بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
$pkڑ‰r'¯"tƒ { الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) } .(1)
$pkڑ‰r'¯"tƒ { النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } .(2)
$pkڑ‰r'¯"tƒ { الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } .(3)
وبعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
هذا ونحمد الله تعالى إذ وفقنا لنتابع إخراج سلسة 'العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات'.
__________
(1) آل عمران الآية (102).
(2) النساء الآية (1).
(3) الأحزاب الآية (71).(1/1)
وإخراج هذا الجزء الذي سميته 'الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين للغزالي' وكل كتاب على منواله له أهميته، ينبغي أن يعجل بإخراجه لالتباس الكتاب على كثير من الناس، ولأنه قلما تجد بيتا إلا وفيه نسخة منه، وربما لا يوجد في البيت إلا هذا الكتاب فضلا عن المكتبات الإسلامية العامة والخاصة، وأما الدعايات في المجلات وفي المحاضرات والدروس فلا تسأل عن عددها وكيفيتها، هذا بالنسبة للذين لا ينتمون إلى نحلة التصوف، وأما المنتسبون إلى التصوف فهو إنجيلهم وزبورهم المنزل، فلا تسأل عن مدحهم له، وعن حث الناشئة عليه وعن تقريره منهاجا لدروسهم وحلقاتهم، وهذا الأمر ليس بالجديد بل هناك دعاية حتى بما يخالف المعلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة في قرآنهم وفي سنة نبيهم.
وقد ألفوا في ذلك الكتب،كما ألف عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروس كتابه المسمى 'تعريف الأحياء بفضائل الإحياء'. وهاك قصة من هذا الكتاب حتى تعلم جرأتهم ووقاحتهم على الله ورسوله والسلف الصالح.(1/2)
قال: وذكر اليافعي أيضا أن الشيخ الإمام الكبير أبا الحسن علي بن حرزهم الفقيه المشهور المغربي كان بالغ في الإنكار على كتاب إحياء علوم الدين، وكان مطاعا مسموع الكلمة، فأمر بجمع ما ظفر به من نسخ الإحياء، وهم بإحراقها في الجامع يوم الجمعة فرأى ليلة تلك الجمعة كأنه دخل الجامع، فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام الغزالي قائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن حرزهم قال الغزالي: هذا خصمي يا رسول الله، فإن كان الأمر كما زعم تبت إلى الله، وإن كان شيئا حصل لي من بركتك واتباع سنتك فخذ لي حقي من خصمي، ثم ناول النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الإحياء فتصفحه النبي صلى الله عليه وسلم ورقة ورقة من أوله إلى آخره ثم قال: والله إن هذا الإحياء لشيء حسن، ثم ناوله الصديق رضي الله عنه فنظر فيه فاستجاده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن، ثم ناوله الفاروق عمر رضي الله عنه فنظر فيه وأثنى عليه،كما قال الصديق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد الفقيه على بن حرزهم عن القميص وأن يضرب ويحد حد المفتري، فجرد وضرب فلما ضرب خمسة أسواط تشفع فيه الصديق رضي الله عنه وقال يا رسول الله لعله ظن فيه خلاف سنتك فأخطأ في ظنه فرضي الإمام الغزالي وقبل شفاعة الصديق، ثم استيقظ ابن حرزهم وأثر السياط في ظهره وأعلم أصحابه وتاب إلى الله عن إنكاره على الإمام الغزالي واستغفر ولكنه بقي مدة طويلة متألما من أثر السياط وهو يتضرع إلى الله تعالى ويتشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ومسح بيده الكريمة على ظهره فعوفي وشفي بإذن الله تعالى، ثم لازم مطالعة إحياء علوم الدين ففتح الله عليه فيه ونال المعرفة بالله وصار من أكابر المشايخ أهل العلم الباطن والظاهر رحمه الله تعالى.(1)
__________
(1) انظر الملحق بالإحياء (5/3-4).(1/3)
" التعليق على هذه القصة الباطلة:
من قرأ هذه القصة وقرأ الناقلين لها في كتبهم والمصادر التي تنقلها علم المخطط الكبير الذي خطط لضرب الإسلام والمسلمين، فكيف ينقل هذا في كتب المسلمين وهو مخالف للمعلوم عندهم من الدين بالضرورة، فمتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب، والأمية من معجزاته، والله تبارك وتعالى أثبت ذلك في كتابه، فقال: وَمَا { كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) } .(1)
__________
(1) العنكبوت الآية (48).(1/4)
قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية: أي قد لبثت في قومك -يا محمد- و من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة كما قال تعالى: الَّذِينَ { يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ }(1)، وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم القيامة، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم، ومن زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"(2)، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: "ثم أخذ فكتب"(3)، وهذه محمولة على الرواية الأخرى: "ثم أمر فكتب"(4)، ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرءوا منه وانشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم، وإنما أراد الرجل -أعني الباجي فيما يظهر عنه- أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك.ف.ر يقرأها كل مؤمن"(5)
__________
(1) الأعراف الآية (157).
(2) طرف من حديث البراء الطويل، أخرجه أحمد (4/298)، البخاري (5/380/2699) و(7/635-636/4251)، الترمذي (3/275/938)مختصرا.
(3) انظر ما قبله.
(4) انظر ما قبله.
(5) أحمد (3/173)، البخاري (13/113/7131)، مسلم (4/2248/2933)، أبو داود (4/494-495/4316و4317و4318) والترمذي (4/447/2245) من حديث أنس رضي الله عنه..(1/5)
وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة(1)فضعيف لا أصل له.(2)انتهى.
وعلى فرض -وهو من فرض المستحيل- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب وعرض عليه الإحياء وهو في حياته قائم بذاته صلى الله عليه وسلم، وقرأ الكتاب من أوله إلى آخره ولم يجد فيه ولا خطأ واحدا، فلا شك أن هذا الكتاب ملحق بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وملحق بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ولا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، فإذن هو الوحي الثالث، وأعوذ بالله من قصة كانت هذه نتيجتها أي ادعاء النبوة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أصحابه الكرام يعرضون عليه كثيرا من أعمالهم وأقوالهم، فكان يخطئ بعضا ويصوب البعض الآخر كما وقع في تأويل الرؤيا التي تأولها أبو بكر كما في الصحيح للإمام أبي عبد الله البخاري قال رحمه الله:
__________
(1) رواه البيهقي في الكبرى (7/42) والطبراني كما في المجمع (8/271) وقال: "هذا حديث منكر وأبو عقيل ضعيف وهذا معارض لكتاب الله تعالى". وانظر السلسلة الضعيفة رقم (343).
(2) انظر تفسير ابن كثير (6/294-295).(1/6)
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها، فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: اعبرها. قال أما الظلة فالإسلام وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل فيعلوا به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلوا به، ثم يأخذ به رجل فينقطع، ثم يوصل له فيعلوا به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، فقال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: لا تقسم.(1)
وغير هذا من الأمثلة كثير في تخطئته صلى الله عليه وسلم لأصحابه البررة، ولكن عقيدة الصوفية أن الولاية فوق النبوة كما قرر ذلك إمامهم ابن عربي* وغيره من أئمة الضلالة.
__________
(1) رواه أحمد (1/236)، البخاري (12/534/7046) ومسلم (4/1777/2269)، أبو داود (5/27-29/4632)، الترمذي (4/470-471/2293)، النسائي في الكبرى (4/387/7640) وابن ماجة (2/1289-1290/3918) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
* بقوله: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي. وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج (5/335-336) و(8/22-23) وكذا في مجموع الفتاوى (2/220-228).(1/7)
وهل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ما في الإحياء من الأحاديث التي لا أصل لها وعددها كثير وصل إلى تسعمائة وبضع وأربعين، وأما الموضوعة فهي التي تملأ الحيز الكبير من الإحياء، وأما الضعيفة فهي السياج الذي يغطي الإحياء، وأما الكذب على السلف من صحابة وغيرهم فلا تسأل عن مقداره، فالإحياء مخبأة لكل كذب على السلف، فأين ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(1)فهل تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث أم ماذا؟ فليجبنا الصوفية ومحبوهم.
وهل اطلع صلى الله عليه وسلم على الطامات الكبرى والبلايا العظمى التي شبك بها الغزالي إحياءه من أوله إلى آخره، فلو أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم هؤلاء الكذبة لبطلت نبوته ورسالته وكان كاذبا في كل ما دعا إليه من إخلاص التوحيد لله تعالى وتعظيمه وتقديره حق قدره، وأعوذ بالله من كلام تكون نتيجته هكذا.
ومن كَذبَ فيما ذكرت فليطالع هذا البحث المبارك من أوله إلى آخره وليرجع بنفسه إلى كتاب الإحياء وليقرأه بتدبر وتمعن متجردا من الأهواء السابقة واللاحقة، ومتخليا عن كل الحبال الشيطانية التي هي منطلق كل صوفي ومتعاطف مع الصوفية بغير حجة ولا برهان و لا دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولو تتبعنا ما كتبه المخرفون في مدح الإحياء لسودنا صحائف كثيرة وما في ذلك إلا الاثقال ومضيعة الوقت للقراء، لأن الباطل كثير والمقبلون عليه أكثر، ولو ميز الناس بين الحق والباطل ما أقبل الناس على كتب البدع والضلالات التي لها الرواج الكبير في جميع أنحاء العالم الإسلامي، بل معظم الكتاب المعاصرين يستقون معلوماتهم من مثل هذه الكتب، ويظنون أنهم يحسنون صنعا.
__________
(1) رواه أحمد (3/98)، البخاري (1/268/108) ومسلم في المقدمة (1/10/2)، الترمذي (5/35/2661)، النسائي في الكبرى (3/458/5914) وابن ماجة (1/13/32) من حديث أنس.(1/8)
ولهذا نجد الكثير من الكتاب المعاصرين، لو سئل أحدهم عن الإحياء ومثله لأثنى وعظم، وقال: مثلي يسأل عن الإحياء، هذا إن كان بعيدا عن التيار الصوفي، أما إن كان منهم فكما قدمت.
كل هذا دعاني إلى إخراج هذا الجزء اليسير ليطلع عليه القراء الكرام ويزنونه بالميزان العلمي النزيه الذي لا جور فيه ولا ظلم، وما قلت شيئا من عندي وإنما أنا مقتد بمن ذكرت من شهادات العلماء.
على أن أبا حامد رحمه الله قد رجع عن كل ما كتبه، وكره ذلك وأقبل على قراءة صحيح البخاري وبقية كتب الحديث، وحسن حاله. فلهذا حديثنا عن الإحياء وصاحبه الغزالي -أقصد به الغزالي قبل توبته ورجوعه وهو متلبس بصوفيته-، أما الغزالي الذي أقبل على صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرها فهذا نترحم عليه وندعو له ولسائر المسلمين الأحياء منهم والأموات بالرحمة والمغفرة، وللتأكد مما ذكرت، أنقل ما نقله الخبراء في كراهية أبي حامد لكل ما كتبه في كتبه.
أبو حامد الغزالي وكراهيته لكل ما كتب:
قال الحافظ الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العقيدة الاصفهانية. "وقد وقع في كلام أبي حامد وغيره نحو من هذا في مواضع أخر حتى ذكر في ما يتأول وما لا يتأول أن ذلك لا يعلم إلا بتوفيق إلهي يشاهد به الحقائق على ما هي عليه ثم ينظر في السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق مشهوده أقره وما خالفه تأوله، وذكر في موضع آخر أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه كما سمعه موسى بن عمران وأمثال هذه الأمور، ولهذا تبين له في آخر عمره أن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية، وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله، وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه".(1)
__________
(1) ص.159).(1/9)
وقال في منهاج السنة: "وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم".(1)
وقال: "وصاحب 'مشكاة الأنوار' و'الكتب المضنون بها على غير أهلها' وقع في كلامه قطعة من هذا النمط، وقد كفرهم بذلك في مواضع أخر، ورجع عن ذلك، واستقر أمره على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما".(2)
" التعليق:
__________
(1) 5/269).
(2) 8/21).(1/10)
أقول: وقد ثبت هذا عن غير واحد من المؤرخين للغزالي، وأنه أقبل على الصحيحين وبقية كتب الحديث، فلماذا ينصح المعاصرون بقراءة كتب الغزالي وقد نسخه بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره بالإقبال على صحيح البخاري ومسلم، فلماذا لا يكونون مثله، فينصحون الناس بقراءة البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث والتفسير السلفي والعقيدة السلفية وكل ما له صلة بذلك من علم نافع ويحذرونهم من كتب الدجل والخرافات والفلسفة والمنطق وعلم الكلام وكل ما فيه مضيعة لدينهم ودنياهم حتى يحفظوا عليهم دينهم وتستغل أعمارهم وأوقاتهم لا كما وقع للغزالي حتى ملأ الأمة ضلالا ثم رجع عن ذلك، فينبغي للمعتبر أن يعتبر بالغزالي وأمثاله ممن قضوا حياة طويلة كما وقع لبني إسرائيل الذين تاهوا أربعين سنة عقابا من الله لأنهم تمردوا على النبوة وعلى علمها، فكذلك النشأة والعلماء إذا لم يتمسكوا بعلم النبوة تاهوا بمثل ما تاه به الغزالي، ولو لم يتداركه الله بلطفه الخفي لاستمر على ذلك إلى الممات، ولعل حسن قصده وحسن نيته كان سببا له في الخير، فتداركه الله بلطفه فتاب ورجع وكره ما كتبه من ضلال، ومعظم المسلمين لا ينتبهون لهذا، فهم متعصبون ومستميتون على هذه الكتب يدافعون عما فيها من الأخطاء ويتأولون ما فيها من الكفريات والضلالات، ويعتذرون للمؤلفين بأعذار لا مبرر لها ولا قبول عند من له خبرة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالمنهاج السلفي الصحيح.
وأضيف، ومن الأشياء التي دفعتني إلى إخراج هذا الجزء من العقيدة السلفية ما هو شائع في الكتب وعلى أَلْسِنَةِ الناس أن إحراق إحياء علوم الدين كان لسبب سياسي لا أقل ولا أكثر، ومن قرأ ما كتبته تبين له تفاهة هذه الفكرة التي هي من وضع المخرفين والمستشرقين وأذنابهم الذين يحرصون على بقاء المسلمين في غفلتهم وضلالهم. والأسباب الحقيقة لحرق إحياء علوم الدين وكل كتاب ضلالة مثله أربعة أسباب:(1/11)
السبب الأول: الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بإحسان.
السبب الثاني: كتاب إحياء علوم الدين هو الأصل الكبير لكل بدعة منتشرة في الصوفية وفي غيرهم.
السبب الثالث: ما في الكتاب من طامات وضلالات عقدية.
السبب الرابع: شهادة علماء الكتاب والسنة في 'الأحياء' وأنه كتاب ضلالة يجب إحراقه وإبعاده عن المسلمين حتى لا يضلوا بضلاله.
تمهيد
هذا التيار الجديد الذي دخل على الإسلام، والذي كان الغرض منه هو هدم الكيان الإسلامي وتشتيت شمله وتمزيق وحدته وتشويه شخصيته وثقافته وإدخال أهله في متاهة لا يمكن أن يخرجوا منها وقلب حقائق الخلق والخلقة، ومسخ العقول البشرية، ورفع ستار الفكر والتفكير، وإذهاب العقل والعقلاء، وفتح الباب لكل رافد من روافد الشر، دون توقف طيلة العصور الإسلامية، وهو لعمر الله حيلة وكيد ومكر وخداع لا يمكن أن يعرفه إلا من قرأ تاريخه ومبادئه، وأرى من المناسب قبل الكلام على إحياء أبي حامد الغزالي أن أصدر البحث ببعض المسائل ذات الأهمية للتعرف على هذه النِّحلة الخبيثة الباطلة.
المسألة الأولى:
هذه التسمية -أي الصوفية- غريبة على اللغة العربية، وعلى الشريعة الإسلامية، واختلف الأقدمون والمتأخرون في أصلها، وبعد قراءتي لأقوال المختلفين لا أستطيع أن أخرج بنتيجة للتسمية، لأنني لا أجد ميزانا لغويا أو عقليا أو شرعيا أستطيع أن أرجح به، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، اختلف أيضا متى بدأ زمانه، فذكر ابن تيمية(1)وسبقه ابن الجوزي(2)وابن خلدون(3)في هذا، أن لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة الأولى، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما.
وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/5).
(2) تلبيس إبليس (ص.201-202).
(3) المقدمة (3/1097).(1/12)
وقال السراج الطوسي في الباب الذي خصصه للرد على من قال:لم نسمع بذكر الصوفية في القديم وهو اسم مستحدث.
يقول في هذا الباب، إن سأل سائل فقال:لم نسمع بذكر الصوفية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، ولا في من كان بعدهم ولا نعرف إلا العباد والزهاد والسياحين والفقراء، وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صوفي، فنقول: وبالله التوفيق.
الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها حرمة وتخصيص من شمله ذلك فلا يجوز أن يعلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة، وذلك مرتبة لشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمته، ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء الراضين والصابرين والمخبتين وغير ذلك، وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نسبوا إلى الصحبة والتي هي أجل الأحوال استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أجل الأحوال وبالله التوفيق. وأما قول القائل، إنه اسم محدث، أحدثه البغداديون فمحال، لأن في وقت الحسن البصري رحمه الله كان يعرف هذا الاسم، وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أنه قال: رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه، وقال: معي أربعة دوانيق يكفيني ما معي.
وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء وقد ذكر في الكتاب الذي جمع فيه أخبار مكة عن محمد ابن إسحاق بن يسار وعن غيره يذكر فيه حديثا أنه قبل الإسلام، قد خلت مكة في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد، وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي، فيطوف بالبيت وينصرف، فإن صح ذلك فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم، وكان ينسب إليه أهل الفضل والصلاح، والله أعلم.(1)
__________
(1) اللمع (ص.42-43).(1/13)
قلت:كل هذا لا يستفاد منه أن هذا الاسم كان معروفا في الصدر الأول، فما ظهر حتى تمكن وتركز الدخلاء في الإسلام، ومن رجع إلى تراجم الرجال في الجرح والتعديل وهي العمدة، والذي يمكن أن يقال فيه إنه استقراء للأسماء الطيبة والقبيحة فلا نجدهم عدلوا أو جرحوا بهذا الاسم.
المسألة الثانية:
الذي ينبغي أن يعلم أن التصوف مادته ومصدره مأخوذة من الديانات المحرفة السابقة، ومن المذاهب الهدامة القديمة، وسنتبين ذلك إن شاء الله عند أخذ نماذج من كتاب إحياء علوم الدين وغيره، فنبين مصادره وبلاياه وترهاته التي ملأ بها كتابه، فالنصرانية وضلالها جلية جدا في التصوف، واليهودية المحرفة واضحة في التصوف، والبوذية الهالكة الساقطة لا تخفى على من له علم بها في التصوف والأفلوطينية الحديثة جلية وواضحة لا تخفى، وأما التشيع فهو العمود الفقري والسائل الدموي للتصوف، فمن قرأ التصوف وأمعن النظر يجد أن أصول التشيع قد امتدت فروعها، ومثلها المتصوفة أحسن تمثيل، وسيتضح لنا ذلك إن شاء الله في حينه بالأمثلة.
إن الإسلام الذي هو الكتاب والسنة لا يحتاج إلى إضافة من هذه الروافد لأنها تخالف المنهاج الصحيح الذي جاء به، فمن درس الإسلام واستوعبه، ودرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية، وسيرة أصحابه والسلف الصالح بعدهم، فلا يحتاج مع هذا إلى هذه التخبطات المزرية الباردة.
المسألة الثالثة:(1/14)
إن التصوف كان نقمة على المسلمين طيلة تاريخه، فبالإضافة إلى أنه شتت شملهم وبدد وحدتهم، وشوه سمعتهم، فإنه أقعدهم عن أهم فريضة جاء بها الإسلام، ألا وهي فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستعداد الكامل بجميع القوى التي يمكن أن يكتسبها المسلمون، فأمرهم بالانزواء والخلوات والأذكار والأكاذيب، وجعل من أسس منهاجه الجوع والعطش والهيام في البراري والقفار، والذهاب إلى الخرب، وستأتي على ذلك أمثلة إن شاء الله. وجعلهم يعيشون على الأماني الكاذبة التي لا أصل لها لا في عقل ولا دين، وأصبح المتصوف همه الوحيد أن تكشف له الحجب، وأن تشرق له الأنوار، وأن يسمع الأحاديث من وراء حجاب، وأن يصل إلى ما وصل إليه شيخه من الأسرار الباطنية، بل يتمنى أن يصل إلى مرتبة رفع التكاليف الشرعية، فلا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام.
المسألة الرابعة:
كتب الكثيرون عن الغزالي وشخصيته ومؤلفاته، المستشرقون والمسلمون وكل واحد درس الغزالي على حسب تكوينه وعقيدته، فمنهم من حلله ودرسه من المنظار الفلسفي، ومنهم من درسه من المنظار الكلامي، ومنهم من درسه من المنظار الصوفي، وإنه شيخ الصوفية الذي قعد مذهبهم. وأما الدراسة من المنظار السلفي،فلم أر فيها إلا مواقف القدامى، ومنهم الذهبي الذي سننقل كلامه فيما بعد إن شاء الله، ودراسة جادة بعنوان أبو حامد الغزالي والتصوف للأستاذ عبد الرحمن دمشقية(1)هذا من جهة.
__________
(1) وقد طبع الكتاب في دار طيبة للنشر، وهو كتاب مفيد جدا، وقد استفدت منه الكثير.(1/15)
ومن جهة أخرى، فإن الدراسة لكتب الغزالي وبيان ما فيها من الأخطار العقدية على المسلمين فرض على من تأهل لذلك وألا يكون داخلا في كتمان ما أوجب الله بيانه كما قال تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159)(1)وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في السنن والمسند من طريق أبي هريرة وابن عباس وابن عمرو: "من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار".(2)
وعلق البخاري في صحيحه عن أبي ذر قال: لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.(3)
هكذا كان السلف مثالا في بيان الحق مهما كلفت الظروف، ولو بوضع السيف على القفا، وأخذ الرأس برمته، فيجب علينا أن نقتدي بهم، وأن نأخذ مواقفهم درسا لنا فلا نسكت عن باطل مكتوب، أو مقروء، أو مسموع، أو مرئي.
وقد ضرب الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه بسهم كبير وافر في بيان ما في مؤلفات الغزالي من ضلال وباطل، وأنقل على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) البقرة الآية (159).
(2) رواه أحمد (2/263، 305، 344)، أبو داود (4/67-68/3658)، الترمذي (5/29/2649) وقال: "حسن". ابن ماجه (1/96/261)، وصححه ابن حبان (1/297/95) والحاكم (1/101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم
(3) الفتح (1/212) ووصله الدارمي في سننه (1/136-137) وأبو نعيم في الحلية (1/160).(1/16)
جاء في درء تعارض العقل والنقل في الكلام على كتاب الغزالي مشكاة الأنوار -وهو كتاب مطبوع صغير متداول عند الناس-. قال رحمه الله في معرض الكلام على العقول العشرة: "والكلام على فساد هذا طويل، ليس هذا موضعه، ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كثير من الداخلين في العلم والعبادة، إذ صاحب كتاب 'مشكاة الأنوار' إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة".(1)
ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية، وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك، فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي، والولي يأخذ العلم العقلي المجرد، ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران، لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوت، أي بخطاب كان في نفسه ليس خارجا عن نفسه، ويقول بعضهم: كلم من سماء عقله، وأحدهم يُكَلَّم بدون هذا الحجاب، وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه.
وصاحب 'خلع النعلين'(2)وأمثاله يسلكون هذا المسلك. وهؤلاء أخذوا من 'مشكاة الأنوار' التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة، وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم.(3)
وقال رحمه الله في معرض الرد على ابن رشد.
__________
(1) 1/317).
(2) هو ابن قسي.
(3) درء التعارض (10/205).(1/17)
فيقال: هذا الرجل يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية الذين يقولون: إن الرسل أظهرت للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك، إذ كانت الحقيقة لو أظهرت لهم لما فهم منها إلا التعطيل، فخيلوا ومثلوا لهم ما يناسب الحقيقة نوع مناسبة، على وجه ينتفعون به، وأبو حامد في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في 'إلجام العوام' و'التفرقة بين الإيمان والزندقة' مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علما ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المُوَرِّث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية الدهرية ونحوهم من حزب التعطيل والجحود.
وما ذكره هذا في النور أخذه من "مشكاة "أبي حامد، وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد.
وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف، ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام، وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر".(1)
وقال في موضع آخر نقلا عن ابن رشد:
__________
(1) درء التعارض (10/270).(1/18)
قال: "وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة، في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل، تبينت أن هذا المثال صحيح. فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بـ 'المقاصد'، وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بـ 'تهافت الفلاسفة'، فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم، وبدعهم في مسائل وأتى فيه بحجج مشككه، وشبه محيرة أضلت كثيرا من الناس عن الحكمة والشريعة جميعا، ثم قال في كتابه المعروف 'جواهر القرآن' إن الذي أثبته في كتاب 'التهافت' هي أقاويل جدلية، وأن الحق إنما أثبته في 'المضنون به على غير أهله' ثم جاء في كتابه المعروف بـ 'مشكاة الأنوار' فذكر فيه مراتب العارفين بالله، وقال: إن سائرهم محجوبون، إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك. وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية. وهو قد قال في غير ما موضع: إن علومهم الإلهية تخمينات، بخلاف الأمر في سائر علومهم. وأما في كتابه الذي سماه بـ 'المنقذ من الضلال' فتحامل فيه على الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بـ 'كيمياء السعادة' فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة وهذا كله خطأ.(1)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (6/222-224).(1/19)
وقال في الكلام على كتاب الغزالي المسمى بالمضنون به على غير أهله: "ثم أعجب من هذا كله أنكم تقولون : الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها. ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد، وقالوا إن الإنسان مثل الله، وأن قوله ليس كمثله شيء، المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء، ويقولون: إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله.(1)
وجاء في موضع آخر قال رحمه الله: "ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب 'المضنون بها على غير أهلها' وصاحب 'نهاية الإقدام' ونحوهما، من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول -أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية: إما ملاحدة الشيعة كما يوجد في كلام صاحب 'الملل والنحل' و'نهاية الإقدام'- وقد قيل: إنه صنف تفسيره 'سورة يوسف' على مذهب الإسماعيلية: ملاحدة الشيعة، وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية.
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف، وكل من هؤلاء وهؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل.
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم، وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ، حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء، مع أن الذي يحيل عليه لابد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم ما لا يعلمه إلا الله، وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلا منه وضلالا، لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق، كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/82-83).(1/20)
والمقصود أنه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل وما يسمونه معقولات، ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل".(1)
وأنت إذا قرأت هذه الأقوال من هذه الكتب المطبوعة المنتشرة في العالم الإسلامي، علمت عقيدة أبي حامد وفكره ومنهاجه، وما كان عليه من علم، ولو تتبعت ما كتبه ابن تيمية في سائر كتبه عن الغزالي لبلغ ذلك مجلدات وأكتفي بالأمثلة لأن الذي يهمني هو معرفة حال كتب الغزالي.
على أن الغزالي نفسه قد تراجع عن كل ما كتبه، وندم على ذلك وأقبل على الصحيحين وسنن أبي داود،كما أثبت ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وسيأتي ذلك إن شاء الله في الكلام على إحياء علوم الدين للغزالي. وكثير من الناس لا يفهمون مقاصدنا أو يفهمون ويغلطون الناس وينسبوننا إلى الكلام في هؤلاء، وقد ذكرت في مقدمة كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' أن أمر الأموات لا يعنينا لا في قليل ولا في كثير، والذي يهمنا ما خلفوه من مؤلفات، وما فيها من باطل وضلال، فيجب تبيانه وإلا كنا من الغاشين لله ولكتابه ولنبيه ولسنته ولصحابته ولبقية السلف الصالح وعامتهم.
كتابه "إحياء علوم الدين "
وأما كتابه المسمى بـ 'إحياء علوم الدين' فأحب أن أنقل عملا تاريخيا مباركا قام به خليفة صادق من خلفاء المسلمين، وإمامهم في وقته، ويكون هو العنوان للكلام على كتاب إحياء علوم الدين، سميته بـ'الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين من قبل أمير المؤمنين ابن تاشفين'(2)أدخله الله جنة النعيم.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/173).
(2) هو علي بن يوسف بن تاشفين.(1/21)
وأقصد بذلك الرد على ما يذكر في كتب التاريخ، وما يروجه الخرافيون والمستشرقون وأذنابهم من الذين يحبون الخرافات من أن حرق إحياء علوم الدين كان لسبب سياسي. ومن تتبع الأسباب التي ذكرتها في هذا البحث المبارك، وكان من أهل الفهم والعقل والعقيدة الصحيحة والتقدير لله ولدينه ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجرد عن نزوات الخرافات والباطل علم كذب المستشرقين والخرافيين وأشباههم.
السبب الأول
1- فتوى علماء أهل السنة والجماعة: "وهم علماء المرابطين".
بهؤلاء العلماء وبغيرهم من علماء أهل السنة والجماعة في كل العصور قام أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي هو من أهم الأصول ومن أعظمها، والذي إذا قام في الأمة أصلح الله شأنها وحالها، واستقام حكامها وشعوبها، واستقام دينها وعقيدتها، وبضياع هذا الأصل وبفقدان علماء الكتاب والسنة يدخل على الأمة كل دخيل. ويستبعد أن يجتمع علماء الكتاب والسنة في عهد المرابطين على ضلالة، وما في داخل الإحياء هو الذي يفسر فتواهم، وما في داخل الإحياء لا يهددهم بنزع أية مصلحة لهم.
ففتواهم رضي الله عنهم كانت نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولهذا ما يبهرج به المبتدعة ويذكرونه من دعاية في أن السبب كان سياسيا فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تدجيل المبتدعة وقلبهم لحقائق الأمور، وما ذلك بغريب منهم، فدينهم ودعوتهم كلها في قلب الحقائق رأسا على عقب.(1/22)
جاء في السير في ترجمة ابن تاشفين: قال الذهبي: وكان شجاعا مجاهدا عادلا دينا ورعا صالحا معظما للعلماء مشاورا لهم، نفق في زمانه الفقه والكتب والفروع حتى تكاسلوا عن الحديث والآثار، وأهينت الفلسفة، ومج الكلام ومقت واستحكم في ذهن عليٍّ على أن الكلام بدعة ما عرفه السلف فأسرف في ذلك، وكتب يتهدد ويأمر بإحراق الكتب، وكتب يأمر بإحراق تواليف الشيخ أبي حامد، وتوعد بالقتل من كتمها، واعتنى بعلم الرسائل والإنشاء وعُمِّر.(1)
" التعليق:
هذا النص العظيم فيه بيان لمنهاج إمام من أئمة المسلمين، وهو القضاء على كتب البدع مهما كان اتجاهها، ومهما كان تشعبها، وسواء كانت كلاما أو فلسفة أو تصوفا بغيضا.
