراً } ، أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو، لأن هؤلاء المعبودين قاصرون. والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه.
قوله: { ولا أنفسهم ينصرون } ، بنصب أنفسهم على أنه مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال، لأن العامل لم يشتغل بضمير السابق.
أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم، فكيف ينصرون غيرهم؟!
فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:
1-أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2- أنهم مخلوقون من العدم، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداءً ودواماً.
3- أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: { لا يستطيعون } أبلغ من قوله: "لا ينصرونهم"، لأنه لو قال: "لا ينصرونهم"، فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون، لكن لما قال: { ولا يستطيعون لهم نصراً } كان أبلغ لظهور عجزهم.
4-أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } (فاطر: 13)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثالثة قوله: { والذين تدعو من دونه } . يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، و { من دونه } ، أي: سوى الله .(19/6)
قوله: { ما يملكون من قطمير } ، { ما } : نافية، { من } حرف جر زائد لفظاً، وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر، لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة { ما يملكون } خبر المبتدأ الذي هو { الذين } .
وقوله: { من قطمير } ، القطمير: سلب نواة التمرة.
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء.
القطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.
الفتيل: وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير: وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير، فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملاً؟
أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقياً، فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلاً إحراقه للنهي عن إضاعة المال.
قوله: { إن تدعوهم } ، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: { لا يسمعوا دعاءكم } جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } ، أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت، لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [مريم: 42] فإذا كانت كذلك، فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله ؟! بل هذا سفه، قال تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [البقرة: 130].(19/7)
قوله: { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } هو كقوله تعالى: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 6]. فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون، فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيزاً والمسيح. وإن كانوا أحجاراً وأشجاراً ونحوها، فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها، فتكفر بشرك من يشرك بها، ويؤيده قوله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [الأنبياء: 98]، وما ثبت في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله "، فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار، فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت.
قوله: { ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14]، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكاً عند من خاطبه به، فيقول: ولا ينبئك مثل خبير، ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله ، لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله ، وخبره خبر صدق، لأن الله تعالى يقول: { ومن أصدق من الله قيلاً } [النساء: 122]. والخبير: العالم ببواطن الأمور.(19/8)
(ف): قلت: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادى عابده يوم القيامة ويتبرأ منه، كما قال تعالى: ' 10: 28 - 30 ' " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد " إن كنا عن عبادتكم لغافلين " قال يقول ذلك كل شيئ كان يعبد من دون الله .
فالكيس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفعاً، فضلاً عن غيره.
(ق): مسألة: هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟
"اختلف في ذلك على قولين:
"القول الأول: أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين زيارة القبور: "السلام عليكم" دعاء لا يقصد به المخاطبة، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم: "بأن الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام"، وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه، فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام، فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعونهم، فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعون، لأن هذا كفر بالقرآن، فتبين هذا أنه لا تعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين"، وبين هذه الآية. وأما قوله: { ولو سمعوا } ، فمعناه، لو سمعوا فرضاً ما استجابوا لكم، لأنهم لا يستطيعون.(19/9)
"القول الثاني: أن الأموات يسمعون. واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة. وبما ثبت في "الصحيح" من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم.
والجواب عن هذين الدليلين: أما الأول، فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته في التشهد، وهو لا يسمعهم قطعاً.
أما الثاني: فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي (الصحيح) عن أنس قال: شُجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: ( كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم)؟ فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: في الصحيح أي الصحيحين. علقه البخاري. قال وقال حميد وثابت عن أنس. ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس. وقال ابن إسحاق في المغازي. حدثنا حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟فأنزل الله الآية.(19/10)
(ق): قوله: "أحد"، جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة، لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفاً عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدنية النبوية لحاجة تمييزها، فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أشار الله إلى ذلك بقوله: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } [آل عمران: 152]، وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون. وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصرٍ ما دمنا على هذه الحال، إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعاً.
قوله: "شج"، الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
(ف): قوله: شج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - السفلى وجرح شفته العليا وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك ابن سنان مص الدم من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وازدرده. فقال له: لن تمسك النار.
قال القرطبي: والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء - وهي كل سن بعد ثنية.
قال النووي رحمه الله : وللإنسان أربع رباعيات.
قال الحافظ: والمراد أنها كسرت، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها.
قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والإبتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب. ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم.(19/11)
قال القاضي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون. ولا يفتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم انتهى.
قلت: يعني من الغلو والعبادة.
(ق): قوله: "وكسرت رباعيته"، السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين. قوله فقال (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم -) الاستفهام يراد به الاستبعاد، أي بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم.
قوله: (يُفلح) من الفلاح وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
(ف): زاد مسلم كسروا رباعيته وأدموا وجهه.
(ق): قوله: "فنزلت: { ليس لك من الأمر شيء } "، أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
و { شيء } : نكرة في سياق النفي، فتعم.
قوله: { الأمر } ، أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له فيهم شيء. ففي الآية خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله - سبحانه - في كلمة واحدة: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"، فإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء، كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء، فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه، لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك لغيره؟(19/12)
ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه. فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلاحهم، قيل له: { ليس لك من الأمر شيء } . والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: "والله، لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتالى علي على أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك"، فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوماً كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟!
وما دام الإنسان لم يمت، فكل شيء ممكن، كما أن المسلم - نسأل الله الحماية - قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة. فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصياً.
قوله: "فنزلت"، الفاء للسببية، وعليه، فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: (اللهم العن فلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } الآية وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاح، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها.(19/13)
قوله: أنه سمع رسول الله هذا القنوت على هؤلاء بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد.
(ق): قوله: "إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر"، قيد مكان الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.
قوله: "يقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً" اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها. و"فلاناً وفلاناً": بينه من الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
(ف): قوله: بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات: أي أجاب حمده وتقبيله. وقال السهيلي: مفعول سمع محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه: سمع الله لمن حمده باللام المتضمنة معنى استجاب له. ولا حذف وإنما هو مضمن.
قوله: وربنا لك الحمد في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد. فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له. كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له.(19/14)
وكذا قال ابن القيم: وفرق بينه وبين المدح بأن الأخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبار مجرداً عن حب وإرادة، أو يكون مقروناً بحبه وإرادته. فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه. ولهذا كان خبراً يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: الحمد لله أو قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى بإسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد.
وفيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: يقتصر على سمع الله لمن حمده.
قوله: وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام.
وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان بن حرب، فما استجيب له - صلى الله عليه وسلم - فيهم.
(ق): قوله: "فأنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } "، هنا قال: "فأنزل"، وفي الحديث السابق قال: "فنزلت"، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء، وقوله: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.(19/15)
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم، فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية، لأن القلوب بيد الله -- سبحانه وتعالى --، ولو أن الأمر كان على ظن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة، لم يبق إلا العذاب. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، والله - سبحانه - يمن على من يشاء من عباده.
وليس بعيداً من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفاً بالعداوة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيداً، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم، فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فأخبروا عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخبروه، فقال: "هو من أهل الجنة"، فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة، فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمة، ويضل من يشاء لحكمة، فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله - - عز وجل - - من أي إنسان.
(ف): وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين. بل في الطواغيت من أنهم ينتفعون من دعاهم، ويمنعون من لاذ بحماهم. فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب. وذلك عدله سبحانه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وبه الحول والقوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(19/16)
وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } قال: (يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت a سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وفيه أي وفي صحيح البخاري.
قوله: عن أبي هريرة اختلف في اسمه. وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن ابن صخر، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه عبد الله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم، حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما حفظه غيره مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
قوله: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من رواية ابن عباس صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا.
(ق): قوله: "قام"، أي: خطيباً.
قوله: "أنزل عليه"، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: { وأنذر عشيرتك } [الشعراء: 214].
قوله: { أنذر } ، أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.
قوله: { عشيرتك } ، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.
قوله: { الأقربين } ، أي: الأقرب فالأقرب، فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا. ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين.(19/17)
وقوله: "حين أنزل عليه" يفيد أنه لم يتأخر - صلى الله عليه وسلم -، بل قام، فقال: "يا معشر قريش!"، أي: يا جماعة قريش. وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "أو كلمة نحوها"، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه فـ"أو": للشك والتردد.
قوله: "اشتروا أنفسكم"، أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
وفي قوله: "اشتروا أنفسكم" من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر، لأن المشتري يكون راغباً.
قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئاً"، هذا هو الشاهد، أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله ، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم، لأن الأمر بيد الله ، ولهذا أمر الله نبيه بذلك، فقال: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دون ملتحداً } [الجن: 21، 22].
قوله: "شيئاً"، نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء.
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب"، هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعباس، بالضم، لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافاً ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.
فإن قيل: كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله - - عز وجل - -؟
فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
أنا النبي لا كذبڑأنا ابن عبد المطلب(19/18)
فلو فرض أن لك أباً يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى، فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقراراً، ولكنه خبر عن أمر واقع، كما لو قلت: كفر فلان، نافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجوداً غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: "لا أغني عنك من الله شيئاً"، أي: لا أنفعك بشيء دون الله ، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغني عن أحد شيئاً حتى عن أبيه وأمه.
قوله: "يا صفية عمة رسول الله !"، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب.
قوله: "يا فاطمة بنت a! سليني من مالي ما شئت"، أي: اطلبي من مالي ما شئت، فلن أمنعك لأنه - صلى الله عليه وسلم - مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: "لا أغني عنك من الله شيئاً".(19/19)
فهذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته، فما بالك بمن هم أبعد؟! فعدم إغنائه عنهم شيئاً من باب أولى، فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق، لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق، إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإيمان به واتباعه. أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه، فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن النجاة من عذاب الله . ففي الحديث امتثال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربه في قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214]، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، فدعا وعم وخصص، وبيَّن أنه لا ينجي أحداً من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به. وإذا كان القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغني عن القريب شيئاً، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينتفع به إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا. وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى. وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.(19/20)
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن غيرهم - يتبين لك أنهم ليسو على شيئ ' 7: 30 ' " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكاً بالله، وعبادة لغير الله ، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده، كما قال تعالى: ' 5: 116، 117 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ".
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق: ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به وهو محض التوحيد فقال " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم " ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة لا إطلاع له عليهم، وأن الله - عز وجل - المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم أ.هـ.(19/21)
قلت: ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوا فيه إلا من آمن، فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه، واتبع فيه رسله عليهم السلام، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية. وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين؟.
والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرأوا من كل مشرك ويكفروا به، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم ' 6: 109 '" قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } .
السابعة: قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعنه المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } .
الثانية عشرة: جدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.(19/22)
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت a لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن - تبين له التوحيد وغربة الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين، وهما آيتا الأعراف، وسبق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
الثانية: قصة أحد، يعني: حيث شج النبي - صلى الله عليه وسلم -... الحديث.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين... إلخ، أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم، فكيف ينقذون غيرهم؟ وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات، فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله - سبحانه - في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله، فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟ فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار، تؤخذ من قوله تعالى: { أو يتوب عليهم } ، فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفاراً.
وهذه المسألة - أي أن المدعو عليهم كفار - ترمي إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق، فقد قطع الله -- سبحانه وتعالى -- أن يكون له من الأمر شيء لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفاراً، أليس يملك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو عليهم؟.(19/23)
نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئاً، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم، لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفاراً لم يملك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بالنسبة إليهم.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم:
{ ليس لك من الأمر شيء } ، وإلا، فهم شجوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضاً حرصوا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: { ليس لك من الأمر شيء } ، أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - حق بأن يدعو عليهم أنزل الله : { ليس لك من الأمر شيء } ، فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قطع عنه هذا الشيء، فغيره من باب أولى.
السابعة: قوله: { أو يتوب عليهم } ، فتاب عليهم، فآمنوا، وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته، فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا، لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر - رضي الله عنه - قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً من أمر الله .(19/24)
الثامنة: القنوت في النوازل، وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، فإنه ينبغي أن يدعى لهم حتى تنكشف. وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره(1)، إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر(2) - رضي الله عنه - ولم يقنت، ولأنه شهادة، فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة. وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله ، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله ، فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف، فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا. وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله ، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك، فإنه يقنت اتباعاً للسنة في هذا الأمر.
ثم من الذي يقنت، الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.
وقيل: يقنت كل إمام مسجد.
وقيل: يقنت كل مصل، وهو الصحيح، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلى"(3)، وهذا يتناول قنوته - صلى الله عليه وسلم - عند النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/301)، والحاكم (1/255)، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) البخاري: كتاب الحيل/باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون …، ومسلم: كتاب السلام/باب الطاعون والطيرة.
(3) البخاري: كتاب الأذان/باب الأذان للمسافرين.(19/25)
الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة، كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز، لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"(1).
مسألة: هل الذي نهي عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموماً، فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة(2) عموماً، وما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنه قال: "لأقربن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار"(3)، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.
أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار، فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش بالهلاك، بل قال: "اللهم! عليك بهم، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"(4)، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله عن ظلمه.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الآذان باب فضل اللهم ربنا لك الحمد حديث (797)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث (676).
(3) البخاري: كتاب صفة الصلاة/ باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، ومسلم: كتاب المساجد/باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(4) البخاري: كتاب الاستسقاء/باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، ومسلم: كتاب المساجد/باب استحباب القنوت...(19/26)
فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.
وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: "اللهم أحصهم عدداً، ولا تبق منهم أحداً"(1) على جواز ذلك، لأنه وقع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولان الأمر وقع كما دعا، فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه. فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة، فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.
ثم إن خبيباً دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.
وفيه أيضاً إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: "اللهم! سلط عليه كلباً من كلابك"(2)، فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.
العاشرة: لعن المعين في القنوت، هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه، فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبداً، فهذا فيه نظر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك.
الحادية عشرة: قصته - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل: { وأنذر عشيرتك الأقربين)، وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشاً، فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/باب فضل من شهد بدراً.
(2) الحاكم في (المستدرك) (كتاب التفسير، تفسير سورة أبي لهب، 2/539)، وقال: (صحيح الإسناد)، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي.(19/27)
الثانية عشرة: جده - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، أي: اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمداً جن، كيف يجمعنا ويناديناً هذا النداء؟ وقوله: "وكذلك لو يفعله مسلم الآن"، أي: لو أن إنساناً جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتاداً عند الناس، قال تعالى: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140]، وقال تعالى: { يقلب الله الليل والنهار } [النور: 44]، فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم أنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغنى عنك من الله شيئاً"، صدق رحمه الله فيما قال، فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئاً، تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد، لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلاً للتقليد، يدعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ……سواك عند حلول الحادث العمم(19/28)
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا على المنكر بأنه لا يعرف حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقامه عند الله ، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له، لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد، { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [البقرة: 145]، ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السلام من الشبهات والشهوات. ولهذا نعى الله - سبحانه - على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق، فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
- - - - -(19/29)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في قول الله تعالى:
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }
(فصلت: من الآية50).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان وجوب تعظيم الله -جل وعلا- في الألفاظ، وأن النعم يجب أن تنسب إليه، وأن يشكر عليها، فتعزى إليه، ويقول العبد: هذا أنعم الله عليَّ به، والكذب في هذه المسائل، أو أن يتكلم المرء بكلام ليس موافقا للحقيقة، أو هو مخالف لما يعلمه من أن الله -جل وعلا- قد أنعم عليه بذلك، فهذا قد يؤديه إلى المهالك، وقد يسلب الله -جل وعلا- عنه النعمة بسبب لفظه.
فالواجب على العبد أن يتحرز في ألفاظه، وبخاصة فيما يتصل بالله -جل وعلا-، أو بأسمائه وصفاته، أو بأفعاله وإنعامه، أو بعدله وحكمته.
والتحرز في ذلك من كمال التوحيد؛ لأنه لا يصدر التحرز إلا عن قلب معظم لله، مجِلٍّ لله، مخبت لله، يعلم أن الله -- جل جلاله -- مطلع عليه، وأنه سبحانه هو ولي الفضل، وهو ولي الإنعام، وهو الذي يستحق أن يُجَلَّ فوق كل جليل، وأن يُحَبَّ فوق كل محبوب، وأن يعظم فوق كل معظم.
فالله -- جل جلاله -- يجب توقيره، وتعظيمه في الألفاظ، ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب، حيث قال: باب ما جاء في قول الله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي … } (فصلت: من الآية50)(20/1)
(ق): مناسبة الباب لـ (كتاب التوحيد): أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وإن ما أعطاه الله ليس محض تفضل، لكن لأنه أهل، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية.
وقد ذكر الشيخ فيه آيتين:
الآية الأولى ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى: { ولئن أذقناه } .
الضمير يعود على الإنسان، والمراد به الجنس. وقيل: المراد به الكافر.
والظاهر أن المراد به الجنس، إلا أنه يمنع من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى: { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ - وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ - لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } (فصلت: 47-49) هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة.
قوله: { منا } أضافه الله إليه، لوضوح كونها من الله ، ولتمام منته بها.
قوله: { من بعد ضراء مسته } . أي: أنه لم يذق الرحمة من أول أمره، بل أصيب بضراء، كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك، ثم أذاقه بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور بها أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع.
قوله: { مسته } أي: أصابته وأثرت فيه.
قوله: { ليقولن هذا لي } . هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله { ليقولن } واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله: { لئن أذقناه } .(20/2)
قوله: { وما أظن الساعة قائمة } . بعد أن انغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله ، ثم كشفها، ثم وجد بعد ذلك لذة وسرورا يشكر الله على ذلك، أما هذا، فقد نسي الآخرة وكفر بها.
قوله: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } .
{ إن } : شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن رجوعه وفيما لا يمكن وقوعه، كقوله تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك } (الزمر: 65)، والمعنى: على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى.
والحسنى: أسم تفضيل، أي: الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد.
قوله: { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } أي: فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به.
قال ابن عباس: يريد من عندي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به. أي هذا بكسبي وأنا مستحق له.
قول ابن عباس: يريد من عندي. أي من حذقي وتصرفي وليس من عند الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: من الآية78)
قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب
قال آخرون: على علم من الله أني له أهل، هذا معنى قول مجاهد: (أوتيته على شرف).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى: { إنما أوتيته على علم } .
في القرآن آيتان: آية قال الله فيها: { إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون } ، والثانية: { إنما أوتيته على علم عندي } ، والظاهر من تفسير المؤلف انه يريد الآية الثانية.
قوله: { على علم } . في معناه أقوال:(20/3)
الأول: قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدا على الإنسان، أي: عالم بوجوه المكاسب ولا فضل لأحد عليّ فيما أوتيته، وإنما الفضل لي، وعليه يكون هذا كفرا بنعمة الله وإعجابا بالنفس.
الثاني: قال آخرون: على علم من الله أني له أهل، فيكون بذلك مدلا على الله ، وأنه أهل ومستحق لأن ينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله ، أي: أوتيت هذا الشيء على علم من الله أني مستحق له وأهل له.
الثالث: قول مجاهد: (أوتيته على شرف)، وهو معنى القول الثاني، فصار معنى الآية يدور على وجهين:
الوجه الأول: أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله ، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته.
الوجه الثاني: أنه أنكر أن يكون لله الفضل عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله ، لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلا لهذه النعمة.
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله - - عز وجل - - والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله ، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كل ما نحصل من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله ، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله - سبحانه وتعالى -، قال تعالى: { وما بكم من نعمة من الله } (النحل: 53) حتى لو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك، فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله - - عز وجل - -، ثم أن المهارة أو العلم قد لا يكون سببا لحصول الرزق، فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلا؟!.
وشكر النعمة له ثلاثة أركان:
الاعتراف بها في القلب.
الثناء على الله باللسان.
العمل بالجوارح بما يرضي المنعم.
فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه، فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى.(20/4)
(ف): قال العماد ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: ' 39: 49 ' { إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة } يخبر أن الإنسان في حالة الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و { قال إنما أوتيته على علم } أي لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا. قال تعالى: { بل هي فتنة } أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصى؟ مع علمنا المتقدم بذلك { بل هي فتنة } أي إختبار { ولكن أكثرهم لا يعلمون } فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون: { قد قالها الذين من قبلهم } أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم، وما كانوا يكسبون. كما قال تعالى مخبراً عن قارون: ' 28: 76 - 78 ' { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } وقال تعالى: ' 26: 138 ' { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } أ. هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/5)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [أن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمي، فأراد الله ان يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتي الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر (شك اسحق) فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أن ثلاثة من بني إسرائيل).
جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة ليس المقصود منها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } (يوسف: 111).
قوله: (من بني إسرائيل) في محل نصب نعت لـ (لثلاثة)، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق أبن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: (أبرص). أي: في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرا إلى عدم انتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن، ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال الله تعالى: { تبريء الأكمة والأبرص بإذني } (المائدة: 110)
قوله: (أقرع). من ليس على رأسه شعر.
قوله: (أعمى). من فقد البصر.
قوله: (فأراد الله )وفي بعض النسخ: (أراد الله ). فعلى إثبات الفاء يكون خبر(إن) محذوفا دل على السياق تقديره: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم.
ولا يمكن أن يكون (أبرص وأقرع وأعمى) خبرا، لأنها بدل، وعلى حذف الفاء يكون الخبر جملة: (أراد الله )، والإرادة هنا كونية.(20/6)
قولهم: (يبتليهم). أي: يختبرهم، كما قال الله تعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء: 35)، وقال تعالى: { هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر } (النمل: 40).
قوله: (ملكا). أحد الملائكة: هم عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم قائمين بطاعة الله ، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهم أحد أركان الإيمان الستة.
قال أهل اللغة: واصل الـ(ملك) مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة، وعلى هذا يكون أصله مألك، فصار فيه إعلال قلبي، فصار ملأك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة وحذفت الهمزة تخفيفا، فصار ملك، ولهذا في الجمع تأتي الهمزة: ملائكة.
قوله: (ويذهب). يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى.
قوله: (قذرني). أي: استقذرني وكرهوا مخالطتي من أجله.
وقوله: (به). الباء للسببية، أي: بسببه.
قوله: (فمسحه). ليتبين أن لكل شيء سببا وبرى بإذن الله - - عز وجل - -، (فذهب عنه قذره): بدأ بذهاب القذر قبل اللون الحسن والجلد الحسن، لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال: التخلية قبل التحلية.
قوله: (قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق -). والظاهر: أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث.
قوله: (عشراء). قيل: هي الحامل مطلقا، وقال في (القاموس): هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله - - عز وجل - - وذللها ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاها إياها.
قوله: (بارك الله لك فيها). فيحتمل أن لفظه الخبر ومعناه الدعاء، وهو الأقرب، لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه خبر محض، كأنه قال: هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد)، أي: قد بارك الله لك فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(20/7)
فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأتى الأقرع). وهو الرجل الثاني في الحديث.
قوله: (فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن). ولم يكتف بمجرد الشعر، بل طلب شعرا حسنا.
قوله: (الذي قذرني الناس به). أي: القرع، لأنه كان أقرع كرهه الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يغطون رؤوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها فيكرهه الناس مما بدا منها.
قوله: (فذهب عنه قذره). يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله - عز وجل - أن يستجاب للإنسان.
قوله: (البقر أو الإبل). الشك في إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطى البقر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأتى الأعمى). هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله: (فأبصر به الناس). لم يطلب بصرا حسنا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرا يبصر به الناس فقط مما يدل على قناعته بالكفاية.
قوله: (فرد الله إليه بصره)الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط.
قوله: (قال: الغنم). هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع، لأن السكينة في أصحاب الغنم.(20/8)
قوله: (شاة والدا). قيل: إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملا، ولما يأتي من قوله: (فأنتج هذان وولد هذا)، والشيء قد يسمى بالاسم القريب، فقد يعبر عن الشيء حاصلا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول.
قوله: (فأُنتج هذان). بالضم، وفيه رواية بالفتح: (فأًنتج)، وفي رواية: (فَنتج هذان).
والأصل في اللغة في مادة (نتج): أنها مبنية للمفعول والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر، و(أنتج)، أي: حصل لهما نتاج الإبل والبقر.
قوله: (وولد هذا). أي: صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى توليد النساء يقال له القابلة، ومن تولى توليد غير النساء يقال له: منتج أو ناتج أو مولد.
قوله: (فكان لهذا واد من الإبل). مقتضى السياق أن يقول: فكان لذلك، لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز، وكذا العكس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله - عز وجل - المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في صورته وهيئته). الصورة في الجسم، والهيئة في الشكل واللباس، وهذا هو الفرق بينهما.
قوله: (رجل مسكين). خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أنا رجل مسكين، والمسكين: الفقير، وسمي الفقير مسكينا، لأن الفقر أسكنه وأذله، والغني في الغالب يكون عنده قوة وحركة.(20/9)
قوله: (وابن السبيل). أي: مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق، ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبا، فكل شيء يلازم شيئا، فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة.
قوله: (انقطعت بي الحبال في سفري). الحبال الأسباب، فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى: { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } (الحج: 15)، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر.
قوله: (فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك). (لا) نافية للجنس، والبلاغ بمعنى الوصول، ومنه تبليغ الرسالة، أي: إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى: لا شيء يوصلني إلى أهلي إلا بالله ثم بك، فالمسألة فيها ضرورة.
قوله: (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن).
السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء، لأن (سأل) تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول: سألته عن فلان، أي: استخبرته، وسألته مالا، أي: استجديته واستعطيته، وإنما قال: (أسألك بالذي أعطاك)، ولم يقل: أسألك بالله، لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه، ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين، لأنه جمع بين أمرين: كونه مسكينا، وكونه ابن سبيل، ففيه سببان يقتضيان الإعطاء.
قوله: (بعيرا). يدل على أن الأبرص أُعطي الإبل، وتعبير إسحاق (الإبل أو البقر) من باب ورعه.
قوله: (أتبلغ به في سفري). أي: ليس أطيب الإبل وإنما يوصلني إلى أهلي فقط.
قوله: (الحقوق كثيرة). أي: هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس من حقك أنت فقط، وتناس - والعياذ بالله - أن الله هو الذي من عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال.
قوله: (كأني أعرفك). كأن هناك للتحقيق لا للتشبيه، لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق، فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى: أني أعرفك معرفة تامة.(20/10)
قوله: (ألم تكن أبرص يقذرك الناس) ذكره الملك بنعمة الله عليه، وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على (لم)، كقوله تعالى: { ألم نشرح لك صدرك } (الشرح: 1).
قوله: (كابرا عن كابر). أنكر أن المال من الله ، لكنه لم يستطيع أن ينكر البرص.
و(كابرا) منصوبة على نزع الخافض، أي: من كابر، أي: ممن يكبرني وهو الأب، عن كابر له وهو الجد، وقيل: المراد الكبر المعنوي، أي: إننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعا.
قوله: (إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت). (إن): شرطية ولها مقابل، يعني: وإن كنت صادقا فأبقى الله عليك النعمة.
فإن قيل: كيف يأتي ب (إن) الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب؟
أجيب: إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى: إن كنت كما ذكرت عن نفسك، فأبقى الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبا وأنك لم ترثه كابرا عن كابر، فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل: (إلى ما أقول) لأنه كان على ذلك بلا شك.
والتنزل مع الخصم يرد كثيرا في الأمور المتيقنة، كقوله تعالى: { الله خير أمّا يشركون } (النمل: 59)، ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأتى الأقرع في صورته). الفاعل الملك، وهنا قال: (في صورته) فقط وفي الأول قال: (في صورته وهيئته)، فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا، فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقة، والهيئة تكون تصنعا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري: في صورته وهيئته).(20/11)
قوله: (فقال له مثل ما قال لهذا) المشار إليه الأبرص.
قوله: (فرد عليه). أي: الأقرع.
قوله: (مثل ما رد عليه هذا). أي: الأبرص.
فكلا الرجلين - والعياذ بالله - غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر.
قوله: (فصيرك الله إلى ما كنت عليه) أي: ردك الله إلى ما كنت عليه من القرع الذي يقذرك الناس به والفقر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: (و أتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شاةً أتبلغ بها في سفري. قال: قد كنت أعمي فرد الله على بصري.فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله؛ لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك] أخرجاه(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فرد الله على بصري). اعترف بنعمة الله ، وهذا أحد أركان الشكر، والركن الثاني: العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث: الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة…… يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله: (فوالله، لا أجهدك بشيء أخذته لله). الجهد: المشقة، والمعنى: لا أشق عليك بمنع ولا منة، واعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالا على الشكر بالقلب بالتضمن.
قوله: (خذ ما شئت ودع ما شئت). هذا من باب الشكر بالجوارح، فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر.
قوله: (لله). اللام للاختصاص، والمعنى: لأجل الله ، وهذا ظاهر في إخلاصه لله، فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك.
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء / باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني اسرائيل، حديث (3464)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، حديث (2964).(20/12)
قوله: (إنما ابتليتم). أي: اختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس، لأن قوله: (إنما ابتليتم) يدل على أن عنده علما بما جرى لصاحبيه وغالبا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس.
قوله: (فقد رضي الله عنك). يعني: لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح.
قوله: (وسخط على صاحبيك). لأنهما كفرا نعمة الله - سبحانه -، وأنكرا أن يكون الله منّ عليهما بالشفاء والمال.
(ف): وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر: فإن الأولين جحدا نعمة الله ، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله فيها، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها. وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يجب.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه ورضى به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له.
(ق): وفي هذا الحديث من العبر شيء كثير، منها:(20/13)
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة.
بيان قدرة الله - - عز وجل - - بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك لهم.
أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر، لقوله: (فأتى الأبرص في صورته)، وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا - والله أعلم - ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى.
أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحا أو معاني أو قوى فقط.
حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه.
إن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله - أي بالمقضى، لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا: أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا.
وللإنسان عند المصائب أربع مقامات:
جزع، وهو محرم.
صبر، وهو واجب.
رضا، وهو مستحب.
شكر، وهو أحسن وأطيب.
وهنا إشكال وهو: كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة وهي لا تلائمه؟
أجيب: أن الإنسان إذا آمن بما يترتب على هذه المصيبة من الأجر العظيم عرف أنه تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط، فعليه السخط)(1)، فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله ، فهذا يجب الرضا به لأن الله عز وجل حكيم، ففرق بين فعل الله والمقضي.والمقضي ينقسم إلى: مصائب لا يلزم الرضا بها، والى أحكام شرعية يجب الرضا بها.
