التذكار في أفضل الأذكار
من القرآن الكريم
لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المفسر
المتوفى سنة 671 هـ
دار الكتب العلمية
الطبعة الأولى
1406 هـ - 1986 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العامل الزاهد الورع الأوحد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ثم القرطبي رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين بمنه وكرمه آمين.
الحمد لله الذي جعل القرآن لنا طريقاً إليه وسبيلاً, وأقامه لنا على معرفته برهاناً واضحاً ودليلاً, وبعث به إلينا محمداً نبيه صلى الله عليه وسلم معلماً ومبيناً ورسولاً, وجعله معجزة له ما بقي الدهر سرمداً طويلاً, وحفظه فلم يقدر مبطل ولا معاند أن يحدث فيه تغييراً ولا تبديلا, صلى الله عليه وعلى آله مدى الدهر بكرة وأصيلا.
وبعد: فلما كان القرآن الذي هو كلام ربنا, ومعجزة نبينا, ومنبع العلوم, ومعدن المعارف والفهوم, كان على العاقل العالم المؤمن المسلم الدين الموحد قراءته ودراسته, وتفهمه وتلاوته, وعلى قدر قراءته وتلاوته وتفهمه يكون عمله وإيمانه وإسلامه وتوحيده وفضله كله, وإذا كان ذلك كذلك كان قراءة القرآن أفضل الأعمال, وأسنى المقامات والأحوال وأشرف الأذكار والأقوال. وقد جاء من السنة في ذلك ما يدل على ذلك فرأيت أن أكتب في ذلك كتاباً وجيزاً يحتوي على فضل القرآن وقارئه(1/5)
ومستمعه والعامل به وحرمته, وحرمة القرآن وكيفية تلاوته والبكاء عنده وفضل من قرأه معرباً, وذم من قرأه رياء وعجباً, إلى غير ذلك مما يضمنه الكتاب, حسبما هو مبين في أبواب.
وكان المقصد الأول تخريج أربعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم , لما رواه يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا مالك بن أنس عن نافع مولى بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة)) قال أبو عمر هذا أحسن إسناد جاء به هذا الحديث ولكنه غير محفوظ ولا يعرف من حديث مالك. وقال أبو علي بن السكن:(1/6)
وليس يروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت.
قال الشيخ المؤلف رحمه الله قلت: ولكنه من أجلها بادر طلاب الخير الراغبون في اكتساب الأجر إلى تخريجها, فرأيت من سبق من أئمتنا العلماء والسادة الفضلاء رضوان الله عليهم قد خرجوا من ذلك كثيراً في العبادات وفضل الجهاد وقضاء الحاجات وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , إلى غير ذلك من الترغيب والترهيب, والأحاديث المسلسلات. فاستخرت الله سبحانه في ذلك وسألته التيسير علي في ذلك فيسر لي تخريج أربعين باباً في فضل كتابه العزيز وقارئه ومستمعه والعامل به وسميته:
((كتاب التذكار, في أفضل الأذكار))
وهو سبحانه المسؤول أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه بمنه وكرمه ولطفه, وأن ينفعني به ووالدي ومن قرأه وسمعه آمين وهذه تسمية أبوابه:
الباب الأول: في أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق.
الباب الثاني: في تنزيل القرآن وأسمائه وترتيب سوره وآيه.(1/7)
الباب الثالث: في أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
الباب الرابع: في فضل القرآن.
الباب الخامس: في علو القرآن على سائر الكتب المنزلة.
الباب السادس: فيما جاء من تفضيل القرآن بعضه على بعض, ويتصل به الكلام في تفضيل الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
الباب السابع: في أن القرآن أفضل الذكر إذا عمل به.
الباب الثامن: في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبدنا}.
الباب التاسع: في فضل من أعطى القرآن وعمل به.
الباب العاشر: في مثل من قرأ القرآن وعمل به.
الباب الحادي عشر: في الماهر بالقرآن.
الباب الثاني عشر: في أن القرآن حجة لك أو عليك.
الباب الثالث عشر: في الآداب التي ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ بها.
الباب الرابع عشر: في الأمر بتعلم كتاب الله واتباع ما فيه والتمسك به.
الباب الخامس عشر: في أن أفضل الخلق إيماناً من عمل في كتاب الله تعالى.
الباب السادس عشر: فيما جاء في تلاوة القرآن في الصلاة وأنها أفضل الأعمال.(1/8)
الباب السابع عشر: في المدة التي يستحب فيها ختم القرآن.
الباب الثامن عشر: في ختم القرآن العظيم وما يستحب فيه.
الباب التاسع عشر: في أن القلوب تصدأ وجلاؤها تلاوة القرآن.
الباب العشرون: في أن العلم والقرآن ميراث الأنبياء عليهم السلام.
الباب الحادي والعشرون: فيما يجوز من السؤال بالقرآن وما لا يجوز والحكم في ذلك.
الباب الثاني والعشرون: في الأمر بتعاهد القرآن بكثرة التلاوة.
الباب الثالث والعشرون: في تنزل السكينة لتلاوة القرآن والأمر بمداومة القراءة لذلك.
الباب الرابع والعشرون: فيما لتالي القرآن ومستمعه من الثواب العظيم والأمر الجسيم.
الباب الخامس والعشرون: في ثواب من قرأ القرآن فأعربه.
الباب السادس والعشرون: في فضل قراءة السر على الجهر.
الباب السابع والعشرون: فيما جاء فيمن تعلم القرآن أو علمه.
الباب الثامن والعشرون: في دفع البلاء بتعلم القرآن.
الباب التاسع والعشرون: في أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
الباب الموفى ثلاثين في إضاءة البيت الذي يقرأ فيه القرآن.
الباب الحادي والثلاثون: في ترتيل القرآن والترسل والإنكار على من هذ فيها.
الباب الثاني والثلاثون: في حسن الصوت بالقرآن وترك الترجيع والتطريب وما للعلماء في ذلك.(1/9)
الباب الثالث والثلاثون: في الآداب التي تلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته.
الباب الرابع والثلاثون: فيما جاء في حامل القرآن من هو وفيمن عاداه.
الباب الخامس والثلاثون: في البكاء والخشوع عند تلاوة القرآن وسماعه وفيما يحمل على ذلك.
الباب السادس والثلاثون: في الصعق والغشية عند سماع القرآن وتلاوته والحكم في ذلك.
الباب السابع والثلاثون: فيما جاء أن القرآن شافع مشفع.
الباب الثامن والثلاثون: في تحذير أهل القرآن من العجب والرياء.
الباب التاسع والثلاثون: في عظم ذنب من حفظ القرآن ونسيه.
الباب الموفى أربعين: في التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وذكر ما ورد من الأخبار في ذلك وذكر بعض منافعه على ما تراه مبيناً إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.(1/10)
الباب الأول في أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق
قال الله عز وجل: {قرآناً عربياً غير ذي عوجٍ} قال ابن عباس ومالك بن أنس: غير مخلوق. وهذا إجماع. وقد جاء من(1/11)
أخبار الآحاد في ذلك ما يدل على ذلك من ذلك(1/12)
حديث ابن مسعود رواه الأحوص عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق فمن قال غير ذلك فهو كافر بالله)) وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الدرداء قال: قلت يا رسول الله القرآن مخلوق, فقال عليه السلام: ((القرآن كلام الله غير مخلوق)) وروى ابن لهيعة عن قيس الثمالي عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه إذ قام مستوفزاً فقال: ((يا بلال ناد الصلاة جماعة)) فنادى بالصلاة فاجتمع المهاجرون والأنصار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أيها الناس إن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق, منه خرج وإليه يعود)) فقيل يا رسول الله تخوفت علينا؟ فقال: ((لا ولكن سيأتي بعدي أقوام يزعمون أن القرآن مخلوق وكذبوا يلقون الله كذابين فمن كذب على الله فقد كفر وهو في النار)) وروى(1/13)
كهمس بن الحسن أبو الحسن عن الحسن البصري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما فهو مخلوق غير الله والقرآن وذلك أنه كلامه منه بدأ وإليه يعود وسيجيء في آخر الزمان أقوام من أمتي يقولون القرآن مخلوق فمن قال ذلك فقد كفر بالله العظيم وطلقت منه امرأته من ساعته لأنه لا ينبغي لمؤمنة أن تكون تحت كافر إلا أن تكون المرأة سبقته بالقول)).
قال المؤلف رضي الله عنه ذكر هذه الأحاديث بإسناده الإمام الحافظ أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوايلي السجستاني في كتاب الإبانة له عن مذهب السلف الصالح في القرآن وإزالة شبه الزائغين بواضح البرهان وهي عزيزة الوجود قلما توجد في كتاب ومعرفتها تساوي(1/14)
رحلة وأهل السنة مطبقون على القول بها. قال عبد الله بن المبارك سمعت الناس منذ تسعة وأربعين سنة يقولون من قال إن القرآن مخلوق فامرأته طالق ثلاثاً بتة قلت ولم ذلك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، ومسلمة لا تكون تحت كافر. وروى أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبيد بن عبد الغفار وكان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم عتاقة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا ذكر القرآن فقولوا كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر)) قال أبو حفص هذا(1/15)
قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو قول جماعة الصحابة والتابعين من أهل العلم كابراً عن كابر، وقرناً بعد قرن وخلفاً عن سلف وما نعلم أحداً من الأئمة ممن تقدم أو تأخر لا صحابي ولا تابعي ولا فقيه ولا مقري ولا أحد ممن نسب إلى الإمامة بالعلم قال بغير هذه المقالة ولا خالف هذه المقالة إلا من عرف بسقوط العدالة والذم له واللعنة.
بيان ما أشكل من قوله عليه السلام منه خرج وإليه يعود. قال(1/16)
البيهقي: قوله منه خرج. فمعناه منه سمع وبتعليمه تعلم وبتفهيمه فهم وقوله وإليه يعود، فمعناه وإليه تعود تلاوتنا لكلامه وقيامنا بحقه كما قال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح} على معنى القبول له والإثابة عليه وقيل معناه هو الذي تكلم به. وهو الذي أمر بما فيه ونهى عما حظر فيه. وإليه يعود هو الذي يسألك عما أمرك به ونهاك عنه. وروى ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن أبي هلال وهو سعيد عن ثابت عن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل. له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب عز وجل مالك؟ فيقول يا رب منك خرجت وإليك أعود. أتلى ولا يعمل بي أتلى ولا يعمل بي ذكره الوايلي أبو نصر في كتاب الإبانة وقال هذا الحديث لم نكتبه إلا من هذا الوجه عن ابن لهيعة والله أعلم.
وقد ذكر بعض أهل العلم المتبعين أن(1/17)
الأحاديث الواردة في القرآن مما حكى فيه نطق منسوب إلى القرآن، أن المراد به ثواب القرآن. وممن قال ذلك أبو عبيد.
تنبيه: قوله عليه السلام: ((كل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما فهو مخلوق غير الله والقرآن)) مثل قوله تعالى: {لله ما في السماوات وما في الأرض} فما في الآية والحديث بمعنى الذي وهي متناولة لمن يعقل وما لا يعقل من غير تخصيص فيها بوجه. لأن كل من في السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما خلق الله تعالى وملك له، وإذا كان ذلك كذلك يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض، إذ لو كان في شيء لكان محصوراً أو محدوداً، ولو كان ذلك لكان محدثاً، وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق.
وعلى هذه القاعدة قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} وقوله(1/18)
عليه السلام للجارية ((أين الله؟)) قالت في السماء ولم ينكر عليها وما كان مثله ليس على ظاهره بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم. وقد بسطنا القول في هذا بكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى عند قوله تعالى:(1/19)
{الرحمن على العرش استوى}.
فصل لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله عز وجل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له غابر الدهر وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف معلومة على الاضطرار سوره وآياته مبرءات من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحد، ولا في حصره بعد، وأنه له نصف وربع. فنصفه من آخر سورة الكهف إلى آخر سورة قل أعوذ برب الناس، وربعه من أول سورة ص إلى آخر قل أعوذ برب الناس، وله مع ذلك خمس وسبع وتسع وعشر وفي الكتابة الموجودة في الصحف، وفي القراءة الموجودة بالألسنة ستة آلاف آية ومائتا آية وآية. وفيها من الحروف ثلاثمائة ألف حرف وأحد عشر ألفاً ومائتان وخمسون حرفاً وحرف. وكلام الله القديم الذي هو صفته لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا سبع ولا هو ألوف ولا مئون ولا آحاد وإنما هو صفة واحدة، لا ينقسم ولا يتجزأ، وهذا مما يدل على أن التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء، فإن القراءة عند أهل الحق أصوات القراء ونغماتهم، وهي اكتسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجاباً في بعض العبادات، وندباً في كثير من الأوقات ويزجرون عنها إذا أجنبوا أو يثابون عليها ويعاقبون على تركها. وهذا مما اجتمع عليه المسلمون ونطقت به الآثار، ودل عليه المستفيض من الأخبار ولا يتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من اكتساب العباد، ويستحيل ارتباط(1/20)
التكييف والترغيب والتضعيف بصفة أزلية خارجة عن الممكنات وقبيل المقدورات، والقراءة هي التي تستطاب من قارئ، وتستبشع من آخر، وهي الملحونة والقويمة والمستقيمة، وتنزه عن كل ما ذكرنا الصفة القديمة ولا يخطر لمن لازم الإنصاف أن الأصوات التي يبح بها حلقه وتنتفخ على مستقر العادة بها أوداجه، وتقع على الإيثار والاختيار محرفاً وقويماً وجهورياً رخيماً، ليس كلاماً لله تعالى إذ هي مخلوقة مبتدعة والمفهوم منها كلام الله القديم الأزلي الذي تدل عليه العبارات وليس منها، وهو غير حال في القارئ ولا موجود فيه. وسبيل القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو كسبيل الذكر والمذكور فالذكر يرجع إلى قول الذاكر، والرب المذكور المسبح الممجد غير الذكر والتسبيح والتمجيد.
قال المؤلف رضي الله عنه هذا ما ذكره في هذا الباب علماؤنا رحمة الله عليهم وقد زدناه بياناً في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى واختلف هل القرآن مشتق أم لا؟ فقال الفقيه الإمام الشافعي رضي الله عنه: سمى الله تعالى كلامه قرآناً بمثابة اسم علم لا يسوغ إجراؤه على موجب اشتقاق ويجوز أن يقال أيضاً سمى كلام الله قرآناً من حيث أنه يتلى ويقرأ بأصوات تنتظم وتتوالى وتتعاقب وينصرم المقتضى منها فسمى الكلام القديم قرآناً من حيث إنه مقروء ومتلو بما فيه من الاجتماع والتوالي والتعاقب وهو قراءة المقرئين وأصوات التالين. وقال ابن إسحاق صاحب المغازي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
الحمد لله ربي لا شريك له ... ذي الحول والقوة المسترزق الباقي(1/21)
القاهر المنزل القرآن ندرسه ... فيه أحاديث عن موسى وإسحاق
على نبي من الأخيار مؤتمن ... يأتي على كل تنزيل بمصداق
صدقت بالحق منه واستجبت له ... وما ركبت على العمياء أوراقي
وقال أيضاً رضي الله عنه:
فقدنا الوحي إذ وليت عنا ... وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهيناً ... توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلام
قال المؤلف الصحيح أن القرآن مشتق من قرأت الشيء إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، ومنه قولهم ما قرأت هذه الناقة سلاقط وما قرأت جنيناً أي لم تضم رحمها على ولد قاله الجوهري وقال أبو عبيدة سمى القرآن قرآناً لأنه يجمع الصور فيضمها. وقال الهروي: سمي به لأنه جمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد وكل شيء جمعته فقد قرأته وتحذف الهمزة فيقال قريت الماء في الحوض وقوله تعالى: {إنا علينا جمعه وقرآنه} أي قراءته. قال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
أي قراءة ومنه {وقرآن الفجر} أي قراءة الفجر وحكى عن الشافعي رحمه الله تعالى أن القرآن اسم علم لكتاب الله تعالى غير مشتق كما ذكرنا وكذلك التوراة والإنجيل والصحيح الإشتقاق في الجميع والله أعلم.(1/22)
الباب الثاني في تنزيل القرآن وأسمائه وترتيب سوره وآيه
سمى الله سبحانه عز وجل وعلا كتابه العزيز بأسماء عديدة: كتاباً. ومتشابهاً. ونبأ. ومثاني. وقرآناً. وفرقاناً. وحقاً. ونوراً. وسراجاً. ومبيناً. وبياناً. وبينة. وهدى. وبشرى. وموعظة. وذكرى. ومباركاً. وعلماً. وحكمة. ورحمة. ونعمة. وشفاء. وكلاماً. وكلماً. وقيلاً. وقولاً. وحديثاً. وأمراً. وفصلاً. وفضلاً. ومصدقاً. وصدقاً. وتصديقاً. ومهيمناً. وصراطاً وحبلاً. وشرفاً. وآيات. وروحاً. وعلياً. وبشيراً. ونذيراً. وحكيماً. وكريماً. وعظيماً. ومجيداً. وعزيزاً. وتنزيلاً. وصحفاً مطهرة. وتذكرة.
قال المؤلف رضي الله عنه: هذا الذي تحصل لي من أصل أسمائه من الكتاب. وفي حديث ابن مسعود: مأدبة, نافع, عصمة, نجاة, وسيأتي. وفي حديث أبي شريح الخزاعي: سبب, وسيأتي. وسمي أيضاً توراة, ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا قال الله تعالى: {حم تنزيلٌ من الرحمن الرحيم} وقال: {تنزيل العزيز الرحيم} وقال: {حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} يريد ليلة القدر كما قال: {إنا أنزلناه في ليلة(1/23)
القدر} وقال الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله إلى سماء الدنيا في ليلة القدر وقال: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} فبين سبحانه الزمن الذي أنزل فيه القرآن.
واختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وعلى النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال, فروى أنه انزل كما جاء في الأخبار أنه نزل لأربع وعشرين من شهر رمضان, أي ليلة خمس وعشرين, وقيل في تفسيره كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في كل ليلة قدر ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة إلى التي تليها, فينزل جبريل ذلك نجوماً بأمر الله تعالى فيما بين الليلتين من السنة إلى أن نزل القرآن كله من اللوح المحفوظ في عشرين ليلة, وعلى النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة, وقيل بل نزل فيه جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا, ووضعه في بيت العزة وأملاه جبريل على السفرة ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً, وكان بين أوله وآخره ثلاثة وعشرون سنة. قاله ابن عباس. وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر, وفي ليلة مباركة. ذكر المروزي(1/24)
في كتابه قيام الليل عن جرير بن حازم قال: إنه قرأ في كتاب من كتب أبي قلابة: أن التوراة أنزلت ليلة ست من رمضان وأن الزبور أنزل لاثنتي عشرة ليلة من رمضان بعد التوراة بألف وخمسمائة عام, وأن الإنجيل أنزل لثمان عشرة ليلة من رمضان بعد الزبور بألف عام, وأن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين بعد الإنجيل بثمانمائة عام, جملة واحدة(1/25)
من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا, فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين ليلة, ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذا باطل, ليس بين جبريل وبين الله واسطة ولا بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم واسطة. وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}.
قال المؤلف رضي الله عنه: فهذه ثلاثة أقوال أشهرها أوسطها, والأول غريب يستظرف ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين, والثالث ضعيف والله أعلم.
واختلف أيضاً في كم نزل القرآن من المدة؟ فقيل في خمس وعشرين سنة, وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين. وقال أنس: في عشرين, وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/26)
قال المؤلف رضي الله عنه: وهذه الأقوال الثلاثة ثابتة في صحيح مسلم. ورأيت لأبي جعفر النحاس في كتاب معاني القرآن له قولاً رابعاً: أنه عليه السلام توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة. ورأيت أيضاً للبيهقي في كتاب دلائل النبوة أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ونصف سنة. ولا خلاف أن مبدأ نزول القرآن، بمكة وأن منه مكياً ومدنياً، وأن ترتيب سوره وآيه توقيف. وذكر أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري في كتاب الرد له على من خالف مصحف عثمان رضي الله عنه: أن الله الذي لا إله إلا هو تبارك وتعالى وتقدس وتنزه عن كل عيب، أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جواباً لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عن رب العالمين. فمن أخر سورة مقدمة، أو قدم وأخر فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات. ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول: ((ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن)) وكان جبريل(1/27)
عليه السلام يوقفه على مكان الآيات حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هاشم حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: آخر ما نزل من القرآن {يفتيكم في الكلالة} قال أبو بكر بن عياش: وأخطأ أبو إسحاق لأن محمد بن السايب حدثنا عن أبي السايب عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون} فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ضعها في رأس ثمانية ومائتين من البقرة. وذكر ابن وهب في جامعه قال سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل لم تقدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه. وقال مكي رحمه الله: إن ترتيب الآيات والسور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة وقال القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن(1/28)
عبد الكريم: والصحيح أن البسملة لم تكتب في براءة لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة.
قال المؤلف رضي الله عنه: والمعنى في ذلك والله أعلم على ما ذكره بعض العلماء، أنه كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا في أوله بسملة، فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين نزلت بغير بسملة، وبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عاداتهم في نقض العهد من ترك البسملة والله أعلم.
وللعلماء من ترك البسملة في سورة براءة خمسة أقوال ذكرناها في كتاب جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان وذكرناها أيضاً في كتاب الانتهاز في قراء أهل الكوفة والبصرة والشام وأهل الحجاز نذكر منها هنا قولين، أحدهما ما ذكرناه، والآخر أن ذلك كان عن اجتهاد من عثمان كما ذكره النسائي في كتابه بإسناده عن يزيد الرقاشي. قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال. فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ((ضعوا هذه الآيات في السورة(1/29)
التي يذكر فيها كذا وكذا)) وكانت الأنفال من أوائل ما نزل، وبراءة من أواخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهاً بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا إنها منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم. قال علماؤنا: وفي قول عثمان وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا، أنها منها دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه، وأن براءة وحدها ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك، وكانت تدعى القرينتين، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران والله أعلم.
الباب الثالث في أن القرآن أنزل على سبعة أحرف
ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ذكرناه في كتاب جامع أحكام القرآن، وثبت في الأمهات الموطأ والصحيحين وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وفيه أن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه، واختلف العلماء في المراد بالسبعة الأحرف على أقوال عديدة جماعها خمسة وثلاثون(1/30)
قولاً ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ذكرنا منها في مقدمة جامع أحكام القرآن خمسة أقوال، وتلك أمهاتها وإليها يرجع جلها، نذكر منها ها هنا قولاً واحداً وهو أحسنها إن شاء الله تعالى، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: إن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة. قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف. فقال ميكائيل استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف. فقال اقرأ فكل شاف كاف. إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة على نحو هلم، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجل. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {للذين آمنوا أنظرونا} {للذين آمنوا أمهلونا} {للذين آمنوا أخرونا} {للذين آمنوا أرقبونا} وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ {كلم أضاء لهم مشوا فيه} مروا فيه، سعوا فيه، وفي البخاري ومسلم قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر(1/31)
الواحد لا تختلف في حلال ولا في حرام. قال الطحاوي: إنما كانت السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات ولو رام ذلك: لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، وسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرؤا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم تسعهم حينئذ أن يقرؤا بخلافها. قال أبو عمر بن عبد البر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد.
قال المؤلف رضي الله عنه: ونحو هذا ذكره القاضي أبو بكر ابن الطيب وأن ذلك كان مطلقاً، ثم نسخ فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء الله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف، وقد قيل إن المراد بالسبعة الأحرف قراءة القراء السبعة التي يقرأ بها وهو قول باطل(1/32)
بما ثبت من الإجماع على جواز القراءة بها، وقد بينا بطلانه بما نشأ من الاختلاف في القراءة بين الناس قبل جمع عثمان المصحف في مقدمة جامع أحكام القرآن.
الباب الرابع في فضل القرآن وأن عند قراءته تفتح أبواب السماء
قال العلماء: من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين غير مخلوق، كلام من ليس كمثله شيء، وصفة من ليس له شبيه ولا ند، ولولا أنه سبحانه جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله ليتدبروه وليعتبروه وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته وأداء حقوقه وفرائضه لضعفت ولا اندكت بثقله أو لتضعضعت له وأنى تطيقه وهو يقول تعالى جده وقوله الحق {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} فأين قوة القلوب من قوة الجبال؟ ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم فضلاً منه ورحمة. الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما وأن البر ليدر على رأس العبد(1/33)
ما دام في صلاته، وما تقرب العبد إلى الله بمثل ما خرج منه)) قال أبو النضر: يعني القرآن. قال حديث حسن غريب. وروي مرسلاً.(1/34)
وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي وأبو داود الطيالسي في مسنديهما وأبو بكر الأنباري في كتاب الرد له عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون فتن كقطع الليل المظلم)) قلت: يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: ((كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن اتبع الهدى من غيره أضله الله فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ولا تمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور. لفظ الدارمي وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول.(1/35)
وفي حديث الحارث مقال وأسند أبو بكر بن الأنباري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا(1/36)
من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لا يعوج فيقوم؟ ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد فأتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف، وألف ولام وميم ثلاثون حسنة. ولا ألفين أحدكم واضعاً إحدى رجليه على الأخرى يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله)) قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه عن عبد الله قال: إن القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن قال وتأويل الحديث أنه مثل شبه القرآن بصنيع صنعه الله عز وجل للناس لهم فيه خير ومنافع ثم دعاهم إليه. يقال مأدبة ومأدبة فمن قال مأدبة أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس ومن قال مأدبة فإنه يذهب(1/37)
به إلى الأدب بجعله مفعلة ويحتج بحديثه الآخر ((إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته)) وكان الأحمر يجعلهما لغتين بمعنى واحد ولم أسمع أحداً يقول هذا غيره. والتفسير الأول أعجب إلي، وروى سفيان عن ليث. قال: تفتح أبواب السماء لخمسة، نزول الغيث، وقراءة القرآن، ولقاء الزحف، والأذان، والدعاء.
الباب الخامس في علو القرآن على سائر الكتب المنزلة
قال الله تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} قال علماؤنا: أي عال عليه، وعلوه على سائر كتب الله تعالى وإن كان الكل كلام الله تعالى بأمور، أحدها بما زاد عليه من السور، فقد جاء في الحديث الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم خص بسورة الحمد، وخواتيم سورة البقرة على ما يأتي. وفي مسند الدارمي عن(1/38)
عبد الله قال: إن السبع الطوال مثل التوراة، والمئين مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد فضل، والأمر الثاني أن جعله الله قرآناً عربياً مبيناً، وكل نبي قد بين لقومه بلسانهم كما أخبر الله عز وجل ولكن للسان العرب مزية في البيان، والثالث أن جعل نطقه وأسلوبه معجزاً وإن كان الإعجاز في سائر كتب الله سبحانه من حيث الإخبار عن المغيبات والإعلام بالأحكام المبينات وسنن الله المشروعات وغير ذلك وليس فيها نظم وأسلوب خارج عن المعهود فكان أعلى منها بهذه المعاني وأمثالها: ولهذا المعنى الإشارة بقوله الحق: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيمٌ} وقد قال تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} أي بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أحق، أو في آجل إن كانت أثقل، أو بمثلها إن كانت مستوية فيكون علوه راجعاً إلى الزيادة في التصديق والبيان. وكونه معجزاً يصدق من جاء به ويصدق ما قبله من الكتب والرسل مع أنه ناسخ لها وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.(1/39)
الباب السادس فيما جاء من تفضيل القرآن بعضه على بعض
اختلف أهل الحق في تفضيل بعض السور على بعض والآي. وتفضيل أسماء الله تعالى بعضها على بعض. وقوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} يثبت جواز كل واحد من القولين. فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض لأن الكل كلام الله عز وجل, وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها. ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر ابن الطيب وأبو حاتم محمد بن حبان البستي وجماعة من الفقهاء. وروى معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ولذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها. وقال عن مالك في قول الله عز وجل: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} قال محكمة مكان منسوخة, وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول, والذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله, وكلام الله تعالى لا نقص فيه. قال البستي: ومعنى قوله عليه السلام: ((ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن)) إن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على(1/40)
قراءة كلامه وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله لأبي سعيد ابن المعلى: ((لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال الحمد لله رب العالمين)) الحديث, وسيأتي أنه أراد في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض, وقول قوم بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى: {وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته, ليس مثلاً موجوداً في {تبت يدا أبي لهب} وكذلك ليس مدلول {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} كمدلول {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين} ولا مدلول {ويجعلون لله البنات} وما كان مثلهما فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة كما قلناه في الباب قبل, وهذا هو الحق, وإن كان قد تقدم بأن لقارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات لكن إن حصل التساوي في دخول الجنان فالتفاوت متحقق في الدرجات لتفاوتهم في المعارف والفهومات.
وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين وهو اختيار الحليمي والقاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار وغيرهم(1/41)
لحديث أبي سعيد بن المعلى خرجه البخاري. قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه, فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ((ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم)) ثم قال: ((لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)) ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال: ((الحمد لله رب العالمين وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)) وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)) خرجه الترمذي وهو في الموطأ مرسل وقد رواه يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي الحديث, بمعناه, وخرجه الترمذي قال: حدثنا قتيبة ابن سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء وقال هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن أنس بن مالك وفي البخاري ومسلم عن أبي بن كعب أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبي أي آية معك في كتاب الله تعالى أعظم)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم, فقال: ((يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم)) قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قال: فضرب في صدري وقال: ((ليهنك العلم يا أبا المنذر)) قال ابن الحصار: عجبي ممن لا يذكر الاختلاف مع هذه النصوص. وقال ابن العربي: قوله(1/42)
ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وسكت عن سائر الكتب كالصحف المنزلة والزبور وغيرها لأن هذه المذكورة أفضلها وإذا كان الشيء أفضل الأفضل كان أفضل الكل كقولك زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس, وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى أن قيل جميع القرآن فيها, وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن, ومن شرفها أن الله قسمها بينه وبين عبده ولا تصح القربة إلا بها, ولا يلحق عمل بثوابها, وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم كما صارت قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ, وقل هو الله أحد فيها التوحيد كله وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام: ((أي آية في القرآن العظيم؟)) قال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صارت في قوله عليه السلام: ((أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) أفضل الذكر لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والتذكير ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى وقال الحليمي: وقد يقال سورة خير من سورة, وآية خير من آية بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل وهو الاحتراز مما يخشى, والاعتصام بالله تعالى مما يكره وذلك كقراءة آية الكرسي وسورة(1/43)
الإخلاص والمعوذتين وخاتمة سورة البقرة ونحو ذلك مما جاء فيه التحرز من المكاره.
وقد يقال أن الناسخة خير, أي العمل بها خير بالناس وأعود عليهم وعلى هذا يقال آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأن القصص إنما أريد به تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير, ولا غنى بالناس عن هذه الأمور, وقد يستغنون عن القصص. فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصل خيراً لهم مما يجعل تبعاً لما بد منه.
قال المؤلف رضي الله عنه: وإذا تقرر القول بالتفضيل على الصحيح من القولين، فكذلك القول في تفضيل الأنبياء عليهم السلام. قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} فكذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من أتخذ خليلاً وكلم تكليماً، ورفع بعضهم درجات كما أخبر وذلك بزيادة الأحوال والخصوص والكرامات، والألطاف المتواليات والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل إذ هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها، وهذا القول أحسن ما قيل في هذا والله أعلم وأنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ على ما قررناه في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة البقرة، والقول بتفضيل بعضهم على(1/44)
بعض إنما هو بما منح من الفضائل، وأعطي من الوسائل. وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله تعالى فضل محمداً على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا: يا ابن عباس بم فضله على أهل السماء قال: إن الله تعالى قال: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} فأرسله إلى الجن والإنس، ذكره الدارمي أبو محمد في مسنده، والقاضي عياض في كتاب الشفاء له.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل غيره بالرسالة واستووا في النبوة، إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم وإخراجهم من ديارهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه والشعبي ومجاهد في قوله تعالى: {ورفع بعضهم درجاتٍ}(1/45)
هو محمد صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : ((بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجداً طهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة)).