فماذا يقول المروجون للبدع في هذا الإمام، هل هذه الكتب كانت خطرا على ملكه، وأن دراستها ستسبب انقلابا في مملكته؟ لا والله بل عليها اعتمد كل من ثبت ملكه وإمارته، ومن قرأ التواريخ الماضية وجد مصداق ذلك شاهدا. ونظرة وجيزة إلى كتاب الخطط للمقرزي تبين لك أن الأمراء الذين أرادوا تثبيت ملكهم ركزوا على تثبيت هذه المناهج الباطلة والاشتغال بهذه البدع لأن في ذلك تشتيتا للجهود والأذهان، وإشغالا لها بما لا يمكن أن تتنبه معه لعظائم وبلايا الحكام.
__________
(1) السير (20/124).(1/23)
فالروافض الفاطميون والبويهيون وأضرابهم من دعاة الباطنية والضلال ما ثبتوا ملكهم إلا بهذه البدع، ولهذا كل ما يشاع ويكتب من أن حرق كتب البدع عامة، والإحياء خاصة كان لأسباب سياسية، فهو تجهيل وتضليل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يزعمون أن الغزالي دعا على المرابطين فسقطت مملكتهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الترويج للخرافات والجهالات بكل أنواعها، فمتى كان الله تعالى يرضى لعباده أن يكونوا على مثل هذه الأحوال، فهو تعالى يأمر بالعدل كما قال: * { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90)(1)، وقال تعالى: وَإِذَا { فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) }(2)، وسترى ما في كتاب الغزالي من الفحشاء والمنكر والزور والبهتان، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه الكرام وعلى السلف الصالح عليهم الرضوان والغفران.
وجاء في الفكر السامي: وكان علي بن يوسف واقفا كأبيه عند إشارة الفقهاء وأهل العلم، قد رد جميع الأحكام إليهم، فلما أفتوه بإحراق كتاب الإحياء، وكتب إلى أهل مملكته في سائر الأمصار والأقطار بأن يبحث عن نسخ الإحياء بحثا أكيدا ويحرق ما عثر عليه منها، فجمع من نسخها عدد كثير ببلاد الأندلس، ووضعت بصحن جامع قرطبة، وصب عليها الزيت ثم أوقد عليها النار، وكذا فعل بما ألفي من نسخ بمراكش، وتوالى الإحراق عليها في سائر بلاد المغرب.(3)
__________
(1) النحل الآية (90).
(2) الأعراف الآية (28).
(3) الفكر السامي (2/75).(1/24)
وقال الذهبي في السير: ومن معجم أبي علي الصدفي تأليف القاضي عياض له قال: والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعية في ذلك وألف فيه تواليفه المشهورة أخذ عليه فيها مواضع وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتثل ذلك.(1)
2- طلبة أهل السنة والجماعة:
جاء في المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب:
وسئل القباب عن جماعة من الطلبة يطعنون في كتاب الشيخ الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه المشهور بالإحياء، ويشددون في الإنكار على من أراد قراءته وبالغ بعضهم في ذلك إلى أن قال: ليس ذلك بإحياء علوم الدين وإنما هو إماتة علوم الدين.(2)
" التعليق:
قلت: فيه والحمد لله من قديم الزمان من كان منتبها للخطر المحدق بالأمة الإسلامية من طرف ما يؤلف لها من كتب تضيع عقيدتها، وتلقي بها في متاهة لا تستطيع الخروج منها، وقد كان ما توقعه هؤلاء الطلبة جزاهم الله عن المسلمين خيرا، فكم من مسلم وجماعة ضلت بسبب هذا الكتاب المشؤوم، نسأل الله السلامة والعافية.
3- فتوى الإمام المالكي الكبير أبي عبد الله محمد بن الوليد الطرطوشي:
__________
(1) 19/327).
(2) المعرب (12/184).(1/25)
جاء في المعيار المعرب ما لفظه: ومما كتب به الأستاذ أبو عبد الله محمد ابن الوليد الطرطوشي إلى عبد الله بن المظفر، أما ما ذكرت من أمر الغزالي، فرأيت الرجل وكلمته فوجدته رجلا جليلا من أهل العلم، قد نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال ثم تصرف بمحير العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووسواس الشيطان ثم شابها برأي الفلاسفة ورموز الحلاج، وجعل ينحو على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل كتابه سماه إحياء علوم الدين، عمد يتكلم في علوم الأحوال ومراقي الصوفية، وكان غير دري بها ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قر، ولا في أحوال الزاهدين استقر، شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض في مبلغ علمي أكثر كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه سبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفاء، وهم قوم يرون النبوة اكتسابا وليس النبي في زعمهم أكثر من شخص فاضل تخلق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها، وساس نفسه حتى ملك قيادها فلا تغلبه شهواته ولا يقهره سوء أخلاقه، ثم ساس الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله تعالى من أقر منهم بالصانع يبعث إلى الخلق رسولا، ويؤيده بالمعجزات حيل ومخاريق.(1/26)
ولقد شرف الله الإسلام، وأوضح حجته وأقام برهانه، وقطع عذر الخلائق بحججه الواضحة وأدلته القاطعة الدامغة، وما من ينصر دين الإسلام بمذاهب الفلاسفة وآراء المنطقية إلا كمن يغسل الماء بالبول، ثم يسوق الكلام سوقا يرعد فيه ويبرق ويمني، ويشوق حتى إذا تشوفت له النفوس قال: هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة، ولا يجوز تسطير في الكتاب أو يقول: وهذا من سر القدر الذي نهينا عن إفشائه، وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في دين الله، يستغل الموجود ويكلف النفوس بالمفقود، فهو تشويش لعقائد القلوب وتوهين لما عليه كلمة الجماعة، فإن كان الرجل يعتقد ما سطره في كتابه لم يبعد تكفيره، وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله.
وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب بالنار، فإنه إن ترك انتشر بين ظهور الخلق، ومن لا معرفة له بسمومه القاتلة، وخيف عليهم أن يعتقدوا صحة ما سطر فيه مما هو ضلال فيحرق قياسا على ما أحرقته الصحابة رضي الله عنهم من صحائف المصحف التي كان فيها اختلاف ألفاظ ونقص آي، ألا ترى أنهم لو لم يحرقوا تلك الصحائف، وانتشرت في الخلق لحفظ كل إنسان ما وقع منها إليه، وأوشك أن يختلفوا فيتقاتلوا ويتقاطعوا، وإني لعلى عزم أن أنفرد له. فأستخرج جميع هفواته، وأوضح سقطاته، وأبينها حرفا حرفا، وفي دونه من الكتب غنية وكفاية لإخواننا المسلمين وطبقات الصالحين.
ومعظم من وقع في عشق هذا الكتاب رجال صالحون لا معرفة لهم بما يلزم العقل وأصول الديانات، ولا يفهمون الإلهيات، ولا يعلمون حقائق الصفات، ولا يخبرون شياطين الإنس الذين انتدبوا للطعن في الدين، وتوهين عمود الإسلام وتعطيل الصانع وإفساد المعجزات، فمن لم يكن عنده تمييز لهذه الأبواب من الذب عن دين الله تعالى، ونصرة شريعته لم ينبغ له أن يقفو ما ليس له به علم يمدح على غير علم ويذم على غير علم والسلام.(1)
" التعليق:
__________
(1) 12/186-187).(1/27)
رحمة الله على هذا الإمام إذ أعطانا تصورا واضحا على الغزالي وكتابه الإحياء، وبين لنا موارد الكتاب ومصادره، وبين البديل عنه، وبين أن كل من يمدحه أو يدافع عنه فإنه لا يفهم العقيدة الصحيحة ولا له خبرة بكتب الحديث أو أنه عاطفي سمع بمدح الكتاب ووثق به ولم يقرأ ما فيه من الخبايا والبلايا. وأن الطرطوشي يرى وجوب إحراق هذا الكتاب لما له من خطر على الجماعة الإسلامية في وقته وبعدها، وشرح هذه الفتوى يحتاج إلى مجلدات، وسيتضح بعضها بإذن الله من الأمثلة التي سنسوقها من الإحياء مباشرة.
4- الإمام المازري:
جاء في السير: وقد رأيت كتاب 'الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء' للمازري أوله الحمد لله الذي أنار الحق وأداله وأبار الباطل وأزاله، ثم أورد المازري أشياء مما نقده على أبي حامد يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكا الإمام يهرب من التحديد ويجانب أن يرسم رسما وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء، ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه لكن مزج فيه النافع بالضار،كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز إلى قدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل.(1)
5- قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي:
__________
(1) 19/330).(1/28)
جاء في السير: وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره ومضاليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه إلا من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها وشرع أحكامها.
قال أبو حامد: وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته ألا يرزق المنكر منه شيئا، فأعرض قوله على قوله، ولا يشتغل بقراءة قرآن ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جبته، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق. فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا ما آمركم به. ثم إن هذا القاضي أقذع وسب وكفر وأسرف نعوذ بالله من الهوى.
وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر ورأى قتل مثل الحلاج خيرا من إحياء عشرة لإطلاقه ألفاظا، ونقل عن بعضهم قال: للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام.
قلت سر العلم قد كشف لصوفية أشقياء، فحلوا النظام وبطل لديهم الحلال والحرام. قال ابن حمدين ثم قال الغزالي: والقائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء فما قال ليس بحق فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه.
وقال الغزالي في العارف: فتتجلى له أنوار الحق وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة التي نحن منها على ظاهر لا على حقيقة.(1/29)
وقال عن بعضهم إذا رأيته في البداية قلت صديقا، وإذا رأيته في النهاية قلت زنديقا ثم فسره الغزالي فقال: إذ اسم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض لا بمعطل النوافل، وقال وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فيجلس فارغ القلب مجموع الهم يقول: الله، الله، الله، على الدوام، فليفرغ قلبه ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث. قال: فإذا بلغ هذا الحد التزم الخلوة في بيت مظلم وتدثر بكسائه فحينئذ يسمع نداء الحق، يَا أَيُّهَا { الْمُدَّثِّرُ (1) } يَا أَيُّهَا { الْمُزَّمِّلُ (1) } .
قلت: سيد الخلق إنما سمع يَا أَيُّهَا { الْمُدَّثِّرُ (1) } من جبريل عن الله، وهذا الأحمق لم يسمع نداء الحق أبدا، بل سمع شيطانا أو سمع شيئا لا حقيقة من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالسنة والإجماع.(1)
" التعليق:
قلت: هذا الكلام من هذا الإمام العارف بالغزالي وإحيائه نقل لنا جملة أمثلة مما هو في داخل الإحياء لو قرأها المسلم وأنصف نفسه لعلم حقيقة الإحياء، وأنها من الكتب التي تآمرت على الإسلام والمسلمين، سواء كان المؤلف على حسن نية أو على سوئها فأمره إلى الله، فلا أدري إن كان المعاصرون الذين يمدحون الإحياء وينصحون الشباب بقراءته ويدافعون عنه، هل يقرأون مثل هذه الفتاوى أم لهم أغراض أخرى في تضليل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإبقائها على ما هي عليه من الضلال والدجل والانحراف العقدي، وفي العبادات والأخلاق مما أشار إليه هؤلاء العلماء في فتاواهم التي سجلت في عصر مبكر عند ظهور هذا الكتاب أي الإحياء.
6- الإمام ابن الجوزي:
__________
(1) 19/332-334).(1/30)
قال في تلبيس إبليس: وجاء أبو حامد فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة، وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار، هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات، وهذا من جنس كلام الباطنية.
وقد رد ابن الجوزي على أبي حامد في كتاب الإحياء، وبين خطأه في مجلدات سماه كتاب 'الأحياء'.
وقال -أي الغزالي- في كتابه 'المفصح بالأحوال': إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.(1)
" التعليق:
من أراد أن يعرف أصول الباطل فليقرأ فتاوى هؤلاء العلماء وبيانهم لهذا الضلال البعيد الذي قراءته تكفي عن التعليق عليه والتحذير منه، ولهذا يقال في المثل الشائع، شر البلايا ما يضحك، فأحيانا ينقلب البكاء ضحكا لكثرة التعجب والعجب، هل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر يستطيع النطق بهذه العظائم التي مفادها الخروج عن المنهاج القرآني والنبوي والدخول في منهاج الزنادقة من باطنية وحلاجية وغيرهم نسأل الله العافية.
7- فتوى الإمام أبي الحسن بن سكر:
جاء في السير: ولأبي الحسن بن سكر رد على الغزالي في مجلد سماه 'إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء'.(2)
8- فتوى الإمام أبي بكر بن العربي:
__________
(1) ص.205).
(2) 19/342).(1/31)
جاء في السير: قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء فقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم في الإتقان والحكمة ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه، ولم يفعله لكان ذلك منه قضاء للجود، وذلك محال، ثم قال، والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدورات المتعلقة بها، ولكن في تفاصيل هذا العالم المخلوق لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق ونسبت الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب، وأجمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها إن المقدورات لا نهاية لها لكل مقدر الوجود لا لكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة، ثم قال: وهذه وهلة لا لعا لها ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره فإنا لا نرد عليه إلا بقوله.(1)
قلت: يشير أبو بكر بن العربي إلى ما جاء في الإحياء في بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل قال ما نصه: وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي، وكما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي وليس في الإمكان أصلا أحسن منه، ولا أتم منه، ولا أكمل، ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلا يناقض الجود، وظلما يناقض العدل.(2)
وجاء في درء تعارض العقل والنقل ما نصه:
وخالفه أي الغزالي القاضي أبو بكر في كثير من تلك الأجوبة، وكان يقول: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر.(3)
" التعليق:
__________
(1) 19/337).
(2) الإحياء (4/258).
(3) 1/5).(1/32)
وهل أصدق من هذا فأبو بكر تلميذه المخلص ومع ذلك يصف الغزالي بما ترى. ويرى أنه سكن في بطون الفلاسفة، فمعظم آرائه التي تصدر منه هي من ذلك الأصل، ومن ذلك المنبع، فبئس الآخذ والمأخوذ منه، ومن أراد أن يتعرف على حال الفلاسفة، فليقرأ كتاب تعارض العقل والنقل فإنه كشف عن عوارهم وبين حالهم، وأيا ما كان فأبو بكر بن العربي يرى أن شيخه خالف بقولته هذه عقيدة المسلمين، ووصف الله تبارك وتعالى بما لا يجوز له، ولا يجوز في حقه، فمن يحدد صفاته وأسماءه فذاك هو الإلحاد فيها، فقدرة الله لا نهاية لها ولا حصر، والله تعالى له الحكمة في خلقه يرحمهم برحمته ويوجدهم بقدرته حسب ما تقتضيه حكمته، فما عليهم إلا الإيمان والتسليم والتحدث بنعمه وآلائه، وأما اعتراضه تعالى، ومناقشته والحكم عليه فهذا ما قدر الله حق قدره. فعلم يجري بصاحبه في هذه المتاهات وهذه الضلالات فلا خير فيه ولا بركة.
9- فتوى الإمام الذهبي:
جاء في السير: "قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: "من رغب عن سنتي فليس مني".(1)
فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين وسنن النسائي ورياض النووي وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فوا غوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم".(2)
" التعليق:
__________
(1) رواه أحمد (3/241)، البخاري (9/129/5063)، مسلم (2/1020/1401) والنسائي (6/368-369/3217) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) 19/339-340).(1/33)
لقد أبان الذهبي عن رأيه في الإحياء، وبين ما فيه من الطامات، ومن أكبرها شحنه بالأحاديث الباطلة، وهذه كبيرة كبرى عند أئمة الحديث وعند كل مسلم له غيرة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ما فيه من طامات الصوفية، ومن بلايا الفلاسفة، وانحرافات الزهاد وما أشبههم، ثم ضرب عن ذلك صفحا، وأرشد إلى الطريق النافع الذي ينفع المسلمين دنيا وأخرى، وهو العناية بتدبر كتاب الله ودراسته، والعناية بالصحيحين وبقية كتب الحديث، ثم ختم كلامه بتجديد التحذير من كتاب الغزالي، وقال وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، وهذه هي مادة أبي حامد في الإحياء، فلو طرحت من الإحياء الأحاديث الباطلة، وآراء الفلاسفة ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب رؤوس أصحاب الخلوات بقي الكتاب بياضا لا سواد فيه.
وقال في موضع آخر من السير: ومما أخذ عليه، قال إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه، فأي سر للقدر؟ فإن كان مدركا بالنظر، وصل إليه ولابد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحال والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه أن نعمق في القدر ونبحث فيه.(1)
__________
(1) 19/337-338).(1/34)
وقال في موضع آخر أيضا: قلت: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف، فالحذار الحذار من هذه الكتب واهربوا بدينكم من شبه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية وليدمن الاستغاثة بالله وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له وينجو إن شاء الله.(1)
قلت: ما ذكره الذهبي في هذه الكلمة من وصف لكتب رسائل إخوان الصفا من أنها داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، هي من المواد الأساسية المنصبة في الإحياء كما يعرف ذلك بمقارنتها بما في الإحياء من مادتها الكثيرة، نسأل الله العافية، فأي خير سيكون في الإحياء إذا كان فيه الداء العضال والجرب المردي والسم القتال، ولهذا نلاحظ أن الذهبي في كلمته السابقة لما قال في الإحياء فيه خير، أضرب عن ذلك في حينه وأرشد إلى ما فيه الخير حقا، فجزاه الله خيرا.
وقال في موضع آخر من السير بعد نقله لكلام عبد الغافر:
ومما نقم عليه -أي الغزالي- ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به والحق أحق ما يقال: ترك ذلك التصنيف والإعراض عن الشرح له ... (2)
قلت -أي الذهبي- ما نقمه عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه حتى قال أبو بكر بن العربي، شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، و أراد أن يتقيأهم فما استطاع.(3)
__________
(1) 19/328-329).
(2) 19/326).
(3) 19/327).(1/35)
قلت: ومن التآليف كتاب الإحياء الذي فتنت به الأمة شرقا وغربا.
10- فتوى الإمام ابن الصلاح:
جاء في السير: وقال أبو عمرو بن الصلاح فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد: ففي تواليفه أشياء لم يرتضها أهل مذهبه من الشذوذ، منها قوله في المنطق هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال فهذا مردود إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا.(1)
قلت: وكتاب الإحياء مادته كلها شاذة عن الكتاب والسنة، وما فيه من نصوص صحيحة فهي في الكتاب والسنة، فنعوذ بالله من الشذوذ وأهله، ومن يحبه.
11- أبو عامر العبدري:
جاء في السير: وقال أبو عامر العبدري: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد ابن عبد القادر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه كأنه ينظر في كتب الغزالي رحمه الله، فإذا هي كلها تصاوير.(2)
رأي خطير في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزالي. ذكره أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي.
__________
(1) 19/329).
(2) 19/339).(1/36)
جاء في السير: ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب 'رياض الأفهام في مناقب أهل البيت'، قال : ذكر أبو حامد في كتابه 'سر العالمين وكشف ما في الدارين'، فقال في حديث "من كنت مولاه فعلي مولاه"(1)إن عمر قال لعلي بخ بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، قال: أبو حامد وهذا تسليم ورضى ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية، وما أدري ما عذره في هذا؟ والظاهر أنه رجع عنه وتبع الحق، فإن الرجل من بحور العلم والله أعلم.
هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تتطبب، وقال في أوله أنه قرأه عليه محمد بن تومرت المغربي، سرا بالنظامية، قال وتوسمت فيه الملك.(2)
قلت: حسن ظن كثير من العلماء إذا وجدوا مثل هذه البلايا حاولوا دفعها ولكن وكيف وقد قيل، والمهم التوبة الخالصة، فإن تاب وقبلت توبته ففضل الله واسع، والمهم أن التأليف إما من الصدقات الجارية، وإما من اللعنات المتتالية، وهل يظن بأمير المؤمنين هذا الظن، ويقال فيه هذا القول، فقبح الله قائله كان من كان، فقصدي إن ثبت هذا عن الغزالي فهو رافضي خبيث، ولا شك أن الرافضية في كتاب الإحياء مادتها كبيرة لأن الصوفية هي ربيبة الرافضة ونسجها ولحمتها وسداها، فلا تنفصل عنها إلا أنها أظهرت نفسها باسم جديد يسمى بالصوفية.
12- فتوى كمال الدين بن أبي الشريف:
__________
(1) رواه أحمد (5/350، 358،361)، ابن أبي شيبة (12/57)، النسائي في الكبرى (5/45/8144)، ابن أبي عاصم (2/604/1354)، البزار (3/188-189/2535 كشف الأستار)، ابن حبان (15/374-375/6930) والحاكم (2/130) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. حديث بريدة، وفي الباب عن جمع من الصحابة.
(2) 19/328).(1/37)
جاء في الإبريز: وقال كمال الدين بن أبي الشريف في شرح المسايرة بعد أن ذكر أن في مقدورات الله تعالى ما هو أبدع من هذا العالم ما نصه:
ثم إن ما في بعض كتب الإحياء ككتاب التوكل مما يدل على خلاف ذلك، والله أعلم صدر عن ذهول ابتنائه على طريق الفلاسفة، وقد أنكره الأئمة في عصر حجة الإسلام وبعده.(1)
13- فتوى بدر الدين الزركشي:
جاء في الإبريز: وقال بدر الدين الزركشي قال الغزالي: ليس في الإمكان أبدع من صورة هذا العالم، ولو كان ممكنا ولم يفعله لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة، قال وهذا من الكلمات العقم التي لا ينبغي إطلاق مثلها في حق الصانع.(2)
14- فتوى الإمام ابن تيمية:
جاء في الفتاوى: سئل عن إحياء علوم الدين، وقوت القلوب، فأجاب، أما كتاب قوت القلوب وكتاب الإحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقا، وأبعد عن البدعة مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.
وأما ما في الإحياء من الكلام في المهلكات مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد ونحو ذلك فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه. والإحياء فيه فوائد كثيرة ، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
__________
(1) ص.474).
(2) ص.474).(1/38)
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا مرضه 'الشفاء' يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة. وفيه أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم. وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس، وتنازعوا فيه.(1)
قلت: هذه كلمة خبير بعلوم الأوائل وعلوم الكتاب والسنة، وقد وافقه غيره ممن ذكرنا كلامهم فيما سبق، والذي يلفت النظر قولته كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وكان ذلك كذلك فالباطل لا يروج إلا بهذه الطريقة، فعنوان الكتاب لا يشك من يسمع به أو يراه أنه إحياء للكتاب والسنة، وأنه جمع بين دفتيه علوم القرآن وعلوم السنة والآثار السلفية الصحيحة، وأبوابه وكتبه معظمها كذلك ولكن في المادة ما قاله الذهبي سابقا أنه جرب مرد وسم قتال وداء عضال، وإمامنا هذا قال هذه القولة: كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسليمن، وما ذكره من بيان مواد الإحياء فتقدمت غير ما مرة وسنذكرها عمليا بإذن الله.
وجاء في درء تعارض العقل والنقل:
ذكر أبو حامد في كتاب الإحياء كلاما طويلا في علم الظاهر والباطن وقال: وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهره، ومنعوا التأويل وهم الأشعرية أي متأخروهم الموافقون لصاحب الإرشاد، قال: وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعا بصيرا، والرؤية والمعراج، وإن لم يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط، وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات.
قلت: تأويل الميزان والصراط وعذاب القبر والسمع والبصر إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية.
__________
(1) 10/551-552).(1/39)
قال أبو حامد: وبترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية، روحانية ولذات عقلية إلى أن قال: وهؤلاء هم المسرفون في التأويل.
وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه، ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم.
قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة.
وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات.
وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأفضل من كان محدثا من هذه الأمة عمر. للحديث(1)، وللحديث الآخر "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه"(2)ومع هذا فالصديق أفضل منه، لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته، وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة ففيه صواب وخطأ، وإنما يفرق بين صوابه وخطئه، بنور النبوة، كما كان عمر يزن ما يرد عليه بالرسالة، فما وافق ذلك قبله، وما خالفه رده.
__________
(1) سيأتي تخريجه (ص.57).
(2) رواه أحمد (2/401)، ابن أبي شيبة (12/25)، ابن أبي عاصم (2/581/1250)، البزار (3/174/2501 كشف الأستار) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبان (15/312-313/6889 الإحسان) وقال الهيثمي (9/66): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة". وفي الباب عن جمع من الصحابة.(1/40)
قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف. وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب والسنة. وقال أبو عمرو إسماعيل ابن نجيد: كل ذوق أو كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وقال الجنيد ابن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا. وقال سهل أيضا: يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق.
وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين، يعلمون أنه لا تحصل لهم حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين إلا بمتابعة المرسلين، وقد يحصل لهم من الدلائل العقلية القياسية البرهانية، ومن المخاطبات والمكاشفات العيانية، ما يصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ { آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } اخجب.(1)
وقال تعالى: وَيَرَى { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) } .(2)
وقال تعالى: * { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) } .(3)
وتجد كثيرا من السالكين طريق العلم والنظر والاستدلال، الذين اشتبهت عليهم الأمور، وتعارضت عندهم الأدلة والأقيسة، يحسنون الظن بطريق أهل الإرادة والعبادة والمجاهدة، ظانين أنه ينكشف بها الحقائق.
__________
(1) فصلت الآية (53).
(2) سبأ الآية (6).
(3) الرعد الآية (19).(1/41)
وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة، الذين اشتبهت عليهم الأمور، وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد، يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال، ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق. وحقيقة الأمر أنه لابد من الأمرين، فلابد من العلم والقصد، ولابد من العلم والعمل به. ومن عمل(1)بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلابد من أداء الواجبات، ولابد أن يكون كل منهما موافقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالا في علمه، غاويا في عمله، ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة، من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالا غاويا، ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بلا عمل به كان غاويا، ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالا، فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالا، وإذا لم يعمل بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذاك فسادا ثانيا، والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات، والرياضات والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم.
كما قال تعالى: هَلْ { أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) } .(2)والإنسان همَّام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) * في الأصل: علم.
(2) الشعراء الآيتان (221و222).(1/42)
والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه، فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى إن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران، ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم، وهو يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع بسطه موضع آخر.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام".(1)
وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال، حتى إن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده، وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء، فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه، بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته، وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه؟
وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية الذين يجعلون النبوة فيضا يفيض من العقل الفعال على نفس النبي، ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله، وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله، ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة، فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء، وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى.
__________
(1) رواه أحمد (2/269)، البخاري (12/500/7017)، مسلم (4/1773/2263[6]، أبو داود (5/282-283/5019)، الترمذي (4/461/2270) وابن ماجه (2/1285/3906) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عوف بن مالك رضي الله عنه.(1/43)
ومع هذا، فإن هؤلاء لا يقولون: إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه، فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فعلوا ما فعلوا، فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق، لم يمكن معرفته بحال.
ثم من المعلوم أن هذا لو كان ممكنا لكان السابقون الأولون أحق الناس بهذا، ومع هذا فما منهم من ادعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الله فضل بعض الرسل على بعض، وفضل بعض النبيين على بعض.
كما قال تعالى: * { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } .(1)
وقال: وَلَقَدْ { فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } .(2)
كما خص موسى بالتكليم، فلا يمكن عامة الأنبياء والرسل أن يسمع كلام الله كما سمعه موسى، ولا يمكن غير محمد أن يدرك بنفسه ما أراه الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وغير ليلة المعراج.
فإذا كان إدراك مثل ذلك لا يحصل للرسل والأنبياء، فكيف يحصل لغيرهم؟
ولكن الذي قال هذا يظن أن تكليم الله لموسى من جنس الإلهامات التي تقع لآحاد الناس، ولهذا ادعوا أن الواحد من هؤلاء قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، وله في كتاب 'مشكاة الأنوار' من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، ومن هناك مرق صاحب "خلع النعلين" وأمثاله من أهل الإلحاد.(3)
" التعليق:
__________
(1) البقرة الآية (253).
(2) الإسراء الآية (55).
(3) 5/347-355).(1/44)
انظر هداك الله إلى هذه الطامات التي في داخل الإحياء التي مفادها هو نبذ الكتاب والسنة، والاعتماد على المكاشفات التي لا ضبط لها ولا انضباط، ولا يمكن أن يعتمد فيها على مقياس، وهي دعوى طويلة عريضة يمكن لأي امرئ أن يدعيها، ومع ذلك جعلت هي الحكم على الكتاب والسنة، فيجب عرض الكتاب والسنة عليها، فإن صدقته وإلا ردا، وهنا يجب أن نسأل سؤالا، ما هو تعريف الكشف؟ ومن الذي يوثق بكشفه ومن لا يوثق؟ وهل ثبت عن السلف أنهم كانوا يعتمدون الكشف؟ وإذا كانوا يعتمدونه فلماذا وقعوا في كثير من الأخطاء؟ ولماذا تحيروا في كثير من المسائل التي لم يجدوا فيها نصا من الكتاب والسنة؟ فلذا، فالذي ينظر إلى هذا الأصل الشيطاني بالعلم والعمل والواقع الماضي والحاضر يجد أن هذا الأصل لا يتعدى -إن كان له وجود- وساوس إبليس، فلو ظفر الفقهاء والمحدثون بهذا الأصل ما أتعبوا أنفسهم في البحث والتنقيب، والبحث والتقعيد، ويكون هذا الأصل هو الأصل الأول عندهم قبل الكتاب والسنة، وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الغزالي في هذا الأصل الباطل مع تنزل كثير فيه كفاية.
وقال في موضع آخر من التعارض:
وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها.(1)
" التعليق:
__________
(1) 7/149).(1/45)
وهل من خوف الله تبارك وتعالى الإقدام على التصنيف والتأليف للمسلمين ما لم يكن المسلم أهلا لذلك، والأهلية تتجلى في الخبرة بالكتاب والسنة، ومن لا خبرة له بهما فلا يجوز له أن يؤلف في العلوم الشرعية، لأن عمدتها الكتاب والسنة والآثار السلفية وإلا دخل في الآيات الكثيرات والأحاديث المتواترة التي نهت المسلم أن يقول على الله بغير علم، قال الله تعالى: قُلْ { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) }(1)وسنرجع إن شاء الله إلى هذا الموضوع في حينه.
وقال في موضع آخر -أي ابن تيمية-: وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات فاستدلال ضعيف فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات إنما هو من فيض العقل الفعال، والنفس الفلكية، وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء والمضنون وغير ذلك من كتبه، وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة يذكرون اللوح المحفوظ، ومرادهم به النفس الفلكية، ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه.
ومن علم دين الإسلام الذي بعث الله به رسله علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام كما قد بسط في موضع آخر.(2)
__________
(1) الأعراف الآية (33).