جواز الدعاء المعلق، لقوله: (إن كنت كاذبا، فصيرك الله إلى ما كنت)، وفي القرآن الكريم قال تعالى: { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } (النور: 7)، { والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } (النور: 9) وفي دعاء الاستخارة (اللهم ! إن كنت تعلم... إلخ).
__________
(1) سبق تخريجه وهو حسن كما في الصحيحة (146).(20/14)
جواز التنزل مع الخصم فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم، لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله: أن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرا عن كابر، وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضا قوله تعالى: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } (سبأ: 24) ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل.
أن بركة الله لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم.
هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك: آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استجيب.
بيان أن شكر كل نعمة بحسبها، فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله ، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، والشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شيء.
جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل ن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة وأراد أن يختبر إنسانا بمثل هذا، فله ذلك.
أن الابتلاء قد يكون عاما وظاهرا يؤخذ من قوله: (فإنما ابتليتم)، وقصتهم مشهورة كما سبق.
فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه، لأن الأعمى كان زاهدا في الدنيا، فكان شاكرا لنعمة الله .
ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله: (ورثته كابرا عن كابر).
أن من صفات الله - - عز وجل - - الرضا والسخط والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة.
وإرادة الله نوعان: كونية، وشرعية.
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، فإذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون.(20/15)
وأما الشرعية: فإنه لا يلزم فيه وقوع المراد ويلزم إن يكون محبوبا لله، ولهذا نقول: الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والكونية بمعنى المشيئة، فإن قيل: هل الله يريد الخير والشر كونا أو شرعا؟
أجيب: إن الخير إذا وقع، فهو مراد لله كونا وشرعا، وإذا لم يقع، فهو مراد لله شرعا فقط، وأما الشر فإذا وقع، فهو مراد لله كونا لا شرعا وإذا لم يقع، فهو غير مراد كونا ولا شرعا، واعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله - سبحانه -، ولكن إلى مخلوقات الله ، فكل فعل الله تعالى خير، لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخير كله في يديك، والشر ليس إليك)(1) وأما مخلوقات الله ، ففيها خير وشر.
وإثبات صفة الرضا لله - سبحانه - لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة، بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضي عن شخص مثلا فإن عاطفته قد تحمله على أن يرضى عنه في كل شيء ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة…… كما أن عين السخط تبدي المساويا
لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق، فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق، فقد يخرجه عن الحكمة فيتصرف بما لا يليق لشدة غضبه.
ومن فسر الرضا بالثواب أو إرادته، فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل: إن معني (رضى)، أي: أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضي، ولو قالوا: لا يرضي لكفروا، لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أولوها تأويلا يستلزم جواز نفي الرضا، لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدا.
ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافا لمن قال: كل شيء في اللغة مجاز.
__________
(1) مسلم: كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل.(20/16)
أن الصحابة تطلق على المشاكلة في شيء من الأشياء ولا يلزم منها المقارنة، لقوله: (وسخط على صاحبيك)، فالصاحب هنا: من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس.
اختبار الله - - عز وجل - - بما أنعم عليهم به.
أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات.
أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئا لم يكن من أجل الاختبار، لقول الملك: إنه فقير وابن سبيل.
أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة، لقوله: (فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } .
الثالثة: ما معنى قوله: { أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } .
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية. وهي قوله تعالى: { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي } ، وقد سبق أن الضمير في قوله: { أذقناه } يعود على الإنسان باعتبار الجنس.
الثانية: ما معنى { ليقولن هذا لي } . اللام للاستحقاق، والمعنى: إني: حقيق به وجدير به.
الثالثة: ما معنى قوله: { إنما أوتيته على علم } . وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا نعمة الله - - عز وجل - - والأعمى اعترف بنعمة الله ، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة، قال: (خذ ما شئت) فدل هذا على جوده وإخلاصه، لأنه قال: (فوالله، لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله - - عز وجل - -) بخلاف الأبرص والأقرع حيث كانوا أشِحّاء بخلاء منكرين نعمة الله - - عز وجل - -.
- - - - -(20/17)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب الشفاعة
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد، لأن المشركين الذين يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفعاء لهم عند الله ، وهم يشركون بالله -- سبحانه وتعالى -- فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك. وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له، لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة، فلا يحتاج إلى شفعاء. ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله ، فيقربونا إلى الله ، وهم ضالون في ذلك، فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك، فإنه لا يحتاج إلى شفعاء. والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء، إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم، فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله - - عز وجل - - كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته. ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله - سبحانه - في شيء مما شفع فيه، فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ولكن يقصد بها أمران، هما:
1-إكرام الشافع.
2-نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال تعالى: { والشفع والوتر } [الفجر: 3].
واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة بدخولها.
مثال دفعة المضرة: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن استحق النار أن لا يدخلها.
(تم): وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جدا؛ ذلك أن الذين يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستغيثون به ويطلبون منه، أو يسألون غيره من الأولياء، أو الأنبياء، إذا أقيْمت عليهم الحجة بما ذكر من توحيد الربوبية.(21/1)
قالوا: نحن نعتقد ذلك، ولكن هؤلاء الشفعاء مقرَّبُون عند الله معظَّمُون، قد رفعهم الله -جل وعلا- عنده، ولهم الجاه عند الرب جل وعلا، وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله ؛ فمن توجه إليهم أرضوه بالشفاعة، لأنهم ممن رفعهم الله ؛ ولهذا يقبل شفاعاتهم.
فكأن الشيخ -رحمه الله - رأى حال المشركين، والخرافيين واستحضر حججهم، وهو كذلك؛ إذ هو أَخْبَرُ أهلِ هذه العصورِ المتأخرةِ بحجج المشركين، فلما استحضر ذلك عقد باب الشفاعة....
والشفاعة هي الدعاء، وطلب الشفاعة هو طلب الدعاء، فإذا قال قائل: استشفع برسول الله ، فكأنه قال: أطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لي عند الله ، فالشفاعة طلب؛ فمن استشفع فقد طلب الشفاعة والخلاصة إن الشفاعة دعاء؛ وهي طلب الدعاء أيضا.
وقد سبق أن قررنا أن كل دليل ورد في الشرع على إبطال أن يُدْعَى مع الله -جل وعلا- إله آخر فإنه يصلح أن يكون دليلا على إبطال الاستشفاع بالموتى، الذين غابوا عن دار التكليف؛ لأن حقيقة الشافع كما تقدم آنفاً أنه طالب؛ ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب أيضاً، فالشافع في ظن المستشفع يدعو، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة.
يعني: إذا أتى آت إلى قبر نبي أو قبر ولي أو نحو ذلك فقال: أستشفع بك، أو أسأل الشفاعة، فمعناه: أنه طلب منه ودعا أن يدعو له، فلهذا كان صرفها، أو التوجه بها إلى غير الله -جل وعلا- شركا أكبر؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله ؛ وسؤال من هذا الميت وتوجه بالطلب والدعاء منه.
فإذا عرفت معنى الشفاعة وحكم طلبها من الأموات وأن ذلك شرك أكبر؛ فأعلم أن الأحياء الذين هم في دار التكليف يجوز طلب الشفاعة منهم.(21/2)
بمعنى أن يطلب منهم الدعاء لكن قد يجاب دعاؤهم، وقد لا يجاب، وهذا كما هو حاصلٌ في شفاعة الناس بعضهم لبعض بالشفاعة الحسنة أو بالشفاعة السيئة.كما قال تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } (النساء: من الآية85) وقال: { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } (النساء: من الآية85)، فهذا يحصل؛لكن من الأحياء لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم ولهذا كان الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أتى بعضهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وطلب أن يشفع له يعني: أن يدعو له.
فمسألة الشفاعة من المسائل التي تخفى على كثيرين؛ بما في ذلك بعض أهل العلم ولذا وقع بعضهم في أغلاط في مسألة طلب الشفاعة من النبي -عليه الصلاة والسلام- فأوردوا قصصا في كتبهم فيها استشفاع بالنبي -عليه الصلاة والسلام- دون إنكار، كما فعل النووي وابن قدامة في المغني وغيرهما. وهذا لا يعد خلافا في المسألة؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر.
ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء؛ ولهذا يقول بعض أهل العلم من أئمة الدعوة -رحمهم الله -: إن إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة، فأقل الشبهات ورودا، وأيسر الحجج قدوما على المخالف هو فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه، وبالاستغاثة بغير الله ، والذبح لغير الله ، ونحو ذلك.(21/3)
ومن أكثرها اشتباها إلا على المحقق من أهل العلم مسألة الشفاعة ولهذا فإن الشيخ -رحمه الله - أتى بهذا الباب، وقال: باب الشفاعة، وبيَّن لك بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة أن الشفاعة التي تنفع لا تصح إلا بشروط، وكذلك فإن هناك شفاعة منفية فليست كل شفاعة مقبولة، بل منها ما يقبل ومنها ما لا يقبل، فالمقبول منها له شروط وضوابط والمردود منها فلقيام أوصاف توجب ردها فالحاصل أن الشفاعة الواردة في القرآن والسنة قسمان، شفاعة منفية وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية هي التي نفاها الله -جل وعلا- عن أهل الإشراك، وأول الأدلة التي ساقها الشيخ رحمه الله في بيان هذه المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله - عز وجل - { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (الأنعام: 51).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(ق): الآية الأولى قوله تعالى: { وأنذر به } ، الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر، فليس بإنذار، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): قوله: { به } قال ابن عباس " بالقرآن "
(ق): والضمير في { به } يعود للقرآن، كما قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها } [الشورى: 7]، وقال تعالى: { لتنذر به وذكرى للمؤمنين } [الأعراف: 2].
(ف): الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون، فقال: " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية.
(ق): وقوله: { يخافون أن يحشروا } ، أي: يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر. والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء، فمعنى يحشرون، أي: يجمعون حتى ينتهوا إلى الله .(21/4)
(تم): فقوله هنا: { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } (الأنعام: من الآية51)يعني: أن الشفيع في الحقيقة هو الله -- جل جلاله -- دونما سواه.
ولهذا أعقبها بالآية الأخرى فقال: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } (الزمر: من الآية44) فالشفاعة جميعا ملك لله، وأهل الإيمان وغيرهم في الحقيقة ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فليس من أحد يشفع لهم من دون الله -جل وعلا- بل لا بد أن تكون الشفاعة بالله يعني: بإذنه وبرضاه.
فإذا تقرر ذلك وان الشفاعة منفية عن أحد سوى الله -تعالى- لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده: بطل تعلق قلوب المشركين الذين يسألون الموتى الشفاعة، بمسألة الشفاعة لأن الشفاعة ملك لله، وهذا المدعو لا يملكها.
لكن هل تنفع الشفاعة مطلقا أم لا بد لها أيضا من قيود؟! نعم، الشفاعة تنفع لكن لا بد لها من شروط؛ ولهذا أورد الآيتين بعدها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } (الزمر: من الآية44)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية قوله تعالى: { لله الشفاعة } ، مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته، فأفادت الآية في قوله: { جميعاً } أن هناك أنواعاً للشفاعة. وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أنواع:(21/5)
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله ، فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله ، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه، فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم - عليه السلام - قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } [طه: 121، 122]، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر. ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بأنه أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } [هود: 45]. ثم يذهبون إلى إبراهيم - عليه السلام -، فيذكرون من صفاته، ثم يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، لكنها حق حسب مراده، ثم يذهبون إلى موسى - عليه السلام - فيذكرون أوصافه ما يقتضي أن يشفع، لكنه يعتذر بقتل القبطي حين استغاثه الإسرائيلي، فوكز موسى القبطي فقتله فقضى عليه، ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع، فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاماً، فيقول: اذهبوا إلى a، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى a - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر عذراً يحول بينه وبين الشفاعة(1)، فيأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيشفع إلى الله ليريح أهل
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير /باب (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبد شكورا) حديث (4712)، ومسلم: كتاب الإيمان /باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث (193).(21/6)
الموقف.
الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها(1)، لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع له، فيشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 73]، فقال: { وفتحت } ، فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار، فقال فيها: { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها... } الآية.
الثالث: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب(2)، وهذه مستثناة من قوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]، وقوله تعالى: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } [طه: 109]، وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار - والعياذ بالله - في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا أحد يشفع في كافر أبداً إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له - صلى الله عليه وسلم - ولجميع المؤمنين. وهي أنواع:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً"، حديث (196).
(2) البخاري: كتاب: مناقب الأنصار/ باب قصة أبي طالب، حديث (3883) ومسلم: في كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، (209).(21/7)
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه"(1)، فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.
النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقاً لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود، فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخولها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.
النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال - صلى الله عليه وسلم - في أبي سلمة: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه"(2)، والدعاء شفاعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه".
إشكال وجوابه: فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه، فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟
والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة. وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبوديهم، فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز / باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه حديث (948).
(2) مسلم: كتاب الجنائز /باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، حديث (920).(21/8)
إذا قوله: { لله الشفاعة جميعاً } تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه } (البقرة: من الآية255)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ }
{ من } : اسم استفهام بمعنى النفي، أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه.
{ ذا } : هل تجعل ذا اسماً موصولاً كما قال ابن مالك في "الألفية"، أو لا تصح أن تكون اسماً موصولاً هنا لوجود الاسم الموصول { الذي } ؟ الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون { الذي } توكيداً لها.
والصحيح أن { ذا } هنا إما مركبة مع { من } ، أو زائدة للتوكيد، وأياً كان الإعراب، فالمعنى: إنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله . وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام، فإنه يكون مضمناً معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: { عنده } ، ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو، فلا يشفع أحد عنده ولو كان مقرباً، كالملائكة المقربين، إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا. وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك، فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلاً على أنه ليس كبيراً في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام، فإنهم يتكلمون.
(ف): قال 'ابن جرير ': نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تعالى: " له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ".(21/9)
قال: وقوله ' 2: 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله . وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كما قال تعالى: ' 20: 109 ' " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " فبين أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين:
"إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع.
"ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه.
وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه.
(تم): ووجه الاستدلال من الآية ...أنه قيد الإذن فيها؛ فليس لأحد أن يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه؛ فلا الملائكة ولا الأنبياء، ولا المقربون، يملكون شيئاً من الشفاعات، وإنما الله -جل وعلا- هو الذي يملك الشفاعة.
فإذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه -جل وعلا- فمن الذين يأذن الله -جل وعلا- لهم؟ ليُعْلمْ أولاً: أن لا أحد يبتدئ بالشفاعة دون أن يأذَن الله له بها، فإذا كان ذلك كذلك، رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفق للشفاعة، وهو الذي يأذن بها، فلا أحد يبتدئ بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (النجم: 26)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الرابعة قوله تعالى: { وكم من ملك } . { كم } خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا بعد إذن الله ورضاه.(21/10)
(ف): وقوله: ' 53: 26 ' " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " قال ابن كثير رحمه الله " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟.
(ق): وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18]، أي: العلامات الدالة عليه - عز وجل -، فكيف به سبحانه؟! فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [النجم: 19-20]، وهذا استفهام للتحقير، فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى - تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى - أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى - فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى - وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً.... } الآية [النجم: 21-26].
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه، فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟!(21/11)
ولهذا قال: { وكم من ملك في السماوات } ، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله - سبحانه -، فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
(تم): ووجه الدلالة من هذه الآية: { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاء } (النجم: من الآية26) يعني من الشافعين { وَيَرْضَى } (النجم: من الآية26) أي يرضى قول الشافع، ويرضى أيضا عن المشفوع له.
ففائدة هذه الشروط -وهي الفائدة المراد تقريرها في هذا الباب- أن لا يتعلق أحد بمن يظن أو يعتقد أن له عند الله مقاما وأنه يشفع له عند الله كما يعتقد ذلك أهل الشرك في آلهتهم حيث يزعمون أن من توجهوا إليهم بالشفاعة يملكون ذلك، جزماً فمتى توجه إليهم المطالب وتذلل لهم، وتقرب إليهم بالعبادات ثم طلب منهم الشفاعة عند الله ، فإنهم يشفعون جزما، وأن الله -- عز وجل -- لا يرد شفاعتهم.
فهذه الآيات فيها إبطال لدعوى أولئك المشركين واعتقادهم أن أحداً يملك الشفاعة بدون إذن الله وبدون رضاه عن المشفوع وإذا ثبت أنه لا أحد يملكها، وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له، وبإذنه -جل وعلا- له، فكيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق؟ بل الواجب أن يتعلق بالذي يملك الشفاعة.
وإذا كان من المتقرر شرعاً أن شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- حاصلة يوم القيامة فهل يصح طلبها منه؟
الجواب: أن طلبها إنما هو من الله - تعالى-، فتقول في ذلك: اللهم شَفِّعْ فينا نبيك؛ لأنه - تعالى- هو الذي يفتح ويلهم النبي-عليه الصلاة والسلام- أن يشفع في فلان، وفي فلان، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(21/12)
وقوله { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (سبأ:22- 23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الخامسة قوله تعالى: { قل ادعوا } . الأمر في قوله: { ادعوا } للتحدي والتعجيز، وقوله: { ادعوا } يحتمل معنيين، هما:
1-أحضروهم.
2- أدعوهم دعاء مسألة.
فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم، كما قال تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14]. يكفرون: يتبرءون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله ، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.
قوله: { لا يملكون مثقال ذرة } ، واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بما المثل في القلة.
قوله: { مثقال ذرة } ، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أو كثرة، فلا مفهوم له، فالمراد الحكم العام، فمثلاً قوله تعالى: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [التوبة: 80]، أي: مهما بالغت في الاستغفار.
ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكاً للإنسان، لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله .
قوله: { ما لهم فيهما من شرك } ، أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله . { فيهما } ، أي: في السماوات والأرض.
{ من شرك } ، أي: مشاركة، أي لا يملكونه انفراداً ولا مشاركة.(21/13)
وقوله: { من شرك } : مبتدأ مؤخر دخلت عليه { من } الزائدة لفظاً، لكنها للتوكيد معنى. وكل زيادة لفظية في القرآن فهي زيادة في المعنى. وأتت { من } للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: { وما له منهم من ظهير } ، الضمير في { ما له } يعود إلى الله تعالى. وفي { منهم } يعود إلى الأصنام، أي: ما لله تعالى من هذه الأصنام ظهير. و { من } : حرف جر زائد، و { ظهير } : مبتدأ مؤخر بمعنى معين، كما قال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء: 88]، أي: معيناً، وقال تعالى: { والملائكة بعد ذلك ظهير } [التحريم: 4]، أي: معين. أي: ليس لله معين في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون، فهي لا تملك شيئاً على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة، لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منه عليك، فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة، لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23]، فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء، لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام، لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالاً ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة، فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، حتى ولو كان المدعو عاقلاً، لقوله: { من } ، ولم يقل: "ما"، ثم قال تعالى: { وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5، 6].(21/14)
وكل هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفاً ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيماً، حتى يكون عبداً لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله ، لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115]، أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح، لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.
وقوله: { إلينا لا ترجعون } ، أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم، فهو حسبان باطل.
(ف): قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً، متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله ، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.(21/15)
ثم قال: ومن أنواعه - أي الشرك - طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله . وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده. فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها. وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده. فجرد حبه لله وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله ، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله، وقصده لله، متبعاً لأمره متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله. فهو لله وبالله ومع الله . انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: ' 4: 125 ' " ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(21/16)
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: "قال أبو عباس"، هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج، لأنه كان مشغولاً بالعلم والجهاد، وليس زاهداً في السنة، مات سنة 728هـ، وله 67 سنة و10 أشهر.
قوله: "لغيره ملك"، أي: لغير الله في قوله: { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } .
قوله: "أو قسط منه" في قوله: { وما لهم فيهما من شرك } .
قوله: "أو يكون عوناً لله" في قوله تعالى: { وما له منهم من ظهير } بدون استثناء.
قوله: "ولم يبق إلا الشفاعة"، فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب، كما قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة، وحينئذ فتكون شفاعتها منتفية.
واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن، فهو في طاعة المخلوق في المعصية، فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله ، إذاً، فكيف تتعلقون بهم؟! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين.
والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله ، وليس استقلالاً، أما عبادتهم كعبادة الله ، فهذه جاهلية وكفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(21/17)
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولاً - ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، فالله - - سبحانه وتعالى - - نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } [الأنبياء: 98/99]، حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها، فكيف تكون شافعة؟! بل هي في النار وعابدوها.
قوله: "وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه"، أي: وكما أخبر، فالواو عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده، فكيف بهذه الأصنام هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: "ارفع رأسك"، أي: من السجود.
قوله: "وقل يسمع"، السامع هو الله ، و"يسمع": جواب الأمر مجزوم.
قوله: "وسل تعط"، أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جواباً لسل.
قوله "واشفع تشفع" وحينئذ يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخلائق أن يقضي بينهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء / باب قول الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } (نوح: من الآية1) حديث (3340)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث (193).(21/18)
وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود.فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وقال أبو هريرة إلى آخره. هذا الحديث(1) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه " وشفاعتي لمن قال لا إله إلى الله مخلصاً، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه" وشاهده في صحيح مسلم(2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة.فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً ".
(ق): هذا السؤال من أبي هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم"، وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.
__________
(1) البخاري، كتاب العلم: ،حديث(99)، باب الحرص على الحديث، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف(9/483) وأحمد ( /307، 518) وابن حبان(2594).
(2) مسلم ، كتاب الايمان : حديث(199)(338): باب اختباء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة الشفاء لأمته.(21/19)
قوله: "من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"، وعليه، فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله ، قال تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 35، 36]، وقال تعالى حكاية عنهم: { اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ص: 5]. الحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: { بل عجبت ويسخرون } [الصافات: 12]، وقال تعالى: { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد } [الرعد: 5].
وقوله: "خالصاً من قلبه" خرج بذلك من قالها نفاقاً، فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله ، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله ، لكن الله - - عز وجل - - قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: { والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1]، أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله ، فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله ، لأنهم لو شهدوا بذلك حقاً ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: "خالصاً"، أي: سالماً من كل شوب، فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.
قوله: "من قبله"، لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضغة في صدور الناس، قال الله تعالى: { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46]، وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله"(1).
__________
(1) البخاري: كتاب الأيمان / باب: فضل من استبرأ لدينه، حديث (52) صفة الجنة والنار، ومسلم: كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599).(21/20)
وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيراً في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: "العقل في القلب، وله اتصال في الدماغ".
ومن قال كلمة الإخلاص خالصاً من قلبه، فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه، فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.
قوله: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص"، لأن من أشرك بالله قال الله فيه: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } .
قوله: "وحقيقته أن الله - سبحانه - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع".
وحقيقته، أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله - - عز وجل - - أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة. والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: "ليكرمه وينال المقام المحمود"، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته، فهو عنده بمنزلة عالية، فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
قوله: "المقام المحمود"، أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله وعده أن يبعثه مقاماً محموداً، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها.
ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة، فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته..
قوله "فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك"، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
"ما"، اسم موصول، أي: التي كان فيها شرك.(21/21)
قوله: "وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع"، ومن ذلك قوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]، وقوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23]، وقوله: { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } [النجم: 26].
قوله: "وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد". أما أهل الشرك، فإن الشفاعة لا تكون لهم، لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة. وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد، أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد، والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.
(ف): وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه ولياً أو شفيعاً أنه يشفع له وينفعه عند الله ، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول ' 2: 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وفي الفصل الثاني ' 21: 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وبقى فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ووعاها. أ.هـ.
وذكر أيضاً رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع:(21/22)
الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: (أنا لها)(1) وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد.
الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم أن لا يدخلوها.
الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال.
الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله ولياً ولا شفيعاً، كما قال تعالى: ' 6: 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ".
السادس: شفاعته في بعض أهل الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
__________
(1) جزء من حديث أنس الطويل في الشفاعة العظمى. رواه البخاري، كتاب التوحيد: ،حديث(7510)، مسلم، كتاب الايمان : حديث(193)(326)،باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.(21/23)
الأولى: تفسير الآيات، وهي خمس، وسبق تفسيرها في محالها.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية، وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك، فإنها منفية.
الثالثة: صفة الشفاعة، المثبتة وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وقول الشيخ:
"وهي المقام المحمود"، أي: منه.
الخامسة: صفة ما يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له، شفع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السادسة: من أسعد الناس بها؟ هم أهل التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
ولا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله ، وليس المعنى: لا معبود إلا الله ، لأنه لو كان كذلك، لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله .
ولا إله إلا الله تتضمن نفياً وإثباتاً، هذا هو التوحيد، لأن الإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، والنفي المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت، لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163] لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله، لقوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خالصاً من قلبه".
الثامنة: بيان حقيقتها، وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
- - - - -(21/24)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب قول الله تعالى:
{ إنك لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
(القصص: 56)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن الهداية من أعز المطالب، وأعظم ما تعلق به المتعلقون بغير الله أن يحصل لهم النفع الدنيوي والأخروي من الذين توجهوا إليهم، واستشفعوا بهم، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلق، وسيد ولد آدم، قد نفى الله عنه أن يملك الهداية، وهي نوع من أنواع المنافع، دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء، كما جاء في ما سبق في باب قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } (الأعراف: 191) في سبب نزول قول الله تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (آل عمران: من الآية128).
فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس له من الأمر شيء، ولا يستطيع أن ينفع قرابته كما جاء في قوله: (يا فاطمة بنت a سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا) (1).
أقول: إذا كان هذا في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يغني من الله -جل وعلا- عن أحبابه شيئا، وعن أقاربه شيئا، ولا يملك شيئا من الأمر، وليست بيده هداية التوفيق، فإنه أن ينتفي ذلك، وما دونه عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب أولى.
فبطل إذن كل تعلق للمشركين من هذه الأمة بغير الله -جل وعلا- لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي -عليه الصلاة والسلام- بالإجماع، فإذا كانت هذه حال النبي -عليه الصلاة والسلام- وقد نفي الله عنه ملك هذه الأمور، فإن نفي ذلك عن غيره من باب أولى.
__________
(1) أخرجه البخاري (4770)ومسلم (208).(22/1)
(ق): قوله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } (القصص: 56)، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم.
فأنت يا a المخاطب بكاف الخطاب، ولك المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته؛ فسوف يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر؛ لأن الأمر كله بيد الله ، قال تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } (آل عمران: من الآية128)، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ } (هود: من الآية123)؛ فأتى بـ { ألـ } الدالة على الاستغراق؛ لأن { ألـ } في قوله؛ { الأمر } للاستغراق؛ فهي نائبة مناب كل؛ أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.
(تم): "لا" هنا نافية، وقوله: "تهدي" الهداية المنفية هنا هي هداية التوفيق والإلهام الخاص، والإعانة الخاصة، وهي التي يسميها العلماء هداية التوفيق والإلهام.
ومعناها أن الله -جل وعلا- يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى، ما لا يجعله لغيره، فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه.
بحيث يقبل الهدى، ويسعى فيه، فَجَعْلُ هذا في القلوب ليس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ القلوب بيد الله ، يقلبها كيف يشاء، حتى إن أحب الناس إليه لا يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يجعله مسلما مهتديا، وقد كان أبو طالب من انفع قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - له ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق، فالمنفى هنا في قوله: { تَهْدِي } هي هداية التوفيق.
(ق): فنحن علينا أن نبين وندعو، وأما هداية التوفيق(أي الإنسان يهتدي)؛ فهذا إلى الله - - سبحانه وتعالى - -، وهذا هو الجمع بين الآيتين.(22/2)
وقوله: { إنك لا تهدي من أحببت } ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أبا طالب؛ فكيف يؤول ذلك؟
والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير: من أحببت هدايته لا من أحببته هو.
أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه ولو كان كافراً.
أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين.
والأول أقرب؛ أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره.
ويجوز أن يحبه محبة قرابة، لا ينافي هذا المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان وإن كنت أبغضه شخصياً لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله .
(تم): والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف: هي هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه، ولكل داع إلى الله ، ولكل نبي ورسول قال جل وعلا: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } (الرعد: من الآية7) وقال جل وعلا في نبيه -عليه الصلاة والسلام-: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ*صِرَاطِ الله } (الشورى: من الآية52-53) ومعنى { لتهدي } : أي لتدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة، وأبلغ أنواع الإرشاد، المؤيدين بالمعجزات والبراهين، الدالة على صدق ذلك الهادي، وصدق ذلك المرشد.
فالهداية المنتفية إذاً هي هداية التوفيق. وهذا يعني أن النفع وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله -جل وعلا- وأن محمدا -عليه الصلاة والسلام- مع عِظَم شأنه عند ربه، وعظم مقامه عند ربه، وأنه سيد ولد آدم، وأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وأشرف الأنبياء والمرسلين إلا أنه لا يملك من الأمر شيئا، عليه الصلاة والسلام.(22/3)
فبطل إذاً تعلق القلوب في المطالب المهمة كالهداية، والمغفرة، وطلب الرضوان، وطلب دفع الشرور، وفي جلب الخيرات إلا بالله -جل وعلا- فإنه هو الذي يجب أن تتعلق القلوب به -جل وعلا- خضوعا وإنابة ورغبا، ورهبا وإقبالا عليه، وإعراضا عما سواه - سبحانه وتعالى -.
(ف): قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى لرسوله: إنك يا a لا تهدي من أحببت، أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: ' 2: 272 ' " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى: ' 12: 103 ' " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله - عز وجل - { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى.... } الآية[التوبة: 113]. وأنزل الله في أبي طالب: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56] (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير / باب (إنك لا تهدي من أحببت)، ومسلم: كتاب الإيمان / باب الدليل على صحة إسلامه من حضره الموت.(22/4)
قوله: في الصحيح أي في الصحيحين. وابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
وأبوه المسيب صحابي، بقى إلى خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وكذلك جده حزن، صحابي استشهد باليمامة.
قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي علاماتها ومقدماتها.
(ق): قوله: (أبا) بالألف: مفعول به منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و(الوفاة) يعني: الموت، فاعل حضرت.
(ف): قوله: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضاً مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.
(ق): قوله: (ياعم) فيها وجهان.
يا عم؛ بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء.
أتى - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكنية الدالة على العطف؛ لأن العم صنو الأب؛ أي: كالغصن معه.
والصنو: الغصن الذي أصله واحد؛ فكأنه معه كالغصن
ويا عم؛ بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.
قوله: (قل: لا إله إلا الله ) يجوز أنه قال على سبيل الأمر والإلزام؛ لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول: لا إله إلا الله .
ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها، ولهذا بادر بالإنكار.(22/5)
(ف): لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفى الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد بريء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام. لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر. فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبريء منه. ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها، لكن لا يعتقدونها، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر، ووادعهم بأن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدواً كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.