ومن ذلك القرآن العظيم الذي أعجز الأولين والآخرين، فلم يقدروا على أن يأتوا بمثله وبقي معجزة غابر الدهر بخلاف معجزات الأنبياء عليهم السلام فإنها انقرضت بانقراضهم.
ومنها انشقاق القمر، وتكليمه الشجر، وإطعامه الخلق العظيم من تميزات، ودرور شاة أم معبد بعد جفاف، ونبع الماء من بين أصابعه، إلى غير ذلك، من المعجزات التي لم يعطها نبي ولم يسمع بنبي نبع الماء من بين أصابعه إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم هو أعظم الناس أمة وختم به النبيون. وذكر البيهقي في حديث الإسراء عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من(1/46)
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} الحديث وفيه قال: ((ثم أتي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم، قال: فقال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً، وأعطاني ملكاً عظيماً، وجعلني أمة قانتاً يؤتم بي، وأنقذني من النار وجعلها علي برداً وسلاماً. قال: ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليماً، واصطفاني بكلماته ورسالته وقربني إليه نجياً، وأنزل علي التوراة وجعل هلاك آل فرعون على يدي، ونجي بني إسرائيل على يدي. قال: ثم إن داود عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي خولني ملكاً عظيماً، وأنزل علي الزبور وألان لي الحديد، وسخر لي الطير والجبال وآتاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن والإنس وسخر لي الشياطين يعملون ما نشاء محاريب وتماثيل إلى آخر الآية، وعلمني منطق الطير وكل شيء، وأسال إلي عين القطر، وأعطاني ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي علمني التوراة والإنجيل، وجعلني بريء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه، ورفعني وطهرني من الذين كفروا، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال: كلكم قد أثنى على ربه وإني مثن على ربي فقال: الحمد الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس وجعل أمتي وسطاً وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي(1/47)
ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً. فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: بهذا فضلكم محمد)) وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)) وذكر الحديث.
الباب السابع في أن القرآن أفضل الذكر إذا عمل به
قال سفيان الثوري رضي الله عنه: سمعنا أن قراءة القرآن أفضل الذكر إذا عمل به. قال الترمذي الحكيم محمد بن علي: وجاد ما غاص قائل هذا القول لأن الذكر هو شيء يبتدعه العبد من تلقاء نفسه من علمه بربه والقرآن هو شيء قد تكلم به الرب تبارك وتعالى فإذا تلاه العبد فإنما يتكلم بشيء قد كان عند الرب سبحانه وتعالى ولم يخلق منذ نزل إلى العباد ولا يخلق ولا يتدنس فهو على طراوته وطيبه وطهارته وله كسوة والذكر الذي يذكره العبد مبتدعاً من عند نفسه لا كسوة له. وأيضاً هو الذي يؤلفه العبد وليس تأليف الله تعالى كتأليف العبد.
قال المؤلف رضي الله عنه: وإنما كان القرآن أفضل الذكر والله أعلم لأنه مشتمل على جميع الذكر من تهليل وتذكير وتحميد وتسبيح وتمجيد وعلى الخوف والرجاء والدعاء والسؤال والأمر بالتفكر في آياته والاعتبار(1/48)
بمصنوعاته إلى غير ذلك مما شرح فيه من واجبات الأحكام، وفرق فيه بين الحلال والحرام، ونص فيه من غيب الأخبار، وكرر فيه من ضرب الأمثال والقصص والمواعظ للإفهام حسب ما قال وقوله الحق: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فمن وقف على ذلك وتدبره فقد حصل أفضل العبادات، وأسنى الأعمال والقربات ولم يبق عليه ما يطالب به بعد ذلك من شيء. وقد روى الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يقول الرب تبارك وتعالى من شغله قراءة القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين قال وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) قال: هذا حديث حسن غريب وهذا نص في الباب لا يحتمل التأويل، وهو يفسر قوله تعالى في الحديث الآخر: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من قرأ القرآن واشتغل به عن الدعاء أعطاه الله تعالى أفضل سؤال سأله أحد من خلقه. وروى: ((من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين))(1/49)
خرجه ابن شاهين أبو حفص عمر بن أحمد.
وذكر الوايلي من حديث بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما تكلم العباد بكلام أحب إلى الله تعالى من كلامه، وما تقرب إلى الله عز وجل أحب إليه من كلامه)) قال الوايلي: هذا حديث فيه إرسال، وعطية من التابعين تابعي، ولكن الرواة مشاهير، وبقية إذا روى عن المشهورين كان حجة. وعن فروة ابن نوفل قال: سمعت خباب بن الأرت وأقبلت معه من المسجد إلى منزله فقال لي: إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: رواه الترمذي مرفوعاً بمعناه من حديث أبي أمامة، وقد تقدم في الباب الرابع.
وروي عن أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: رأيت رب العزة في المنام، فقلت: يا رب ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك؟ فقال: كلامي يا أحمد، فقلت: يا رب بفهم أو بغير فهم، فقال: بفهم أو بغير فهم. نقل هذه الرؤيا عنه كبار العلماء. وقد روى الثقفي أبو عبد الله القاسم بن الفضل من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي(1/50)
الأعمال أفضل عند الله، قال: ((قراءة القرآن في الصلاة، ثم قراءة القرآن في غير الصلاة)) الحديث وسيأتي مسنداً إن شاء الله تعالى. وروى ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن والنهد بن منصور أن عبد الله بن شراحيل حدثهما أنه سمع عقبة بن عامر يقول: أيما راكب قرأ كان ردفه ملك، وأيما راكب تغنى كان ردفه شيطان. وروى الطبري في كتاب آداب النفوس قال: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الصمد قال ثنا شعبة قال ثنا سلمة عن هلال بن يساف عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الكلام أو خير العمل أربع إلا القرآن وهن من القرآن لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر)) وقال منصور عن هلال بن يساف عن الربيع بن عميلة عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال: ((لا يضرك بأيهن بدأت)) قال الطبري: وحدثني أبو عبد الرحيم البرقي قال: حدثني عمر –يعني ابن أبي سلمة- قال: سألت الأوزاعي عن قراءة القرآن أعجب إليك أم الذكر؟ فقال: سل أبا محمد –يعني سعيداً- فسألته فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعي: إنه ليس شيء يعدل القرآن، ولكن إنما كان هدى من سلف يذكرون الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: قول سعيد بن المسيب حسن جداً, وقد أقر الأوزاعي بذلك وإن كان ذكر أن هدي السلف الذكر قبل طلوع الشمس وقبل الغروب, فلعل يذكرون بمعنى يقرؤون بدليل ما ذكرنا, وقد سمى الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز ذكراً فقال:(1/51)
{وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه} وقال جل وعز: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} وذكر الطبري قال: حدثني العباس بن الوليد العذري قال: أخبرني أبي قال: ثنا الأوزاعي قال: حدثني حسن بن الحسن قال: حدثني عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أتينا أم الدرداء نتحدث إليها, قال: ثم قلت يا أم الدرداء لعلنا أمللناك؟ قالت: أمللتموني والله لقد التمست العبادة في كل شيء فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مجلس ذكر. قال ثم اختبت, ثم قالت لرجل: اقرأ: {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} فدل هذا الخبر على أن الذكر هو القرآن كما ذكرنا. وقد رواه الأوزاعي. قال الطبري: وحدثنا موسى بن عبد الرحمن الكندي قال: حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن هارون بن أبي وكيع عن أبيه عن ابن عباس أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: ذكر الله أكبر, ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا كانوا أضياف الله تعالى وأظلت عليهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه حتى يخوضوا في حديث غيره.
قال المؤلف رضي الله عنه: فهذا ابن عباس قد فسر الذكر بقراءة القرآن كما بينا, وقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه مرفوعاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن يسر على(1/52)
معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة, ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه, ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة, وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده, ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) قال الطبري: وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو تميمة أنه سمع كعباً يقول: ثلاث من عمل بواحدة منهن دخل الجنة رجل شهد بأساً من بأس المسلمين فصبر حتى قتل أو فتح الله على المسلمين, ورجل قعد في حلقة فقرأ عليهم القرآن فحمدوا ربهم عز وجل ثم دعوا ربهم عز وجل على أثر ذلك فيقول الله للملائكة على ما اجتمع هؤلاء وهو أعلم ولكن يريد أن يكونوا شهداء فيقولون أي رب أنت أعلم فيقول إني أعلم ولكن أنبئوني بعلمكم فيقولون يسألونك أن تدخلهم الجنة وتزحزحهم عن النار فيقول أشهدكم أني قد أوجبت لهم الجنة وزحزحتهم عن النار, ورجل قام من دفئه ومن فراشه, ولعله أن يكون قد قام من عند امرأته في ليلة قرة فإن كان جنباً اغتسل وإن لم يكن جنباً توضأ وأحسن وضوءه فقام فقرأ ودعا ربه عز وجل فيقول الله للملائكة ما أقام عبدي من دفئه وفراشه؟ فيقولون يا رب خوفته عذابك ورغبته في رحمتك وهو يستجير من عذابك ويرجو رحمتك, فيقول أشهدكم أني قد أجرته مما يخاف وأوجبت له ما يرجو.
قال المؤلف رضي الله عنه: ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي فهو(1/53)
مرفوع وقد ثبت معناه في غير ما حديث مرفوعاً والحمد لله. وقال سهل بن عبد الله التستري في قوله تعالى: {ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} قال بتلاوة القرآن.
قال المؤلف رضي الله عنه: ما أحسن ما قال فإن القرآن حوى جميع العلوم كما ذكرنا ويأتي, فمن قرأه قراءة تدبر وتفهم وعمل بمقتضاه فقد حصل الغاية القصوى التي ليس لأحد وراءها مرمى. وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} قال أهل التأويل: يتبعونه حق إتباعه بإتباع الأمر والنهي, فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه. قاله عكرمة وغيره, قال عكرمة أما سمعت قول الله تعالى: {والقمر إذا تلاها} أي تبعها, فهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: من يتبع القرآن يهبط به إلى رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها, وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم , كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ, من حديث حذيفة(1/54)
وغيره وسيأتي. وقال الحسن هم الذين يعملون بمحكمه, ويؤمنون بما تشابه منه, ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وخرج أبو داود عن معاذ الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم, فما ظنكم بالذي عمل هذا)) وخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة, وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار)).
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال على ما يأتي فإن العلماء مجمعون على القول به, فإن المطلوب العمل بما يقرأ ويتلى. وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من شر الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه)) فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا. وقال مالك رحمه الله تعالى: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. وقال عبد الله بن مسعود: ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف, ولكل إقامة حدوده,(1/55)
وروى شريك عن أبي إسحاق عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ثلاث غرباء, قرآن في قلب رجل فاجر, ومصحف في بيت لا يقرأ فيه, وصالح مع الظالمين)) وروى شقيق بن سلمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما بال أقوام يشرفون للمترفين, ويستخفون بالعابدين, ويعلمون بالقرآن ما وافق أهواءهم, وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض, يسعون فيما يدرك بغير السعي من القدر المقدور, والأجل المكتوب, والرزق المقسوم, ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الخير الموفور, والسعي المشكور, والتجارة التي لا تبور)) خرجه أبو نعيم الحافظ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أطاع الله فقد ذكر الله وأن أقل صلاته وصنيعه للخير, ومن عصى الله فقد نسي ذكر الله وأن أكثر صلاته وصومه وصنيعه للخير ذكره أبو عبد الله محمد بن خواز منداذ في أحكام القرآن له. وذكره أيضاً أبو بكر محمد بن عبد الله العامري الواعظ في شرح الشهاب له ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أطاع الله فقد ذكره وإن كان ساكتاً, ومن عصى الله فقد نسيه وإن كان قارئاً مسبحاً.(1/56)
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: وهذا والله أعلم لأنه كالمستهزئ والمتهاون، وممن اتخذ آيات الله هزواً. وقال العلماء في تأويل قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين قالوا ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولاً مع الإصرار فعلاً، وكذا كل ما كان في هذا المعنى والله أعلم.
الباب الثامن في قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
أورثنا أعطينا، والميراث عطاء حقيقة أو مجازاً فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر، والكتاب هنا يراد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده على ما ذكرنا في الباب قبل، واختلف أهل التأويل في الظالم نفسه والمقتصد والسابق على أقوال ثلاثة، الأول هو الناجي هو المقتصد السابق، وأن قوله تعالى: {جنات عدنٍ يدخلونها} للمقتصد والسابق هذا يروى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس (فمنهم ظالم لنفسه) قال: كافر. وروى الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} إلى آخر الآية قال: هذا مثل قوله عز وجل:(1/57)
{وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون} فنجت فرقتان. قال مجاهد: (فمنهم ظالم نفسه) أصحاب المشئمة (ومنهم سابق بالخيرات) أصحاب الميمنة، ومنهم السابقون من الناس كلهم. وقال عكرمة (فمنهم ظالم لنفسه) كما قال (فذوقوا فما للظالمين من نصير) وقال الحسن وقتادة (فمنهم ظالم لنفسه) قال المنافق. والقول الثاني ما قاله سهل بن عبد الله إن السابق العالم, والمقتصد المتعلم, والظالم الجاهل, وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط, والمقتصد الذاكر بقلبه, والسابق الذي لا ينساه. وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به, والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به, والسابق القاري للقرآن العامل به, والعامل به, وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن, والمقتصد الذي يدخل وقد أذن, والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة, لأنه ظالم لنفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصل غيره. وقال بعض أهل العلم في هذا: السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين, والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة فلم يفرط في الوقت, والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة. وقيل غير هذا من الأقوال.
قال المؤلف رضي الله عنه: وبالجملة فهما طرفان وواسطة, فالمقتصد اللازم للقصد وهو ترك الميل فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين, فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق للخيرات. قال الله تعالى: {جنات(1/58)
عدنٍ يدخلونها} فجمعهم في الدخول لأنه ميراث, والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانا معترفين النسب, فالعاصي والمطيع مقران بالرب, وعلى هذا الفرق الثلاث ناجية إن شاء الله تعالى وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنها, ومن التابعين إبراهيم النخعي وكعب الأحبار وغيرهما قال عثمان: هم أهل ديننا, يعني الظالم لنفسه. وقال عمر: سابقنا سابق, ومقتصدنا ناج, وظالمنا مغفور له. وقال أبو الدرداء: السابق يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً, والظالم لنفسه يؤخذ منه ثم ينجو. فذلك قوله تعالى: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} وقال كعب: هذه الأمة على ثلاث فرق كلها في الجنة ثم تلا: {ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه} إلى قوله: {جنات عدنٍ يدخلونها} فقال: دخلوها ورب الكعبة. وبعد(1/59)
هذا للكفار وهو قوله تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم} وخرج أبو داود الطيالسي في مسند, قال حدثنا الصلت بن دينار أبو شعيب قال: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية فقالت لي: يا بني كل هؤلاء في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق, وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك. قال فجعلت نفسها معنا. وقال أبو إسحاق السبيعي أما الذي سمعناه من ستين سنة فكلهم ناج. وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: {كلهم في الجنة} وقد روى مرفوعاً عن عمر وأبي الدرداء بمثل ما ذكرنا عنهما. والتقدير على القول(1/60)
أن يكون الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر, والمقتصد قال محمد بن زيد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. فيكون (جنات عدن يدخلونها) عائداً على الجميع على هذا الشرح والتبيين, ويكون مفعول الاصطفا مضافاً حذف كما حذف المضاف في قوله تعالى: {واسئل القرية} أي الذين اصطفينا دينهم فبقي اصطفيناهم فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} أي تزدريهم فالاصطفا إذاً موجه إلى دينهم كما قال: {إن الله اصطفى لكم الدين} قال أبو جعفر النحاس: وقول ثالث يكون الظالم صاحب الكبائر والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته, فيكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
قال المؤلف رضي الله عنه: القول الوسط أعلاها وأصحها إن شاء الله تعالى, لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا ولا اصطفى دينهم. وقال صلى الله عليه وسلم : ((مثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة طعمها مر وريحها طيب)) على ما يأتي. فأخبر أن المنافق يقرؤه, وأخبر الحق سبحانه وتعالى بأن المنافق في الدرك الأسفل من النار, وكثير من اليهود والنصارى يقرؤنه. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((وأما الظالم لنفسه فيحبس في الموقف ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)) وفي لفظ آخر: ((وأما الذين ظلموا أنفسهم, فأولئك يحبسون(1/61)
في طول المحشر, ثم هم الذين يتلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إلى قوله ولا يمسنا فيها لغوب)).
قال المؤلف رضي الله عنه: ومن دخل النار من القراء الموحدين فإنه يخرج منها بالشفاعة ويدخل الجنة على ما قررناه في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. وقد روى أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث مقاتل بن حبان قال: حدثني شرحبيل عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن –أو جمع للقرآن- كانت له عند الله دعوة مستجابة, إن شاء عجلها له في الدنيا, وإن شاء ادخرها له في يوم القيامة وهذا عام في كل مسلم قرأ القرآن, إذ الكافر والمنافق ليست لهما عند الله دعوة مستجابة تدخر له والله أعلم.
وروى ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو كان القرآن في إهاب لم تأكله النار)) قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن. قال أبو جعفر الطحاوي: تكلم أهل العلم في هذا الحديث فقالت طائفة معناه أن من كان معه القرآن وقاه الله من النار كما وقى إبراهيم الخليل عليه السلام من النار, فمعنى المراد بذكر الإهاب الإنسان. وقالت طائفة أخرى: الإهاب المذكور في(1/62)
هذا الخبر هو الذي يكتب فيه القرآن, أي إهاب كان, فإذا ألقي في النار وفيه القرآن وقى الله تعالى القرآن ونزهه عن النار فيرفعه من الإهاب, فتحرق النار الإهاب وهو خال من القرآن لا قرآن فيه. ووالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يذكر أبو جعفر اختياراً في ذلك, واختار غيره أن معنى الحديث راجع إلى معنى قوله تعالى: {جنات عدنٍ يدخلونها} وأن أحداً منهم لا تمسه النار يوم القيامة, والإهاب الإنسان, وأن الثلاثة الأصناف من حملة القرآن لا تحرقهم النار إن شاء الله تعالى.
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: الأحاديث الثابتة ترد هذا القول على ما دلت عليه من إدخال من قرأ القرآن النار من الموحدين الذين قرؤه وحفظوه ولم يعملوا به, ثم يخرجون بالشفاعة.
الباب التاسع في فضل من أعطى القرآن وعمل به
روى الدارمي أبو محمد في مسنده عن وهب الذماري أنه قال: من أتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار وعمل بما فيه ومات على الطاعة بعثه الله تعالى يوم القيامة مع السفرة والأحكام. قال سعد: السفرة الملائكة, والأحكام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وروى ابن لهيعة عن أيوب ابن أبي العالية قال: حدثنا غيلان بن المغيرة(1/63)
وعمر بن مضر قالا: ثنا عبد الله بن صالح قال: ثنا رشدين بن سعد عن جرير بن حازم عن حميد عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت)) وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في كتاب الرد له عن أبي أمامة الحمصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة, ومن أعطي ثلثي القرآن فقد أعطي ثلثي النبوة, ومن قرأ القرآن كله فقد أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه, ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن, ثم يقال له: اقبض فيقبض, ثم يقال له أتدري ما معك في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي يده اليسرى النعيم)) قال أبو بكر حدثنا إدريس بن خلف قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة, ومن أخذ نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة, ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها)) قال: وثنا محمد بن يحيى المروزي قال: حدثنا محمد –وهو ابن سعد- أنه قال: حدثنا الحسين عن حفص عن كثير بن زاذان عن عاصم ابن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار)).(1/64)
قال المؤلف رضي الله عنه: خرجه أبو عيسى الترمذي قال: ثنا علي ابن حجر قال: حدثنا حفص بن سليمان عن كثير بن زاذان عن عاصم عن علي رضي الله عنه. وقد تقدم متنه وفيه فأحل حلاله وحرم حرامه. قال أبو عيسى: وليس إسناده بصحيح, وحفص بن سليمان أبو عمر بزاز كوفي ضعيف يضعف في الحديث. وخرج أبو نصر الوايلي في كتاب الإبانة له أخبرنا أحمد بن محمد بن الحاج قال: ثنا محمد بن أحمد –هو الماعوني- قال: ثنا محمد بن علي بن الحسين القاضي قال: ثنا عقبة بن مكرم قال: ثنا أبو بكر الحنفي قال: ثنا عبيد الله بن أبي حميد الهذلي قال: ثنا أبو مليح الهذلي قال: ثنا معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اعملوا بالقرآن أحلوا حلاله وحرموا حرامه واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه فما تشابه عليكم فردوه إلى الله وإلى أولى العلم من بعدي كيما يخيرونكم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتي النبيون من ربهم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه شافع مشفع وما حل مصدق, ألا وإن لكل آية منه نوراً يوم القيامة, ألا وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر, وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام, وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش, وأعطيت المفصل نافلة, قال الوايلي: وهذا غريب.
فصل قال علماؤنا: من أعطاه الله القرآن وأنعم به عليه ويسره له ليتعلمه ويقرؤه فقد أشركه مع نبيه عليه السلام في علمه في قوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم}. وإن كان لم يشركه معه في جهة الإيتاء والتعليم فإن لم يعظم(1/65)
المنعم عليه هذه النعمة فهو من أجهل الجاهلين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ ربع القرآن فقد أوتي ربع النبوة, ومن قرأ ثلث القرآن فقد أوتي ثلث النبوة, ومن قرأ ثلثي القرآن فقد أوتي ثلثي النبوة, ومن قرأ القرآن كله فقد أوتي جميع النبوة غير أنه لا يوحى إليه)) ويحتمل أن يكون معنى أوتي جميع النبوة أي جمع في صدره جميع ما أنزل الله على نبيه ولكنه لا يوحي إليه.
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: ويختلف القول فيه بين العامل به وبين من لا يعمل به كما دل عليه حديث هذا الباب, والباب بعد هذا مع قوله عليه السلام: ((تعلموا القرآن فإذا علمتوه فلا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه)) وهذا قريب من معنى قوله عليه السلام: ((فأحلوا حلاله وحرموا حرامه)) وروى سفيان الثوري عن واصل عن إبراهيم قال: قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لبطن حملك, ولثدي أرضعك. قال: لمن قرأ القرآن ثم اتبع ما فيه. وروى من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعته يقول: ((ثلاثة يوم القيامة على كثبان المسك لا يحزنهم الفزع الأكبر, رجل قرأ القرآن محتسباً وأم به قوماً محتسباً, ورجل أذن محتسباً, ورجل أدى حق الله وحق مواليه)).
الباب العاشر في مثل من قرأ القرآن, ومثل من قرأه وعمل به
مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب, ومثل المؤمن الذي لا(1/66)
يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو, ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر)) وفي رواية: ((مثل الفاجر)) بدل المنافق, وقال البخاري مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب, والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة وذكر الحديث. وذكر أبو بكر الأنباري وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثني يحيى بن عبد الحميد قال: حدثنا هشيم. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب أن أبا عبد الرحمن السلمي كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له: يا هذا اتق الله فما أعرف أن أحداً خير منك إن عملت بالذي عملت. وعن أبي نضرة أن رجلاً من التابعين كان إذا جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبهم مجلسه وحديثه, فقالوا يوماً إن مثل القرآن مثل المطر حلو طيب طهور مبارك أنزله الله تعالى فأصاب به الشجر حلوه ومره, فزاد الحلوة حلاوة إلى حلاوتها, والمرة مرارة إلى مرارتها, وكذلك القرآن هدى وشفاء للذين آمنوا.
قال الله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاءٌ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمىً}.
الباب الحادي عشر في الماهر بالقرآن
مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الماهر(1/67)
بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)).
فصل قال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: التتعتع في القرآن هو التردد فيه عياً وصعوبة، وهذا والله أعلم عند التعلم، وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة، ودرجة الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القرآن متتعتعاً عليه ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة والله أعلم.
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: ولا يكون ماهراً بالقرآن حتى يكون عالماً بالفرقان، وذلك بأن يتعلم أحكامه فيفهم عن الله تعالى مراده وما فرض عليه، ويعرف المكي من المدني ليفرق بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام، وما ندبهما إليه في آخر الإسلام، وما افترض في أول الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، ويعرف الإعراب والغوائب فذلك يسهل عليه معرفة ما يقرأ ويزيل عنه الشك فيما يتلو ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً. وقد قال الضحاك في قوله عز وجل: {كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب}. قال: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً. وذكر ابن أبي الحواري قال: أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة، فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول، فقال بعض القوم: إن كان خارجاً لشيء فيستخرج لتلاوة القرآن، فأمرنا قارئاً يقرأ فطلع علينا من كوة، فقلنا: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام فقلنا: وكيف أنت يا أبا علي؟ وكيف حالك؟ قال: أنا من الله في عافية(1/68)
ومنكم في أذى. وإن ما أنتم فيه حدث في الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما هكذا كنا نطلب العلم، ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلاً للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السمع، فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهد وقد ضيعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون. قال: قلنا: قد تعلمنا القرآن قال: إن في تعلمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا علي؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه. فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة. ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور، وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}.
قال المؤلف رضي الله عنه: فإذا حصلت هذه المراتب لقارئ القرآن كان ماهر، وهو الكمال. والماهر الحاذق بالشيء، والعالم به، وأصله الحذق بالسباحة، ولا ينتفع بشيء مما ذكرناه حتى تخلص النية لله عز وجل عند طلبه أو بعد طلبه، فقد يبتدئ الطالب للعلم يريد به المباهاة والشرف في الدنيا فلا يزال به فهم العلم حتى يتبين له أنه على خطأ في اعتقاده، فيتوب من ذلك ويخلص النية لله عز وجل فينتفع بذلك ويحسن حاله. قال الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فيجرنا إلى الآخرة. وقال(1/69)
سفيان الثوري: قال حبيب بن أبي ثابت طلبنا هذا الأمر وليست لنا فيه نية، ثم جاءت النية بعد.
الباب الثاني عشر في أن القرآن حجة لك أو عليك
مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
قال المؤلف رضي الله تعالى عنه: القرآن حجة لمن عمل به واتبع ما فيه وحجة على من لم يعمل به ولم يتبع ما فيه، فمن أوتي علم القرآن فلم ينتفع به وزجرته نواهيه فلم يرتدع وارتكب من المآثم قبيحاً ومن الجرائم فضوحاً كان القرآن حجة عليه، وخصماً لديه. وفي الخبر عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تعلم القرآن وعلمه ولم يأخذ بما فيه وحرفه كان له شفيعاً ودليلاً إلى جهنم، ومن تعلم القرآن وأخذ بما فيه كان له شفيعاً ودليلاً إلى الجنة)) وخرج ابن(1/70)
شاهين من حديث محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي القرآن إلى الذي حمله فأطاعه في صورة حسنة فيأخذ بيده حتى يأتي ربه عز وجل فيصير خصيماً من دونه، فيقول: أي رب حفظته إياي فخير حامل حفظ حدودي، وعمل بفرائضي وعمل بطاعتي، واجتنب معصيتي، فلا يزال يقذف دونه بالحجج حتى يقال له: فشأنك به، قال: فيأخذ بيده لا يدعه حتى يسقيه بكأس الخلد، ويتوجه تاج الملك، قال: ويأتي صاحبه الذي حمله فأضاعه فيأخذ بيده حتى يأتي ربه عز وجل فيصير له خصيماً، فيقول: يا رب حملته إياي فشر حامل ضيع حدودي، وترك فرائضي، واجتنب طاعتي، وعمل بمعصيتي، فلا يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال له: فشأنك به، فيأخذ بيده فلا يدعه حتى يكبه على منخره في نار جهنم)).
الباب الثالث عشر في الآداب التي ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه بها
فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره، في الصلاة وغيرها على ما يأتي. وينبغي له أن يكون لله حامداً، ولنعمه شاكراً، وله ذاكراً وعليه متوكلاً، وبه مستعيناً، وإليه راغباً، وبه معتصماً، وللموت ذاكراً، وله مستعداً، وينبغي له أن يكون خائفاً من ذنبه، راجياً عفو ربه،(1/71)
ويكون الخوف في صحته أغلب عليه، إذ لا يعلم بما يختم له، ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه لحسن الظن بالله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى)) خرجه مسلم وغيره. أي أنه يرحمه ويغفر له.
وينبغي له أن يكون عالماً بأهل زمانه متحفظاً من سلطانه ساعياً في خلاص نفسه، ونجاة مهجته مقدماً بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه مجاهداً لنفسه في ذلك ما استطاع. وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده الورع في دينه واستعمال تقوى الله تعالى ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه وقال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون. وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون. وقال عبد الله بن عمرو: لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن لأن في جوفه كلام الله تعالى. وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه ويأخذ نفسه بالحلم والوقار. وينبغي له أن يتواضع للفقراء، ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب. وينبغي أن يكون ممن يؤمن شره، ويرجى خيره، ويسلم من ضره، وأن لا يسمع ممن نم عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.(1/72)
الباب الرابع عشر في الأمر بتعليم كتاب الله تعالى وإتباع ما فيه والتمسك به
قال الله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} وقال تعالى: {فاستمسك بالذي أوحي إليك} الآية. وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}. أبو داود عن نصر بن عاصم الليئي قال: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ فقلنا: بنو الليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة فقال: أقبلنا مع أبي موسى قافلين وغلت الدواب بالكوفة، قال: فسألت أبا موسى أنا وصاحب لي فأذن لنا فقدمنا الكوفة فقلت لصاحبي: أنا داخل المسجد فإذا قامت السوق خرجت إليك فدخلت المسجد فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رؤوسهم يستمعون إلى حديث رجل قال: فقمت عليهم فجاء رجل فقام إلى جنبي قال: فقلت: من هذا؟ قال أبصري أنت؟ قلت: نعم قال: قد عرفت ولو كنت كوفياً لم تسأل عن هذا, هذا حذيفة قال: فدنوت منه فسمعت حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر وعرفت أن الخير لن يسبقني. قال: فقلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: ((يا حذيفة تعلم كتاب الله واتبع ما فيه)) ثلاث مرات. قلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: ((فتنة وشر)) قلت: يا رسول الله(1/73)
أبعد هذا الخير شر؟ قال: ((هدنة على دخن وجماعة على أقذاء فيها أو فيهم)) قلت: يا رسول الله الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: ((لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه)) قلت: يا رسول الله أبعد هذا الخير شر؟ قال: ((فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار فإن مت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدهم)) وخرج أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبد الحميد بن جعفر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أبشروا أبشروا؟ أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله)) قالوا: نعم قال: ((فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله عز وجل وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً)) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم , إني تارك فيكم ثقلين, أحدهما أكبر من الآخر, كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض, طرفه في يد الله عز وجل, وطرفه في أيديكم فاستمسكوا به, إلا وعترتي, وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد خلفت شيئين لن تضلوا(1/74)
بعدي ما أخذتم بهما, وعملتم بما فيهما, كتاب الله وسنتي, خرجهما الوايلي رحمه الله في كتاب الإبانة من طرق.
الباب الخامس عشر في أن أفضل الخلق إيماناً من عمل بكتاب الله عز وجل
أبو داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتدرون أي الخلق أفضل؟)) قلنا: الملائكة قال: ((وحق لهم بل غيرهم)) قلنا: الأنبياء, قال: ((وحق لهم بل غيرهم)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أفضل الخلق إيماناً أقوام في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني, يجدون ورقاً فيعملون بما فيه, فهم أفضل الخلق إيماناً)). وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال: قلنا: يا رسول الله هل أحد خير منا؟ قال: ((نعم قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتاباً بين لوحين يؤمنون بما فيه, ويؤمنون بي ولم يروني)) قال أبو عمر ابن عبد البر: أبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع, وصالح بن جبير من ثقات التابعين.