(2) 9/398).(1/46)
وقال في شرح العقيدة الأصفهانية: فهذه الطريق التي ذكرها أبو حامد وغيره، تفضي أيضا إلى العلم من النبوة والتصديق منها بأكثر من القدر الذي تقر به المتفلسفة، وما ذكره من المشاهدات والكشوفات التي تحصل للصوفية، وأنهم يشهدون تحقيق ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، ونفع ما أمر به، فهذا أيضا حق في كثير مما أخبر به وأمر به، ثم إذا علم ذلك صار حجة على صدقه فيما لم يعلمه كمن سلك طريقا من العلم بفن من الفنون، إذا رأى كلام متكلم في ذلك العلم ورآه يحقق ما عنده ويأتي بزيادات لا يستطيعها، فإنه يعلم بما رآه من مزيد تحقيقه لما شاركه في أصل معرفته أنه أعلم منه بما وراء ذلك كمن نظر في الطب إذا رأى كلام بقراط ومن نظر في النحو إذا رأى كلام الخليل وسيبويه، ومن نظر في العلوم الدينية إذا رآى كلام أئمة السلف، وكذلك من سلك مسلك الزهد والعبادة إذا بلغه سير زهاد السلف وعبادتهم ومن ولي الناس وساسهم إذا رأى سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ونحوهما.(1/47)
فهذا كله مما يبين له عظمة قدر هؤلاء، وأنهم كانوا أئمة في هذه الأمور وفيما يصلح ويجب من ذلك، ويعلم كل أحد الفرق بين سيرة العمرين وسيرة الحجاج والمختار بن أبي عبيد ونحوهما، بل يعلم الفرق بين سيرة بني أمية وبني العباس وبين سيرة بني بويه وبني عبيد وأمثال ذلك، كذلك يعلم الفرق بين نبينا محمد وموسى وعيسى عليهم السلام، وبين مسيلمة والأسود العنسي وأمثالهما بأدنى تأمل، وهذه الطريق ينقسم الناس فيها إلى عام وخاص بسبب علمهم بالخير والشر والصدق والكذب ونحو ذلك، وهذه تفيد العلم القطعي بأن الأنبياء أكمل الخلق وأفضلهم، وأنه لا يصلح لأحد أن يعارضهم برأيه ولا يخالفهم بهواه لكن لا يفيد العلم بحقيقة النبوة إلا أن يعترف أن النبي أعلم منه، فلا يمكنه أن يقول هو أعلم منه، فكل من حصل له من المخاطبات والمشاهدات ما يحصل للأولياء، فإنه يعلم أن الذي للأنبياء فوق الذي له من ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر"(1)وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه"(2)وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"(3)
__________
(1) رواه أحمد (2/339)، البخاري (6/635/3469) والنسائي في الكبرى (5/40/8120) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها عند مسلم (4/1864/2398) وغيره.
(2) تقدم تخريجه (ص.48).
(3) ضعيف بهذا اللفظ. رواه من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: ابن عدي في الكامل (3/155) وفيه رشدين بن سعد و(4/194) وفيه عبد الله بن واقد الحراني وهو متروك. (انظر تخريج الإحياء 4/1782/2822). ومن حديث بلال رواه: ابن عدي (3/216) وابن الجوزي في الموضوعات (1/238). وروى أحمد (4/154) والترمذي (5/578/3686) وقال: "حسن غريب"..والحاكم (3/85) وصححه ووافقه الذهبي وابن حبان كما في الفتح (7/63) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه بلفظ: لو كان بعدي نبي لكان عمر. وله شاهدان من حديث عصمة بن مالك وأبي سعيد الخدري.(1/48)
وكان عمر بهذا يعلم أن ما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي والملائكة، وما يخبره به من الغيب وما يأمر به وينهى عنه أمر زائد على قدره ومجاوز لطاقته، بل يجد بينه وبين ذلك من التفاوت ما يعجز القلب واللسان عن معرفته وتبيانه، بل كان عمر بما حصل له من المكاشفات والمخاطبة يعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أكمل منه معرفة ويقينا، وأتم صدقا وأخلاقا، وأعلم منه بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان خضوع عمر هذا الذي هو أفضل الأولياء المحدثين الملهمين المخاطبين لأبي بكر الصديق كخضوع من رأى غيره من مشاركيه في فنه أكمل منه كخضوع الأخفش لسيبويه، وزفر لأبي حنيفة، وابن وهب لمالك، ونحو ذلك، أو خضوع فقهاء المدينة لسعيد ابن المسيب وعلماء البصرة للحسن البصري وفقهاء مكة لعطاء بن أبي رباح.
وإذا كان هذا مثل عمر مع أبي بكر، لأن أبا بكر الصديق يأخذ ما يأخذه عن الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي قد عصم أن يستقر فيما جاء به خطأ، فهو لخبرته بحال صديق النبي بهذه المثابة، وكل من كان عالما بالصحابة يعلم أن عمر رضي الله تعالى عنه كان متأدبا معظما بقلبه لأبي بكر رضي الله عنه، مشاهدا أنه أعلى منه إيمانا ويقينا، فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبي صلى الله عليه وسلم .(1/49)
وإذا كان هذا حال أفضل المحدثين المخاطبين، فكيف حال سائرهم ولا ريب أن الرجل كلما عظمت ولايته وعظم نصيبه من انكشاف الحقائق له كان تعظيمه للنبوة أعظم، والناس في هذه الطريق متفاوتون بحسب درجاتهم لكن طريق الصوفية لا ينهض بانكشاف جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ولا بأكثره بل عامة ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبو بكر وعمر -فضلا عن غيرهما- أن يعلمه بدون خبره وإن كان عند المخبرين علم بجمل ذلك أو أصله لكن ما يخبر به من التفصيل لا يعلم بدون خبره أصلا، وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن الكشف يحصل ذلك، وقول القائل أن الأولياء شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ليس بسديد بل لا يزال الأولياء مع الأنبياء في إيمان بالغيب، ولا يتصور أن الولي يُعْطَى ما أعطيه النبي من المشاهدة والمخاطبة، وأفضل الأولياء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم.
وليس في هؤلاء من شاهد ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا شاهد الملائكة الذين كانوا ينزلون بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سمع أحد منهم كلام الله الذي كلم به نبيه ليلة المعراج، ولا سمع عامة الأنبياء فضلا عن الأولياء كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، ولا كلم الله تكليما لداود وسليمان بل ولا إبراهيم ولا عيسى فضلا عن أن يكون ذلك يحصل لأحد من الأولياء، و الإيمان بكل ما جاء به الأنبياء واجب، فإنهم معصومون ولا يجب الإيمان بكل ما يقوله الولي، بل ولا يجوز، فإنه ما من أحد من الناس إلا يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سب نبيا من الأنبياء قتل وكان كافرا مرتدا بخلاف الولي.(1/50)
قال تعالى: قُولُوا { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }(1)وقال تعالى: آَمَنَ { الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ }(2)وقال تعالى: وَمَا { أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) } .(3)
__________
(1) البقرة الآية (136).
(2) البقرة الآية (285).
(3) الحج الآية (52).(1/51)
فإن قيل، ففي قراءة ابن عباس { ولا محدث } قيل هذه القراءة ليست متواترة ولا معلومة الصحة، ولا يجوز الاحتجاج بها في أصول الدين، وإن كانت صحيحة، فالمعنى أن المحدث كان فيمن كان قبلنا وكانوا يحتاجون إليه، وكان ينسخ ما يلقيه الشيطان إليه كذلك، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت الأمم قبلنا لا يكفيهم نبي واحد بل يحيلهم هذا النبي في بعض الأمور على النبي الآخر وكانوا يحتاجون إلى عدد من الأنبياء ويحتاجون إلى المحدث، وأمة محمد أغناهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من الأنبياء والرسل، فكيف لا يغنيهم عن المحدث ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر"(1)فعلق ذلك ب "إِنْ" ولا يجزم به لأنه علم استغناء أمته عن محدث كما استغنت عن غيره من الأنبياء، سواء كان فيها محدث أولا، وكان ذلك لكمالها برسولها الذي هو أكمل الرسل وأجملهم، وهؤلاء كبعض في أمته عن الأمم قبلهم.
وقد وقع في كلام أبي حامد وغيره نحو من هذا في مواضع أخر حتى ذكر فيما يتأول وما لا يتأول أن ذلك لا يعلم إلا بتوفيق إلهي يشاهد به الحقائق على ما هي عليه، ثم ينظر في السمع والألفاظ الواردة فيه، فما وافق مشهوده أقره وما خالفه تأوله، وذكر في موضع آخر أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه كما سمعه موسى بن عمران وأمثال هذه الأمور، ولهذا تبين له في آخر عمره أن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية، وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه حتى قال المازري وغيره ما معناه: إن كلامه يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها أو نحو هذا، وكذلك ما ذكره من أن النبوة انفتاح قوة أخرى فوق العقل.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.57).(1/52)
ولا ريب أن هذا مما يكون للنبي، وليس النبوة قوة تدرك بها الأمور، وإنما يشبه هذا أصول الفلاسفة الذين يزعمون أن الفيض دائم من العقل الفعال، وإنما يحصل في القلوب بسبب استعداد الأشخاص، فأي عبد كان استعداده أتم كان الفيض عليه أتم من غير أن يكون من الملأ الأعلى سبب يخص شخصا دون شخص بالخطاب والتكليم.
وليس هذا مذهب المسلمين، بل ولا اليهود ولا النصارى، بل هؤلاء كلهم -إلا من ألحد منهم- متفقون على أن الله سبحانه خصص موسى بالتكليم دون هارون وغيره، وأنه يخص بالنبوة من يشاء من عباده، لا أنه بمجرد استعداده يفيض عليه العلوم من غير تخصيص إلهي.(1)
وقال في موضع آخر: ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري، ومن طريقة أبي طالب والحارث ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله، وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم، فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسنة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله، والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر، وعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء، ومالك والأزاعي وحماد بن زيد والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء والتابعون أعلى من هؤلاء، والصحابة أعلى من التابعين.
وكذلك أبو طالب المكي يأخذ عن شيخه ابن سالم وابن سالم يأخذ عن سهل بن عبد الله التستري وسهل أعلى درجة عند الناس من أبي طالب ثم الفضل وأبو سليمان وأمثالهما أعلى درجة من سهل وأمثاله وأيوب السختياني وعبد الله بن عون ويونس بن عبيد وغيرهم من أصحاب الحسن أعلى طبقة من هؤلاء، وأويس القرني وعامر بن عبد قيس وأبو مسلم الخولاني وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء.
__________
(1) ص.156-160).(1/53)
ومعلوم أن كل من سلك إلى الله جل وعز علما وعملا بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فلابد أن يقع في بدعة قولية أو عملية، فإن السائر إذا سار على غير الطريق المهيع فلا بد أن يسلك بنيات الطريق، وإن كان ما يفعله الرجل من ذلك قد يكون مجتهدا فيه مخطئا مغفورا له خطؤه، وقد يكون ذنبا، وقد يكون فسقا، وقد يكون كفرا بخلاف الطريقة المشروعة في العلم والعمل، فإنها أقوم الطرق ليس فيها عوج كما قال تعالى: إِنَّ { هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ } أَقْوَمُ(1)، وقال عبد الله بن مسعود: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }(2)"(3)وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة، ولهذا قيل: "مثل السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق".
__________
(1) الإسراء الآية (9).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) رواه أحمد (1/435، 465)، النسائي في الكبرى (6/343/11174)، صححه الحاكم (2/318) ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان (1/180-181/6 و7 الإحسان).(1/54)
وهو يروى عن مالك ومن سلك الطريق الشرعية النبوية لم يحتج في إثباتها إلى أن يشك في إيمانه الذي كان عليه قبل البلوغ، ثم يحدث نظرا يعلم به وجود الصانع ولم يحتج إلى أن يبقى شاكا مرتابا في كل شيء، وإنما كان مثل هذا يعرض لمثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فإنهم ذكروا أنه بقي أربعين يوما لا يصلي حتى يثبت أن له ربا يعبده، فهذه الحالة كثيرا ما تعرض للجهمية وأهل الكلام الذين ذمهم السلف والأئمة، وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه، فإن هذا لابد منه كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: أفقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان.(1)
__________
(1) رواه أحمد (2/397)، مسلم (1/119/132)، أبو داود (5/336/5111)، النسائي في الكبرى (6/170/10500) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/55)
وفي السنن من وجه آخر أنهم قالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال: الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة،(1)قال غير واحد من العلماء: معناه أن ما تجدونه في قلوبكم من كراهة الوساوس والنفرة عنه وبغضه ودفعه هو صريح الإيمان. وهذا من الزبد الذي قال الله تعالى فيه: كَذَلِكَ { يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) } .(2)وهذا مذكور في غير هذا الموضع، وكلام السلف والأئمة فيما أحدث من الكلام وما أحدث من الزهد مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن يعرف مراتب الناس في العلم بالنبوة ومعرفة قدرها وتعدد الطرق في ذلك، وإن عامة الطرق التي سلكها الناس في ذلك هي طرق مفيدة نافعة، لكن تختلف مقادير فوائدها ومنافعها، وفيها مايضر من وجه كما ينفع من وجه، وفيها ما ينتفع به من كان عديم الإيمان أو ضعيف الإيمان فيحصل به له بعض الإيمان أو يقوى إيمانه، وإن كان ذلك يضر من كان قوي الإيمان ويكون رجوعه إليه ردة في حقه بمنزلة من كان معتصما بحبل قوي وعروة وثقى لا انفصام لها فاعتاض عن ذلك بحبل ضعيف يكاد ينقطع به وهذا باب يطول وصف حال الناس فيه.(3)
__________
(1) رواه أحمد (1/235-240)، أبو داود (5/336-337/5112)، النسائي في الكبرى (6/171/10503، 10504، 10505) وصححه ابن حبان (1/360/147) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر... فذكره. هذا لفظ أبي داود.
(2) الرعد الآية (17).
(3) ص.165-167).(1/56)
وقال في موضع آخر: ولهذا كان أبو حامد مع ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة وتكفيره لهم وتعظيم النبوة وغير ذلك، ومع ما يوجد فيه أشياء صحيحة حسنة، بل عظيمة القدر نافعة، يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المخالفة للنبوة بل المخالفة لصريح العقل حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني وأبي الوفاء ابن عقيل والقشيري والطرطوشي وابن رشد والمازري وجماعات من الأولين حتى ذكر ذلك الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فيما جمعه من طبقات أصحاب الشافعي وقرره الشيخ أبو زكريا النووي قال في هذا الكتاب: فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ولم يرتضها أهل مذهبه وغيرهم من الشذوذ في تصرفاته، منها قوله في مقدمة المنطق في أول المستصفى.
"هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا، قال الشيخ أبو عمرو: وسمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد، وكان من النظار المعروفين أنه كان ينكر هذا الكلام ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان، يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها، قال الشيخ أبو عمرو: قد ذكرت بهذا ما حكى صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة، يعني أبا حيان التوحيدي أن الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء من المتكلمين وغيرهم، وفي المجلس مَتَّى الفيلسوف النصراني فقال الوزير: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة مَتَّى في قوله: إنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق واستفدناه من واضعه على مراتبه، فانتدب له أبو سعيد السيرافي وكان فاضلا في علوم غير النجوم، وكلمه في ذلك حتى أفحمه وفضحه، قال أبو محمد: وليس هذا موضع التطويل بذكره.(1/57)
قال الشيخ أبو عمرو: وغير خاف استغناء العقلاء والعلماء قبل واضع المنطق أرسطاطاليس وبعده مع معارفهم الجمة، عن تعلم المنطق وإنما المنطق عندهم بزعمهم آلة قانونية صناعية تعصم الذهن من الخطأ، وكل ذي ذهن صحيح منطقي بالطبع، قال: فكيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين ومن قبله من كل إمام هو له مقدم ولمحله في تحقيق الحقائق رافع ومعظم ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسا ولا بنى عليه في شيء من تصرفاته أسا.
ولقد أتى بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعة عظم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان، قال ولأبي عبد الله المازري الفقيه المتكلم الأصولي -وكان إماما محققا بارعا في مذهبي مالك والأشعري وله تصاينف في فنون، منها شرح الإرشاد والبرهان لإمام الحرمين- رسالة يذكر فيها حال الغزالي وحال كتابه الإحياء أصدرها في حال حيدة الغزالي جوابا لما كوتب به من الغرب والشرق في سؤاله عن ذلك عند اختلافهم في ذلك، فذكر فيها ما اختصاره أن الغزالي كان قد خاض في علوم وصنف فيها واشتهر بالإمامة في إقليمه حتى تضاءل له المنازعون واستبحر في الفقه وفي أصول الفقه وهو بالفقه أعرف.
وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته علوم الفلسفة وأكسبته قراءة الفلسفة جرءة على المعاني وتسهيلا للهجوم على الحقائق لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها وليس لها شرع يزعها ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها، فلذلك خامره ضرب من الإدلال على المعاني، فاسترسل فيها استرسال من لا يبالي بغيره. قال وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا، وهذه الرسائل هي إحدى وخمسون، كل رسالة مستقلة بنفسها، وقد ظن في مؤلفها ظنون وفي الجملة هو يعني واضع الرسائل رجل فيلسوف قد خاض في علوم الشرع فمزج ما بين العلمين وحسن الفلسفة في قلوب أهل الشرع بآيات وأحاديث يذكرها عندها.(1/58)
ثم إنه كان في هذا الزمان المتأخر فيلسوف يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تآليف في علوم الفلسفة وكان ينتمي إلى الشرع، ويتحلى بحلية المسلمين وأَدَّتْه قوته في علم الفلسفة إلى أن تلطف جهده في رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة وتم له من ذلك ما لم يتم لغيره من الفلاسفة، قال ووجدت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير، وأحيانا يغيره وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا لكونه أعلم بأسرار الشرع منه، فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالي في علم الفلسفة قال: وأما مذهب المتصوفة فلست أدري على من عول فيها ولا من ينتسب إليه في علمها قال: وعندي أنه على أبي حيان التوحيدي الصوفي عول على مذاهب الصوفية.(1/59)
وقد علمت أن أبا حيان هذا ألف ديوانا عظيما في هذا الفن ولم يصل إلينا منه شيء، ثم ذكر أن في الإحياء فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، مثل ما استحسن في قص الأظافر أن يبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة، ثم بالوسطى لأنها ناحية اليمين،ثم باليسرى على هيئة دائرة وكأن الأصابع عنده دائرة، فإذا أدار أصابعه مر عليها مرور الدائرة، ثم يختم بإبهام اليمنى هكذا حدثني به من أثق به عن الكتاب، قال فانظر إلى هذا كيف أفاده قراءة الهندسة وعلم الدوائر وأحكامها أن نقله إلى الشرع فأفتى به المسلمين، قال وحمل إلى بعض الأصحاب من هذا الإملاء الجزء الأول فوجدته يذكر فيه أن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلما إجماعا، ومن تساهل في حكاية الإجماع في مثله هذا الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال، فحقيق أن لا يوثق بكل ما ينقل وأن يظن به التساهل في رواية ما لم يثبت عنده صحته، قال ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه، بأن من لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب، فإن قراءته لا تجوز له وإن كان فيه ما ينتفع به.(1/60)
ومن كان عنده من العلم ما يأمن به على نفسه من غوائل هذا الكتاب، ويعلم ما فيه من الرموز، فيجتنب مقتضى ظواهرها ويكل أمر مؤلفها إلى الله تعالى، وإن كانت كلها تقبل التأويل، فقراءته له سائغة وينتفع به، اللهم إلا أن يكون ممن يقتدى به ويغتر به فإنه ينهى عن قراءته وعن مدحه والثناء عليه، قال ولولا أن علمنا أن إملاءنا هذا إنما يقرؤه الخاصة ومن عنده علم يأمن به على نفسه، لم نتبع محاسن هذا الكتاب بالثناء، ولم نتعرض لذكرها، ولكنا نحن أمنا من التغرير ولئلا يظن أيضا من يتعصب للرجل أنا جانبنا الإنصاف في الكلام على كتابه ويكون اعتقاده هذا فينا سببا لئلا يقبل نصيحتنا قال الشيخ أبو عمرو وهذا آخر ما نقلناه عن المازري، قلت ما ذكره المازري في مادة أبي حامد من الصوفية فهو كما قال المازري عن نفسه: لم يدر على من عول فيها ولم يكن للمازري من الاعتناء بكتب الصوفية وأخبارهم ومذاهبهم ما له من الاعتناء بطريقة الكلام وما يتبعه من الفلسفة ونحوها.(1/61)
فلذلك لم يعرف ذلك، ولم تكن مادة أبي حامد من كلام أبي حيان التوحيدي وحده، بل ولا غالب كلامه منه، فإن أبا حيان تغلب عليه الخطابة والفصاحة، وهو مركب من فنون أدبية وفلسفية وكلامية وغير ذلك، وإن كان قد شهد عليه بالزندقة غير واحد، وقرنوه بابن الراوندي كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره، وإنما كان غالب استمداد أبي حامد من كتاب أبي طالب المكي الذي سماه قوت القلوب، ومن كتب الحارث المحاسبي وغيرها، ومن رسالة القشيري، ومن منثورات وصلت إليه من كلام المشايخ وما نقله في الإحياء عن الأئمة في ذم الكلام، فإنه نقله من كتب أبي عمر ابن عبد البر في فضل العلم وأهله، وما نقله فيه من الأدعية والأذكار نقله من كتاب الذكر لابن خزيمة، ولهذا كانت أحاديث هذا الباب جيدة، وقد جالس من اتفق له من مشايخ الطرق لكنه يأخذ من كلام الصوفية في الغالب ما يتعلق بالأعمال والأخلاق والزهد والرياضة والعبادة وهي التي يسميها علوم المعاملة.(1/62)
وأما التي يسميها علوم المكاشفة، ويرمز إليها في الإحياء وغيره، ففيها يستمد من كلام المتفلسفة وغيرهم، كما في مشكاة الأنوار والمضنون به على غير أهله وغير ذلك، وبسبب خلطه التصوف بالفلسفة كما خلط الأصول بالفلسفة، صار ينسب إلى التصوف من ليس هو موافقا للمشايخ المقبولين الذين لهم في الأمة لسان صدق رضي الله تعالى عنهم، بل يكون مباينا لهم في أصول الإيمان، كالإيمان بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر، ويجعلون هذه مذاهب الصوفية، كما يذكر ذلك ابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان، وأبو الوليد ابن رشد الحفيد، وصاحب خلع النعلين، وابن العربي صاحب الفتوحات وفصوص الحكم، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء ممن يتظاهر بمذاهب مشايخ الصوفية وأهل الطريق وهو في التحقيق منافق زنديق، ينتهي إلى القول بالحلول والاتحاد واتباع القرامطة أهل الإلحاد، ومذهب الإباحية الدافعين للأمر والنهي والوعد والوعيد ملاحظين لحقيقة القدر التي لا يفرق فيها بين الأنبياء والمرسلين، وبين كل جبار عنيد وقائلين مع ذلك بنوع من الحقائق البدعية، غير عارفين بالحقائق الدينية الشرعية، ولا سالكين مسلك أولياء الله الذين هم بعد الأنبياء خير البرية، فهم في نهاية تحقيقهم يسقطون الأمر والنهي والطاعة والعبادة، مشاقين للرسول متبعين غير سبيل المؤمنين، ويفارقون سبيل أولياء الله المتقين إلى سبيل أولياء الشياطين، ثم يقولون بالحلول والاتحاد، وهو غاية الكفر ونهاية الإلحاد، ولهذا في كلام المشايخ العارفين كأبي القاسم الجنيد وأمثاله من بيان أن التوحيد هو إفراد الحدوث عن القدم ونحو ذلك، ومن بيان وجوب اتباع الأمر والنهي ولزوم العبادة إلى الموت ما يبين به أن أولئك السادة المهتدين حذروا من طريق هؤلاء الملحدين، ولهذا نجد هؤلاء كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما يردون على مثل الجنيد وأمثاله من أئمة المشايخ ويدعون أنهم ظفروا في التحقيق بنهاية الرسوخ، وإنما ظفروا بتحقيق الإلحاد،(1/63)
والدخول في الحلول والاتحاد، وما زال شيوخ الصوفية المؤمنون يحذرون من مثل هؤلاء الملبسين كما حذر أئمة الفقهاء من سبيل أهل البدعة والنفاق من أهل الفلسفة والكلام ونحوهم، حتى ذكر ذلك أبو نعيم الحافظ في أول حلية الأولياء وأبو القاسم القشيري في رسالته دع من هو أجل منهما واعلم منهما بطريقة الصوفية وأقل غلطا وأبعد عن الاعتماد على المنقولات الضعيفة والمنقولات المبتدعة، قال أبو نعيم في أول الحلية:
"أما بعد أحسن الله تعالى توفيقك، فقد استعنت بالله عز وجل، وأجبتك إلى ما أبغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المحققين، من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق، وباشر الأحوال والطرائق، وساكن الرياض والحدائق، وفارق العوارض والعلائق، وتبرأ من المنقطعين والمتعمقين، ومن أهل الدعاوى من المسوفين، ومن الكسالى والمثبطين المتشبهين بهم في اللباس والمقال، والمخالفين لهم في العقيدة والفعال وذلك لما بلغك من بسط ألسنتنا وألسنة أهل الفقه والأثر في كل الأقطار والأمصار في المنتسبين إليهم، من الفسقة الفجار، والمباحية والحلولية الكفار، وليس ما حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار، بقادح في منقبة البررة الأخيار، وواضع من درجة الصفوة الأطهار، بل في إظهار البراءة من الكذابين، والنكير على الحشوية البطالين نزاهة الصادقين، ورفعة المحققين.(1/64)
ولو لم ينكشف عن مخازي المبطلين ومساويهم ديانة للزمنا إبانتها وإشاعتها حمية وصيانة إذ لأسلافنا في التصوف العلم المنشور، والصيت والذكر المشهور، فقد كان جدي محمد بن يوسف رحمه الله تعالى أحد من يسر الله تعالى به ذكر بعض المنقطعين إليه وكيف يستجيز نقيصة أولياء الله تعالى ومؤذيهم مؤذن بمحاربة ربه ثم أسند حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى قال: من آذى لي وليا" وفي الرواية الأخرى: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه".(1)
قلت قد ذم أهل العلم و الإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا و مدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان موافقا من وجه ومخالفا من وجه، كالعاصي الذي يعلم أنه عاص، فهو ممدوح من جهة موافقته، مذموم من جهة مخالفته.(2)
وقال في موضع آخر:
__________
(1) البخاري (11/414/6502).
(2) ص.169-175).(1/65)
وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها بل الكفر الصريح كثير فيها وكتاب الإحياء له حكم نظائره، ففيه أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة، فإن مادة مصنفه في الحديث والآثار وكلام السلف وتفسيرهم للقرآن مادة ضعيفة، وأجود ماله من المواد المادة الصوفية، ولو سلك فيها مسلك الصوفية أهل العلم بالآثار النبوية، واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصل مطلوبه ونال مقصوده لكنه في آخر عمره سلك هذا السبيل، وأحسن ما في كتابه أو من أحسن ما فيه ما يأخذه من كتاب أبي طالب في مقامات العارفين، ونحو ذلك فإن أبا طالب أخبر بذوق الصوفية حالا وأعلم بكلامهم وآثارهم سماعا وأكثر مباشرة لشيوخهم الأكابر.(1)
السبب الثاني:
ما في كتاب الإحياء من المواد الفاسدة
تمهيد:
الذي ينظر ما بين دفتي كتاب الإحياء يرى العجب العجاب، وتأخذه الدهشة والحيرة والشك والظن السيء الذي لازمه أن هذا الفعل تآمر على الإسلام.
فالذي يسمع التسمية أي 'إحياء علوم الدين' لا يشك أنه بعث جديد للكتاب والسنة، فإذا به يجد ما يميت الكتاب والسنة ويجهز عليهما، ويضاد الهدف الأساسي الذي جاء من أجل تحقيقه الكتاب والسنة، وقد سبق ما نقلناه من كلام ابن تيمية رحمة الله عليه في الجزء الخامس في تعقبه على عبارة الغزالي في عرض الكتاب والسنة على الكشف والمكاشفة، فما أقره الكشف فهو الصحيح، وما رفضه فهو الباطل، أي أن نعتمد الكشف في عقيدتنا كلها فما صححه الكشف فهو الصحيح، وما رفضه فهو الباطل، أما من يعتمد في ذلك على الكتاب والسنة فلا يستقر له قدم، ولهذا قال ابن تيمية: "وهذان أصلان للزندقة والإلحاد" أو كما قال رضي الله عنه، ولو قرأ المسلم هذه العبارة من الإحياء، لكفاه في طرحه إن كان ممن يؤمن بالله واليوم الآخر.
__________
(1) ص.185).(1/66)
جاء في الإحياء: "وحكي أن أبا تراب النخشبي كان معجبا ببعض المريدين، فكان يدنيه ويقوم بمصالحه والمريد مشغول بعبادته ومواجدته، فقال له أبو تراب يوما: لو رأيت أبا يزيد، فقال إني عنه مشغول فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله لو رأيت أبا يزيد هاج وجد المريد فقال ويحك ما أصنع بأبي يزيد، قد رأيت الله تعالى، فأغناني عن أبي يزيد، قال أبو تراب: فهاج طبعي، ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل، لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة"(1)هذا وأمثاله مما سأذكره مفصلا إن شاء الله.
وأما من ناحية الهيكلة للكتاب، فنجد صاحبه ذكر كتبا كثيرة لو أهملها ما كان يضر ذلك المسلمين، بل كان إهمالها هو الواجب كقوله كتاب الفقر والزهد، وكتاب آداب السماع والوجد، وكتاب آداب العزلة، وكتاب رياضة النفس، وكتاب كسر الشهوتين، وفيه بيان فضيلة الجوع، وبيان فوائد الجوع.
أما الأبواب التي كون منها كتبه فإحصاء الباطل منها يطول، وأما كتاب الجهاد فهذا لا وجود له في كتب الإحياء مع أهميته وتوارد الآيات القرآنية فيه والأحاديث النبوية الكثيرة، ولا تجد كتابا من كتب المسلمين المعتبرة في السنة والفقه إلا وتجد فيها مساحة كبرى لكتاب الجهاد، فهو لعمر الله الحركة الأساسية للأمة الإسلامية، فلا أمة بدون جهاد، فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فما أدري بماذا سيجيب المحبون للغزالي عن إهمال الغزالي لكتاب الجهاد في كتاب سماه 'إحياء علوم الدين'، فلا أدري إن لم يكن الجهاد هو الذي يحييها، فمن يحيي علوم الدين.