(ق): قوله: (كلمة)، منصوبة؛ لأنها بدل لا إله إلا الله ، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع؛ أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.
(ف): قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من لا إله إلى الله ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
(ق): قوله: (أحاج)، بضم الجيم وفتحها: فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة، وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جواباً للأمر: (قل)؛ أي: قل أحاج.
وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر؛ أي: إن تقل أحاج، وبعضهم يرى أنها جواب للأمر مباشرة، وهذا والأول أسهل؛ لأن الأصل عدم التقدير.
والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله ، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله ، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله ؛ أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض الروايات: (أشهد لك بها عند الله ) (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت (لا إِلهَ إلاّ الله )، حديث (1360)، ومسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، حديث (24).(22/6)
(ف): وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها في تلك الحال معتقداً ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته.
(ق): قوله: فقالا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟)، القائلان هما: عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه؛ لأنهما عرفا انه إذا قالها - أي كلمة الإخلاص - وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.
وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبدالله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما؛ فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان، رضي الله عنهما.
قوله: (ملة عبد المطلب)، أي: دين عبد المطلب.
قوله: (فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -)، أي: قوله قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله .
قوله: (فأعادا عليه)، أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.
(ف): ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: ' 20: 51 ' " فما بال القرون الأولى " وكقوله تعالى: ' 43: 23 ' " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ".(22/7)
قوله: فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعادا فيه معرفتهما لمعنى لا إله إلا الله لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبريء من ملة عبد المطلب. فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته. وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم. وقد قال عبد المطلب لأبرهة: أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك وهذه المقالة منهما عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه: قل لا إله إلا الله استكباراً عن العمل بمدلولها. كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: ' 37: 35، 36 ' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " فرد عليهم بقوله: ' 37: 37 ' " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " فبين تعالى أن استكبارهم عن قول لا إله إلا الله لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله . فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة.
ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو أفضل خلقه - من هداية القلوب وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب، ونحو ذلك شيئ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده، وإخلاص العمل له وتجريده.
قوله: فكان آخر ما قال الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان وجملة هو وما بعدها الخبر.
قوله: هو على ملة عبد المطلب الظاهر أن أبا طالب قال: أنا فغيره الراوي استقباحاً للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة، قاله الحافظ.
قوله: وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ: هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب.(22/8)
قال المصنف رحمه الله : وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف.
أي إذا زاد على المشروع، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع.
قوله: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
(تم): في هذا القدر من الحديث فائدة وهي: أن هذه الكلمة (لا إله إلا الله ) ليست كلمة مجردة عن المعنى، تنفع من قالها، ولو لم يقر بمعناها، والعرب كانوا لصلابتهم وعزتهم ورجولتهم ومعرفتهم بما يقولون، إذا تكلموا بكلام أو خوطبوا بكلام يَعُونَ كل حرف، وكل كلمة، خوطبوا به أو نطقوا بها ولذلك، لما قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله ، مع أنها كلمة يسيرة، أَبَوْا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها إبطال إلهة من سوى الله -جل وعلا- ولهذا قال -جل وعلا-: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ - بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } الآيات (الصافات: 35-37).
وكذلك قول الله -جل وعلا- مخبرا عن قولهم في أول سورة "ص": { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِدا } (صّ:5) استنكروا قول: (لا إله إلا الله )، وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ).
فلو كانت كلمة مجردة من المعنى عندهم، أو يمكن أن يقولها المرء دون اعتقاد ما فيها، ورضىً بما فيها، ويقين وانتفاء الريب، لقالها، ولكن ليس هذا هو المقصود من قول: (لا إله إلا الله )؛ بل المقصود هو: قولها مع تمام اليقين بها، وانتفاء الريب، والعلم، والمحبة إلى آخر الشروط المعروفة.?
(ق): قوله: (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرن لك … إلخ) جملة (لأستغفرن لك) مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، واللام، ونون التوكيد الثقيلة.(22/9)
والاستغفار: طلب المغفرة، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه شيء من القلق، حيث قال: (ما لم أنه عنك)؛ فوقع الأمر كما توقع ونهى عنه.
قوله: (ما لم أنه عنك)، فعل مضارع مبني للمجهول، والناهي عنه هو الله .
(ف): قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييباً لنفس أبي طالب.
وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً.
وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.
(ق): قوله (ما كان)، ما: نافية، وكان فعل ماض ناقص.
(تم): فائدة: كلمة (ما كان) في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين:
الاستعمال الأول: النهي.
والاستعمال الثاني: النفي.
فالنهي مثل هذه الآية وهي قوله: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } (التوبة: من الآية113) فهذا نهي عن الاستغفار لهم، وكذلك قوله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } (التوبة: من الآية122)، والنفي كقوله: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (القصص: من الآية59) ونحو ذلك من الآيات فإذاً عرفنا أن كلمة (ما كان) تأتي في القرآن على هذين المعنيين، فالمراد بها -هنا- النهي، أي النهي عن الاستغفار لأحد من المشركين. فإذا كان الله - عز وجل - نهى الرسل والأنبياء والأولياء وغيرهم من أهل الصلاح -في حال حياتهم- عن الاستغفار لهؤلاء المشركين فهذا يدل: أنه لو فرض أنهم يقدرون على الاستغفار في حال حياتهم البرزخية، فإنهم لن يستغفروا للمشركين، ولن يسألوا الله لمن توجه إليهم -حال موتهم- لطلب الاستشفاع أو لطلب الاغاثة، أو غيرها من العبادات، وأنواع التوجهات، والله أعلم.(22/10)
(ق): قوله: { أن يستغفروا } ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر.
قوله: { للنبي } ، خبر مقدم؛ أي: ما كان استغفاره.
واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها إذا جاءت في القرآن والحديث؛ فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع؛ كقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ } (مريم: من الآية35)، وقوله: { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً } (مريم: 92)، وقوله: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } (يّس: من الآية40)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)(1).
وقوله: { أن يستغفروا } ؛ أي: يطلبوا المغفرة للمشركين.
قوله: { ولو كانوا أولي قربى } ، أي: حتى ولو كانوا أقارب لهم، ولهذا لما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له؛ فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة(2).
فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين؛ لأن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا للمغفرة لأنك إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق؛ فهو اعتداء في الدعاء.
قوله: (وأنزل الله في أبي طالب)، أي: في شأنه.
قوله: { إنك لا تهدي من أحببت } ، الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي لا توفق من أحببت للهداية.
قوله: { يهدي من يشاء } ، أي يهدي هداية التوفيق من يشاء. واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى؛ فهو مقرون بالحكمة؛ أي: من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله.
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان / باب في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينام)، حديث (179).
(2) مسلم: كتاب الجنائز / باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - زيارة قبر أمه، حديث (976).(22/11)
وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره؛ فالذين يلجئون إليه - صلى الله عليه وسلم - ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك لأنه لم يؤذن له أن يستغفر لعمه، مع أنه قد قام معه قياما عظيما، ناصره وآزره في دعوته؛ فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟!
(ف): وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسبابا أخر فلا منافاة لأن أسباب النزول قد تتعدد.
قال الحافظ: أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب. وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالإستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير.
(ق): الإشكالات الواردة في الحديث:
الإشكال الأول: الإثبات والنفي في الهداية، وقد سبق بيان ذلك.
الإشكال الثاني: قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ } (النساء: من الآية18)، وظاهر الحديث قبول توبته.
والجواب عن ذلك من أحد وجهين:
الأول: أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به، ولكن عرف موته لا محالة، وعلى هذا؛ فالوصف لا ينافي الآية.
الثاني: أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويستدل لذلك بوجهين:
أنه قال: (كلمة أحاج لك بها عند الله )، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: كلمة تخرجك من النار.
أنه سبحانه أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب.
ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت: بأن قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) مطابقا تماما لقوله تعالى: (حتى إذا حضر أحدهم الموت)، وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب نفسه.(22/12)
الإشكال الثالث: أن قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } (التوبة: من الآية113) في سورة التوبة، وهي متأخرة مدنية، وقصة أبي طالب مكية، وهذا يدل على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين، ولهذا استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للاستغفار لأمه وهو ذاهب للعمرة.
ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي؛ فدل على تأخر الآية، وأن المراد بيان دخولها في قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ، وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت.
وقيل: أن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.
الإشكال الرابع: أن أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله ، لكن بدون قول قل؛ لأنه ربما مع الضجر يقول: لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث قال: (قل).
والجواب: إن أبا طالب كان كافراً، فإذا قيل له: قل وأبي؛ فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فأما أن يبقي على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله ، بخلاف المسلم؛ فهو على خطر لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاء } .
الثانية: تفسير قوله: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113].
الثالثة: هي المسألة الكبرى - تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قل: لا إله إلا الله ) بخلاف ما عليه من يدعي العلم.(22/13)
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال للرجل: (قل لا إله إلا الله ). فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جدّه - صلى الله عليه وسلم - ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته - صلى الله عليه وسلم - وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت } ، أي: من أحببت هدايته، وسبق تفسيرها، وبينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحدا وهو حي؛ فكيف يستطيع أن يهدي أحدا وهو ميت؟! وأنه كما قال الله تعالى في حقه: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً } (الجن: 21).
الثانية: تفسير قوله: { ما كان للنبي … } الآية، وقد سبق تفسيرها وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين ولو كانوا أولي قربي.
والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات: المرحوم؛ فإنه حرام لأن هذا مضادة لله - - سبحانه وتعالى - -، وكذلك يحرم إظهار الجزع والحزن على موتهم بالإحداد أو غيره؛ لأن المؤمنين يفرحون بموتهم، بل لو كان عندهم القدرة والقوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله(22/14)
الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، أي: الكبيرة من هذا الباب، وقوله (أي النبي - صلى الله عليه وسلم -) لعمه: (قل: لا إله إلا الله )، وعمه المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله ، ولهذا أبى أن يقولها لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها.
وقوله: (بخلاف ما عليه من يدعي العلم) كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين لمعنى لا إله إلا الله ، حيث يقولون: إن الإله هو القادر على الاختراع، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله ، وهذا تفسير باطل.
نعم، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله ، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله ، ولكن المعنى: لا معبود حق إلا الله ؛ لأننا لو قلنا: إن معنى لا إله إلا الله : لا قادر على الاختراع إلا الله صار المشركون الذين قاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين؛ فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء ويقولون: نحن نقول لا إله إلا الله .
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول: لا إله إلا الله ، ولذا ثاروا وقالوا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟)، وهو أيضا أبى أن يقولها لأنه يعرف مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة، قال الله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } (الصافات: 36).
فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله ؛ أي: لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء هم أجهل من أبي جهل.(22/15)
واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله .
الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه، حرصه - صلى الله عليه وسلم - وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث؛ لسببين هما:
1- القرابة.
2- لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف، فهو على هذا مشكور، وإن كان على كفره مأزورا وفي النار، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناصرته، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه، ويصبر على الأذى من أجله، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء)، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في نفس الحديث: (اللهم ! مصرف القلوب ! صرف قلوبنا على طاعتك)(1).
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب، بدليل قولهما: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟) حين أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لا إله إلا الله ؛ فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر والشرك.
وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه الرافضة، قبحهم الله ؛ لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله .
__________
(1) مسلم: كتاب القدر / باب تصريف الله تعالى للقلوب كيف شاء، حديث (2654).(22/16)
السابعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - استغفر له فلم يغفر له، الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب؛ لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } (آل عمران: من الآية154)، وقال تعالى: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ } (هود: من الآية123) ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون.
وكذا أمه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن له في الاستغفار لها؛ فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلا للمغفرة بأي حال، ولا يجاب لنا فيهم، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء.(22/17)
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان، المعنى أنه لولا هذان الرجلان؛ لربما وفق أبو طالب إلى قبول ما عرضه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هؤلاء ـوالعياذ بالله - ذكراه نعرة الجاهلية ومضرة رفقاء السوء، ليس خاصا بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان، وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - جليس السوء بنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة كريهة(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(2)، وذلك لما بينهما من الصحبة والاختلاط، وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند لا بأس به: (المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل)(3)؛ فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يفكر في أصحابه: هل هم أصحاب سوء؟ فليبعد عنهم لأنهم أشد عداء من الجرب، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير؛ فعليه بهم.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر، لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا ليس على إطلاقه؛ فتعظيمهم إن كانوا أهلا لذلك فلا يضر، بل هو خير؛ فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب المسك حديث (5534)، ومسلم كتاب البر والصلة / باب: استحباب مجالسة الصالحين، مجانبة قرناء السوء، حديث (2628).
(2) البخاري: كتاب الجنائز/ باب إذا أسلم الصبي فمات يصلى عليه، حديث (1359)، ومسلم: كتاب القدر: باب مضى كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2658).
(3) أبو داود في كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس، حديث (4833) مسند الإمام أحمد (2/303)، والترمذي: كتاب الزهد / باب الرجل على دين خليله) ـ وقال: (حسن غريب) ـ حديث (2378)، والحاكم (4/188) ـ وقال: (صحيح ووافقه الذهبي) ـ وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3545).(22/18)
وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن؛ فليس فيه مضرة وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل؛ فهو ضرر عظيم على دين المرء، فمثلا: من يعظم أبا جهل لأنه سيد أهل الوادي، وكذلك عبد المطلب وغيره؛ فهو ضرر عليه، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر؛ لأنهم أعداء الله -- عز وجل --، وكذلك لا يعظم الرؤساء من الكفار في زمانه؛ فإن فيه مضرة لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟) وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } (الزخرف: 23).
فالمبطلون يقولون في شبهتهم: إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم، ونضلل ما هم عليه؟.
وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم، حيث لا يقبلون قرآنا ولا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام، حتى إن بعضهم يجعلونهم معصومين؛ كالرافضة، والتيجانية، والقاديانية، وغيرهم؛ فهم يرون أن إمامهم لا يخطئ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا.
فالواجب على المرء أن يكون تابعا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما من خالفه من الكبراء والأئمة؛ فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب والسنة إن كانوا أهلا للاعتذار، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيميه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة؛ فلا يعتذر له.(22/19)
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، وهذا مبني على القول بأن معنى حضرته الوفاة؛ أي: ظهرت عليه علاماتها ولم ينزل به كما سبق.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين …إلخ، وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر.
- - - - -(22/20)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): بين الشيخ -رحمه الله - فيما سبق من الأبواب أصولاً عظيمة وأقام البراهين على التوحيد، وبيَّن ما يتعلق به المشركون، وأبطل أصول اعتقادهم بالشريك، أو الظهير، أو الشفيع، ونحو ذلك.
فإذا كان التوحيد ظاهراً والأدلة عليه من النصوص بينة فكيف -إذاً- دخل الشرك؟ وكيف وقع الناس فيه والأدلة على انتفائه، وبطلانه وعدم جوازه، ظاهرة؟! مع أن الرسل جميعا بعثوا ليُعْبَد الله وحده دون ما سواه كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } (النحل: من الآية36).
فما سبب الغواية؟ وما سبب الشرك؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله -- جل جلاله --، وتقدست أسماؤه- فما سبب وقوع الشرك - إذاً -؟! وكيف وقعت فيه الأمم؟وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ -رحمه الله - هذا الباب، وما بعده ليبين أن سبب الشرك، وسبب الكفر هو الغلو الذي نهى الله -جل وعلا- عنه، ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء في هذه الأمة، أو في الأمم السابقة فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو الغلو في الصالحين، بل هو سببهما الأعظم.
قال هنا: باب { ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين } ، هذا ذكر للأسباب بعد ذكر الأصول والعقائد.
(ق): قوله: { سبب كفر بني آدم } ، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ } (الحج: من الآية15)؛ أي: بشيء يوصله إلى السماء.(23/1)
ومنه أيضا سمي الحبل سببا؛ لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.
و أما في الاصطلاح عند أهل الأصول؛ فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم السبب عدم المسبب؛ إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.
قوله: (بني آدم)، يشمل الرجال والنساء؛ لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة: شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين؛ فالمراد بهم الذكور.
قوله: (وتركهم)، يعني: وسبب تركهم.
قوله: (دينهم)، مفعول ترك؛ لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و(دينهم) يكون مفعولاً به.
قوله: (هو الغلو)، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.
والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحاً أو قدحاً.
والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شراً (1)
والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحاً.
(تم): وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لما رمى الجمرات بحصيات قال: بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو) يعني لا تجاوزوا الحد حتى في حجم تلك الحصاة، ومقدارها، ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله: (بمثل هذه فارموا). فإذا جاوزت في المثلية بأن رمى بكبيرة، فإنه قد غلا يعني: جاوز الحد الذي حُدَّ له في ذلك، فالغلو -إذاً- هو مجاوزة الحد.
والمقصود: بـ(الغلو في الصالحين)، الذي هو سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الذي أمروا به أنهم تجاوزا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك.
وقوله: (الصالحون) يشمل كل من قام به هذا الوصف من الأنبياء والرسل، والأولياء، من أيِّ أمةٍ كانوا.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/باب ثناء الناس على الميت، حديث (1367)، ومسلم: كتاب الجنائز/باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى، حديث (949).(23/2)
وأصل كلمة الصالحين، أنها جمع (الصالح)، والصالح هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد، أي: ما يقابل الفساد، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات، فيقال: صالح بمعنى ليس به فساد، ويقال أيضا: صالح بمعنى ليس بسيئ.
والصالحون هنا المراد بهم أهل الصلاح، يعني أهل الطاعة والإخلاص لله -جل وعلا- الذين اجتنبوا الفساد، واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات، وترك المحرمات، أو كانوا من السابقين بالخيرات.
فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد، وعلى السابق بالخيرات، فالمقتصد صالح، والسابق بالخيرات صالح، وكُلٌّ درجات عند الله جل وعلا.
(ق): وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: (أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحاً، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.
وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار)(1)؛ يعني: عمه أبا طالب.
(تم): لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم؟
الجواب: أنهم إذا كانوا من الرسل: فبالأخذ بشرائعهم، وإتباعهم والإقتداء بهم مع المحبة والاحترام، والموالاة والنصرة، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم، أما الغلو فيهم فهو مجاوزة ذلك الحد، وهو بحر لا ساحل له، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جعلت فيهم خصائص الإلهية، كما ادعاه من ادعاه في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلم سر اللوح والقلم، وأنه من جوده الدنيا وضرتها، كما قال البوصيري في قصيدته المشهورة المسماة بـ(البردة):
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب/باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب، حديث (209)، ومسلم: كتاب الإيمان/باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب.(23/3)
فإن من جودك الدنيا ودرتهاڑومن علومك علم اللوح والقلم
ومن المعلوم أن هذا لا يليق إلا بالله -جل وعلا- فهذا من الغلو المنهي عنه، وكذلك قوله في النبي -عليه الصلاة والسلام- غاليا فيه أعظم الغلو:
لو ناسبت قدره آياته عظماڑأحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يعط آية تناسب قدره، قال الشراح: حتى القرآن لا يناسب قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله، يقولون: القرآن المتلو بخلاف غير المتلو، عند الأشاعرة؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا، فهذا البوصيري يغلو ويقول:
لو ناسبت قدره يعني النبي -عليه الصلاة والسلام-آياته عظما، يعني: في العظمة أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم، فالذي يناسب قدره -عند البوصيري- أنه إذا ذكر اسمه على ميت قد درس، وذهب رميمه في الأرض، وذهبت عظامه؛ أن تتجمع هذه العظام، وتحيي لأجل ذكر اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.
وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله -جل وعلا- ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية، ما لا إذن لهم به، بل هو من الشرك الأكبر بالله -جل وعلا- ومن سوء الظن بالله، ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفر والعياذ بالله.
فالحد المأذون به شرعاً في حقهم مطلوب وهذه هي الحالة الأولى، والغلو مذموم شرعاً ومنهي عنه وهذه هي الحالة الثانية، ويقابلها الجفاء في حقهم -وهي الحالة الثالثة - وهذا الجفاء، له صور منا: عدم موالاتهم، وبخسهم حقهم وترك محبتهم، فالحاصل: أن كل تقصير في حقهم يعد جفاء، وكل زيادة فيه يعد غلوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله - عز وجل -: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } (النساء: من الآية171).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (وقول الله - - عز وجل - -)، يعني: وباب قول الله - - عز وجل - -.(23/4)
قوله: { يا أهل الكتاب } ، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى.
قوله: { لا تغلو في دينكم } ، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحاً أو قدحاً، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموماً؛ فإنهم غلوا في عيسى بن مريم - عليه السلام - مدحاً وقدحاً، حيث قال النصارى: إنه ابن الله ، وجعلوه ثالث ثلاثة.
واليهود غلوا فيه قدحاً، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله ؛ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط وتفريط.
قوله: { ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، وهو ما قاله - سبحانه وتعالى - عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً.
قوله: { إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله } ، هذه صيغة حصر، وطريقه { إنما } ؛ فيكون المعنى: ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله ، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله .
وفي قوله: { رسول الله } إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.
وفي قوله: { وكلمته } إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.
{ وكلمته ألقاها إلى مريم } : أن قال له كن فكان.
قوله: { وروح منه } ، أي: إنه - عز وجل - جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفاً وتكريماً؛ كما في قوله تعالى في آدم: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (الحجر: من الآية29)(1)؛ فهذا للتشريف والتكريم.
قوله: { فآمنوا بالله ورسله } ، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله a - صلى الله عليه وسلم - الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.
قوله: { ولا تقولوا ثلاثة } ، أي: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله: { انتهوا خيراً لكم } ، { خيراً } : خبر ليكن المحذوفة؛ أي: انتهوا يكن خيراً لكم.
__________
(1) وهذه الآية أيضاً موجودة في سورة (ص)، (الآية: 72).(23/5)
قوله: { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض } ، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فهو من جملة المملوكين المربوبين؛ فكيف يكون إلهاً مع الله أو ولداً لله؟
(تنبيه):
لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.
قوله: { وكفي بالله وكيلاً } ، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظاً على عباده، مدبراً لأحوالهم، عالماً بأعمالهم.
والشاهد من هذه الآية قوله؛ { لا تغلو في دينكم } ؛ فنهى عن الغلو في الدين؛ لأنه يتضمن مفاسد كثيرة: منها:
1.أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحاً، وتحتها إن كان قدحاً.
2.أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.
3. أنه يصد عن تعظيم الله - - سبحانه وتعالى - -؛ لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه؛ تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.
4.أن المغلو فيه إن كان موجوداً؛ فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحاً، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا إن كانت قدحاً.
قوله: { في دينكم } ، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.
والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلواً في المخلوقين وغيرهم.
وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟(23/6)
الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك(1)، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلاً للوارد أو غير هذا؛ فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.
(ف): قال شيخ الإسلام (رحمه الله ): ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي - رضي الله عنه - حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق.وهو قول أكثر العلماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } (نوح: 23).قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت)(2).
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الجمعة/باب ما يكره من التشديد في العبادة، حديث (1151)، ومسلم: كتاب صلاة المسافر وقصرها /باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يذهب عنه ذلك، حديث (785).
(2) البخاري: كتاب تفسير القرآن /باب وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق، (4920).(23/7)
(ف): قوله (وفي الصحيح) أي صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح... إلى آخره.
وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن a ابن قيس أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر. فعبدوهم.
(تم): ونوح -- عليه السلام -- هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه وبالدعوة إلى التوحيد، لما وقع الشرك في قومه، لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح؟ الجواب: أن القرآن ذكر أصلين في الحالين من أصول الشرك وذكر غيرهما أيضا:
الأصل الأول: شرك قوم نوح. والأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم.
وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين وأرواحهم، فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح، وأثر تلك الروح، وأن من تعلق به، فإنه يشفع له، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صوروا لهم صوراً ونصبوا لهم أنصاباً، وأوثاناً وأصناماً حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم.
الأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم، وذلك شرك في التأثير يعني: من جهة النظر في الكواكب، ومن يؤثر ويحرك فهذا شرك في الربوبية، وما تبعه من الشرك في الألوهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما؛ وجعلوا لها صورا؛ وجعلوها أوثانا، فعبدوها من دون الله -جل وعلا- وتوجهوا إليها.(23/8)
فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك.
(ق): قوله: { وقالوا } ، أي: قال بعضهم لبعض.
قوله: { لا تذرن } ، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.
قوله: { آلهتكم } ، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحداً من إهانتها؟
الجواب: المعنيان؛ أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحداً من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضاً، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.
قوله: { ولا سواعاً } ، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: { ولا الضالين } (الفاتحة: 7)، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر؛ فهما دون مرتبة من سبقهما.
قوله تعالى: { وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } (نوح: من الآية23)، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها؛ لأن قوله: { آلهتكم } عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم؛ فخصوها بالذكر.
والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله ؛ فهو حق، وإن كان غير الله ؛ فهو باطل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح).
وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح)، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى: { قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً - وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } (نوح: 21-23)؛ ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها، ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: { لا تذرن آلهتكم } ، وهذا (أعني: القول بأنهم قبل نوح) قول a بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.(23/9)
ويحتمل -وهو بعيد- أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.
فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالاً صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.
قوله: (أوحى الشيطان)، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.
قوله: (أن انصبوا إلى مجالسهم)، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.
قوله: (وسموها بأسمائهم)، أي: ضعوا أنصاباً في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر؛ لأجل إذا رأيتموهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لأدم: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } (طه: من الآية120)، وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء؛ فهذه عبادة قاصرة أو معدومة.
قوله: (ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت من دون الله )، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ… } (البقرة: من الآية213).
هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟(23/10)
الجواب: يرجع في التفسير أولاً إلى القرآن؛ فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، مثل قوله تعالى: { وما أدراك ما هيه } تفسيرها: { نار حامية } (القارعة: 10، 11)، فإن لم نجد في القرآن؛ فإلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم نجد؛ فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك؛ لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس؛ إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرفت القول الراجح.
(ف): قوله: وقال ابن القيم رحمه الله هو الإمام العلامة a بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية. قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
(تم): الشاهد من هذا أن أولئك توجهوا إلى الصور، صور الصالحين وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور، فإنهم لن يعبدوها، لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقاً وسبباً لأن عبدت في المستقبل لَمَّا نسي العلم.(23/11)
ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد: أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها فأوهم الناظر إليها أو المخاطب لها أنها تتحدث وتتكلم، أو يُسْمَع منه كلاماً، أو نحو ذلك من الأشياء، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات -كما يقال- أو تلك الأرواح، فيغري أولئك بهم، وهذا هو الحاصل عند عُبَّاد القبور، والعاكفين عليها يأتي أحدهم، ويقول: ذهبت إلى القبر الفلاني فكلمني أبي، ويكون ذلك شيطاناً نطق على لسان أبيه، وربما تصور بصورة أبيه، فخرج له في ظلام ونحوه فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه، أو يحدثه العالِم، أو الولي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة، وهذا من قبيل الشيطان.
ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك فقال: (أوحى الشيطان إلى قومهم) والوحي إلقاءٌ في خفاء. والشيطان لا يتحدث علنا ولكن يوحي، يعني: يلقي في خفاء، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء، فألقى الشيطان في روعهم، وأنفسهم ذلك الأمر، فكان سببا للشرك بالله -جل وعلا- ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها لكنهم لما صوروا صور أولئك الصالحين، ونصبوا لهم الأنصاب: كان ذلك سبباً ووسيلة إلى عبادتهم لكن أولئك الذين جعلوها وسائل، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين، لكن لما نسي العلم عبدت.
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان، هو من الغلو في أولئك الصالحين. وهذا وجه الشاهد وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، أو صوروا صورهم، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم؛ ليتذكروهم، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة، أو العلم، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها كانت من سبباً من أسباب عبادة أولئك الصالحين، الذين غلوا في حبهم وهذا هو مراد الشيخ -رحمه الله - من إيراد هذا الأثر.(23/12)
(ف): قوله: وقال غير واحد من السلف هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك، لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيماً ومحبة: عبادة لها.
قوله: ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثاناً تعبد من دون الله ، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها أ.هـ.
قال ابن القيم رحمه الله : وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقى إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله ، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله .(23/13)
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: ' 39: 45 ' " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك ' 8: 34 ' " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ". اهـ كلام ابن القيم رحمه الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [أخرجاه](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله عن عمر هو ابن الخطاب بن نفيل - بنون وفاء مصغراً - العدوى أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم. ولي الخلافة عشر سنين ونصفا. فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين - رضي الله عنه -.
قوله: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه. قاله أبو السعادات. وقال غيره: أي لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.
(تم): وقد ظن بعض الناس أن الكاف في قوله: (كما أطرت النصارى ابن مريم) أنها كاف المثلية يعني: لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم.
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ } (مريم: من الآية16)، حديث (3445).(23/14)
ويقول هذا الظان: إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء واحد، وهو أن قالوا هو ابن الله -جل وعلا- فيكون النهي عن أن تجعل له - صلى الله عليه وسلم - رتبة البنوة فقط؛ فإذا كان كذلك فما عداه جائز، وهذا هو فهم الخرافيين لهذا النهي كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمڑواحكم بما شئت فيه واحتكم
أو كما قال، يعني: لا تقل: إنه ولد لله، أو أنه ابن لله، فهذا هو القدر المنهي عنه فقط ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم، وغير مُثَرَّب عليك.
الوجه الثاني -وهو الفهم الصحيح، وهو الذي يدل عليه السياق- أن الكاف هنا هي كاف القياس، والمعنى: لا تطروني إطراء كما أطرت النصارى ابن مريم، وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص، وحقيقتها، أن يكون هناك شبه بين ما بعدها، وما قبلها في أصل الفعل.
فنهى - صلى الله عليه وسلم - في قوله (لا تطروني كما أطرت) عن أن يُطْرَى -عليه الصلاة والسلام- كما حصل أن النصارى أطرت، ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء، فمعنى قوله: (لا تطروني كما أطرت) هو نهى عن إطراء -عليه الصلاة والسلام- لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم فقادهم ذلك إلى الكفر والشرك بالله، وادعاء أنه ولد لله جل وعلا، ولهذا قال: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل، بأن يكون ما بعدها مماثلاً لما قبلها من كل وجه، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشتركاً مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة، ولهذا يقول الفقهاء -كما هو معلوم-: هذا كهذا، فيقولون مثلا: نبيذ غير التمر والعنب كنبيذ التمر والعنب مساواة بين هذا وهذا؛ لوجود أصل المعنى بينهما.
وهنا نهى عن الإطراء؛ لأجل وجود أصل الإطراء في الاشتراك بين إطراء النصارى، وما سببه من الشرك، وإطراء ما لو أطري النبي - صلى الله عليه وسلم - وما سيسببه من الشرك.(23/15)
وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) وهذا هو الكمال في حقه -عليه الصلاة والسلام- أن يكون عبداً رسولا، فهذا أشرف مقاماته -عليه الصلاة والسلام-.