قال المؤلف رحمه الله: أنبأنا الشيخ المسن الراوية الحاج أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح عرف بابن رواح بمسجده بثغر الإسكندرية حماه الله, والشيخ الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو الحسن علي ابن هبة الله الشافعي بمنية بني خصيب على ظهر النيل بها إجازة, قالا(1/75)
جميعاً: أنا الشيخ الإمام الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني قال: أنا الرئيس أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن محمد بن أحمد بن محمود الثقفي بأصبهان قال: أخبرنا أبو العباس أحمد ابن الحسن بن إسحاق بن عتبة الرازي –إملاء- قال: أنا بكر بن سهل بن إسماعيل الدمياطي قال: أنا أبو صالح واسمه عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن صالح بن جبير أنا قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ليصلي فيه، ومعنا رجاء بن حياة يومئذٍ، فلما انصرفنا خرجنا لنشيعه، فلما أردنا الانصراف قال: إن لكم على جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فقلنا: هات رحمك الله؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ معنا عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك؟ قال: ((ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، يأتيكم الوحي من السماء، بلى قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم أجراً منكم)).
قال الثقفي: أبو جمعة الأنصاري اسمه حبيب بن سباع ويقال جنيد ابن سباع وقع لنا عالياً: ما كتبناه إلا من حديث صالح بن جبير عنه.
فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: أعلم صلى الله عليه وسلم أن من اتبع القرآن ومواعظه حالة الفترة، واقتفي العلم والسنن عند ظهور البدع، لا يقصر حاله عن حال الصديقين، ولا تنزل درجته عن درجات الصحابة والتابعين والله أعلم.(1/76)
الباب السادس عشر فيما جاء في تلاوة القرآن في الصلاة، وأنها أفضل العبادات من الأعمال
تقدم من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما)) الحديث. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان. وروى سفيان الثوري عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: إذا قام الرجل من الليل فتسوك ثم توضأ قام الملك خلفه، ودنا واستمع ووضع فاه على فمه، فلا يقرأ من آية إلا دخلت جوفه. وروينا بالسند المتقدم إلى الرئيس أبي عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي قال: ثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق –إملاء- قال: حدثني أحمد بن عبد الله بن محمود قال: ثنا عبد الله بن وهب قال: ثنا محمد بن الحسن التميمي قال: ثنا محمد بن أبي بكر البرساني قال: ثنا إبراهيم بن يزيد المكي قال: سمعت نافعاً يحدث عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ((قراءة القرآن في الصلاة، ثم قراءة القرآن في غير الصلاة، فإن الصلاة أفضل الأعمال عند الله وأحبها إليه، ثم الدعاء والاستغفار، فإن الدعاء هو العبادة، وإن الله يحب الملح(1/77)
في الدعاء، ثم الصدقة فإنها تطفي غضب الرب، ثم الصيام فإن الله تعالى يقول الصيام لي وأنا أجزى به، والصيام جنة للعبد من النار)).
فصل قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا حديث صحيح عظيم في الدين بين فيه أن أعظم العبادات قراءة القرآن في الصلاة، وإنما كان كذلك لأن الصلاة أفضل الأعمال عند الله وأحبها إليه، لأنها اشتملت على جميع العبادات بالمعنى، ومن فضلها سميت جميع الأعمال بها. قال الله تعالى مخبراً عن قوم شعيب عليه الصلاة والسلام: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} أي أعمالك الصالحة, وذلك أنه كان كثير الصلاة. فحملوا سائر أفعاله على معظمه وهي الصلاة. وقيل أطلق على كل عمل اسم الصلاة تشريفاً كما أطلق عليها اسم الإيمان. إذ المعنى في الكل واحد ولأنها عبادة الملائكة، قال الله تعالى: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وقال في جميع الخلق: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال} وجعلها الله من خصائل إسماعيل فقال: {وكان يأمر أهله بالصلاة} ومن دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} ولا يوصف بالكفر من ترك شيئاً من(1/78)
الأعمال الصالحة سواها. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من ترك الصلاة فقد كفر)) ((وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) ومن امتنع من أداء الزكاة أخذت منه قهراً، ومن امتنع من الوضوء وضيء، ومن امتنع من الصوم حبس في بيت موثقاً حال وجوب الإمساك وكل عبادة من حج وزكاة وصيام تسقط عن العبد وتنتقض بأعذار والصلاة ملازمة له في كل حال قائماً وقاعداً وعلى جنب وراكباً وماشياً وبالإشارة من غير خلاف بين الأئمة ما دام عقله باقياً.
وقد اتفق الفقهاء على قتل من ترك الصلاة وإنما اختلفوا في صفة قتله فقال بعضهم: يقتل بالسيف وقال أهل العراق: يقتل بالسوط وقيل: يطعن بالرماح وإنما يقتل تاركها لأنها تلو الإيمان وثانيته وكما يقتل تارك الإيمان كذلك يقتل تارك الصلاة وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه كافر يقتل ولا ترثه ورثته من المسلمين ويستتاب فإن تاب وإلا قتل وحكم ماله كحكم مال المرتد وهو قول إسحاق بن راهويه، قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، هكذا حكاه أبو عمر. وقيل إن فضل العبادات وشرفها على قدر درجاتها وفائدتها فحيث عظمت الفائدة كانت العبادة أفضل, وترتيب فضائل العبادات بترتيب فوائدها: فأفضل العبادات فائدة هي أفضل العبادات, وذلك معرفة الله تعالى والإيمان به الذي هو شرط في كل عبادة, فإن الله تعالى لا يقبل عمل كافر ولا يرضيه عبادة كافر, وإن سخطه عليه سرمداً لا يلحقه عفو, ولا يشوبه رضا, ولا يتصور مع ذلك قرب. ولذلك قال وقوله الحق: {إنما يتقبل الله من المتقين} أي الذين اتقوا الكفر: {وما(1/79)
منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فمن العبادات ما تختص فائدته بالمكلف كالصوم والحج والعمرة والاعتكاف ومنها ما يتعدى المكلف كالصدقة والكفارات وعلى قدر التعدي يكون الفضل. ولذلك كانت الصلوات أفضل العبادات التي بالأبدان بعد المعرفة والإيمان, لأن فائدتها تنقسم إلى مختصة بالمصلي وإلى متعلقة بالله ورسوله. وجميع أهل الإيمان. والصلاة على هذا التقدير أجمع خصلة من خصال الدين وذلك أن أولها الطهارة سراً وجهراً ثم جمع الهمة وإخلاء السر وهو النية ثم الانصراف عن ما دون الله إلى الله بالقصد إليه وهو التوجه, ثم الإشارة برفع اليدين إلى نية ما يربط, ثم أول الأذكار فيها التكبير, وهو النهاية في تعظيم قدرة الله تعالى, وهو قوله الله أكبر, ثم أول ثناء فيها ثناء لا يشوبه ذكر شيء سواه وهو قوله سبحانك اللهم وبحمدك وتعالى جدك ولا إله غيرك, ثم قراءة كلامه وهي الفاتحة التي جعلها بينه وبين عبده يقرؤها قائماً منتصباً قد زم جوارحه هيبة وخشوعاً وإجلالاً وتعظيماً. ثم تحقيق ما عبر بلسانه عن ضميره من التعظيم لله تعالى فعلاً وحركة وهو الركوع والسجود, وأذكارهما تنزيه الله عز وجل لإجلاله وتعظيمه بقوله سبحان ربي العظيم, سبحان ربي الأعلى, ثم مع كل تكبيرة ما عدا الرفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده, بإجماع, فإذا تشهد أضاف جميع الأعمال إلى الله تعالى, ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد له بالرسالة, ثم يسلم على جميع عباد الله الصالحين وذلك متعلق بكل عبد صالح من أهل السموات والأرض, ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وجوباً عند الشافعي ومحمد بن المواز ومن وافقه, وندباً عند الجميع. ثم يتعوذ بالله(1/80)
من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال, ومن فتنة المحيا والممات وجوباً عند طاوس وندباً عند الجميع. وليست هذه الخصال بأجمعها أجمل منها في الصلاة, ولذلك كان عليه السلام يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) وعن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب المنزلة من السماء: إن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: أتدري لم اتخذتك خليلاً, قال: لا يا رب, قال: لزلة مقامك بين يدي في الصلاة, ذكره أبو نعيم الحافظ ولشرفها وفضلها وصفت بالنهي عن الفحشاء والمنكر, ورفع الدرجات, وتكفير الخطيات, ومقصودها الأعظم تجديد العهد بالله عز وجل, ومناجاته. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المصلي يناجي ربه عز وجل)) وقد اشتملت من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضاً وندباً على ما لم يشتمل عليه غيرها, ونهي فيها عن أعمال وأقوال لم ينه في غيرها عنها, كل ذلك ليتوفر المكلف على الإقبال عليها. ولذلك جعلت لها مواقيت متقاربة لئلا يبعد عهد العبد بذكر الله تعالى, قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} وقال: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} إلى قوله: {وحين تظهرون} وقال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري}. قيل لتذكرني فيها وأذكرك بها. وقيل عند خلق الذكر بها. وهذا لمن نام عنها أو نسيها كما قال صلى الله عليه وسلم : ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))(1/81)
فإن الله عز وجل يقول: {أقم الصلاة لذكري}. وكان ابن شهاب يقرؤها (للذكرى).
الباب السابع عشر في المدة التي يستحب فيها ختم القرآن في الصلاة وفضل ذلك
مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم وإما أرسل لي فقال: ((ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة))؟ فقلت: بلى يا نبي الله ولم أرد بذلك إلا الخير, قال: ((فإن بحسبك من ذلك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام)) قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال: ((فإن لزوجك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, ولجسدك عليك حقاً, فصم صوم نبي الله داود عليه السلام فإنه كان أعبد الناس)) قال: قلت: يا نبي الله وما كان صوم داود؟ قال: ((كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, واقرأ القرآن في كل شهر)) قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك, قال: ((فاقرأه في كل عشرين)) قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك, قال: ((فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك فإن لزوجك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً)) قال: فشددت فشدد علي. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنك لا تدري لعلك يطول بك عمرك)) قال: فصرت إلى الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم , فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال علماؤنا رضي الله عنهم: قوله اقرأه في كل شهر, ثم قال بعد(1/82)
ذلك في كل عشرين, ثم قال فاقرأه في كل سبع هكذا في أكثر الروايات لمسلم, ووقع في كتاب ابن أبي جعفر وابن أبي عيسى زيادة فاقرأه في عشر, وبعد ذلك قال له اقرأه في سبع, وخرج الترمذي أبو عيسى عن أبي بردة عن عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: ((اختمه في شهر)) قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: ((اختمه في عشرين)) قلت: إني أطيق أفضل من ذلك, قال: ((اختمه في خمس عشرة)) قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: ((اختمه في عشر)) قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: ((اختمه في خمس)) قلت: إني أطيق أفضل من ذلك, قال: فما رخص لي. قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب مستغرب من حديث أبي بردة عن عبد الله بن عمرو وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عبد الله بن عمرو. وروى عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) خرجه الترمذي وقال فيه حديث حسن صحيح ونحوه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)) وروي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأ القرآن في أربعين)) وقال إسحاق(1/83)
ابن إبراهيم: ولا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين يوماً ولم يقرأ القرآن لهذا الحديث. وقال بعض أهل العلم لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وكان تميم الداري يختم في كل سبع. وعن خثيمة بن عبد الرحمن أنه كان يختم القرآن في ثلاث، وكذلك طلحة بن مصرف، وحبيب بن أبي ثابت، والمسيب بن رافع كانوا يختمون القرآن في كل ثلاث ثم يصبحون في اليوم الذي يختمون فيه القرآن صياماً. ورخص بعض أهل العلم في قراءته في ركعة. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها، وروي عن سعيد بن جبير عن عثمان أنه قرأ القرآن في ركعة في الكعبة. وكان الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين وفي غير رمضان في كل ست ليال. وكان أبو حنيفة يختم في رمضان ستين ختمة، بالليل ختمة، وبالنهار ختمة. والترتيل في القرآن أحب إلى أهل العلم. وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول له في الأصل الثاني والثمانين والمائة، أخبرنا عمر بن أبي عمر العبدي قال: ثنا المسيب بن واضح السلمي قال: ثنا ابن المبارك عن معمر عن سماك بن الفضل عن وهب ابن منبه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ القرآن في أربعين ليلة، فاستزاده حتى رجع إلى سبع. قال أبو عبد الله والأربعون مدة الضعفاء وأولى الأشغال تنقسم الجميع على الأربعين فيكون في كل يوم(1/84)
مائة وخمسون آية، وزيادة آيات يسيرة. وفي السنة تبلغ ختمة تسع مرات وأما توقيت السبع فإنه للأقوياء الذين يقدرون على سهل الليل واحترفوا العبادة وتفرغوا من أشغال النفس والدنيا.
قال المؤلف رحمه الله: وروي عن يحيى بن عيسى بن ضرار السعدي وكان قد بكي شوقاً إلى الله تعالى ستين عاماً – قال: رأيت كأن ضفة نهر تجري بالمسك الأذفر، حافتاه شجر اللؤلؤ، ونبت من قضبان الذهب، فإذا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد: سبحان المسبح بكل لسان، سبحان الموجود بكل مكان، سبحان الدائم في كل زمان، سبحانه سبحانه. قال: قلت: من أنتن؟ قلن: خلق من خلق الرحمن سبحانه، قلت: وما تصنعن هنا؟ فلن هذا الكلام:
ذرأنا إله العرش رب محمد ... لقوم على الأقدام بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم ... وتسري هموم القوم والناس نوم
فقلت: بخ بخ لهؤلاء من هؤلاء؟ لقد أقر الله أعينهم، قلن: أما تعرفهم فقلت: والله ما أعرفهم، قلن: هؤلاء المجتهدون بالليل أصحاب السهر.
وأسند عن ليث عن مجاهد قال: قال رجل: يا رسول الله من قرأ القرآن في سبع؟ قال: ((فذلك عمل المقربين)) قالوا: يا رسول الله فمن قرأه في خمس؟ قال: ((ذلك عمل الصديقين)) قالوا: يا رسول الله فمن قرأه في ثلاث؟ قال: ((ذلك عمل عباد النبيين وذلك الجهد ولا أراكم تطيقونه إلا أن تصبروا على مكابدة الليل ويبدأ أحدكم بالسورة وهمه في آخرها)) قالوا: يا رسول الله وفي أقل من ثلاث؟ قال: ((لا، ومن وجد منكم نشاطاً فليجعله(1/85)
في حسن تلاوته)) وقال محمد بن إبراهيم: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث وإنما مخرج هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المداومة عليه، وأن يصير هذا عادة وحرفة، ولو أن رجلاً قرأ القرآن في بعض أيامه، قرأ القرآن في يوم واحد أو ليلة واحدة لكان فاضلاً عظيم القدر. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه ختمه في ركعة واحدة قائماً، فإنما وقت هذه المدة لمن يداوم عليها ويصيرها عادة موظفة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يقرؤه في سبع تيسيراً على الأمة. وكان يبتدئ فيجعله ثلاث سور حزب، ثم من بعده خمس سور حزب، ثم من بعده سبع سور حزب، ثم من بعده تسع سور حزب، ثم من بعده إحدى عشر سورة حزب، ثم من بعده ثلاث عشرة سورة حزب، ثم من بعده المفصل حزب، فذلك سبعة أحزاب. وذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعام إلى هود، وليلة الأحد بيونس إلى مريم، وليلة الاثنين بطه إلى طسم، وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص، وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن، ويختم ليلة الخميس. وقال بعض العلماء: وذهب كثير من العلماء إلى منع الزيادة على السبع أخذاً بظاهر المنع في قوله: ((فاقرأه في سبع ولا تزد)) وإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرو عنه أنه ختم(1/86)
القرآن كله في ليلة ولا في أقل من السبع وهو أعلم بالمصالح والأجر، وفضل الله يؤتيه من يشاء فقد يعطي على القليل ما لا يعطي على الكثير، وقد اختار بعضهم قراءته في ثمان وكان بعضهم يختمه في خمس، وآخر في ست وبعضهم يختم في كل ليلة. وكأن من لم يمنع من الزيادة على السبع حمل قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تزد)) من باب الرفق وخوف الانقطاع، فإن أمن ذلك جاز، على أن ما كثر من العبادة والخير فهو أحب إلى الله تعالى، والأولى ترك الزيادة لأن قوله: ((ولا تزد على السبع)) وكذلك قوله في الخمس، خرج مخرج التعليم، والله بحقائق الأمور عليم.
وحكى أن محمد بن شجاع لما حضرته الوفاة أشار إلى بيت فقال: ختمت القرآن في ذلك البيت في الصلاة ثلاثة آلاف مرة. وعن علي بن الفضيل أنه قال لابنه: أدع الله أن يرزقني ختم القرآن، وكان إذا أخذ في السورة لا يقدر أن يتمها.
الباب الثامن عشر في فضل ختم القرآن وما يستحب فيه
ابن شاهين أخبرنا محمد بن هارون بن الهيثم الجوهري حدثنا الحسن ابن عرفة ثنا محمد بن مروان الكوفي عن عمرو بن ميمون عن الحجاج(1/87)
ابن فرافصة عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن نظراً وظاهراً حتى يختمه غرس الله له به شجرة في الجنة لو أن غراباً أفرخ في ورقة من تلك الشجرة ثم نهض يطير لأدركه الهرم قبل أن يقطع تلك الورقة من تلك الشجرة)) وروي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله: ((خير الأعمال افتتاح القرآن وختمه)) وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال: إذا ختم القرآن قبل الملك بين عينيه. حدث به أحمد بن حنبل فاستحسنه وقال: هذا من مخبآت سفيان وقد روى ذلك عن سفيان قوله.
قال المؤلف رحمه الله: وأيهما كان فمثله لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع. وقال العلماء: يستحب لقارئ القرآن إذا ختمه أن يجمع أهله فإنه روى عن أنس بن مالك أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن. وعنه أنه كان إذا أشفى على ختم القرآن بالليل بقي أربع سور أو خمس سور، فإذا أصبح جمع أهله فختمه ودعا، ويستحب لمن علم بالختم أن يحضره. وروي عن قتادة أن رجلاً كان يقرأ القرآن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/88)
فكان ابن عباس يجعل عليه رقيباً فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه: قوموا بنا حتى نحضر الخاتمة. وعن مجاهد كانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون: الرحمة تنزل. وعن الحكم بن عيينة قال: كان مجاهد وعنده ابن أبي لبابة وأناس يعرضون القرآن. فإذا أرادوا أن يختموه أرسلوا إلينا وقالوا: إنا نريد أن نختم فأحببنا أن تشهدونا فإنه يقال إذا ختم القرآن نزلت الرحمة عند ختمه، أو حضرت الرحمة عند ختمه. وقال وهيب بن الورد قال لي عطاء: بلغني أن حميد الأعرج يريد أن يختم القرآن، فانظر إذا أراد أن يختم فأخبرني حتى أحضر الختمة. ويستحب أن يختم أول النهار فإن إبراهيم التيمي قال: كانوا يقولون إذا ختم الرجل القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة بقية يومه، وكذلك إذا ختم أول الليل. وقد روى هذا مرفوعاً عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي ومن ختمه آخر النهار صلت عليه الملائكة حتى يصبح)) وقال مجاهد: من ختم القرآن نهاراً وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، ومن ختمه ليلاً وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يصبح. وكانوا يستحبون أن يكون ختم القرآن في أول النهار أو في أول الليل لهذا الحديث، وكانوا يستحبون أن يختموا قبل الليل أو قبل النهار. وقال عبد الله بن المبارك: إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل، وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار. وكان طلحة بن مصرف وحبيب بن أبي ثابت والمسيب بن رافع يصبحون في اليوم الذي يختمون فيه صياماً، وقد تقدم. ويستحب فيه التكبير من(1/89)
أول سورة والضحى لأن القرآن عبادة تنقسم إلى أبعاض معدودة متفرقة فكانت كصيام شهر رمضان، وقد أمر الله الناس إذا أكملوا العدة أن يكبروا الله على ما هداهم. فالقياس على ذلك أن يكبر قارئ القرآن فإنما قلنا يكبر من سورة والضحى لما رواه مجاهد عن ابن عباس عن ابن أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بلغ آخر والضحى كبر بين كل سورتين تكبيرة الله أكبر هكذا إلى أن يختم القرآن. وكان المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أياماً فقال ناس من المشركين قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال: الله أكبر. قال مجاهد: قرأت على ابن عباس رضي الله عنه فأمرني به وأخبرني عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم . واختلف القراء في وصل السورة بالتكبيرة والسكت بينهما، فروى أن القارئ يسكت إذا فرغ من السورة سكوتاً مقطوعاً، ثم يكبر ويبسمل ويقرأ. وروي أنه يكبر ويبسمل ويصل التكبير بآخر السورة ولا يسكت بينهما. ولا يجوز الوقوف على التكبير دون أن يصله بالبسملة ثم بأول السورة المؤتنفة.
فصل فإذا فرغ من الختم وسلم اتبع التكبير بالحمد والتصديق والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد لله الحي القيوم الذي لا يموت ذي الجلال والإكرام، والمواهب العظام، والمتكلم بالقرآن، والخالق للإنسان، والمنعم عليه بالإيمان، والمرسل رسوله بالبيان، وهو أصدق القائلين. أحمده حمد المخلصين، واتقيه وأتوكل عليه توكل الموقنين، وأرتجيه وأعبده عبادة المخبتين، وأستهديه وأستعينه استعانة المذعنين، واستكفيه واشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له العزيز الوهاب، القدير الغالب، غفار الذنوب، وستار العيوب، وعلام الغيوب، وقابل(1/90)
التوب ممن يتوب، وكاشف الغموم، والمجيب دعوة المظلوم، وذلك الله الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، الشافي من الإدواء والإسقام، والفارج الكروب العظام، رب المشارق والمغارب، وفاطر السموات والكواكب والمتفضل بالآلاء والمواهب، وخالق الإنسان من طين لازب. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً ومنيراً. بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ونهج شرائع الملة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين. صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً. مم يدعو بما تيسر له وقيل ليوسف بن أسباط: ما تقول إذا ختمت القرآن؟ قال: أقول: اللهم لا تفتني خمسين مرة وقال المبارك بن فضاله: كان الحسن إذا ختم القرآن دعا بهذا الدعاء:
اللهم لك الحمد كما هديتنا للدين العظيم، وعلمتنا من القرآن الكريم اللهم أنت علمتناه قبل رغبتنا إليك في تعليمه، وخصصتنا به قبل معرفتنا بفضله. اللهم فإذا كان ذلك من منك وجودك وكرمك لطفاً بنا ورحمة لنا، من غير حولنا ولا قوتنا فاغفر لنا. اللهم فهب لنا رعاية حقه، وحسن تلاوته وإيماناً بمتشابهه، وتفكراً في أمثاله، وتثبيتاً في تأويله، وهدى في تدبره، وبصيرة بنوره. اللهم إنك أنزلته شفاء لأوليائك، وسقماً على أعدائك، وغماً على أهل معصيتك، وهدى لأهل طاعتك، فاجعله دليلنا على عبادتك، وقائدنا إلى رضوانك، واجعله لنا حصناً حصيناً من عذابك، ونوراً يوم لقائك، نستضيء به في خلقك، ونجوز به صراطك، ونهتدي به إلى جنتك. اللهم إنا نعوذ بك من الشقاء في حمله،(1/91)
والجور عن حقه، والغلو في قصده، والتقصير دون واجبه. اللهم احمل عنا ثقله، وأوجب لنا حقه، وأدعنا شكره، واجعلنا نعيه ونحفظه، ونقيم حكمه، ونراعي حدوده، ونؤدي فرائضه، ونحل حلاله، ونحرم حرامه، ونحيي معالمه، ونتقي محارمه. اللهم أدل قلوبنا عند عجائبه التي لا تنقضي، وأشربها لذة في ترديده وخشية عند ترجيعه. اللهم انفعنا بما صرفت فيه من الآيات، وكفر عنا بتلاوته السيئات، ولقنا به البشرى الحسنة عند الممات. اللهم إنك سميته مباركاً فارزقنا به من كل بركة، اللهم إنك جعلته نجاة فنجنا به من كل هلكة، اللهم إنك جعلته عصمة فاعصمنا به من كل بدعة وشبهة، اللهم ألزم به قلوبنا السكينة والوقار، والفكرة والاعتبار، والتوبة والاستغفار. حتى لا نشتري به ثمناً، ولا نبتغي بالقرآن بدلاً، ولا نؤثر عليه عرضاً من أعراض الدنيا أبداً، إنك أنت السميع الدعاء. آخر دعاء الحسن.
وإن زدت عليه ما يناسبه فلا بأس تقول:
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم وارحمنا به، اللهم أكرمنا بالقرآن الكريم وانفعنا به. اللهم أصلحنا بالقرآن المجيد وأجرنا به، اللهم احفظنا بالقرآن واحرسنا به، اللهم سلمنا بالقرآن واعصمنا به، اللهم أنصرنا بالقرآن واكلأنا به، اللهم أعزنا بالقرآن واحفظنا به من كل سوء واغفر لنا بالقرآن كل ذنب، واستجب لنا بالقرآن كل دعاء، واشفنا بالقرآن من كل عين وداء، اللهم أفرج عنا بالقرآن كل غمة، واكشف عنا بالقرآن كل كربة، ونبهنا بالقرآن من كل رقدة، وأزح عنا بالقرآن كل غفلة، واصرف عنا بالقرآن كل بلية، وكفر عنا بالقرآن كل خطيئة. اللهم وسع علينا بالقرآن رزقك، وأنزل علينا بالقرآن فضلك الذي نرجوه،(1/92)
يا من يجيب دعوة داعيه، ولا يخيب راجيه. اللهم أكرمنا بالقرآن في مجلسنا هذا كرامة لا تهيننا بعدها أبداً، وارفعنا به رفعة لا نضعنا بعدها أبداً، واعززنا به عزاً لا تذلنا بعده أبداً، وارزقنا به رزقاً هيناً لا تحرمنا بعده خيراً أبداً. اللهم زدنا به حباً للإيمان والإسلام، والصلاة والزكاة والصيام، وإدمان حج بيتك الحرام، وجهاد أعدائك اللئام، وإقامة الحدود والأحكام. اللهم أحينا به حياة الأخيار، وتوفنا مع عبادك الأبرار وارزقنا العافية وذريتنا في أنفسنا وأهلينا وأموالنا. اللهم استر به عوراتنا، وآمن به روعاتنا، واغفر به خطيئاتنا، واحفظنا به من جميع جهاتنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا. اللهم إنا نسألك من كل خير سألك منه محمد عبدك ورسولك، ونعوذ بك من كل شر عاذ بك منه محمد عبدك ونبيك ورسولك. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم صل على ملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين، وسلم عليهم وعلى عبادك الصالحين، من أهل السموات والأرضين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ثم تدعو بدعوات من القرآن ثم تقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله: وإن قال بعد الحمد لله، والثناء، والتصديق والصلاة على محمد خير الأنبياء:
اللهم إنك أهل الفضل والإحسان، والطول والامتنان، كما هديتنا(1/93)
للإيمان وعلمتنا القرآن، وخصصتنا بفضله وجعلتنا من أهله فاجعلنا اللهم ممن يرعاه حق رعايته، ويقوم بقصده، ويوفي بشرطه، ولا يلتمس الهدى في غيره. اللهم أهدنا لا علامه الظاهرة، وأحكامه القاطعة، واجمع لنا به خيري الدنيا والآخرة. فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، اللهم اجعله لقلوبنا حبيباً وربيعاً، ولأبداننا من عذابك حصناً منيعاً، ولصدورنا من الشك شفاء، ولما اجترحنا من الذنوب ماحقاً. اللهم اجعله لنا إلى مقر رحمة كرامتك دليلاً سائقاً، وعوناً على العمل بطاعتك كافياً، وحرزاً من سوء قضائك وقدرك واقياً. اللهم اغفر لنا به موبقات الذنوب، واستر علينا به قبائح العيوب، وبلغنا به كل محبوب، وسلمنا به من كل مرهوب، وأنلنا به الفوز والبشرى واكشف عنا به الضر والبلوى، واجعلنا اللهم به مع الذين أوجبت لهم جنة المأوى، وأنقذتهم من لظى يا رب العالمين.
وتدعو بدعوات من القرآن كما ذكرنا فحسن جميل والدعاء في هذا كثير.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأه –يعني القرآن- حتى يختمه كانت له دعوة مستجابة معجلة أو مدخرة)) وروى قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عند ختم(1/94)
القرآن دعوة مستجابة)).
الباب التاسع عشر في أن القلوب تصدأ وجلاؤها القرآن
حدثنا الشيخ الفقيه الإمام أبو القاسم عبد الله إجازة عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث أبي الحسن علي بن خلف بن معزوز بن فتوح الكوفي التلمساني قال: قرئ على الشيخة الصالحة الجليلة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلهما وأنا حاضر أسمع وذلك في التاسع من رمضان سنة أربع وستين وخمسمائة قيل لها: أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد بن طلحة النعالي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة فأقرأت به وقالت: نعم قال: أنا أبو الحسن أحمد ابن محمد رزقويه البزار قال: أخبرنا أبو علي إسماعيل بن صالح الصفار سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة قال: ثنا عبد الله بن أيوب المخرمي أبو محمد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين قال: ثنا عبد الرحيم بن هارون قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال(1/95)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد)) قالوا: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: ((تلاوة القرآن)).
الباب الموفى عشرين في أن القرآن والعلم ميراث الأنبياء عليهم السلام
أبو داود عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) خرجه ابن ماجه أيضاً. وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه دخل السوق فقال: أراكم هنا وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم، فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق ولم يروا ميراثاً، فقالوا: يا أبا هريرة ما رأينا ميراثاً يقسم؟ قال: فما رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يذكرون الله تعالى ويقرأون القرآن، قال: فذلك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم .
الباب الحادي والعشرون فيما يجوز من السؤال بالقرآن عند تلاوته في الصلاة وخارجها وما لا يجوز
الترمذي عن حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى)) وما أتي على آية رحمة إلا وقف وسأل وما أتي على آية عذاب إلا وقف وتعوذ. قال هذا(1/96)
حديث حسن صحيح وخرجه ابن ماجه أيضاً عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم وكان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب استجار وإذا مر بآية فيها تنزيه الله سبح. خرجه مسلم بمعناه عن حذيفة وسيأتي في باب ترتيل القرآن. وخرج عن أبي ليلى قال: صليت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل تطوعاً فمر بآية فقال: ((أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار)).
الترمذي عن عمران بن حصين أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن يسألون به الناس)) قال الترمذي: حديث حسن. وذكر الحليمي في كتاب منهاج الدين له عن الحسن قال: كنت أمشي مع عمران بن حصين فانتهي إلي رجل يقرأ سورة يوسف فجلس إلى جانب حائط ونحن معه ثم سأل الناس فقال عمران: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن واسألوا الله به فإن بعدكم أقواماً يقرأون القرآن يسألون به الناس)) وروى عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((تعلموا القرآن واسألوا الله الجنة قبل أن يجيء قوم يسألون به الدنيا، وإن القرآن يتعلمه ثلاثة، رجل يباهى به. ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله)) وقال عبد الله ابن مسعود: سيجيء على الناس زمان يسئل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم، وقال ميمون بن مهران: لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسوا به الشف في الدنيا –يعني الربح- واطلبوا الدنيا بالدنيا، والآخرة بالآخرة. وصلى عبد الله بن مغفل بهم في رمضان فلما كان بعد الفطر أرسل إليه عبيد الله بن زياد بخمسمائة درهم وحلة فردهما وقال: إنا لا نأخذ على كتاب الله أجراً. وقال زاذان: من قرأ القرآن ليستأكل به أموال الناس جاء يوم القيامة وليس في وجهه لحم. وروى عن عبد الله بن عمر أنه جاء من(1/97)
المسجد الجامع حتى بلغ أصحاب الدار إذا رجل والناس مجتمعون عليه فنظر فإذا رجل يقرأ ويسأل الناس، فالتمس سوطاً فوجده ثم أتى الناس فقال: أفرجوا فعلا رأسه ضرباً حتى سبقه عدواً فقال: يا آل عباد الله ما كنت أرى أني أبقي حتى أرى أحداً يسأل بكتاب الله شيئاً.