__________
(1) الإحياء (4/356).(1/67)
والآن نرجع إلى المادة الفاسدة الموجودة بين دفتي 'إحياء علوم الدين'، وسنكتفي بالأمثلة دون استيعاب لكل ما في الكتاب، فإن هذا يحتاج إلى مجلدات، وأرى أن الاهتمام ببيان ذلك كله هو مضيعة للوقت، واللبيب كما يقال تكفيه الإشارة، والمنصف المجرد من الهوى تكفيه الأدلة التي يطمئن إليها، فتقوم عنده الحجة، وهذه سنة قرآنية، فإن الله تعالى لم يذكر لنا في القرآن كل الأمم وأخبارها، وإنما ذكر لنا ما فيه العبرة، وذكر لنا من الرسل ما تقوم به الحجة مِنْهُمْ { مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } .(1)
المادة الأولى: الأحاديث الضعيفة والموضوعة والباطلة:
قبل ذكر هذه المادة، يجدر بنا أن نبين شخصية الغزالي ومكانته من السنة، وبعد ذلك نبين التحذير الوارد من الرسول صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه وما أعده الله للكاذبين عليه والمتعمدين لرواية ذلك عنه.
أما شخصية الغزالي، فقد اعترف بنفسه أنه لم يكن يعرف الحديث ولا تعلمه، ولهذا جاء في رسالته المسماة "قانون التأويل" أنه كان يقول: أنا مزجى البضاعة في الحديث.(2)
وجاء في سير أعلام النبلاء عن عبد الغافر:
قال(3): وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث، ومجالسته أهله، ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام، قال: ولم يتفق له أن يروي.
وجاء في شرح العقيدة الأصفهانية:
وذكر في موضع آخر، أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه، كما سمعه موسى بن عمران، وأمثال هذه الأمور، ولهذا تبين له في آخر عمره أن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده، فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية، وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم، ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله، وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور، مما أنكره الناس عليه.(4)
" التعليق:
__________
(1) غافر الآية (78).
(2) ص.16).
(3) 19/325-326).
(4) ص.159).(1/68)
هذه اعترافات الغزالي بنفسه، أنه لم يكن له علم بالحديث، وهذه اعترافات الذين عاصروه، وهذه اعترافات الخبراء بأخباره وسيرته وبترجمته ومصنفاته، والكل يجمع على أن الغزالي لم يتلق الحديث ولا درسه إلا بعد أن فرغ من هذه المصنفات التي ملأت الدنيا، وفي آخر عمره اهتدى لدراسة السنة وأقبل على الصحيحين والسنن ولحقه الندم على خوضه فيما ليس متصلا بالسنة، بل هو مضاد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعل الله تعالى يقبل توبته ويسامحه على ما أفسد من عقائد المسلمين.
وليت محبي الغزالي يقفون على هذه النصوص ويعلمون أن الغزالي كان يجهل الأساس من علوم الدين باعترافه بنفسه وبشهادة من يوثق بعلمه وخبرته، فكيف يسمي كتابه 'إحياء علوم الدين' وهو في هذه المنزلة التي لا تهيئه لدارسة علوم الدين، واستيعابها لنفسه فضلا عن التأليف فيها واختيار أكبر عنوان لا يصدق إلا على صحيح البخاري ومثله ممن أحيى الله بهم علوم الدين.
" ما جاء في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/69)
اتفق أئمة الحديث ومن يعتد برأيه على أنه لا يجوز الوضع في الحديث مهما كانت الدوافع والأسباب هذا من جهة. ومن جهة أخرى، أجمع الأئمة على أن تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرة من الكبائر، لأنه ذنب توعد فاعله بالتبوء في النار، فقد تواتر النقل عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(1)وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار"(2)فلا يجوز بحال من الأحوال الكذب عليه صلى الله عليه وسلم مهما كان الموجب لذلك إذ يترتب على الكذب عليه مفسدة عامة تلحق ضررا بالدين ولا يقتصر عليه صلى الله عليه وسلم، لأن كل ما يتعلق به يتخذ شريعة، ولذا أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد".(3)ومن جهة ثالثة، اتفق الأئمة وعلماء الأمة على أن الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدا مرتكب كبيرة من الكبائر لاقترافه إثما توعد فاعله بالتبوء في جهنم، وقد بالغ والد إمام الحرمين ومن تبعه فحكم بكفر من تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم كفرا يخرجه عن الملة ويبيح دمه.
وممن ذهب إلى ذلك الإمام ناصر الدين بن المنير من المالكية، ووجهة الرأي عنده أن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك من استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر.(4)
وجاء في تحذير الخواص للسيوطي:
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.7).
(2) رواه أحمد (1/83)، البخاري (1/266/106)، مسلم في المقدمة (1/9/1)، الترمذي (5/34/2660)، النسائي في الكبرى (3/457/5911) وابن ماجه (1/13/31) من حديث علي رضي الله عنه وفي الباب عن جمع من الصحابة.
(3) رواه أحمد (4/245)، البخاري (3/206/1291) ومسلم في المقدمة (1/10/4) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(4) الفتح (1/270).(1/70)
ومال إلى ذلك أبو بكر بن العربي.(1)كما ذهب إلى القول بكفر الكاذب المتعمد أبو الفضل الهمذاني شيخ ابن عقيل من الحنابلة، ومال إلى ذلك الحافظ الذهبي فيما إذا كان الكاذب يحل حراما أو يحرم حلالا، فقال: قد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كفر ينقل عن الملة، ولا ريب أن تعمد الكذب على الله ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض.(2)
ويؤيد ذلك صنيع السلف وأئمة الحديث رحمهم الله تعالى حيث استباحوا دم الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال يحيى بن معين في سويد الأنباري هو حلال الدم.(3)
وفي رواية أخرى قال: لو وجدت درقة وسيفا لغزوت سويدا الأنباري.(4)
وقال سفيان بن عيينة لما حدث معلى بن هلال عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الله قال: التقنع من أخلاق الأنبياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتقنع. قال ابن عيينة: كان المعلى يحدث بهذا الحديث عن ابن أبي نجيح ما أحوجه أن تضرب عنقه.(5)
وقال الشعبي لداود بن يزيد الأزدي، وجابر الجعفي: لو كان لي عليكما سبيل ولم أجد إلا تبرا لسبكته ثم غللتكما به.(6)
وروى ابن عدي عن ابن هذيل أنه قال لأبي هشام الرفاعي وحدثه بحديث أنكره: لا أسمعك تحدث بهذا فأصلبك،(7)إلى غير ذلك من الأقوال الواردة عنهم في كتب الجرح والتعديل، والتي صرحوا فيها بإباحة ذم الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لم يصرح أحد من العلماء بأن الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل حدا أو أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حده القتل، فدل صنيعهم على إباحة دمائهم اقتضاء لتكفيرهم.
__________
(1) ص.64-65).
(2) الكشف الحثيث (ص.25-26).
(3) ميزان الاعتدال (2/249).
(4) ميزان الاعتدال (2/250).
(5) ميزان الاعتدال (4/152).
(6) تحذير الخواص (ص.116).
(7) الكامل (6/274).(1/71)
وقد كتب الإمام مسلم رحمه الله مقدمة هامة في هذا الموضوع أرى من المفيد أن أقتطف بعض ما يدل على موضوعنا، قال الإمام مسلم رحمه الله:
واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.
والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله جل ذكره: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) }(1)وقال جل ثناءه مِمَّنْ { تَرْضَوْنَ مِنَ } الشُّهَدَاءِ(2)وقال عز وجل: وَأَشْهِدُوا { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .(3)
فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم، ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق وهو الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".(4)
ثم روى مسلم بسنده إلى علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار".(5)
__________
(1) الحجرات الآية (6).
(2) البقرة الآية (282).
(3) الطلاق الآية (2).
(4) رواه أحمد (4/250)، مسلم في المقدمة (1/9)، الترمذي (5/35/2662) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجة (1/15/41) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن سمرة بن جندب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
(5) تقدم تخريجه (ص.80).(1/72)
ثم روى بسنده إلى أنس بن مالك أنه قال: "إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار".(1)
واسترسل الإمام مسلم في ذكر الروايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم في التحذير من الكذب عليه، ومن ذلك ما رواه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".(2)
وذكر بسنده إلى مالك بن أنس عن ابن وهب قال: قال لي مالك، اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع.(3)
وذكر بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".(4)
وذكر بسنده إلى محمد بن سيرين قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".(5)
وذكر بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.(6)
وذكر بسنده إلى أبي عقيل صاحب بهية، قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال: يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك، عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين، فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج، فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى، ابن أبي بكر وعمر، قال: يقول له القاسم أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة، قال: فسكت فما أجابه.(7)
انتهى من مقدمة صحيح مسلم.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.7).
(2) أخرجه مسلم في المقدمة (1/10/5)، أبو داود (5/265-266/4992)، ابن حبان (1/213-214/30) والحاكم (1/112) من حديث أبي هريرة.
(3) رواه مسلم في المقدمة (1/11).
(4) المقدمة (1/12).
(5) المقدمة (1/14).
(6) المقدمة (1/15).
(7) المقدمة (1/16).(1/73)
غير أن هذا المخطط الخبيث قد تنبه له علماء الأمة وحكامها الصادقون الصالحون، فكشفوا عنه وعن حقيقته، وجند العلماء أنفسهم للعكوف في التفكير للرد على هذا المخطط، واستعانوا بالخلفاء الصالحين، فكانت الجهود متعاونة ومتظافرة، فصنف علماء الحديث التصانيف على اختلاف الواجهات التي تحارب هذا المخطط الواسع، فبادروا إلى عزل الصحيح، وضبطوا متونه وأسانيده، ووضعوا له القواعد الدقيقة حتى تكون سورا مانعا لا يمكن أن يدخل منه أي لص كيفما كانت قوته وذكاؤه ومططه، ووضعوا للرجال مقاييس في الرواية تختلف من رجل إلى آخر، بما سمي في هذا العصر بالتنقيط، فمن مائة إلى صفر، وأصبح الرجال معروفين عند أئمة الحديث يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم، وألفت كتب في هذا، كل شعبة أخذت تخصصا حتى تتعاون الجهود وتتظاهر وتسد جميع الثغرات والنوافذ التي يحاول الأعداء الدخول منها، وأصبح المنهاج محكما، وأصبحت الشعب متكاملة فأصبحت كتب تعرف بالجرح والتعديل، وأخرى بكتب العلل، وأخرى بتراجم الرجال وضبط أحاديثهم الصحيحة والضعيفة، وأخرى خاصة بالضعفاء، وأخرى خاصة بالمتروكين والكذابين، وأصبح هذا المنهاج دقيقا، وأصبح المعاصرون الآن على ما يدعون من تفوق في الثقافة والمعرفة هم في حاجة ماسة لاستعمال هذا المنهاج الدقيق، وأنى لهم منه،فهذا كما قال بعض السلف: يحتاج إلى ذكور الرجال، أما المخنثون فلا حظ لهم ولا نصيب منه،لأن المقومات التي ملكها أولئك الفحول يستحيل أن تتحقق في هؤلاء الفسقة الفجرة إلا من كان على مثل أولئك، في العلم والزهد والورع، وقليل ما هم.(1/74)
ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض جنود ذلك المخطط الخبيث الذي وضع لنسف السنة والقرآن، بل لضياع المسلمين، وجعلهم عابثين في حياتهم يحسبون أنهم على شيء، وإنهم في واقع الأمر ليسوا على شيء، يحسبون أنهم متمسكون بالكتاب والسنة، وهم في واقع الأمر يعملون بكلام الزنادقة ويطبقون مخططاتهم، وكتاب الغزالي المسمى بإحياء علوم الدين مثال لذلك، كما سترى ذلك في حينه إن شاء الله.
الأول: الروافض أعداء الله الذين منهم تفرع جميع الزنادقة:
يقول ابن أبي الحديد: كما في شرح نهج البلاغة، أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم.
ويقول الإمام الشافعي: وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.(1)
وأخرج الخطيب بإسناده إلى حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول:لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة.(2)
وروى أيضا بإسناده إلى علي بن الجعد قال: سمعت أبا يوسف يقول : أجيز شهادة أهل الأهواء، أهل الصدق منهم إلا الخطابية، والقدرية الذين يقولون إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون، قال أبو أيوب: سئل إبراهيم عن الخطابية فقال: صنف من الرافضة.(3)
وروى الخطيب أيضا بسنده إلى ابن المبارك قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار، قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.(4)
وقال يزيد بن هارون: يكتب عن كل مبتدع إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون.(5)
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال أشهب: سئل مالك رضي الله عنه عن الرافضة فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون.(6)
__________
(1) الكفاية (ص.120).
(2) الكفاية (ص.126).
(3) الكفاية (ص.126).
(4) الكفاية (ص.126).
(5) المنتقى (ص.23).
(6) المنتقى (ص.23).(1/75)
وقال شريك: أحمل العلم عن كل من لقيته إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا.(1)
وقال الأعمش: أدركت الناس، وما يسمونهم إلا الكذابين، يعني أصحاب المغيرة بن سعيد.(2)
وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه في كتابه"منهاج السنة" فصلا نفيسا ذكر فيه الآثار التي قدمنا ذكرها.
قال رحمه الله: "ونحن نبين إن شاء الله تعالى طريق الاستقامة في معرفة هذا الكتاب 'منهاج الندامة' بحول الله وقوته.
وهذا الرجل سلك مسلك سلفه شيوخ الرافضة، كابن النعمان المفيد، ومتبعيه كالكراجكي، وأبي القاسم الموسوي، والطوسي وأمثالهم.
فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة ومعرفة الأدلة وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب، بل وبالإلحاد، وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام بن محمد بن السائب، وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم، مع أن أمثال هؤلاء هم من أجل من يعتمدون عليه في النقل، إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء ممن لا يذكر في الكتب ولا يعرفه أهل العلم بالرجال.
وقد اتفق أهل العلم بالنقل والراوية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.(3)
ثم ذكر ابن تيمية الآثار التي مر نقلها.
وقال الذهبي: والرافضة يقرون بالكذب حيث يقولون، ديننا التقية، وهذا هو النفاق، ثم يزعمون أنهم هم المؤمنون، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق، فهم كما قيل: "رمتني بدائها وانسلت".(4)
الثاني: الصوفية:
__________
(1) المنتقى (ص.23).
(2) المنتقى (ص.24).
(3) منهاج السنة (1/57-59).
(4) المنتقى (ص.23).(1/76)
لقد قامت هذه الطائفة بالتمثيل الكامل لطائفة الروافض، فدخلوا في تطبيق هذا المخطط تطبيقا كاملا، وجزء من المخطط السابق، وهو ترويج الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فجندوا أنفسهم، فألفوا الكتب بألوان وعناوين ومواضيع مختلفة، فأحيانا باسم قوت القلوب، كما فعل مكي بن أبي طالب في كتابه الضخم الذي ملأه بالموضوع والضعيف، وروج الكتاب في كل أجزاء العالم الإسلامي وغير الإسلامي، ووضع المتصوفة حوله دعايات لا تسأل عن تصويرها، وحتى المعاصرون المشاركون في المآمرة وفي تطبيق المخطط ينصحون بقراءته، ويضعونه جزءا من مواضيعهم التي يسمونها زورا وبهتانا بالمنهاج النبوي، وسنذكر إن شاء الله نماذج من كتب الصوفية التي دخلت في هذا المخطط المشؤوم، والتي روجت له أكثر من غيرها.
الأول: إحياء علوم الدين للغزالي:
هذا الكتاب جمع بين دفتيه آلاف الأحاديث، وقد تكلف العلماء ببيان حالها، ولا سيما الحافظ العراقي الذي ذكر أنه ألف على إحياء علوم الدين تأليفين أحدهما كبير والآخر صغير، وأيما ما كان فيوجد الآن بهامش الإحياء تخريج متوسط، غير أنه في نظري ما يزال الكتاب في حاجة ماسة إلى تخريج أحاديثه وتحقيقها التحقيق العلمي اللائق بها.(1/77)
وقد ذكر ابن السبكي في 'طبقاته'(1)-وهو من المتعصبين للغزالي والمعروف بعداوته لأهل السنة والجماعة- أنه تتبع أحاديث الإحياء فوجد مجموعة كبيرة منها لا إسناد لها ولا أساس، هذا فضلا عن الأحاديث الموضوعة التي لها سند، وفضلا عن الضعيفة التي لها سند، فإن وفق الله وأطال عمري فسأقوم بإذن الله بتخريج كامل واف لأحاديث الإحياء، وبيان عدد الموضوع والضعيف الذي لم يبلغ إلى درجة الوضع، والصحيح والحسن حتى تحذر الأمة ما في هذا الكتاب من الموضوع والضعيف ومن الطامات الكبرى التي سنبين بعضها إن شاء الله بعد إعطائنا نماذج من كتاب 'الإحياء' من الأحاديث الموضوعة والباطلة التي هي من المخطط السابق الذي تحدثنا عنه.
__________
(1) 4/145-182).(1/78)
وقد ذكر المعلق على سير أعلام النبلاء، وهو الأستاذ شعيب الأرنؤوط أن عدد الأحاديث التي استخرجها السبكي والتي لم يجد لها إسنادا عددها 943 حديثا تقريبا، وقد قال كلمة أنقلها لفائدتها. قال: وقد خرج أحاديث الإحياء كلها الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي (المتوفى سنة 806 هـ) في كتاب سماه المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، وهو مطبوع مع الإحياء، وقد عزا كل حديث إلى مصدره، وأبان عن درجة كل واحد منها، وكثير منها حكم عليه بالضعف أو الوضع أو أنه لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليحذر الكتاب والخطباء والمدرسون والوعاظ من تناول ما في الإحياء من الأحاديث والاستشهاد بها ما لم يتبين صحتها من تخريجات الحافظ العراقي، فقد قال محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسيني لا يجوز إسناد حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا نص على صحة هذا الحديث حافظ من الحفاظ المعروفين فمن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم صحة ذلك من طريق أحد الحفاظ يوشك أن يصدق عليه حديث(1): "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار".(2)
حكم رواية الحديث الضعيف "غير الموضوع"
أما العمل بالحديث الضعيف الذي لم يصل إلى درجة الوضع، فقد كتب شيخنا رحمه الله، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بحثا نفيسا في مقدمة كتاب صحيح الترغيب والترهيب، فقد أفاد وأجاد، ولنفاسته وتعلقه بما نحن بصدده من عدم جواز رواية الضعيف إلا لبيان حاله وتحذير الناس منه، فإننا ننقل طرفا منه، قال رحمه الله:
المحظور الأفحش: العمل بالحديث الضعيف وقد يكون موضوعا
__________
(1) رواه أحمد (2/501)، ابن ماجة (1/14/34) وصححه ابن حبان (1/210/28 الإحسان) من حديث أبي هريرة وأصله في الصحيحين بلفظ: "من كذب علي متعمدا ... ".
(2) هامش السير (19/339-340).(1/79)
والآخر وهو أفحش: أن من الشائع المعروف بين جمهور أهل العلم وطلابه أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، ويعتبرون ذلك قاعدة علمية لا جدال فيها عندهم، وهي غير مسلمة على إطلاقها عند المحققين من العلماء كما سيأتي نقله عنهم، فأولئك إذا بلغهم حديث ضعيف بادروا إلى العمل به غير منتبهين لاحتمال كونه شديد الضعف أو موضوعا، وحينئذ لا تجوز روايته إلا ببيان حاله والتحذير منه فضلا عن العمل به، فيقع المحظور الأول وزيادة كما هو ظاهر ، فلو أنه بين لهم ذلك لم يعملوا به إن شاء الله تعالى.
قاعدة العمل بالحديث الضعيف ليست على إطلاقها:
ثم إن القاعدة المزعومة ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة في موضعين منها: أحدهما حديثي، والآخر فقهي.
" القيد الحديثي:
أما الحديثي فهو قولهم: "الحديث الضعيف" فإنه مقيد -اتفاقا- بالضعيف الذي لم يشتد ضعفه بله الموضوع كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في رسالته: 'تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب'، ولم أعثر عليها الآن في مكتبتي، فأنقل ذلك عنه بواسطة تلميذه الثقة الحافظ السخاوي، فإنه قال في آخر كتابه القيم: 'القول البديع في فضل الصلاة على الحبيب الشفيع'.(1)بعد أن نقل عن النووي أنه قال: "قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: "يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف، ما لم يكن موضعا، وأما الأحكام كالحلال والحرام، والبيع والنكاح و الطلاق وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك".
وعن ابن العربي المالكي أنه خالف في ذلك فقال: "إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقا".
قال الحافظ السخاوي شرائط العمل عند الحافظ ابن حجر: "وقد سمعت شيخنا مرارا يقول: -وكتبه لي بخطه-".
إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
__________
(1) ص.195 طبع الهند).(1/80)
الأول متفق عليه: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
والثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا.
الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
قال: والأخيران عن ابن عبد السلام، وعن صاحبه ابن دقيق العيد، والأول نقل العلائي الاتفاق عليه.
ما توجبه الشروط المذكورة على أهل العلم من التمييز:
قلت: وليس يخفى على الفطن اللبيب أن هذه الشروط توجب على أهل العلم والمعرفة بصحيح الحديث وسقيمه أن يميزوا للناس شيئين هامين:
الأول: الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، لكي لا يعتقد العاملون بها ثبوتها، فيقعوا في آفة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام الإمام مسلم وغيره.
والآخر: الأحاديث الشديدة الضعف من غيرها لكي لا يعملوا بها، فيقعوا في الآفة المذكورة.
والحق -والحق أقول-: إن القليل من علماء الحديث -فضلا عن غيرهم- من له عناية تامة بالتمييز الأول، كالحافظ المنذري -على تساهله المتقدم بيانه- والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتبه، وتلميذه الحافظ السخاوي في كتابه: 'المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة' وغيرهم، وفي عصرنا هذا الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه وتعليقه على 'مسند الإمام أحمد' وغيره، ومثله اليوم أقل من القليل.
وأقل من هؤلاء بكثير من له عناية تامة بتمييز الأحاديث الضعيفة جدا من غيرها، بل إني لا أعلم من له تخصص في هذا المجال، مع كونه من الأمور الهامة كما بينته آنفا، وهو عندي أهم من عنايتهم بتمييز الحديث الحسن من الصحيح مع أنه ليس تحته كبير فائدة لأن كلا منهما يحتج به في الأحكام كما سبق، اللهم إلا عند التعارض والترجيح، بخلاف ما نحن فيه، فإنه يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل دون الضعيف جدا، فبيانه و(3) من باب أولى.(1/81)
ما ذكره المنذري من تساهل العلماء في الترغيب والترهيب، والجواب عليه:
فإن قيل: لم هذا التفصيل والتشديد في رواية الحديث الضعيف، والمنذري رحمه الله قد ذكر في مقدمة كتابه: "أن العلماء أساغوا التساهل في أنواع من الترغيب والترهيب، حتى إن كثيرا منهم ذكروا الموضوع ولم يبينوا حاله".
وجوابا عليه أقول: إن التساهل الذي أساغوه يحتمل وجهين:
الأول: ذكر الأحاديث بأسانيدها، فهذا لا بأس به، كيف لا وهو صنيع جميع المحدثين من الحفاظ السابقين الذين كان أول أعمالهم في سبيل حفظ السنة وأحاديثها، إنما هو جمعها من شيوخها بأسانيدهم فيها، ثم من كان منهم على علم بتراجم رواتها من جميع الطبقات ومعرفة بطرق الجرح والتعديل، وعلل الحديث، فإنه يتمكن من التحقيق فيها: وأن يميز صحيحها من سقيمها، وإلى هذا وذاك أشاروا بقولهم المعروف: "قمش ثم فتش" فهو إذن من باب "ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب".
وعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل قول المنذري المذكور عن العلماء إحسانا للظن بهم أولا، ولأنه هو الذي يدل عليه كلام الحفاظ ثانيا، بالإضافة إلى ما ذكرناه مما جرى عليه عملهم، فهذا هو الإمام أحمد يقول: "إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد".(1)
فهذا نص فيما قلنا، ومثله قول ابن الصلاح(2): "ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد".
__________
(1) مجموع الفتاوى (18/65).
(2) علوم الحديث (ص.113).(1/82)
فتأمل في قوله: "التساهل في الأسانيد" يتجلى لك صحة ما ذكرنا، والسبب في ذلك أن من ذكر إسناد الحديث فقد أعذر وبرئت ذمته، لأنه قدم لك الوسيلة التي تمكن من كان عنده علم بهذا الفن من معرفة حال الحديث صحة أو ضعفا، بخلاف من حذف إسناده ولم يذكر شيئا عن حاله، فقد كتم العلم الذي عليه أن يبلغه.
الأدب في رواية الحديث الضعيف عند ابن الصلاح:
من أجل ذلك عقب ابن الصلاح على ما تقدم بقوله: "إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وإنما تقول فيه: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو بلغنا عنه كذا وكذا. وهكذا الحكم فيما تشك في صحته وضعفه، وإنما تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فيما ظهر لك صحته".
لابد من التصريح بالضعف:
قلت: فثبت أنه لابد من بيان ضعف الحديث في حال ذكره بدون إسناده، ولو بطريق ما اصطلحوا عليه مثل (روي) ونحوه، ولكني أرى أن هذا لا يكفي اليوم لغلبة الجهل، فإنه لا يكاد يفهم أحد من كتب المؤلف أو قول الخطيب على المنبر: "روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كذا وكذا ... "، أنه حديث ضعيف، فلابد من التصريح بذلك كما جاء في أثر علي رضي الله عنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله".(1)ولنعم ما قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في 'الباعث الحثيث':
"والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب على كل حال، لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصا إذا كان الناقل من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث صحيح أو حسن".
__________
(1) أخرجه البخاري (1/300/127).(1/83)
قلت: والوجه الآخر الذي يحتمله كلام المنذري المتقدم إنما هو ذكر الأحاديث الضعيفة بدون أسانيدها ودون بيان حالها حتى الموضوع منها، فهذا في اعتقادي مما لا أتصور أن يقوله أحد من العلماء الأتقياء، لما فيه من المخالفة لما تقدم في كلام الإمام مسلم من نصوص الكتاب والسنة في التحذير من الرواية عن غير العدول، لا فرق في ذلك بين أحاديث الأحكام والترغيب والترهيب وغيرها، وكلام مسلم المتقدم صريح في ذلك.(1)
تأثيم الإمام مسلم لمن يروي عن الضعيف ولا يبين حاله ولو في الترغيب والترهيب:
وأصرح منه قوله بعد بحث هام في وجوب الكشف عن معايب رواة الحديث وذكر أقوال الأئمة في ذلك، قال:
"وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك لما فيه من عظيم الخطر إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أن نهي، أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف -إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه، وكان بأن يسمى جاهلا أولى، من أن ينسب إلى علم".(2)
عاقبة التساهل برواية الأحاديث الضعيفة وكتم بيانها:
__________
(1) ص.101).
(2) مقدمة مسلم (1/29).(1/84)
والحقيقة أن تساهل العلماء برواية الأحاديث الضعيفة ساكتين عنها قد كان من أكبر الأسباب القوية التي حملت الناس على الابتداع في الدين، فإن كثيرا من العبادات التي عليها كثير منهم اليوم إنما أصلها اعتمادهم على الأحاديث الواهية، بل والموضوعة، كمثل التوسعة يوم عاشوراء،(1)وإحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم نهارها،(2)وغيرها وهي كثيرة جدا، تجدها مبثوثة في كتابي 'سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة'، وساعدهم على ذلك تلك القاعدة المزعومة القائلة بجواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل غير عارفين أن العلماء المحققين قد قيدوها بقيدين اثنين:
أحدهما حديثي، وقد سبق تفصيله، وخلاصة ذلك أن كل من يريد العمل بحديث ضعيف ينبغي أن يكون على علم بضعفه، لأنه لا يجوز له العمل به إذا كان شديد الضعف، ولازم هذا الحد من العمل بالأحاديث الضعيفة وانتشارها بين الناس، لو قام أهل العلم بواجب بيانها.
" القيد الفقهي:
وأما القيد الآخر وهو الفقهي، فهذا أوان البحث فيه فأقول: قد دندن الحافظ ابن حجر حوله في الشرط الثاني المتقدم بقوله: "وأن يكون الحديث الضعيف مندرجا تحت أصل عام ... ".
إلا أن هذا القيد غير كاف في الحقيقة، لأن غالب البدع تندرج تحت أصل عام، ومع ذلك فهي غير مشروعة، وهي التي يسميها الإمام الشاطبي بالبدعة الإضافية، وواضح أن الحديث الضعيف لا ينهض لإثبات شرعيتها، فلابد من تقييد ذلك بما هو أدق منه، كأن يقال: أن يكون الحديث الضعيف قد ثبت شرعية العمل بما فيه بغيره مما يصلح أن يكون دليلا شرعيا، وفي هذه الحالة لا يكون التشريع بالحديث الضعيف، وغاية ما فيه زيادة ترغيب في ذلك العمل مما تطمع النفس فيه فتندفع إلى العمل أكثر مما لو لم يكن قد روي فيه هذا الحديث الضعيف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(3):
__________
(1) الحديث (617) ضعيف الترغيب.
(2) الحديث (624) ضعيف الترغيب.
(3) مجموع الفتاوى (1/251).(1/85)
"وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة أنه يجوز أن يجعل الشيء واجبا أو مستحبا بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع".
قول ابن تيمية المفصل في ذلك وأنه لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل:
وقد فصل الشيخ رحمه الله هذه المسألة الهامة في مكان آخر(1)تفصيلا لم أره لغيره من العلماء، فأرى لزاما علي أن أقدمه إلى القراء، لما فيه من الفوائد والعلم، قال بعد أن ذكر قول الإمام أحمد المتقدم:
"وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع".
مراد العلماء من العمل بالحديث الضعيف في الفضائل:
وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله، أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع، كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه، إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى: أن النفس ترجو ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا، فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره.
مثال للعمل بالحديث الضعيف بشرطه:
__________
(1) من مجموع الفتاوى (18/65-68).(1/86)
ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، وكلمات السلف والعلماء، ووقائع العلماء، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، لا استحباب ولا غيره ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب والترجية والتخويف فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع، فإن ذلك ينفع ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه، فإن الكذب لا يفيد شيئا، وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام، وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه، وأحمد إنما قال: "إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد"، ومعناه أنا نروي في ذلك بالأسانيد، وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم، وكذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال، إنما العمل بما فيها من الأعمال الصالحة، مثل التلاوة والذكر، والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة.
ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".(1)
مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"،(2)فإنه رخص في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم، فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع.
لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل:
__________
(1) رواه أحمد (2/159)، البخاري (6/614/3461) والترمذي (5/39/2669).
(2) رواه أحمد (4/136)، أبو داود (4/59-60/3644) وصححه ابن حبان (14/151/6257 الإحسان) من حديث أبي نملة الأنصاري وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري.(1/87)
فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا، مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة، أو على صفة معينة لم يجز ذلك لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي، بخلاف ما لو روي فيه: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله ... كان له كذا وكذا"(1)فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين، كما جاء في الحديث المعروف: "ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس".(2)
فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته، وفي مثله جاء الحديث الذي رواه الترمذي: "من بلغه عن الله شيء فيه فضل، فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك".(3)
فالحاصل: "أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي."