(ق): قوله: (إنما أنا عبد)، أي: ليس لي حق من الربوبية، ولا مما يختص به الله - عز وجل - أبدا.
قوله: (فقولوا عبد الله ورسوله)، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله ، قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } (الفرقان: من الآية63)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } (الصافات: 171)؛ فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادا لله - - عز وجل - - أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته:
لا تدعني إلا بـ(يا) عبدهاڑفإنه أشرف أسمائي
أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة؛ لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله(1)؛ فهذا أفضل وصف اختاره النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه.
__________
(1) البخاري: كتاب الاستئذان / باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، حديث (402).(23/16)
(ف): وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفاً رده شيخ الإسلام، ورده موجود بحمد الله . ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلهما إلا الله . وذكر لهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عمى البصيرة وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ بهڑسواك عند حدوث الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله ، فناقضوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له. وإنما يحصل تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله. فالله المستعان.
(ق): واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي:
الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.(23/17)
الثالث: حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله } ؛ فهذا حق مشترك، { وتعزروه وتوقروه } هذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، { وتسبحوه بكرة وأصيلا } (الفتح: 9) هذا خاص بالله - - سبحانه وتعالى - -.
والذين يغلون في الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعلون حق الله له؛ فيقولون: { وتسبحوه } ؛ أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله ، ولا شك أنه شرك؛ لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان؛ فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله.
ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: (كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)؛ لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو واقع الآن؛ فيوجد عند قبره في المدينة من يسأل، فيقول يا رسول الله لِلَّهِ المدد، المدد، يا رسول الله لِلَّهِ أغثنا، يا رسول الله لِلَّهِ بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليا ظهره البيت مستقبلا المدينة؛ لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.
ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها؛ فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة.
فهو يريد ان يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا ولا لنفسه.
وصحيح أن جسده - صلى الله عليه وسلم - أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(23/18)
قوله: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إياكم والغلو. فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو )(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس.
وهذا لفظ رواية أحمد: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع: " هلم القط لي. فلقطت له حصيات هن حصى الحذف. فما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا.
(ق): قوله: (إياكم)، للتحذير.
قوله: (والغلو)، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطراباً كثيرا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر؛ أي: احذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك؛ أي: وأحذر الغلو.
والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحا أو ذما، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك أيضا؛ فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل؛ لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته: (القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين). هذا لفظ ابن ماجة.
والغلو: فاعل أهلك.
قوله: (من كان قبلكم)، مفعول مقدم.
قوله: (فإنما)، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قوله: (أهلك)، يحتمل معنيين:
الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من الغلو؛ لأن مجرد الغلو هلاك.
الثاني: أنه هلاك الأجسام وعليه يكون الغلو سببا للهلاك؛ أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله .
__________
(1) النسائي: كتاب مناسك الحج / باب: التقاط الحصى، حديث (3057)، وابن ماجة حديث (3029) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2680).(23/19)
وهل الحصر في قوله: (فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) حقيقي أو إضافي؟
الجواب: إن قيل: إنه حقيقي؛ حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد)(1)؛فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة؛ صار بين الحديثين تناقص.
وإن قيل: إن الحصر إضافي؛ أي: باعتبار عمل معين؛ فإنه لا يحصل تناقص بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه - صلى الله عليه وسلم - تناقض، وحينئذ يكون إضافيا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال: أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.
وفي هذا الحديث يحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:
الوجه الأول: تحذيره - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سببا للهلاك كان محرما.
(ف): قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار. ثم علله بما يقتضي مجانبة هدى من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك.
(ق): أقسام الناس في العبادة:
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء / باب حديث الغار، ومسلم: كتاب الحدود / باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة، حديث (1688).(23/20)
والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.
والغلو له أقسام كثيرة؛ منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات.
والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلو في العقيدة؛ فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين: إما التمثيل، أو التعطيل.
إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفي الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه؛ فنفوا ما أثبته الله لنفسه.
لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك؛ فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه؛ فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك؛ فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم
وغيرهم في الدين؛ صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا؛ حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة.
وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.(23/21)
أما الغلو في العبادات؛ فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلال بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام؛ كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر؛ فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر؛ فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره؛ قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو ك(7) وإلا لو استكبر عن أمر الله فهو مؤمن.
وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولاشك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.
وأما الغلو في المعاملات؛ فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا؛ فهو غير مريد
للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.
وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد؛ حتى الربا والغش وغير ذلك.
فهؤلاء - والعياذ بالله - متطرفون بالتساهل؛ فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.(23/22)
والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص، { وأحل الله البيع وحرم الربا } (البقرة: 275)؛ فليس كل شيء حراما؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم.
وأما الغلو في العادات؛ فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة؛ فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى؛ فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها، نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.
وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أو الدين؛ فلا يتحول إلى العادة الجديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم عن ابن مسعود؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (هلك المتنطعون). قالها ثلاثا (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (المتنطعون)، المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال؛ فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة؛ فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال.
والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال: (هلك المتنطعون).
__________
(1) مسلم: كتاب العلم/ باب: هلك المتنطعون، حديث (2670).(23/23)
والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها؛ فهو أيضا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألونه عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.
(تم): والتنطع والإطراء والغلو متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع، والغلو يشمل الإطراء، ويشمل التنطع، فكل تنطع، وكل إطراء غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعا، فالشيخ -رحمه الله - في هذا الباب بيَّن أن سبب كفر بني آدم، وسبب تركهم دينهم هو الغلو في الصالحين، بأن جاوزوا الحد فيهم.
كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم، فعكفوا على قبورهم، وأَلَّهُوهَا فصارت آلهة، والنصارى غلت في رسولهم عيسى -- عليه السلام -- وفي الحواريين، وفي البطارقة حتى جعلوهم آلهة مع الله -جل وعلا- يستغيثون بهم، ويؤلهونهم، ويسألونهم ويعبدونهم.
وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة، من الذين جَعلوا للنبي -عليه الصلاة والسلام - نصيباً من خصائص الألوهية، وهذا هو عين ما نهى عنه -عليه الصلاة والسلام - بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
(ف): قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقاً، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب. قال الشيخ تقي الدين: فهذا جاهل ضال، انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله : قال الغزالي: والمتنطعون في البحث والاستقصاء.(23/24)
وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً.
وقال النووي: فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.
قوله: قالها ثلاثاً أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
(ق): فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط؛ فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غيّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما تؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة: النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.(23/25)
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب - أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: { وقالوا لا تذرن آلهتكم } - وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام.
وهذا حق؛ فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم؛ فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهما مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما؛ فأهل العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب؛ فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح؛ فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام a بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين.(23/26)
وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ a بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله - - سبحانه وتعالى - - أنه أعان هذا الرجل مع الإمام a بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض، وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله ؛ ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.
الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله: (مع معرفة أن الله أرسلهم)، قال الله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } (البقرة: من الآية213)؛ أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
قوله: (قبول البدع)، أي: أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها؛ لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له؛ كما قال الله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم: من الآية30)؛ فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:
الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.(23/27)
الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا بذلك خيراً، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينه ببدعة؛ فإن ضررها أكثر من نفعها.
مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيراً، لكن أرادوا خيراً بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها؛ لأنها تعطي الإنسان نشاطاً غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.
ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها؛ فلا تزيد الإنسان إلا ضلالاَ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل بدعة ضلالة)(1) 0
فإن قيل: إن للاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - أصلاً من السنة، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: (ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه)(2)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصومه مع الخميس ويقول: (إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله ؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)(3)
فالجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن الصوم ليس احتفالاً بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد؛ فاحتفالهم على العكس من ذلك.
فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان؛ فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.
__________
(1) مسلم: كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث (867).
(2) مسلم: كتاب الصيام/باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، حديث (1162).
(3) الترمذي: كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، حديث (747)، وقال: (حديث حسن غريب) وأورده الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2959).(23/28)
الثاني: أنه على فرض أن يكون هذا أصلاً؛ فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد؛ لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.
الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك؛ فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.
الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:
فائدة: كل شيء يتخذ عيداً يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعاً؛ فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئاً بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما؛ قال: (إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر)(1)، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/103)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة/ باب صلاة العيدين، حديث (1134) والنسائي، حديث (1556)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4460).(23/29)
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كونه آدمياً بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس؛ فإن الله يقول: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس: 9-10).
قوله: (جبلة) على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه؛ أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.
فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين؛ فقال تعالى: { إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (إبراهيم: من الآية34)، وقال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (الأحزاب: من الآية72).
أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } (التين: 4-6)؛ فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدي؛ فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.
وكذلك أهل العلم؛ كأبي الحسن الأشعري، كان معتزلياً، ثم كلابياً، ثم سنياً، وابن القيم كان صوفياً، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيميه؛ فهداه الله على يده حتى كان ربانياً.(23/30)
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئاً فشيئاً؛ حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)(1).
وقالوا أيضاً: (إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية).
والمعاصي كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - تتراكم على القلب، وتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب؛ صقل قلبه وابيض (2)، وإلا؛ فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلماً.
وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلاً بقوم نزلوا أرضاً، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا ناراً كبيرة، وهكذا المعاصي (3)؛ فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيراً الشهوة فهي أشد من الشبهة؛ لأن الشبهة أيسر زوالاً على من يسرها الله عليه؛ إذ إن مصدرها الجهل وهو يزول بالتعلم.
__________
(1) النسائي: كتاب صلاة العيدين، باب: كيف الخطبة، حديث (1578).
(2) مسند الإمام أحمد (2/297) وصححه أحمد شاكر، والترمذي: كتاب التفسير/باب (ويل للمطففين)، حديث (3334) وقال: (حسن صحيح) ـ، والحاكم (2/517) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ، وابن ماجة حديث (4244) وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (1670).
(3) مسند الإمام أحمد (5/331)، حديث (22860) والطبراني في الأوسط (7/219)، حديث (7323)، والصغير (2/129)، حديث (904)، والكبير (6/165) حديث 5872) والروياني في مسنده (2/216)، حديث (1065)، والبيهقي في الشعب (5/456)، حديث (7267)، وذكره الهيثمي في المجمع (10/190)، وقال (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)، وقال الحافظ في الفتح (11/329): (أخرجه أحمد بسند حسن) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2686).(23/31)
أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل؛ فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى؛ لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدعة غالبها شبهة، ولكن كثيراً منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الخلق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك؛ فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب؛ فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماماً، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماماً؛ فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه -، ثم عند خلقه.
والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر؛ لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير؛ لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك.
وقوله: (ولو حسن قصد الفاعل)، أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالماً أنها بدعة ولو حسن قصده؛ لأنه أقدم على المعصية(23/32)
كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلاً فإنه لا يأثم؛ لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)؛ فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: (لك الأجر مرتين) (1)؛ لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع؛ لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي لم يعد: (أصبت السنة)(2).
فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.
أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة؛ فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله؛ لأن عمله شر حابط كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد)(3).
وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها؛ نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به؛ فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.
__________
(1) سنن أبو داود: كتاب الطهارة/باب في المتيمم يجد الماء بعد ما صلى، والحاكم (1/179)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/69).
(2) انظر التخريج السابق.
(3) مسلم: كتاب الأقضية / باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، وعلقه البخاري بصيغة الجزم في البيوع والاعتصام وهو بلفظ آخر في الصحيحين.(23/33)
ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلى عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة؛ فأمرهم إلى الله .
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } (الأعراف: من الآية31)، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } (الفرقان: من الآية67)، وقد سبق بيان ذلك.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.
ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره؛ فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله ، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله ؛ فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة؛ فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.
الرابعة عشرة - وهي أعجب العجب -: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.
قوله: (وأعجب)، أي: أكثر عجباً وأشد، والعجب نوعان:(23/34)
الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود؛ كقول عائشة في الحديث: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله)(1).
الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } (الرعد: من الآية5).
وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.
وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيئ حسناً، قال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } (فاطر: من الآية8)، وقال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } (الكهف: 103، 104).
قوله: (واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال)، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله ؛ فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو؛ فلا نهي فيه، والله أعلم.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي: أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق.
__________
(1) البخاري: كتاب الوضوء/باب التيمن في الوضوء والغسل، حديث (168)، ومسلم: كتاب الطهارة/باب التيمن في الطهور وغيره، حديث (268).(23/35)
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني) الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.
وهذا الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد؛ حتى جعلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة.
ومعنى: (بلغ)؛ أي: أوصل وبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (هلك المتنطعون)؛ فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل؛ ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا، وإذا حل الجهل؛ فلا تسأل عن حال الناس؛ فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله ، ولا كيف يتقربون إليه.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء؛ لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم.
ومن أسباب فقده أيضاً: الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.
ثم إن العلم قد يكون موجوداً وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعملون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به؛ فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في وجوده ضرراً على الأمة؛ لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتاً غير عامل بما علم؛ ظنوا أن ما عليه الناس حق.
فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل؛ فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.
الخلاصة للباب:
بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر.(23/36)
وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة؛ فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم؛ فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه؛ فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.
س1: ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد؟
الجواب: الغلو مجاوزة الحد.
والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.
أما الاجتهاد؛ فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة؛ فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها؛ فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك؛ فإن هذا من الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا خلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟
الجواب: هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل؛ فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع.
وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن.
والصحيح أيضا أنه ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.
- - - - -(23/37)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده؟!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): في هذا الباب مع الأبواب بعده في بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على هذه الأمة، وأنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، ومن تمام حرصه على الأمة، أن حذرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك، وغلظ في ذلك، وشدد فيه، وأبدى وأعاد حتى إنه بيَّن ذلك خشية أن يفوت تأكيده وهو يعاني سكرات الموت، عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر، وما ينبغي سده، ومنعه، من الذرائع الموصلة إليه، رعاية وحماية للتوحيد؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- غَلَّظَ على من يفعلون شيئا من تلك الوسائل، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.
وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك والذرائع التي يجب منعها.
قوله -رحمه الله -: باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح.
صورة ذلك أن يأتي آتٍ إلى قبر رجل صالح، يعلم صلاحه، كأن يكون من الأنبياء والمرسلين، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة، أو صالحي أمة غير هذه الأمة، فيتحرى ذلك المكان، كي يعبد الله وحده، دون ما سواه، رجاء بركة هذه البقعة.
وقد رَاج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس، والدَّهْمَاء، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- غلَّظ في ذلك ونهى عنه، مع أن المغلَّظ عليه، لم يعبد إلا الله -جل وعلا- ولم يعبد صاحب القبر، لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته، ورجاء تَنَزُّل الرحمات، كما يقولون، ورجاء تنزل النسمات، والفضل من الله عليه.(24/1)
فاختاره لأجل بركته، ولكنه لم يعبد إلا الله -جل وعلا- ومع ذلك لعن النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
قوله: ((فيمن عبد الله )) يعني: أنه لم يشرك بالله، بل عَبَدَ الله وَحَّدَه، بأن صلى لله مخلصا، أو دعا لله مخلصا، أو تضرع واستغاث، واستعاذ بالله -جل وعلا- مخلصا.
لكنه تحرى إيقاع هذه العبادات عند قبر رجل الصالح لأجل البركة والرجل الصالح -كما سبق أن ذكرنا- هو المقتصد الذي أتى بالواجبات وابتعد عن المحرمات، أو السابق بالخيرات، وهو أعلى درجة، فالصالحون من الرجال والنساء مقامات: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله } (آل عمران: من الآية163) وبعض أهل العلم يعبر في تعريف الرجل الصالح بقوله: الصالح من عباد الله هو: القائم بحقوق الله ، القائم بحقوق عباده، وهذا تعبير صحيح؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله ، قائم بحقوق عباده، أتى بالواجبات، وانتهى عن المحرمات.
وأعظم منه درجة السابق بالخيرات، فأهل السبق بالخيرات من العباد، لا يجوز أن تعظم قبورهم، وأن يغلى فيها بظن أن البقعة التي حول قبورهم بقعة مباركة، فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأتي في هذا الباب وغلظ -عليه الصلاة والسلام- فيه على فاعله.(24/2)
وقوله: ((فكيف إذا عبده؟)) يعني: إذا كان هذا التغليظ، واللعن قد جاء في حق من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ومن أسرج على القبور، أو عظَّمها، وعظَّم من فيها، وعَبَدَ الله وَحْدَهُ عندها: إذا كان هذا قد جاءت النصوص بلعن فاعله وأنه من شرار الخلق عند الله : فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر يدعوه ويرجوه، أو يخافه، أو يأمل منه، أو يستغيث به، أو يصلى له، أو يذبح له، أو يستشفع به؟!! لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح، كما قال الشيخ -رحمه الله - ((فكيف إذا عبده؟)) يعني: أن التغليظ يكون أشد وأشد، إذا عبد صاحب ذلك القبر وهذا مقتضى كلام الشيخ في هذا التبويب. وهذا واضح لأن تحري العبادة والدعاء أو تعظيم ذلك المكان وسيلة وذريعة إلى الشرك وعبادة المقبورين فإذا كان من فعل وسائل الشرك الأكبر ملعوناً وموصوفاً بأنه من شرار الخلق عند الله ، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه، وتوجه إلى قبور الصالحين، واتخذها أوثانا مع الله -جل وعلا-؟!! لا شك أن هذا أبلغ، وأبلغ في التغليظ؛ وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام إذا فعله مسلم.(24/3)
ومعنى قوله: (فكيف إذا عبده؟) أي: عبد القبر، أو عبد الرجل الصالح - صاحب القبر -؛ لأن عبادة القبوريين تارة تكون بالتوجه إلى القبر، وتارة بالتوجه إلى صاحب القبر، بل وتارة التوجه إلى ما حول القبر، كالأبنية المحاطة بالقبور، وصارت مشاهد، فمنها ما يكون مسوراً بالحديد فترى من هؤلاء من يعمد إلى تلك الستور والجدران والأبنية فيتمسح بها رجاء بركتها ويتخذها وسيلة إلى الله ، فتراهم أيضاً يعكفون عند قبور معظميهم ويتخذون مشاهدهم أوثانا يعبدونها، ويرجونها ويخافونها، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد، أو الحديد، أو الستور ونحو ذلك، فكأنه صار مقربا عند الله ، وقبلت وسيلته تلك. ولا شك أن هذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثانا، ومن اتخاذ القبور أوثانا، أو اتخاذ الرجل الصالح الذي هو متبرئ من أولئك، ومن عبادتهم له إلهاً مع الله ، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع، وأنها قد تكون بالصلاة له أو بدعوته، أو بسؤاله كشف المدلهمات، أو جلب الخيرات، أو الذبح لصاحب القبر، أو وضع النذور له، ونحو ذلك من أنواع العبادات، كما هو الواقع من أولئك الذين يعبدون الأوثان وقبور الصالحين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )(1) فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب الصلاة / باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، حديث (427)، ومسلم: كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، حديث (528).(24/4)
(ف): قوله: (في الصحيح) أي الصحيحين.
قوله: أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين.
(ق): وأخبرته وهو في مرض موته بما رأت؛ كما في (الصحيح).
(ف): قوله: ذكرت لرسول الله وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكنيسة بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
(ق): قولها (من الصور) الظاهر أن هذه الصور مجسمة وتماثيل منصوبة.
قوله: (أولئك)، المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيا كانوا.
قوله: (أولئك)، يجوز في الكاف الكسر إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس.
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون مطابقا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكرا كان أم مؤنثا.
الوجه الثاني: الفتح مطلقا.
الوجه الثالث: الكسر للمؤنث مطلقا، والفتح للمذكر مطلقا.
وأشهرها: أن يكون مطابقا للمخاطب، ثم الفتح مطلقا، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أو: شك من الراوي.
قوله: (بنوا على قبره)، أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: (صوروا فيه تلك الصور)، أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل الصالح، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجتمع منها صور كثيرة.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله )، لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه؛ فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله - - سبحانه وتعالى - -.(24/5)
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل)، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .
قوله: (فتنة القبور)؛ لأنهم بنوا المساجد عليها.
قوله: (فتنة التماثيل)؛ لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين، وإنما سمي ذلك فتنة؛ لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك؛ فإنه من الفتنة، قال تعالى: { ألم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } (العنكبوت: 1، 2)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (البروج: من الآية10)؛ أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله .
(ف): قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك، سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك.(24/6)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها. حتى نهي عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سداً للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم، إحساناً للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما(24/7)
تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله والنهي عنه. أ.هـ.كلامه رحمه الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عنها قالت: (لما نُزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال - وهو كذلك -: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) [أخرجاه](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: ولهما أي البخاري ومسلم. وهو يغنى عن قوله في آخره أخرجاه.
(ق): وقوله: (عنها)؛ أي: عن عائشة.
قالت: (لما نزل برسول الله )، أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
(ف): قوله: طفق بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح. وبه جاء القرآن، ومعناه جعل.
(ق): من أفعال الشروع، واسمها مستتر، وجملة (يطرح) خبرها.
قوله: (خميصة)، هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه.
قوله: (فإذا اغتم بها)، أي: أصابه الغم بسببها، وقد احتضر - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (وهو كذلك)، أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يقول هذا في سياق الموت، و(لعنة الله )؛ أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ؛ أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بأن الله لعنهم.
ويحتمل أن يراد بها الدعاء؛ فتكون خبرية لفظا إنشائية معنى، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز / باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث (1330)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (529).(24/8)
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، الجملة هذه تعليل لقوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى)، كأن قائلا يقول: لماذا لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان الجواب: أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبنية على القبور.
(ف): قوله: يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا كلام عائشة رضي الله عنها لأنها فهمت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعليه - تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه - صلى الله عليه وسلم - ومع الصالحين من أمته - قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله.
قال القرطبي في معنى الحديث: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. انتهى.
إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف ابن يعقوب حيث قال: ' 12: 28 ' " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء " نكرة في سياق النفي تعم كل شرك.
(ق): قوله: (ولولا ذلك أبرز قبره)، أبرز؛ أي: أخرج من بيته؛ لأن البروز معناه الظهور، أي لولا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدا؛ لأخرج ودفن في البقيع مثلا، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدا؛ فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره - صلى الله عليه وسلم -.(24/9)
ومن أسباب ذلك: إخباره - صلى الله عليه وسلم - انه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض (1)، ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر؛ كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم، وصلاة المغرب.
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا)، خشي فيها روايتان: خشي وخشي(2).
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضي الله عنهم وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحقيقة أن الأمر كله حاصل؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفا من اتخاذ قبره مسجدا، والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن يدفن - صلى الله عليه وسلم - في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك.
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن يدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال (ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض)، وخوفا من اتخاذه مسجدا.
في هذا الحديث والحديث السابق: التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وهم أفضل الصالحين؛ لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولى من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها: { وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } (النساء: 69).
اعتراض وجوابه:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/7)، والترمذي: كتاب الجنائز /حديث (1018) وابن ماجة (1628)، وقال الشيخ الألباني ((حديث ثابت بما له من الطرق والشواهد)).
(2) البخاري: كتاب الجنائز / باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1390).(24/10)
إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآن، فإنه في وسط المسجد؛ فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر؛ بل بني المسجد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94هـ تقريبا؛ فليس مما أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضا سعيد بن المسيب من التابعين؛ فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله؛ لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد؛ فليس المسجد مبنيا عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحوطا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه؛ فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع؛ فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(24/11)
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)(1).
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم لعن - وهو في السياق - من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن جندب بن عبد الله أي ابن سفيان البجلي، وينسب إلى جده، صحابي مشهور. مات بعد الستين.
(ق): قوله: (بخمس)، أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: (أبرأ)، البراءة: هي التخلي؛ أي: أتخلي أن يكون لي منكم خليل.
قوله: (خليل)، هو الذي يبلغ في الحب غايته؛ لأن حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبهذا سمي الخليل خليلا
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (532).
(2) البخاري: كتاب التيمم / باب قول الله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } (النساء: من الآية43)و(المائدة: من الآية6)، حديث (335)، ومسلم: أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث (521).(24/12)
والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله - - عز وجل - - فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه، هما: إبراهيم في قوله تعالى: { وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } (النساء: من الآية125)، ومحمد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا).
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله ، ومحمدا حبيب الله ، وهذا تنقص في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم بهذه المقالة جعلوا مرتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون مرتبة إبراهيم، لأنهم إذا جعلوا حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس؛ فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة؛ فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.
فالمهم: أن العامة مشكل أمرهم، دائما يصفون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه حبيب الله ، فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم؛ فالرسول خليل الله ؛ لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا)، هذا تعليل لقوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في قلبه خلة لأحد إلا لله - - عز وجل - -.
قوله: (ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا).
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليا أفضل من أبي بكر.(24/13)
(ف): قال ابن القيم رحمه الله : وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله ، ومحمد حبيب الله - فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله قد اتخذه خليلاً ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها، ولعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم. وأيضاً فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين.
قوله: ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لأتخذت أبا بكر خليلاً فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة. وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف رحمه الله ، وهو كما قال بلا ريب.
(ق): وقوله: (لو)، حرف امتناع لامتناع؛ فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ أبي بكر خليلا لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلا.
(ف): وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر، لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره. وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب - صلى الله عليه وسلم - لما قيل يصلى بهم عمر وذلك في مرضه الذي توفى فيه - صلى الله عليه وسلم -.
واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة - رضي الله عنه -.
(ق): قوله: (ألا وإن من كان قبلكم)، للتنبيه، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.(24/14)
(ف): قوله: ألا حرف استفتاح ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد... الحديث قال الخلخالي: وإنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعهم هذا يُخرَّج على وجهين:
أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم.
الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول: هو الشرك الجلي. والثاني: الخفي، فلذلك استحقوا اللعن.
(ق): قوله: (ألا فلا تتخذوا)، هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: (فإني أنهاكم عن ذلك)، هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدا لهذا النهي لأهمية المقام.
من فوائد الحديث:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من أن يتخذ أحدا خليلا؛ لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
أن الله تعالى اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا؛ ففيه فضيلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فضيلة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - باتخاذه خليلا.
فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)، قوله: (فإني أنهاكم عن ذلك).
أن من دفن شخصا في مسجد وجب عليه نبشه وإخراجه من المسجد.
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه؛ لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحذير أمته منه، وهذا من كمال رأفته ورحمته بالأمة.
أن من بنى مسجدا على قبر وجب عليه هدمه.
قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته …) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه.
وقوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد.(24/15)
قوله: (ثم إنه لعن وهو في سياق من فعله)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد.
(ف): قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها ويصلى عندها وإليها؟ هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون.
(ق): قوله: (والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد).
(عندها)؛ أي: عند القبور، وقوله: (من ذلك)؛ أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا؛ فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في (صحيح مسلم) من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور؛ فقال: (لا تصلوا إلى القبور)(1).
(ف): وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم(2).
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز / باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، حديث (972).
(2) صحيح: أحمد(3/83)، أبو داود: كتاب الصلاة (492):باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة ،و الترمذي كتاب أبواب الصلاة (317): باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، وابن ماجة: كتاب المسجد(745): باب المواضع التي يكره فيها الصلاة. وابن حبان (338-موارد). والحاكم(1/251): وصححه الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي، والألباني في أحكام الجنائز(137).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج19/26): (علة النهي أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضاً مأوى للشياطين) أ.هـ.(24/16)
قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته - صيغة لا تفعلوا وصيغة أني أنهاكم عن ذلك - ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله ، من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يعوق ويغوث ونسرا، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم.
قال الشارح رحمه الله تعالى: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو a المقدسي. وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله . وهو الحق الذي لا ريب فيه.
قوله: فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.
(ق): قوله: (وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا) الضمير في (قولها) يرجع إلى عائشة رضي الله عنها.
قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى.
قد يقال: (خشي أن يتخذ مسجدا) معناه: أي: مكانا يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد.(24/17)
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في المسجد بني على قبر؛ فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة؛ وإن لم يبن مسجد.
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
الأول: أن تبنى عليها مساجد.
الثاني: أن تتخذ مكانا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد فإذا كان هؤلاء القوم مثلا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى؛ فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضا من اتخاذها مساجد.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه؛ فقد اتخذ مسجدا).
وهذا يشهد له العرف؛ فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم؛ كالوزارات والإدارات لو سألت واحدا منهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه؛ صار يسمى مسجدا.
قوله: (بل كل موضع يصلى …..)، فقوله: (مسجدا)؛ أي: مكانا للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلى فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلى فيه، كما يقال للسجادة التي تصلى عليها مسجد مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى.
الخلاصة:
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.
ولا يجوز أيضاً أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد؛ لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلاً يذهب إلى المقبرة ويصلى عند قبر ولي من الأولياء على زعمه؛ فلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجداً، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيميه دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجداً بالمعنى العام.(24/18)
(ف): قوله: كما قال - صلى الله عليه وسلم - " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " أي فسمى الأرض مسجداً، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة ونحوها.
قال البغوي في شرح السنة: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس. انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً:
(إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد)
[رواه أبو حاتم في صحيحه](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (مرفوعاً)، المرفوع: ما أسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (إن من شرار الناس)، من: للتبعيض، وشرار: جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: (من تدركهم الساعة)، من: اسم موصول اسم إن، والساعة؛ أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: (وهم أحياء)، الجملة حال من الهاء في (تدركهم).
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/435)، وابن خزيمة في (الصحيح) (789) ـ وقال شيخ الإسلام: (إسناد جيد) ـ، (الاقتضاء)، (2/568)، وصححه الألباني كما في تحذي الساجد من اتخاذ القبور مساجد ص (18).(24/19)
وفي قولهم: (تدركهم الساعة وهم أحياء) إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله )(1)، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة)(2)؛ فكيف نوفق بين الحديثين؛ لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء؛ فهم من شرار الخلق؟ !
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله؛ (حتى تقوم الساعة)؛ أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق؛ فالله يرسل ريحاً تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
(ف): قوله: والذين يتخذون القبور مساجد معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها.
(ق): فهم من شرار الخلق، وإن لم يشركوا؛ لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كانت دون مرتبتها، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم؛ فهي محرمة.
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب/باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر حديث (3640)، ومسلم: كتاب الإمارة/باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لايضرهم من خالفهم)، حديث (1921).