قال المؤلف رحمه الله: فلا ينبغي لمن حفظ القرآن أن يسأل به غير الله تعالى. وكان بعض السلف إذا ختم القرآن يقول: اللهم اغفر لي بالقرآن، اللهم ارحمني بالقرآن، اللهم أهدني بالقرآن، اللهم عافني بالقرآن، وإنما كان هذا لأن القرآن كلامه فلا ينبغي أن يسأل به غيره. وأكثر من قولك: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}. لأن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو يحتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع. وقيل بل لم يرد حسنة واحدة بل أراد إعطاء في الدنيا عطية حسنة فحذف الاسم وقيل لأنس: أدع الله لنا فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا، فقال: تزيدون؟ قد سألت الدنيا والآخرة. وقد تقدم في الباب الثامن عشر في ختم القرآن كيف الدعاء به والسؤال. والحمد لله رب العالمين.
الباب الثاني والعشرون في الأمر بتعاهد القرآن
البخاري قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: ثنا مالك. وقال مسلم: حدثنا يحيى(1/98)
ابن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها, وإن أطلقها ذهبت)) وفي صحيح مسلم من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر من الزيادة فإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه. وخرج البخاري ومسلم عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بئس! ما لأحدكم يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي, استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم بعقلها)) وخرجا عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعاهدوا أهل القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)).
الباب الثالث والعشرون في تنزل السكينة لقراءة القرآن والأمر بمداومة القرآن لذلك
مسلم قال حدثني يحيى بن يحيى قال: أنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيه سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح وصلى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن)) قال: وحدثنا ابن مثنى وابن بشار واللفظ لابن مثنى قالا: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد(1/99)
غشيته قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اقرأ فلان فإنها السكينة تنزلت عند القرآن –أو تنزلت للقرآن)) والرجل هو أسيد بن حضير رضي الله عنه جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رواه مسلم. قال: حدثني حسن ابن علي الحلواني وحجاج بن الشاعر وتقاربا في اللفظ قالا: ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبي قال: ثنا يزيد بن الهاد أن عبد الله بن خباب حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده إذ حالت فرسه فقرأ ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضاً قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى فقمت إليها فإذا هو مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها, قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربد لي إذ جالت فرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقرأ يا ابن حضير)) قال: فقرأت ثم جالت فرسي أيضاً فقال: ((اقرأ يا ابن حضير)) قال: فقرأت ثم جالت أيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقرأ يا ابن حضير)) قال: فانصرفت وكان يحيى قريباً منها فخشيت أن تطأه فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تلك الملائكة كانت تتسمع لك ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم)) خرجه البخاري تعليقاً وفيه كان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه.
الباب الرابع والعشرون فيما نتالي القرآن في الصلاة وخارجها ولمستمعه من الثواب العظيم والأجر الجسيم
قال الليث بن سعد يقال: ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع(1/100)
القرآن لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} ولعل من الله واجبة.
قال المؤلف رحمه الله: وإذا كان هذا الثواب لمستمع القرآن فكيف بتاليه؟! وفي الخبر أنه يدفع عن مستمعه بلوى الدنيا, وعن تاليه بلوى الآخرة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من استمع إلى آية من كتاب الله له ألف حسنة مضاعفة ومن تلا آية من كتاب الله تعالى كانت له نوراً يوم القيامة)) خرجه الوايلي أبو نصر من حديث إسماعيل بن عياش عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس فذكره وقال ابن عباس: من سمع آية من كتاب الله تعالى كانت له نوراً يوم القيامة. ذكره مكي رحمه الله الترمذي ثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال: ثنا الضحاك بن عثمان عن أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ حرفاً من كتاب الله عز وجل فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها, ولا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود رواه أبو الأحوص عن عبد الله ورفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال المؤلف رحمه الله: وأنبأنا ابن رواح عن الحافظ السلفي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين الفراء الموصلي أنا أبو القاسم عبد العزيز ابن الحسن بن الضراب قال: أخبرني أبي قال: حدثنا أحمد بن مروان قال: ثنا أحمد بن علي قال: ثنا ابن حبيق قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: من قرأ القرآن زوجه الله بكل حرف زوجتين من الحور العين وليس ألم(1/101)
حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف.. وخرج أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي في الثامن عشر من المواعظ بإسناده عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من صلى منكم بالليل فليهجر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته ويستمعون لقراءته، وأن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته، وأنه ليطرد بجهر قراءته عن داره والدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين، وإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن عليه خيمة من نور يهتدي بها أهل السماء كما تهتدون بالكوكب الدري في لجج البحار، وفي الأرض القفر، وإذا مات صاحب القرآن رفعت تلك الخيمة فتنظر الملائكة من السماء فلا يرون ذلك النور، قال: فتنعاه الملائكة من سماء إلى سماء قال: فتصلي الملائكة على روحه في الأرواح فتستقبل الملائكة الحافظين الذين كانوا معه فيعزونهما ثم تستغفر له الملائكة إلى يوم يبعث)) قال: ((وما من رجل تعلم كتاب الله عز وجل ثم يصلي ساعة من الليل إلا أوصت تلك الليلة الماضية الليلة المستقبلة لأن تنبهه لساعته وأن تكون عليه خفيفة، فإذا مات رفعت تلك الخيمة وكان أهله في جهازه يجيء –يعني ثواب القرآن- في صورة حسنة جميلة فيكون واقفاً عند رأسه حتى يدرج في أكفانه فيكون القرآن على صدره دون الكفن فإذا وضع في قبره وسوى عليه التراب وافترق عنه أصحابه أتي منكر ونكير فيجلسانه في قبره يجيء القرآن حتى يكون بينه وبينهما فيقولان له: إليك حتى نسأله فيقول: كلا ورب الكعبة إنه لصاحبي وخليلي ولست أخذله على حال، فإن كنتما أمرتما بشيء فامضيا لما أمرتما ودعاني مكاني فإني لست أفارقه إن شاء الله تعالى، ثم ينظر القرآن إلى صاحبه فيقول: اسكن وابشر فأنت ستجدني من الجيران جار صدق،(1/102)
ومن الأخلاء خليل صدق، ومن الأصحاب صاحب صدق، فيقول له: من أنت؟ فيقول القرآن: أنا الذي كنت تجهر بي وتخفيني وكنت تحبني فأنا حبيبك ومن أحببته أحبه الله, وليس عليك بعد مسألة منكر ونكير من غم ولا هم ولا حزن ويسأله منكر ونكير فيصعدان ويبقى هو والقرآن, فيقول له لأفرشنك فراشاً ليناً ولأدثرنك دثاراً حسناً جميلاً جزاء لك بما أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. قال: فيصعد القرآن إلى الله كمر الطرف فيسأل الله عز وجل ذلك له فيعطيه الله ذلك له, فينزل به ألف ملك من مقربي السماء السادسة, فيجيئه القرآن فيقول هل استوحشت؟ ما زلت مذ فارقتك أن كلمت الله عز وجل حتى أخرجت لك منه فراشاً ودثاراً ومصباحاً وقد جئتك به, فقم حتى تفرشك الملائكة قال: فتنهضه الملائكة إنهاضاً ليناً ثم تفسح له في قبره ثم يوضع له فراش بطائنه من حرير أخضر حشوه المسك الأذفر, ويوضع له إبريق عند رأسه ورجليه وسراج يدومن إلى يوم القيامة, ثم تضجعه الملائكة على شقه الأيمن مستقبل القبلة ثم تبتهج الملائكة في وجهه ثم يزودونه بياسمين من ياسمين الجنة وتصعد عنه ويبقى هو والقرآن, فيأخذ القرآن الياسمين فيضعه على أنفه غضاً فيستنشق حتى يبعث, ويرجع القرآن إلى أهله فيأتيه بخبرهم كل يوم كما يتعاهد الوالد الشفيق ولده بالخير فإن تعلم أحد من ولده القرآن بشره بذلك وإن كان عقبه عقب سوء دعا لهم بالصلاح والإقبال)) وخرج أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين, ومن قام بمائة كتب من القانتين, ومن قام بألف كتب من المقنطرين)) وقد تقدم. وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين, ومن قرأ ألف آية إلى خمسمائة آية(1/103)
أصبح وله قنطار من الأجر القيراط منه مثل التل العظيم))، ذكره مكي رحمه الله في كتاب الرعاية لتجويد القرآن. وخرج الوايلي عن أبي أمامة قال: من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار، ومن قرأ سبعمائة آية فتح له، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من الأجر القيراط من ذلك القنطار لا يقوم به دنياكم. وخرج من حديث ابن لهيعة عن زياد بن فايد عن سهل ابن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب مع النبيين والصديقين والشهداء إن شاء الله تعالى)) وخرج أيضاً بإسناده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار، ومن قرأ سبعمائة آية فتح له)) قال: حديث غريب بهذا الإسناد. وخرج عن قطر عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا معشر التجار أيعجز أحدكم إذا رجع من سوقه أن يقرأ عشر آيات فيكتب له بكل آية حسنة)) وخرج ابن شاهين أبو حفص عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ ثلاثين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ بمائة آية كتب له قنوت ليلة ومن قرأ بمائتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ بأربعمائة آية كتب من العابدين، ومن قرأ بستمائة آية كتب من الخاشعين، وإن قرأ بثمانمائة آية كتب من المحسنين، فإن قرأ بألف آية أصبح وله قنطار من الأجر)).
قال ابن شاهين: وحدثنا أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا حفص بن عمر بن حكيم قال: ثنا محمود ابن قيس الملائي عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من(1/104)
قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ أربعمائة آية أصبح وله قنطار من الأجر القنطار مائة مثقال المثقال عشرون قيراطاً القيراط مثل أحد)) وروى من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((درج الجنة على قدر آي القرآن لكل آية درجة فتلك ستة آلاف ومائتا آية وستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء والأرض فينتهي به إلى أعلا قبة في عليين لها سبعون ألف ركن وهي من ياقوتة تضيء مسيرة أيام وليال)) ذكره الميانسي القرشي أبو حفص عمر بن عبد المجيد وابن شاهين أيضاً عن ميمون بن مهران عن ابن عباس وزاد قال: وتصب عليه حلة الكرامة فلولا أنه ينظر إليها برحمة الله لأذهب تلألؤها بنظره. وخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه)) خرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يقال لصاحب القرآن اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) وفي رواية: ((فإن منزلتك من الدرجات عند آخر ما تقرأ)) ذكره مكي موقوفاً وقالت عائشة رضي الله عنها: إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة. وليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن. ذكره مكي رحمه الله موقوفاً وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن القرآن ليلقى صاحبه يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وأن كل تاجر من وراء تجارته اليوم، وإني من وراء كل تجارة، قال: فيعطي الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسي والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كسيتنا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال له: اقرأ(1/105)
واصعد في درج الجنة وغرفها، قال: فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً)) ذكر هذا الخبر الحليمي في كتاب منهاج الدين له. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وأرق، فإن كان بهذه أعطى بقدر هذه وإن كان يرتله أعطي بترتيله.
الباب الخامس والعشرون في ثواب من قرأ القرآن فأعربه
أسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري قال: ثنا أبي قال: ثنا إبراهيم بن الهيثم قال: ثنا أدم –يعني ابن أبي إياس- قال: ثنا أبو الطيب المروزي قال: ثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتبه له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات، وإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان بكل حرف عشرين حسنة فإن أعربه وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة)) وخرج أبو حفص عمر بن شاهين قال: حدثنا عبد الله بن سليمان قال: حدثنا الحسين بن علي بن مهران قال: حدثنا عبد الله بن هارون الغساني عن أبي عصمة عن زيد العمى عن سعيد ابن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قرأ القرآن على أي حال قرأه فله بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه ولحن بعضه كتب له بكل حرف عشرون حسنة فإن أعربه كله فله بكل حرف أربعون حسنة)) وخرج أبو نعيم الحافظ قال: ثنا أبو النصر شافع بن محمد بن أبي عوانة قال: حدثنا محمد بن عبد الله الفرغاني أخو رغل قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا عبد الرحمن بن(1/106)
يحيى قال: حدثنا مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ القرآن فأعربه كانت له عند الله دعوة مستجابة إن شاء عجلها له في الدنيا وإن شاء أدخرها له في الآخرة)) حديث غريب من حديث مالك تفرد به عبد الرحمن. وعن الشعبي قال: قال عمر: من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر شهيد. وقال مكحول: بلغني أن من قرأ القرآن بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وقال صلى الله عليه وسلم : ((أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه وفرائضه وحدوده)).
فصل قال العلماء: إعراب القرآن أصل في الشريعة لأن به تقوم معانيه التي هي الشرع. وروى سفيان عن أبي حمزة قال: قيل للحسن في قوم يتعلمون العربية: قال: أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم . وقيل له: إن لنا إماماً يلحن؟ قال: أخروه. وكان عمر يضرب ولده على اللحن. وذكر عن ابن مجاهد رحمه الله أنه قال: اللحن لحنان، لحن جلي، ولحن خفي، فاللحن الجلي لحن الإعراب. واللحن الخفي ترك إعطاء الحروف حقوقها من تجويدها عند مخارج الحروف. قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت غير واحد من الفقهاء يقول: إن الصلاة غير جائزة خلف من لا يميز بين الضاد من الظاء، ولم يفرق بينهما بمعرفة اللفظ. وذلك على ما حكوه لانقلاب المعنى وفساد المراد على ما بيناه في كتابنا في القراءات في باب مخارج الحروف.
وعن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابي في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأقرأه رجل براءة فقال: إن الله برئ من المشركين ورسوله بالجر، فقال الأعرابي:(1/107)
أو قد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن برئ من رسوله فأنا أبرئ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال له: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني فأقرأني هذا سورة براءة فقال: إن الله بريء من المشركين ورسوله فقلت: أو قد برئ الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: إن الله برئ من المشركين ورسوله. فقال الأعرابي: أنا أبرأ والله مما برئ منه الله ورسوله. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية، وأمر أبا الأسود فوضع النحو. وقد قيل: إن المعنى في الإعراب تمييز لسان العرب عن لسان العجم لأن أكثر كلام العجم مبني على السكون وصلاً وقطعاً، فلا يتميز الفاعل من المفعول والماضي من المستقبل فنهي الناس عن أن يقرؤوا القرآن إلا بلسان العرب وإلا كانوا تاركين للإعراب فيكون قد شبهوا من هذا الوجه بالأعجمية.
الباب السادس والعشرون في فضل قراءة السر على الجهر والجهر جائز
روى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عتبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)) قال الترمذي: حديث حسن غريب. ومعنى هذا الحديث أن الذي يسر بالقرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية. وإنما معنى هذا(1/108)
عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب لأن الذي يسر بالعمل لا يخاف عليه من العجب ما يخاف عليه من العلانية.
قال المؤلف رحمه الله: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فمن كان ضعيفاً يخاف على نفسه من العجب والرياء فالسر له أفضل، وأما من كان قوياً في دينه قد استوى عنده المدح وغيره وكان إماماً يقتدى به فالجهر في حقه أفضل إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال كريب: سألت ابن عباس عن جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة بالليل قال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها لفعل. وقالت أم هانئ: كنت أسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وأنا على عريشي وقال عبد الله بن قيس: سألت عائشة رضي الله عنها كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل أكان يجهر أو يسر؟ قالت: كلا قد كان يفعل ربما جهر وربما أسر، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة وكان أبو هريرة إذا قرأ رفع طوراً وخفض طوراً. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك قال العلماء: وإنما كان ذلك لأن القراءة إذا طالت فالجمع فيها بين الجبر والمخافتة أعون على الدوام، لأن المسر يمل فيما يسر فيأنس بالجهر، والجاهل يكل فيستريح بالأسرار إلا أن من قرأ بالليل جهر بالأكثر وأسر بالأقل، وإذا قرأ نهاراً أسر بالأكثر وجهر بالأقل إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة وربما يسمع الآية والآيتين أحياناً. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين في الظهر في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة وكان يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمعنا الآية أحياناً، وإذا قرأ بالنهار في بيت أو مسجد أو موضع لا لغو فيه ولم يكن في صلاة رفع صوته بالقراءة، فإن قرأ بالليل في جمع قد رفعت فيه(1/109)
الأصوات وكان يعلم أنه إن جهر لم ينصت له فلا ينبغي له أن يقرأ إلا سراً والله أعلم.
الباب السابع والعشرون فيما جاء فيمن تعلم القرآن وعلمه
البخاري قال: حدثنا حجاج بن المنهال قال: ثنا شعبة قال: أنا علقمة بن مرثد قال: سمعت سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ابن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن أو علمه)) قال: فأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله عنه حتى كان الحجاج. قال أبو عبد الرحمن: وذلك الذي أقعدني مقعدي هذا خرجه الترمذي أيضاً قال: ثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو داود قال: ثنا شعبة فذكره وقال: حديث حسن صحيح. ورواه من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من جهة عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي. وفي البخاري أيضاً عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه)) صححه الترمذي.
قال المؤلف رحمه الله: وأنبأ ابن رواج إجازة عن الحافظ السلفي قال: ثنا القاضي أبو عمرو مسعود بن علي بن الحسين الملحي بأردبيل قال: ثنا أبو علي محمد بن وشاح بن عبيد الله الكاتب ببغداد أنا أبو القاسم عيسى بن علي بن داود بن الجراح الوزير قال: ثنا أبو عبيد علي بن حسين ابن حرب القاضي قال: أخبرنا زكريا بن يحيى الكوفي ثنا عبد الله بن صالح اليماني قال: ثنا أبو همام القرشي عن سليمان بن المغيرة عن قيس بن مسلم عن(1/110)
طارق بن شهاب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق، وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك)).
فصل قال العلماء: تعليم القرآن أفضل الأعمال لأن فيه إعانة على الدين فهو كتلقين الكافر الشهادة ليسلم وإنما استنقص الناس المعلمين المعنيين أحدهما أنهم يقصرون زمانهم على معاشرة الصبيان الذين لا عقول لهم فيؤثر ذلك على تطاول الأيام في عقولهم كما يزاد عقل من عاشر الحكماء. وأبو عبد الرحمن السلمي وأشباهه لم يكونوا بهذه الصفة وإنما كانوا يلقن الواحد بعد الواحد آيات فيأخذها وينصرف ثم يجالس الكبراء ويستفيد منهم.
والوجه الآخر ما يجري منهم من الأطماع الكاذبة وأخذ الأشياء من الصبيان فلم يوقروا الوجود الشره منهم، ومن استحقر معلماً لأجل تعليمه خيف عليه. وقد بعث الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال سبحانه وتعالى: {علمه شديد القوى} وما تعلمه أول من تعلمه من الأمة إلا من النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان الأولون الذين ذكرنا أنهم كانوا يعلمون القرآن بمعزل عن هذه الرذائل فلذلك استحقوا المدح.
حديث عن حمزة رضي الله عنه
وروى مجاهد عن الزبير قال: دخلت على حمزة بن حبيب الزيات(1/111)
فوجدته يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: فكيف لا أبكي وقد رأيت ربي تبارك وتعالى الليلة في منامي كأني قد أعرضت على الله تعالى فقال لي: يا حمزة اقرأ القرآن كما علمتك فوثبت قائماً، فقال لي: يا حمزة اجلس فإني أحب أهل القرآن، ثم قال لي: اقرأ فقرأت حتى بلغت سورة طه فقرأت: {بالواد المقدس طوىً وأنا اخترتك} فقال لي: يا حمزة بين فقال: طوى وإنا اخترناك ثم قال لي: اقرأ فقرأت حتى بلغت سورة يس فأردت أن أغطي فقلت: تنزيل العزيز الرحيم فقال جل وعز قل تنزيل العزيز الرحيم يا حمزة كذا قرأت وكذا أقرأت حملة عرشي وكذلك يقرأ المقرؤن، ثم دعا بسوار فسورني وقال جل وعز هذا بقراءتك الناس، ثم دعا بمنطقة فمنطقني فقال جل وعز هذا بصومك النهار، ثم دعا بتاج فتوجني ثم قال: جل وعز هذا بإقرائك الناس، يا حمزة لا تدع تنزيلاً فإني أنزلت تنزيلاً، أفتلومني على أن أبكي؟!
ويقال أن حمزة هذا كان ورعاً زاهداً لم يوصف أحد من القراء السبعة بما وصف به حمزة رضي الله عنه من الزهد والتحرز عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنه روى الحديث الذي فيه التغليظ في أخذ الأجرة على تعليم القرآن فمتذهب به رضي الله عنه وسيأتي.
مسلم عن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان –أو إلى العقيق- فيأتي منه بناقتين كومايتين في غير أثم ولا قطيعة رحم))؟ فقلنا: يا رسول الله كلنا يحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين(1/112)
من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)). وقالت عائشة رضي الله عنها:ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير فقال: ((أو لم تروه يتعلم القرآن))؟ وروي يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من علم ولده القرآن قلده الله بقلادة يعجب منها الأولون والآخرون من حسنها)).
الباب الثامن والعشرون في دفع البلاء بتعلم القرآن
ذكر أبو محمد الدارمي في مسنده قال: ثنا مروان بن محمد قال: أخبرنا رفدة الغساني قال: أخبرني ثابت بن عجلان الأنصاري قال: كان يقال إن الله تعالى ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم. قال مروان: يعني بالحكمة القرآن. وفي الخبر عن حذيفة مرفوعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقول صبي من صبيانهم في الكتاب: الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة)).
قال المؤلف رحمه الله: ومن هذا المعنى ما ذكر الخطيب أحمد بن علي ابن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن فتنزل الملائكة فيأخذون بأطراف الأرض ولا يزالون يقرأون (قل هو الله أحد) حتى يسكن غضبه سبحانه وتعالى.(1/113)
الباب التاسع والعشرون في أخذ الأجرة على تعليم القرآن
اختلف العلماء في أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعلمه فمنع ذلك الزهري وأبو حنيفة وأصحابه وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على ذلك لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام. واحتجوا من الأثر بما روى عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((معلموا صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين)) وروي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما تقول في المعلمين؟ قال: ((درهمهم حرام وثوابهم سحت وكلامهم رياء)) وروي عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوساً فقلت: ليس بمال وأرمي بها في سبيل الله، فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فأقبلها)).
فصل وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس في حديث الرقية: ((إن الحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) خرجه البخاري وسيأتي وهو نص يرفع الخلاف ينبغي أن يعول عليه. وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لأنه في مقابلة النص، ثم إن بينهما فرقاناً وهو أن الصلاة والصيام عبادة مختصة بالعامل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولة النقل كتعليم كتابة القرآن، قال ابن المنذر وأبو حنيفة: يكره تعليم القرآن بالأجرة، ويجوز(1/114)
أن يستأجر الرجل يكتب له لوحاً أو شعراً أو غناءً معلوماً بأجر معلوم فيجوز الأجرة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة!
وأما الأحاديث فليس يصح منها شيء عند أهل العلم بالحديث، أما حديث العباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة وسعيد متروك، وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبي جرهم وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك أيضاً وهو حديث لا أصل له وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه وأبو المغيرة معروف بحمل العلم ولكن له مناكير هذا منها قاله أبو عمر بن عبد البر ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لكنه عن عبادة من وجهين وروى عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي وهو منقطع وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجراً والله أعلم. وروى عن أبي بن كعب أنه كان يختلف إلى رجل بالمدينة فيقرئه القرآن فإذا فرغ من قراءته يومه ذلك دعا له بطعام فجال في نفسه منه شيء فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: ((إن كان ذلك طعامه الذي يأكل ويأكل أهله فكله وإن كان ذلك طعاماً يخصك به فلا تأكل)) ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له وقال: يكون معناه إن كان ذلك طعامه الذي يأكله ويأكله أهله فكل فإنه شيء أخرجه من قلبه بأن يؤكل وإنما أنت كأحد الأضياف، وإن كان طعاماً يخصك به فلا تأكل لأنه لا أن يكون ألزم نفسه زيادة مؤنة فيتحملها استحياء منه فيخصه به وليس هو على جهة التحريم بل هو مكروه والله أعلم.(1/115)
الباب الموفى ثلاثين في إضاءة البيت الذي يقرأ فيه القرآن وكثرة خيره
الطبري قال: ثنا عمران بن موسى القزاز قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: ثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابق قال: أكثروا تلاوة القرآن في بيوتكم فإن البيت الذي يذكر فيه الله, أو أن البيت الذي يقرأ فيه القرآن ليتسع على أهله ويكثر خيره وتحضره الملائكة ويدحر عنه الشيطان. وكان يقول: أعمروا بيوتكم بذكر الله ولا تتخذوها قبوراً كما اتخذت اليهود والنصارى بيوتهم واجعلوا لها من صلاتكم جزءاً فإن البيت الذي يذكر الله فيه يضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض قال وحدثني أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال: حدثني نايل بن نجيح الحنفي قال: حدثني قطبة الكناني عن الحسن بن عمارة عن طلحة بن عبد الرحمن بن سابق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نوروا بيوتكم بذكر الله واجعلوا لبيوتكم من صلاتكم جزءاً ولا تتخذوها قبوراً كما اتخذها اليهود والنصارى فإن البيت الذي يذكر الله فيه لينير لأهل السماء كما تنير النجوم لأهل الأرض)).
قال المؤلف رحمه الله: وهذان الحديثان وإن كان في إسنادهما مقال فهما يستندان من وجه صحيح. وروي مسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب قالا: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)). قال: وحدثنا عبد الله بن تراد الأشعري ومحمد بن العلاء قالا: ثنا أبو أسامة(1/116)
عن بريدة عن أبي بريدة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)). وقال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: ثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ليفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)).
الباب الحادي والثلاثون في ترتيل القراءة والترسل فيها والإنكار على من خالف ذلك وجوازه
قال الله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} وقالت حفصة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
البخاري قال: ثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا حريز بن حازم الأزدي قال: ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مداً. حدثنا عمرو بن عاصم قال: ثنا همام عن قتادة قال: سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. وروي الترمذي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته فيقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف, الرحمن الرحيم ثم يقف, وكان يقرؤها مالك يوم الدين قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: قول أم سلمة كان يقطع قراءته يدخل(1/117)
فيه جميع ما كان يقرؤه عليه السلام من القرآن وإنما ذكرت فاتحة الكتاب لتبين صفة التقطيع, أو لأنها أم القرآن فيغني ذكرها عن ذكر ما بعدها كما يغني قراءتها في الصلاة عن قراءة غيرها لجواز الصلاة بها وإلا فالتقطيع عام لجميع القراءة لظاهر الحديث, وتقطيع القراءة آية آية أولى عندنا من تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهائها لحديث أم سلمة رضي الله عنها.
وفي حديث مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة ثم يركع فمضى فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فيقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلاً نحواً مما ركع ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه. وفي حديث من الزيادة فقال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد. وخرج الوايلي أبو نصر عن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أن رجالاً يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثاً فقالت: أولئك يقرؤا ولم يقرؤن، كنت أقوم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها دعاء واستبشار إلا دعا ورغب ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ. وفي صحيح مسلم عن شقيق قال: جاء رجل من بني بجيلة يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة؟ فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر. الهذا متابعة القرآن في سرعة. واختلفوا في أول المفصل فقال بعضهم: أوله سورة القتال، وقال آخرون: أوله سورة قاف، وروى ذلك في حديث مرفوع وسمي قصار المفصل مفصلاً لكثرة(1/118)
الفصول فيها. لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في كل ركعة، في رواية قال: فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة. وخرج أبو داود عن علقمة والأسود قالا: أتى ابن مسعود رجل فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة فقال: هذا كهذا الشعر، ونثراً كنثر الدقل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر والسورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وعم يتسائلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة.
قال أبو داود: هذا تأليف عبد الله.
قال المؤلف رحمه الله: النظائر والقرائن هي السور المتقاربة في المقدار، وقد جاء عددها في صحيح مسلم ثمان عشرة كما ذكر أبو داود في رواية عشرين وقد زاد أبو داود في رواية ابن الأعرابي والمدثر والمزمل فكملت عشرون. وروي الوايلي عن إبراهيم عن نهيك بن سنان عن عبد الله قال: لقد علمت النظائر التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر النجم والرحمن والدخان وعم يتساءلون. وروى عن شقيق عن أبي وائل قال: قال عبد الله: لقد علمت النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاريات والطور والنجم واقتربت الساعة والرحمن والواقعة ون والقلم والحاقة وسأل سائل والمزمل والمدثر ولا أقسم بيوم القيامة، وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت وحم الدخان.
قال المؤلف رحمه الله: ولا بعد في شيء مما ذكرنا لأنه يحتمل أن يكون عليه السلام قرن في وقت بين ثماني عشرة وفي أخرى بين عشرين وفي(1/119)
وقت بين سورتين كما ذكر أبو داود وفي وقت آخر قرن بين سورتين غير التي قرن بهما في الوقت الآخر كما ذكر الوايلي فتتفق الروايات ولا تتضاد والحمد لله. وذكر ابن مسعود النظائر رداً على من قرأ المفصل في ركعة واحدة وهذا في قراءته.
وأكثر العلماء يستحبون الترتيل في القراءة ليتدبره القارئ ويفهم معانيه. وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك في الهذ في القراءة فقال: من الناس من إذا هذ كان أخف عليه وإذا رتل أخطأ ومن الناس من لا يحسن هذا والناس في هذا على قدر درجاتهم وما يخف عليهم وكل واسع. وقد روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يختمون القرآن في ركعة وهذا لا يمكن إلا بالهذ والله أعلم.
الباب الثاني والثلاثون في حسن بالقرآن وترك الترجيع والتطريب فيه وما للعلماء في ذلك
ابن ماجه قال: حدثنا بشر بن معاذ الضرير قال: ثنا عبد الله بن جعفر المدني قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن من أحسن الناس صوتاً من إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله تعالى)) قال: وحدثنا راشد بن سعيد البرمكي قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: ثنا إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته)) وقال: حدثنا محمد بن رمح ثنا يزيد بن هارون ثنا محمد بن عمرو عن(1/120)
أبي سلمة عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فسمع قراءة رجل فقال: ((من هذا))؟ فقيل: هذا عبد الله بن قيس. فقال: ((لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود)) خرجه مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن عبد الله بن قيس -أو الأشعري- أعطي مزماراً من مزامير آل داود)) كذا جاء في هذه الرواية على الشك. وفي رواية عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: ((لو رأيتني وأنا أسمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) وخرجه البخاري أيضاً.
واختلف العلماء في التطريب في القراءة والترجيع فيها فمنع من ذلك وأنكره مالك بن أنس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم, وكرهه أحمد بن حنبل كما كرهه مالك رحمهم الله.
وأجاز ذلك طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه, والشافعي وأصحابه وابن المبارك والنضر بن شميل, واختاره الطبري وابن العربي وغيرهما. واحتجوا بقوله عليه السلام : ((زينوا القرآن بأصواتكم)) رواه البراء بن عازب أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وبقوله عليه السلام : ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيراً. وبما رواه عبد الله بن مغفل قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته.