خلاصة كلام ابن تيمية في العمل بالحديث الضعيف في الفضائل:
__________
(1) رواه أحمد (1/47)، الترمذي (5/457-458/3428-3429) وقال: "غريب". وابن ماجة (2/752/2235) والحاكم (1/538) من حديث عمر بن الخطاب. وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/531).
(2) رواه أبو نعيم في الحلية (6/181) والبيهقي في الشعب (1/411/565) كلاهما من طريق الحسن بن عرفة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وضعف إسناده العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (2/717/862). انظر الضعيفة (671).
(3) عزوه للترمذي وهم، وقد رواه الخطيب في التاريخ (8/295-296) وابن الجوزي في الموضوعات (1/188) وقال: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن في إسناده سوى أبي رجاء (في الأصل: أبي جابر) البياضي. قال يحيى: وهو كذاب وقال النسائي: "متروك الحديث". وكان الشافعي يقول: "من حدث عن أبي رجاء البياضي بيض الله عينيه". وانظر اللآلئ (1/214) والضعيفة (451).(1/88)
أقول: ذلك كله من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرا، ونستطيع أن نستلخص منه أن الحديث الضعيف له حالتان:
الأولى: أن يحمل في طواياه ثوابا لعمل ثبت مشروعيته بدليل شرعي فهنا يجوز العمل به بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، ومثاله عنده التهليل في السوق بناء على أن حديثه لم يثبت عنده وقد عرفت رأينا فيه .
والأخرى: أن يتضمن عملا لم يثبت بدليل شرعي، يظن بعض الناس أنه مشروع، فهذا لا يجوز العمل به، وتأتي له بعض الأمثلة الأخرى.
وقد وافقه على ذلك العلامة الأصولي المحقق الإمام أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي في كتابه العظيم "الاعتصام" فقد تعرض لهذه المسألة توضيحا وقوة بما عرف عنه من بيان ناصع، وبرهان ساطع، وعلم نافع، في فصل عقده لبيان طريق الزائغين عن الصراط المستقيم، وذكر أنها من الكثرة بحيث لا يمكن حصرها مستدلا على ذلك بالكتاب والسنة، وأنها لا تزال تزداد على الأيام، وأنه يمكن أن يجد بعده استدلالات أخر، ولاسيما عند كثرة الجهل وقلة العلم وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذن حصرها، قال: "لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها".
من طرق المبتدعة الاعتماد على الأحاديث الواهية:
((1/89)
فمنها): اعتمادهم على الأحاديث الواهية، والمكذوبة فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها، كحديث الاكتحال يوم عاشوراء، وإكرام الديك الأبيض، وأكل الباذنجان بنيته.(1)وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه.(2)وما أشبه ذلك، فإن أمثال هذه الأحاديث -على ما هو معلوم- لا ينبني عليها حكم ولا تجعل أصلا في التشريع أبدا، ومن جعلها كذلك فهو جاهل ومخطئ في نقل العلم، فلم ينقل الأخذ بشيء منها عمن نعتد به في طريقة العلم، ولا طريقة السلوك.
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح، لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرح متفق عليه، وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل،(3)فأما ما دون ذلك، فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث.
ولو كان من شأن أهل الإسلام الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل ما جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل أو التجريح معنى، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك، ولا كان لطلب الإسناد معنى، فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون: "حدثني فلان عن فلان، مجردا، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم إلا عمن تحصل الثقة بروايته، لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام.
__________
(1) هذه الأحاديث كلها موضوعة انظر المقاصد الحسنة وغيرها.
(2) حديث موضوع كما صرح به جمع، انظر الضعيفة رقم (558).
(3) قلت: ومع ذلك فهو مردود عند المحدثين كما بينه الخطيب في الكفاية (ص.391-397).(1/90)
والأحاديث الضعيفة لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟ نعم، الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع". قال:
تقرير إشكال حول اشتراط الصحة في أحاديث الترغيب:
"فإن قيل: هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحة، فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد، كذلك نصوا أيضا على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الإسناد، بل إن كان ذلك فبها ونعمت وإلا فلا حرج على من نقلها واستند إليها، فقد فعله الأئمة كمالك في 'الموطأ' وابن المبارك في 'رقائقه' وابن حنبل في 'رقائقه' وسفيان في 'جامع الخير'وغيرهم.
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى "الترغيب والترهيب" وإذا جاز اعتماد مثله جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه، كصلاة الرغائب والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة أول جمعة من رجب ... وصيام رجب، والسابع والعشرين منه، وما أشبه ذلك، فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها وكذلك الصيام، وقيام الليل، كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص.
وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد بخلاف الأحكام. فإذا هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين، لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك.
رد الإشكال بتفصيل علمي دقيق:
فالجواب: أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة وبيانه:
أن العمل المتكلم فيه:
1- إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا
2- أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا.(1/91)
3- أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا.
فالأول: لا إشكال في صحته كالصلوات المفروضات، والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها، وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان: كصيام يوم عرفة، والوتر، وصلاة الكسوف، فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغب فيها أو تحذر من ترك الفرض منها، وليست بالغة مبلغ الصحة، ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد، أو كانت موضوعة لا يقبلها أحد، فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح.
والثاني: ظاهر أنه غير صحيح، وهو عين البدعة لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى، وهو أبدع البدع وأفحشها كالرهبانية المنفية عن الإسلام، والخصاء لمن خشي العنت، والتعبد بالقيام في الشمس أو بالصمت من غير كلام أحد، فالترغيب في مثل هذا لا يصح، إذ لا يوجد في الشرع، ولا أصل له يرغب في مثله، أو يحذر من مخالفته.
والثالث: ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة، فمطلق التنفل بالصلاة مشروع، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة، وكذلك إذا ثبت أصل صيام ثبت صيام السابع والعشرين من رجب، وما أشبه ذلك.
وليس كما توهموا لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل، فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب، بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح.(1/92)
والدليل على ذلك، أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص كما ثبت لعاشوراء مثلا، أو لعرفة، أو لشعبان -مزية على مطلق التنفل بالصيام- فإنه ثبتت له مزية على الصيام في مطلق الأيام، فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة،(1)لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف في الجملة، وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبلها، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة، وذلك راجع إلى الحكم.
فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة، فلابد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم: "إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح"، والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لابد فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما، فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح، وهو أمر ناقض لما أسسه العلماء.
ولا يقال: إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط، لأننا نقول: هذا تحكم من غير دليل، بل الأحكام خمسة، فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح، فكذلك لا يثبت غيره من الأحكام الخمسة كالمستحب إلا بالصحيح، فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ولا عليك.
خلاصة كلام الإمام الشاطبي:
__________
(1) كذا في الأصل، والسياق يقتضي أن يقال: صيام النفل، فتأمل.(1/93)
فعلى كل تقدير: "كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه أو مرتبته في المشروعات من طريق صحيح، فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب فاشترط الصحة أبدا وإلا خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ، فلقد غلط في هذا المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه، ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص، وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدثين في الموضعين، وبالله التوفيق".(1)
قلت: هذا كله من كلام الإمام الشاطبي، وهو يلتقي تمام الالتقاء مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، ومن الطرائف أن هذا مشرقي وذاك مغربي، جمع بينهما على بعد الدار المنهج العلمي الصحيح.
صعوبة تمييز الضعيف الذي يجوز العمل به حديثيا وفقهيا:
وبعدما عرفت أيها القارئ هذا الشرط الفقهي في جواز العمل بالحديث الضعيف، وذاك الشرط الحديثي المتقدم، أن لا يكون شديد الضعف، يتبين لك أنه كان من الواجب على الحافظ المنذري أن يميز الحديث الضعيف، والضعيف جدا، والموضوع، ويعطي كل حديث من أحاديث كتابه الضعيفة مرتبته من هذه المراتب الثلاث، وأن لا يجمل القول فيها بتصديرها كلها بصيغة روي، خشية أن يبادر أحد من القراء إلى العمل ببعض الواهي والموضوع منها، فيقع في المحظور السابق بيانه ولو كان من الفقهاء، هذا من الناحية الحديثية.
__________
(1) الاعتصام (1/287-293).(1/94)
وأما من الناحية الفقهية، فليس يخفى أنه من غير الميسور تمييز الحديث الضعيف الذي يجوز العمل به، من الذي لا يجوز العمل به إلا على المحدثين الفقهاء بالكتاب والسنة الصحيحة وما أقلهم، ولذلك فإني أرى أن القول بالجواز بالشرطين السابقين نظري غير عملي بالنسبة إلى جماهير الناس لأنه من أين لهم تمييز الحديث الضعيف من الضعيف جدا؟ ومن أين لهم تمييز ما يجوز العمل به منه فقهيا مما لا يجوز؟ فيرجع الأمر عمليا إلى قول ابن العربي المتقدم: أنه لا يعمل بالحديث الضعيف مطلقا، وهو ظاهر قول ابن حبان: "لأن ما روى الضعيف وما لم يرو في الحكم سيان".(1)
وهذا هو الذي أنصح به عامة الناس، وهو الذي كنت نصحت به في مقدمة كتابي 'صحيح الجامع الصغير وزيادته' و'ضعيف الجامع' فليراجعه من شاء.
مثال من واقع بعض الفقهاء:
__________
(1) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والتعليق عليها (2/3).(1/95)
ولا بأس من أن أسوق للقراء مثالا لصعوبة الأمر، على بعض من ينتمي للفقه فضلا عن غيرهم، فهناك حديث أنس الصحيح: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك". رواه الترمذي(1)وغيره، فاستدل به الشيخ علي القاري في 'شرح الشمائل'(2)على أن القيام المتعارف اليوم ليس من السنة، ونقل عن ابن حجر يعني الهيثمي ما ينافي ذلك واستغربه، ثم قال: "وأما قول ابن حجر: ويؤيد مذهبنا من ندب القيام لكل قادم به فضيلة، نحو نسب أو علم أو صلاح أو صداقة حديث أنه صلى الله عليه وسلم قام لعكرمة بن أبي جهل لما قدم عليه،(3)ولعدي بن حاتم كلما دخل عليه،(4)وضعفهما لا يمنع الاستدلال بهما هنا خلافا لمن وهم فيه، لأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا بل إجماعا كما قال النووي" فمدفوع، لأن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال المعروفة في الكتاب والسنة، لكن لا يستدل به على إثبات الخصلة المستحبة).
فتأمل كيف خطأ الشيخ القاري الهيتمي، وهو من كبار فقهاء الشافعية المتأخرين في تطبيق القاعدة المذكورة، فما عسى أن يكون حال عامة الناس في ذلك؟ ومن شاء المزيد من الأمثلة فليراجع كتابي 'سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة' يجد العجب العجاب منها، فانظر مثلا الأحاديث (372،609،872،922،928،944).(5)
__________
(1) 5/84/2754) وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه". ورواه أحمد (3/132) والبخاري في الأدب المفرد (946).
(2) 2/169).
(3) رواه الحاكم (3/241) وحذفه الذهبي من التلخيص لضعفه. وفيه محمد بن عمر الواقدي.
(4) رواه الترمذي (5/186-187/2953) وقال: "حديث حسن غريب". ورواه أحمد (4/378-379) وابن حبان (16/183-184/7206 الإحسان) دون ذكر موضع الشاهد.
(5) مقدمة صحيح الترغيب (1/47-67).(1/96)
وجاء في الأحاديث الضعيفة من المصائب العظمى التي نزلت بالمسلمين منذ العصور الأولى، انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، لا أستثني أحدا منهم ولو كانوا علماءهم إلا من شاء الله منهم من أئمة الحديث ونقاده، كالبخاري وأحمد وابن معين وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وقد أدى انتشارها إلى مفاسد كثيرة، منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية، ومنها ما هو من الأمور التشريعية، وسيرى القارئ الكريم الأمثلة الكثيرة لما ندعيه في كثير من الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.
وقد اقتضت حكمة العليم الخبير سبحانه وتعالى أن لا يدع هذه الأحاديث التي اختلقها المغرضون لغايات شتى تسري بين المسلمين دون أن يقيض لها من يكشف القناع عن حقيقتها ويبين للناس أمرها، أولئك هم أئمة الحديث الشريف وحاملو ألوية السنة النبوية الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1)فقد قام هؤلاء الأئمة جزاهم الله عن المسلمين خيرا، ببيان حال أكثر الأحاديث من صحة أو ضعف أو وضع، وأصلوا أصولا متينة، وقعدوا قواعد رصينة، من أتقنها وتضلع بمعرفتها أمكنه أن يعلم درجة أي حديث ولو لم ينصوا عليه، وذلك هو علم أصول الحديث أو مصطلح الحديث.
__________
(1) رواه أحمد (1/437) والترمذي (5/33/2657) وقال حسن صحيح وابن ماجه (1/85/232) وصححه ابن حبان (1/268/66) كلهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن جمع من الصحابة.(1/97)
وألف المتأخرون منهم كتبا خاصة للكشف عن الأحاديث وبيان حالها، وأشهرها وأوسعها كتاب 'المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة' للحافظ السخاوي، ونحوها كتب التخريجات فإنها تبين حال الأحاديث الواردة في كتب من ليس من أهل الحديث وما لا أصل له من تلك الأحاديث، مثل كتاب 'نصب الراية لأحاديث الهداية' للحافظ الزيلعي، و'المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار' للحافظ العراقي، و'التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير' للحافظ ابن حجر العسقلاني، و'تخريج أحاديث الكشاف' له، و'تخريج أحاديث الشفاء' للشيخ السيوطي وكلها مطبوعة.
ومع أن هؤلاء الأئمة -جزاهم الله خيرا- قد سهلوا السبيل لمن بعدهم من العلماء والطلاب حتى يعرفوا درجة كل حديث بهذه الكتب وأمثالها، فإننا نراهم -مع الأسف الشديد- قد انصرفوا عن قراءة الكتب المذكورة، فجهلوا بسبب ذلك حال الأحاديث التي حفظوها عن مشايخهم أو يقرؤونها في بعض الكتب التي لا تتحرى الصحيح الثابت.(1/98)
ولذلك لا نكاد نسمع وعظا لبعض المرشدين، أو محاضرة لأحد الأساتذة، أو خطبة من خطيب، إلا ونجد فيها شيئا من تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وهذا أمر خطير، يخشى عليهم جميعا أن يدخلوا بسببه تحت وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا(1)فليتبوأ مقعده من النار"(2)-حديث صحيح متواتر- فإنهم وإن لم يتعمدوا الكذب مباشرة فقد ارتكبوه تبعا لنقلهم الأحاديث التي يقفون عليها جميعها وهم يعلمون أن فيها ما هو ضعيف وما هو مكذوب قطعا، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"(3)رواه مسلم في مقدمة صحيحه وغيره من حديث أبي هريرة، ثم روي عن الإمام مالك أنه قال: "اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع"، وقال الإمام ابن حبان في 'صحيحه':
فصل: ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو غير عالم بصحته. ثم ساق بسنده عن أبي هريرة مرفوعا: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"(4)وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه، ثم قال:
__________
(1) لفظة "متعمدا" صحيحة ثابتة في الحديث وإن حاول التشكيك بها مؤلف كتاب "الأضواء"، بل إنه جزم ببطلانها وأنها من وضع بعض المحدثين ليروج بها قوله: إنه يجوز رواية الحديث بالمعنى، وإنكار المؤلف المذكور لها لا يدل فقط على جهله بالحديث وطرقه، بل إنه يدل على جهله أيضا بأصول الشريعة وقواعدها، فإن هذه اللفظة لو لم ترد في الحديث مطلقا فإن تقديرها في الحديث لا مناص منه كما لا يخفى وإلا كان المؤلف المذكور أول من يشمله الحديث لأنه -على الأقل- ليس معصوما من الخطإ في رواية حديث ما.
(2) تقدم تخريجه (ص.7).
(3) تقدم تخريجه (ص.84).
(4) تقدم تخريجه (ص.92).(1/99)
"ذكر الخبر الدال على صحة ما أومأنا إليه في الباب المتقدم" ثم ساق بسنده عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث سمرة والمغيرة بن شعبة(1)معا وقال: "إنه حديث مشهور".
ثم قال ابن حبان: "ذكر خبر ثان يدل على صحة ما ذهبنا إليه" ثم ساق حديث أبي هريرة الأول.
فتبين مما أوردنا أنه لا يجوز نشر الأحاديث وروايتها دون التثبت من صحتها، وإن من فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(2)رواه مسلم وغيره.(3)
نماذج من الأحاديث الموضوعة والباطلة والتي لا إسناد لها
- جاء في الإحياء: وقال صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم".
قال العراقي: ذكره ابن عبد البر تعليقا ولم أظفر له بإسناد،(4)وذكره ابن السبكي أيضا في الطبقات من الأحاديث التي لم يجد لها إسنادا".(5)
- جاء في الإحياء: وقال صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو بالصين".
قال فيه العراقي: أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس، وقال البيهقي متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة.(6)
وقال في شرح الجامع الصغير بعدما ذكر أن ابن عبد البر أخرجه في كتاب العلم عن أحمد بن عبد الله بن محمد، عن مسلمة بن القاسم عن يعقوب بن إسحاق العسقلاني، عن عبيد الله الفريابي عن أبي محمد الزهري، عن أنس بن مالك.
قال في الميزان: يعقوب كذاب انتهى، وقال النيسابوري وابن الجوزي ثم الذهبي لم يصح فيه إسناد.(7)
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.83).
(2) تقدم تخريجه (ص.80).
(3) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/47-51).
(4) الإحياء (1/6).
(5) الطبقات (4/145).
(6) الإحياء (1/8-9).
(7) فيض القدير (1/543).(1/100)
وقال الشيخ ناصر الألباني: باطل ثم ذكر تخريجه وطرقه، ثم قال: قلت وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
وقال ابن حبان باطل لا أصل له، وأقره السخاوي في المقاصد.(1)
- وقال الغزالي: وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه، حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة، وعيادة ألف مريض، وشهود ألف جنازة، فقيل: يا رسول الله، ومن قراءة القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل ينفع القرآن إلا بالعلم".
قال العراقي: ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من حديث عمر، ولم أجده من طريق أبي ذر.(2)
- قال الغزالي: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة".(3)
قال الألباني: لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: "ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا." وهذا بعيد عندي، إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف، ولا موضوع، وأقره الشيخ زكرياء الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي، ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء، قال العلامة ابن حزم في الأحكام في أصول الإحكام، بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث.
وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وقال في مكان آخر: باطل مكذوب.(4)
- وقال الغزالي: ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "قليل من التوفيق خير من كثير من العلم".
قال العراقي: لم أجد له أصلا.(5)
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/600-602/416).
(2) 1/9).
(3) 1/27).
(4) سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/141/57).
(5) 1/31).(1/101)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، وحتى يرى للقرآن وجوها كثيرة".
قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من حديث شداد بن أوس، وقال: لا يصح مرفوعا.(1)
- قال الغزالي: وفي حديث آخر: "هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم".
قال العراقي: لم أر له أصلا.(2)
- قال الغزالي: وفي بعض الأخبار "إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل، وسيأتي قوم يلهمون الجدل".
قال العراقي: لم أجده.(3)
- قال الغزالي: وفي الخبر "ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل".
قال العراقي: لم أجد له أصلا.(4)
- قال الغزالي: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن ليس بحقود".
قال العراقي: لم أقف له على أصل.(5)
- قال الغزالي: قال صلى الله عليه وسلم: "بني الدين على النظافة".
قال العراقي: حديث بني الدين على النظافة لم أجده هكذا، وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة تنظفوا فإن الإسلام نظيف، وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود، النظافة تدعو إلى الإيمان.(6)
- قال الغزالي: "فيحشر الممزق لأعراض الناس كلبا ضاريا، والشره إلى أموالهم ذئبا عاديا ... ".
قال العراقي: حديث "حشر الممزق لأعراض الناس في صورة كلب ضار..." الحديث أخرجه الثعلبي في التفسير من حديث البراء بسند ضعيف.(7)
-قال الغزالي: إذ قال صلى الله عليه وسلم وهو مرشد كل معلم: "لو منع الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء".
قال العراقي: حديث لو منع الناس عن فت البعر لفتوه، الحديث لم أجده.(8)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم: "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا".
__________
(1) 1/32).
(2) 1/38).
(3) 1/41).
(4) 1/41).
(5) 1/46).
(6) 1/49).
(7) 1/49).
(8) 1/57).(1/102)
قال العراقي: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بإسناد ضعيف إلا أنه قال: زهدا، وروى ابن حبان في روضة العقلاء موقوفا على الحسن: من ازداد علما ثم ازداد على الدنيا حرصا لم يزدد من الله إلا بعدا، وروى أبو الفتح الأزدي في الضعفاء من حديث علي: من ازداد بالله علما ثم ازداد للدنيا حبا، ازداد الله عليه غضبا.(1)
- قال الغزالي: روى معاذ رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع".
قال العراقي: أخرجه أبو نعيم وابن الجوزي في الموضوعات.(2)
- قال الغزالي: وعن جابر رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة".
قال العراقي: أخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن الجوزي في الموضوعات.(3)
- قال الغزالي: وقد روي أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "علمني من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم، فقال: وما رأس العلم، فقال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الرب تعالى؟ قال: نعم، فما صنعت في حقه؟ قال :ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله، قال صلى الله عليه وسلم: اذهب فَأَحْكِمْ ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم".
قال العراقي: رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة لهما، وابن عبد البر من حديث عبد الله بن المسور مرسلا، وهو ضعيف جدا.(4)
- قال الغزالي: ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".
قال العراقي: أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وضعفه.(5)
__________
(1) 1/59).
(2) 1/62).
(3) 1/63).
(4) 1/65).
(5) 1/71).(1/103)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له رجل حسن اليقين كثير الذنوب، ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من آدمي إلا وله ذنوب، ولكن من كان غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه، ويبقى له فضل يدخل به الجنة".
قال العراقي: أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من حديث أنس بإسناد مظلم.(1)
- قال الغزالي: ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار".
قال العراقي: لم أقف له على أصل.(2)
- قال الغزالي: وفي خبر آخر: "من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قيل يا رسول الله، وما غش أمتك، قال: أن يبتدع بدعة يحمل الناس عليها".
قال العراقي: أخرجه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس بسند ضعيف جدا.(3)
- قال الغزالي: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل ملكا ينادي كل يوم من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنله شفاعته".
قال العراقي: لم أجد له أصلا.(4)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي، ويرتفع إليه التالي".
قال العراقي: أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث موقوفا على علي بن أبي طالب، ولم أجده مرفوعا.(5)
- قال الغزالي: قال صلى الله عليه وسلم: "الشيخ في قومه كالنبي في أمته".
قال العراقي: أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر، وأبو منصور الديلمي من حديث أبي رافع بسند ضعيف.(6)
__________
(1) 1/72).
(2) 1/72).
(3) 1/81).
(4) 1/81).
(5) 1/81).
(6) 1/83).(1/104)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به، وما نهيتم عنه، إلى أن قال: وأن الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر، عظيم الخطر، شريف المنزلة، حسن الهيئة".
قال العراقي: أخرجه داود بن المجبر أحد الضعفاء في كتاب العقل من حديث أبي هريرة وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة عن داود.(1)
- قال الغزالي: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار".
قال العراقي: لم أجد له أصلا.(2)
- قال الغزالي: وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي في بعض الأخبار: "الإيمان يزيد وينقص".
قال العراقي: أخرجه ابن عدي في الكامل، وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة، وقال ابن عدي باطل فيه محمد بن أحمد بن حرب الملحي يتعمد الكذب.(3)
- قال الغزالي: قال صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا".
قال العراقي: أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر بسند ضعيف.(4)
" التعليق:
هذه نقطة من بحر لو تتبع القارئ كتاب إحياء علوم الدين، وأراد إحصاء الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، لوجد من ذلك الآلاف، وإذا لم أكن مبالغا فأقول بأن معظم الأحاديث الضعيفة التي تروج على الألسنة والموجودة في كثير من كتب الخطب والمواعظ والرقائق وغيرها، فإن أصلها من هذا الكتاب وهذا مصدرها، فلا أدري ماذا سيقول المحبون للغزالي في ارتكاب هذه الجريمة الكبرى التي لا يقدرها إلا من عرف خطرها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الجهال وأصحاب العواطف الجياشة، فهؤلاء لا قيمة لحكمهم لأنهم لا يعرفون خطر هذا المخطط الخبيث الذي بدأ في القرون الأولى، وتعاون على تطبيقه الكثير من المسلمين سواء على حسن نية أو سوئها.
__________
(1) 1/83).
(2) 1/102).
(3) 1/120).
(4) 1/277).(1/105)
فالذي يقرأ إحياء علوم الدين، ويتتبع ما فيه من الأحاديث الموضوعة والساقطة والباطلة، يعلم حقيقة ما فعله المرابطون بهذا الكتاب لما رأوا خطره على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فبادروا إلى حرقه، فجزاهم الله خيرا عن الإسلام والمسلمين، إذ قاموا بما يجب عليهم.
المادة الثانية الفاسدة: أصول البدع
الذي ينظر في كتاب الإحياء يجده بحق أصلا كبيرا لمادة البدع التي تفرغت في الطرق الصوفية أولا، وفي بقية المبتدعة ثانيا، فهو اصل كبير للبدع المنتشرة في العالم الإسلامي، وهاك مثالا يوضح لك ما نذكره.
قال الغزالي:
" بيان الليالي والأيام الفاضلة:(1/106)
اعلم أن الليالي المخصوصة بمزيد الفضل التي يتأكد فيها استحباب الإحياء في السنة خمس عشرة ليلة، لا ينبغي أن يغفل المريد عنها فإنها مواسم الخيرات، ومظان التجارات، ومتى غفل التاجر عن المواسم لم يربح، ومتى غفل المريد عن فضائل الأوقات لم ينجح، فستة من هذه الليالي في شهر رمضان: خمس في أوتار العشر الأخير، إذ فيها يطلب ليلة القدر، وليلة سبع عشر من رمضان، فهي ليلة صبيحتها يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، فيه كانت وقعة بدر، وقال ابن الزبير رحمه الله هي -ليلة القدر- وأما التسع الأخر فأول ليلة من المحرم وليلة عاشوراء، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف منه، وليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة المعراج، وفيها صلاة مأثورة، فقد قال صلى الله عليه وسلم للعامل في هذه الليلة حسنات مائة سنة، فمن صلى في هذه الليلة اثنتي عشر ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة من القرآن، ويتشهد في كل ركعتين، ويسلم في آخرهن ثم يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، مائة مرة، ثم يستغفر الله مائة مرة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ويدعو لنفسه بما شاء من أمر دنياه وآخرته، ويصبح صائما، فإن الله يستجيب دعاءه كله إلا أن يدعو في معصية(1)-وليلة النصف من شعبان- ففيها مائة ركعة يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص عشرة مرات،(2)
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (3/374/3812) وضعفه، من طريق محمد بن الفضل عن أبان عن أنس. ومحمد بن الفضل وأبان ضعيفان. قال الحافظ ابن حجر في تبيين العجب (ص.27-28): "إسناده مظلم". وله شاهد من حديث سلمان وفيه هياج ضعفه ابن معين وقال أبو داود: "تركوه". انظر تخريج أحاديث الإحياء للعراقي (2/895/1186) وتنزيه الشريعة (2/161) والفوائد المجموعة (ص.439-440).
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (3/386-387/3841) من حديث علي رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: "يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا"..وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا نشك أنه موضوع". وكذا حكم عليه غير واحد. انظر الموضوعات لابن الجوزي (2/49-50) والفوائد المجموعة (ص.50-51) واللآلي المصنوعة (2/57-58) والمنار المنيف (ص.78) وتنزيه الشريعة (2/92-93).(1/107)
كانوا لا يتركونها، كما أوردناه في صلاة التطوع، وليلة عرفة، وليلتا العيدين قال صلى الله عليه وسلم : "من أحيا ليلتي العيدين، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب".(1)
وأما الأيام الفاضلة، فتسعة عشر يستحب مواصلة الأوراد فيها يوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويوم سبع وعشرين من رجب، له شرف عظيم، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله له صيام ستين شهرا"(2)وهو اليوم الذي أهبط الله فيه جبرائيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ويوم سبعة عشر من رمضان، وهو يوم وقعة بدر ويوم النصف من شعبان، ويوم الجمعة، ويوما العيدين، والأيام المعلومات، وهي عشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات وهي أيام التشريق.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة (1/567/1782) من طريق بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده ضعيف لتدليس بقية". وأخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/181/366) من طريق عمر بن هارون البلخي عن ثور بن يزيد به. قال الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الترغيب (1/334/666): "والبلخي هذا كذاب فيخشى أن يكون بقية رواه عنه ثم دلسه".
(2) أخرجه الخطيب في التاريخ (8/290) والجوزقاني في الأباطيل (ص.325-326) وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/232-233) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/226-227) كلهم من حديث أبي هريرة. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يجوز الاحتجاج به". وقال الجوزقاني: "هذا حديث باطل".(1/108)
وقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام، وإذا سلم شهر رمضان سلمت السنة".(1)وقال بعض العلماء: من أخذه مهناة في الأيام الخمسة في الدنيا لم ينل مهناة في الآخرة. وأراد به العيدين والجمعة، وعرفة، وعاشوراء، ومن فواضل الأيام في الأسبوع يوم الخميس والاثنين ترفع فيهما الأعمال إلى الله تعالى، وقد ذكرنا فضائل الأشهر والأيام للصيام في كتاب الصوم فلا حاجة إلى الإعادة، والله أعلم، وصلى الله على كل عبد مصطفى من كل العالمين".(2)
" التعليق:
__________
(1) أخرجه ابن حبان في المجروحين (1/123-124) وأبو نعيم في الحلية (7/140) وابن عدي في الكامل (5/288) ومن طريقه البيهقي في الشعب (3/340-341/3708) وأبو أحمد الحاكم في الأسامي والكنى (4/271-272) والخطيب في الموضح (2/235) كلهم من حديث عائشة وليس من حديث أنس، قال العراقي في تخريج الإحياء (2/897): "لم أجده من حديث أنس". قال ابن عدي: "وهذا الحديث عن الثوري باطل ليس له أصل". وقال أبو أحمد الحاكم: "هذا حديث منكر يشبه بالموضوع".