(2) مسلم: كتاب الإمارة/باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي).(24/20)
(ف): وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعنهم على ذلك، تحذيراً للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى. فما رفع أكثرهم بذلك رأساً، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعى العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
قال شيخ الإسلام: أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة. وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره. هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين.
وقال ابن القيم رحمه الله : يجب هدم القباب التي بنيت على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما.
وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وانفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه.
وقال القرطبي في حديث جابر - رضي الله عنه - (نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه)(1) وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
__________
(1) مسلم، كتاب الجنائز: حديث(970)(94) باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.(24/21)
وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف عليه.
وقال الزيلعي في شرح الكنز: ويكره أن يبنى على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه. لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التجصيص وللبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة - عند الحنفية رحمهم الله - كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز.
وقال الشافعي رحمه الله : أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم.
قال الشارح رحمه الله تعالى: وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقاً، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضاً.
وقال أبو a عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغنى، والكافي وغيرهما رحمه الله تعالى: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله اليهود والنصارى... " الحديث وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها، انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، ومن انقلبت تربتها أو لم تنقلب. ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا، لعموم الاسم وعموم العلة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس.(24/22)
وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بنى عليه مسجد، فلا يصلى في هذا المكان سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم، واتخاذها مساجد أشد، وكذلك إن لم يكن بنى عليه مسجد، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلى فيه يسمى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وإن كان موضع قبر أو قبرين.
وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها لأنه لا يتناولها اسم المقبرة، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضي منع الصلاة عند كل قبر.
وقد تقدم عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: لا أصلى في حمام ولا عند قبر.
فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولاً لتحريم القبر وفنائه، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفاً.
قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصلوا إلى القبور)(1) وقال: إسناده جيد، انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لأحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك: من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.
__________
(1) مسلم، كتاب الجنائز: حديث(972)(98)،باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.(24/23)
وقد حدث بعد الأئمة ومن يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد وغيروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد. فقال بعضهم النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه:
منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله . ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لا يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
ويقال أيضاً: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
(ق): فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.(24/24)
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من شرار الناس) دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر؛ لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضاً؛ لقوله تعالى: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } (آل عمران: 163)، وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين؛ فليس كمن صلى أربعاً.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب؛ ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة؛ لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان؛ فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.
وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: (فيمن عبد الله ) يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره؛ فهو شبيه بمن اتخذه مسجداً لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شاناً يفضل به على غيره؛ فالشيخ عمم، والدليل خاص.
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان؛ لكونه قبراً، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات؛ فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.(24/25)
الثالثة: العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده - صلى الله عليه وسلم - تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به - صلى الله عليه وسلم - من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلّة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأول: ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: (ولو صحت نية الفاعل)؛ لأن الحكم علق على مجرد صورته؛ فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق بمجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا يقدر عليها فيعطي أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد؛ فلا حاجة فيه إلى النية.(24/26)
أي: ولو كان يعبد الله ، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتباراً بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابهة، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه؛ أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك؛ فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه؛ لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل؛ كالأشياء المحرمة؛ كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك، تؤخذ من قوله: (وصوروا فيه تلك الصور)، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة؛ كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم. أو شرعاً، مثل: الأولياء، والصالحين، والأنبياء، وما أشبه ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال؟ ! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
وهذا مما يدل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على حماية جانب التوحيد؛ لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات؛ فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً)؛ لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذباً معصية، وهي أهون من الشرك.(24/27)
فالشرك أمره عظيم جداُ، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم؛ فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، ليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك؛ لأنه يوجب الغفلة عن الله - - عز وجل - -، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك عبداً لما تعبد له، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) (1)، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا؛ فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟ ! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان؛ كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نُساء ويوم نُسر
فالحاصل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لتحقيق عبادة الله ، ولهذا كان حريصاً على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
والثانية: قبل موته بخمس.
والثالثة: وهو في السياق.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)؛ فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وبئس رجلاً جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى).
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: (يحذر ما صنعوا)؛ أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد والسير / باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله ، حديث (2887).(24/28)
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة: (ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
هناك علة أخرى، وهي: إخباره بأنه ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت(1)، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
بناء المساجد عليها.
اتخاذها مكاناً للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة؛ فقد اتخذها مسجداً بالمعنى العام.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليه الساعة؛ فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: (مع خاتمته)، وهي أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
الحادية عشرة: ذكر في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع
قوله: (قبل أن يموت بخمس)، أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: (أشر أهل البدع)، يقال: أشر، ويقال: شر؛ بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالاً.
__________
(1) الترمذي: كتاب الجنائز / باب: حديث (1018)، والبزار في مسنده (1/71) من حديث عائشة رضي الله عنها.وأخرجه ابن ماجة في كتاب ما جاء في الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1628)، وأبو يعلى في مسنده (1/31)، حديث (22) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: ((ما قبض الله تعالى إلا في الموضع الذي يحي أن يدفن فيه))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5649).(24/29)
وإنما تكلم المؤلف رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والإطلاع عليهما؛ لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه؛ صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية؛ فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولاً.
وحالهما: أنهما أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي. فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبدالله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقاً - والعياذ بالله -. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها؛ إلا أنه يقال: إن عبدالله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته؛ فالله أعلم.(24/30)
فالمهم أن علياً - رضي الله عنه - رأى أمراً لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقاً، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر؛ لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام؛ لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة؛ كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن؛ فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في كثير من كتبه قولاً إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: (إنهم أشد الناس ضرراً على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد)؛ فهم يقولون: لا نصلى جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق - وهما أبو بكر وعمر - بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك؛ كعبد الله بن أبي بن سلول وأشباههم والعياذ بالله؛ فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقداتهم ومنهجهم؟!.
وأما الجهمية: فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله ، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؛ فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية؛ كالمعتزلة ومتأخري الرافضة؛ لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.(24/31)
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خرسان، وفيها كثير من الصابئة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضاً ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله - سبحانه - إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته؛ فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفاً بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة؛ حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم؛ لأننا إن قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات؛ فنقول: لا موجود ولا معدوم؛ فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن؛ لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لابد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إن صلى؛ فهو مجبر، وإن قتل؛ فهو مجبر، وهكذا؛ فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبراً على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب، بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنساناً أو تذمه؛ لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.(24/32)
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين؛ لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟ فيكون أعطى من لا يستحق؛ وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم؛ لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب: بأنه باطل؛ لأنه المالك إذا كان متصفاً بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } (طه: 112)، فلو أخلف هذا الوعد؛ لكان نقصاً في حقه وظلماً لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر؛ لأنه ادعى الربوبيه لنفسه فقط، فصار بذلك كافراً.
قال ابن القيم عنهم:
والناس في الإيمان شيء ……واحد كالمشط عند تماثل الأسنان
فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث من مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (إن جميع البدع أصلها من الرافضة)؛ فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: (أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة)، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين؛ أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي من كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.(24/33)
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: (شر أهل البدع).
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار لأن اظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: (وبسبب الرافضة حدث الشرك، وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد)، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض؛ فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعاً لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
الثانية عشرة: ما بُلي به - صلى الله عليه وسلم - من شدة النزع، تؤخذ من قولها: (طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها)، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان (1) من الناس.
وهذا من حكمة الله - - عز وجل - -؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأُوذي إيذاءً عظيماً، وكذلك أيضاً فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء؛ فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة؛ لأننا لا نعلم أحداً نال هذه المرتبة إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البخاري: كتاب المرضى/باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، حديث (5648) ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب / باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن حديث (2571).(24/34)
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة، ودليل ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه؛ فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة؛ فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، ، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره؛ فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: (بأن أبا بكر أحب الرجال إليه)(1)، ثم قال هنا: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً) فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضاً:
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب؛ لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب؛ لكان حمزة بن عبدالمطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكر - رضي الله عنه - على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته، لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً) علم أنه - رضي الله عنه - أولى الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيكون أحق الناس بخلافته.
- - - - -
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب/ باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لو كنت متخذاً خليلاً)) (3662)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه (2384).(24/35)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): الغلو في قبور الصالحين وسيلة من وسائل الشرك، بل قد يصل الغلو إلى أن يكون شركا بالله -جل وعلا- وأن يُصيَّر ذلك القبر وثنا يعبد، فالغلو درجات وقد تقدم في الأبواب قبله ذكر بعض صور هذا الغلو في القبور، وهنا بين أن الغلو يصل إلى أن تصير تلك القبور أوثانا تعبد من دون الله .
وإذا قلنا: إن الغلو هو مجاوزة الحد، فمعناه هنا في هذا الباب هو مجاوزة الحد في الصفة التي ينبغي أن يكون عليها القبر، إذ صفتها في الشرع واحدة، ولم يأت عن الشارع دليل في تمييز قبور الصالحين عن غيرهم، بل الوارد وجوب أن تتساوى من حيث الصفة فلا يفرق بين قبر صالح أو طالح، فالقبر إما أن يكون ظاهر مُسنَّماً، وإما أن يكون مربعا، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة.
فنهي النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الكتابة على القبر أو تجصيصه أو رفعه في أنواع من السنن التي جاءت في أحكام القبور، إنما لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين.
فمجاوزة الحد في قبور الصالحين هي مجاوزة لما أمر الشارع أن تكون عليه القبور؛ لأن قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين، فالغلو فيها يكون بالكتابة عليها، أو برفعها، أو بالبناء عليها، أو باتخاذها مساجد وكل هذا من الوسائل المؤدية إلى الشرك الأكبر ومن صور الغلو في قبور الصالحين، أن تُجعل وسيلة من الوسائل التي تقرب إلى الله -جل وعلا- أو أن يتخذ القبر أو من في القبر شفيعا لهم عند الله -جل وعلا- أو ينذر للقبر، أو يذبح له، أو يستشفع بترابه اعتقاداً أنه وسيلة عند الله -جل وعلا- ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله - تبارك وتعالى -.(25/1)
فالغلو في قبور الصالحين، يكون بمجاوزة ما أُذِن فيها، ومن المجاوزة ما هو من وسائل الشرك، ومنها ما هو شرك صريح، كاتخاذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله -جل وعلا-؛ ولهذا قال رحمه الله : باب ((ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا))، وقوله: ((يصيرها))، يعني: يجعلها، فقد يكون جعل الوسائل للغايات، يعني: أن الغلو صار وسيلة لاتخاذها أوثانا، وقد يكون الغُلُوُّ جعلها وثناً يُعبد من دون الله -جل وعلا-.
وهذا هو الواقع والمشاهد في كثير من بلاد الإسلام في أن القبور صارت أوثانا تعبد من دون الله لما أقيمت عليها المشاهد والقباب، ودُعِي الناس إليها وذبح لها، وقبلت النذور لها، وصار يُطَاف حولها، ويعكف عندها ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله.
(ق): والقبور لها حق علينا من وجهين:
1. أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام؛ فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2. أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
وفي (صحيح مسلم) قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) (1)، وفي رواية: (ولا صورة إلا طمستها).
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور؛ فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن: إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: (الصالحين)، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.
قوله: (أوثاناً)، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل؛ فيكون الوثن أعم.
ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثناً، وإن لم يكن على تمثال نصب؛ لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب الأمر بتسوية القبر، حديث (969).(25/2)
قوله: (تعبد من دون الله )، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله ؛ لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإن قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله ، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى مالك في (الموطأ): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث رواه مالك مرسلاً عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال... الحديث. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبدالله المدني. إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين للحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقيل أربع وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
(ق): قوله: (في (الموطأ))، كتاب مشهور من أصح الكتب؛ لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضاً كلام وبحث للإمام مالك نفسه.
__________
(1) مسلم: كتاب الزهد /باب: من أشرك في عمله غير الله ، (2985).
(2) سبق تخريجه.(25/3)
وقد شرحه كثير من أهل العلم (1)، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: (التمهيد) لابن عبد البر، وهذا - أعني (التمهيد) - فيه علم كثير.
قوله: (اللهم)، أصلها: يا الله ! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله ، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله ، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله .
قوله: (لا تجعل قبري وثناً يعبد)، لا: للدعاء؛ لأنها طلب من الله ، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: (قبري)، والثاني: (وثناً).
وقوله: (يعبد)، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة؛ لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله .
وإنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد؛ لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
(ف): قوله: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فأجاب رب العالمين دعاءه
حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
في عزة وحماية وصيان
__________
(1) انظر التمهيد لابن عبد البر (5/41-43)، وشرح الزرقاني (1/496)، وتنوير الحوالك للسيوطي (1/143).(25/4)
ودل الحديث على أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عبد لكان وثناً، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها، كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير. تجرى على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت قيل: غيرت السنة)(1) انتهى.
ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: (أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -)(2) فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة.
وقال المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل. ومن لا فليمض ولا يتعمدها.
__________
(1) صحيح: أخرجه الدارمي(1/60)، والحاكم(4/514) وابن عبد البر في جامع بيان العلم، وصححه الألباني في صلاة التراويح ص(50)وقال: (وهذا وإن كان موقوفاً فهو في حكم الرفع لأن ما فيه من التحدث عن أمور غيبية لا تقال إلا بالوحي فهو من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - فقد تحققت كل جملة فيه...) والحديث في مصادره مطول وقد اختصره هنا المصنف.
(2) قال الحافظ في الفتح(7/448): (وجدت عند ابن سعد باسناد صحيح عن نافع ان عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجر فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت) أ.هـ.(25/5)
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العالية قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف. فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟. قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبراً متفرقة. فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه عن الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة.
قلت: ما كان تغير منه شيئ؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض.
قال ابن القيم رحمه الله : ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها - ولم يستحب الشارع قصدها - فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلى عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعاً ولا عيناً، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة. وأما تحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصاً.
(ق): قوله: (اشتد)، أي: عظم.(25/6)
قوله: (غضب الله )، صفة حقيقية ثابتة لله -- عز وجل -- لا تماثل غضب المخلوق لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: انتقم الله ، وإنما قال: اشتد غضب الله ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلف وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه؛ لأنه لو أتى بذلك لكان ملبساً، وحاشاه أن يكون كذلك؛
فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام؛ فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
غضب المخلوق حقيقة هو: غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق؛ فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى: من الآية11).
أن غضب الآدمي يؤثر آثاراً غير محمودة؛ فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله ؛ فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم؛ فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.
فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك؛ فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان؛ لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه؛ فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } (الزخرف:55).(25/7)
فإن معنى { آسفونا } : أغضبونا؛ فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثراً مترتباً عليه؛ فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.
واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله؛ فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة؛ فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل.
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، أي: جعلوها مساجد؛ إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها؛ فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
(ف): فيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر.
وفى القرى للطبري من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلل ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر، لئلا يقع التشبه بفعل أولئك، سداً للذريعة.(25/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفاً عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - - إلى أن قال - وقد ذكروا في أسباب كراهته لأن يقول: زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا. وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة. فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة عليه والسلام، فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا ترى إلى قوله: (فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) مع زيارته لقبر أمه(1). فإن هذا يتناول قبور الكفار. فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظماً في الدين كالأنبياء والصالحين، فإنه كثيراً ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة. أ.هـ.
وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
__________
(1) مسلم ، كتاب الجنائز : ،حديث(976)(108)، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في زيارة قبر امه من حديث أبي هريرة وفيه (فزوروا القبور فانها تذكر الموت)أما قوله - صلى الله عليه وسلم - (فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) فأخرجه الترمذي (1054)من حديث بريدة وابن ماجة (1571)من حديث ابن مسعود وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص(178، 179).(25/9)
(تم): فهذا الحديث صريح في أن القبر يمكن أن يكون وثنا، والخرافيون يقولون: إن القبور لا يمكن أن تكون أوثانا، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية فقط، فنقول في الرد عليهم: إن الجاهليين إذا كانوا قد تعلقوا بأصنام وبأحجار وبأشجار وبغير ذلك من الأشياء، واعتقدوا فيها ووصل بهم ذلك الاعتقاد إلى حد الشرك الأكبر مع أن المسوغ العقلي والنفسي لعبادتها غير قوي، ولا ظاهر فيها، فإن إتخاذ قبور الصالحين والأنبياء والمرسلين أوثانا، أو أن يتوجه إلى أصحابها بالعبادة وارد من باب أولى لان تعلق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار، وتعلقها بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن أو بالأشجار أو بالأحجار أو نحو ذلك.
فوسائل الشرك بالقبور أظهر منها في الأصنام ونحوها؛ وأوضح، وهما يشتركان في أن كلاً منهما يعتقد تأثير الصنم أوالوثن في حصول ما يرجوه من الشفاعة عند الله فأولئك المشركون يقولون في آلهتهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى } (الزمر: من الآية3)ويقولون: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله } (يونس: من الآية18)وأهل العصور التي فشا فيها الشرك، إذا سألتهم يقولون: هذا توسل، وهذا استشفاع، والحال واحدة، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثانا هو اتخاذها مساجد والبناء عليها، والحث على مجيئها، والتبرك بها، وذكر الكرامات التي تحصل عندها من إجابة الدعوات وتفريج الكربات!!، إلى غير ذلك مما يفعله المشركون بقبور معظميهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب (أفرأيتم اللات والعزى)، حديث (4859).(25/10)
(ف): قوله: ولابن جرير هو الإمام الحافظ a بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها.
(ق): وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.
فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.
وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم؛ علم ذلك.
وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائماً يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية؛ فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع؛ فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.
والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره؛ لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ (تفسير الكشاف) للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون؛ لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.
(ف): قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من a بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحداً. وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة.(25/11)
قوله: عن سفيان الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهداً، وله أتباع يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن مجاهد هو ابن جبر - بالجيم الموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذه عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم. مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر - رضي الله عنه -.
(ق): ذكر عنه أنه قال: (عرضت المصحف على عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته؛ فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها).
قوله: { أفرأيتم } ، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى … إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ؛ قال: { أفرأيتم اللات والعزى } ؛ أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج.
قوله: { اللات } ، (كان يلت لهم...) إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت؛ فهو لات.
أما على قراءة التخفيف؛ فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام؛ أي: حذف منها التضعيف تخفيفاً.
وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.
وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات؛ عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلهاً، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة؛ فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد؛ فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.(25/12)
وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه؛ فصار الغلو في القبور يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله .
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهى عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفاً من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر إذا بعث بعثاً: بأن لا يدعوا قبراً مشرفاً إلا سووه (1)؛ لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور؛ فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: (السويق)، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.
وقوله: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره)، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلهاً مع الله .
(ف): قوله: وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين.
قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم. حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: كان اللات رجلاً يلت سويق الحجاج.
(ق): قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج)، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله ، ويلتون لهم السويق، وأن العباس أيضاً يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذاً يحليه زبيباً أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال - والعياذ بالله -؛ حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالاً بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (الحج: من الآية25)؛ فكيف بمن يفعل الإلحاد؟!.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/باب الأمر بتسوية القبر، حديث (969)(25/13)
(ف): قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
{لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج}. [رواه أهل السنن](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه أهل السنن.
قلت: وفي الباب حديث عن أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه. وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ".
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانيء، وقد ضعفه بعضهم ووثقة بعضهم. قال على بن المديني، عن يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانيء. وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان. قال ابن معين: ليس به بأس ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه. انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي.
(ق): قوله: (لعن)، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، ومعنى (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله: (زائرات القبور)، زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/229)، وسنن أبو داود: كتاب الجنائز/باب في زيارة النساء القبور، حديث (4859)، والترمذي: الصلاة/باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجداً، (320)– وقال: (حديث حسن) ـ والنسائي حديث (1575، 2043) وقد صححه الشيخ الألباني دون قوله: (اتخاذ السرج).(25/14)
منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.
ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.
وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور)(1)؛ بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: (والمتخذين عليها المساجد)، هذا الشاهد من حديث؛ أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد له صورتان:
1- أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
2- بناء المساجد عليها.
قوله: (والسرج) جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريقين: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور " وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا. فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذاً، أي مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
(ق): المناسبة للباب:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/337)، والترمذي: الجنائز/باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء، 4/12 ـ وقال: (حسن صحيح) ـ وابن ماجة حديث (1574).(25/15)
إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها؛ فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى(زائرات القبور)، والجملة الثانية(المتخذين عليها المساجد والسرج)؟
الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر؛ فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه؛ فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله؛ فقد يقال بجوازه؛ لأنها لا تسرج إلا بالليل؛ فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.
ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية:
1- أنه ليس هناك ضرورة.
2- أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك؛ فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.
3- أنه إذا فتح هذا الباب؛ فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت؛ فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟
الجواب: قد تترك، ثم يبقي كأنه متخذ عليها السرج؛ فالذي نرى أنه يمنع نهائيا.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه؛ فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد؛ فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة؛ فالمسألة ليست هينة.
وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:(25/16)
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب؛ لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه؛ لحديث أم عطية: (نهينا عن إتباع الجنائز، ولم يعزم علينا)(1).
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور؛ لحديث المرأة: التي مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: (اتقي الله واصبري). فقالت له: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فانصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقيل لها: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجاءت إليه تعتذر؛ فلم يقبل عذرها، وقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)(2)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.
ولما ثبت في (صحيح مسلم)(3) من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج - صلى الله عليه وسلم - مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر؛ فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله ؟ قال: (قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين …..) إلخ.
قالوا: فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز / باب اتباع النساء للجنائز، حديث (1278)، ومسلم: كتاب الجنائز / باب نهي النساء عن اتباع الجنائز حديث (938).
(2) البخاري: كتاب الجنائز / باب زيارة القبور، حديث (1283)، ومسلم: كتاب الجنائز / باب في الصبر على المعصية عند الصدمة الأولى، حديث (926).
(3) مسلم: كتاب الجنائز / باب ما يقال عند دخول ا لقبور والدعاء لأهلها حديث (974).(25/17)
ورأيت قولا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)(1)، وهذا عام للرجال والنساء.
ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة: أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك(2).
وهذا دليل على أنه منسوخ.
والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح؛ فمن ذلك:
أولا: دعوى النسخ غير صحيحة؛ لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/145)، ومسلم بلفظ: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي.)، كتاب الجنائز / باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة قبر أمه، حديث (977)، وأبو داود حديث(3235)و(3698)والترمذي (1054).
(2) الترمذي: كتاب الجنائز / باب زيارة النساء للقبور، وذكره الهيثمي في (المجمع)، وقال: رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله رجال الصحيح، والبغوي في (شرح السنة).(25/18)
1- تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها)(1) للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح -؛ فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول: قد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجال فقط؛ لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)(2)، ومن المعلوم أن قوله: (والمتخذين عليها المساجد والسرج) لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد؛ فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ.
2- العلم بالتاريخ، وهنا لم نعلم التاريخ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل:
كنت لعنت من زار القبور، بل قال: (كنت نهيتكم)، والنهي دون اللعن.
وأيضا قوله: (كنت نهيتكم) خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء؛ فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذا؛ فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(25/19)
وثانيا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر، ولهذا أمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تصبر؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحا؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
وأما حديث عائشة؛ فإنها قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ماذا أقول؟ فقال: (قولي: السلام عليكم)؛ فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل؛ فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة؛ إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحا؛ فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما؛ فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور؛ لكنا ننظر بماذا ستجيبه.(25/20)
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم؛ فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، على أنه روي عنها؛ أنها قالت: (لو شهدتك ما زرتك)(1)، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له؛ لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسخه، وإذا فهمت هي؛ فلا يعارض بقولها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قارن بما في (أحكام الجنائز) للشيخ الألباني المسألة (116-117) ط المعارف أو المكتب الاسلامي.(25/21)
(ف): فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: لعن الله زوارات القبور بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج. ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر.
والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فزوروها صيغة تذكير. وإنما يتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان، قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل، وقيل أنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، لو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لا ستحب لهن زيارة القبور. وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.(25/22)
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الإذن للرجال بأن ذلك " يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين "(1) هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح بالها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، لما فيها من الضعف وقلة الصبر. وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها. فيحرم هذا الباب سداً للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك. وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة. فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها.
__________
(1) حسن: أحمد (3/237، 250). وهو عند الحاكم أيضاً (1/375، 376) وحسنه الألباني في أحكام الجنائز(ص180) .(25/23)
ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - " ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت "(1)، وقوله لفاطمة: " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة "(2) ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز ومعلوم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان"(3) وهو أدل على العموم من صيغة التذكير. فإن لفظ من يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصاً.
قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً للرجال، خص بقوله: {لعن الله زوارات القبور....}الحديث فيكون من العام المخصوص.
وعندما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضاً.
منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض مما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ.
__________
(1) ضعيف :ابن ماجة (1578) كتاب الجنائز :باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز .والبيهقي (4/77)من حديث علي - رضي الله عنه - .وضعفه النووي في المجموع (5/224)والبوصيري في الزوائد وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (873).
(2) ضعيف :أحمد (2/168، 169)وأبو داود(3123) كتاب الجنائز: باب التعزية والنسائي : في كتاب الجنائز (4/27، 28) باب النعي وضعفه النووي في المجموع (5/224) والمنذري في مختصر السنن(4/289). والكُدي: هي المقابر كما في اللسان.
(3) البخاري، كتاب الجنائز: حديث(1278) باب اتباع الجنائز، مسلم، كتاب الجنائز :حديث(938) (34)، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز من حديث أم عطية رضي الله عنها.(25/24)
ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع، وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم.
قال a بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد: فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب - بل كل - من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذي يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف بإسمه، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع. حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة فإن ذلك في نفسه منهي عنه. ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة. انتهى.
(ق): إشكال وجوابه:
في قوله: (زوارات القبور) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن (زوارات)صيغة مبالغة؟
الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك؛ فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات).(25/25)
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل؛ فـ (الزوارات) يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوَابُ } (صّ:50)، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف؛ إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضا قراءة { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَت } (الزمر: 73)؛ فهي مثلها.فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر،وأنها من كبائر الذنوب. وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه في (مجموع الفتاوى) (343/24).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله .
السادسة: وهي من أهمها - معرفة صفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنة زَوَّارَات القبور.
العاشرة: لعنة من أسرجها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله ، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره.
الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما؛ لقوله: (لا تجعل قبري وثنا يعبد).
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد).
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله ، تؤخذ من قوله: (اشتد غضب الله ).
وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها.(25/26)
وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده)(1).
السادسة - وهي من أهمها -: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان، وذلك في قوله: (فمات، فعكفوا على قبره).
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله (كان يلت لهم السويق)؛ أي للحجاج؛ لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظما إلا صاحب دين.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.
التاسعة: لعنه زوارات القبور، أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر رحمه الله لفظ: (زوارات القبور) مراعاة للفظ الآخر.
العاشرة: لعنه من أسرجها، وذلك في قوله: (والمتخذين عليها المساجد والسرج).
وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله ، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك؛ فله وجه.
مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلى فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه.
والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها إن المرأة يجوز لها قصد الزيارة؛ فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغه حيث كان.
__________
(1) سبق تخريجه.(25/27)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(ق): قوله: (المصطفى)، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، المراد به: a - صلى الله عليه وسلم -، والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.
قوله: (حماية)، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها ونحو ذلك.
قوله: (جناب)، بمعنى جانب، والتوحيد: تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله: (وسده كل طريق)، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى: { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء: من الآية48).(26/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الشرك الأصغر لا يغفره الله ؛ لعموم قوله: { أن يشرك به } ، وعلى هذا؛ فجميع الذنوب دونه لقوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ؛ فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها؛ فالشرك ليس بالأمر الهين الذي يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد القصد فسد العمل؛ إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود: 15، 16)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات)(1).
إذا؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }
[التوبة: 128- 129].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي / باب بدء الوحي حديث (1)، ومسلم في كتاب الامارة /باب إنما الأعمال بالنيات حديث (1907).(26/2)
والخطاب في قوله: { جاءكم } قيل للعرب؛ لقوله: { من أنفسكم } ؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - من العرب، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } (الجمعة: من الآية2).
ويحتمل أن يكون عاما للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس؛ أي: ليس من الجن ولا الملائكة، بل هو من جنسكم؛ كما قال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (الأعراف: من الآية189).
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.
ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا؛ لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.
والاحتمال الثاني أولى؛ للعموم، ولقوله: { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (آل عمران: من الآية164)، ولما كان المراد العرب، قال { منهم } لا { من أنفسكم } ، قال الله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } ، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } ، وعلى هذا، فإذا جاءت { من أنفسهم } ؛ فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت { منهم } ؛ فالمراد العرب؛ فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.
قوله { رسول } ، أي: من الله ؛ كما قال الله تعالى { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة } ، وفعول هنا بمعنى مفعل؛ أي: مرسل.
و { من أنفسكم } ، سبق الكلام فيها.
قوله: { عزيز } ، أي: صعب؛ لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: (أرض عزاز)؛ أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(26/3)
قوله: { ما عنتم } ، { ما } : مصدرية، وليست موصولة؛ أي: عنتكم؛ أي: مشقتكم؛ لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } (النساء: من الآية25).
والفعل بعد: { ما } يؤول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟
يختلف باختلاف { عزيز } إذا قلنا: بأن { عزيز } صفة للرسول؛ صار المصدر المؤول فاعلا به؛ أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار ابن مالك في قوله:
……………….وقد ... يجوز نحو " فائز أولو الرشد
(ف): ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بعثت بالحنيفية السمحة "(1) وفي الصحيح: " إن هذا الدين يسر" وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة، يسيرة على من يسرها الله عليه.
(ق): قوله: { حريص عليكم } ، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم؛ فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: { عزيز عليه ما عنتم } ، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله: { حريص عليكم } ؛ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعا بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم: 4).
__________
(1) حسن: جاء من طرق كثيرة كما قال المصنف من حديث حبيب بن أبي ثابت مرسلا ومن حديث أبي أمامة وجابر وعائشة موصولا .والحديث ضعفه اللباني في غاية المرام(8)من حديث جابر ومرسل حبيب فقط. وحسن بهما الحديث في بحث جيد تظهر عليه أمارات التأدب مع العلماء .ص(333:335).(26/4)
(ف): قوله: { حريص عليكم } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً أخرجه الطبراني، قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما بقى شيئ يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم".
وقوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } كما قال تعالى: ' 16: 215، 216، 217 ' { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم } وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله: { فإن تولوا } أي عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة { حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } .
قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها، كما تقدم، وكما سيأتي في أحاديث الباب.
(ق): قوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ، { بالمؤمنين } : جار ومجرور خبر مقدم، و { رؤوف } : مبتدأ مؤخر، و { رحيم } : مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر.
والرأفة: أشد الرحمة وأرقها.
والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.(26/5)
وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى؛ فلا نفسرها بهذا التفسير؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها؛ فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: (إن لله مئة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)(1).
فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله -- عز وجل -- الذي خلقها؟
فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟
الجواب: أبداً، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة؛ لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة؛ لأنها من صفاته؛ فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.
وقوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ؛ أي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير المؤمنين ليس رؤوفاً ولا رحيماً، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك في قوله: { a رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح: من الآية29).
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب / باب جعل الله الرحمة في مئة جزء، حديث (6000)، ومسلم: كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، حديث (2752).(26/6)
قوله: { فإن تولوا } ، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به؛ فلم يقل: فإن توليتم.
والبلاغيون يسمونه التفاتاً، ولو قيل: إنه انتقال؛ لكان أحسن.
قوله: { فقل حسبي الله } ، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قل ذلك معتمداً على الله ، متوكلاً عليه، معتصماً به: حسبي الله ، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا؛ فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله ، و { حسبي } خبر مقدم، و(لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجور العكس بأن نجعل: { حسبي } مبتدأ و(لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة؛ كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.
قوله: { لا إله إلى هو } ، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله -- عز وجل --.
قوله: { عليه توكلت } ، عليه: جار ومجرور متعلق بـ(توكلت)، وقدم للحصر.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.
وقوله: { عليه توكلت } مع قوله: { لا إله إلا هو } فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذين الأمرين كثيراً، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة: 5)، وقوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } (هود: من الآية123).
قوله: { وهو رب العرش العظيم } ، الضمير يعود على الله -سبحانه-.
و { رب العرش } : أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش -وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفاً للعرش وتعظيماً له.
ومناسبة التوكل لقوله: { رب العرش العظيم } ؛ لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه؛ فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.(26/7)
وقوله: { العرش } فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسروا الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح إن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } (التوبة: من الآية129)، وبأنه مجيد بقوله: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } (البروج: 15) على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } (المؤمنون: من الآية116)؛ لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها لأن الله استوى عليه.
وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق؛ لأن العرش مخلوق، وكذلك الرحيم، والرؤوف، والحكيم.
ولا يلزم من اتفاق المسميين، فإذا كان الإنسان رؤوفاً؛ فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعاً بصيراً عليماً لزم أن يكون مثل الخالق؛ لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق؛ فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.
وقوله: { فقل حسبي الله } ؛ أي: كافيني، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه؛ لأنه قال: { فإن تولوا } .
وهذه الكلمة - كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين قيل لهم: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (آل عمران: من الآية173).
(تنبيه):
في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(26/8)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)(1) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله: (لا تجعلوا)، الجملة هنا نهي؛ فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل.
قوله: (بيوتكم)، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.
قوله: (قبوراً)، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها؛ فمنهم من قال: لا تجعلوها قبوراً؛ أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته.
وأجيب عنه بأن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دفن في بيته لسببين:
ما روي عن أبي بكر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض) (2)، وهذا ضعفه بعض العلماء.
ما روته عائشة رضي الله عنهما: (أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (3).
وقال بعض العلماء: المراد بـ(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)؛ أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً)، وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه قريباً في باب: ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبد؟!.
(3) تقدم تخريجه في الباب السابق.(26/9)
وكلا المعنيين صحيح؛ فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين؛ لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته؛ فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا قليلا، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة)(1).
وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبورا؛ أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها؛ فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة.
وفيه أيضا: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها.
إذا؛ فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر؛ فيكون دليل واضح على أن المقابر ليست محلا للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب؛ لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدا للشرك.
واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين:
الأولى: أن يبني عليها مسجدا.
الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلى عندها.
(ف): قوله: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبرى عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات.
قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً قال شيخ الإسلام: أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة.
__________
(1) تقدم تخريجه قريباً.(26/10)
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه ".
(ق): والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة)(1)؛ إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد، مثل: صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كنت في المدينة النبوية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.
قوله: (عيدا)، اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاما ودعا الناس؛ فهذا يسمي عيدا لأنه جعله يعود ويتكرر.
وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئا فتتردد إليه، مثل ما يفعل بعض الجهلة في شهر رجب وهو ما يسمي بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون من مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحا، وكانوا سابقا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات.
وأيهما المراد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: الأول؛ أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟
الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.
__________
(1) البخاري: كتاب الآذان / باب صلاة الليل حديث (731)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها / باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، حديث (781)(26/11)
وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته؛ فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان؛ فإن تسليمهم يبلغه.
قوله: (وصلوا علي)، هذا أمر؛ أي: قولوا: اللهم صل على a، وقد أمر الله بذلك في قوله: { إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب: 56).
وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا(1).
والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء.
فهذا ليس بصحيح، بل إن الصلاة على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم.
ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } (البقرة: من الآية157)؛ فعطف الرحمة على الصلوات، والأصل في العطف المغايرة، لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا اجمع العلماء على أنه يجوز أن تقول: فلان رحمه الله ، واختلفوا: هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟.
فمن صلى على a - صلى الله عليه وسلم - مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات، وهذه نعمة كبيرة.
(ف): قوله: ولا تجعلوا قبري عيداً قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائداً إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك.
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، حديث (384).(26/12)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد. فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام التعبد فيها عيداً. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية الكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر.
(ق): قوله: (فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)، حيث: ظرف مبني على الضم في محل نصب، ويقال فيها: حيث، وحوث، وحاث، لكنها قليلة.
كيف تبلغه الصلاة عليه؟
الجواب: نقول: إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب؛ فالواجب أن يقال: الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه، لكن ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن لله ملائكة سياحين يسيحون في الأرض يبلغون النبي - صلى الله عليه وسلم - سلام أمته عليه)(1)، فإن صح؛ فهذه هي الكيفية.
(ف): قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيداً.
__________
(1) النسائي: كتاب السير / باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1282)، وأحمد في مسنده (1/441)، حديث (4210)، والدارمي في سننه (2/409)، حديث (2774)، والحاكم في المستدرك (2/456)، حديث (3576)، وابن حبان في صحيحه (3/195) حديث (914)، وقال ابن القيم في(جلاء الأفهام) (ص23): (وهذا إسناد صحيح)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2174).(26/13)
(ق): قوله: (رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات)، هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية، ظاهره أن بينهما اختلافا، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط؛ فمعناه أن فيه نوعا من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن: أن المراد بالثقة ليس غاية الثقة؛ لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحا؛ لأن ثقة الراوي تعود على تحقيق الوصفين فيه، وهما: العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة، كما إذا خفت العدالة أيضا تخف الثقة فيه.
فيجمع بينهما على أن المراد: مطلق الثقة، ولكنه لاشك فيما أرى أنه إذا أعقب قوله: (حسن) بقوله: (رواته ثقات) أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ: (حسن).
ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في (تقريب التهذيب) بقوله: (صدوق يهم)، وأحيانا يقول: (صدوق)، وصدوق أقوي؛ فيكون توثيق الرجل الموصوف بصدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم.
لا يقول قائل: إن كلمة يهم لا تزيده ضعفا؛ لأنه ما من إنسان إلا ويهم.
فنقول: هذا لا يصح؛ لأن قولهم: (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا يخلو منه أحد، ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها.
(ف): قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله أ.هـ.د
- - - - -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(26/14)
قوله: وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم). [رواه في المختارة](1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين.
أما الأول: فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر.
وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومثل هذا إذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة، وقال الحافظ a بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة.
وأما الحديث الثاني: فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء a بن عبد الواحد المقدسي في المختارة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط. أ.هـ.
__________
(1) أخرجه المقدسي في المختارة (2/49)، حديث (428)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/150)، حديث (7542)، وعبد الرزاق في مسنده (3/577)، حديث (6726)، والبزار في مسنده (2/147)، حديث (509)، وأبو يعلى في مسنده (1/361)، حديث (469). والحديث صحيح.(26/15)
وقال سعيد بن منصور في سننه، حدثنا عبد العزيز بن a أخبرني سهيل بن أبي سهل قال: رآني الحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء ".
وقال سعيد أيضاً: حدثنا حبان بن علي، حدثنا a عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ".
قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله. وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسنداً.
قوله: على بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين - رضي الله عنه -، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح. وأبوه الحسين سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته، حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة - رضي الله عنه -.
قوله: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.(26/16)
(ق): قوله: (يجيء إلى فرجة)، هذا الرجل لاشك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلا ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر؛ فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل.
قوله: (فنهاه)، أي: طلب منه الكف.
قوله: (ألا أحدثكم حديثا)، قال أحدثكم والرجل واحد؛ لأن الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة.
و(ألا): أداة عرض؛ أي: أعرض عليكم أن أحدثكم.
وفائدتها: تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به.
قوله: (عن أبي عن جدي)، أبوه: الحسين، وجده: علي بن أبي طالب.
قوله: (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، السند متصل وفيه عنعنة لكنها لا تضر؛ لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع.
قوله: (لا تتخذوا قبري عيدا)، يقال فيه كما في الحديث السابق: أنه نهى أن يتخذ قبره عيدا يعتاد ويتكرر إليه؛ لأنه وسيلة إلى الشرك.
قوله: (ولا بيوتكم قبورا)، سبق معناه.
قوله: (وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم)، اللفظ هكذا، وأشك في صحته؛ لأن قوله: (صلوا علي) يقتضي أن يقال: فإن صلاتكم تبلغني؛ إلا أن يقال هذا من باب الطي والنشر.
والمعنى: صلوا علي وسلموا؛ فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين، لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى.
وقوله: (وصلوا علي)، سبق معناها، المراد: صلوا علي في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده.
قوله: (يبلغني)، تقدم كيف يبلغه - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها.(26/17)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما علمت أحداً رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلى منهي عنه، لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم، بل نهاهم عنه في قوله " لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد. وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب، إذا كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج.(26/18)
والمقصود: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر. كما كان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله . السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة. وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن يسلم ويمضى. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره. وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟.(26/19)
وفي الحديث: دليل على منع شد الرحال إلى قبره والى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعياداً. بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها. وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله - أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين - ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك. كالغزالي وأبي a المقدسي. ومن مانع لذلك، كابن بطة وابن عقيل، وأبي a الجويني، والقاضي عياض. وهو قول الجمهور، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب. لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً. فقال: ي رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي، ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع - كما في الموطأ والمسند والسنن(1) - عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة - وقد أقبل من الطور -: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: (أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى. فدع عنك الطور ولا تأته)(2).
__________
(1) مالك(1/108)،وأحمد(6/7، 397)، والنسائي (3/113، 115)وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص(226).وصحيح الجامع(7248).
(2) رواه أحمد (3/64، 93)عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه شهر بن حوشب وهو مضطرب الخديث والحديث ثابت عدا فقرة "إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة " فهي ضعيفة لتفرد شهر بها". أفاده الدوسري في النهج السديد(237).(26/20)
فابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلاً الطور مما نهي شد، الرحال إليه. لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة. فإن الله سماه الوادي المقدس. والبقعة المباركة وكلم كليمه موسى - عليه السلام - هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لابن الاخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأخذ به العلماء وقياس الأولى. لأن المفسدة في ذلك ظاهرة.
وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه. وقد بسط القول في ذلك الحافظ a بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده السبكي، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى أنه لا يصح منها حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع. إذ ليس فيها إلا المختارة)ة، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة.
قوله: (رواه في المختارة) المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين.
ومؤلفه هو أبو عبد الله a بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام. قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، والورع والفضيلة التامة والإتقان. فالله يرحمه ويرضى عنه.
وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب. مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.(26/21)
(ق): وما أقل الحديث في الحنابلة، يعني المحدثين، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثا بالنسبة للشافعية.
فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث؛ فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحاما للعلم الآخر، أما الأحناف؛ فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي (يعني: العقل والقياس)؛ لقلة الحديث عندهم، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير، والمالكية كذلك، ثم الحنابلة وسط، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتبا في الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامسائل: ليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة، وسبق ذلك في أول الباب.
الثانية: إبعاده - صلى الله عليه وسلم - أمته عن هذا الحمى غاية البعد، تؤخذ من قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا).
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، وهذا مذكور في آية براءة.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، تؤخذ من قوله: (ولا تجعلوا قبري عيدا)؛ فقوله: (عيدا) هذا هو الوجه المخصوص.(26/22)
وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفضل الأعمال من جنسها؛ فزيارة فيها سلام عليه، وحقه - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره.
وأما من حيث التذكير بالآخرة؛ فلا فرق بين قبره وقبر غيره.
السادسة: حثه على النافلة في البيت، تؤخذ من قوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبورا)، سبق أن فيها معنيين:
المعنى الأول: أن لا يقبر في البيت، وهذا ظاهر الجملة.
الثاني: الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة، تؤخذ من قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا)؛ لأن المعنى: لا تجعلوها قبورا، أي: لا تتركوا الصلاة فيها على أحد الوجهين؛ فكأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.
الثامنة: تعليل ذلك بأن الصلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، أي: كونه نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل قبره عيدا، العلة في ذلك: أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره، ولهذا نسلم ونصلى عليه في أي مكان؛ فيبلغه السلام والصلاة.
ولهذا قال علي بن الحسين: (ما أنت ومن في الأندلس إلا سواء).
التاسعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة وسلام عليه، أي: فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته وتسليمه، ويؤخذ من قوله: (فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم).
- - - - -(26/23)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا ((باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان))، وكتاب التوحيد من أوله إلى هذا الموضع ذكر فيه الإمام a بن عبد الوهاب -رحمه الله - مسائل كثيرة: من التوحيد، كبيان وجوب معرفة التوحيد والعلم به والخوف من الشرك وبيان بعض أفراد التوحيد وبعض أفراد الشرك الأكبر والأصغر، ثم بين شيئا مما يتعلق بوسائل ذلك وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين، يعني: في الأميين وفي أهل الكتاب، وكذلك مما وقع في هذه الأمة، ثم ذكر الوسائل والطرق الموصلة إلى الشرك، يعني: وسائل الشرك التي توصل إليه وطرق الشرك الموصلة إليه.
وقد يحتج بعض المشركين والخرافيين بأن هذه الأمة حماها الله -جل وعلا- من أن تعود إلى عبادة الأوثان، وعصمت من الوقوع في الشرك الأكبر، بدليل قول النبي -عليه الصلاة والسلام- (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) فلما قال -عليه الصلاة والسلام-: (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة وأن الشرك الأكبر لا يكون، هكذا يدعي القبوريون.(27/1)
والجواب: أن هذا الاحتجاج في غير موضعه، وفهم ذلك الدليل وذلك الحديث ليس على ذلك النحو، وجواب ما قالوا من أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) هو أن نقول: أن الشيطان لا يعلم الغيب، وهو حريص على إغواء بني آدم كما قال تعالى: { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } (الإسراء: من الآية62) هو أيس، ولكن لم يأيسه الله -جل وعلا- فالشيطان أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام، ولما رأى ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب، فأيس لما رأى ذلك، ولكنه لم يأيسه الله -جل وعلا- من أن يعبد في جزيرة العرب، ثم إن في قوله: (أيس أن يعبده المصلون) إشارة إلى أن أهل الصلاة هم الذين لا تتأتى منهم عبادة الشيطان لأن المصلين لا شك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر؛ لأن المصلى هو الذي أقام الصلاة، ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، وأعظم المنكر الذي سينكره المصلى هو الشرك بالله -جل وعلا- فيكون الشيطان بذلك قد يأس أن يعبده من أقام الصلاة على حقيقتها، كما أراد الله -جل وعلا-.
فليس في هذا الحديث إذاً أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة، بل فيه أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام، ولكنه لم يُأيَّس، ولهذا فإن طائفة من العرب ارتدوا عن الاسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، ولا شك أن ذلك الارتداد كان من عبادة الشيطان؛ لأن عبادة الشيطان تكون - أيضاً- بطاعته كما قال -جل وعلا-: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (يّس: 60)، وعبادة الشيطان كما في تفسير الآية بطاعته في الأمر والنهي، وطاعته في الشرك، وطاعته في ترك الإيمان، وترك لوازمه.(27/2)
وقد كان إمام الدعوة -رحمه الله - مستحضراً لهذا الدليل الذي يحتج به المشركون من هذه الأمة، من أهل عصره وغيرهم، على نفي عبادة هذه الأمة للأوثان وعدم وقوع الشرك منهم فأراد (رحمه الله ) التنبيه على بطلان الاستدلال بذلك الدليل على ما ادعوه، بل هو لا يدل على قولهم، إذ قد عرفنا معناه وتفسيره فيما تقدم والأدلة جاءت مصرحة أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وهذا مما يصحح معنى ما أشرنا إليه من كون الشيطان قد يأس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؟.
وقول الإمام (رحمه الله ): ((باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان))، معناه: أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص قول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما وقعت في الأمم السالفة. فهذه الأمة ستقع فيها عبادة غير الله -- سبحانه وتعالى -- أيضاً.
وقوله: ((باب ما جاء)) يعني من النصوص في الكتاب وفي السنة.
وقوله: ((أن بعض هذه الأمة)) نص على وقوع ذلك من بعضهم، لا من كلهم، لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها وإنما كانت من بعض هذه الأمة، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة)).
والمقصود بـ ((بعض هذه الأمة)): ذلك بعض المرذول، فنفهم من هذا أن هناك من الأمة من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان عليه صحابته، في أمر التوحيد وأمر العبادة والسنن. لكن هل المقصود بقوله: ((هذه الأمة)): أمة الدعوة أو أمة الإجابة؟.
إذا قلنا: أمة الدعوة، فلا شك أن هناك من أمة الدعوة، وهم جميع، الجن والإنس من عبد الأوثان، واستمر على عبادتها بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرض ببعثته، ولم يقبل ذلك.(27/3)
وإذا قلنا: إن المراد بالأمة أمة الإجابة يعني: أن من أجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته تتقادم بهم العهود حتى يرتدوا على أدبارهم ويتركوا دينهم كما جاء في بابٍ سَلَف في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الغلو في الصالحين.
لكن الظاهر هنا أن قوله: ((بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)) يعني: به أمة الإجابة؛ في أنهم يتركون دينهم ويتوجهون إلى الأوثان يعبدونها.
(ق): وقوله: (تعبد)؛ بفتح التاء، وفي بعض النسخ: (يعبد)؛ بفتح الياء المثناة من تحت.
فعلى قراءة (يعبد) لا إشكال فيها؛ لأن (بعض) مذكر.
وعلى قراءة (تعبد)؛ فإنه داخل في قوله ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولا تأنيثاڑأن كان لحذف موهلا
ومثلوا لذلك بقولهم: قطعت بعض أصابعه؛ فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض.
فإذا صحت النسخة (تعبد)؛ فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.
(تم): و((الأوثان)): جمع وثن، والوثن هو كل شيء توجه إليه الناس بالعبادة، إما بأن يدعوه مع الله -جل وعلا- أو أن يستغيثوا به، أو أن يعتقدوا فيه أنه ينفع ويضر بدون إذن الله -جل وعلا- أو أنه يرجى رجاء العبادة، ويخاف منه كخوف الله -جل وعلا- أي خوف السر، ونحو ذلك من التوجهات والعبادات فمن اعتقد فيه شيءٌ من ذلك، فهو وثن من الأوثان، وقد يكون راضيا بتلك العبادة، وقد لا يكون راضيا.
والوثن ليس هو المُصَوَّر على شكل صورة، بل الصنم هو ما كان على شكل صورة، كما سبق أن ذكرنا، فالفرق بين الأوثان والأصنام أن الأصنام هي الآلهة التي صُوَّرت على شكل صور، كأن يجعل لنبي من الأنبياء صورة، ويعبدها، أو يجعل لرجل من الرجال كـ(بوذا) ونحوه صورة ويسجد لها، ويعبدها، فهذه تسمى أصناماً، أما الأوثان، فهي الأشياء المعبودة، أيّاً كانت فقد تكون جداراً، أو قبراً، أو رجلاً ميتاً، أو صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله ، فكل ما توجه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة، فهو وثن من الأوثان.(27/4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ }
(النساء: من الآية50)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): قوله: وقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } (النساء: من الآية50).
الجبت: اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله -جل وعلا- وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتقاد، فقد يكون الجبت سحرا، وهذا هو الذي فسر به كثير من السلف الجبت، وقد يكون الجبت الكاهن، وقد يكون الجبت الشيء المرذول الذي يضر صاحبه، ومعنى قوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } يعني: يؤمنون بالسحر ويؤمنون بالباطل وبعبادة غير الله -جل وعلا-.
ويؤمنون بـ { الطاغوت } والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين بأن جعل ما لله له؛ ولهذا يعرف ابن القيم -رحمه الله - الطاغوت بأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
ومعنى مجاوزة العبد به حده: أنه تعدى حَدَّ ذلك الشيء الذي توجه إليه وهو الحد الذي لم يأذن به الشرع مجاوزته له، فتوجهوا إليه بالعبادة أو اعتقاده فيه بعض خصائص الإلهية من أنه يغيثه كيف ما شاء، ومن أنه يملك غوثه، ويملك الشفاعة له، أو أن يغفر له، وأن يعطيه، ويملك أن يقربه إلى الله -جل وعلا- ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون، فإن كل ذلك مجاوزته بذلك المتخذ عن الحد الذي جعل له في الشرع.(27/5)
فهذا معنى مجاوزة الحد في المعبودين، والمقصود بقوله (أو متبوع) مثل العلماء والقادة في أمر الدين ومعنى مجاوزة الحدّ فيهم أنهم صاروا يتبعونهم في كل ما قالوا: وإن أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال أو جعلوا لهم السنة بدعة والبدعة سنة، وهم يعلمون أصل الدين، ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان، فإن هذا قد تُجُوِّزَ به حده، فإن حد المتبوع في الدين أن يكون آمرا بما أمر به الشرع ناهيا عما نهي عنه الشرع، فإذا أحل الحرام أو حرم الحلال، فإنه يعتبر طاغوتا، ومن اتبعه، فإنه يكون قد تجاوز به حده، وقد أقر بأنه طاغوت، واتخذه كذلك.
وقوله (أو مطاع) يشمل الأمراء والملوك والحكام والرؤساء الذين يأمرون بالحرام فيطاعون، ويأمرون بتحريم الحلال، فيطاعون في ذلك مع علم المطيع بما أمر الله -جل وعلا- به فهؤلاء اتخذوهم طواغيت؛ لأنهم جاوزوا بهم حدهم، فهذا شرح لمعنى ما ذكره الإمام ابن القيم (رحمه الله ) من تعريف الطاغوت.
وقوله في الآية المتقدمة: { الطاغوت } ، يدخل فيه كل هذه الأنواع، أي الذين عُبِدوا والذين أُتبعوا والذين أُطيعوا.
(ف): قوله: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن a. فقالوا: ما أنتم وما a؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خيراً وأهدى سبيلاً فأنزل الله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.(27/6)
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجبت السحر، والطاغوت الشيطان وكذلك قول ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان - زاد ابن عباس: بالحبشية وعن ابن عباس أيضاً: الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت: حيى بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد: الجبت كعب بن الأشرف قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.
(تم): ووجه مناسبة هذه الآية للباب: أن الإيمان بالجبت والطاغوت حصل ووقع من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود والنصارى، وإذا كان قد وقع منهم فسيقع في هذه الأمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة، كما قال في حديث أبي سعيد الآتي: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فمثل بشيء صغير، وهو دخول جحر الضب، الذي لا يمكن أن يفعل، تنبيها على أن ما هو أعلى من ذلك، سيقع من هذه الأمة كما وقع من الأمم قلبنا، وقد حصل كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن من هذه الأمة، من آمن بالسحر، ومنهم من آمن بعبادة غير الله ، ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم، وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت، كما حصل من الأمم قبلهم.
(ق): من فوائد الآية الأولى ما يلي:
1.أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيباً من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.
2.أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية؛ لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دونه من المعاصي.
3.وجوب إنكار الجبت والطاغوت؛ لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم؛ فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.(27/7)
4.ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لتركبن سنن من كان من قبلكم)(1)، فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضاً من يؤمن بالجبت والطاغوت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ الله مَنْ لَعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } (المائدة: من الآية60)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية قوله تعالى: { قل هل أنبئكم } ، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ردا على هؤلاء اليهود الذين اتخذاوا دين الإسلام هزوا ولعبا.
وقوله: { أنبئكم } ، أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله: { بشر من ذلك } ، شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.
وقوله: { ذلك } المشار إليه ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذين على الحق وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليسوا على الحق؛ فقال الله تعالى: { قل هل أنبئكم } .
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لتتبعن سسن من كان قبلكم))، ومسلم: كتاب العلم / باب: اتباع سنن اليهود والنصارى حديث (2669).(27/8)
(ف): يقول تعالى لنبيه a - صلى الله عليه وسلم -: قل يا a هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: من لعنه الله أي أبعده من رحمته وغضب عليه أي غضباً لا يرضى بعده أبداً " وجعل منهم القردة والخنازير " وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليَشْكُري عن المعرور بن سُويد أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله ؟ فقال: إن الله لم يهلك قوماً - أو قال لم يمسخ قوماً - فجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " رواه مسلم.
قال البغوي في تفسيره قل يا a هل أنبئكم أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شراً، لقوله تعالى: ' 22: 72 ' { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار } .
وقوله: مثوبة ثواباً وجزاء، نصب على التفسير عند الله ، من لعنه الله أي هو من لعنه الله وغضب عليه يعني اليهود { وجعل منهم القردة والخنازير } فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى. وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير.
(ق): مثوبة: تمييز لشر؛ لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبنيا له منصوبا على التمييز.
قال بن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكرةڑينصب تمييزا بما قد فسره
إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلاڑمفضلا كـ(أنت) أعلى منزلا
والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء؛ أي: بشر من ذلك جزاء عند الله .
قوله: { عند الله } ، أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابا.(27/9)
قوله: { من لعنه الله } ، من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله ؛ لأن الاستفهام انتهى عند قوله: { مثوبة عند الله } ، وجواب الاستفهام: { من لعنه الله } .
ولعنه؛ أي: طرده وأبعده عن رحمته.
قوله: { وغضب عليه } ، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام.
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله - - عز وجل - -؛ فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله ؛ فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.
قوله: { وجعل منهم القردة والخنازير } ، القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبهاً بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.
والإشارة هنا إلى اليهود؛ فإنهم لعنوا كما قال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } (المائدة: من الآية78).
وجعلوا قردة بقوله تعالى: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } (البقرة: من الآية65)، وغضب الله عليهم بقوله: { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } (البقرة: من الآية90).
قوله: { وعبد الطاغوت } ، فيها قراءتان في { عبد } وفي { الطاغوت } :
الأول: بضم الباء { عبد } ، وعليها تكسر التاء في { الطاغوت } ؛ لأنه مجرور بالإضافة.
الثانية: بفتح الباء { عبد } على أنه فعل ماض معطوف على قوله؛ { لعنه الله } صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد { من } مع طول الفصل؛ لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت من لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة؛ فعلى هذه القراءة يكون { عبد } فعلاً ماضياَ والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو يعود على الضمير في قوله: { من لعنه الله } ، { الطاغوت } بفتح التاء مفعولاً به.(27/10)
وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه؛ لأن الفاعل في صلة الموصول هو { الله } ، والفاعل في عبد يعود على { من } .
وعلى كل حال؛ فالمراد بها عابد الطاغوت.
فالفرق بين القراءتين بالباء فقط؛ فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.
والطاغوت على قراءة الفعل في { عبد } تكون مفتوحة { عبد الطاغوت } ، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة { عبد الطاغوت } .
وذكر في تركيب { عبد } مع { الطاغوت } أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين { عَبَد } { عَبُد } .
(ف): وعبد الطاغوت أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود عبدوا الطاغوت وقرأ حمزة وعبد بضم الباء، والطاغوت بجر التاء أراد العبد. وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها، مثل سبع وسبع وقرأ الحسن وعبد الطاغوت على الواحد.
وفي تفسير الطبرسي: قرأ حمزة وحده وعبد الطاغوت بضم الباء وجر التاء، والباقون وعبد الطاغوت بنصب الباء وفتح التاء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب وعبد الطاغوت بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء، قال: وحجة حمزة في قراءته وعبد الطاغوت أنه يحمله على ما عمل فيه جعل كأنه: وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى جعل خلق. كقوله وجعل الظلمات والنور وليس عبد لفظ جمع لأنه ليس من أبنية الجموع شيئ على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الأفراد ومعناه الجمع، كما في قوله تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب.(27/11)
وأما من فتح فقال وعبد الطاغوت فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله لعنه الله وأفرد الضمير في عبد وإن كان المعنى فيه الكثرة، لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه، وفاعله ضمير من كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير من فأفرد لحمل ذلك جميعاً على اللفظ.
وأما قوله: عبد الطاغوت فهو جمع عبد.وقال أحمد بن يحيى: عبد جمع عابد، كبازل وبزل، وشارف وشرف، وكذلك عبد جمع عابد. ومثله عباد وعباد. أ.هـ.
وقال شيخ الإسلام في قوله { وعبد الطاغوت } : الصواب أنه معطوف على ما قبله من الأفعال، أي من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله ، مظهراً أو مضمراً. وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت. وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه من لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.
قوله: أولئك شر مكاناً مما تظنون بنا وأضل عن سواء السبيل وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى: ' 25: 24 ' { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } قاله العماد ابن كثير في تفسيره، وهو ظاهر.
(ق): ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:
1.تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره؛ فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قوماً غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين؛ فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟ لِلَّهِ الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟
والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.
2.اختلاف الناس بالمنزلة عند الله ؛ لقوله: { بشر من ذلك مثوبة عند الله } ، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.
3.سوء حال اليهود الذين حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.(27/12)
4.إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء؛ لقوله: { لعنه الله } ؛ فإن اللعن من صفات الأفعال.
5.إثبات الغضب لله؛ لقوله: { وغضب عليه } .
6.إثبات القدرة لله؛ لقوله: { وجعل منهم القردة والخنازير } .
وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
والجواب: لا؛ لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل)(1)، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا؛ فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.