قال المؤلف رحمه الله: والقول الأول أصح إن شاء الله تعالى. بيانه ما روى عن زياد النميري؟ أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب –وكان رفيع الصوت- فكشف أنس عن وجهه(1/121)
-وكان على وجهه خرقة سوداء- فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون, وكان إذا رأى شيئاً ينكره كشف الخرقة عن وجهه. وروى عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم بالناس فطرب في قراءته فأرسل إليه سعيد ابن المسيب يقول: أصلحك الله إن الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد. وروى عن القاسم بن محمد أن رجلاً قرأ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرب فأنكر ذلك القاسم وقال: يقول الله عز وجل: {كتابٌ عزيزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ}. وروى عن مالك رحمه الله أنه سئل عن النثر في القراءة للقرآن في الصلاة فأنكر ذلك وكرهه كراهة شديدة وأنكر رفع الصوت به، وروي ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال: لا يعجبني وقال: إنما هو غناء يتمتعون به. أو قال: يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وروي ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الأذان سمح سهل فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن)) أخرجه الدار قطني في سننه.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد منع ذلك في الأذان فأحرى أن لا يجوزه في قراءة القرآن الذي حفظه الرحمن فقال وقوله الحق: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال جل وعز: {كتابٌ عزيزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ}.(1/122)
وقد تقدم في الباب قبله كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل لم يكن فيها تطريب ولا ترجيع وإنما كنت مداً. وأما ما احتج به المخالف من قوله صلى الله عليه وسلم : ((زينوا القرآن بأصواتكم)) فليس على ظاهره وإنما هو من باب المقلوب، أي زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: وهكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث زينوا أصواتكم بالقرآن وقالوا: هو من باب المقلوب كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر عن منصور عن طلحة فقدم الأصوات على القرآن وهو الصحيح قال الخطابي: ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((زينوا أصواتكم بالقرآن)) أي الهجوا بقراءته واشغلوا به أصواتكم واتخذوه شعاراً وزينة. وقيل: معناه الحض على قراءة القرآن والدؤوب عليه. وقد روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((زينوا أصواتكم بالقرآن)) وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حسنوا أصواتكم بالقرآن.
قال المؤلف رحمه الله: وإلى هذا المعنى يرجع قوله صلى الله عليه وسلم : ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن. كذلك تأوله عبد الله بن زيد وابن أبي مليكة. قال عبد الله بن زيد: مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فإذا رجل رث الهيئة فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع ذكره أبو داود وإليه يرجع أيضاً قول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبرته لك تحبيراً. أي لحسنت صوتي(1/123)
بالقرآن وزينته به ورتلته. وهذا يدل على أنه كان يهد في قراءته مع حسن صوته الذي جبل عليه, والتحبير التزيين والتحسين, فلو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه لمد في قراءته, ورتلها كما كان يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك زيادة في حسن صوته بالقرآن وهو معني ما روي عن عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه قال: ما أدركت رجلاً من المهاجرين إلا وقد سمعته يترنم بالقرآن. ومعنى حديث البخاري في ترجيع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة سورة الفتح وترنمه فيها على ما يأتي, ومعاذ الله أن يتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إن القرآن يزين بالأصوات أو بغيرها فمن تأول هذا فقد واقع أمراً عظيماً أن يحوج القرآن إلى ما يزينه وهو النور والضياء والزين الأعلى لمن ألبس بهجته, واستنار بضيائه. وقد قيل إن الأمر بالتزيين اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك أن زينوا القراءة بأصواتكم فيكون القرآن بمعنى القراءة كما قال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}. أي قراءة الفجر. وقوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}. أي قراءته. وكما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان بن داود عليهما السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً. أي قراءة. قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً(1/124)
أي قراءة. فيكون معناه على هذا التأويل صحيحاً إلا أن يخرج القراءة التي هي التلاوة عن حدها على ما بينته فيمتنع. وقد قيل إن معنى يتغنى به يستغني به من الاستغناء الذي هو ضد الافتقار لا من الغناء. يقال تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت, وأغناه الله وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض. قال الجوهري: تغني الرجل بمعنى استغنى. قال المغيرة بن حنبا التميمي:
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح. ورواه سفيان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد روي عن سفيان أيضاً وجه آخر ذكره إسحاق بن راهويه أي يستغن به عما سواه من الأحاديث. وإلى هذا التأويل ذهب البخاري محمد بن إسماعيل لإتباعه الترجمة في كتابه بقوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}. والمراد الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم قاله أهل التأويل. وقيل إن معنى يتغنى به يتحزن به أي يظهر على قارئه الحزن الذي هو ضد السرور عند قراءته وتلاوته وليس من الغنية لأنه لو كان من الغنية لقال يتغانى به ولم يقل يتغنى به. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم الحليمي على ما نذكره عنه آخر الباب وهو قول الليث بن سعد وأبي عبيد ومحمد بن حبان البسي واحتجوا بما رواه مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء -الأزيز بزائين أي صوت الرعد(1/125)
وغليان القدر- قالوا ففي هذا الخبر بيان واضح على أن المراد بالحديث التحزن وعضدوا هذا بما رواه الأئمة عن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقرأ علي)) قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت، {فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}. فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان. وروي ابن ماجه قال: ثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي: ثنا الوليد بن مسلم: ثنا أبو رافع عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن ابن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص وقد كف بصره فسلمت عليه فقال: من أنت؟ فأخبرته فقال: مرحباً بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا)) وهذا نص. وقال أبو عبيدة: ومجمل الأحاديث التي جاءت في حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق يبين ذلك حديث أبي موسى إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سمعن قراءته فأخبر بذلك فقال: ((لو علمت لشوقت تشويقاً وحبرت تحبيراً)) قال أبو عبيد: فهذا وجهها لا الألحان المطربة الملهية.
قال المؤلف رحمه الله: فهذه أربع تأويلات ليس فيها ما يدل على القراءة بالألحان والترجيع فيها.
التأويل الخامس ما تأوله من يستدل به على الترجيع والتطريب فذكر عمر بن شبة قال: ذكرت لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في(1/126)
قوله يتغنى يستغني فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئاً. وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغناء لقال: من لم يستغن ولكن لما قال: يتغنى علمنا أنه أراد التغني. قال الطبري: المعروف من كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، وقال الشاعر:
تغن بالشعر مهما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
قال: وأما الذي زعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فليس في كلام العرب وأشعارها ولا نعلم أن أحداً من أهل اللغة قاله. وأما استشهاده بقوله: ونحن إذا متنا أشد تغانياً فإنه إغفال منه، وذلك أن التغاني تفاعل من نفسين إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، ومن قال هذا في فعل الاثنين لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد وغير جائز أن يقال: تغنى بمعنى استغنى.
قال المؤلف رحمه الله: وأما ما ادعاه الطبري رحمه الله أنه لم يرد في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى فقد ذكره تاج اللغة في الصحاح كما ذكرناه وذكره الهروي أيضاً في غريبه وحسبك بهما. وأما قوله: إن صيغة فاعل إنما تكون من اثنين فقد جاءت من واحد في مواضع كثيرة منها قول ابن عمر: وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام. وتقول العرب: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وداويت العليل، وهو كثير. فيكون تغاني منها. وإذا احتمل قوله عليه السلام: تغنى الغناء والاستغناء فليس حمله على أحدهما بأولى من الآخر بل حمله على الاستغناء أولى لو لم يكن لنا تأويل غيره لأنه مروي عن صحابي كبير كما ذكر سفيان. وقد قال ابن وهب في حق(1/127)
سفيان: ما رأيت أعلم بتأويل الأحاديث من سفيان بن عيينة. ومعلوم أنه رأي الشافعي.
وتأويل سادس وهو ما جاء من الزيادة في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أذن الله لنبي كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) رواه من طرق. قال الطبري: ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى.قلنا: قوله يجهر به, قال بعض علمائنا رحمة الله عليهم: لا يخلو أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه أو غيره. وأيهما كان فليس فيه دليل على ما راموه لأنه لم يقل يطرب به, وإنما قال: يجهر به والعرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به غانياً وفعله ذلك غناء وإن لم يلحن بتلحين الغناء. وعلى هذا فسره الصحابي وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال.
قال المؤلف رحمه الله: قوله يجهر به هو تفسير أم سلمة وأبي هريرة رضي الله عنهما ويدل على صحة هذا ما رواه ابن ماجه في سننه قال: حدثنا العباس بن عثمان الدمشقي قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء ثم جئت فقال: ((أين كنت))؟ قالت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد, قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له ثم قال: ((هذا سالم مولى أبي حذيفة, الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا)) ووجه الدليل منه قولها لم أسمع مثل قراءته وصوته ولم تقل مثل ترجيعه وتطريبه وتغنيه والله أعلم. وقد احتج أبو الحسن بن بطال لمذهب(1/128)
الشافعي رحمه الله تعالى فقال: وقد رفع الأشكال في هذه المسألة ما رواه ابن أبي شيبة قال: ثنا زيد بن الحباب قال: ثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من المخاض من العقل)).
قال المؤلف رحمه الله: وهذا الحديث وإن صح سنده فقد عارضه غير ما حديث حسبما تقدم وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيان قراءته على أنه يحتمل أن يكون معنى وغنوا به أي الهجوا بتلاوته وذكره كما تقدم.
والدليل على هذا ما يعلم على القطع والبيان من أن قراءة القرآن بلغتنا متواترة جيلاً فجيلاً إلى العصر الكريم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيها تلحين ولا تطريب مع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفي المد والإظهار والإدغام وغير ذلك من كيفية القراءات. ثم إن في الترجيع والتطريب همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود فترجيع الألف الواحدة ألفات والشبهة الواحدة شبهات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك ممنوع وإن وافق ذلك موضع نبر صيروها نبرات وهمزات والنبرة حيث ما وقعت من الحروف إنما هي همزة واحدة لا غير إما ممدودة وإما مقصورة. فإن قيل: فقد روى عبد الله بن المغفل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له عام الفتح على راحلته فرجع في قراءته؟ وذكر البخاري قال في صفة الترجيع أثلاث مرات؟ قلنا ذلك محمول على إشباع المد في موضعه ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكباً من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هذا المركوب وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه.
قال المؤلف رحمه الله: وهذا الخلاف إنما هو ما لم يبهم معنى القرآن(1/129)
بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه فذلك حرام باتفاق كما يفعل بالديار المصرية الذين يقرؤون أمام الملوك والجنائز ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز ضل سعيهم وخاب عملهم فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله عز وجل بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه جهلاً منهم بدينهم وخروجاً عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ورفضاً لسيرة الصالحين فيه عن سلفهم ونزوعاً إلى ما زين لهم الشيطان من أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً خاب سعيهم وضل عملهم فهم في غيهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. لكن قد أخبر الصادق أن ذلك يكون فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم .
ذكر الإمام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبد الله الترمذي الحكيم من حديث حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم)) اللحون جمع لحن وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ويشبه هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرؤون بها ما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالترجيع في القراءة ترديد الحروف كقراءة النصارى والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالثغر المرتل وهو المشبه بنور الأقحوان وهو المطلوب في قراءة القرآن حسب ما تقدم أول الباب، والله الموفق للصواب.(1/130)
وقال الحليمي: والذي يظهر بدلالة الأخبار أنه أراد بالتغني أن يحسن القارئ صوته مكان ما يحسن المغني صوته بغنائه إلا أنه يميل به نحو التحزن دون التطريب إذ قد عوض الله من غناء الجاهلية خيراً منه وهو القرآن، فمن لم يحسن صوته بالقرآن ولم يرص به بدلاً من ذلك الغناء فليس منا. إلا أن قراءة القرآن لا يدخلها من التغني وفضول الألحان وترديد الصوت ما يلبس المعنى ويقطع أوصال الكلام كما قد دخل ذلك كله الغناء وإنما يليق بالقرآن حسن الصوت والتحزين به دون ما عداهما.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحسن الناس قراءة؟ قال: ((من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى)) وقال: ((إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن)) أو كما قال.
الباب الثالث والثلاثون في الآداب التي تلزم حامل القرآن وقارئه من التعظيم للقرآن وحرمته
قال المؤلف رحمه الله: هذا الباب إذا تتبعت أحاديثه ومعانيه يقوم منها كتاب، ونحن نذكر من ذلك على جهة التقريب والاختصار، دون التطويل والإكثار، ما كان فيه مقنع وغنية، لأولى الأبصار والنهية.
فأول ذلك أن لا يمس المصحف إلا طاهر لقوله عليه السلام في كتاب عمرو بن حزم: ((لا يمس القرآن إلا طاهر)) رواه مالك وغيره.
وقال بعض السلف: ما دخلت بيتاً منذ ثلاثين سنة وفيه مصحف إلا وأنا على وضوء. وكان بعضهم إذا كان في بيت فيه المصحف لم ينم تلك الليلة مخافة أن يخرج منه ريح في بيت فيه مصحف.(1/131)
ومنها أن يقرأه وهو على طهارة بالقراءة المستفيضة دون الغرائب والشواذ لأن في المشهور مندوحة عن الشواذ فكان تركها أحوط لئلا يتقرب إلى الله عز وجل بقراءة ما لا يمكن القطع بأنه من عنده من غير ضرورة وليس ذلك كالأخبار الخاصة تقبل من الأفراد بعد أن يكونوا عدولاً لأنه لا يوجد في الباب ما هو أقوى منها فتكون الضرورة هي المؤدية إلى قبولها.
ومنها أن يستاك ويتخلل ويطيب فاه إذ هو طريق القرآن. قال يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نظفوا أفواهكم فإنها مجاري القرآن)) وكان عليه السلام إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يريد الصلاة وقراءة القرآن، وقال: ((السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب)). لأن المستن يطهر الفم لقصده إلى التلفظ بحروف القرآن وهو راجع إلى تعظيم القرآن. وقال صلى الله عليه وسلم : ((إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن ثم قام يصلي أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم تستن أطاف به ولم يضع فاه على فيه)) ومعنى قوله: استن أستاك افتعل من السنة لأن السواك سنة.
ومنها يستحب أن يستوي له قاعداً أن كان في غير الصلاة ولا يكون متكئاً.
ومنها يستحب أن يتطيب ويتلبس له كما يتلبس للدخول على الأمير فإنه مناج ربه بكلامه. وقال عون بن عبد الله: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تعجبه الثياب الحسنة النظيفة والريح الطيب إذا قام إلى الصلاة. وعن أبي العالية أنه كان إذا قرأ أتمم ولبس ثيابه وارتدى(1/132)
واستقبل القبلة. وقال تميم الداري: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام بالليل يتهجد اغتلف بالغالية. وقال مجاهد: كانوا يكرهون أكل الثوم والكراث والبصل من الليل، ويستحبون أن يمس الرجل عند قيامه طيباً إذا قام من الليل يمسح شاربه وما أقبل من اللحية. وقال قتادة: ما أكلت الثوم منذ قرأت القرآن. وكان مجاهد إذا قرأ أو صلى فإن وجد ريحاً أمسك عن القراءة حتى يذهب ذلك الريح الذي يشمه.
ومنها يستحب أن يستقبل القبلة عند الذكر والقراءة لقوله صلى الله عليه وسلم : ((خير المجالس ما استقبل به القبلة)).
ومنها يستحب أن يتمضمض كلما تنخع. روي شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه كان يكون بين يديه تور فيه ماء إذا تنخع تمضمض ثم أخذ في الذكر، وكان كلما تنخع تمضمض.
ومنها يستحب إذا تثاءت أن يمسك عن القراءة لأنه مخاطب ربه ومناج والتثاؤب من الشيطان. قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القراءة تعظيماً حتى يذهب تثاؤبك. وقال عكرمة: يريد أن في ذلك الفعل إجلالاً للقرآن.
ومنها يستحب أن يستعيذ بالله عند ابتدائه القراءة من الشيطان الرجيم ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إن كان ابتداء قراءته من أول السورة أو من حيث بلغ، ويقال: لا تكون البسملة إلا في أوائل السور لا غير.
ومنها يستحب إذا أخذ في سورة لم يشغل عنها حتى يفرغ منها إلا من ضرورة. وكذلك إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة ولا يخللها بكلام الآدميين من غير ضرورة فإن فيه استخفافاً بالقرآن كما لو قطع(1/133)
مكالمة أحد فيحدث غيره ممن هو دونه فإن فيه استخفافاً بذلك، ولأن في إتباع القرآن بعضه بعضاً بالقراءة من البهجة ما يظهر عند الإتباع، ويخفي عند التقطيع وفي سلب زينة قراءة القرآن. فلذلك كان مكروهاً.
ومنها ينبغي أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة التي استعاذ بها في البدء وقال يحيى بن معاذ: أشتهي من الدنيا شيئين: بيتاً خالياً، ومصحفاً جيد الخط أقرأ فيه القرآن.
ومنها ينبغي أن يقرأه على تؤدة وترتيل كما تقدم بيانه ولا يهد فإن التفكر أمكن منه عند الترتيل منه عند الهد فكان الترتيل بالذكر أولى فيستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به.
ومنها ينبغي أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد ويستجير بالله منه كما تقدم في حديث حذيفة. وكذلك ينبغي له أن يقف على أمثاله فيتمثلها.
ومنها ينبغي له إذا مر بآية سجدة فيها فإن ذلك عمل متوارث وشريعة ظاهرة، إلا ما اختلف فيه من السجود في المفصل وآخر سورة الحج وسجدة ص وليس هذا موضع ذكر ذلك، فمن جعلها من العزائم سجد فيها في الصلاة. وقال الشافعي: سجدة ص ليست من العزائم فلا يسجدها في الصلاة لأنها سجدة شكر ولا يصلح سجود الشكر في الصلاة. ولم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد هذه السجدة في الصلاة فإن وجد ذلك في رواية كانت كل سجدة للشكر مثلها.
ومنها يستحب أن يتعلم إعراب القرآن ويلتمس غرائبه، وقد مضى القول فيمن قرأه معرباً. وأما غرائبه فمعرفة لغته فيعرف معنى الفتيل(1/134)
والنقير والقطمير وأشباه ذلك من غرائب القرآن. قال ابن الأنباري: ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغرائبه معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام من الوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كاف.
ومنها يستحب أن يقرأه بالتفخيم. فإن زيد بن ثابت روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نزل القرآن بالتفخيم)) ومعناه أن يقرأ على قراءة الرجال ولا يخضع الصوت به فيكون مثل كلام النساء، ولا يدخل في هذا كراهيته الإمالة التي هي اختيار بعض القراء ويجوز أن يكون نزول القرآن نزل بالتفخيم ورخص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته وتكون هذه الرخصة نازلة على لسان جبريل عليه السلام أيضاً لكن لفظه بالتنزيل كان التفخيم دون الإمالة لأن الإمالة لا تجوز إلا في مواضع مخصوصة والفتح يطرد في الجميع علم أن التفخيم هو الأصل وهو اللغة القديمة السابقة والإمالة لا تجوز إلا لعلة تعرض على ما بيناه في كتاب الانتهاز في القراءات.
ومنها يستحب أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماماً فإن له بكل حرف عشر حسنات على ما تقدم من الحديث وإذا كان له بكل حرف عشر حسنات، فينبغي له أن لا يهمل حرفاً أثبته إمام فيكون قد أتى على جميع القرآن ولم يبق شيئاً فتكون ختمة أصح من ختمة إذا ترخص بحذف ما لا يضر حذفه ألا ترى أن صلاة من استوى في جميع شرائطها أتم ممن ترخص بترك ما يجوز تركه.
ومنها إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه ويشهد بالبلاغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويشهد على ذلك أنه حق فيقول: صدقت ربنا وبلغت رسل ربي ونحن على ذلك من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط(1/135)
ثم يدعو بدعوات من القرآن ويقرن ذلك بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً إذ كان الوقوف على القرآن والوصول إليه من قبله صلى الله عليه وسلم .
وأما من استوفى القرآن قراءة وختماً فإنه يرجع إلى أول القرآن فإنه يقرأ إلى قوله: {أولئك هم المفلحون}. فإن ذلك من آدابه حتى لا يبقى كهيأة المهجور. والأصل فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى؟ فقال: ((الحال المرتحل)) قيل: معناه الذي يصدر من أول القرآن إلى آخره ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم ذلك مفسراً، وهو أنه قيل له: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الحال المرتحل)) قيل: وما الحال المرتحل؟ قال: ((الخاتم المفتتح)). وروي من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((خير الأعمال افتتاح القرآن وختمه)) وعن صالح المري عن أيوب عن أبي قلابة يرفعه قال: من شهد فتح القرآن فكأنما شهد فتحاً في سبيل الله ومن شهد ختمه فكأنما شهد الغنائم وهي تقسم.
ومنها إذا قرأه أن لا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأ بها فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي بكر وهو يخافت، ومر بعمر وهو يجهر ومر ببلال وهو يقرأ من هذه السورة ومن هذه. فقال لأبي بكر: ((إني مررت بك وأنت تخافت))؟ فقال: إني أسمع من أناجي. قال: ((أرفع شيئاً)) وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تجهر))؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان. قال: ((أخفض شيئاً)) وقال لبلال: ((مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة))؟ فقال: أخلط الطيب بالطيب.(1/136)
فقال: ((اقرأ السورة على وجهها)).
قال الحليمي: وهذا أولى مما روي أنه سمع عماراً يقرأ من هذه ومن هذه فلما كلمه في ذلك قال: أفتسمعني أخلط به بما ليس منه؟ قال: لا، قال: فكله طيب. ولم يذكر أنه أنكر عليه. والذي فعله بلال هو الذي فعله عمار بعينه فكان ما روي من التصريح بالإنكار، والتغير أولى بالاعتماد من الرواية التي ليس فيها أكثر من السكت عن عمار. ولعل النظر إذا أنعم منع من إتيان حديث عمار لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر منه فعلاً فقابله عمار بالحجة فأمسك عنه وهذا عظيم. ولئن كان شيء من الأخبار يرد بضعف أحد من نقلته لرد هذا بخطأ متنه وهجنته أولى.
ومنها إذا قرأ في المصحف أن لا يتركه منشوراً ولا يضع فوقه شيئاً من الكتب ولا ثوباً ولا شيئاً خطيراً ولا حقيراً حتى يكون بهذا محفوظاً مكنوناً عالياً لسائر الكتب وغيرها وقد وصفه الله بأنه في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، فإذا كان فوق السماوات. مكنوناً محفوظاً وليس هناك إلا الملائكة المطهرون فلأن يكون فيما بيننا مكنوناً محفوظاً أولى، ألا ترى أنه منهى ألا يمسه إلا طاهر فأولى أن ينهي أن يعرضه للإهانة أو يغفل عنه فيصيبه غبار البيت إذا كنس أو الدخان، أو يعمل عليه حسابه أو مفتاح حانوته، إلا أن يكونا مصحفان فيوضع أحدهما فوق الآخر فيجوز.
ومنها أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شيء بين يديه ولا يضعه في الأرض.
ومنها أن لا يمحوه من اللوح بالبصاق، ولكن بغسله بالماء ويتوقى النجاسة من المواضع النجسة، والمواضع التي توطأ فإن لتلك الغسالة حرمة(1/137)
وكان من كان قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته. وفي التنزيل: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين}. وقال: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور}. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن خاتمة القرآن معوذتان لم يتعوذ الناس بمثلهما. ورقي أبو سعيد الخدري اللديغ بفاتحة الكتاب فبرأ وأعطوه قطيعاً من الغنم ثلاثين شاة. وفي الجملة أن الكلام مما يستشفى به وكانت عائشة رضي الله عنها تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فتقول اللهم رب الناس, أذهب البأس, أشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً وأن جبريل رقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشتكي فقال له: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك الله يشفيك باسم الله أرقيك. وقال عليه السلام: ((ما من مريض لم يحضر أجله تعوذ بهذه الكلمات: ((باسم الله العظيم من شر ما نجد ونحاذر سبع مرات إلا شفاه الله عز وجل)).
وإذا كان كذلك فالقرآن الذي لا كلام أشرف منه ولم ينزله الله تعالى إلا ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وينقذهم به من النار بعد أن كانوا على شفاء حفرة منها, ويهديهم به إلى الجنة التي فيها الحياة الدائمة والراحة التامة من كل خوف وحزن أولى أن يستشفى به وبغسالته ويتبرك بقراءته, وقد جاء عن المتقدمين في باب الاحترازات من المخاوف والاستشفاء من الأمراض بآيات القرآن ما هو مذكور في غير هذا الموضع, وسنذكر منه طرفاً في الباب الموفى أربعين, وأنهم انتفعوا بذلك فكان(1/138)
ذلك أدل دليل على أن القرآن من عند الله تعالى.
ومنها إذا اغتسل بكتابته مستشفياً من سقم أن لا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ ولكن في ناحية من الأرض في بقعة لا يطأها الناس, أو يجد حفرة في موضع طاهر حتى يصب من جسده في تلك الحفرة ثم يكبسها, أو نهر كبير يختلط بمائة فيجري.
ومنها أن لا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب فإن ذلك جفاء عظيم ولكن يمحوها بالماء.
ومنها أن لا يخلي يوماً من أيامه من النظر في المصحف مرة أو مرتين وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي أن أنظر كل يوم في عهد ربي عز وجل مرة. وكان عمر بن الخطاب إذا دخل بيته نشر المصحف وقرأ فيه. ودخلوا على عثمان وهو يقرأ في المصحف وكان والله قارئاً. فقال: والله إني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في عهد الله عز وجل. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا أصبح أمر غلامه فنشر المصحف فقرأه عليه. وروي أن مصحف عبد الله كان منشوراً في بيته. وقالت عائشة رضي الله عنها: أفضل العبادة قراءة مائتي آية في المصحف. وروي أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا نعيم بن حماد عن بقية بن الوليد عن معاوية بن يحيى عن سليمان بن مسلم عن عبد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فضل من يقرأ القرآن نظراً على الذي يقرؤه ظاهراً كفضل الفريضة على النافلة)) وروي من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قراءة القرآن في غير المصحف ألف درجة, والقراءة في المصحف يضاعف على ذلك بألفي درجة)) وقال عبد الله بن حسان: اجتمع اثنا عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن(1/139)
أفضل العبادات قراءة القرآن نظراً. وقال شداد بن أوس: ليس من العبادات أشد على الشيطان من قراءة القرآن نظراً. وروي أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سره أن يحبه الله عز وجل ورسوله فليقرأ في المصحف)) ذكره ابن شاهين وخرج من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ مائتي آية في المصحف كل يوم نظراً شفع في سبع قبور حول قبره وخفف الله عز وجل عن والديه وإن كانا مشركين)). وروي ابن جريج عن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أدام النظر في المصحف متسع ببصره)) وروي زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أعطوا أعينكم حظها من العبادة)) قالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال: ((النظر في المصحف والتفكر فيه, والاعتبار عند عجائبه)) وروي مكحول عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظراً)) وقال نافع: كان ابن عمر إذا نظر في المصحف ليقرأ بدأ فقال: اللهم أنت هديتي ولو شئت لم أهتد, لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني, وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
قال العلماء: فائدة القراءة من الحفظ قوة الحفظ, وثبات الذكر, وهي أمكن للتفكر فيه. وفائدة القراءة في المصحف الاستثبات لا يخلط بزيادة حرف ولا إسقاط حرف, أو تقديم آية أو تأخيرها. وأيضاً فإنه يعطي عينيه حظها منه فإن العين تؤدي للنفس وبين النفس والصدر حجاب, والقرآن في الصدر فإذا قرأه عن ظهر قلبه فإنه يسمع أذنه فيؤدي إلى النفس, وإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في(1/140)
الأداء وذلك أوفى للأداء، وكانت العين قد أخذت حظها كالأذن ويقضي حق المصحف لأن المصحف لم يتخذ ليهمل، وله على الإنفراد حق فلا يقرأ إلا على طهارة ألا ترى أن المحدث منهي عن مسنه، وكانت القراءة في المصحف أولى وأفضل.
ومنها أن لا يتأوله عندما يعرض له من أمر الدنيا. وروي هشيم عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأول شيئاً من القرآن عندما يعرض له شيء من الدنيا. والتأويل مثل قولك إذا جاء: جئت على قدر يا موسى. أو عند رفع إنسان شيئاً. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ومثل قوله: كلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية، هذا عند حضور الطعام وأشباه هذا.
ومنها أن لا يقال سورة كذا وكذا كقولك سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء، ولكن يقال السورة التي يذكر فيها كذا. ذكره الترمذي الحكيم وغيره.
قال المؤلف رحمه الله: هذا يعارض ما ثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه)) وسيأتي. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: ((هذا والذي لا إله إلا هو مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)) وإذا ثبت هذا فالقول به أولى. والقول الأول إنما هو قول الحجاج واختياره ثبت ذلك عنه في صحيح مسلم وغيره.
ومنها أن لا يتلى منكوساً كفعل معلم الصبيان يلتمس بذلك أحدهم أن يرى الحذق من نفسه والمهارة وذلك محرم ومجانة من فاعله، فإن فيه إخراج القرآن عن وصفه ونظمه وإبطالاً لإعجازه.(1/141)
ومنها أن لا يقعر في كلامه كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعة المتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المتنتة تكلفا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه.
ومنها بأن لا يقرأ بألحان الغناء كلحون أهل الفسق، ولا بترجيع اليهود والنصارى، ولا نوح الرهبانية فإن ذلك زيغ وقد تقدم.
ومنها أن لا يخلل تخطيطه إذا خطه. وعن أبي حكيمة أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة فمر به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فنظر إلى كتابته فقال له: أجل قلمك، أي قطه، فأخذت القلم فقططت من طرفه وكتبت وعلي ينظر فقال: هكذا نوره كما نوره الله عز وجل.
قال العلماء: وذلك أشبه بالإجلال والتعظيم، ألا ترى إلى الناس إذا أرادوا مكاتبة ملك وسلطان تحروا لها من القراطيس أكبرها وأمتنها وأنقاها ومن الخطوط أحسنها وأفخمها، ومن المداد أبرقه وأشده سواداً وفرجوا السطور ولم يقرمطوها لئلا يكون قد ضنوا بشيء مما كانت الحاجة إليه في مكاتبته فيكونوا قد ضيعوا قدره. فكتاب الله تعالى أولى بمثل ذلك التبجيل.
وأيضاً فإن الكتاب كلما كان أكبر، كان من الضياع أبعد.
ومنها أن لا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما سمع ويكون كهيأة المغالبة. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقرآن فقال: ((إن المصلي مناج ربه فلينظر؟ بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) وقال عليه السلام : ((ما لي أنازع القرآن)) قال في حديث آخر: ((قد علمت أن بعضكم قد خالجنيها)) فهذا(1/142)
حكم كل مصل وقارئ فلا ينبغي لمصل غيره أو قارئ سواه أن يخلط قراءته عليه.
ومنها أن لا يماري ولا يجادل في القراءات، ولا يقول لصاحبه ليس كذا هو ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن فيكون قد جحد كتاب الله. قاله الترمذي الحكيم.
ومنها أن لا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراماً، هذا المرور بنفسه فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء.
ومنها أن لا يسأل به أحداً من الناس شيئاً من الدنيا وقد تقدم. وقد قيل إن وجه الكراهة في هذا أنه ربما لم يعط فيكون قد عرض كتاب الله لأن يرد المتوسل به، وفي ذلك بعض الغض من حرمته، أو يكون إذا التمس بالقرآن مالاً كانت منزلته كمنزلة من يلتمس بالصلاة مالاً وذلك لا معنى له.
ومنها أن لا يقرأ في الحمام لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: شر البيوت الحمام، نزع من أهله الحياء، فلا يقرأ فيه القرآن. وعن عبد الله بن مسعود أنه كره القراءة في الحمام. وعن جماعة من التابعين مثله. والقراءة في الكنف وفي المواضع المكروهة القذرة أشد كراهة، ألا ترى أنه تكره القراءة لمن أكل الثوم أو البصل أو الكراث.
ويؤمر القائم من الليل، أو الطويل من ألازم أن يستاك وينظف فمه قبل أن يقرأ القرآن لما يخالط من الريح الكريهة قراءته. والقراءة في حال قضاء الحاجتين كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام على من سلم عليه(1/143)
وهو يبول. وقال له بعد ذلك: ((إذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك)) فالقراءة أولى بالكراهة من رد السلام والله أعلم.
ومنها أن لا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله إياه فإن ذلك امتهانة له وقلة احترام.