(2) 1/361).(1/109)
هذا المقطع الذي ذكره الغزالي، وملأه بالأحاديث الضعيفة التي استدل بها على تفضيل ليالي وأيام معينة لم يصح فيها عن المعصوم شيء، وما ذكره من الأحاديث فهي ضعيفة كما هو موضح في هامش الإحياء. فقوله: وأول ليلة من رجب، وليلة النصف منه، وليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة المعراج، وذكر فيها الصلاة المبتدعة، فهذه البدعة الكبرى، كم فتن بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، كم وضعوا حولها من الأسطورات ومن الأكذوبات، وللحافظ ابن حجر رحمة الله عليه كتاب جيد بين فيه بطلان ما ذكره القصاص والمتأكلون بالبدع سماه 'تبيين العجب في بيان إبطال ما ورد في رجب'، ولهذه البدعة يجند الخطباء أنفسهم في العالم الإسلامي لبيان هذه البدعة والإشادة بها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وذلك لجهلهم بالحديث وعلومه، ولمجاراتهم الأوضاع البدعية الفاسدة إلا من شاء الله منهم، فمتى وقع الإسراء والمعراج؟ لا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط الشهر واليوم، ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى شرح البخاري فتح الباري، فيرى الأقوال المتضاربة التي لا تثبت تاريخا معينا ولا وقتا محددا، وعلى فرض أنه لو علم تاريخ الإسراء والمعراج ما جاز للمسلمين اتخاذ ذلك اليوم عيدا لأن العيد من الأمور التوقيفية التي يخص الله بها يوما من الأيام بمزيد عبادة فلا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا صح عن المعصوم، وشرح هذا المقطع وبيان ما فيه من الباطل يحتاج إلى تسويد أوراق، ولا فائدة في ذلك لأن القصد بيان الباطل والتمثيل في ذلك، ومن له خبرة بعلم الحديث والرواية يعرف بطلان ذلك من أول نظرة.
فالغزالي يخلط بين المشروع وبين المبتدع كما مر معنا حتى يروج بضاعة البدعة، أما ما ذكره في العشر الأواخر فهو في الصحيح.
المادة الثالثة: الطامات الكبرى والمصائب العظمى التي إذا سمعها المسلم وقرأها فر من هذا الكتاب فراره من الأسد:(1/110)
الطامة الأولى: صرف المسلمين عن دراسة كتاب الله حفظا وعلما وعملا، وإشغالهم بالغناء والرقص واللهو واللعب والذي قال فيه الشافعي رضي الله عنه: خلفت بالعراق شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير أي الأناشيد يشغلون به الناس عن القرآن.
قال الغزالي: فإن قلت: فإن كان سماع القرآن مفيدا للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين؟ فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين؟ وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قَوَّال؟ فإن كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة، فاعلم أن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه:(1/111)
الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فمن أين يناسب حاله قوله تعالى: يُوصِيكُمُ { اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }(1)وقوله تعالى: وَالَّذِينَ { يَرْمُونَ } الْمُحْصَنَاتِ(2)، وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه، والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف، نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعا لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ، فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى: يُوصِيكُمُ { اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } حالة الموت المحوج إلى الوصية، وأن كل إنسان لابد أن يخلف ماله وولده وهما محبوباه من الدنيا، فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعا فيغلب عليه الخوف والجزع، أو يسمع ذكر الله في قوله: يُوصِيكُمُ { اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده، أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظرا لهم في حياتهم وموتهم فيقول: إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك استبشارا وسرورا، أو يخطر له من قوله تعالى: لِلذَّكَرِ { مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }(3)
__________
(1) النساء الآية (11).
(2) النور الآية (4).
(3) النساء الآية (11)..(1/112)
تفضيل الذكر بكونه رجلا على الأنثى، وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقا، فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا، فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان (أحدهما) حالة غالبة مستغرقة قاهرة (والآخر) تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز، فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها، وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم:
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا صالحا ... وبكت حزنا فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفني
قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جدا وحقا.(1/113)
الوجه الثاني: أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكلما سمع أولا عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف أثره، وفي الثالثة يكاد يسقط أثره، ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان، في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك، ولو أبدل ببيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معربا عن عين ذلك المعنى، ولكن كون النظم واللفظ غريبا بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحدا، وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآنا غريبا في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه، وكله محفوظ متكرر وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال: كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا. ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب، وأنه كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم، ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه، إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي، ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة، ثم يرددها ويبكي، ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريبا جديدا، ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة، ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة، ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف وقال: قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت. أي يأنسوا به، ومن قدم حاجا فرأى البيت أولا بكى وزعق وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره، وقد يقيم بمكة شهرا ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر، فإذا المغني يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة.(1/114)
الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيرا في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات، ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطرب قلب المستمع وبطل وجده وسماعه، ونفر طبعه لعدم المناسبة، وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش، فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر.
الوجه الرابع: أن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والإستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها، وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل، فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضيه التلاوة حرام أو مكروه، وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوما، كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم.(1/115)
الوجه الخامس: أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق، كالضرب بالقضيب والدف وغيره، لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي، وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ولكل واحد منها حظ في التأثير، وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب، والقرآن جد كله عند كافة الخلق، فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو، بل ينبغي أن يوقر القرآن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن، ولا في حال الجنابة، ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم، فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في العرس فقال: "أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال"(1)،
__________
(1) رواه ابن ماجه (1/611/1895) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال في الزوائد: "في إسناده خالد بن إلياس أبو الهيثم العدوي، اتفقوا على ضعفه بل نسبه ابن حبان والحاكم وأبو سعيد النقاش إلى الوضع". ورواه الترمذي (3/398-399/1089) بلفظ: "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف". وقال غريب حسن في هذا الباب وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث..(1/116)
أو بلفظ هذا معناه، وذلك جائز مع الشعر دون القرآن، ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار، فسمع إحداهن تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد، على وجه الغناء، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي ما كنت تقولين"(1)، وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو، لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو، فإذا يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركا للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء.
الوجه السادس: أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره، فليس كل كلام موافقا لكل حال، فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا توافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال، فآيات الرحمة شفاء الخائف، وآيات العذاب شفاء المغرور الآمن، وتفصيل ذلك مما يطول، فإذا لا يؤمن ألا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخطر كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلا إلى دفعه، فالاحتراز عن خطر ذلك حزم بالغ وحتم واجب إذ لا يجد الخلاص عنه إلا بتنزيله على وفق حاله، ولا يجوز تنزيل كلام الله تعالى إلا على ما أراد الله تعالى، وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراده، ففيه خطر الكراهة أو خطر التأويل الخطأ لموافقة الحال، فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك، وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن.
__________
(1) رواه أحمد (6/359 و360)، البخاري (9/253/5147)، أبو داود (5/220-221/4922)، الترمذي (3/399/1090)، النسائي في الكبرى (3/332/5563) وابن ماجة (1/611/1897) عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها.(1/117)
وهاهنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج الطوسي في الاعتذار عن ذلك فقال: القرآن كلام الله وصفة من صفاته وهو حق لا تطيقه البشرية لأنه غير مخلوق فلا تطيقه الصفات المخلوقة. ولو كشف للقلوب ذرة من معناه وهيبته لتصدعت ودهشت وتحيرت، والألحان الطيبة مناسبة للطباع ونسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته نسبة الحظوظ، فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضا كان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق المخلوق، فما دامت البشرية باقية ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود، وهذا حاصل المقصود من كلامه واعتذاره، وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه، فلما دخلت الري كنت أسأل عنه فكل من سألته عنه قال، ايش تعمل بذلك الزنديق؟ فضيقوا صدري حتى عزمت على الانصراف، ثم قلت في نفسي: قد جبت هذا الطريق كله فلا أقل من أن أراه، فلم أزل أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجد وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل وبيده مصحف وهو يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه فأقبل علي وقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من بغداد، فقال وما الذي جاء بك؟ فقلت: قصدتك للسلام عليك، فقال: لو أن في بعض هذه البلدان قال لك إنسان أقم عندنا حتى نشتري لك دارا أو جارية أكان يقعدك ذلك عن المجيء؟ فقلت: ما امتحنني الله بشيء من ذلك ولو امتحنني ما كنت أدري كيف أكون ؟ ثم قال لي: أتحسن أن تقول شيئا؟ فقلت: نعم، فقال: هات، فأنشأت أقول:
رأيتك تبني دائما في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
كأني بكم والليت أفضل قولكم ... ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني(1/118)
قال: فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني تلوم أهل الري يقولون يوسف زنديق، هذا أنا من صلاة الغداة أقرأ في المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين، فإذا القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطباع، ولكونه مشاكلا للطبع اقتدر البشر على نظم الشعر، وأما القرآن فنظمه خارج عن أساليب الكلام ومنهاجه وهو لذلك معجز لا يدخل في قوة البشر لعدم مشاكلته لطبعه، وروي أن إسرافيل -أستاذ ذي النون المصري- دخل عليه رجل فرآه وهو ينكت في الأرض بأصبعه ويترنم ببيت فقال: هل تحسن أن تترنم بشيء؟ فقال: لا، قال، فأنت بلا قلب -إشارة إلى أن من له قلب وعرف طباعه علم أنه تحركه الأبيات والنغمات تحريكا لا يصادف في غيرها فيتكلف طريق التحريك إما بصوت نفسه أو بغيره.(1)
" التعليق:
__________
(1) الإحياء (2/298-301).(1/119)
أقول بأن هذا المبحث الذي كتبه الغزالي في إحيائه في تفضيل الغناء والطرب والرقص على كتاب الله قد وجد آذانا صاغية وقلوبا مستعدة فتسابقوا إلى الإنشاد، وسمع المسلمون منهم ذلك فعكفوا على قراءة ما أنشد لهم، وجعلوه قربة يتقربون بها إلى الله، فقرأوه على موتاهم وفي جميع مناسباتهم، بل فضلوه على تلاوة القرآن، وأكرموا الحافظ له وبجلوه وعظموه، وتنافسوا في دعوته إلى منازلهم وبيوتهم، ويا ليت هذا الإنشاد كان خاليا من الشرك والبدع حتى ينظر في حكمه من حيث الجواز أو المنع، ولكن غالبه كان ممزوجا بأناشيد شركية وبدعية تغضب الله ورسوله، وكل موحد يخلص توحيده لله. وإحصاء هذه الأناشيد والقصائد البدعية والشركية يحتاج إلى مؤلفات لجمعها وبيان ما فيها للأمة من الشرك والبدع، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بردة البوصيري التي شاع ذكرها في الآفاق، والتي ترجمت إلى عدة لغات والتي تعتبر امتدادا لما جاء في الإحياء من تفضيل الشعر والأناشيد على القرآن من الناحية العملية، وهذه القصيدة مع الأسف مملوءة بالشرك والبدع، وأنشدها صاحبها في القرن السابع وما يزال الناس منذ إنشادها يعظمونها بأنواع من التعظيم، فمن شارح لها ومن مخمس لها معارض، وإحصاء شراحها والمعتنين بها أمر يطول، أما إنشادها في المناسبات والحفلات الدينية فأمر لابد منه، والناس يتبركون بها وبقراءتها طيلة هذه العصور.(1/120)
أما نقدها ومعرفة ما فيها من الشرك والغلو وتحذير الناس من قراءتها فلم يعرف إلا عن علماء التوحيد الذين بوأهم الله هذه المنزلة في الدفاع عن عقيدة التوحيد الخالصة التي تتبرأ من كل شرك وغلو، فجزاهم الله خيرا عن تنبيههم وعن تحذيرهم مما فيها من الغلو والانحراف، وقصدي أن أبين للقراء الخطر الناجم عما كتبه الغزالي في إحيائه حيث كان لهذا المبحث خطره في القديم والحديث، فاشتغل الناس بقراءة القصائد الشعرية والبدعية، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهريا، وكذلك فعلوا في وقتنا الحاضر، فجندوا أنفسهم للسير في هذه المسيرة المشؤومة والتي مفادها الإعراض عن كتاب الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه المسيرة المشؤومة ضمن دعوتهم الإسلامية المزعومة، وألفوا في ذلك الكتب والمقالات يبينون للناس مشروعية هذا العمل، وكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تجهل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعر المباح الذي يخضع لكل موازين المباح، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وينزلون هذه الأحكام في غير موضعها، أما إنشاد قصيدة أو قراءتها أحيانا فهذا أمر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع قصائد وقال: "إن من الشعر لحكمة"(1)ولكن اجتماع المسلمين اجتماع القربى إلى الله لم يكن إلا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما ما يفعل في الوقت الحاضر من ضرب بالدفوف وتلحين للقصائد فلا شك أنه من فعل المخنثين، والدفاع عن هذا الأمر هو نصرة للباطل هذا من جهة.
__________
(1) رواه أحمد (5/125)، البخاري (10/658/6145)، أبو داود (5/276-277/5010) وابن ماجه (2/1235/3755) من حديث أبي رضي الله عنه.(1/121)
ومن جهة أخرى ضياع القرآن بين أظهر المسلمين حفظا وقراءة وعملا، وتكالب عليه جميع أعداء الإسلام بكل وسائلهم، وضيقوا عليه بجميع مناهجهم وأبعدوه من ساحة عملهم فهلا اجتمع المسلمون على نصرة كتاب الله حفظا وعلما وعملا، ولكن كيف يشتغل بكتاب الله من يطلب المناصب الدنيوية ويشارك في كل شر بزعم أنه يريد نشر الإسلام هو لعمر الله هدم لكيانه، وتشويه لمعالمه ولو كان هذا العمل الباطل الذي يقوم به الحركيون صحيحا لكان سلفنا الصالح أحق به، وكما قيل: فاقد الشيء لا يعطيه، فهم فاقدون لقدر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحسنون إلا البهرجة واللغط وما سوى ذلك من دعوة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،فهم بعيدون عنها وهم جاهلون بها، نسأل الله السلامة والعافية.
وهاك قصيدة البردة مع توضيح يسير وتنبيه صغير لما في أبياتها من الشرك والغلو حتى يعلم القراء خطر هذا الموضوع وأثره السلبي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ كتب الغزالي هذا البحث المشؤوم الذي قراءته تكفي عن رده، وارتأيت أن أذكر هذه التنبيهات، ولم أشتغل برد الوجوه التي ذكرها الغزالي لأن بطلانها معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة.
تعريف بالشاعر البوصيري:
لقد كتب الأستاذ عبد البديع صقر نقدا للبردة، وكتب مقدمة على البوصيري وقصيدته، رأيت من المفيد أن أنقلها في هذا المبحث ليعلم القراء خطر هذا الموضوع، قال الأستاذ عبد البديع:
لقد ولد البوصيري ببلبيس من أعمال محافظة الشرقية 608هـ الموافق 1212م. أي في عهد الدولة الأيوبية، واسمه محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي ونسب إلى بلدة "أبو صير" من أعمال بني سويف بمصر لأن أمه منها وأبوه من بلاد المغرب ... وكان البوصيري معدودا من الشعراء المجيدين يعالج فن الكتاب والشعر ...(1/122)
ومن أشهر قصائده "البردة" التي مطلعها: "أمن تذكر جيران بذي سلم" والهمزية التي مطلعها: "كيف ترقى رقيك الأنبياء".. ومعارضة قصيدة "بانت سعاد" التي مطلعها: "إلى متى أنت باللذات مشغول".
وتوفي المؤلف سنة 696هـ الموافق 1296م، (أي قبل نحو سبعة قرون)، ويتضح من هذه الترجمة الواردة في الكتب المعتمدة، أن الرجل كان معدودا في الشعراء وليس في الفقهاء ولا العلماء، كما أن انحداره من عائلة مغربية يعطي احتمالا بأن له ارتباطا بالفاطميين. شأنه في ذلك شأن السيد أحمد البدوي والشعراني وأبو الحسن الشاذلي، كما أن مصر في هذه الأيام كانت في قمة التأثر بالصوفية واتجاهات العبيديين الفاطميين، وهذه الفترة من التاريخ الإسلامي كان لها تأثير مهم جدا على مصر خاصة، وعلى باقي بلاد الإسلام عامة، إذ كانوا ينقلون دائما عن مصر، ويعتبرونها من أهم مراكز الثقافة الدينية.
وقد نجح الأيوبيون في القضاء على الدولة الفاطمية سياسيا وغيروا منهج الدراسة في المدارس الكبرى ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا تماما على الأفكار المسيطرة على أذهان الشعب في مصر وجاراتها بسبب استناد تلك الأفكار إلى عاطفة الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلا في آل بيته، فقد دأب الفاطميون خلال قرنين من الزمان على تعميق هذه العاطفة في النفوس باعتبارها كانت من الدعائم الرئيسية في تثبيت أقدام الغزاة القادمين من المغرب.
إن الدعوة الفاطمية ساعدت على انتشار الأفكار الصوفية لأنها تخدم أهدافها وتتمشى مع سياستها، فازدهر التصوف في هذه الفترة ولم يستطع الحكام الأيوبيون أن يحاربوا الصوفية كما حاربوا الفاطمية، بل تظاهروا بأنهم منهم وتقربوا إليهم وكانوا في سبيل كسب عواطف الجماهير يتعمدون إظهار محبتهم لهم وتوقيرهم إياهم.
ظروف كتابة القصيدة:(1/123)
قالوا في سبب تسميتها: إن المؤلف كان قد أصيب بمرض عضال لم ينفع معه علاج، لكنه كان يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه في المنام ذات ليلة يغطيه ببردته الشريفة، ولما قام الرجل من نومه لم يجد مرضا ولا ألما، فحصلت له حالة من الانجداب والهيام في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنشأ فيه هذه القصيدة (البردة) وغيرها من القصائد التي لا تكاد تخرج عن مضمونها، قلت: كيف تصح هذه الرؤية والقصيدة مباينة لدعوة التوحيد التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهرت هذه القصيدة، وترجمت إلى عدة لغات، وصار الناس يتعبدون بتلاوتها في الموالد والمناسبات، وفي تشييع الجنائز، وشغلوا بها حتى عن تلاوة القرآن الكريم.
" تنبيه:
مولاي صل وسلم دائما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهم
هذا البيت ينبغي قراءته بعد كل بيت من أبيات هذه القصيدة الشريفة، وذلك لما يروى أن الإمام الفرنوي كان يقرؤها كل ليلة ليرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فلم تيسر الرؤيا، فشكا ذلك إلى شيخ كامل فقال له: إن لها شرطا وهو أن تصلي بالصلاة التي كان يصلي بها الإمام البوصيري رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله:
مولاي صل وسلم دائما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهم
عقب كل بيت من أبيات القصيدة، وإن شق ذلك على القارئ، فيكفي بترديده بعد كل فصل من فصولها، وحكمة اختيار هذا أن الإمام البوصيري رضي الله عنه أنشد هذه القصيدة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في منامه حتى أتى إلى قوله: "فمبلغ العلم فيه أنه بشر" ولم يستطع تكميل البيت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ، فقال رضي الله عنه: إني لم أوفق للمصراع الثاني، فقال له عليه الصلاة والسلام قل: "وإنه خير خلق الله كلهم".(1/124)
ويسرد قصة في سبب وضع هذا البيت من الشعر، أن الإمام البوصيري أنشد القصيدة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في منامه حتى بلغ قوله: "فمبلغ العلم فيه أنه بشر" ثم توقف فقال له الرسول اقرأ، قال البوصيري: إني لم أوفق للشطر الثاني، قال له رسول الله قل: "وأنه خير خلق الله كلهم"، فالاعتراض على هذا يأتي من عدة وجوه:
الأول: فهمنا لقول الله تعالى: * { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (70)(1)، والرسول صلى الله عليه وسلم من بني آدم، ومن نقل الآية َOكg"uZù=زsù { عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا } .
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(2)ولم يقل أنا سيد العالمين، وكان ذلك في موقف يحتاج للاستعلاء بالدين الذي ختمت به الرسالات، لكنه في أكثر من موضع قبل ذلك وبعده كره أن نفضله على الأنبياء والمرسلين وأكد الأخوة ووحدة الهدف تمشيا مع نصوص القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: لَا { نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ } مِنْهُمْ(3)، وقوله تعالى: وَلَمْ { يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } .(4)
__________
(1) الإسراء الآية (70).
(2) أخرجه أحمد (3/2)، الترمذي (5/288-289/3148) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجة (2/1440-1441/4308) من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره.
(3) البقرة الآية (136).
(4) النساء الآية (152).(1/125)
الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مدحه في مواضع كثيرة من أحاديثه الصحيحة، فمن ذلك قوله عن أنس قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك إبراهيم" رواه مسلم.(1)وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله"(2)رواه البخاري ومسلم.
أما قوله: (لما يروى) ففيه دلالة على ضعف السند بسبب البناء للمجهول، فمن الذي روى؟
وقال الناشر: إن الشيخ الفرنوي كان يقرأ القصيدة ليرى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على ضعف إدراك الشيخ الفرنوي، فرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لا توضع في ميزان الأعمال، وإن كثيرا من الذين رأوه في حياته ماتوا كفارا ومنهم بعض أقربائه، ثم إن الرسول لا يتوصل لرؤيته في المنام بتلاوة قصائد الشعر وقد أمرنا الله بالصلاة عليه لا بمدحه ولا بتلاوة الأشعار بين يديه، عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"(3)رواه مسلم.
وقال الناشر أيضا: "وقد أنشدها البوصيري بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في منامه".
ما الدليل على صحة هذا الكلام؟ وهل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل في قبره الشعراء ويستمع إلى قصائد المديح؟
__________
(1) رواه أحمد (3/178)، مسلم (4/1839/2369)، أبو داود (5/54/4672)، الترمذي (5/415-416/3352) والنسائي في الكبرى (6/520/11692).
(2) أخرجه أحمد (1/23 و24) والبخاري (6/591/3445) والترمذي في الشمائل (284 المختصر) وعزوه لمسلم وهم.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (339)، مسلم (4/2297/3002)، الترمذي (4/518/2393)، أبو داود (5/153-154/4804) وابن ماجة (2/1232/3742).(1/126)
قال: ثم إن الرسول أكمل له شطر البيت بقوله عن نفسه: "وأنه خير خلق الله كلهم"، وواضح أن هذا افتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: وَمَا { عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } .(1)فلا هو بشاعر ولا بكاهن ولم يقل شعرا في حياته قط فضلا عن أن يقوله بعد أن انتقل إلى جوار ربه عز وجل.
والآن ندخل إلى أبيات القصيدة، إنها تبدأ بالبيت المعروف:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم؟
وهذا من أعذب الشعر ومن أكذبه أيضا، لأنه يزعم أن مجرد تذكره لهؤلاء الجيران جعل دموعه تنزل مختلطة بالدماء، وليته فعل ذلك على المجازر التي حصلت في أيامه من عدوان الكافرين على حرمات المسلمين، أو من المجاعة التي حصلت للناس في إبان حياته.
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم وأومض البرق في الظلماء من إضم وما لقلبك إن قلت: استفق يهم ما بين منسجم منه ومضطرم ولا أرقت لذكر البان والعلم به عليك عدول الدمع والسقم مثل البهار على خديك والعنم والحب يعترض اللذات بالألم مني إليك ولو أنصفت لم تلم عن الوشاة ولا دائي لمنحسم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... إن المحب عن العذال في صمم والشيب أبعد في نصح عن التهم
فما لعينيك إن قلت: اكففاهمتا أيحسب الصب أن الحب منكتم لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت وأثبت الوجد خطى عبرة وضنى نعم سرى طيف من أهوى فأرقني ... من جهلها بنذير الشيب والهرم ضيف ألم برأسي غير محتشم كتمت سرا بدا لي منه بالكتم كما يرد جماح الخيل باللجم إن الطعام يقوي شهوة النهم حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
__________
(1) سورة يس آية (69).(1/127)
يا لائمي في الهوى العذري معذرة ... إن الهوى ما تولى يصم أو يصم وإن هي استحلت المرعى فلا تسم من حيث لم يدر أن السم في الدسم فرب مخمصة شر من التخم من المحارم والزم حمية الندم وإن هما محضاك النصح فاتهم فأنت تعرف كيد الخصم والحكم لقد نسبت به نسلا لذى عقم وما استقمت فما قولي لك استقم ولم أصل سوى فرض ولم أصم أن اشتكت قدماه الضر من ورم تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
عدتك حالي لا سرى لمستتر ... عن نفسه فأراها أيما شمم إن الضرورة لا تعدو على ا لعصم لولاه لم تخرج الدنيا من العدم ـن والفريقين من عرب ومن عجم أبر في قول لا منه ولا نعم لكل هول من الأهوال مقتحم مستمسكون بحبل غير منفصم خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم
محضتني النصح لكن لست أسمعه ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم
إني اتهمت نصيح الشيب في عذل ... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت ... ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم
ولا أعدت من الفعل الجميل قرى ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى قدره ما شئت من عظم حد فيعرب عنه ناطق بفم أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم حرصا علينا فلم نرتاب ولم نهم للقرب والبعد فيه غير منفحم صغيرة وتكل الطرف من أمم قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
لو كنت أعلم أني ما أوقره ... وأنه خير خلق الله كلهم فإنما اتصلت من نوره بهم يظهرن أنوارها للناس في الظلم بالحسن مشتمل بالبشر متسم
من لي برد جماح من غوايتها ... والبحر في كرم والدهر في همم في عسكر حين تلقاه وفي حشم من معدني منطق منه ومبتسم طوبى لمنتشق منه وملتثم(1/128)
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها ... يا طيب مبتدإ منه ومختتم قد أنذروا بحلول البؤس والنقم كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم عليه والنهر ساهي العين من سدم ورد واردها بالغيظ حين ظمى حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم والحق يظهر من معنى ومن كلم تسمع وبارقة الأنذار لم تشم بأن دينهم المعوج لم يقم منقضه وفق ما في الأرض من صنم من الشياطين يقفوا إثر منهزم أو عسكر بالحصى من راحتيه رمى
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... نبذ المسبح من أحشاء ملتق
فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... تمشي إليه على ساق بلا قدم فروعها من بديع الخط في اللقم
وراعها وهي في الأعمال سائمة ... تقيه حر وطيس للهجير حمى من قلبه نسبة مبرورة القسم وكل طرف من الكفار عنه عمى
كم حسنت لذة للمرء قاتلة واخش الدسائس من جوع ومن شبع ... وهم يقولون ما بالغار من أرم خير البرية لم تنسج ولم تحم
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت وخالف النفس والشيطان واعصهما ولا تطع منهما خصما ولا حكما أستغفر الله من قول بلا عمل ... من الدروع وعن عال من الأطم إلا ونلت جوارا منه لم يضم إلا استلمت الندى من خير مستلم قلبا إذا نامت العينان لم ينم فليس ينكر فيه حال محتلم ولا نبي على غيب بمتهم وأطلقت اربا من ربقة اللمم حتى حكت غرة في الأعصر الدهم سيبا من اليم أو سيلا من العرم ظهور نار القرى ليلا على علم وليس ينقص قدرا غير منتظم ما فيه من كرم الأخلاق والشيم
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ولا تزودت قبل الموت نافلة ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... قديمة صفة الموصوف بالقدم
وشد من سغب أحشاءه وطوى ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم من النبيين إذ جاءت ولم تدم(1/129)
وراودته الجبال الشم من ذهب وأكدت زهده فيها ضرورته وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من محمد سيد الكونين والثقليـ نبينا الآمر الناهي فلا أحد هو الحبيب الذي ترجى شفاعته دعا إلى الله فالمستمسكون به فاق النبيين في خلق وفي ... لذى شقاق وما تبغين من حكم أعدى الأعادي إليها ملقى السلم رد الغيور يد الجاني عن الحرم
وكلهم من رسول الله ملتمس ... وفوق جوهره في الحسن والقيم ولا تسام على الأكثار بالسأم
وواقفون لديه عند حدهم فهو الذي تم معناه وصورته منزه عن شريك في محاسنه دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف فإن فضل رسول الله ليس له لو ناسبت قدره آياته عظما لم يمتحنا بما تعيا العقول به أعيا الورى فهم معناه فليس يرى كالشمس تظهر للعينين من بعد ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... أطفأت حر لظى من وردها الشبم من العصاة وقد جاؤوه كالحمم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنه شمس فضل هم كواكبها ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم وينكر الفم طعم الماء من سقم سعيا وفوق متون الأينق الرسم ومن هو النعمة العظمة لمغتنم
أكرم بخلق نبي زانه خلق كالزهر في ترف والبدر في شرف ... كما سرى البدر في داج من الظلم من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم والرسل تقديم مخدوم على خدم في موكب كنت فيه صاحب العلم
كأنه وهو فرد من جلالته كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... من الدنو ولا مرقى لمستنم نوديت بالرفع مثل المفرد العلم عن العيون وسر أي مكتتم وجزت كل مقام غير مزدحم وعز إدراك ما أوليت من نعم(1/130)
أبان مولده عن طيب عنصره يوم تفرس فيه الفرس أنهم وبات إيوان كسرى وهو منصدع والنار خامدة الأنفاس من أسف وساء ساوة أن غاضت بحيرتها كأن بالنار ما بالماء من بلل والجن تهتف والأنوار ساطعة عموا وصموا فإعلان البشائر لم من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم وبعد ما عينوا في الأفق من شهب حتى غدا عن طريق الوحي منهزم كأنهم هربا أبطال أبرهة ... من العناية ركنا غير منهدم بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
نبذا بعد تسبيح ببطنهما ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم أشلاء شالت مع العقبان والرخم ما لم تكن من ليالي الأشهر الحرم بكل قرم إلى لحم العدا قرم يرمي بموج من الأبطال ملتطم يسطو بمستأصل للكفر مصطلم
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة كأنما سطرت سطرا لما كتبت مثل الغمامة أنى سار سائرة أقسمت بالقمر المنشق إن له وما حوى الغار من خير ومن كرم فالصدق في الغار والصديق لم يرما ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... من بعد غربتها موصولة الرحم وخير بعل فلم تيتم ولم تئم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... ماذا رأى منهم في كل مصطدم
ولا التمست غنى الدارين من يده لا تنكر الوحي من رؤياه إن له ... فصول حتف لهم أدهى من الوخم من العدا كل مسود من اللمم أقلامهم حرف جسم غير منعجم والورد يمتاز بالسيما من السلم
وذاك حين بلوغ من نبوءته تبارك الله ما وحى بمكتسب كم أبرأت وصبا باللمس راحته وأحيت السنة الشهباء دعوته بعارض جاد أوخلت البطاح بها دعني ووصفي آيات له ظهرت فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ... فتحسب الزهر في الأكمام كل كمى من شدة الحزم لا من شدة الحزم فما تفرق بين البهم والبهم
فما تطاول آمال المديح إلى ... إن تلقه الأسد في آجامها تجم به ولا من عدو غير منفصم كالليث حل مع الأشبال في أجم وكم خصم البرهان من خصم(1/131)
آيات حق من الرحمن محدثة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم كأنني بهما هدي من النعم حصلت إلا على الآثام والندم لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم يبن له الغبن في بيع وفي سلم من النبي ولا حبلى بمنصرم محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم فضلا وإلا فقل يا زلة القدم ويرجع الجار منه غير محترم وجدته لخلاصي خير ملتزم إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا دامت لدينا ففاقت كل معجزة محكمات فما تبقين من شبه ما حوربت قط إلى عاد من حرب ردت بلاغتها دعوا معارضها لها معان كموج البحر في مدد فما تعد ولا تحصى عجائبها ... يدا زهير بما أثنى على هرم سواك عند حلول الحادث العمم إذا الكريم تحلى باسم منتقم ومن علومك علم اللوح والقلم إن الكبائر في الغفران كاللمم تأتي على حسب العصيان في القسم لديك واجعل حسابي غير منخرم صبرا متى تدعه الأهوال ينهزم
قرت بها عين قاريها فقلت له إن تتلها خيفة من حر نار لظى كأنها الحوض تبيض الوجوه به وكالصراط وكالميزان معدلة لا تعجبن لحسود راح ينكرها قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد يا خير من يمم العافون ساحته ومن هو الآية الكبرى لمعتبر سريت من حرم ليلا إلى حرم وبت ترقى إلى أن نلت منزلة وقدمتك جميع الأنبياء بها وأنت تخترق السبع الطباق بهم ... على النبي بمنهل ومنسجم واطرب العيس حادي العيس بالنغم وعن علي وعن عثمان ذي الكرم أهل التقى والنقا والحلم والكرم واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم يتلون في المسجد الأقصى وفي الحرم واسمه قسم من أعظم القسم والحمد لله في بدء وفي ختم فرج بها كربنا يا واسع الكرم
حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق
خفضت كل مقام بالإضافة إذ كيما تفوز بوصل أي مستتر فحزت كل فخار غير مشترك وجل مقدار ما وليت من رتب
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا لما دعا الله داعينا لطاعته راعت قلوب العدا أنباء بعثته(1/132)
ما زال يلقاهم في كل معترك ودوا الفرار فكادوا يغبطون به تمضي الليالي ولا يدرون عدتها كأنما الدين ضيف حل ساحتهم يجر بحر خميس فوق سابحة من كل منتدب لله محتسب حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم مكفولة أبدا منهم بخير أب هم الجبال فسل عنهم مصادمهم وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا المصدري البيض حمرا بعد ما وردت والكاتبين بسمر الخط ما تركت شاكى السلاح لهم سيما تميزهم
تهدي إليك رياح النصر نشرهم
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربا طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا ومن تكن برسول اله نصرته ولن ترى من ولي غير منتصر أحل أمته في حرز ملته كم جدلت كلمات الله من جدل فيه
كفاك بالعلم في الأمي معجزة خدمته بمديح أستقيل به إذ قلداني ما تخشى عواقبه أطعت غي الصبا في الحالتين وما فيا خسارة نفس في تجارتها ومن يبع أجلا منه بعاجله إن آت ذنبأ فما عهدي بمنتقض فإن لي ذمة منه بتسميتي إن لم يكن في معادي آخذا بيدي حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ومنذ ألزمت أفكاري مدائحه ولن يفوت الغنى منه يدا تربت
ولم أرد زهرة الدنيا التي اقتطفت يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ولن يضيق رسول الله جاهك بي فإن من جودك الدنيا وضرتها يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت لعل رحمة ربي حين يقسمها يا رب واجعل رجائي غير منعكس والطف بعبدك في الدارين إن له
وأذن لسحب صلاة منك دائمة ما رنحت عذبات البان ريح صبا ثم الرضا عن أبي بكر وعن عمر والآل والصحب ثم التابعين فهم يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا واغفر إلهي لكل المسلمين بما بجاه من بيته في طيبة حرم وهذه بردة المختار قد ختمت أبياتها قد أتت ستين مع مائة
نماذج من الضلالات والشركيات في قصيدة البردة:
قال الشاعر:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم والفريقين من عرب ومن عجم
محمد سيد الكونين والثقلين(1/133)
أقول: ما هذا الكلام، فهل الدنيا خلقت من أجل النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن خلقها الله وإلى أن تقوم الساعة، فالدنيا خلقت وخلق فيها الخلق من أجل عبادة الله وحده، قال الله تعالى: وَمَا { خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) }(1)والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد عباده المخلصين، فلو سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيت من البوصيري لاستتابه، فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في أقل من هذا الغضب والإنكار حيث تنتهك حرمة التوحيد والعقيدة، كما في المسند وغيره في الرجل الذي قال له: ما شاء الله وشئت، فقال له: "أجعلتني لله ندا؟ لا بل ما شاء الله وحده"(2)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي سمعه يخطب فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت"(3)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره لما سمع، وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: "دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين"(4)وصح عنه أنه قال للذين بالغوا في مدحه: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان".(5)
ولم يرض صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام بالشرك به أو بغيره مع الله تعالى، فكيف لو سمع مثل هذا الكلام؟ وقوله:
__________
(1) الذاريات الآية (56).