7.أن العقوبات من جنس العمل؛ لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهاً بالإنسان، فعلوا فعلاً ظاهرة الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله ، فإذا جاء يوم السبت امتلاء البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكاً؛ فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تماماً، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } (البقرة: من الآية65)، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى: { فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } (العنكبوت: من الآية40).
8.أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت؛ لقوله: { وعبد الطاغوت } ، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه؛ لأنهم عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.
__________
(1) مسلم: كتاب القدر/باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، حديث (2663).(27/13)
9.وفي الآية نكتة نحوية في قوله: { عليه } و { منهم } في قوله تعالى: { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } ؛ فالضمير في { لعنه } الهاء، و { غضب عليه } مفرد، و { منهم } جمع، مع أن المرجع واحد، وهو { من } .
والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفي الجمع المعنى، وذلك أن { من } اسم موصول صالحة للمفرد وغيره، قال ابن مالك:
ومن وما وال تساوي ما ذكر
لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ.
وقال: { من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة } ، ولم يقل: وجعلهم قردة؛ لأن اللعن والغضب عام لهم جميعاً، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملاً لبني إسرائيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } (الكهف: من الآية21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثالثة قوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } ، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة؛ كما قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } (الكهف: 9)، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله - - عز وجل - -، فيسر الله لهم غاراً، فدخلوا فيه، وناموا نومه طويلة بلغت { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } (الكهف: من الآية25) وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يتسرب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لا بد أن نبني على قبورهم مسجداً.(27/14)
وقوله: { قال الذين غلبوا على أمرهم } ، المراد بهم: الحكام في ذلك الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: { لنتخذن عليهم مسجداً } ، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.
(ف): والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم(1).
(تم): وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف، جعلهم الله -جل وعلا- آية، كما قال تعالى: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } (الكهف: 25) وأطلع الناس على أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة، فاعتقدوا فيهم، ولما ماتوا تنازعوا في أمرهم، فمنهم من قال: { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } (الكهف: من الآية21) ومنهم من قال: اجعلوا لهم فناء ودارا، وعظموا مكانهم.
واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان. قال الله -جل وعلا-: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } (الكهف: من الآية21)
فمن الذين غلبوا على الأمر؟ اختلف المفسرون في ذلك فقال قائلون: هم المسلمون مسلمو ذلك الزمان حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف، فقالوا { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } ، وقالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } ، تعظيما لهم ودلالة للناس عليهم، فإذا كان هذا القول راجحا، فإنه من وسائل الشرك بالله ويؤدي إلى عبادة تلك القبور، والاعتقاد في أصحاب الكهف، وهذا القدر حصل في هذه الأمة.
والقول الثاني: أن الذين غلبوا على أمرهم هم المشركون، يعني: أتباع ذلك الدين لاعتقادهم الجاهلي، ولما في قلوبهم من الشرك والبدع التي خالفوا بها أنبياءهم، قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }
__________
(1) تقدم تخريجه .(27/15)
والقول الثالث: وهو الذي رجحه ابن كثير -رحمه الله - ورجحه عدد أيضا من أهل العلم أن { الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } هم الكبراء والأمراء وأصحاب النفوذ فيهم، لأن الذي له الغلبة في الأمر، هو من يملك الأمر والنهي في الناس، وهم الكبراء وأصحاب النفوذ وملوك ذلك الزمان وأمراؤه عظموا هؤلاء الصالحين، وقالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وقد حصل هذا في تلك الأمة، وما دام أنه حصل، فإنه سيحصل في هذه الأمة؛ لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة حتى ادعى بعض هذه الأمة أنه الله -جل وعلا- وأن الله يحل فيه ونحو ذلك، بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معينين، كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك.
(ق): ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:
1.ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.
2.أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور؛ لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد؛ لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام غلوا فيهم.
3.أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي حين بعثه: (ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/باب الأمر بتسوية القبر، حديث (969).(27/16)
عن أبي سعيد - رضي الله عنه -؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب؛ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله لِلَّهِ اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)). أخرجاه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): قوله في الحديث: (لتتبعن)، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله: (سنن من كان قبلكم)، فيها روايتان: (سنن) و(سنن).
أما (سنن)؛ بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.
وأما (سنن)؛ بالفتح: فهي مفردة بمعنى الطريق.
وفعل تأتي مفردة مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.
وقوله: (من كان قبلكم)، أي: من الأمم.
وقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) ليس على ظاهره؛ بل هو عام مخصوص؛ لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أولى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة /باب ما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، حديث (7320)، ومسلم: كتاب العلم/باب إتباع سنن اليهود والنصارى، حديث (2669)، وألفاظ الصحيحين ليس فيها: ((القذة بالقذة)) ولكن ((شبراً بشبر وذراعاً بذراع)) وأما لفظ (حذو القذة بالقذة) فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند.(27/17)
السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئاً من هذه السنن:
فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين؛ فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجدت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } (نوح: 23).
ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.
ومنها: دعاء غير الله ، وقد جاء في هذه الأمة.
ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.
ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب؛ فقد قالت اليهود: { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } (المائدة: من الآية64)، وقالوا: { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (آل عمران: من الآية181)، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه؛ فقد وجد من قال: ليس له يد، ومن قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بأنه ليس داخلاً في العالم، وليس خارجاً عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه؛ فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.
ومنها: أكل السحت؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: أكل الربا؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: التحيل على محارم الله ؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.(27/18)
ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظاً ومعنى؛ كاليهود حين قيل لهم: { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ } (البقرة: من الآية58)، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك؛ فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه: 5)، وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.
قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود في { حطة } فقالوا: (حنطة).
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان
أمر اليهود بأن يقولوا حطة …فأبوا وقالوا حنطة لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى… …فأبى وزاد الحرف للنقصان
ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول شيخه.
فإذا تأملت كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدته مطابقاً للواقع: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، ولكن يبقى النظر: هل هذا للتحذير أو للإقرار؟.
الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار؛ فلا يقول أحد: سأحسد وسأكل الربا، وسأعتدي على الخلق؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، فمن قال ذلك؛ فإننا نقول له: أخطأت؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟
ثم نقول لهم أيضاً: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن.
فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه(1)، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.
__________
(1) الترمذي: كتاب الفتن / باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث (2210) قال الألباني: (ضعيف) السلسلة الضعيفة، (7172).(27/19)
ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هده الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون.
فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى.
والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلا في الأمم السابقة.
ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثا في هذه الأمة.
(ف): قوله: سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قال المهلب: الفتح أولى.
قوله: حذو القذة بالقذة بنصب حذو على المصدر. والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم. أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى. وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة. وقد وقع كما أخبر، وهو علم من أعلام النبوة.
قوله: حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك أراد - صلى الله عليه وسلم - أن أمته لا تدع شيئاً مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله لا تترك منه شيئاً ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.أ.هـ.
قلت: فما أكثر الفريقين، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريباً.
(ق): هذه الجملة تأكيد منه - صلى الله عليه وسلم - للمتابعة.
وجحر الضب من أصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولي أن ندخله؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك على سبيل المبالغة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين)(1)، ومن اقتطع ذراعا؛ فمن باب أولى.
__________
(1) البخاري: كتاب المظالم والغصب / باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، حديث (2452) ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها حديث (1610).(27/20)
قوله: (قالوا اليهود والنصارى) يجوز فيها وجهان:
الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟
الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟
وعلى كل تقدير؛ فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.
واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله ؛ أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.
والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة، وقيل من النصرة؛ كما قال الله تعالى: { مَنْ أَنْصَارِي إلى الله } (الصف: من الآية14).
قوله: (قال فمن)، من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير؛ أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم اليهود والنصارى.
(تم): وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، بل عماد هذا الباب على هذا الحديث من أن كل كفر وشرك وقع في الأمم السالفة، فسيقع في هذه الأمة، فإن الأمم السالفة عبدت الأوثان، وكفرت بالله -جل وعلا- وسيقع في هذه الأمة، من يعبد الأوثان، ومن يكفر بالله -جل وعلا- في الربوبية وفي الإلهية، وفي الأسماء والصفات، وفي أفعال الله -جل وعلا-وفي الحكم والتحاكم، وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا، حتى في أمور السلوك والبدع، بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي قد تتصل بالدين، فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها مخالفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - -
(ق): من فوائد الحديث:
1.ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؛ لأنه من سنن من قبلنا، وقد اخبر - صلى الله عليه وسلم - أننا سنتبعهم.(27/21)
2. ويستفاد أيضا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله .
3.أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنة.
4. استعظام هذا الأمر عند الصحابة؛ لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام؛ أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
5.أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة؛ فإنه يكون أبعد من الحق؛ لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، وأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد: 16).
فإذا كان طول الأمد سببا لقسوة القلب فيمن قبلنا؛ فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في (البخاري) من حديث أنس - رضي الله عنه -؛ أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم)(1).ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد؛ فحديث أنس - رضي الله عنه - حديث صحيح سندا ومتنا؛ فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في (البخاري)، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين؛ فلا تيأسوا، فتقولوا: إذا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا من سبق؛ لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر؛ فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء؛ أيهما خير؟
__________
(1) كتاب الفتن / باب لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حديث (7068).(27/22)
والجواب: جنس الرجال خير، قال الله تعالى: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } (البقرة: من الآية228)، لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال؛ فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.
فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم؛ فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم.
أما الصحابة؛ فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل؛ لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: (لتتبعن سنن …)إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟
الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين؛ فإن الدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله؛ لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها؛ كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
(تنبيه):
قوله: (حذو القذة بالقذة)(1) لم أجده في مظانه في (الصحيحين)؛ فليحرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) قلت: هذا اللفظ ليس في (الصحيحين)، كما ذكرت قريباً ولكن تفرد بإخراجهما أحمد في مسند من حديث شداد بن أوس، (4/125).(27/23)
ولمسلم (1)عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا a إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا)، ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن ثوبان هو مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحبه. ولازمه. ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف.
قوله: زوى لي الأرض قال التوربشتى: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب. وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره. قال الطيبي: أي جمعها، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها.
(ق): قوله: (فرأيت)، أي: بعيني؛ فهي رؤية عينية، ويحتمل أن يكون رؤية منامية.
__________
(1) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض حديث (2889).
(2) هذه الزيادة أخرجها أبو داود في الفتن والملاحم، حديث (4252) وابن ماجة في الفتن (3952).(27/24)
قوله: (مشارقها ومغاربها)، وهذا ليس على الله بعزيز؛ لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سيبلغ ملك أمته منها.
وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوي نظره حتى رأى البعيد؟
الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد.
وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها؛ فالله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يجمع له - صلى الله عليه وسلم - الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.
اعتراض وجوابه:
فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع؛ فليس بموافق للواقع؛ لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - المجرد؛ فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟
والجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير؛ إذ قوة الله - سبحانه - أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم(1)؛ فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.
وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل، وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتكاف / باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد حديث (2035)، ومسلم: كتاب السلام / باب أنه يستحب لمن رئي خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرماً أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، حديث (2175).(27/25)
وقوله: (فرأيت مشارقها ومغاربها)، أي: أماكن الشرق والغرب منها.
قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - سيبلغ ملكها ما زوي للرسول - صلى الله عليه وسلم - منها، وهذا هو الواقع؛ فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعا بالغا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ف): قال القرطبي: هذا الخبر وجد مخبره كما قال، وكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة - بالنون والجيم - الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال. وذلك لم يذكر - عليه السلام - أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه.
قوله: زوى لي منها يحتمل أن يكون مبيناً للفاعل، وأن يكون مبنياً للمفعول.
قوله: وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض قال القرطبي: يعني به كنز كسرى، وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة. ووجد ذلك في خلافة عمر. فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر والأبيض والأحمر منصوبان على البدل.
(ق): وقوله: (أعطيت) هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطيها في حياته، أم بعد موته؟(27/26)
الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته؛ فهو كالمعطى له؛ لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة)، هكذا في الأصل: (بعامة)، والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في بعض النسخ: (بسنة عامة).
السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم لِلَّهِ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)(1)، وقال الله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ } (الأعراف: من الآية130)، ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد؛ فتكون الباء للظرفية.
وعامة؛ أي: عموما تعمهم، هذه دعوة.
(ف): قال القرطبي: وكأنها زائدة لأن عامة: صفة السنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط: سنة. يجمع على سنين، كما قال تعالى: ' 7: 130 ' { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } أي الجدب المتوالي.
(ق): قوله: (وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)، أي: لا يسلط عليهم عدوا، والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: (من سوى أنفسهم).
ومعنى: (يستبيح): يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.
والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.
(ف): قوله: فيستبيح بيضتهم قال الجوهري: بيضة كل شيئ حوزته. وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم، وإن قلوا.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب يغشى الناس هذا عذاب أليم، حديث (4821)، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار / باب الدخان، حديث (2789).(27/27)
قوله: حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبى بعضهم بعضاً والظاهر أن حتى عاطفة، أو تكون لانتهاء الغاية، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضاً. وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم.
قوله: وإن ربي قال: يا a، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم: أي إذا حكمت حكماً مبرماً نافذاً فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا راد لما قضيت)(1).
(ق): اعلم أن قضاء الله نوعان:
1.قضاء شرعي قد يرد؛ فقد يريده الله ولا يقبلونه.
2.قضاء كوني لا يرد، ولابد أن ينفذ.
وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ } (غافر: من الآية20).
ومثال القضاء الشرعي: قال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (الإسراء: من الآية23)؛ لأنه لو كان كونيا؛ لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله .
ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: { وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } (الإسراء: 4)؛ لأن الله تعالى لا يقضي شرعا بالفساد، لكنه يقضي به كونا وإن كان يكرهه سبحانه؛ فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين؛ لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه الطبراني بسند صحيح كما قال الحافظ في فتح الباري (11/513)من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - .وأصل الحديث في صحيح البخاري بدون هذا الجزء ، كتاب القدر : ،حديث(6615)،باب لا مانع لما أعطى الله.(27/28)
والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني؛ فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق؛ فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوا واستكبارا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.
وفي قوله: (إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد) من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر؛ لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.
واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة؛ فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئا إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } (الإنسان: 30)؛ فيتبين أنه لا يشاء شيئا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافا لمن أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفا من الله ؛ لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } (النساء: من الآية5).
فنحن نقول: إن الله - جل وعلاـ لا يفعل شيئا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علما؟
الجواب: لا يلزم؛ لأننا أقصر من أن نحيط علما بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.
والمقصود من قوله: (إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد) بيان أن من الأشياء التي سألها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعطها؛ لأن الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله - - عز وجل - -.
والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل قضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة؛ فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.(27/29)
كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله - - عز وجل - - منعه حتى نسأل، لكن من الأشياء ما لا تقتضي الحكمة وجوده، وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل، أو يؤخر له ويدخر له عند الله - - عز وجل - -، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب؛ فإننا نجزم بأنه ادخر له.
وقوله: (وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة) هذه واحدة.
والثانية: قوله: (أن لا أسلط عليهم من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).
وهذه الإجابة قيدت بقوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا) إذا وقع ذلك منهم؛ فقد يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم؛ فكأن إجابة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجملة الأولى بدون استثناء، وفي الجملة الثانية باستثناء (حتى يكون بعضهم …).
وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: (إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد)؛ فصارت إجابة الله لرسوله مقيدة.
ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدا؛ فكل من يدين بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة؛ فإنه لا يهلك الآخرون.
فإذا صار بعضهم يقتل ويسبي بعضهم بعضا؛ فإنه يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وهذا هو الوقع؛ فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونا في الحق ضد الباطل كانت أمه مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا؛ سلط الله عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطا لا نظير له؛ فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرا على نهر دجلة يطئونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونهم، وهي حية تشاهد ثم تموت.(27/30)
قال ابن الأثير في (الكامل): (لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم رجلا وأوخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا لِلَّهِ إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي …)، وذكر كلاما طويلا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدا من ذلك؛ فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.
وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.
(ف): قوله: رواه البرقاني في صحيحه هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن a بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: كان ثبتاً ورعاً، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه كثير التصانيف. صنف مسنداً ضمنه ما أشتمل عليه الصحيحان. وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة.(27/31)
وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله - أو قال إن ربي - زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها. وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض. وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وأن ربي قال لي: يا a إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبى بعضاً. وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق - قال ابن عيسى: ظاهرين ثم اتفقا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى ".
وروى أبو داود أيضاً عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاماً قلت: أمما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى "(1).
__________
(1) صحيح: أبو داود: كتاب الفتن والملاحم(4254):باب ذكر الفتن ودلائلها.وأحمد (1/390، 393).وصححه الألباني في الصحيحة (974) وصحيح الجامع (2931).(27/32)
وروى في سننه أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يتقارب الزمان وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله أيه هو؟ قال: القتل القتل "(1).
(ق): قوله: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين.
والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إماما في الخير أو الشر، قال تعالى في أئمة الخير: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة: 24).
وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } (القصص: 41).
والذي في الحديث الباب: (الأئمة المضلين)، أئمة الشر، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون؛ كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.
والمراد بقوله: (الأئمة المضلين):
__________
(1) صحيح:أبو داود: كتاب الفتن والملاحم(4255)، باب ذكر الفتن ودلائلها وهذا تقصير فالحديث أخرجه البخاري، كتاب الفتن: حديث (7061) باب ظهور الفتن ،مسلم ، كتاب العلم : ،حديث(11)(57)، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.(27/33)
(ف): أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم، كما قال تعالى: ' 33: 67 ' " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو هذا. وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها، وقد قال تعالى: ' 22: 12، 13 ' " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " وقال تعالى: ' 25: 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً " وقال تعالى: ' 29: 17 ' " فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال.
ومن هذا الضرب: من يدعى أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف، ويدعى أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله . فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بـ(إنما) التي قد تأتي للحصر بياناً لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، وما وقع في خلد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم... " الحديث.(27/34)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون "(1) رواه أبو داود الطيالسي. وعن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"(2) رواه الدارمي.
__________
(1) صحيح: الطيالسي(975). وأحمد(6/441)والطبراني وفيه راويان لم يسميا كما قال الهيثمي في المجمع(5/239).والحديث صحيح لشواهده .وراجع مجمع الزوائد (5/239، 240). وصححه الألباني في الصحيحة (1582)وصحيح الجامع(1547). وعزو الحديث لأبي داود كما فعل المؤلف وهم.
(2) صحيح: الدارمي : (1/70)،(2/311).واسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في الصحيحة (4/110) والحديث أخرجه أيضاً:أحمد (5/278، 284).وأبو داود كتاب الفتن (4252): باب ذكر الفتن ودلائلها.وابن ماجة: كتاب الفتن (3952) ،باب ما يكون من الفتن.(27/35)
وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين. فكل من أحدث حدثاً ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون وحدثه مردود، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً "(1) وقال: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد "(2) وقال: " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "(3) وهذه أحاديث صحيحة. ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها. وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز كما قال تعالى: ' 7: 3 ' { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } وقال تعالى: ' 45: 18 ' { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } ونظائرها في القرآن كثير.
__________
(1) البخاري، كتاب فضائل المدينة :حديث(1870) باب حرم المدينة ،كتاب الفرائض : حديث(6755)، باب اثم من تبرأ من مواليه، ومسلم، كتاب الحج : حديث(1370)(467)باب فضل المدينة. من حديث علي - رضي الله عنه - .
(2) البخاري، كتاب الصلح : ،حديث(2697) باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ،ومسلم ، كتاب الأقضية: حديث(1718)(17)،باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) صحيح: وهو جزء من حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود: كتاب السنة (4607): باب لزوم السنة، وأحمد في المسند (4/127)وغيرهما وهو حديث صحيح. راجع السنة لأبن أبي عاصم (27)وفي الباب عن ابن مسعود عند ابن ماجة(46).وعن جابر عند النسائي (3/188).(27/36)
وعن زياد بن حدير قال: (قال لي عمر - رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين)(1) رواه الدارمي.
وقال يزيد بن عمير: (كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لا يجلس مجلساً للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون - وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول: ما هذه: ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نوراً)(2) رواه أبو داود وغيره.
قوله: وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة وكذلك وقع. فإن السيف لما وقع بقتل عثمان - رضي الله عنه - لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى.
(ق): قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين)، الحي: بمعنى القبيلة.
وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين أو الأمران معا؟
الظاهر أن المراد جميع ذلك.
وأما الحي؛ فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء؛ فلابد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ - والعياذ بالله - ويفسد؛ فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.
__________
(1) صحيح :الدارمي (1/71)في المقدمة :باب في كراهية أخذ الرأي .قال الألباني في تخريج المشكاة(1/89)"وسنده صحيح"أ.هـ.
(2) صحيح: أبو داود: كتاب السنة (4611) باب لزوم السنة .واسناده صحيح.(27/37)
قوله: (وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)، الفئام؛أي: الجماعات، وهذا وقع؛ ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام؛ أي: ليسوا أحياء؛ فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة؛ فيجتمعون.
(ف): وفي رواية أبي داود: حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان.
وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان. وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد، فالتوحيد هو أعظم مطلوب والشرك هو أعظم الذنوب.
وفي معنى هذا الحديث: ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية " وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً.(27/38)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات، لما أسلمت ثقيف: فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، والتي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله ، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيئ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركاً عندها وبها. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين أ.هـ.ملخصاً.
قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فساداً كما هو الواقع.
وقوله: وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي: وقد جاء عددهم معيناً في حديث حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة " أخرجه أبو نعيم. وقال: هذا حديث غريب. انتهى.
وحديث ثوبان أصح من هذا.
(ق): وقوله: (كذابون ثلاثون) هل ظهروا أم لا؟
الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم؛ فهم ينتظرون.
قوله: (كلهم يزعم)، أي: يدعي.
(ف): قال القاضي عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف وأتبعه جماعة على ضلالة. فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا.(27/39)
وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر: طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر - رضي الله عنه -. ونقل أن سجاح تابت أيضاً. ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة الزبير. وأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيراً ممن باشر ذلك، وأعان عليه. فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريلاً - عليه السلام - يأتيه. ومنهم الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة.
وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً. فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء. وإنما المراد من قامت له شوكة وبدأ له شبهة كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.
(ق): قوله: (وأنا خاتم النبيين)، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: (لا نبي بعدي)، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؛ فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة a - صلى الله عليه وسلم -، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؛ فليس تشريعا جديدا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من a - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أخبر به مقررا له.(27/40)
(ف): قال الحسن. الخاتم الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين، كما قال تعالى: ' 33: 40 ' { ما كان a أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكماً بشريعة a - صلى الله عليه وسلم - مصلىاً إلى قبلته. فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً. فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية "(1).
(ق): قوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)، المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين.
هذا من نعمة الله ، فلما ذكر أن حيا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئاما يعبدون الأصنام، وأن أناسا يدعون النبوة؛ فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة).
والطائفة: الجماعة.
وقوله: (على الحق)، جار ومجرور خبر تزال.
قوله: (منصورة)، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضا منصورة.
__________
(1) البخاري، كتاب البيوع : ،حديث(2222) باب قتل الخنزير ،ومسلم ، كتاب الإيمان : ،حديث(155)(242) باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - .من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.(27/41)
قوله: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)، خذلهم؛ أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم؛ لأن الأمور بيد الله ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)(1)، وكذلك لا يضرهم من خالفهم؛ لأنهم منصورون بنصر الله ؛ فالله - - عز وجل - - إذا نصر أحد فلن يستطيع أحد أن يذله.
قوله: (حتى يأتي أمر الله )، أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره - سبحانه وتعالى - بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلا شرار الخلق؛ فعليهم تقوم الساعة.
(ف): كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية)(2) فقال عقبة بن عامر لعبد الله : اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك قال عبد الله : ويبعث الله ريحاً ريحها المسك، ومسها مس الحرير فلا تترك أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله . وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ.
(ق): الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: (حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان).
__________
(1) الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، حديث (2516).
(2) صحيح: الحاكم(4/456، 457)، وصححه ووافقه الذهبي.وهذا تقصير فالحديث عند مسلم ، كتاب الإمارة : ،حديث(1924)(176)،باب قوله- صلى الله عليه وسلم - "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم".(27/42)
وقوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) هذه لم يحدد مكانها؛ فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما. فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحد منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم حتى يأتي أمر الله .
(ف): قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟.
قال ابن المبارك وعلى بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم إنهم أهل الحديث وعن ابن المديني رواية هم العرب واستدل برواية من روى، هم أهل الغرب.وفسر الغرب بالدلو العظيمة، لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً بأول إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله . أ.هـ.ملخصاً مع زيادة فيه. قاله الحافظ.
(ق): مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث؛ فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لابد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما أشبه ذلك؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون بناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة؛ لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه … إلخ.
فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة؛ فهو من أهل الحديث بالمعنى العام.(27/43)
وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحا.
فشيخ الإسلام ابن تيميه مثلا لا يعتبر اصطلاحا، من المحدثين، ومع ذلك؛ فهو رافع لراية الحديث.
والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولاشك أن أقرب الناس تمسكا بالحديث هم الذين يعتنون به.
ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحا، فيخرج غيرهم.
فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به؛ فحينئذ يكون صحيحا.
(ف): ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة، وفي الحجاز وفي مصر، وفي العراق واليمن، وكلهم على الحق يناضلون، ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة، وحجة على كل مبتدع.
فعلى هذا، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة، وقول معاذ، لا يفيد حصرها بالشام وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.
وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: تبارك وتعالى قال ابن القيم: البركة نوعان:
أحدهما: بركة هي فعلة والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة، وبأداة في تارة، والمفعول منها مبارك. وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى.(27/44)
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له - عز وجل -، فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح - عليه السلام -: ' 19: 30 ' { وجعلني مباركا أين ما كنت } فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
وأما صفة تبارك فمختصة به، كما أطلقه على نفسه في قوله: ' 7: 54 ' { تبارك الله رب العالمين } ' 76: 1 ' { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به، لا تطلق على غيره؟ وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالي وتعاظم ونحوه، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمته وسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء بكل بركة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين.
السادسة: وهي المقصود بالترجمة - أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب خروج من يدّعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.(27/45)
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال، وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون من العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } ، وقد سبق ذلك.
الثانية: تفسير آية المائدة، وهي قوله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } ، وقد سبق تفسيرها، والشاهد منها هنا قوله: { وعبد الطاغوت } .
الثالثة: تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } ، وقد سبق بيان معناها.
الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب، أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
أما إيمان القلب واعتقاده؛ فهذا لاشك في دخوله في الآية.
وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها؛ فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة؛ فهذا كفر، وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة؛ فإنه لا يكفر، لكنه لاشك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.(27/46)
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة؛ لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين؛ فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.
السادسة - وهي المقصود بالترجمة -: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: تصريحه بوقوعها؛ أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار إليهما رحمه الله هي قوله: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، وحديث أبي سعيد هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله لِلَّهِ اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أخرجاه. وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير - رضي الله عنه -، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين؛ فتتبعهم، وقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.
ولاشك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدعي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفي القرآن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين؛ فكيف يكون صادقا، وكيف يصدق مع هذا التناقض؟ لِلَّهِ ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضي، بل لا تزال عليه طائفة، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.(27/47)
يؤخذ من آخر الحديث: (لا تزال من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة: من الآية249).
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.
منها: إخباره بأن الله -- سبحانه وتعالى -- زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليه. وإخباره أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضاً، وسبى بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.
فممّا في هذا الحديث: إخباره بأن الله -- سبحانه وتعالى -- زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك؛ فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليه.(27/48)
ومنها: إخباره أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطي الكنزين، وهما كنز كسرى وقيصر.
ومنها: إخباره بإجابة دعوته لامته في الاثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا… إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها؛ فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية؛ دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلا، وانصرف إلينا؛ فقال: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة؛ فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق؛ فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعنيها)(1)؛ أي منعني إياها، ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع؛ فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك؛ فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا.
ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضا وسبي بعضهم بعضا، هذا أيضاً واقع.
ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته.
ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر: (هذا الحصر بالثلاثين لا يعنى انحصار المتنبئين بذلك؛ لأنهم أكثر من ذلك).
قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى؛ أي: أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا - والله أعلم - هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.
ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
__________
(1) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض حديث (2890).(27/49)
قال الشيخ رحمه الله : (مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول).
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد؛ فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنهم متبوعون؛ فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء لهم التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم؛ فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم؛ لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل إتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا a وعلى آله وصحبه أجمعين.
- - - - -(27/50)
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
باب ما جاء في السحر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(تم): هذا ((باب ما جاء في السحر)) ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد أن السحر نوع من الشرك، وقد قال -عليه والصلاة والسلام-: (من سحر فقد أشرك) فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله -جل وعلا- فمناسبته ظاهرة لأنه مضاد لأصل التوحيد.
والسحر في اللغة هو: عبارة عن ما خفي ولطف، سببه، ومعنى خفي: صار سبب ذلك الشيء خفيا، لا يقع بظهور، وإنما يقع على وجه الخفاء؛ ولهذا سمي آخر الليل سحرا لذلك. وكذلك قيل في أكلة آخر الليل: سحور وذلك؛ لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس.
فهذه اللفظة: سحر وما اشتقت منه تدل على خفاء في الشيء؛ ولهذا فإنه في اللغة يطلق السحر على أشياء كثيرة: منها ما يكون من جهة المقال، ومنها ما يكون من جهة الفعل، ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد، وسيأتي في هذا الباب وفي الباب الذي بعده ((باب بيان شيء من أنواع السحر)) ما يتصل بذلك، وأما السحر الذي هو كفر وشرك أكبر بالله -جل وعلا- فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة.