ومنها أن لا يصغر المصحف بكتابة ولا باسم. وروي الأعمش عن إبراهيم عن علي رضي الله عنه قال: لا يصغر المصحف. وذكر ابن الأنباري عن عمر رضي الله عنه أنه رأى مصحفاً صغيراً فقال: من كتب هذا؟ قال رجل: أنا، فضربه بالدرة وقال: عظموا القرآن.
قال العلماء: ومن المساهلة فيه وترك الحفل به أن يصغر فيكون عرضة للأيدي الخاطئة، وذوي الأمانات المختلفة الناقصة، ولن يفعل هذا أحد بما عنده إلا إذا قل مقداره عنده، وخف على قلبه أمره. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال: مسيجد ومصيحف.
ومنها أن لا يخلط فيه ما ليس منه كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعاني الآيات. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإثبات ما ينزل من القرآن فلم يحفظ أنه أمر بإثبات آيات السور أو العواشر أو الوقوف، وأمر أبو بكر الصديق رضوان الله عليه بجمع القرآن من اللحف والعشب وقطع الأدم ونقله عنها إلى مصحفه، كما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترتيب السور الآيات. ثم اتخذ عثمان بن عفان رضي الله عنه من ذلك المصحف مصاحف وبعث بها إلى الأمصار فلم(1/144)
يعرف أنه أثبت فيها شيئاً سوى القرآن، فكذلك ينبغي أن يفعل في كتابة كل مصحف.
ومنها أن لا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فيخلط به زينة الدنيا وروي مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره أن يحلى المصحف، أو يكتب بالذهب أو يعلم عند رؤوس الآي، أو يصغر. وقال ابن عباس -ورأى مصحفاً قد زين بالفضة-: تغرون به السارق وزينته في جوفه. ورأى عبد الله بن مسعود مصحفاً مزيناً بالذهب فقال: إن أحسن ما زينت به المصحف تلاوته ليلاً ونهاراً في الخلوة. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم)).
ومنها أن لا يكتب على الأرض ولا حائط كما يفعل في هذه المساجد المحدثة. وروي ابن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر ابن عبد العزيز يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في الأرض فقال لشاب من هذيل: ((ما هذا))؟ قال: من كتاب كتبه يهودي، قال: ((لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه))قال محمد بن الزبير: ورأى عمر بن عبد العزيز ابناً له يكتب القرآن على حائط فضربه.
ومنها أن يفرح بالقرآن فرح الغني بغناه، وذي السلطان بسلطانه، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}. وقال لعيسى: {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك(1/145)
إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}. وسمي القرآن نوراً وشفاء ورحمة، وسماه مباركاً وهدى، فمن أنعم به عليه ويسره له ليتعلمه ويقرأه فقد أشركه مع نبيه في علمه وإن كان لم يشركه معه في جهة الأنباء والتعليم، فإن لم يعظم المنعم عليه هذه النعمة ويعرف قدرها فهو من أجهل الجاهلين. قال صلى الله عليه وسلم : ((من أعطى ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة)) الحديث.
ومنها أن لا يكتب التعاويذ منه ثم يدخل به الخلاء إلا أن يكون في غلاف من أدم أو فضة أو غيره فيكون كأنه في صدره.
ومنها إذا كتبه أو شربه يسمي الله تعالى على كل نفس، وعظم النية فيه فإن الله عز وجل يؤتيه على قدر نيته. روي الليث عن مجاهد قال: لا بأس أن يكتب القرآن ثم يسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب يس في جام بزعفران ثم يشربه.
ومنها أن لا يقال سورة صغيرة ولا كبيرة. يروى عن أبي العالية أنه كره أن يقال صغيرة أو كبيرة. وقال لمن سمعه: أنت أصغر منها، وأما القرآن فكله عظيم، ذكره مكي.
قال المؤلف رضي الله عنه ورحمه: قد روي أبو داود ما يعارض هذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: ما من المفصل سورة كبيرة ولا صغيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة(1/146)
ومنها أن يعترف لله عز وجل بما عبر به عن نفسه، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {والتين والزيتون} فبلغ {أليس الله بأحكم الحاكمين} قال: بلى. وقيل: كان يقول: ((سبحانك اللهم وبلى)) وقيل: كان يقول: ((سبحانك وبلى)). وإذا قرأ: {فبأي حديثٍ بعده يؤمنون} قال: ((آمنت بالله وما أنزل)) وقرأ في الصلاة: {فألهمها فجورها وتقواها} فقال: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)).
وقال علقمة: صليت إلى جانب عبد الله فاستفتح طه فلما أتي على هذه الآية: {وقل ربي زدني علماً} فقال: رب زدني علماً. ثم ختمها فركع. وقال ابن عمر: إذا قرأت: {قل أعوذ برب الفلق} فقل: أعوذ برب الفلق، وإذا قرأت: {قل أعوذ برب الناس} فقل: أعوذ برب الناس. وكان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} بكى ثم قال: بلى(1/147)
يا ربي بلى يا ربي. وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال: آمين، كما يقول إذا ختم الفاتحة.
الباب الرابع والثلاثون فيما جاء في حامل القرآن وما هو ومن وهو وفيمن عاداه
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب بيان العلم له: روي من وجوه فيها لين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة الإمام المقسط، وذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه)) قال أبو عمر: وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه وحلاله وحرامه، والعاملون به.
قال المؤلف رحمه الله: ما أحسن هذا! وهذا هو الكمال على ما تقدم. وفي الترمذي عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)) وهذا الحديث وإن كان إسناده ليس بذاك فمعناه صحيح والله أعلم. قال أبو عمر: وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القرآن أفضل من كل شيء فمن وقر القرآن فقد وقر الله، ومن استخف بالقرآن فقد استخف بحق الله، حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، المعظمون كلام الله، الملبسون نور الله، فمن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد استخف بحق الله عز وجل)) وروي الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل)) وعن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغزاة فرط أهل الجنة والأنبياء سادات أهل الجنة وحملة القرآن عرفاء أهل الجنة)).(1/148)
وروي وكيع بن الجراح بن الأعمش عن زائدة بن عاصم عن ذر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أكرموا حملة القرآن فمن أكرمهم فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله عز وجل. إن الله عز وجل لينصت للقرآن ويستمع من أهله ألا ولا تنقصوا حملة القرآن حقوقهم فإنهم من الله بمكان، كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحي إليهم، التالي والسامع آية من كتاب الله خير مما دون العرش إلى الأرض السابعة السفلى، التالي والسامع آية من كتاب الله خير من صبير ذهب)) قيل: يا رسول الله وما صبير ذهب؟ قال: ((مثل أحد في الميزان)) خرجه الوايلي في كتاب الإبانة له. وقال: هذا حديث غريب جداً من رواية الأكابر عن الأصاغر. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله لا تستعملوا على شيء من أعمالي إلا أهل القرآن. فكتبوا إليه استعملنا أهل القرآن فوجدناهم خانة، فكتب إليهم لا تستعملوا إلا أهل القرآن فإنه إن لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى أن لا يكون عندهم خير. وقال الحسن: ثلاثة يوسع لهم في المجلس، ذو الشيبة في الإسلام، وحامل القرآن، والإمام المقسط. وروي مرفوعاً.
الباب الخامس والثلاثون في البكاء من خشية الله عند تلاوة القرآن وسماعه وفيما يحمل على ذلك
روي البخاري عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقرأ علي)) قلت: أقرأ عليك وعليك نزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل(1/149)
أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}. قال: أمسك فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه مسلم وقال بدل قوله فأمسك: فرفعت رأسي أو غمزتي رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل.
فصل قال علماؤنا: بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر إذ يؤتي بالأنبياء عليهم السلام شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ويؤتى به صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته وغيرهم. ولهذا قال العلماء: يجب على القارئ إحضار قلبه، والتفكير عند قراءته، لأنه يقرأ خطاب الله الذي خاطب به عباده. فمن قرأه ولم يتفكر فيه وهو من أهل أن يدركه بالتذكر والتفكر كان كمن لم يقرأه، ولم يصل إلى غرض القراءة من قراءته فإن القرآن يشتمل على آيات مختلفة الحقوق، فإذا ترك التفكر والتدبر فيما قرأ استوت الآيات كلها عنده فلم يرع لواحدة منها حقها، فثبت أن التفكر شرط في القراءة يتوصل به إلى إدراك أغراضه ومعانيه وما يحتوي عليه من عجائبه وقد قال الله تعالى: {كتابٌ أنزلناه إليك مباركاً ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} وقال: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها}. وأيضاً فإن ترديد الآية والتخشع والبكاء عندها سنة القارئ فإذا لم يعرف ما يقرأ لغفلته أو لجهله به لم يميز موضع الترديد، ولا جاءت عينه بدمع. فصح أن سنته إذا كان عالماً باللسان فهما مميز أن يقرأ متفكراً. ويوضحه(1/150)
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يردد هذه الآية حتى أصبح {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}. وقال محمد بن كعب: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إلى من أن أبيت أهذا القرآن. وقال سعيد بن عبيد الطائي: سمعت سعيد بن جبير يؤمهم في شهر رمضان وهو يردد هذه الآية {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال القاسم: رأيت سعيد بن جبير قام ليلة يصلي فقرأ: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت} فرددها بضعاً وعشرين مرة، وكان يبكي بالليل حتى عمش. وقال الحسن: يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همك في آخر سورتك. وقال بعضهم: بعثتني أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها إلى السوق وافتتحت سورة والطور وانتهت إلى قوله تعالى: {ووقانا عذاب السموم} وذهبت ورجعت وهي تكرر هذه الآية. وقال رجل من قيس يكنى أبا عبد الله: بتنا ذات ليلة عند الحسن فقام من الليل فصلى فلم يزل يردد هذه الآية حتى السحر {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فلما أصبح قلنا: يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليل؟ قال: أرى فيها معتبراً، ما أرفع طرفاً ولا أرده إلا وقد وقع على نعمة وما لا يعلم من(1/151)
نعم الله أكثر. وقال أبو سليمان ما رأيت أحداً الخوف على وجهه والخشوع أظهر من الحسن بن صالح بن صالح بن حي. قام ليلة إلى الصباح بعم يتساءلون ثم غشني عليه، ثم عاد فعاد إليها فغشى عليه فلم يختمها حتى طلع الفجر. وإذا تقرر هذا حمله على البكاء والخشوع معرفة ما يقرأ لإحضار قلبه والتذكر عند قراءته. وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((إن هذا القرآن نزل بحزن فأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)) وقد تقدم. وجاء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتنى مسجداً بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلاً بكاء لا يملك دموعه إذا قرأ القرآن. وكان عمر بن الخطاب يصلي بالناس فبكى في قراءته حتى انقطعت قراءته وسمع نحيبه من وراء ثلاث صفوف. وقرأ ابن عمر: {ويلٌ للمطففين} فلما أتي على قوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. بكى حتى انقطع عن قراءة ما بعدها. وقال ابن أبي مليكة كان ابن عباس يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ثم حكى قراءته: {وجاءت كل نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ} قال: ثم بكى حتى سمع له نشيج ومر النبي صلى الله عليه وسلم بشاب يقرأ: {فإذا انشقت السماء فكانت وردةً كالدهان} فوقف واقشعر وخنقته العبرة فجعل يبكي ويقول ويحي من(1/152)
يوم تنشق فيه السماء ويحي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مثلها يا فتى أو لا تمثلها والذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك)).
فصل قال القاضي أبو بكر بن العربي: ورأيت من يعيب البكاء ويقول: أنه صفة الضعفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مدحه فقال: ((عينان لن تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله)) وكان أبو بكر رضي الله عنه أسيفا إذا قرأ بكي شوقاً وخوفاً. وكان عبد الله ابن عمرو يكثر من البكاء ويغلق عليه بابه حتى رمصت عيناه.
قال المؤلف رحمه الله: مدح الله البكائين في كتابه عز وجل مخبراً عن الأنبياء ومن أنضاف إليهم من الأولياء {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً}. {إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً}. وقال:{ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} وأخبر أن البكاء يزيدهم خشوعاً والذين أوتوا العلم هم أهل الخشية كما قال في تنزيله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. فأعلمهم بالله أشدهم له خشية. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ((والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي)) وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره(1/153)
أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وقد تقدم. وقد ذكرنا عن جماعة من الصحابة وعن كثير من التابعين أنهم بكوا فكيف يقال: أنه من صفة الضعفاء، وفي التنزيل {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} والنبي صلى الله عليه وسلم بكى رهبة لذلك اليوم، وهؤلاء بكوا شوقاً إلى الله تعالى حين سمعوا كلامه. وقد مدح الله تعالى قوماً بقوله: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً} الآيتين. وذم قوماً آخرين بقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} وهم على أقسام منهم الكفار، ومنهم الغافلون، ومنهم الذين ورد ذكرهم في الأثر ينثرونه نثر الدقل، يتعجلونه ولا يتأجلونه، يمرون عليه بغير فهم ولا تدبر، صم عن سماعه، عمى عن رؤية غيره. ومنهم من يقيم حروفه في مخارجها، ومنهم من يقبل على جمع القراءات يجمعها وليته جمع الصحيح منها أو عرف كيف يجعلها، كله مذموم، وإقبال على ما لا يحتاج إليه، وإعراض عن ما يلزم.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في الفوق فلا يرى شيئاً،(1/154)
ثم ينظر في القدح فلا يرى شيئاً، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً، ويتمارى في الفوق فلا يرى شيئاً)) فقوله عليه السلام : ((لا يجاوز حناجرهم)) يقول: لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب بالمأكول والمشروب مما لا يجاوز حنجرته. وقد قيل: أن معنى ذلك أنهم كانوا يتلونه بألسنتهم ولا يعتقدونه بقلوبهم.
فصل قال المؤلف رحمه الله: وقد جاء في البكاء من خشية الله تعالى أحاديث وأخبار رأيت أن نذكر منها في هذا الباب ما فيه كفاية.
فمن ذلك ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله عز وجل حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) قال: وفي الباب عن أبي ريحانة وابن عباس قال: هذا حديث حسن صحيح. وروي النسائي عن أبي ريحانة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حرمت على النار عين دمعت من خشية الله، وحرمت على النار عين سهرت في سبيل الله)) ونسيت الثالثة، وسمعت بعد أنه قال: ((وحرمت على النار عين غضت على محارم الله)) وخرج ابن ماجه قال: حدثنا ابن أبي فديك قال: ثنا حماد بن أبي حميد الزرقي عن عون بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من عبد مؤمن تخرج من عينه دموع وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئاً من حر وجهه إلا حرمه الله على النار)) وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن هذا القرآن نزل بحزن فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)) وقد تقدم. وروي الترمذي وابن ماجه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني أرى ما لا ترون وأسمع(1/155)
ما لا يسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد)) قال الترمذي: ثنا أبو حفص عمر بن علي قال: ثنا عبد الوهاب الثقفي عن محمد ابن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) هذا حديث صحيح. وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس وأنس رضي الله عنهم قال: هذا حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد. وروى عن أبي ذر موقوفاً. وروي ابن ماجه عن البراء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)) وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال: ثنا أبو مالك الجبني عن جويبر عن الضحاك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: فيما يذكر عن رحمة ربه تبارك وتعالى: ((أنه قال لموسى عليه السلام أما البكاؤون من خشيتي فلهم الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد)). وروي عبد الوهاب عن ثور عن خالد بن معدان قال: ما بكي عبد من خشية الله تعالى إلا خشعت لذلك جوارحه وكان مكتوباً في الملأ الأعلى باسمه فلان ابن فلان منور قلبه بذكر الله تعالى. وروي عن حزام القطعي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: الباكي من خشية الله تهتز له البقاع التي يبكي عندها وتغمره الرحمة ما دام باكياً. وروي ابن السماك قال: سمعت عمر بن ذر يقول: أن البكاء من خشية الله تعالى يبدل بكل قطرة أو دمعة تخرج من عينيه أمثال الجبال من نور في قلبه ويزداد في قوته للأعمال وتطفي تلك(1/156)
الدموع بحوراً من النار. وروي ابن السماك عن مفضل بن مهلهل قال: بلغني أن العبد إذا بكي من خشية الله تعالى ملأت جوارحه نوراً واستبشرت ببكائه وتداعت بعضها بعضاً بم هذا النور؟ فيقال: هذا غشيكم من نور البكاء. وروي عن أشرس الهذلي قال: سمعت فرقد السبخي يقول: قرأت في بعض الكتب أن العبد إذا بكي من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولو أن عبداً جاء بجبال الأرض ذنوباً وآثاماً لو سعته الرحمة إذا بكي من خشية الله، وإن البكاء على الجنة تشفع له الجنة تقول رب أدخله الجنة كما بكي علي، وإذا بكي خوفاً من ناره فالنار تستجير له من ربها عز وجل تقول رب أجره مني كما استجارك مني وبكي خوفاً من دخولي.
وروي عن صالح المري أنه قال: من بكي خوفاً لله تعالى من ذنب غفر له ذلك الذنب، ومن بكي اشتياقاً إلى الله تعالى أباحه النظر إليه متى شاء. وروى عن هارون بن رباب أنه قال: إن البكاء مثاقيل لو وزن بالمثقال الواحد منها مثال جبال الدنيا لرجح به البكاء، وإن الدمعة لتنحدر فتطفئ البحور من النار، وما بكي عبد مخلصاً في ملأ إلا غفر لهم جميعاً ببركة بكائه. وروى عن عبد الوهاب بن عطاء بن عبيدة بن حسان عن النضر بن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو أن عبداً بكي في أمة من الأمم لأنجي الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد، وما من عمل إلا وله وزر وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحوراً من النار، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عز وجل إلا حرم الله جسدها على النار، وإن فاضت على خده لم ترهق وجهه قترة ولا ذلة)) وروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: من بكي من خشية الله عز وجل غفر الله له ذنوبه، ومن تباكى أعطاه الله عز وجل أجر الحزين المصاب.(1/157)
الباب السادس والثلاثون في الصعقة والخشية والغشية عند سماع القرآن وتلاوته
قال الله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون, ويسكتون ولا يصيحون, ويتحازنون ولا يتماوتون.
وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} وروي الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب, الحديث. ولم يقل زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا ولا قمنا. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة, فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: ((سلوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا))؟ فلما سمع القوم ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يميناً(1/158)
وشمالاً, فإذا كل إنسان لاق رأسه يبكي, وذكر الحديث.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذه أحوال العارفين بالله الخائفين من سطوته وعقوبته لا كما تفعله الجهال والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير, فيقال لمن تعاطي ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع, لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله والخوف منه والتعظيم لجلاله ومع ذلك فكانت أحوالهم عند المواعظ الفهم عن الله, والبكاء من الله عز وجل. وكذلك وصف الله عز وجل أحوال أهل المعرفة عند سماع المواعظ ذكره وتلاوة كتابه فقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض} الآية. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقهم فمن كان مستناً فليستن, ومن تعاطى أحوال المجانين والمجون فهو من أسوئهم حالاً, والجنون فنون. فإن قيل: قد روى عن جماعة من السلف أنهم ماتوا عند السماع للقرآن وبعضهم يغشى عليه؟ قلنا: ليس لنا قدوة ولا اقتداء إلا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا حالهم وصفتهم. وروى عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم. قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله عز وجل ترى أعينهم تفيض من الدمع وتقشعر جلودهم. فقيل لها: إن ناساً اليوم يقرؤون القرآن فإذا قرئ عليهم القرآن خروا مغشياً عليهم؟ فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط, فقال: ما بال هذا؟ قيل أنه(1/159)
إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. قال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم, ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن, قال: بينا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمي بنفسه فهو صادق! وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين يشرح لي عن قلبه.
فإن قيل: فقد روي ابن أعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً} فصعق وصح عن جماعة من السلف أنهم صرعوا عند سماع القرآن والمواعظ وغشي عليهم, فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع قارئاً يقرأ: {إن عذاب ربك لواقعٌ ما له من دافعٍ}. فصاح صيحة خر مغشياً عليه ((فحمل إلى أهله فلم يزل مريضاً شهراً؟ وروي أن زرارة بن أوفى قرأ: {فإذا نقر في الناقور}. صعق ومات في محرابه رضي الله عنه. وقرأ صالح المري على أبي جهين فمات. وسمع الشافعي رضي الله عنه قارئاً يقرأ: {هذا يوم لا(1/160)
ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فغشي عليه. وسمع علي ابن الفضيل قارئاً يقرأ: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}. فسقط مغشياً عليه. وروي أن الربيع بن خيثم سمع قارئاً يقرأ: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ} فخر مغشياً عليه فلم يفق إلا في اليوم الثاني من ذلك الوقت فسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن صلاته. فقال لا إعادة عليه. وروي أن رجلاً صلى وراء إمام فقرأ: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} فخر الرجل وراءه مغشياً عليه, فلما سلم الناس ألفوه ميتاً. وحكى عن الجنيد رحمه الله قال: دخلت على سري السقطي رحمه الله وعنده رجل قد غشي عليه, فقلت من هذا؟ قال: هذا رجل سمع رجلاً يقرأ آية من كتاب الله عز وجل فغشي عليه وقد فاتته صلاته, فقلت: اقرأ عليه هذه الآية التي سمعها قال: فقرأتها عليه فأفاق. قال سري: فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال: ألا ترى إلى نبي الله يعقوب عليه السلام لما ذهب بصره على يوسف عليه السلام وببشرى ذلك المخلوق رجع إليه بصره ولو كان ذهب بصره على الحق ما رجع إلا من حيث الحق, والحق لا يظهر إلا في دار الحق في دار البقاء بإبصار البقاء.
قلنا: لا ننكر أن يجد بعض الفضلاء والصالحين مثل هذه لغلبة(1/161)
الخشية والخوف والحق ما ذكرناه أولاً, فإن كنت يا من لبس عليه تدعي أنك على نعمهم فمت كموتهم فتنبه لبهرجك فإن الناقد بصير, والمحاسب خبير.
ثم يقال لمن صرخ في حال خطبة الجمعة: إن كنت قد ذهب عقلك حال صعقتك فقد خسرت صفقتك, إذ قد سلب عقلك, وذهب فهمك, ولحقت بغير المكلفين من الصبيان المجانين, وصرت كأحدهم بل أخسر لأنك حرمت سماع الموعظة, وشهود الجمعة.
وقد قال مشايخ الصوفية رضي الله عنهم: مهما كان الوارد مانعاً من القيام بالفرض, ومانعاً من خير فهو من الشيطان. ثم يلزم من ذهب عقله بأن ينتقض وضوؤه فإن صلى بعد تلك الغشية بوضوئه الجمعة ولم يتوضأ كان كمن لم يشاهد الخطبة ولا صلى, فأي صفقة هي أخسر ممن هذه صفقته, وأي مصيبة هي أعظم ممن هذه مصيبته! وإن كان وقت صراخه حاضر في عقله فقد تكلم في حال الخطبة وشوش على الحاضرين سماعها, وأظهر بدعة في مجمع من الناس وحرضهم لأن يجب عليهم تغييرها, فإن لم يفعلوا فقد عصى الله من جهات متعددة وحمل الناس على المعصية إلى ما ينضاف إلى ذلك من رياء كامن في القلب, وفسق ظاهر على الجوارح. فنسأل الله الوقاية من الخذلان, وكفاية أحوال المجان.
قال المؤلف رحمه الله: ولقد أخبرني بعض أصحابنا ممن أثق به أن الفقيه القاضي الخطيب بمالقة ابن الإمام القاضي عياض ضرب من صاح في حال الخطبة لما فرغ من صلاة الجمعة ضرباً وجيعاً وقال له: ضربتك لشهرتك لنفسك, وتشويشك على الناس, وكلامك حال الخطبة.(1/162)
الباب السابع والثلاثون فيما جاء أن القرآن شافع مشفع
ذكر ابن المبارك في رقائقه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد, يقول الصيام منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه, ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه, فيشفعان)) وخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن بريدة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاب فيقول هل تعرفني؟ فيقول أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك)) وروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: ((إنه لا خير في العيش إلا لعالم ناطق, أو مستمع واع, أيها الناس إنكم في زمن هدنة, وإن السير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد, ويقربان كل بعيد, ويأتيان بكل موعود)) فقال له المقداد: يا رسول الله وما الهدنة؟ قال: ((دار بلاء وانقطاع فإذا ألبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وشاهد مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار, هو أوضح دليل إلى خير سبيل من قال به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل)) وقد تقدم من حديث أبي مالك الأشعري أنه حجة لك أو عليك. ومن حديث أنس أن من تعلمه وأخذ بما فيه كان له دليلاً وشفيعاً إلى الجنة.(1/163)
الباب الثامن والثلاثون في عظيم ذنب من حفظ القرآن ونسيه
الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد, وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها)) قال: حديث غريب. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن عبادة أنه قال: ((من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم)) ذكره أبو عمرو قال: يعني منقطع الحجة.
قال المؤلف رضي الله عنه: وهذا الحديث خرجه أبو داود. وكان ابن عيينة يذهب في أن النسيان الذي يستحق صاحبه الذم ويضاف إليه الإثم هو الترك للعمل به. وأن النسيان في لسان العرب الترك قال الله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي تركوا. وقال: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم}. أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم. قال سفيان: وليس من اشتهر بحفظ شيء من القرآن وتفلت منه بناس إذا كان يحل حلاله ويحرم حرامه.
قال المؤلف رضي الله عنه: وهذا تأويل حسن جداً وفيه توجيه, إلا أن الله تعالى أثنى على من كان دأبه قراءة القرآن فقال: {ومن الليل(1/164)
فتهجد به نافلةً لك} أي بالقرآن. وقال: {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً}. وسمي القرآن ذكراً وتواعد من أعرض عنه ومن تعلمه ثم نسيه فقال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً} وقال بعد ذلك: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} إلى قوله: {وقد كنت بصيراً} فهذا ظاهره تلاوة القرآن, وكذلك ظاهر الحديث. وإذا كان نسيان القرآن من الذنوب بهذا المحل فلا احتراز منه إلا بإدمان القرآن. وقال صلى الله عليه وسلم : ((يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل وآناء النهار وتغنوه وتقنوه واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون)) قال أبو عبيد قوله تغنوه اجعلوه غناكم من الفقر ولا تعدوا الإقلال معه فقراً. وقوله وتقنوه اقتنوه كما تقتنون الأموال.(1/165)
الباب التاسع والثلاثون في تحذير أهل القرآن والعلم من العجب والرياء والغيبة والفحشاء
قال الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} وقال: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} وقال: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون} قيل نزلت في أهل الرياء. وفي الخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: ((صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال فقد قيل ذلك)). خرجه مسلم في صحيحه ومعناه ولفظه عن أبي هريرة. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناس يقضي عليه يوم القيامة رجل استشهد فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت, قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال جرئ فقد قيل: ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه, وقرأت القرآن وعلمه فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: وقرأ القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل, ثم أمر به(1/166)
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك, قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) خرجه الترمذي بمعناه وقال فيه عن أبي هريرة: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي. فقال: ((يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)) وخرج ابن المبارك في رقائقه عن موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى يخاض البحار في الخيل في سبيل الله تبارك وتعالى, ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل ترون في أولئكم من خير؟ قالوا: لا قال: ((أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار)) وروي أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها. قال الترمذي: حديث حسن. وروي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نعوذ بالله من جب الحزن)) قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم مائة مرة. قيل: يا رسول الله ومن يدخله؟ قال: ((القراء المراؤون بأعمالهم)) قال: هذا حديث غريب خرجه ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تعوذوا بالله من جب الحزن)) قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال: ((واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة)) قيل: يا رسول الله ومن يدخله؟(1/167)
قال: ((أعد للقراء المرائين بأعمالهم وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء)) قال المحاربي الجورة. وخرجه أسد بن موسى عن علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذوا بالله من جب الحزن)) قيل: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال: ((واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين)) وفي رواية: أعده الله للذين يراؤون الناس بأعمالهم)) وفي حديث آخر ذكره أسد بن موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في جهنم لوادياً إن جهنم لتتعوذ من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات إن في ذلك الوادي لجباً إن جهنم والوادي ليتعوذان من شر ذلك الجب، وإن في ذلك الجب لحية إن جهنم والوادي وذلك الجب ليتعوذن بالله من شر تلك الحية، أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن)).
وأنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو القاسم عبد الله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدث أبو الحسن علي بن عبد الله بن خلف بن معروف الكوفي قال: قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد ابن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها وأنا حاضر أسمع وذلك في التاسع من رمضان سنة أربع وتسعين وخمسمائة قيل لها: أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن طلحة النعالي سنة اثنين وتسعين وأربعمائة فأقرت به وقالت: نعم قال: أنا أبو الحسن محمد بن زرقويه البزاز قال: ثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصفار قال: ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى بن أسد المروزي قال: حدثنا معروف الكرخي قال: قال بكر بن خنيس: ((إن في جهنم لوادياً تتعوذ جهنم من ذلك(1/168)
الوادي كل يوم سبع مرات وإن في ذلك الوادي لجباً يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات وإن في الجب لحية يتعوذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبعاً يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون: أي رب بدئ بنا قبل عبدة الأوثان قيل: ليس من يعلم كمن لا يعلم)) وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج حدثني أبو عبد الله مردويه قال: سمعت الفضيل يقول: يا بني لكل شيء ديباج وديباج القراءة ترك الغيبة.
الباب الموفى أربعين في التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وآيه وذكر ما ورد من الأخبار في فضل سوره وآيه وذكر بعض منافعه
لا التفات لما وضعه الواضعون واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن وغير ذلك من فضائل الأعمال، وقد ارتكبها جماعة كثيرة وضعوا الحديث حسبة كما زعموا يدعون الناس إلى فضائل الأعمال. كما روى عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي ومحمد بن عكاشة الكرماني وأحمد بن عبد الله الجويباري وغيرهم. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح في كتاب علوم الحديث له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من(1/169)
اعترف بأنه وجماعة وضعوه وأن أثر الوضع عليه لبين, ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد اقتحم الناس في فضل القرآن وسوره أحاديث كثيرة منها ضعيف لا يعول عليه, ومنها ما لم ينزل الله بها من سلطان, وأشبه ما جمع في ذلك كتاب ابن أبي شيبة وكتاب أبي عبيد وفيها باطل عظيم, وحشو كثير. وقد ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين أن رجلاً من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه, فقيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) فقال: أنا ما كذبت عليه, إنما كذبت له!
قال المؤلف رضي الله عنه: فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرها من المصنفات التي تداولها العلماء ورواها الأئمة الفقهاء لكان لهم في ذلك غنية وخرجوا عن تحذير نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((اتقوا الحديث إلا ما علمتم فمن كذب على معتمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
قال علماؤنا رحمهم الله: فتخويفه صلى الله عليه وسلم بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه. فحذار مما وضعه أعداء الدين, وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك. وأعظمهم ضرراً قوم منسوبون إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونا إليهم فضلوا وأضلوا.
ذكر ما ورد من الأخبار في فضل سور القرآن وآيه وذكر بعض منافعها.(1/170)
من ذلك سورة الفاتحة
وقد تقدم في فضلها حديث سعيد بن المعلا وحديث أبي هريرة وأبي بن كعب في الباب السادس وذكرنا من أسمائها أربعة عشر اسماً في كتاب جامع أحكام القرآن وذلك مما يدل على فضلها وشرفها. وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له حدثني أبي قال: حدثني أبو عبيد الله الوراق قال: ثنا أبو داود قال: ثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال: إن إبليس لعنه الله رن أربع رنات, حين لعن, وحين أهبط من الجنة, وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم , وحين أنزلت فاتحة الكتاب. وأنزلت بالمدينة.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: قول مجاهد وأنزلت بالمدينة فقد روى ذلك عن أبي هريرة وعطاء بن يسار والزهري, وقيل: نزلت بمكة قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية وهو أصح لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} والحجر مكية بإجماع ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كان في الإسلام صلاة قط بغير الحمد لله رب العالمين. وقد زدنا هذا المعنى بياناً في مقدمة جامع أحكام القرآن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب في السماء فتح ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف(1/171)
منهما إلا أوتيته. فهذا الحديث يدل على أنها مدنية وإن جبريل لم ينزل بها، وليس كذلك بل نزل بها جبريل عليه الصلاة والسلام بمكة لقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك} وهذا يقتضي جميع القرآن فيكون جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بتلاوتها بمكة ونزل الملك بفضلها وثوابها بالمدينة فتتفق الآثار. وقد قيل: إنها مكية مدنية نزل بها جبريل عليه الصلاة والسلام مرتين حكاه الثعلبي وغيره وما ذكرناه أولى والله أعلم.