(2) رواه أحمد (1/214) والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وابن ماجة (1/684/2117) والنسائي في عمل اليوم الليلة (988) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) رواه أحمد (4/256)، مسلم (2/594/870)، أبو داود (1/660/1099) والنسائي (6/398-400/3279) من حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه.
(4) تقدم تخريجه (ص.140).
(5) رواه أحمد (4/24-25)، أبو داود (5/154-155/4806)، البخاري في الأدب المفرد رقم (211) والنسائي في الكبرى (6/70/10075 و10076) من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه.(1/134)
لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
أقول: ما هذا الكلام؟ فمتى كان تقبيل التراب واستنشاقه من القربات، فهذا الفعل هو عمل المشركين الذين يعظمون الأحجار والأشجار ويعتقدون نفعها وضرها، وكيف وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يقول في الحجر الأسود: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك،(1)فعمر رضي الله عنه يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفعل ويعلم أن تقبيل الأحجار والأشجار والتراب هو من فعل المشركين الذين يعتقدون فيها نفعا أو ضرا، فهذا من البوصيري الغلو المنهي عنه فمتى كان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقبيل التراب واستنشاقه، فلو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك لاستتابه. قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
أقول: وأين ذهب رب العالمين؟ ومتى كان النبي صلى الله عليه وسلم محل لياذة في غيابه، فلو قال البوصيري:
يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
لكان مصيبا ومحقا، ولكن غلوه أوقعه في الشرك الصريح، فإذا لم يكن هذا شركا، فما في الدنيا شرك أبدا، فهذا الكلام لا يجوز أن يقال إلا في خالق الخلق، أما مخلوقون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصفهم بهذا الوصف شرك لا مرية فيه.
قال البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
__________
(1) رواه أحمد (1/16 و26)، البخاري (3/589/1597)، مسلم (2/925/1270)، أبو داود (2/438-439/1873)، الترمذي (3/214-215/860)، النسائي (5/250/2937) وابن ماجة (2/981/2943).(1/135)
أقول: وماذا أبقى البوصيري لخالق الخلق إذا كانت الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله عليه وسلم، ومن علومه علم اللوح والقلم. فالذين قتلهم علي رضي الله عنه كما في البخاري على ما ادعوه فيه(1)لم يصل إلى هذا الذي ادعاه البوصيري للنبي صلى الله عليه وسلم فقاتل الله المؤولين والمعتذرين عن هؤلاء المشركين الذين نشروا الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ قرون باسم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وهي لعمر الله بغض له، ونقض لدعوته من أولها إلى آخرها وباقي الأبيات التي فيها من الشرك والغلو ما هو واضح لكل ذي عقيدة سليمة، وقصائد البوصيري وأشباهه كلها من هذا الوادي، فقصيدة الهمزية المشهورة فيها من البلايا والعظائم ما تنبو عنه الأسماع، وتتقطع له الأكباد، وقصائد الصوفية في جميع العصور معظمها من هذا الباب، ومن هنا يعلم أن الصوفية كان لهم الحظ الأوفر في نشر الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم علما وعملا وإنشادا وتأليفا، وما يزالون حتى الآن يتغنون بالشرك وينشرونه بكل وسائلهم، نرجوا الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم.
__________
(1) رواه أحمد (1/217)، البخاري (6/184/3017)، أبو داود (4/520/4351)، الترمذي (4/48/1458)، النسائي (7/120/4071)، ابن ماجة (2/848/2535) بلفظ: "أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس..." الحديث.(1/136)
واقرأ القصيدة بنفسك تجد محل الخطر والانحراف والغلو فوقه سطر، فإن الكلام على كل أخطاء البردة يستغرق صفحات كثيرة، ويهمنا أن نبين للقراء خطر السماع الذي ذكره الغزالي وفضله على القرآن ،فهو خطر عقدي كبير إذا لم ينتبه المسلمون له، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فليعلم أن قضية السماع عند الصوفية أمر قديم وقد ذكره القشيري في رسالته، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ردا صحيحا، وسأنقل في بحثي هذا بعض رد الشيخ على هذا الباطل على طريق الاختصار، ومن أراد الاستيفاء رجع إلى كتاب الاستقامة فإن فيها الرد الوافي، كما ننقل أيضا بعض كلام تلميذه العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان، فقد أفادا وأجادا، ولهذا الأخير أيضا كتاب كبير رد فيه هذا السماع الباطل، وفند حجة المخرفين وأدلتهم المزعومة.
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه عن صفة سماع الصالحين، ما هو وهل سماع القصائد الملحنة بالآلات المطربة هو من القرب والطاعات أم هو محرم أو مباح.(1/137)
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل هذه المسألة أن يفرق بين السماع الذي ينتفع به في الدين وبين ما يرخص فيه رفعا للحرج وبين سماع المتقربين وسماع المتلعبين، فأما السماع الذي شرعه الله لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم، فهو سماع آيات الله وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم وأهل المعرفة، فإن الله تعالى لما ذكر من ذكره من الأنبياء عليهم السلام في قوله: أُولَئِكَ { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ں@ƒدنآuژَ خ)ur وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) (58) }(1)وقوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) }(2)وقوله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (109) }(3)وقوله تعالى: وَإِذَا { سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ }(4)،
__________
(1) مريم الآية (58).
(2) الأنفال الآية (2).
(3) الإسراء الآيات (107-109).
(4) المائدة الآية (83)..(1/138)
وبهذا السماع أمر الله تعالى في قوله: وَإِذَا { قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }(1)، وعلى أهله أثنى تعالى كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْ { عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }(2)وقال تعالى في الأخرى: أَفَلَا { يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) }(3)، فالقول الذي أمروا بتدبره هو الذي أمروا بسماعه وقال تعالى: كِتَابٌ { أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ }(4)وكما أثنى تعالى على هذا السماع ذم تعالى المعرضين عن هذا السماع فقال تعالى: وَإِذَا { تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا }(5)وقال تعالى: وَقَالَ { الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) }(6)وقال تعالى: وَقَالَ { الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) }(7)وقال تعالى: فَمَا { لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) }(8)وقال تعالى: وَقَالُوا { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }(9)
__________
(1) الأعراف الآية (204).
(2) الزمر الآيتان (17و18).
(3) محمد الآية (24).
(4) ص الآية (29).
(5) لقمان الآية (7).
(6) فصلت الآية (26).
(7) الفرقان الآية (30).
(8) المدثر الآيات (49-51).
(9) فصلت الآية (5)..(1/139)
وقال تعالى: وَإِذَا { قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا } .(1)
وهذا هو السماع الذي شرعه الله للمسلمين في صلواتهم وخطبهم كصلاة الفجر وصلاة العشاءين وفي غير ذلك وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقي يستمعون وكان عمر يقول لأبي موسى، ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون.(2)
__________
(1) الإسراء الآيتان (45-46).
(2) رواه الدارمي في سننه (2/472) وابن سعد (4/109) والبيهقي (10/231) وابن حبان (16/169)(1/140)
وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ويستدعيه منهم كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اقرأ علي، قال: قلت اقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ { إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) }(1)، قال: حسبك فإذا عيناه تدرفان.(2)وهذا هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعه وأصحابه كما قال تعالى: لَقَدْ { مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }(3)، والحكمة هي السنة، وقال تعالى: إِنَّمَا { أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) }(4)وكذلك غيره من الرسل صلوات الله عليهم قال تعالى: يَا بَنِي { آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) }(5)،
__________
(1) النساء الآية (41).
(2) رواه أحمد (1/380)، البخاري (9/115/5050)، مسلم (1/551/800)، أبو داود (4/74/3668)، الترمذي (5/222/3025) والنسائي (6/323/11105).
(3) آل عمران الآية (164).
(4) النمل الآيتان (91-92).
(5) الأعراف الآية (35)..(1/141)
وكذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال تعالى: يَا مَعْشَرَ { الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } الآية(1). وقال تعالى: وَسِيقَ { الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى } الآية(2). وقد أخبر الله تعالى أن المعتصم بهذا السماع مهتد مفلح، والمعرض ضال شقي، قال الله تعالى: فَإِمَّا { يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } الآية(3)، وقال تعالى: وَمَنْ { يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) }(4)، وذكر الله يراد به تارة ذكر العبد ربه، ويراد به الذكر الذي أنزله الله كما قال تعالى: وَهَذَا { ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ }(5)، وقال تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ { أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ }(6)وقال: يَا أَيُّهَا { الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) }(7)،
__________
(1) الأنعام الآية (130).
(2) الزمر الآية (71).
(3) طه الآيات (123-125).
(4) الزخرف الآية (36).
(5) الأنبياء الآية (50).
(6) الأعراف الآية (63).
(7) الحجر الآية (6)..(1/142)
وقال تعالى: مَا { يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) }(1)وقال تعالى: وَإِنَّهُ { لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ }(2)وقال تعالى: إِنْ { هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) }(3)وقال تعالى: وَمَا { عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) }(4)وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الزكية ما يطول شرحها ووصفها وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد، وهذا مذكور في القرآن وهذه الصفات موجودة في الصحابة ووجدت بعدهم آثار ثلاثة من الاضطراب: الصراخ والإغماء والموت في التابعين.
وبالجملة، فهذا السماع هو أصل الإيمان فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين ليبلغهم رسالات ربهم، فمن سمع ما بلغه الرسول فآمن به واتبعه اهتدى وأفلح ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي. وأما سماع المكاء والتصدية، فالتصدية هي التصفيق بالأيدي والمكاء مثل الصفير ونحوه، فهذا سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً }(5)فأخبر الله تعالى عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد والتصويت بالفم قربة ودينا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه قط، ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم حضر ذلك، فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسننه، والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي في مسألة السماع في صفة التصوف، ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي صاحب عوارف المعارف أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي:
__________
(1) الأنبياء الآية (2).
(2) الزخرف الآية (44).
(3) ص الآية (87).
(4) يس الآية (69).
(5) الأنفال الآية (35).(1/143)
قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه فقال معاوية: ما أحسن لهوكم، فقال مهلا يا معاوية ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب. هو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن،(1)
__________
(1) انظر الضعيفة رقم 558..(1/144)
وأظهر منه كذبا حديث آخر يذكرون فيه أنه لما بشر الفقراء بسبقهم للأغنياء إلى الجنة تواجدوا وخرقوا أثوابهم، وإن جبريل نزل من السماء فقال: يا محمد إن ربك يطلب نصيبه من هذه الخروق، فأخذ منه خرقة فعلقها بالعرش وأن ذلك هو زبق الفقراء، وهذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم بمعرفة الإيمان والإسلام وهو شبيه برواية من روى أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار لما انكسر المسلمون يوم حنين أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا نحن مع الله من كان معه كنا معه، ومن روى أن صبيحة المعراج وجد أهل الصفة يتحدثون بشيء كان الله أمر نبيه أن يكتمه فقال لهم من أين لكم هذا، فقالوا الله علمنا إياه، فقال يا رب ألم تأمرني أن لا أفشيه، فقال أمرتك أنت أن لا تفشيه ولكن أنا أعلمتهم به، ونحو هذه الأحاديث التي يرويها طوائف منتسبون إلى الدين مع فرط جهلهم بدين الإسلام، ويبنون عليها من النفاق والبدع ما يناسبها تارة يسقطون التوسط بالرسول وأنهم يصلون إلى الله من غير طريق الرسول مطلقا وهذا أعظم من كفر اليهود والنصارى، فإن أولئك أسقطوا وساطة رسول واحد ولم يسقطوا وساطة الرسل مطلقا، وهؤلاء إذا أسقطوا وساطة الرسل مطلقا عن أنفسهم كان هذا أغلظ من كفر أولئك لكنهم يقولون لا تسقط الوساطة إلا عن الخاصة لا عن العامة فيكونون أكفر من أهل الكتاب من جهة إسقاط السفارة مطلقا عنهم وفي بعض الأحوال وأهل الكتاب أكفر من جهة إسقاط السفارة مطلقا بل أهل الكتاب الذين يقولون إنه رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب خير من هؤلاء، فإن أولئك أخرجوا عن رسالته من له كتاب وهؤلاء يخرجون عن رسالته من لا يبقى معه إلا خيالات ووساوس وظنون ألقاها إليه الشيطان مع ظنه أنه من خواص أولياء الله وهو من أشد أعداء الله وتارة يجعلون هذه الآثار المختلقة حجة فيما يفترونه من أمور تخالف دين الإسلام ويدعون أنها من أسرار الخواص كما(1/145)
يفعله الملاحدة والقرامطة والباطنية وتارة يجعلونه حجة في الإعراض عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ابتدعوه من اتخاذ دينهم لهوا ولعبا. وبالجملة قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالأكف أو ضرب بالقضيب أو الدف،كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره، لا لعامي ولا لخاص، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح(1)، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال"(2)ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء،(3)
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.140) من حديث الربيع بنت معوذ.
(2) رواه أحمد (2/241)، البخاري (3/99/1203)، مسلم (1/318/422)، أبو داود (1/578/939)، الترمذي (2/205/369)، النسائي (3/16/1208) وابن ماجة (1/329/1034) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الباب عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد (1/339)، البخاري (11/408/5885)، أبو داود (4/354-355/4097)، الترمذي (5/98/2784)، النسائي في الكبرى (5/396/9251) وابن ماجة (1/614/1904) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما..(1/146)
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبو بكر في أيام العيد وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنه مقبلا بوجهه إلى الحائط فقال: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام"(1)ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه ولهذا سماه الصديق أبو بكر رضي الله عنه مزمور الشيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد كما جاء في الحديث ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة(2)،
__________
(1) رواه أحمد (6/33)، البخاري (2/559/949)، مسلم (2/607-608/892)، النسائي (3/216/1592) وابن ماجة (1/612/1898) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) رواه أحمد (6/116، 233) والحميدي (1/123-124/254) من حديث عائشة رضي الله عنها وأصله متفق عليه. وانظر الصحيحة (1829)..(1/147)
وكما كان لعائشة لعب تلعب بهن وتجيء صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها(1)، وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لأنها يحصل منها بغير الاختيار كذلك في اشتمام الطيب، إنما ينهى المحرم عن قصد الشم فأما إذا شم ما لا يقصده فإنه لا إثم عليه، وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي في ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي، وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن حديث ابن عمر أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت زمارة راع، فعدل عن الطريق وقال:هل تسمع حتى انقطع الصوت،(2)فإن من الناس من يقول بتقدير صحة الحديث لم يأمر ابن عمر بسد أذنه فيجاب بأن ابن عمر لم يكن يستمع وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم عدل طلبا للأكمل والأفضل كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم، فسد أذنه كيلا يسمعه فهذا حسن ولو لم يسد أذنه لم يأثم بذلك اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرب ديني لا يندفع إلا بالسد.
__________
(1) رواه أحمد (6/166)، البخاري (10/645/6130)، مسلم (4/1890-1891/2440)، أبو داود (5/226/4931)، ابن ماجة (1/637-638/1982) والنسائي مختصرا (6/441/3378) بلفظ: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ... "
(2) رواه أحمد (2/8و38) وأبو داود (5/222/4924) وصححه ابن حبان (2/468/693) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(1/148)
وبالجملة فهذه مسألة السماع تكلم فيها كثير من المتأخرين في السماع هل هو محظور أو مكروه أو مباح وليس المقصود بذلك رفع الحرج بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الربابات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب والتخويف من الهروب والتحزين على فوات المطلوب يستنزل به الرحمة، ويستجلب به النعمة، ويحرك به مواجيد أهل الإيمان، ويستجلي به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، وحتى يجعلونه قوتا للقلوب وغذاء للأرواح وحاديا للنفوس يحدوها على المسير إلى الله عز وجل، ويحثها على الإقبال عليه، ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحب القرآن ولا يفرح به ولا يحدى في سماع الآيات،كما يحدى في سماع الأبيات بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذا سمعوا سماع أهل المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المشروب، فمن تكلم في هذا هل هو مكروه أو مباح وشبهه بما كان النساء يغنين به في الأعياد والأفراح لم يكن قد اهتدى إلى الفرق بين طريق أهل الخسارة والفلاح، ومن لم يتكلم في هذا هل هو من الدين، ومن سماع المتقين، ومن أحوال المقربين والمقتصدين ومن أعمال أهل اليقين ومن طريق المحبين المحبوبين ومن أفعال السالكين إلى رب العالمين كان كلامه فيه من وراء وراء بمنزلة من سئل عن علم الكلام المختلف فيه، هل هو محمود أو مذموم، فأخذ يتكلم في جنس الكلام وانقسامه إلى الاسم والفعل والحرف، أو يتكلم في مدح الصمت أو في أن الله أباح الكلام والنطق وأمثال ذلك مما لا يمس المحل المشتبه المتنازع فيه، وإذا عرف هذا فاعلم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا بمصر والمغرب والعراق وخراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما حدث هذا بعد(1/149)
ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه. فقال الشافعي: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد ابن هارون: ما يغبر إلا فاسق ومتى كان التغبير. وسئل عنه أحمد فقال: أكرهه هو محدث، قيل: أتجلس معهم، قال: لا. وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل ابن عياض ولا معروف الكرخي ولا أبو سليمان الداراني ولا أحمد بن أبي الحواري ولا السري السقطي وأمثالهم والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ. وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة من كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدع إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم، كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في مسألة السماع عن ابن الراوندي أنه قال: اختلف الفقهاء في السماع فأباحه قوم وكرهه قوم، وأنا أوجبه أو قال آمر به فخالف إجماع العلماء في الأمر به. وأبو نصر الفارابي كان بارعا في الغناء الذي يسمونه الموسيقا، وله فيه طريقة معروفة عند أهل صناعة الغناء وحكايته مع ابن حمدان مشهورة، لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج، وابن سينا ذكر في إشاراته في مقامات العارفين من الترغيب فيه وفي عشق الصور ما يناسب طريقة أسلافه الصابئين المشركين الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام كأرسطو وشيعته من اليونان ومن اتبعه كبرقلس وثامسطيوس والإسكندر الإفروديسي، وكان أرسطو وزير الاسكندر بن فيلفوس المقدوني الذي تؤرخ له اليهود والنصارى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة.(1/150)
وأما ذو القرنين المذكور في القرآن الذي بنى السد فكان قبل هؤلاء بزمان طويل، وأما الاسكندر الذي وزر له أرسطو فإنه إنما بلغ بلاد خراسان ونحوها في دولة الفرس لم يصل إلى السد وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وابن سينا أحدث فلسفة ركبها من كلام سلفه اليوناني، ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية ونحوهم، وسلك طريق الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية ومزجه بشيء من كلام الصوفية وحقيقته تعود إلى كلام إخوانه الإسماعيلية القرامطة الباطنية، فإن أهل بيته كانوا من أتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمانه ودينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى، وكان الفارابي قد حذق في حروف اليونان التي هي تعاليم أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المشائين وفي أصولهم صناعة الغناء، ففي هذه الطوائف من يرغب لله ويجعله مما تزكوا به النفوس وترتاض به وتهذب به الأخلاق.(1/151)
وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل الذي جعله الله للناس إماما وأهل دين الإسلام، لا يقبل الله من أحد دينا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، فهؤلاء ليس منهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن والإيمان والهدى والرشاد والسعد والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والإخلاص لله والحب له والتوكل عليه والخشية منه والإنابة إليه، ولكن قد حضره أقوام من أهل الإرادة وممن له نصيب في المحبة لما فيه من التحريك لهم ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته كما أدخل قوم من الفقهاء أهل الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنا منهم أنه حق موافق، ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علما وقولا وعملا وذوقا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وقد قال تعالى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }(1)وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }(2)، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: "هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } .(3)
[
__________
(1) المائدة الآية (3).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) تقدم تخريجه (ص.63).(1/152)
وقد قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ { الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }(1)فقد رضي الله عن السابقين رضى مطلقا، ورضي عمن اتبعهم بإحسان. قال عبد الله بن مسعود: "إن الله نظر في قلب محمد فوجد قلبه خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح".(2)وقال عبد الله بن مسعود: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"(3)].(4)
__________
(1) التوبة الآية (100).
(2) رواه أحمد (1/379)، الطيالسي (246)، أبو نعيم في الحلية (1/375-376) والبزار (1/81/130 كشف الأستار) والطبراني (9/112/8582) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/422) والبغوي في شرح السنة (1/214-215/105) وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند.
(3) رواه ابن عبد البر في الجامع (2/947/1810) والهروي في ذم الكلام (ص.188) عن قتادة عن ابن مسعود رضي الله عنه ولم يسمع منه فهو منقطع.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط في الأصل وأضفناه من مجموع الفتاوى (11/573).(1/153)
ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضلال والمفسدة ما هو أعظم منه، فهو للروح كالخمر للجسد يفعل في النفوس أعظم ما تفعله حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله، أعني الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس بيد، بل بما يقترن بهم من الشياطين فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربيا لا يحسن أن يتكلم بذلك بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم، وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى وهذا يعرفه أهل المكاشفة شهودا وعيانا، وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط، فإن الشياطين تلبس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه حتى إن المصروع يضرب ضربا عظيما وهو لا يحس ولا يؤثر في بدنه، فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين فتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كالمصروع.(1/154)
وبالمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم: المصل يلبسه الشياطين ويدخلها ويطير في الهواء ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء وهم من الزط الذين لا خلاق لهم، والجن تخطف كثيرا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس وتطير به في الهواء، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه، وكذلك هؤلاء المتولهون المنتسبون إلى بعض الشيوخ، إذا حصل لهم وجد سماعي عند سماع المكاء والتصدية منهم من يصعد في الهواء، ومنهم من يدخل النار ويأخذ الحديد المحمى بالنار يضعه على بدنه وأنواع من هذا الجنس ولا تحصل لهم هذه الأفعال عند الصلاة ولا عند الذكر ولا عند قراءة القرآن لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية تطرد الشياطين وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين.
وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حدث به وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله فإن الله يقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية(1)، وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله لم يلتفت إليه، كما أن الفقيه إذا رأى قياسا لا يشهد له الكتاب والسنة لم يلتفت إليه.
وفصل النزاع في حكم مسألة السماع ثلاث قواعد من أهم قواعد الإيمان والسلوك، فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار.
__________
(1) المائدة الآية (3).(1/155)
القاعدة الأولى: إن الذوق والحال والوجد هل هو حاكم أو محكوم عليه بحاكم آخر أو متحاكم إليه، فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حيث جعلوه حاكما يتحاكمون إليه فيما هو صحيح فاسد فجعلوه حكما بين الحق والباطل، فنبذوا الكتاب والسنة ولم يحكموا العلم والنصوص، وحكموا الأذواق والحال والمواجيد فعظم الفساد وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم، والعجب أنهم دخلوا في الرياضات والمجاهدات والزهد ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها، فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ومن حظوظ إلى حظوظ أعظم منها، وكان حالهم في الشهوات التي انتقلوا عنها أكمل وخير من هؤلاء لأنهم لم يعارضوا بها العلم ولا قدموها على النصوص ولا جعلوها قربة ودينا واقفون مع حظوظهم من الله فانون بها عن مراد الله، وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه وتركوا شهوة بشهوة فليتدبر اللبيب هذا في نفسه وفي غيره، فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته ذوقا كان أو حالا أو وجدا أو صورة ونحو ذلك، فمن قدمه على مراده فهو أسوأ حالا ممن يعترف أنه يعصى ويحبه وإن مراد الله أولى بالتقديم منه، وأنه ذنب تجب التوبة منه.
القاعدة الثانية: أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال أو ذوق هل هو صحيح أو فاسد أو حق أو باطل، وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله من كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو الأساس، ومن لم يبن على هذا الأصل فعلمه وسلوكه ليس على شيء.(1/156)
القاعدة الثالثة: إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه لاسيما إذا كان طريقه مفضيا إلى ما يبغضه الله ورسوله فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يشوق النفس إلى المسكر الذي يشوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منها شوقا للنفوس إلى المحرم بكثير، فإن الغناء كما قال ابن مسعود هو رقية الزنا، وقد شاهد الناس أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب ولا شيخ إلا وقع في محذور.
وقال شيخ الإسلام بن تيمية فصل الخطاب في هذا الباب، ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك، والغناء اسم يطلق على أشياء منها غناء الحجيج فإنهم ينشدون أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام وغير ذلك، فسماع تلك الأشعار مباح وفي معنى هؤلاء الغزاة فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بها على الغزو، وفي هذا المعنى إنشاد المتبارزين للقتال وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لحاديه: "رويدك سوقا بالقوارير"(1)وقال عبد الله بن رواحة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وفينا رسول الله يتلو كتابه يبيت يجافي جنبه عن فراشه أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع به موقنات أن ما قال واقع(2)
__________
(1) رواه أحمد (3/227)، البخاري (10/675/6161)، مسلم (4/1811/2323) والنسائي في عمل اليوم والليلة (525) كلهم من حديث أنس.
(2) رواه أحمد (3/451) والبخاري (3/49-50/1155) من حديث أبي هريرة.(1/157)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ والباقي يستمعون، فجلس معهم.(1)
وقال الشيخ في موضع آخر: ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو هل هو حرام أو مكروه أو مباح، وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكرنا عن الشافعي قولين ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا وذكر زكريا بن يحيى الساجي وهو أحد الأئمة المتقدمين من المائلين إلى مذهب الشافعي أنه لم يخالف من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل المدينة وعبيد الله بن الحسن العنبري من أهل البصرة، وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري وغيرهما عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط وإنما وقعت به لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم.
وقال شيخ الإسلام أيضا: وجماع الأمر في ذلك أنه إذا كان الكلام في السماع وغيره هل هو طاعة وقربة، فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك، وإذا كان الكلام هل هو محرم أو غير محرم، فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك إذ لا الحرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله سبحانه وتعالى ذم المشركين على أنهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، وقال تعالى: أَمْ { لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }(2)، وقال تعالى: وَإِذَا { فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية.(3)
__________
(1) أحمد (3/63)، أبو داود (4/72-73/3666) وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف أبي داود. وأخرجه دون ذكر موضع الشاهد: الترمذي (4/498-499/2351) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجة (2/1381/4123) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) الشورى الآية (21).