والسحر عرفه الفقهاء بقولهم: رقى وعزائم وعقد ينفث فيها فيكون سحرا يضُرُّ حقيقة، ويمرض حقيقة، ويقتل حقيقة، فحقيقة السحر إذاً أنه استخدام للشياطين في التأثير، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين، فإذا تقرب إليها خدمته شياطين الجن بأن أثرت في بدن المسحور، فلكل ساحر خادم من الشياطين يخدمه، ولكل ساحر مستعان به من الشياطين، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحرا على الحقيقة إلا إذا تقرب إلى الشياطين؛ ولهذا فإن السحر شرك بالله -جل وعلا-.(28/1)
(ف): قال أبو a المقدسي في الكافي: السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه. قال الله تعالى (102: 2) { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } وقال سبحانه { ومن شر النفاثات في العقد } يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
(تم): وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر، ولكنه في الباطن ليس بسحر، وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة بالشياطين وباستخدام الرقى والتعويذات والعقد والنفث فيها، وقد قال -جل وعلا-: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } (الفلق: 4) والنفاثات: هن السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها، خصت الإناث بالاستعاذة منهن؛ لأن الغالب في السحر أن الذي يستخدمه النساء، فجرى ذلك مجرى الغالب، والنفاثات: جمع نفاثة صيغة مبالغة للنفث؛ لأنها تكثر النفث في العقدة، برقى وتعازيم وتعويذات تستخدم فيها الجن؛ لتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بدن المسحور أو فيها شيء يتعلق بالمسحور، حتى يكون ذلك مؤثرا فيه، وقد سحر يهودي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مشط ومشاطة يعني: في أشياء من شعره -عليه الصلاة والسلام- حتى يخيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه -عليه الصلاة والسلام- فقد كان سحر ذلك اليهودي مؤثرا في بدنه -عليه الصلاة والسلام- لكنه لم يكن مؤثرا في علمه ولا في عقله ولا في روحه -عليه الصلاة والسلام-، وإنما في بدنه يخيل إليه أنه قد واقع نساءه، وهو لم يواقع، ونحو ذلك.(28/2)
(ف): وعن عائشة رضي الله عنها( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة وفي جف طلعة ذكر في بئر ذروان)(1). رواه البخاري.
(تم): وهذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله -جل وعلا- كما قال -سبحانه-: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } (البقرة: من الآية102)والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرؤوه في كتب السحر، وما يتصل بذلك من عمل السحر، قال -جل وعلا-: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر } (البقرة: من الآية102) فعلل كفر الشياطين بقوله: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } (البقرة: من الآية102)قال سبحانه: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } (البقرة: من الآية102)، وتعلم السحر وفهم كيف يكون، وكيف يعمل السحر، كل هذا لا يمكن أن يكون إلا بالكفر والشرك، لكن هناك مراتب:
أحداها: أن يتعلم ذلك نظريا ولا يعمله.
__________
(1) البخاري، كتاب الطب : ،حديث(5763)،مسلم ، كتاب السلام : ،حديث(2189)(43).(28/3)
والثانية: أن يتعلمه ويعمله ولو مرة، وهناك مرتبة الساحر الذي يتعلم، ويعمل به دائما فما حكم هذه المراتب؟ قال - جل وعلا - { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر } (البقرة: من الآية102) فدل على أن تعلمه بمجرده كفر؛ ولهذا نقول: الصحيح أن تعلم السحر، ولو بدون عمل -شرك وكفر بالله -جل وعلا- بنص الآية، لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله -جل وعلا-، وكيف يشرك. وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله -جل وعلا-.
وبعض العلماء يقول: السحر قسمان: كقول الشافعي وغيره منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين، فهذا كفر وشرك أكبر، ومنه ما يكون بالأدوية والتدخينات، فهذا فسق ومحرم، ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله.
وهذا التقسيم من الشافعي، ومن تبعه هو من جهة الواقع، يعني: نظروا في الذين يمارسون ذلك، فمنهم من يقول: إنه ساحر، وليس كذلك من حيث النظر الشرعي يعني: أنه ليس السحر الذي وصف في الشرع، فيقول هو ساحر، وهو يستخدم أدوية وتعويذات، وفي الحقيقة هو مشعوذ، ولا يصدق عليه اسم الساحر.
وهذا فيما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية، وأما الصرف والعطف يعني: جلب محبة امرأة لزوجها، أو صرف محبة المرأة لزوجها، أو العكس فهذا من القسم الأول؛ لأنه من نواقض الإسلام، فالسحر من نواقض الإسلام؛ لأنه شرك بالله، ومنه الصرف والعطف؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك؛ لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس، ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله -جل وعلا-.(28/4)
فتحصل أن السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين واستعانة بها، والشياطين لا تخدم إلا من تقرب إليها بالذبح، أو بالاستغاثة أو بالاستعاذة ونحو ذلك، يعني: أن يصرف إليها شيئا من أنواع العبادة، بل قد نظرت في بعض كتب السحر، فوجدت أن ساحرا -بحسب ما وصف ذلك الكاتب- لا يصل إلى حقيقة السحر وتخدمه الجن كما ينبغي حتى يهين القرآن، ويهين المصحف، وحتى يكفر بالله، ويسب الله -جل وعلا- ونبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قد ذكره بعض من اطلع على حقيقة الحال.
فالسحر إذاً شرك بالله تعالى، وكل ساحر مشرك، وقتل الساحر فيما سيأتي على الصحيح أنه قتل ردة، لا قتل تعزير فالشيخ -رحمه الله - عقد هذا الباب: ((باب ما جاء في السحر)) لبيان تلك المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } (البقرة: من الآية102)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(تم): وجه الاستدلال بهذه الآية قوله: { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } يعني: ما له في الآخرة من نصيب. الخلاق: هو النصيب.
وقوله: { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني: اشترى السحر، والاشتراء أن يأخذ شيئا، ويدفع عوضه، فحقيقة الشراء أن تشتري سلعة مثلا وتدفع ثمنها فتأخذ مثمنا، وتدفع ثمنه، والساحر ومن تعلم السحر اشترى السحر، أي اخذ السحر وبذل توحيده عوضاً، فالثمن هو التوحيد، والإيمان بالله وحده، والمثمن هو السحر؛ ولهذا قال -جل وعلا- هنا: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني: من دفع دينه عوضا عن ذلك الشيء الذي أخذه، وهو السحر { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } يعني: من نصيب، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب، فوجه الاستدلال ظاهر في أن الساحر قد جعل دينه عوضا عن ذلك الذي اشتراه، وتعلمه، وعمل به.(28/5)
(ف): قال ابن عباس (من نصيب) قال قتادة: وعد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقال الحسن: ليس له دين.
فدلت الآية على تحريم السحر وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى (69: 20) " ولا يفلح الساحر حيث أتى" وقد نص أصحاب أحمد أنه يكفر بتعلمه وتعليمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ }
قال عمر: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان)(1).
وقال جابر: (الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ق): الآية الثانية قوله تعالى: { يؤمنون } ؛ أي: اليهود. { بالجبت } ؛ أي السحر كما فسرها عمر بن الخطاب.
واليهود كانوا من أكثر الناس تعلما للسحر وممارسة له، ويدعون أن سليمان - عليه السلام - علمهم إياه، وقد اعتدوا؛ فسحروا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: { الطاغوت } . أجمع ما قيل فيه: هو ما تجاوز به العبد حده؛ من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
ومعنى (من معبود)؛ أي: بعلمه ورضاه، هكذا قال ابن القيم رحمه الله ، وقد سبق في أول الكتاب تعليق على هذا القول عند قوله: { واجتنبوا الطاغوت } .
الشاهد: قوله: { بالجبت } ، حيث فسرها أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بأنها السحر.
وأما تفسير الطاغوت بالشيطان؛ فإنه من باب التفسير بالمثال.
__________
(1) علقه البخاري في الصحيح – كتاب التفسير، قال الحافظ في الفتح 8/252: (إسناده قوي).
(2) علقه البخاري في (الصحيح) ـ كتاب التفسير، وقال ابن حجر في (الفتح) (8/252): (وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه).(28/6)
والسلف رحمهم الله يفسرون الآية أحيانا بمثال يحتذى عليه، مثل قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله } (فاطر:32).
قال بعض المفسرين: الظالم لنفسه: الذي لا يصلى إلا بعد خروج الوقت، والمقتصد: الذي يصلى في آخر الوقت، والسابق بالخيرات: الذي يصلى في أول الوقت.
وهذا مثال من الأمثلة، وليس ما تدل عليه الآية على وجه الشمول، ولهذا فسرها بعضهم بأن الظالم لنفسه الذي لا يخرج الزكاة، والمقتصد من يخرج الزكاة ولا يتصدق، والسابق بالخيرات من يخرج الزكاة ويتصدق.
فتفسير عمر - رضي الله عنه - للطاغوت بالشيطان تفسير بالمثال؛ لأن الطاغوت أعم من الشيطان؛ فالأصنام تعتبر من الطواغيت؛ كما قال الله تعالى: { وعبد الطاغوت } (المائدة: 60)، والعلماء والأمراء الذين يضلون الناس يعتبرون طواغيت؛ لأنهم طغوا وزادوا ما ليس لهم به حق.
(ف): قوله: قال عمر - رضي الله عنه -: الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره.
قوله: (قال جابر) هو عبد الله بن حرام الأنصاري.
قوله: (الطواغيت كهان) أراد أن الكهان من الطواغيت: فهو من إفراد المعنى.
(ق): حيث إنه جعل من جملة الطواغيت الكهان.
والكاهن؛ قيل: هو الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وكان هؤلاء الكهان تنزل عليهم الشياطين بما استرقوا من السمع من السماء.
(ف): قوله: في كل حي واحد الحي واحد الأحياء، وهم القبائل، أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء بكثرة الشهب.
(ق): والطواغيت ليسوا محصورين في هؤلاء؛ فتفسير جابر - رضي الله عنه - تفسير بالمثال كتفسير عمر - رضي الله عنه -.(28/7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله : وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
كذا أورده المصنف غير معزو. وقد رواه البخاري ومسلم.
(ق): قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات).
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنصح الخلق للخلق؛ فكل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم يحذرهم منه، ولهذا قال: (اجتنبوا)، وهي أبلغ من قوله: اتركوا؛ لأن الاجتناب معناه أن تكون في جانب وهي في جانب آخر، وهذا يستلزم البعد عنها.
و(اجتنبوا)؛ أي: اتركوا، بل أشد من مجرد الترك؛ لأن الإنسان قد يترك الشيء وهو قريب منه، فإذا قيل: اجتنبه؛ يعني: اتركه مع البعد.
وقوله: (السبع الموبقات). هذا لا يقتضي الحصر؛ فإن هناك موبقات أخرى، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحصر أحيانا بعض الأنواع والأجناس، ولا يعني بذلك عدم وجود غيرها.
__________
(1) البخاري: كتاب الوصايا: باب قول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } (النساء: من الآية10)، حديث (2767)، ومسلم: كتاب الإيمان: باب الكبائر وأكبرها، حديث (79).(28/8)
ومن ذلك حديث: (السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)(1)؛ فهناك غيرهم، ومثله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، ثم قال: (المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)(2)، وأمثلة هذا كثيرة، وإن قلنا بدلالة حديث أبي هريرة في الباب على الحصر لكونه وقع بـ (أل) المعرفة؛ فإنه حصرها لأن هذه أعظم الكبائر.
(ف): وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعاً وموقوفاً قال: الكبائر تسع - وذكر السبع المذكورة - وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين ولابن أبي حاتم عن علي قال: الكبائر - فذكر السبع - إلا مال اليتيم، وزاد - العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة ونكث الصفقة.
قال الحافظ: ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع.
ويجاب: بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أو لا بالمذكورات. ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل.
وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع قال: هن أكثر من سبع وسبع وفي رواية هي إلى سبعين أقرب وفي رواية: إلى السبعمائة.
(ق): قوله: (قالوا: يا رسول الله ! وما هن؟).
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان / باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، حديث (660)، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة، حديث فضل إخفاء الصدقة حديث (1031) وقد شرحه شيخنا الدكتور سيد حسين العفاني شرحا ممتعاً في مجلدين أتحفنا بهما وقد سماه (ترطيب الأفواه بذكر من يظلهم الله ).
(2) مسلم: كتاب الإيمان / باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية، حديث (106).(28/9)
كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ألقى الشيء مبهما طلبوا تفسيره وتبيينه، فلما حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات قالوا ذلك لأجل أن يجتنبوهن، فأخبرهم، وعلى هذه القاعدة (أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم)، لكن ما كانت الحكمة في إخفائه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخبرهم؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة)(1) ولم يرد تبيينها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث صحيح.
وقد حاول بعض الناس أن يصحح حديث سرد الأسماء التسعة والتسعين(2)، ولم يصب، بل نقل شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة في الحديث على أن عدها وسردها لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، وصدق رحمه الله بدليل الاختلاف الكبير فيها.
فمن حاول تصحيح هذا الحديث؛ قال: إن الثواب عظيم، (من أحصاها دخل الجنة)؛ فلا يمكن للصحابة أن يفوتوه، فلا يسألوا عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لكن يجاب عن ذلك بأنه ليس بلازم، ولو عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكانت هذه الأسماء التسع والتسعين معلومة للعالم أشد من علم الشمس، ولنقلت في (الصحيحين) وغيرهما؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه، وتلح بحفظه والعناية به؛ فكيف لا يأتي إلا عن طريق واهية وعلى صور مختلفة؟!
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبينها لحكمة بالغة، وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى يعلم الحريص من غير الحريص.
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2) يشير الشيخ (رحمه الله ) إلى ما أخرجه الترمذي (3507)، وابن حبان (2384)، والحاكم (1/22).
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى) (6/382): (تعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحديثه)(28/10)
كما ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة الإجابة يوم الجمعة، والعلماء اختلفوا في حديث أبي موسى الذي في مسلم؛ حيث قال فيه: (إنها ما بين أن يخرج الإمام إلى أن تقضى الصلاة)(1)؛ فإن بعضهم صححه وبعضهم ضعفه، لكن هو عندي صحيح؛ لأن علة التضعيف فيه واهية، والحال تؤيد صحته؛ لأن الناس مجتمعون أكبر اجتماع في البلد على صلاة مفروضة؛ فيكون هذا الوقت في هذه الحال حريا بإجابة الدعاء، وكذلك ليلة القدر لم يبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنها من أهم ما يكون.
وقوله: (الموبقات)؛ أي: المهلكات، قال تعالى: (وجعلنا بينهم موبقا) (الكهف: 52)؛ أي: مكان هلاك.
قوله: (قالوا: يا رسول الله ! وما هن؟). سألوا عن تبيينها، وبه تتبين الفائدة من الإجمال، وهي أن يتطلع المخاطب لبيان هذا المجمل؛ لأنه إذا جاء مبينا من أول وهلة؛ لم يكن له التلقي والقبول كما إذا أجمل ثم بين.
قوله: (وما هن). (ما): اسم استفهام مبتدأ، و(هن): خبر المبتدأ.
وقيل: بالعكس، (ما): خبر مقدم وجوبا؛ لأن الاستفهام له الصدارة،
و(هن): مبتدأ مؤخر.
لأن (هن) ضمير معرفة، و(ما) نكرة، والقاعدة المتبعة أنه يخبر بالنكرة عن المعرفة والعكس.
قوله: (قال: الشرك بالله). قدمه لأنه أعظم الموبقات؛ فإن أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك.
والشرك بالله يتناول الشرك بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه أو صفاته.
فمن اعتقد أن مع الله خالقا أو معينا؛ فهو مشرك، أو أن أحدا سوى الله يستحق أن يعبد؛ فهو مشرك وإن لم يعبده، فإن عبده؛ فهو أعظم، أو أن لله مثيلا في أسمائه؛ فهو مشرك، أو أن الله استوى على العرش كاستواء الملك على عرش مملكته؛ فهو مشرك، أو أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزول الإنسان إلى أسفل بيته من أعلى؛ فهو مشرك.
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجمعة / باب في الساعة التي في يوم الجمعة، حديث (853).(28/11)
قال تعالى: { إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء: من الآية48)، وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة: من الآية72).
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن الشرك أعظم ما يكون من الجناية والجرم بقوله حين سئل: أي الذنب أعظم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)(1).
فالذي خلقك وأوجدك وأمدك وأعدك ورزقك كيف تجعل له نداً؟ فلو أن أحداً من الناس أحسن إليك بما دون ذلك، فجعلت له نظيراً؛ لكان هذا الأمر بالنسبة إليه كفراً وجحوداً.
قوله: (والسحر)؛ أي: من الموبقات، وظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين؛أو بواسطة الأدوية والعقاقير. لأنه إن كان بواسطة الشياطين فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم؛ فهو داخل في الشرك بالله. وإن كان دون ذلك؛ فهو أيضاً جرم عظيم؛ لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم؛ فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويقلقه فيصبح كالبهائم، بل أسوأ من ذلك؛ لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها، أما الآدمي؛ فإنه إذا صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله -- عز وجل --.
قوله: (وقتل النفس)؛ القتل: إزهاق الروح، والمراد بالنفس: البدن الذي فيه الروح، والمراد بالنفس هنا: نفس الآدمي وليس البعير والحمار وما أشبهها.
وقوله: (التي حرم الله ). مفعول (حرم) محذوف تقديره: حرم قتلها؛ فالعائد على الموصول محذوف.
__________
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } حديث (2477)، ومسلم في كتاب الإيمان/باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده حديث (86).(28/12)
وقوله: (إلا بالحق)؛ أي: بالعدل؛ لأن هذا حكم، والحق إذا ذكر بإزاء الأحكام؛ فالمراد به العدل، وإذا ذكر بإزاء الأخبار؛ فالمراد به الصدق، والعدل: هو ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى: (إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)(النحل: من الآية90).
والنفس المحرمة أربعة أنفس، هي: نفس المؤمن، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم: طالب الأمان. فالمؤمن لإيمانه، والذمي لذمته، والمعاهد لعهده، والمستأمن لتأمينه.
والفرق بين الثلاثة - الذمي، والمعاهد، والمستأمن -: أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة؛ أي: عهد على أن يقيم في بلادنا معصوماً مع بذل الجزية.
وأما المعاهد؛ فيقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.
وأما المستأمن؛ فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد؛ كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام، قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } (التوبة: من الآية6)، وهناك فرق آخر، وهو أن العهد يجوز من جميع الكفار، والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار، وهذا هو المشهور من المذهب، والصحيح: أنها تجوز من جميع الكفار.
فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام، لكنه ليست على حد سواء في التحريم؛ فنفس المؤمن أعظم، ثم الذمي، ثم المعاهد، ثم المستأمن.
وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى؟
أشك في ذلك؛ لأن المستأمن من له عهد خاص، بخلاف المعاهدين؛ فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم؛ فليس بيننا وبينهم عقود تأمينات خاصة، وأياً كان؛ فالحديث عام، وكل منهم معصوم الدم والمال.
وقوله: (إلا بالحق)؛ أي: مما يوجب القتل، مثل: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.(28/13)
(ف): واختلف العلماء فيمن قتل مؤمناً متعمداً، وهل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالاً بقوله تعالى: ' 4: 93 ' { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها } وقال ابن عباس "نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شيئ"(1) وفي رواية: "لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شيئ حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نزل وحي"، وروى في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً "(2).
وذهب جمهور الأمة سلفاً وخلفاً إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله ، فإن تاب وأناب عمل صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: ' 25: 68 - 71 ' { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } الآيات.
قوله: ومن يقتل مؤمناً متعمداً قال أبو هريرة وغيره هذا جزاؤه إن جازاه.
وقد روى عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة أن ابن عباس - رضي الله عنه -كان يقول: لمن قتل مؤمناً توبة وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما. وروى مرفوعاً " أن جزاءه جهنم إن جازاه".
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير : ،حديث(4590).باب(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ )[النساء : 93]، مسلم: كتاب التفسير : ،حديث (3023) (16).
(2) صحيح: أحمد (4/99) والنسائي (7/81): كتاب تحريم الدم. وصححه الألباني لشواهده في الصحيحة(511).(28/14)
(ق): قوله: (وأكل الربا). الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَت } (الحج: من الآية5)؛ يعني: زادت.
وفي الشرع: تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التقابض.
والربا: ربا فضل؛ أي: زيادة، وربا نسيئة؛ أي: تأخير، وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح)(1)؛ فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين، وهذه الأصناف الستة إن بعت منها جنساً بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فلو زدت واحداً على آخر؛ فهو ربا فضل، أو سويته لكن أخرت القبض؛ فهو ربا نسيئة، وربما يجتمع النوعان كما لو بعت ذهباً بذهب متفاضلاً والقبض متأخر؛ فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة، وعلى هذا، فإذا بعت جنساً بجنسه؛ فلا بد من أمرين: التساوي، والتقابض في مجلس العقد.
وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة؛ أي: اتفق المقصود في العوضين؛ فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل؛ فذهب بفضة متفاضلاً مع القبض جائز، وذهب بفضة متساوياً مع التأخير ربا لتأخر القبض.
قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)(2).
وقولنا: اتفقا في الغرض والمقصود احترازاً مما إذا اختلف الغرض منها.
فالذهب مثلاً ثمن للأشياء، والفضة ثمن للأشياء، والبر قوت.
وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.
فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً حديث (1587).
(2) هو نفس الحديث السابق.(28/15)
نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباَ ببر وجب التقابض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)(1)
وعلى هذا؛ فحديث: (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض.
واختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف الستة؛ فالظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة؛ لأنهم لا يرون القياس، فيقتصر على ما جاء به النص، فيجوز عندهم مبادلة أرز بذرة متفاضلاً مع تأخر القبض؛ لأنهما لا يدخلان في المنصوص عليه.
وأما أهل القياس من المذاهب الأربعة؛ فإنهم عدوا الحكم إلى غيرها؛ إلا أن بعضاً منهم لم يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله ؛ فإنه قال: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة، لا لأنه لا قياس، ولكن لأن العلماء اختلفوا واضطربوا في العلة التي من أجلها كان الربا، فلما اضطروا في العلة ألغينا جميع هذه العلل، وأبقينا النص على ما هو عليه من الحصر في المنصوص عليه.
والصحيح أن الربا يجري في غير الأصناف الستة، وأن العلة هي الكيل والادخار مع الطعم، وهو أن يكون قوتاً مدخراً، وهذا بالنسبة للبر والتمر والشعير.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب السلم / باب السلم في وزن معلوم حديث (2239)، ومسلم كتاب المساقاة / باب السلم، حديث (1604).(28/16)
وبالنسبة للذهب والفضة: العلة هي الجنس والثمنية، فقولنا: (الجنس) لأجل أن يشمل الحلي إذا بيع بعضه ببعض، فيجري فيه الربا، مع أنه ليس بثمن، والثمنية مثل الدراهم والدنانير والأوراق النقدية المعروفة؛ فإنها بمنزلة الذهب والفضة، أو يقال: العلة الثمنية فقط والحلي خارج عن الثمنية خروجاً طارئاً؛ لأن التحلي طارئ، والأصل في الذهب والفضة الثمنية؛ لأنهما ثمن الأشياء.
وأما الملح؛ فقال شيخ الإسلام إنه يصلح به القوت؛ أي: فهو تابع له؛ فالعلة ليس أنه قوت، لكنه من ضرورياته، ولهذا لو طحنت براً ولم يكن فيه ملح: لم يبق إلا أياماً يسيرة، فيفسد، فإذا كان فيه الملح منعه من الفساد؛ فيقول: لما كان يصلح به القوت جعل له حكمه.
وقوله: (وأكل الربا). ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، هكذا قال أهل العلم، ولهذا قال تعالى في بني إسرائيل: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } (النساء: من الآية161)، ولم يقل أكلهم، والأخذ أعم من الأكل؛ فأكل الربا معناه أخذه، سواء استعمله في الأكل أو الفرش أو البناء أو المسكن أو غير ذلك.
قوله: (وأكل مال اليتيم). اليتيم: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه، سواء كان ذكراً أم أنثى، أما من ماتت أمه قبل بلوغه؛ فليس يتيماً لا شرعاً ولا لغة.
لأن اليتيم مأخوذ من اليتم، وهو الانفراد؛ أي: انفرد عن الكاسب له؛ لأن أباه هو الذي يكسب له.
وخص اليتيم؛ لأنه لا أحد يدافع عنه؛ ولأنه أولى أن يرحم، ولهذا جعل الله له حقاً في الفيء، وإذا كان أحق أن يرحم؛ فكيف يسطو هذا الرجل الظالم على ماله فيأكله؟!.
ويقال في أكل مال اليتيم ما قيل في أكل الربا؛ فليس خاصاً بالأكل، بل حتى لو استعمله في السكن أو الفرش أو الكتب أو غيرها؛ فهو داخل في ذلك.(28/17)
وأكل مال غير اليتيم ليس من الكبائر؛ لأن اليتيم له شأن خاص، ولهذا توعد الله من تأكل أموال اليتامى، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } (النساء: 10).
قوله: (والتولي يوم الزحف). التولي: بمعنى الإدبار والإعراض، ويوم الزحف؛ أي: يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف؛ لأن، الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض، كالذي يمشي زحفاً كل واحد منهم يهاب الآخر، فيمشي رويداً رويداً.
والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب؛ لأنه يتضمن الإعراض عن الجهاد في سبيل الله ، وكسر قلوب المسلمين، وتقوية أعداء الله ، وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين.
لكن هذا الحديث خصصته الآية، وهي قوله تعالى: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله } (الأنفال: من الآية16).
فالله سبحانه استثنى حالتين:
الأولى: أن يكون متحرفاً لقتال؛ أي: متهيئاً له، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته؛ فهذا لا يعد متولياً، إنما يعد متهيئاً.(28/18)
الثانية: المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو، فانصرف من هؤلاء لينقذها؛ فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه بشرط ألا يكون على الجيش ضرر، فإن كان على الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو؛ فإنه لا يجوز؛ لأن الضرر هنا متحقق، وإنقاذ السرية غير متحقق؛ فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله ، وفي هذا إذلال لدين الله ، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ؛ لقوله تعالى: { الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ } (الأنفال: من الآية66)، أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من صواريخ ما يدفعها، فإذا علم أن الصمود يستلزم الهلاك والقضاء على المسلمين؛ فلا يجوز لهم أن يبقوا؛ لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم.
وفي هاتين الآيتين تخصيص السنة بالكتاب، وهو قليل، ومن تخصيص السنة بالكتاب أن من الشروط التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الحديبية أن من جاء من المشركين مسلما يرد إليهم(1)، وهذا الشرط عام يشمل الذكر والأنثى؛ فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ } (الممتحنة:10).
قوله: (وقذف المحصنات). القذف: بمعنى الرمي، والمراد به هنا الرمي بالزنا، والمحصنات هنا الحرائر، وهو الصحيح، وقيل: العفيفات عن الزنا.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب المغازي / باب غزوة الحديبية حديث (4181).(28/19)
والغافلات: وهن: العفيفات عن الزنا البعيدات عنه، اللاتي لا يخطر على بالهن هذا الأمر.
والمؤمنات احترازا من الكافرات، فمن قذف امرأة هذه صفاتها؛ فإن ذلك من الموبقات، ومع ذلك يقام عليه الحد - ثمانون جلدةـ، ولا تقبل شهادته ويكون فاسقا؛ فجعل الله عليه ثلاثة أمور، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور: 4) ثم قال: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } (النور: من الآية5).
وهذا الاستثناء لا يشمل أول الجمل بالاتفاق، ويشمل آخر الجمل بالاتفاق، واختلف العلماء في الجملة الثانية، وهي قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)؛ 0فقيل: إنه يعود إليها، وقيل: لا يعود.
وبناء على ذلك إذا تاب القاذف: هل تقبل شهادته أم لا؟
الجواب: اختلف في ذلك أهل العلم:
فمنهم من قال: لا تقبل شهادته أبدا ولو تاب، وأيدوا قولهم بأن الله أبد ذلك بقوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) (النور: 4)، وفائدة هذا التأبيد أن الحكم لا يرتفع عنهم مطلقا.
وقال آخرون: بل تقبل؛ لأن مبنى قبول الشهادة وردها على الفسق، فإذا زال وهو المانع من قبول الشهادة؛ زال ما يترتب عليه.
وينبغي في مثل هذا أن يقال: إنه يرجع إلى نظر الحاكم، فإذا رأى من المصلحة عدم قبول الشهادة لردع الناس عن التهاون بأعراض المسلمين؛ فليفعل.
وإلا؛ فالأصل أنه إذا زال الفسق وجب قبول الشهادة، وهل قذف المحصنين الغافلين المؤمنين كقذف المحصنات من كبائر الذنوب؟(28/20)
الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أن قذف الرجل كقذف المرأة، وإنما خص بذلك المرأة؛ لأن الغالب أن القذف يكون للنساء أكثر؛ إذ البغايا كثيرات قبل الإسلام، وقذف المرأة أشد؛ لأنه يستلزم الشك في نسب أولادها من زوجها، فيلحق بهن القذف ضررا أكثر؛ فتخصيصه من باب التخصيص بالغالب، والقيد الأغلبي لا مفهوم له؛ لأنه لبيان الواقع.
والشاهد من هذا الحديث قوله: (السحر).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ف): قوله: عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي. لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخالد العبد ضعيف. قال الحافظ: والصواب أنه غيره. وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد، كما قال ابن حبان: أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة ".
__________
(1) أخرجه الترمذي في (الحدود، باب ما جاء في الساحر)، والطبراني في (الكبير) (رقم 1665)، والدار قطني (3/114)، والحاكم(4/360). قال الترمذي: (لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم الملكي يضعف في الحديث والصحيح عن جندب موقوفا). وقال الحافظ في (الفتح) (10/236): (إسناده ضعيف)، وضعفه الألباني (السلسلة الضعيفة (3/641).(28/21)
(ق): قوله: (مرفوعا)؛ أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نقل المؤلف عن الترمذي قوله: والصحيح أنه موقوفا، أي: من قول جندب.
قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف) حده يعني: عقوبته المحددة شرعا.
وظاهره أنه لا يكفر؛ لأن الحدود تطهر المحدود من الإثم.
والكافر إذا قتل على ردته؛ فالقتل لا يطهره.
قوله: (ضربة بالسيف). روي بالتاء بعد الباء، وروي بالهاء، وكلاهما صحيح، لكن الأولى أبلغ؛ لأن التنكير وصيغة الوحدة يدلان على أنها ضربة قوية قاضية. هذا كناية عن القتل، وليس معناه أن يضرب بالسيف مع ظهره مصفحا.
(ف): وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. وروى ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب، وقيس ابن سعد، وعمر بن عبد العزيز، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد. والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير.
(تم): هنا لم يفرق بين ساحر وساحر، ولم يأت في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يحد، أو الذي وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير، فالأنواع التي يستخدمها السحرة مما يصدق عليها أنها سحر في التأثير وفي الإمراض وفي التفريق وفي التأثير على العقول وعلى القلوب ونحو ذلك، من أنواع التأثير الخفي الذي يكون باستخدام الشياطين، أو بأمور خفية -فهذا كله لا يفرق فيه بين فاعل وفاعل، والأدلة ما فرقت؛ فلهذا قال العلماء: الصحيح أن الساحر من أي نوع حده أن يقتل، وهل حده حد كفر وردة أو حد لأجل أنه قتل، فيكون حد لأجل القتل أو حد تعزير؟.
اختلف العلماء في ذلك، والصحيح من هذه أنه في الجميع حد ردة؛ لأن حقيقة السحر أنه لا بد أن يكون فيه إشراك بالله -جل وعلا- فمن أشرك بالله -جل وعلا- فقد ارتد وحل دمه وماله.(28/22)