ومن فضلها حديث الرقية رواه الأئمة واللفظ للبخاري قال: ثنا سيدان ابن مضارب أبو محمد الباهلي قال: أنا أبو معشر يوسف بن يزيد البراء قال: ثنا عبد الله بن الأخنس أبو مالك عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيه لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاة فجاء بالشاة إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عز وجل)) ورواه البخاري أيضاً ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وفيه فجعلوا لهم قطيعاً من الشاة وأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: ((ما أدرك أنها رقية خذوها واضربوا لي بسهم معكم)) ورواه الدار قطني وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ثلاثين راكباً فنزلنا على قوم من العرب(1/172)
فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلدغ سيد الحي فأتونا فقالوا: أفيكم أحد يرقى من العقرب؟ في رواية ابن قتة أن الملك يموت – قال أبو سعيد: قلت: نعم أنا ولكن لا أفعل حتى تعطونا، قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة قال: فقرأت عليه الحمد لله رب العالمين سبع مرات وفي رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد فأفاق وبرأ وبعث بالنزل وبعث إلينا بالشاة فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال: ((وما يدريك أنها رقية)) قلت: يا رسول الله شيء ألقي في روعي فقال: ((كلوا وأطعمونا من الغنم)) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ومن سورة البقرة
جاء في فضلها وفضل آيات منها أحاديث. من ذلك حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)) قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم. وروي الدارمي أبو محمد في مسنده عن عبد الله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط. وقال: إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة, وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن سور المفصل. قال الدارمي: اللباب الخالص.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: قول عبد الله إن لكل شيء سناماً روي مرفوعاً خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن هي(1/173)
آية الكرسي)) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه. وخرجه أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لكل شيء سناماً وإن سنام القرآن سورة البقرة, ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث أيام)) قال أبو حاتم البستي: قوله عليه السلام لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام أراد مردة الشياطين. وروي الترمذي عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم يعني ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة, قال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم! قال: اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية أن لا أقوم بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تعلموا القرآن واقرؤوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه من كل مكان, ومثل من يتعلمه ويرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكي على مسك)) قال: حديث حسن. وخرج الوايلي أبو نصر بإسناده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ سورة البقرة وسورة آل عمران إيماناً واحتساباً جعل الله له يوم القيامة جناحين مضرجين بالدر والياقوت يطير بهما على الصراط أسرع من البرق)) قال الوايلي. وهذا حديث غريب الإسناد والمتن. وروي الدارمي في مسنده عن الشعبي قال: قال عبد الله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح, أربعاً من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها, وثلاث خواتيمها أولها لله ما في السموات وما في(1/174)
الأرض. وعن الشعبي عنه. لم يقربه ولا أهله يومئذٍ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرآن على مجنون إلا أفاق وقال المغيرة بن سبيع وكان من أصحاب عبد الله. لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظه قال أبو محمد الدارمي. منهم من يقول المغيرة بن سميع. وفي الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري أنه كانت له سهوة فيها ثمر فكانت تجيء الغول فتأخذ منه قال: فشكي ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اذهب فإذا رأيتها فقل بسم الله أجيبي رسول الله)) صلى الله عليه وسلم قال: فأخذها فحلفت أن لا تعود فأرسلها فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما فعل أسيرك))؟ قال: حلفت أن لا تعود فقال: ((كذبت وهي معاودة للكذب)) قال: فأخذها مرة أخرى فحلفت أن لا تعود فأرسلها فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما فعل أسيرك))؟ قال: حلفت أن لا تعود, فقال: ((كذبت وهي معاودة للكذب)) فأخذها فقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك للنبي صلى الله عليه وسلم . فقالت: إني ذاكرة لك شيئاً آية الكرسي أقرأها في بيتك فلا يقربنك شيطان ولا غيره. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك؟ قال: فأخبرته بما قالت قال: ((صدقت وهي كذوب)) قال حديث حسن غريب. وفي الباب عن أبي بن كعب قال المؤلف غفر الله لنا وله: وخرجه البخاري فقال: وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام, فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني محتاج وعلى مال ولي حاجة شديدة فخليت عنه. فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟)) قال: قلت يا رسول الله شكى لي حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله, فقال: ((أما إنه قد كذبك وسيعود)) فعرفت أنه سيعود لقوله صلى الله عليه وسلم أنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام(1/175)
فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلى مال ولي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما فعل أسيرك البارحة))؟ قلت: يا رسول الله شكى حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال: ((أما إنه قد كذبك وسيعود)) فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية فإنك لن تزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما فعل أسيرك البارحة))؟ فقلت: يا رسول الله إنه زعم أنه يعلمني كلمات فينفعني الله بها فخليت سبيله، فقال: ((ما هي))؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية، الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال: لن تزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة))؟ قال: لا قال: ((ذلك شيطان)) وفي مسند الدارمي أبي محمد ثنا أبو نعيم عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الأنسي فقال له الأنسي: إني لأراك ضئيلاً سخيباً كأن ضريعتك ضريعتي كلب فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله إني من بينهم لضليع، ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك الله به، قال: نعم فصرعه قال: أتقرأ الله لا إله إلا هو الحي القيوم؟ قال: نعم قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج(1/176)
منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. قال الدارمي الضئيل الدقيق والسخيب المهزول، والضليع جيد الأضلاع، والخبج الريح.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: قال أبو عبيد: الخنج الضراط وهو الحبج أيضاً بالحاء. ذكره في غريب حديث عمر فقال: ثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله الحديث. قال: فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر! وروي الأئمة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا المنذر أتدري أي آية معك من كتاب الله أعظم؟)) قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم, فقال: فضرب في صدري وقال: ((ليهنك العلم يا أبا المنذر)) متفق عليه, وقد تقدم. وزاد الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ((فوالذي نفسي بيده إن لهذه الآية للساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش)) قال أبو عبد الله الترمذي فهذه الآية أنزلها الله عز وجل ذكره وجعل ثوابها لقارئها عاجلاً وآجلاً, فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرأها من جميع الآفات, وروى عن عوف البكائي أنه قال: آية الكرسي تدعي في التوراة ولية الله, ويدعي قارئها في ملكوت السموات عزيزاً, وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع. معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارساً من جوانبه الأربع, وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه صارع جنياً فصرعه عمر, فقال له الجني: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا, فخلى عنه(1/177)
وسأله فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي. وروي أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها في دبر كل صلاة وعن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته قلوب الشاكرين, وأجر النبيين, وأعمال الصديقين, وبسطت عليه يميني بالرحمة, ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت, قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا إلا يداوم عليه؟! قال: إني لا أعطيه من عبادي إلا نبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي, وعن أبي بن كعب قال: قال الله تعالى يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء. قال أبو عبد الله معناه عندنا أنه يعطي ثواب عمل الأنبياء, فأما ثواب النبوة فليس لأحد إلا للأنبياء. وذكر أبو نصر الوايلي عن أبي أمامة الباهلي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: ما أرى رجلاً ولد في الإسلام أو أدرك عقله الإسلام يبيت أبداً حتى يقرأ هذه الآية الله لا إله إلا هو الحي القيوم. ولم يعلمون ما هي؟ إنما أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش ولم يعطها أحد قبل نبيكم صلى الله عليه وسلم , ما بت ليلة قط حتى أقرأها ثلاث مرات أقرأها في الركعتين بعد العشاء الآخرة, وفي وتري, وحين آخذ مضجعي من فراشي. قال الوايلي: وأخبرنا عبد الوهاب بن عثمان بن الحسن قال: ثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق السراج قال: ثنا معاذ بن المثنى العنبري قال: ثنا محمد بن كثير قال: حدثني عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يتول قبض روحه إلا الله عز وجل)) قال: وهذا(1/178)
حديث غريب بصري الطريق. وقد روى عن أبي أمامة نحوه أخبرناه أحمد بن محمد بن الحاج قال: ثنا الحسين بن أحمد بن محمد المقابري قال: ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: ثنا هارون بن داود الطرسوسي قال: ثنا محمد بن حمير قال: ثنا محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت)) قال: وهذا شامي الطريق حسن. وقال الإمام أبو محمد بن عطية في تفسيره: وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلى وهي خمسون كلمة وفي كل كلمة خمسون بركة وهي تعدل ثلث القرآن. ورد بذلك الحديث. وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. سمعت شيخنا الأستاذ المقري أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي رحمه الله يقول: إنما كانت أشرف آية لأنه تكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثمان عشرة مرة. وليس يوجد ذلك في غيرها قال: قال أبو الحسن بن بطال في شرح البخاري له وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل فيه فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. وفي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) لفظ مسلم وخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح. ومعي كفتاه قيل: من قيام الليل وقيل: من شر الشيطان فلا يكون له عليه سلطان. وروي الترمذي قال: ثنا بندار ثنا محمد بن يسار قال: أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي(1/179)
قال: ثنا حماد بن سلمة عن أشعب بن عبد الرحمن الجرمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الجرمي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان)) قال: هذا حديث غريب وخرجه أبو عمر الداني المقري في كتاب البيان له بإسناده عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن تخلق السموات والأرض بألفي عام وأنزل منه هذه الثلاث آيات التي ختم بهن سورة البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال)) وقد تقدم نزول الملك بها في سورة الفاتحة مع الفاتحة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي)) وهذا صحيح يدل على صحة نزول الملك بها مع الفاتحة وفي هذه السورة آية عظمى جعلها الله تعالى ملجأ لذوي المصائب وعصمة للمتحنين لما جمعته من المعاني المباركة وهي قول الله تعالى: {إنا لله وإنا إليه راجعون} قال سعيد ابن جبير: لم يعط هذه الكلمات نبياً قبل نبينا ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفي على يوسف. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف علي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها)). وفي البخاري قال عمر: نعم العدلان ونعم العلاوة {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه(1/180)
راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} أراد بالعدلين الصلوات والرحمة وبالعلاوة الاهتداء، قيل إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر وقيل إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن والله أعلم.
من سورة آل عمران:
ورد أيضاً فيها آثار وأخبار فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات وكنز للصعلوك وإنها تحاج عن قارئها في الآخرة ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده قال: ثنا أبو عبيد الله القاسم بن سلام قال: حدثني عبيد الله الأشجعي قال: ثنا مسعر قال: حدثني جابر قبل أن يقع فيما وقع فيه عن الشعبي قال: قال عبد الله: نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل. ثنا محمد بن سعيد قال: ثنا عبد السلام عن الحريري عن أبي السليل قال: أصاب رجل دماً فأوى إلى وادي إلى محيه لا يمشي فيه أحد إلا أصابته حية وعلى شفير الوادي راهبان فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه: هلك والله الرجل، قال: فافتتح سورة آل عمران قالا: فقرأ سورة طيبة لعله سينجو. قال: فأصبح سليماً. وأسند عن مكحول قال: من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل. وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتي بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران)) وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: ((كأنهما غمامتان أو(1/181)
ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)). وخرج أيضاً عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأهله اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)) قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
فصل للعلماء في تسمية البقرة وآل عمران بالزهراوين ثلاثة أقوال:
الأول أنهما النيرتان مأخوذ من الزهر والزهرة، فأما لهدايتهما قارئهما بما يزهران من أنوارهما أي من معانيهما وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة وهو القول الثاني. الثالث سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والتي في آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم))، أخرجه ابن ماجه أيضاً في التفسير. والغمام السحاب الملتف وهي الغمامة إذا كانت قريبة من الرأس وهي الظلة أيضاً. والمعنى أن قارئهما في ظل ثوابهما كما جاء الرجل في ظل صدقته وقوله يحاجان أي يخلق الله عز وجل من يجادل عن قارئهما بثوابهما ملائكة كما روي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ عند منامه شهد الله أنه لا إله إلا هو خلق الله له منها سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة)) وقوله بينهما شرق قيل: بسكون الراء وفتحها وهو تنبيه على الضياء لأنه لما قال سوداوان قد يتوهم أنهما مظلمتان فنفي ذلك بقوله بينهما شرق ويعني بكونهما سوداوان أي(1/182)
من كثافتهما التي بسببهما حالتان من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم وقد أشبعنا هذا القول في كتاب التذكرة.
آية شهد الله: قال كعب الأحبار: بلغني أن من أراد أن لا يتخم من طعام أو شراب فليقرأ إذا طعم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم فإنه لا يتخم إن شاء الله تعالى. وذكر الوايلي أبو نصر في حديث زبير بن العوام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلا هذه الآية {شهد الله أنه لا إله إلا هو وملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} قال: ((وأنا أشهد أنك الله لا إله إلا أنت العزيز الحكيم)) وروي غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام} قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به لنفسه وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة وأن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً فغدوت إليه وودعته وقلت: إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به؟ قال: والله لأحدثتك به سنة قال: فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم فلما مضت السنة قال: حدثني أبو وايل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يجاء بصاحبها(1/183)
يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفي ادخلوا بعبدي الجنة. قال أبو الفرج ابن الجوزي: غالب القطان – هو غالب بن خطاف القطان، يروى عن الأعمش حديث شهد الله وهو معضل. وقال ابن عدي: الضعف على حديثه بين. وقال أحمد ابن حنبل: غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق.
قال المؤلف رضي الله عنه: ويكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما وحسبك.
آية: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} تقدم أنها معلقة بالعرش وآية الكرسي وشهد الله وفاتحة الكتاب، ليس بينهن وبين الله حجاب. وروي من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب، تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا إلى دار الذنوب وإلى من يعصيك؟ فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يقرؤكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين مرة، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة وإلا أعذته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)) وقال معاذ بن جبل: احتبست يوماً عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم أصل معه الجمعة فقال: ((يا معاذ ما حسبك عن صلاة الجمعة))؟ قلت: يا رسول الله كان ليوحنا اليهودي عندي أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك، قال: ((أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك))؟ قلت: نعم! قال: قل كل يوم قل اللهم مالك – إلى قوله بغير حساب، رحمن الدنيا(1/184)
والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهباً لأداه الله عنك وخرجه أبو نعيم الحافظ عن معاذ قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن وكلمات ما على الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضي الله عنه وفرج همه، قل اللهم، فذكره.
آية: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} روي مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموساً فليقل في أذنها: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون}.
آية: {حسبنا الله ونعم الوكيل} تقال عند الشدائد. روي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم(1/185)
إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} وقال عقبة بن عامر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تعالى يلوم بالعجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل)) ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له. وقال عبد الله بن عمرو: إنما نجا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله حسبنا الله ونعم الوكيل.
خاتمتها عشر آيات: خرج الوايلي أبو نصر من حديث سليمان بن موسى قال: حدثنا مظاهر بن أسلم المخزومي قال: أخبرني سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة)). وفي مسند الدارمي أبي محمد عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر آل عمران في كل ليلة كتب الله له قيام ليلة، في طريقه ابن لهيعة. وخرج الوايلي أبو نصر: من حديث يونس عن ابن وهب، أن مالكاً حدثه عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس أخبره وذكر كلاماً –وبعده- فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس يمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران وذكر الحديث. قال يونس: لم يظهر لمالك عن هذا الشيخ إلا هذا الحديث. قال الوايلي: أخرجه البخاري وأبو داود عن القعني عن مالك. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك.
خاتمتها خمس آيات: روي من حديث الإمام علي بن الإمام موسى الرضى قال: حدثني أبي موسى بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد(1/186)
قال حدثني أبي محمد بن علي قال حدثني أبي علي بن الحسين قال: حدثني أبي الحسين بن علي قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكر في طلبها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من منزله الخمس آيات من آخر سورة آل عمران وآية الكرسي, إنا أنزلناه وأم الكتاب فإن فيها قضاء حوائج الدنيا والآخرة.
ومن سورة النساء
قال المؤلف غفر الله لنا وله: لا أعلم فيها حديثاً يروى في فضلها إلا حديثاً يشمل جميع السور. هو ما ذكره الترمذي عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من مسلم يأخذ مضجعه يقرأ سورة من كتاب الله عز وجل إلا وكل الله به ملكاً فلا يقر به شيطان حتى يهب متى هب)) وخرجه الوايلي أيضاً عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أخذ أحدكم مضجعه ليرقد فليقرأ بأم القرآن وسورة فإن الله عز وجل يوكل به ملكاً يهب معه إذا هب)) وخرج الوايلي أيضاً من حديث سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبد الله: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}.سورة المائدة:
ذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية, قال: ((يا علي أما شعرت أنه أنزلت على سورة المائدة(1/187)
ونعمت الفائدة)) قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده, أما إنا نقول سورة المائدة ونعمت الفائدة ولا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سورة المائدة تدعي في ملكوت الله عز وجل المبعثرة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب)) قال المؤلف غفر الله لنا وله: إنما كانت نعمت الفائدة لأنها آخر ما أنزل من القرآن ليس فيها منسوخ, وفيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها وقد بيناها في كتاب جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان, والحمد لله.
سورة الأنعام:
أسند أبو جعفر النحاس في كتاب معاني القرآن له حدثنا محمد بن يحيى بن عقبة قال: حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال: ثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري قال: ثنا ابن أبي فديك قال: حدثني محمد بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهيل بن مالك عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سبحان ربي العظيم ثلاث مرات)) وقال ابن عباس: نزلت سورة الأنعام جملة ليلاً بمكة ومعها سبعون ألف ملك يحذونها بالتسبيح. وقال سعيد بن جبير: لم ينزل شيء من الوحي إلا نزل مع جبريل عليه السلام ومعه أربعة من الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وهو قوله تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم}(1/188)
إلا الأنعام فإنها نزلت معها سبعون ألف ملك, ذكره الحليمي. وروي في الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير ست آيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثني عشر ألف ملك وهي: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فكتبوها من ليلتهم, ذكره المهدوي وغيره. وروي الدارمي في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الأنعام من نواجب القرآن. وفيه عن كعب قال: فاتحة التوراة الأنعام وخاتمتها هود. وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((قال من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله ويعلم ما تكسبون وكل الله به أربعون ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة معه مرزبة من حديد فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له يوحي في قلبه شيئاً ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجاباً فإذا كان يوم القيامة قال الرب تبارك وتعالى امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك)).
الست آيات: قال المفسرون: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة: {وما قدروا الله حق قدره} {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} إلى آخر ثلاث آيات. قال ابن عطية وغيره:(1/189)
وهي الآيات المحكمات. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال: قال ربيع بن خيثم لجليس له: أيسرك أن تؤتي بصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها؟ قال: نعم! قال: فاقرأ: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً} فقرأ إلى آخر ثلاث آيات. وقال كعب الأحبار: هذه الآية مفتح التوراة: {بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة الأنعام اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة. وقيل إنها العشر كلمات التي أنزلها الله عز وجل على موسى عليه السلام.
آية: لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون, ذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفسير أن هذه الآية لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن.
ومن سورة الأعراف:
ذكر الوايلي أبو نصر أخبرنا هبة الله بن إبراهيم قال: أنا علي بن الحسين قال: ثنا أبو عروبة قال: ثنا المسيب بن واضح قال: ثنا محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن عبد الله بن بشر المازني قال: خرجت من حمص وآواني الليل إلى البقيعة قال: فنزلت فحضرني من أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف: {إن ربكم الله الذي خلق(1/190)
السموات والأرض} الآية, قال بعضهم لبعض: أحرسوه الآن حتى يصبح, قال: فلما أصبحت ركبت وانطلقت إلى حاجتي. قال الوايلي: أخبرنا الخصيب بن عبد الله قال: ثنا محمد بن موسى بن فضالة قال: ثنا أحمد بن أنس قال: ثنا هشام -يعني ابن عمار- قال: ثنا محمد بن مرزوق قال: ثنا مهدي بن ميمون عن الحجاج عن الحسن بن علي قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية أن يعصمه الله من كل شيطان مريد, ومن كل سلطان ظالم, ومن كل لص عاد, ومن كل سبع ضار, آية الكرسي وثلاث من الأعراف إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وعشر آيات من الصافات وثلاث آيات من الرحمن يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا وخواتيم سورة الحشر وآخر سورة براءة. وروي أبو داود عن أبي الدرداء قال: من قال: إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه صادقاً كان فيها أو كاذباً.
ومن سورة يونس عليه السلام
قوله تعالى: {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله} قال ابن عباس رضي الله عنه: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية: {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين}. لم يضره كيد ساحر, ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.(1/191)
ومن سورة هود عليه السلام:
أسند الدارمي في مسنده عن كعب الأحبار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة)) وروي مروان بن سالم عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلق بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم)).
ومن سورة الرعد:
روي أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تأخذ الصاعقة ذاكر الله عز وجل)) وقال أبو هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)). وقال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلى ديته. وذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد, فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثاً عوفي مما يكون في ذلك الرعد. فقلنا فعوفينا, ثم لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت فيه, فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا؟ فقال: بردة أصابت أنفي فأثرت فيه. فقلت إن كعباً حين سمع الرعد قال لنا من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثاً عوفي مما يكون في ذلك الرعد فقلنا فعوفينا. فقال عمر بن الخطاب(1/192)
رضي الله عنه: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟ ورواه من وجه آخر بهذا المعنى عن ابن عباس قال: كنا مع عمر في سفر بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار قال: فأصابنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد وفرق الناس. قال: فقال لي كعب: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك السحاب من البرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب فلما أصبحنا اجتمع الناس. قلت لعمر: يا أمير المؤمنين كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس, قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب فقال: سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم؟! ذكرها في روايات الصحابة عن التابعين رضي الله عنهم.
ومن سورة إبراهيم عليه السلام:
إذا سرقت لك سرقة فاكتب على رغيف عمل بغير ملح: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكانٍ وما هو بميتٍ ومن ورائه عذابٌ غليظٌ}. {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً}.
ومن سورة سبحان:
ذكر الوايلي أبو نصر من حديث سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنها قالت: لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت العوراء أم حميد امرأة أبي لهب ومعها فهر ولها ولولة حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر رضي الله عنه. فقال أبو بكر رضي الله عنه:(1/193)
يا رسول الله قد أقبلت هذه وليس آمنها عليك؟ قال: ((كلا إني أقرأ قرآناً أعتصم به منها)) فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً}. فجاءت حتى وقفت على أبي بكر فقالت: أين صاحبكم؟ قال: لم يا أم جميل؟ قالت: بلغني أنه هجاني, قال: لا والله ما هجاك ولكن ربه هجاك.
خاتمة سبحان: روي مطرف بن عبد الله عن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر: ((أنها آية العز)). رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم , وروي عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك} الآية, وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً)) الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولداً ((تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا)) وجاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلاً شكى إليه الدين فأمره أن يقرأ: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعو فله الأسماء الحسنى} إلى آخر السورة ثم يقول توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات. وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول الله(1/194)
صلى الله عليه وسلم : ((ما كر بني أمر إلا تمثل لي جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت, والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً)).
ومن سورة الكهف
روي في فضلها أخبار وآثار, فمن ذلك حديث أنس قال: بينما رجل يقرأ سورة الكهف إذ رأى دابته تركض فنظر فإذا مثل الغمامة أو السحابة فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ((تلك السكينة نزلت للقرآن أو تنزلت على القرآن)) خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي الباب عن أسيد بن حضير وقد تقدم. وخرج الترمذي أيضاً عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم أيضاً وقال فيه من حفظ عشر آيات. وفي رواية من آخر الكهف. وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث النواس بن سمعان فمن أدركه -يعني الدجال- فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف. وذكر الثعلبي قال سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظ ولم تضره فتنة الدجال. ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة)) وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملء عظمها ما بين الخافقين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك))؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر الله له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال)) ذكره الثعلبي أيضاً.
قال المؤلف: ولا يصح. قال البخاري في التاريخ: إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة أبو سليمان مولى عثمان بن عفان مدني قرشي تركوه. قال(1/195)
لي أحمد بن أبي الطيب عن ابن أبي الفديك: مات سنة ست وثلاثين ومائة نهي أحمد بن حنبل عن حديثه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: من قرأ سورة الكهف في ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وقال الوايلي عنه: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له ما بين مقامه وبين البيت العتيق. وقال معاذ بن جبل: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلها ليلاً كانت له نوراً من السماء إلى الأرض)) ذكره الثعلبي. وقال كعب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات، التي في الكهف {إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً}. والتي في النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} والآية التي في الشريعة {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً} الآية. قال كعب: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب: فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام فأتي أرض الروم فأقام بها زماناً ثم خرج هارباً فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه في طريقه ولا يبصرونه. قال الكلبي: وهذا الذي يروونه عن كعب فحدثت به رجلاً من أهل الري فأسر بالديلم(1/196)
فمكث فيهم زمناً ثم خرج هارباً فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابه لتلمس ثيابهم فما يبصرونه.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: وتزاد إلى هذه الآي الآية التي تقدم ذكرها في سبحان {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} وأول سورة يس إلى قوله: {فهم لا يبصرون} على ما يأتي. وقال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب أن لا يضر أحداً في ليله ولا في نهاره قال: سلام على نوح في العالمين، وإن مما أخذ على الكلب أن لا يضر من حمل عليه وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. وقال أشهب: قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقال ابن وهب: قال لي حفص بن ميسرة رأيت على باب وهب بن منبه مكتوباً ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة))؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم)) خرجه مسلم من حديث أبي موسى وفيه فقال: ((يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة, وفي رواية على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تناثرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله عليه البركات. وقالت عائشة رضي الله(1/197)
عنها. إذا خرج الرجل من منزله فقال: بسم الله قال الملك: هديت. وإذا قال: ما شاء الله قال الملك: كفيت, وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قال الملك: وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: كفيت ووقيت وينحي عنه الشيطان)) قال هذا حديث حسن غريب خرجه أبو داود أيضاً وزاد يقال له: هديت وكفيت ووقيت. وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خرج الرجل من باب بيته -أو باب داره- كان معه ملكان موكلان به, فإذا قال بسم الله قالا: هديت وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قالا: وقيت, فإذا قال: توكلت على الله قالا: كفيت. قال: فيلقاه قريناه فيقولان ماريدان من رجل قد هدى ووقي وكفي))؟ وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق ابن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((تحاجت النار والجنة فقالت هذه -يعني الجنة- تدخلني الضعفاء)) من الضعيف؟ قال الذي برأ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم خمسين مرة أو عشرين مرة. وقال أنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من رأى شيئاً فأعجبه وقال: ما شاء لا قوة إلا بالله لم تضره عين)).
خاتمتها: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل, فيغلبني النوم؟ فقال: إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي} إلى آخر السورة فإن الله يوقظك متى شئت من(1/198)
الليل ذكر الثعلبي. وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر ابن حبيش قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها. قال: فجربناه فوجدناه كذلك.
ومن سورة طه:
أسند الدارمي أبو محمد في مسنده وأبو نصر الوايلي في كتاب الإبانة له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا, وطوبى لأجواف تحمل هذا, وطوبى لألسنة تتكلم بهذا)) قال الوايلي: هذا حديث حسن غريب. ومخرجه من المدينة. وأسند من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام)) الحديث بمعناه قال: وهذا عزيز جداً ومخرجه من البصرة. قرأ ههنا بمعنى أسمع وأظهر وأفهم كلامه من أراد من خلقه من الملائكة على ما أراد في الأوقات والأزمنة، لا أن غير كلامه تعلق وجوده مدة وزمان فإن كلامه سبحانه قديم. والعرب تقول: قرأت الشيء إذا تتبعه وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها نسلاً قط أي ما ظهر منا ولد فعلى هذا يكون الكلام سابقاً ويكون قراءته إسماعه وإفهامه بعبارات يخلقها وكتابة يحدثها، وهو معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله تعالى فاقرؤوا ما تيسر منه. قال ابن فديك وغيره وخرج الوايلي من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أول سورة تعلمت من القرآن كلها بأسرها طه، فكنت إذا قرأتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى قال: ((لأشقيت يا عائشة)) قال: وهذا حديث غريب شامي الطريق حسن.(1/199)
وفيها آية تدخل في باب الرقي وهي: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً}. ترقى بها التآليل وهي التي تسمى عندنا بالبراويق واحدها بروقة وقد تطلع في الجبين وأكثر ذلك في اليد فيؤخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير يكون في طرف كل عود عقدة تمر كل عقدة على التآليل وتقرأ الآية مرة ثم تدفن الأعواد الثلاثة في مكان بدو عقد التآليل فلا يبقى لها أثر جربت ذلك في نفسي وفي غيري فوجدته نافعاً والحمد لله.
ومن سورة الأنبياء عليهم السلام:
فيها آية {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} روي أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعاء ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع الله به رجل مسلم قط في شيء إلا استجيب له)) وفي هذه الآية سر لله بأن يجيبه كما أجابه وينجيه كما نجاه وهو قوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} وليس هنا دعاء صريح إنما هو مضمون قوله إني كنت من الظالمين فاعترف بالظلم فكان تلويحاً بالدعاء والله أعلم.
سورة الحج:
جاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدار قطني عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها(1/200)
سجدتين؟ قال: ((نعم! ومن لم يسجدها فلا يقرأها)) لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي.
ومن سورة المؤمنين:
خاتمتها {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} إلى آخرها.
روي الثعلبي والوايلي بإسنادهما من حديث ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن حنش بن عبيد الله الصنعاني أن رجلاً مصاباً مر به على ابن مسعود فرقاه في أذنه بهذه الآية أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً حتى ختم السورة فبرأ، فقال رسول الله: ((ماذا قرأت في أذنه))؟ فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال)) ولفظ الوايلي عن حنش عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلي فقرأ في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، فذكره بلفظه ومعناه.
ومن سورة الروم:
{فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} إلى قوله: {وكذلك تخرجون}
روى أبو داود عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)) إلى قوله: {وكذلك تخرجون} أدرك ما فاته من يومه ذلك, ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته.
سورة الم تنزيل السجدة:
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي(1/201)
صلى الله عليه وسلم : ((أنه كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل, وهل أتى على الإنسان حين من الدهر)). وخرج الدارمي في مسنده والترمذي في جامعه عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة, وتبارك الذي بيده الملك)). قال الدارمي وأخبرنا أبو المغيرة قال: ثنا عبدة عن خالد عن معدان قال: ((اقرؤوا المنجية وهي ألم تنزيل السجدة فإنه بلغني أن رجلاً كان يقرأها ما يقرأ شيئاً غيرها وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر قراءتي فشفعها الرب فيه, وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة. وارفعوا له درجة)). وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناده عن عمران بن خالد الخزاعي قال: كنت عند عطاء الخراساني جالساً فجاء رجل فقال: يا أبا محمد إن طاووساً يزعم أن من صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ فيهما في الأولى ألم تنزيل السجدة, وفي الثانية تبارك كتب له قنوت مثل ليلة القدر؟ فقال عطاء: صدق طاووس ما تركتهما.
ومن سورة الأحزاب:
فيها آيتان وكان أمر الله مفعولاً, وكان أمر الله قدراً مقدوراً. من قالها عند مصيبة أو شدة هانت عليه تلك الشدة أو المصيبة وعوضه الله خيراً منها إن شاء الله كما مضى في البقرة.
سورة يس:
روي أبو داود عن مغفل بن يسار قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((اقرؤوا يس على موتاكم المحتضرين)). ذكره الآجري في كتاب النصيحة له من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون عليه)) وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة)) خرجه أبو نعيم الحافظ أيضاً. وروي الترمذي أيضاً عن(1/202)
أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات)). قال: هذا حديث غريب, وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده وإسناده ضعيف. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها وتكفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة)) قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال: ((تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية)) قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: ((تدفع عن صاحبها كل شيء وتقضي له كل حاجة، ومن قرأها عدلت له عشرين حجة، ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله، ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف هدى ونزع عنه كل ذي غل)) ذكره الترمذي من حديث عائشة والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر رضي الله عنه. وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال ابن عباس: من قرأ يس حين أصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. وذكر أبو جعفر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ((لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهاراً كفي همه، ومن قرأها ليلاً غفر ذنبه)) وقال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة طه ويس.
قال المؤلف: رفع هذه الأخبار الثلاثة أبو الحسن الماوردي في العيون له، فقال: روي الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لكل شيء قلباً وأن قلب القرآن سورة يس ومن قرأها في ليلة أعطي(1/203)
يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم، وأن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئاً إلا طه ويس)) وقال يحيى بن أبي كثير: بلغني أن من قرأ سورة يس ليلاً لم يزل في فرج حتى يصبح ومن قرأها نهاراً حين يصبح لم يزل في فرج حتى يمسي. ولقد حدثني من جربها ذكره الثعلبي وابن عطية قال ابن عطية. ويصدق ذلك التجربة.
وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول حدثنا عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن الصلت عن عمرو ابن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب في جام سورة يس بزعفران ثم يشربه. واسند عن محمد بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه وأن في كتاب الله لسورة تدعى القريرة يدعي صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس. وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذٍ، وكان له بعدد من فيها حسنات)) وذكر ابن إسحاق في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي بن أبي طالب على فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} حتى بلغ فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات ولم يبق رجل منهم إلا وقد وضع على رأسه تراب ثم انصرف إلى حيث أراد، وفي رواية قال محمد بن إسحاق: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف يراصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا منه أذاه فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ(1/204)
يس وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون. فأطرقوا حتى مر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن فضائل يس أنها تكتب في تربيع ورقة من قوله يس إلى قوله فهم لا يبصرون مفرقة الحروف فإنها يرد بها العبد الآبق والجارية الآبقة يغرس في وسط الورقة في قلب اسم الآبق إبرة ويعلق حيث كان يأوي فإنه يعود مجرب إن شاء الله تعالى نقله بعض العلماء.
ومن سورة الصافات:
أولها عشر آيات وقد تقدم ذكرها, وذكر أبو عمر في التمهيد عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أنه من قال حين يمسى سلام على نوح في العالمين لم يلدغه عقرب.
خاتمتها: روي من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قبل أن يسلم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ذكره الثعلبي.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: أخبرنا الشيخ المحدث الحافظ أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن عمروك البكري بالحيرة قبالة المنصورة قراءة عليه بها قال: أخبرتنا الحرة أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشعري بنيسابور في المرة الأولى قالت: أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر القاري قال: ثنا أبو الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي قال: ثنا أبو سهل بشر بن أحمد الاسفرائيني قال: ثنا أبو سليمان داود بن الحسن البيهقي قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن يحيى بن عبد الرحمن التميمي النيسابوري قال: ثنا هشيم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاة أو حين ينصرف ((سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب(1/205)
العالمين)) وذكر الماوردي وروي الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم ((سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)) ذكره الثعلبي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً.
ومن سورة الزمر:
روي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وقد تقدم سنده وفيها آية: {قل اللهم فاطر السموات والأرض} في صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ: {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} وقال سعيد بن جبير: إني لأعرف موضع آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئاً إلا أعطاه: {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة(1/206)
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} وفيها آية أمان من الغرق وقد تقدم وهو قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} وقد تقدم في هود.
ومن سورة غافر:
فاتحتها قال ثابت البناني: كنت إلى جانب سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا يمر فيه الدواب فاستفتحت حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم فمر على رجل على دابة فلما قلت: غافر الذنب قال: قل يا غافر الذنب أغفر لي ذنبي، فلما قلت: وقابل التوب قال: قل يا قابل التوب أقبل توبتي، فلما قلت: شديد العقاب قال: قل يا شديد العقاب أعف عني، فلما قلت: ذي الطول قال: قل يا ذا الطول تطول علي بخير. فقمت إليه فأخذ ببصري فالتفت يميناً وشمالاً فلم أر شيئاً. ذكره الثعلبي وأنبأناه شيخنا الإمام أبو القاسم عبد الله عن أبيه الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكومي قال: أنبأنا الشيخ الإمام الحافظ العدل أبو الفضل أحمد بن صالح الحليمي إجازة ومناولة قال: أنبأنا الشيخ الإمام أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي بقراءتي عليه في صفر سنة أربع وأربعين وخمسمائة قال: أنبأنا الشيخ الفقيه أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن سليمان الواسطي فيما أذن لنا في روايته عنه وكتب لنا بذلك خطه في جمادى الأولى في سنة ثمان وستين وأربعمائة قال: أنا أبو أحمد محمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن أبي مسلم الفرضي قراءة عليه وأنا أسمع فأقربه قال: أنا أبو جعفر محمد بن نصير بن القاسم الخواص(1/207)
المعروف بالجلدي قراءة عليه في يوم السبت لعشر بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة قال: ثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي الصوفي قال: أنا أبو جعفر محمد بن الحسين البرجلاني قال: ثنا مالك بن عبد العزيز قال: ثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني قال: كنت في سرادق مصعب بن الزبير بمنى في مكان لا يمر فيه الدواب فاستفتحت حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، قال: فمر شيخ على بغلة شهباء فقال: يا غافر الذنب أغفر ذنبي يا قابل التوب تقبل توبتي يا شديد العقاب أعف عن عقابي يا ذا الطول تطول علي بخير. ثم ذهب فالتفت يميناً وشمالاً فلم أر شيئاً. وذكر الوايلي أبو نصر عبيد الله قال: أنبأنا الخطيب بن عبد الله قال: أنا محمد بن إبراهيم المرواني قال: ثنا عمر بن الحسن قال: ثنا محمد بن قدامة ثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ آية الكرسي حين يصبح وآية من أول حم المؤمن حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ في ليلته حتى يصبح)).
آية: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد}. روي في الخبر أنه قال: وأفوض أمري إلى الله أمن من مكر الناس قال الله تعالى: {فوقاه الله سيئات ما مكروا}.
ما جاء في الحواميم:
روي الدارمي في مسنده قال: حدثنا جعفر بن(1/208)
عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحواميم ديباج القرآن)) وروي ابن مسعود قوله: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل شيء ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن رضوان حسان محصنات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مثل الحواميم في القرآن كمثل الجران في الثياب)) ذكرهما الثعلبي وقال أبو عبيد: حدثني حجاج بن محمد عن ابن أبي مسعر عن محمد بن قيس قال: رأى رجل سبع جوار حسان مريشات في النوم فقال: لمن أنتن بارك الله فيكن؟ فقلن: نحن لمن قرأنا نحن الحواميم.
سورة الدخان:
في مسند الدارمي أبي محمد عن أبي رافع قال: ((من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له وزوج من الحور العين)) رفعه الثعلبي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ الدخان في ليلة الجمعة غفر له)). وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ الدخان في ليلة الجمعة غفر له)) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقداد يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك)) قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن أبي خثعم يضعف. قال محمد هو منكر الحديث. وذكر الثعلبي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بني له(1/209)
بيت في الجنة)) قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين له: حم الخان حديثها منكر لا يلتفت إليه أحد أصلاً.
خاتمة الأحقاف:
قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها يكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم يغسل ويسقي منها وهي (بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).
سورة الفتح:
في الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير معه ليلاً فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجبك قال عمر: فحركت دابتي ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت أن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: ((لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)) لفظ البخاري. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وخرجه مسلم عن قتادة عن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً إلى قوله فوزاً عظيماً مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية فقال: لقد أنزلت علي الليلة آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً. وقال المسعودي: بلغني أنه من قرأ سورة(1/210)
الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام.
سورة الرحمن جل وعلا:
روي علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن)) وقال العلماء: هذه سورة عدد الله فيها النعم وخاطب بتعديدها الثقلين كليهما الجن والأنس فقال في ذكر كل نعمة فبأي ألاء ربكما تكذبان فكان في هذا القول سؤال يحتاج إلى رد الجواب، وكذلك لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن قالوا: ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب، فلك الحمد. خرجه الترمذي من حديث جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا.فقال: ((لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم رداً كلما أتيت على قوله فبأي ألاء ربكما تكذبان، قالوا: ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد)) قال: حديث غريب وأثنى صلى الله عليه وسلم على الجن حين تلا عليهم السورة يحسن ردهم الجواب، وفيما بلغنا عن من تقدم أن فيها آية تقرأ على الكلب إذا حمل على الرجل وهي يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض إلى قوله بسلطان فإنه لا يؤذيه بإذن الله تعالى.
سورة الواقعة:
ذكر ابن وهب قال: ثنا السري بن يحيى عن أبي شجاع حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)) قال: وكان أبو ظبية لا يدعها أبداً. وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد والثعلبي في تفسيره أن عثمان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أفلا ندعوا لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني، قال:(1/211)
أفلا نأمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه حبسته عني في حياتي وتدفعه لي عند مماتي، قال: يكون لبناتك من بعدك؟ قال: أفتخشى على بناتي الفاقة من بعدي! إني أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)) وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة. ذكره الثعلبي, رواه شريح بن يونس قال: ثنا عبيدة قال: ثنا منصور عن هلال بن يساف قال: قال مسروق: من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
المسبحات:
روي الترمذي عن العرباض بن سارية: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ المسبحات ويقول فيها آية خير من ألف آية قال: هذا حديث حسن غريب أخرجه أبو داود أيضاً. يعني بالمسبحات الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.
سورة المجادلة: ذكر في فضلها أنها ليس فيها آية إلا وفيها اسم الله تعالى متلو وذلك لا يوجد في غيرها.
خاتمة سورة الحشر:
روى عن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: ((يا أبا هريرة عليك بآخر سورة الحشر)) فأعدت عليه فأعاد علي. وروى عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو في نهار فقبضه الله تعالى في تلك الليلة أو في ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة)) وروى عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من(1/212)
آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسى وإن مات في يومه مات شهيداً, ومن قرأها حين يمسى فكذلك)) قال: حديث حسن غريب, وذكر الثعلبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ آخر سورة الحشر {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً} فمات في ليلته مات شهيداً.
سورة الملك:
روى الترمذي عن ابن عباس قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها, فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر وإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر)) قال: هذا حديث حسن غريب وعنه صلى الله عليه وسلم : ((وددت أن تبارك الذي بيده الملك في كل مؤمن)) ذكره الثعلبي وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن سورة من كتاب الله عز وجل ما هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك)) خرجه الترمذي بمعناه قال فيه حديث حسن. وقال ابن مسعود: إذا وضع الميت في قبره فيؤتي من قبل رجليه فيقال ليس لكم عليه سبيل فإنه كان يقوم بسورة الملك على قدميه, ثم يؤتي من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل فإنه كان يقرأ سورة الملك ثم قال: هي المانعة من عذاب الله. وفي التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب. وروي أنه من قرأها في كل ليلة لم يضره الفتان.(1/213)
سورة والضحى والتين والقدر وإذا زلزلت:
إذا أردت أن ترى في النوم شيئاً مما يشكل عليك أمره فصل بعد العشاء الآخرة أربع ركعات تقرأ في الأولى بعد الفاتحة والضحى وفي الثانية والتين وفي الثالثة إنا أنزلناه وفي الرابعة إذا زلزلت ولا تتكلم بعد هذه الصلاة وتكتب إذا زلزلت إلى آخرها في رقعة وتجعلها تحت رأسك وتقول عند النوم اللهم أرني في منامي الخير في كذا وكذا وتسمي ما تريد فإنك تراه إن شاء الله تعالى:
سورة لم يكن:
قال القاضي أبو بكر بن العربي: روي إسحاق بن بشر الكاهلي الكوفي عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو يعلم الناس ما في لم يكن الذين كفروا لعطلوا الأهل والمال ولتعلموها)) وهذا حديث باطل, وإنما الحديث الصحيح ما روى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا)) قال: وسماني لك؟ قال: ((نعم)) فبكى.
قال المؤلف رضي الله عنه: الحديث متفق عليه خرجه البخاري ومسلم وغيرهما وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل إن أبياً كان أسرع في أخذ الألفاظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه, ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لأبي إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه.
سورة إذا زلزلت:
روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن, ومن قرأ قل يا(1/214)
أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن، ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له ثلث القرآن)) قال: حديث غريب، وفي الباب عن ابن عباس. وذكر أبو نصر الوايلي السجستاني في كتاب الإبانة له من حديث ابن وهب قال: حدثنا عبد الله بن عياش وعمرو بن الحارث وسعيد بن أيوب أن عياش ابن عياش حدثه عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرئني يا رسول الله. قال: اقرأ ثلاثاً من ذوات الراء. قال الرجل: كبر سني وثقل لساني قال: فاقرأ ثلاثاً من ذوات سبح، فقال الرجل: مثل ذلك، ولكن يا رسول الله أقرئني سورة جامعة فاقرأها، قال: إذا زلزلت الأرض زلزالها حتى أتى على آخرها فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق نبياً ما أبالي أن لا أزيد عليها حتى ألقي الله عز وجل. وذكر الحديث وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أفلح الرجل)).
سورة قل يا أيها الكافرون:
أبو داود عن فروة بن نوفل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: ((اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك)) قال الترمذي: رواه إسرائيل وزهير عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه. ورواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل عن فروة ابن نوفل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل عن أبيه. والأول أصح. وقد رواه عبد الرحمن بن نوفل عن أبيه وعبد الرحمن هو أخو فروة بن نوفل وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظاً لإبليس من قل يا أيها الكافرون لأنها توحيد وبراءة من الشرك. قال الأصمعي: كان يقال قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد المقشقشتان أي أنها يبرئان من النفاق. وقال أبو عبيدة: كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه. وقال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتعرق. وللجرب في الإبل إذا قفل توسف جلده(1/215)
وتقش جلده وتقشقش جلده. هنأت البعير أهنأه إذا طليته بالهناة. وروي الوايلي من حديث جابر بن عبد الله: أن رجلاً قام فركع ركعتي الفجر فقرأ في الركعة الأولى قل يا أيها الكافرون حتى ختم السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((هذا عبد آمن بربه)) ثم قرأ في الثانية قل هو الله أحد حتى انقضت السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((هذا عبد عرف ربه)) قال طلحة: فأنا أحب أن أقرأ هاتين السورتين في هاتين الركعتين. وروي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن)) خرجه أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له أخبرنا عبد الله بن ناجية قال: ثنا يوسف قال: ثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى بن وردان عن أنس.
سورة النصر:
وتسمى سورة التوديع وهي آخر سورة نزلت جميعاً قاله ابن عباس في صحيح مسلم وروي الترمذي قال: حديث عقبة بن مكرم العمي البصري قال: حدثني بن أبي فديك قال: أخبرني سلمة بن وردان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: ((هل تزوجت يا فلان؟ قال: لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج به, قال: أليس معك قل هو الله أحد؟ قال: بلى! قال: ثلث القرآن. قال: أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ قال: بلى! قال: ربع القرآن, قال: أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ قال: بلى! قال: ربع القرآن قال: أليس معك إذا زلزلت؟ قال: بلى! قال: ربع القرآن قال: تزوج تزوج! قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
سورة الإخلاص:
وفيها أحاديث كثيرة منها ما ثبت في البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها, فقال(1/216)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلته))؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)) وخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((احشروا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن)) فحشر من حشر فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ قل هو الله أحد ثم دخل, فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبراً جاءه من السماء فذاك الذي أدخله, ثم خرج فقال: إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن, قال بعض العلماء: إنما عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم الذي هو الصمد فإنه لا يوجد في غيرها من السور وكذلك أحد. وقيل أن القرآن أنزل أثلاثاً ثلثاً منه أحكام وثلثاً منه وعد ووعيد وثلثاً منه أسماء وصفات, وقد جمعت قل هو أحد الثلث وهو الأسماء والصفات ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءاً من أجزاء القرآن)) وهذا نص وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص والله أعلم. وروي مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله تعالى يحبه. وروي الترمذي عن أنس بن مالك. كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم بها في الصلاة افتتح بقل هو الله أحد فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك فتقرأ سورة أخرى؟(1/217)
فقال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت وإن كرهتم تركتكم, وكانوا يرونه أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بالخبر فقال: يا فلان ما يمنعك مما يأمرك به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: يا رسول الله إني أحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن حبك إياها أدخلك الجنة)) قال: حديث غريب صحيح. قال القاضي أبو بكر بن العربي: فكان دليلاً على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة، وقد رأيت على باب الأسباط قيما إماماً يقرب منه من جملة الثمانية والعشرين كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالإنزال فيقرأ في كل ركعة الحمد لله رب العالمين وقل هو الله أحد حتى يتم التراويح تخفيفاً عليه ورغبة في فضلها، وليس من السنة ختم القرآن في رمضان.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: وهذا نص قول مالك قال مالك: وليس ختم القرآن في المساجد سنة. وروي الترمذي عن أنس بن مالك قال: (أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجبت، قلت: ما وجبت؟ قال: الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الترمذي: ثنا مروان بن مرزوق النصري قال: ثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محى الله عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين)) وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب تبارك وتعالى أدخل على يمينك الجنة)) قال: هذا حديث غريب من حديث ثابت بن أنس وفي مسند الدارمي أبي محمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ قل هو الله أحد خمسين(1/218)
مرة غفرت له ذنوب خمسين سنة)). قال: وحدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثني حيوة قال: أخبرني أبو عقيل أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بني له قصر في الجنة ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنة ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث قصور في الجنة)) فقال عمر: يا رسول الله إذا لتكثر قصورنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الله أوسع من ذلك)) قال الدارمي: أبو عقيل زهرة بن معبد وزعموا أنه كان من الأبدال.
قال المؤلف غفر الله لنا وله: وقال البخاري في التاريخ زهرة بن معبد أبو عقيل القرشي: سمع جده عبد الله بن هشام وأباه وابن المسيب. روي عنه حيوة قال قتيبة عن الليث عن زهرة بن معبد قال: قال لي عمر بن العزيز: أين تسكن من مصر؟ قلت: الفسطاط. وسمع منه سعيد بن أبي أيوب وأبو معن وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحليلة من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره وأمن من ضغطة القبر وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة)) قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد تفرد به نصر بن حماد البجلي. وذكر أبو بكر الخطيب بن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس أشتد غضب الرحمن فتنزل الملائكة فيأخذون بأقطار الأرض فلا يزالون يقرؤون قل هو الله أحد حتى يسكن غضبه عز وجل وخرج عن محمد ابن خالد بن الجهيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من دخل يوم الجمعة المسجد فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة(1/219)
بفاتحة الكتاب وخمسين مرة قل هو الله أحد فذلك مائتا مرة في أربع ركعات لم يمت حتى يرى منزله من الجنة أو يرى له)) قال أبو عمر ومولى جرير بن عبد الله البجلي عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قرأ قل هو الله أحد حين يدخل منزله نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران)) وعن سهل بن سعد الساعدي قال: شكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة)) ففعل الرجل ذلك فأدر الله عليه الرزق حتى أفاض على جيرانه.
المعوذتان:
مسلم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط, قل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس)) خرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وروي النسائي عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدميه فقلت: أقرأ في سورة يوسف؟ فقال لي: ((لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس)) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان إذا اشتكي يقرأ على نفسه المعوذات وينفث, فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها)) متفق عليه. وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ بقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات. وذكر أبو عمر في كتاب الاستذكار رقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقرب بالمعوذتين وكان يمسح الموضع بماء فيه ملح.(1/220)
قال المؤلف رضي الله عنه: وقد تقدم في الفاتحة من حديث أبي سعيد الخدري أنه رقي سيد الحي من العقرب بفاتحة الكتاب فبرأ.
فصل في فضل آيات من القرآن ومنافعها زيادة على ما تقدم.
قال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} خرج الدار قطني في كتاب المدبج له من حديث السري ابن يحيى قال: حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ينفع بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن يكتب بزعفران أو عشق -يعني المغرة- أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها من شر السامة والهامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن شر أبي مرة وما ولد)). كذا قال ولم يقل من شر أبي مرة. وقال: ((ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا وصب بأرضنا. فقال: خذوا بتربة أرضكم فامسحوا بها نواصيكم –أو قال نوصيكم رقية محمد صلى الله عليه وسلم لا أفلح من كتمها أبداً أو أخذ عليها صفداً. ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من البقرة والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين من بعدها وخواتيم سورة البقرة من قوله لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخرها وعشر آيات من أول سورة آل عمران وعشراً من آخرها وأول آية من النساء وأول آية من المائدة وأول آية من الأنعام وأول آية من الأعراف والآية التي في الأعراف إن ربكم الله الذي خلق السماوات(1/221)
والأرض حتى يختم الآية والآية التي في يونس قال موسى: ما جئتم به السحر إلى آخر الآية والآية التي في طه وألق ما في يمينك إلى حيث أتي وعشراً من أول الصافات وقل هو الله أحد والمعوذتين. تكتب في إناء نظيف ثم يغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحسو منه الوجيع ثلاث مرات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبله وضوءه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ منه، ويصب على رأسه وصدره وظهره. ولا يستنجى به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله تبارك وتعالى فيفعل ذلك ثلاثة أيام قدر ما يكتب في كل يوم كتاباً وفي رواية من شر أبي فترة وما ولد. وقال: امسحوا بوصيكم ولم يشك وخرج أبو النصر الوايلي السجستاني في كتاب الإبانة له من حديث بقية بن الوليد عن أبي إسحاق الفزاري عن أبي جناب الكلبي عن زيد الأيامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي وجيع قال: ((وما وجع أخيك؟ قال: به لمم قال: أئتني به)) قال: فسمعته يعوذه فقرأ بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة وآيتين من وسطها وإلهكم إله واحد لا إله ألا هو الرحمن الرحيم وثلاث آيات من آخرها وآية من آل عمران وآية من الأعراف إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض إلى آخر الآية وآية من المؤمنين فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وعشر آيات من أول الصافات وثلاث آيات من آخر سورة الحشر هو الذي لا إله إلا هو وآي من قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن إلى قوله تعالى جدر بنا وقل هو الله أحد والمعوذتين فبرأ. الرجل وروي أنه من لم يكن له ولد فأراد أن يكون له ولد ذكر وعزم(1/222)
على ذلك استعان بالله تعالى وصلى ركعتين لله عز وجل مخلصاً قبل أن يجامع وقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس مرة واحدة والحمد لله بعد ذلك سبع مرات ثم قرأ وهو الذي خلق من الماء بشراً الآية والآية التي في الحج وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير والآية التي في الروم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك الآيات لقوم يتفكرون، الله الخالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض، يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر، يخرج من بين فرث ودم ولد طاهر).
إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين، فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا، والحمد لله رب العالمين. تقرأ هذه الآيات قبل أن تجامع زوجتك وتكتبها على فخدك الأيمن وتجامع أول النهار ويكون ذلك نهار يوم الأحد، فإن المرأة تأتي بولد طاهر مبارك ذكر من غير شك ولا ريب بحول الله تعالى. وذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة بإسناده عن أبي دجانة. قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله بينما أنا مضجعاً في فراشي إذ سمعت في داري صويراً كصوير الدجاج ودوياً كدوي النحل ولمعان كلمعان البرق، فرفعت رأسي فزعاً مرعوباً فإذا أنا بظل أسود مول يعلو ويطول في صحن داري فأهويت إليه فمست جلده فإذا جلده كجلد القنفذ فرمي في وجهي شرار النار،(1/223)
فظننت أنه قد أحرقني وأحرق داري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عامر دار سوء يا أبا دجانة ورب الكعبة، ومثلك يؤذي يا أبا دجانة))؟ ثم قال: ((أئتوني بدواة وقرطاس)) فأتي بهما فناوله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: اكتب يا أبا الحسن. فقال: وما أكتب؟ قال: ((أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله رب العالمين إلى من طرق الدار من العمار والزوار والصالحين إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن أما بعد فإن لنازلكم في الحق سفه فإن تك عاشقاً مولعاً أو فاجراً مقتحماً أو باغ حقاً مبطلاً هذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق ورسلنا يكتبون ما تمكرون اتركوا صاحب كتابي هذا وانطلقوا إلى عبدة الأصنام وإلى من يزعم أن مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون. تغلبون حم لا يبصرون حمعسق تفرق أعداء الله وبلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله فسيكفيكم الله وهو السميع العليم)) قال أبو دجانة: فأخذت الكتاب فأدرجته وحملته إلى داري وجعلته تحت رأسي ونمت ليلتي فلما انتبهت إلا من صراخ صارخ يقول: يا أبا دجانة أحرقتنا واللات والعزى فبحق صاحبك لما رفعت عنا هذا الكتاب فلا عودة لنا في دارك ولا في جوارك ولا في موضع يكون فيه هذا الكتاب. قال أبو دجانة: لا وحق صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعته حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو دجانة: فلقد طالت علي ليلتي لما سمعت من أنين الجن وصياحهم وبكائهم حتى أصبحت فغدوت فصليت الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما سمعت من الجن ليلتي وبما قلت لهم. فقال لي: ((يا أبا دجانة أرفع عن القوم فوالذي بعثني بالحق نبياً(1/224)
إنهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة)).
فصل في بيان معنى قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} وحكم متبع متشابه القرآن وفي الإيمان به.
وهو خاتمة الكتاب وبه تكمل فائدته وتعظم منفعته
روى مسلم عن عائشة قالت: تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ إلى قوله – وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم كذلك قال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)).
واختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة. فقال جابر بن عبد الله وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما: المحكمات آي من القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره. والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه. قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما السلام. ونحو الحروف المقطعة التي في أوائل السور.(1/225)
قال المؤلف رحمه الله: هذا أحسن ما قيل في المتشابه والمحكم وقد بسطنا أقوال العلماء في ذلك في كتب أحكام القرآن في سورة آل عمران. ثم متبعوا المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن واضلال العوام كما فعلته الزنادقة والقرامطة والطاعنون في القرآن أو طلباً لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن الباري تعالى جسم مجسم وصورة مصورة وذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب وإصبع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، أو تتبعوه على جهة إبداء تأويلها أو إيضاح معانيها أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه من السؤال. فهذه أربعة أقسام: الأول لا شك في كفرهم وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة، الثاني الصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد، الثالث اختلف في جواز ذلك بناء على الاختلاف في جواز تأويلاتها وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلاتها مع قطعهم باستحالة ظواهرها فيقولون أمروها كما جاءت، وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين محتمل منها. الرابع الحكم فيه الأدب البليغ كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ.
قال أبو بكر الأنباري: وقد كان الأئمة السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلة من القرآن لأن السائل إن كان يبتغي بسؤاله تجديد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزيز وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترح من الذنب إذا وجد المنافقين والملحدين في ذلك الوقت سبيلاً إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك(1/226)
والتضليل في تحريف القرآن عن منهاج التنزيل وحقائق التأويل.
فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: أنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه قال: فبعث إليه وأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر ثم قام إليه فضربه بعرجون فشجه ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب مني ما كنت أجد في رأسي. وقد اختلفت الروايات في أدبه ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته. واختلف العلماء في الراسخين في العلم هل هي ابتداء كلام مقطوع مما قبله معطوف على ما بعده فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله وأن الكلام تم عند قوله إلا الله. هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد. قال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا. وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز. وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس ويقولون على هذا خبر الراسخين.
قال الخطابي: وقد جعل الله تعالى آية كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه على قسمين، محكماً ومتشابهاً. فقال عز من قائل: وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات (إلى قوله) كل من عند ربنا. فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله(1/227)
بعلمه فلا يعلم تأويله أحد غيره, ثم أثنى الله على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه, ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله. وأن ما بعده استئناف كلام آخر وهو قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة. وإنما روى عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال. وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضم الفعل والمفعول معاً ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل فإذاً لم يظهر فعل ولا حال. ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً بمعنى أقبل عبد الله راكباً. وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقولك عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالاً له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر وقال أنشدنا أبو العباس ثعلب:
أرسلت فيها رجلاً لكالكا ... يقصر بمشى ويطول باركا
فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه فيكون له في ذلك شريك. ألا ترى إلى قوله عز وجل: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وقوله لا يجليها لوقتها إلا هو وقوله كل شيء هالك إلا وجهه فكان هذا كله مما استأثر الله به فلا يشاركه فيه غيره وكذلك قوله تبارك وتعالى: وما يعلم تأويله إلا الله. ولو كانت الواو في قوله والراسخون في العلم معنى للنسق لم يكن لقوله كل من عند ربنا فائدة والله أعلم.(1/228)
قال المؤلف رحمه الله: وما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روى عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل, وأنهم داخلون في علم المتشابه, وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به كل من عند ربنا. وقاله الربيع بن أنس ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين كما قال:
الريح تبكي شجوة ... والبرق يلمع في الغمام
وهذا البيت يحتمل المعنيين فيجوز أن يكون والبرق مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعاً بما قبله ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعاً. واحتج قائلوا هذه المقالة أيضاً بأن الله سبحانه وتعالى مدحهم بالرسوخ والعلم فكيف يمدحهم وهم جهال. وقد قال ابن عباس أنا ممن يعلم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية وقال أنا ممن يعلم تأويله حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين؟ قيل له: هذا لا يلزم لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك تفسيره على ما وقف عليه. وجواب أقطع من هذا وهو سبحانه وتعالى لم يقل لكل راسخ فيجب على هذا القول إذا لم يعلمه أحدهم علمه الآخر. ورجح ابن فورك أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب وأبو محمد مكي بن أبي طالب وغيرهم, وفي قوله عليه الصلاة والسلام لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ما يبين لك ذلك أي علمه معاني كتابك. والوقف على هذا يكون عند قوله والراسخون في العلم. وقال شيخنا أبو العباس أحمد(1/229)
ابن عمرو هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع. لكن المتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره, فمن قال من العلماء الحذاق أن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه إنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فمباح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه عما عسى أن يتعلق بتأويل غير مستقيم كقوله تعالى في عيسى عليه السلام وروح منه إلى غير ذلك فلا يسمى أحداً راسخاً إلا أن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له والله أعلم.
والرسوخ الثبوت في الشيء وكل ثابت راسخ وأصله في الإجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخاً وحكى بعضهم رسخ الغدير نصب ماؤه فهو من الأضداد حكاه ابن فارس في المجمل ورسخ ورضخ ورسب كله ثبت إلي. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه. فإن قيل كيف كان في القرآن متشابه والله تعالى يقول: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فكيف لم يجعله كله واضحاً؟ قيل له الحكمة في ذلك والله أعلم أن يظهر فضل العلماء لأنه لو كان كله واضحاً لم يظهر فضل بعضهم على بعض وهو معنى قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. وأولوا الأمر هم أولوا العلم والفقه في قول الحسن وقتادة وغيرهما والله عز وجل أعلم
تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلواته على خير خلقه سيدنا محمد نبيه وصفيه وحبيبه ونجيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم بعدد كل حرف جرى به القلم على يد العبد الفقير المعترف بالتقصير الراجي عفو ربه القدير عمر بن أحمد بن عمر المعروف والده بالصفدي اللخمي نسباً والشافعي مذهباً والمصري المولد والدار.
وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرون من شهر رجب سنة 788 أحسن الله عاقبتها.(1/230)