(3) الأعراف الآية (28).(1/158)
قال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة، وقال أيضا: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع بأثر كان نورا على نور، وقال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا، وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، وقال: كل عمل على اقتداء فهو عذاب على النفس، وكل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس. وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة. وقال أبو الفرج بن الجوزي: اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكر في عظمة الله سبحانه والقيام بخدمته، والثاني أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا في المتجددات، ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل، فلذلك يحث على الزنا، فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح، والزنا أكبر لذات النفس.(1)
__________
(1) تلبيس إبليس (ص.274).(1/159)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع من كلامه في السماع: وأما أبو حنيفة ومالك والثوري ونحوهم، فهم أعظم كراهة وإنكارا لذلك من الشافعي وأحمد. وقال في موضع آخر: ولم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض ولا معروف الكرخي ولا السري السقطي ولا أبو سليمان الداراني ولا مثل الشيخ عبد القادر والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ حياة وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء مثل الشيخ عبد القادر وغيره النهي عنه، وكذلك أعيان المشايخ، وقد حضره من المشايخ جماعة وشرطوا المكان والإمكان والخلان والشيخ الذي يحرس من الشيطان وأكثر الذين حضروه من المشايخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم كالجنيد، فإنه كان يحضره وهو شاب وتركه في آخر عمره وكان يقول: من تكلف السماع فتن به، ومن صادف السماع استراح به، فقد ذم من يجتمع له ورخص فيمن يصادفه من غير قصد ولا اعتماد للجلوس له، وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل، فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب والوصل والهجر والقطيعة والشوق والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك هو قول مجمل يشترك فيه محب الرحمن ومحب الأوثان، ومحب الصلبان ومحب الإخوان ومحب الأوطان، ومحب النسوان ومحب الصبيان، فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن أثار الساكن وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله، لكن تكون فيه مضرة راجحة على نفعه كما في الخمر والميسر، فإن فيهما إثما كبيرا ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فلهذا لم تأت به الشريعة، فإن الشريعة لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة، وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار أو يسرق خمسة دراهم يتصدق منها بدرهمين وذلك أنه يهيج الوجد المشترك فيثير من النفس كوامن تضره آثارها ويغذي النفس ويفتنها به فتعتاض به عن سماع القرآن حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا يلتذ به ولا يستطيبه، بل قد يبقى في النفس بغض لذلك واستثقال به كمن يستثقل نفسه بتعلم(1/160)
التوراة والإنجيل وعلوم أهل الكتاب والصابئين واستفادة العلم والحكمة منها فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله إلى أشياء أخر يطول ذكرها.
فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك ويعطي ما لا يحبه الله ورسوله، بل ما يبغضه الله ورسوله لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشايخها.
الصوت يؤثر في النفس بحسب الأوقات: تارة فرحا وتارة حزنا وتارة غضبا وتارة رضى، وإذا قوي السكر بصوت اللذة المطربة من غير تمييز كما يحصل للنفس إذا سكرت بالصور والجسد إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يورث لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعة تلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل الذي صد عن ذكر الله وعن الصلاة وأورث العداوة والبغضاء.
وأما الرقص فلم يأمر الله عز وجل به ولا رسوله ولا أحد من الأئمة، بل قال الله تعالى: وَلَا { تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا }(1)والرقص شيء من هذا وقال تعالى: وَاقْصِدْ { فِي مَشْيِكَ }(2)وقال تعالى: وَعِبَادُ { الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا }(3)أي بسكينة ووقار.
__________
(1) الإسراء الآية (37).
(2) لقمان الآية (19).
(3) الفرقان الآية (63).(1/161)
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود بل الزفن والرقص في الطريق لم يأمر الله به ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا في الصلاة بالسكينة والوقار ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن الكريم ونحوه لسلم إليه ذلك كما تقدم، فأما الذي إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له فهو بمنزلة من شرب الخمر مع علمه أنها تسكره، وإذا قال ورد علي حال وأنا سكران، قيل له إذا كان السبب محظورا لم يكن صاحبه معذورا فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال من جنس خفر التتر وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضاهوا عبادة النصارى والمشركين ببعض ما لهم من الأحوال ومن كان كاذبا فهو منافق ضال.
" فصل:
وقد استدل قوم على إباحة السماع بأمور ألخصها لك: منها أنه مستلذ طيب تلتذ به النفوس وتستريح إليه، وإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب بل بعض الصغار لا ينام حتى تحدو له القائمة بأمره والإبل تقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليها بالحداء. ومنها أن الصوت الطيب نعمة من الله على صاحبه وزيادة في خلقه، قد يستدلون عليه بقوله تعالى: يَزِيدُ { فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ }(1)وبأن الله تعالى ذم الصوت الفظيع فقال: إِنَّ { أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) }(2)ومنها أن الله وصف أهل الجنة أنهم في روضة يحبرون، وأن ذلك هو السماع الطيب فكيف يكون حراما وهو في الجنة.
__________
(1) فاطر الآية (1).
(2) لقمان الآية (19).(1/162)
ومنها ما ثبت أن الله تعالى ما أذن لشيء كإذنه أي كاستماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن.(1)ومنها أن أبا موسى الأشعري استمع النبي صلى الله عليه وسلم لصوته وأثنى على حسن الصوت وقال: "لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود"(2)وقال له أبو موسى: لو أعلم أنك استمعت لحبرته لك تحبيرا(3)أي زينته وحسنته. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم"(4)، وقوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن(5)، والصحيح أنه من التغني وهو تحسين الصوت به، ويعضده ما فسره الإمام أحمد فقال: يحسن صوته ما استطاع. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد، وقال لأبي بكر: دعهما فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام.(6)ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أذن في العرس بالغناء وسماه لهوا.(7)
__________
(1) رواه أحمد (2/271)، البخاري (9/83/5023)، مسلم (1/545/792)، أبو داود (2/157/1473) والنسائي (2/522/1016) من حديث أبي هريرة.
(2) رواه البخاري (9/113/5048)، مسلم (1/546/793) والترمذي (5/650/3855) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) رواه ابن حبان (16/169-170/7197)، الحاكم (3/466) وصححه ووافقه الذهبي. والبيهقي (10/230-231) والخطيب في التاريخ (8/298) وأصله في الصحيحين مختصرا.
(4) رواه أحمد (4/283) وعلقه البخاري في صحيحه (13/633) ووصله في خلق أفعال العباد (ص.72-73) ووصله أبو داود (2/155/1468) والنسائي (2/521/1014) وابن ماجه (1/426/1342) وصححه ابن خزيمة (3/26/1556) وابن حبان (3/25/749) والحاكم (1/571) من حديث البراء رضي الله عنه وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم.
(5) البخاري (13/612/7527) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الباب عن سعد رضي الله عنه.
(6) تقدم تخريجه (ص.174).
(7) رواه البخاري (9/281/5162) من حديث عائشة..(1/163)
ومنها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء وأذن فيه(1)ومنها أنه كان يسمع إنشاد الصحابة وكانوا يرتجزون بين يديه في حفر الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا(2)
ودخل مكة والمرتج يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر فجعل يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
فدعا لقائله.(3)
ومنها أنه سمع قصيدة كعب بن زهير وأجازه.(4)
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.184).
(2) رواه البخاري (7/499/4099، 4100)، مسلم (3/1432/1805 [130]) والنسائي في الكبرى (5/85/8316-8318) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد (4/46-47)، مسلم (3/1429-1430/1802[124])، النسائي (6/338-339/3150) وأخرجه أبو داود (3/44/2538) مختصرا دون محل الشاهد كلهم من حديث سلمة بن الأكوع. والحديث أخرجه برواية أخرى أحمد (4/52) والبخاري (7/589/4196) ومسلم (3/1433-1441/1807).
(4) الحاكم (3/579-583) بأسانيد وعنه البيهقي (10/243-244). قال الحاكم: هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي. فأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان وقد ذكرهما محمد بن إسحاق القرشي في المغازي مختصرا. ثم أورده الحاكم عنه (3/584-585). وأخرجه أيضا الطبراني (19/176-179/403). قال الهيثمي في المجمع (9/394): "ورجاله إلى ابن إسحاق ثقات". وأخرجه ابن قانع في معجمه (2/381/929) عن سعيد بن المسيب.(1/164)
ومنها أنه استنشد الأسود بن سريع قصائد حمد بها ربه.(1)واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية.(2)
وأنشد الأعشى شيئا من شعره فسمعه(3). ومنها أنه صدق لبيدا في قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل(4)وكل نعيم لا محالة زائل
__________
(1) البخاري في الأدب المفرد (342و859و861و868) وأحمد (3/435) والنسائي في الكبرى (4/416/7745) والطبراني (1/282/820-821) وأبو نعيم في الحلية (1/46) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/298-299) والحاكم (3/614-615) وصححه ووافقه الذهبي على رواية الحسن عن الأسود وخالفه في رواية عبد الرحمن بن بكرة عن الأسود. وانظر الصحيحة (3179).
(2) رواه أحمد (4/390) مسلم (4/1767/2255) والبخاري في الأدب المفرد (799) والترمذي في الشمائل (212 مختصر) والنسائي في الكبرى (6/248/10836) وابن ماجة (2/1236/3758) من حديث الشريد رضي الله عنه.
(3) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (2/201-202)، الطحاوي في شرح المعاني (4/299) والبخاري في التاريخ (2/61) وأبو يعلى (12/287-289/6871) والبزار (3/6-7/2110) وابن حبان في الثقات (3/21-22) والبيهقي (10/240) وابن سعد في الطبقات (7/53) من طرق عن الأعشى المازني وهو عبد الله بن الأعور. ومدار الحديث على صدفة بن طيسلة وهو مجهول. ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه لا جرحا ولا تعديلا. والحديث أورده الهيثمي في المجمع (4/331-332) وقال: رواه عبد الله بن أحمد ورجاله ثقات. وكذا في (8/127-128) وقال: رواه عبد الله بن أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار ورجالهم ثقات.
(4) رواه أحمد (2/391)، البخاري (11/390/6489)، مسلم (4/1768/2256)، الترمذي (5/128/2849) وابن ماجة (2/1236/3757) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس في الرواية إلا صدر البيت.(1/165)
ودعا لحسان أن يؤيده الله بروح القدس ما دام ينافح عنه وكان يعجبه شعره وقال له: أهجهم وروح القدس معك،(1)وأنشدت عائشة رضي الله عنها قول أبي كبير الهذلي:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
وقالت: أنت أحق بهذا البيت فسر بقولها. ومنها أنهم ادعوا أنه رخص فيه عبد الله ابن عمر وعبد الله بن جعفر وأهل المدينة، وبأن كذا وكذا ولي لله حضروه وسمعوه، فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام.
ومنها أن إجماع العلماء منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية، فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة أو مساوية، وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه، فإن كان محبوبه حراما كان السماع معينا له على الحرام وهو حرام في حقه وإن كان مباحا كان السماع في حقه مباحا وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويهيجها وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن والشم بالروائح الطيبة والذوق بالطعم الطيب، فإذا كان هذا حراما كانت هذه اللذات والإدراكات محرمة.
__________
(1) رواه أحمد (4/302)، البخاري (6/374/3213) ومسلم (4/1933/2486) والنسائي في الكبرى (3/493/6024-6025) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.(1/166)
والجواب عن ذلك وبالله التوفيق فيما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وغيرهما كفاية وما ذكر حيد عن المقصود وروغان عن محل النزاع، فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها،لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه، فإن هذه اللذة تكون في أحكام التكليف الخمسة فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال، وهل هذا إلا بمنزلة من يستدل على إباحة الزنا بما يجد به فاعله من اللذة، ولذته لا ينكرها ذو طبع سليم، وهل يستدل بوجود اللذة الملائمة على حل اللذيذ الملائم أحد، وهل خلت غالب المحرمات من اللذات، وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها، وأن في أمته من يستحلها بأصح الأسانيد(1)وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها، وقال بعضهم بتحريم جملتها وقد حكى ابن الصلاح الإجماع على تحريم الغناء مع الدف والشبابة يعني إذا كان معه آلة لهو، وهل في التذاذ الإبل والطفل بالصوت الطيب دليل شرعي من إباحة أو تحريم.
__________
(1) البخاري (10/63/5590) تعليقا، ووصله ابن حبان (15/154/6754 الإحسان) والطبراني (3/319-320/3417) والبيهقي (10/221) وابن عساكر في تاريخ دمشق (67/188-189) من طرق عن هشام بن عمار به. ورواه أبو داود (4/319/4039) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن يزيد، كلهم من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.(1/167)
وأعجب من هذا الاستدلال على الإباحة بأن الله تعالى خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه، فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله تعالى خالقها ومعطي حسنها، أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ بها على الإطلاق؟ وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين على رسوم الطبيعة، ولعل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المستحسنات بالدفوف والشبابات هذا من المضحكات المعجبات، وأعجب من هذا الاستدلال على الإباحة بسماع أهل الجنة أنهم في روضة يحبرون فما يخاف صاحب هذا الاستدلال فإن هذا كمن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا، وعلى إباحة لبس الحرير بأن لباس أهل الجنة الحرير، وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بها للرجال، فإن هذا كله مباح لأهل الجنة.(1/168)
فإن قيل قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع قيل هذا الآن استدلال آخر على الاستدلال على إباحته لأهل الجنة فعلم أن استدلالك بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل، وقولك لم يقم دليل على تحريم السماع، فيقال أي السماعات تعني وأي المسموعات تريد فإن منهما المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب، فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا. فإن قلت سماع القصائد ما مدح الله به ورسوله وكتابه وهجي به أعداؤه، فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويدرسونها وهي التي سمعها الرسول وأصحابه، وأثاب عليها وحرض حسان عليها، وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا تلك قصائد ويكفي هذا، والسنة كلام والبدعة كلام والتسبيح كلام والغيبة كلام ولكن هل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سماعكم هذا المشتمل على قريب من مائة مفسدة، ونظير هذا ما استدلوا به على أن الرسول استحسن الصوت الحسن وأذن فيه كما تقدم من حديث أبي موسى الأشعري وغيره، فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالدفوف بالصنوج والشبابات والأوتار وغير ذلك من المعازف، وذكر القدود والثغور والنهود والخصور ووصف فواتر العيون وسوادها وسواد الشعور ومحاسن الشباب وحمرة الخدود وذكر الوصل والصد والتجني والهجران والعتاب والاستعطاف والاشتياق والقلق والفراق وما أشبه ذلك مما هو أفسد للقلب من سكر الخمر وأي نسبة لسكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لا يستفيق صاحبها إلا في عسكر الهالكين أسيرا قتيلا حزينا وهل تقاس سكرة الشراب إلى سكرة الأرواح بالسماع فإن نازع منازع في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح خرجوا عن الذوق والحس فظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ويبيح له ما فيه أعظم السقم والكلام مع من وجد لا من فقد.(1/169)
وأعجب من هذا من استدل على إباحة السماع المركب من الهيئة الاجتماعية اجتماع البنتين الصغيرتين وهما دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات للعرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم، فأين هذا من هذا والعجب أن هذا من أكبر الحجج عليهم، فإن الصديق سمى ذلك مزمار الشيطان وأقره على هذه التسمية مرخصا فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشاده ولا في استماعه، أفيدل هذا على إباحة ما يفعلونه من السماع اليوم؟ وأعجب من هذا كله الاستدلال على إباحته بما سمعه الرسول من الحدو المشتمل على الحق والتوحيد، وهل حرم أحد مطلق الشعر وقوله واستماعه، وأعجب استدلالهم بإباحته على إباحة أصوات الطيور اللذيذة، وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وأين أصوات الطيور إلى نغمات النسوان والمردان والأوتار والعيدان والغناء منهن بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب، وأين الفتنة بمن هو من جنسك إلى الفتنة بصوت القمري والبلبل والهزار والشحرور ونحوها، وأعجب من هذا من قال أنه من أنكره فقد أنكر على كذا كذا ولي لله، فحجة عامية، نعم ينكر أولياء الله على أولياء الله، فقد أنكر عليهم من أولياء الله من هو أكثر منهم عددا وأعظم عند الله وعند المؤمنين، وقد تقاتل أولياء الله في صفين بالسيوف ولما سار بعضهم إلى بعض كان يقال سار أهل الجنة إلى الجنة، وكون ولي الله يرتكب المكروه أو المحظور متأولا أو عاصيا لا يمنع ذلك الإنكار عليه ولا يخرجه عن أصل ولايته لله، وهيهات هيهات أن يكون أحد من أولياء الله المتقدمين حضر هذا السماع المحدث المشتمل على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظم فتنة.(1/170)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر من كلامه: قال إسحاق ابن عيسى الطباع: سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وهذا النص عن مالك معروف في كتب أصحاب مالك مشهور وهم أعلم بمذهبه وأضبط ممن ينقل عنه الغلط وعن أهل المدينة من طائفة بالمشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء، ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه وإنما نبهت على هذا لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثارا يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق وكان الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده فلهذا يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيها من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له وبعض الناس توقف في روايته حتى إن البيهقي كان إذا روى عنه يقول حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه وأكثر الحكايات التي يرويها أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة عنه، فإنه كان أجمع شيوخه لكلام الصوفية، و محمد بن طاهر له فضيلة جيدة في معرفة الحديث ورجاله وهو من حفاظ وقته لكن كثير من المتأخرين أهل الحديث وأهل الزهد وأهل الفقه وغيرهم إذا صنفوا في باب ذكروا ما روي فيه من غث وسمين ولم يميزوا بين ذلك. انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: ذكر من صنف في السماع ومن روى فيه من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة ثم قال: وكثير من المتأخرين أهل الحديث وأهل الزهد وأهل الفقه والتصوف وغيرهم إذا صنفوا في باب ذكروا ما روي فيه من غث وسمين ولم يميزوا بين ذلك.(1/171)
كما يوجد في كثير ممن صنف في الأبواب مثل المصنفين في فضائل الشهور والأوقات وفضائل الأعمال والعبادات وفضائل الأشخاص وغير ذلك من الأبواب مثل ما صنف بعضهم في فضائل صيام رجب وغيره وفي فضائل صلوات الأيام والليالي وصلاة يوم الأحد وصلاة يوم الاثنين وصلاة يوم الثلاثاء وصلاة أول جمعة في رجب وألفية رجب وأول رجب وألفية نصف شعبان وإحياء ليلتي العيدين وصلاة يوم عاشوراء، وكل هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأجود حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام رجب ما رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام رجب(1)وقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب أيدي الناس في رجب حتى يفطروا ويقول: لا تشبهوه برمضان(2)وكذا كره إفراده بالصوم غير واحد من السلف والأئمة. وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح(3)وقد رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
__________
(1) رواه ابن ماجة (1/554/1743) وقال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد فيه داود بن عطاء المدني وهو متفق على تضعيفه، وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق داود وضعف الحديث به".
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (2/345/9758) ورواه ابن وضاح بمعناه في 'البدع' (ص.93) عن الشعبي عن عمر، وفيه انقطاع.
(3) رواه أبو داود (2/67-68/1397)، ابن ماجة (1/443/1387) وابن خزيمة (2/223-224/1216) والحاكم (1/318) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفي الباب من حديث أنس وأبي رافع رضي الله عنهما.(1/172)
ومع هذا فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة بل أحمد ضعف الحديث وقال: لا يصح، ولم يستحب هذه الصلاة، وأما ابن المبارك فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية، وهذا يخالف الأصول، فلا يجوز أن يثبت بمثل هذا الحديث ومن تدبر الأصول علم أنه موضوع، وأما سائر هذه الأحاديث فإنها كلها أحاديث موضوعة مكذوبة باتفاق أهل المعرفة مع أنها توجد في مثل كتاب أبي طالب وكتاب أبي حامد وكتاب الشيخ عبد القادر، وتوجد في مثل أمالي أبي القاسم بن عساكر، وفيما صنفه أبو حفص ابن شاهين وعبد العزيز الكناني وأبو علي بن البناء وأبو الفضل بن ناصر وغيرهم وكذلك أبو الفرج ابن الجوزي ذكر مثل هذا في كتاب فضائل الشهور ويذكر في الموضوعات أنه كذب موضوع.
والذين جمعوا الأحاديث في الزهد والرقائق يذكرون ما روي في هذا الباب ومن أجل ما صنف في هذا الباب كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك وفيه أحاديث واهية وكذلك كتاب الزهد لهناد بن السري ولوكيع وكذلك الزهد لأسد بن موسى وغيرهم، وأجود ما صنف في ذلك كتاب الزهد للإمام أحمد لكنه مرتب على الأسماء وزهد ابن المبارك على الأبواب وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء والصحابة والتابعين، ثم إن المتأخرين على صنفين منهم من ذكر زهد المتقدمين والمتأخرين كأبي نعيم في الحلية وأبي الفرج في صفوة الصفوة، ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين من حين حدث اسم الصوفية كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وصاحبه أبو القاسم القشيري في رسالته، ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء ونحوهم كابن خميس الموصلي وأمثاله يذكرون حكايات مرسلة بعضها صحيح وبعضها باطل قطعا والله أعلم.(1/173)
وقال الشيخ رحمه الله: والمقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وسقيمه، كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات والنظريات، وكذلك في الأذواق والمواجيد والمكاشفات والمخاطبات، فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة فيها حق وباطل، فلابد من التمييز بين هذا وهذا، وجميع ذلك أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه وما كان عليه أصحابه فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } الآية.(1)
__________
(1) النساء الآية (59).(1/174)
وأما من زعم أن الملائكة أو الأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي التي تتنزل عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعا، أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتا، قال: بيتك الحمام، قال : اجعل لي قرآنا، قال: قرآنك الشعر، قال: اجعل لي مؤذنا، قال: مؤذنك المزمار، وقد قال الله تعالى مخاطبا للشيطان: وَاسْتَفْزِزْ { مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }(1)،(2)وقد فسر ذلك بصوت الغناء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية".(3)
__________
(1) الإسراء الآية (64).
(2) رواه الطبراني في الكبير (11/103-104/11181)، قال الهيثمي في المجمع (1/114): "وفيه يحيى بن صالح الأيلي ضعفه العقيلي". وضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/1557). وفي الباب عن أبي أمامة عند الطبراني أيضا (8/207/7837) وقال في المجمع (8/119): "وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف". وفيه أيضا عبد الله بن زحر ضعيف. وقال العراقي (4/1557): "وإسناده ضعيف جدا".
(3) أخرجه الترمذي (3/328/1005) وقال: "حديث حسن". والحاكم (4/40) من حديث جابر رضي الله عنه.(1/175)
وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية ذات المكاء والتصدية، وكيف يدور الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين ورأى بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به فلما صرخ شيطانه هرب وسقط ذلك الرجل وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة وأعرض عن السبل المبتدعة فقد حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن من لم يعرف حقائق الأمور فهو بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء في مواطنه وإن لم يعرف كيف حصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل الهادي كان ضالا عن الطريق، فإما أن يهلك وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق، والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وهاديا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.(1/176)
وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرغاء والصراخات المنكرة ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان وكذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة فتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله ويوقع بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضا بأحواله الفاسدة الشيطانية كما يقتل العائن من أصابه بعينه ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الفاسدة لأنهم ظالمون وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون.
ومن هذا الجنس حال فقراء الكافرين والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"(1)الحديث.
__________
(1) رواه أحمد (3/60)، البخاري (9/122-123/5058)، مسلم (2/743-744/1064 [147])، النسائي في الكبرى (5/31-32/8089) وابن ماجة (1/60/169) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.(1/177)
وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة كما يكون لهم مملكة ظاهرة فإن سلطان الباطن مضاه لسلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون وما فعلوه من الإعانة على الظلم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب، وباب القدرة والتمكن ظاهرا وباطنا ليس مستلزما لولاية الله، بل قد يكون ولي الله متمكنا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفا إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفا وقد يكون مسلطا إلى أن ينتقم الله منه فخفراء السر في الباطن من جنس التتر في الظاهر هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد، وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة كما يديل المؤمنين على الكافرين كما كان يكون لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عدوهم لكن العاقبة للمتقين فإن الله يقول: إِنَّا { لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) }(1)وإذا كان في المسلمين ضعف وكان العدو مستظهرا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا، وإما لعداوتهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا، قال الله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا }(2)، وقال تعالى: أَوَلَمَّا { أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }(3)، وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ { اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } .
__________
(1) غافر الآية (51).
(2) آل عمران الآية (155).
(3) آل عمران الآية (165).(1/178)
(1)
وقال الشيخ في موضع آخر: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ في الشبابات والاجتماع على ذلك دينا وطريقا إلى الله وقربة فهذا ليس من دين الإسلام وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا خراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة ولهذا قال الشافعي لما رأى ذلك: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل يحب السماع والرقص، فأنكر عليه رجل فقال هذه الأبيات:
أنكروا رقصا وقالوا حرام أعبد الله يا فقيه وصل ... فعليهم من أجل ذاك سلام والزم الشرع فالسماع حرام عند قوم أحوالهم لا تلام جانب الطور جذوة وكلام فحرام على الجميع حرام
بل حرام عليك ثم حلال مثل قوم صفوا وبان لهم من فإذا قوبل السماع بلهو
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرا من القول وزورا، بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة وآخره يفتح باب الزندقة، والإلحاد المخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية، وذلك أن قول القائل: مثل قوم صفوا وبان لهم من جانب الطور جذوة وكلام.
__________
(1) الحج الآيتان (40و41).(1/179)
يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران الذي نودي من جانب الطور ولما رأى النار قال لأهله: امْكُثُوا { إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) }(1)، وهذا قول طائفة من الناس يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف صنف يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران كما يقول ذلك من يقوله من أهل الوحدة والاتحاد القائلين بأن الوجود واحد كصاحب الفصوص وأمثاله فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلوات والسلام، ومعلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم لكن يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.
والنوع الثاني من يقول أن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ومتصوفتهم الذين يقولون إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون إن النبوة مكتسبة.
__________
(1) القصص الآية (29).(1/180)
والنوع الثالث الذين يقولون إن موسى أفضل لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصود بالتكليم دون هذا كما يوجد هذا في أخبار صاحب مشكاة الأنوار وكذلك سلك مسلكه صاحب خلع النعلين وأمثالهما، وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه الزم الشرع يا فقيه وصل يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له إلى الله طريقا يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله فإنه أيضا كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه كطائفة أسقطوا التكليف وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل، وطائفة يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن متابعة موسى وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل أحد باطنا وظاهرا مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى بل وافقتها ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها.(1)
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن مؤذن يصعد إلى المئذنة ينشد أبياتا يذكر فيها الفراق والبين وتفرق الأحباب، فأنكر عليه رجل فقال له: لا تفعل هذا وعليك بالتسبيح والتحميد والقصائد الربانية، فهل أصاب أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله نعم ينهى المؤذن أن ينشد الأبيات التي هي من جنس النياحة والمراثي، وكذلك ما كان من جنس الغزل فإن في ذلك مفاسد كثيرة وليس ذلك من ذكر الله المشروع للمؤذن ولا بأس بالأبيات المتضمنة لذكر الآيات والأخبار والتوبة والاستغفار والله أعلم.
" التعليق:
__________
(1) مجموع الرسائل المنبرية (2/166-191).(1/181)
قلت: يجب على المؤذن أن يلتزم بصيغ الآذان التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليها صحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، أما ما أحدث من أناشيد وقصائد على منارات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فأمر لا يجوز لأنه من البدع المحدثة، ومن الطرق التي نشر بها الشرك والبدع، فالهدي هديه صلى الله عليه وسلم.(1/182)
وقال الإمام العلامة ابن القيم في كتابه العظيم إغاثة اللهفان: "ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرا منه وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس، فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله ووخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالدِّباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، ولو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى(1/183)
يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد عند سماع قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا، والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا، فمن أين هذا الإخاء والنسب لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب؟ ومن أين هذه المصلحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا؟ أَفَتَتَّخِذُونَهُ { وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) } .(1)
ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة وأتى الغناء، فكالحمير تناهقوا دف ومزمار، ونغمة شادن ثقل الكتاب عليهم لما رأوا سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ورأوه أعظم قاطع للنفس عن وأتى السماع موافقا أغراضها أين المساعد للهوى من قاطع إن لم يكن خمرَ الجسوم، فإنه فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه واحكم فأي الحمرتين أحق ... لكنه إطراق ساه لاهي والله ما رقصوا لأجل الله فمتى رأيت عبادة بملاهي تقييده بأوامر ونواهي زجرا وتخويفا بفعل مناهي شهواتها، يا ذبحها المتناهي فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أسبابه، عند الجهول الساهي؟ خمر العقول مماثل ومضاهي وانظر إلى النسوان عند ملاهي من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي بالتحريم، والتأثيم عند الله؟
وقال آخر:
__________
(1) الكهف الآية (50).(1/184)
برئنا إلى الله من معشر وكم قلت: يا قوم، أنتم على شفا جرف تحته هوة وتكرار ذا النصح منا لهم فلما استهانوا بتنبيهنا فعشنا على سنة المصطفى ... بهم مرض من سماع الغنا شفا جرف ما به من بنا إلى درك كم به من عنا؟ لنعذر فيهم إلى ربنا رجعنا إلى الله في أمرنا وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه، وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم، وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا، ثم ازداد الأمر إدبارا، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم، استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) }(1)فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) النساء الآية (115).(1/185)
ثم قال: أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب. وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. قال: وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب.وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه.
قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه. قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره. وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفروض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا، وإن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح، يعني الإجارة، على منفعة محرمة، كالغناء والزمر وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافا. وقال في المهذب : ولا يجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم. فقد تضمن كلام الشيخ أمورا:
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.(1/186)
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابلة محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام.
وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته:
القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار، يحرم استعماله واستماعه.(1/187)
قال: وفي اليراع وجهان: صحح البغوي التحريم. ثم ذكر عن الغزالي الجواز قال: والصحيح تحريم اليراع وهو الشبابة. وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع. وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه: وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بين من الصائر إليه، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور: إنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } .(1)وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم: المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه.
__________
(1) النساء الآية (115).(1/188)
والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولا في ذلك. وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر، قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل.
قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين.
" فصل:
وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. قال عبد الله: وسمعت أبي يقول: سمعت يحي القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا.
قال أحمد: وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.
ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها، وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان. ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين، فقال:لا تباع إلا على أنها ساذجة. ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام.
" فصل:(1/189)
وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادا للدين. قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وأغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا. قال: وكان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما. قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن، فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه: أنه كان لا يرى به بأسا، والثاني: عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه.(1/190)
قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وليس في الأمة من رأى هذا الرأي. قلت: ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة، ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى، وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم، ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء. فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني. وما أحسن ما قال بعض العلماء(1)، وقد شاهد هذا وأفعالهم:
ألا قل لهم قول عبد نصوح متى علم الناس في ديننا وأن يأكل المرء أكل الحما وقالوا: سكرنا بحب الإله كذاك البهائم إن أشبعت ويسكره الناي، ثم الغنا فيا للعقول، ويا للنهى تهان مساجدنا بالسما ... وحق النصيحة أن تستمع بأن الغنا سنة تتبع ر، ويرقص في الجمع حتى يقع؟ وما أسكر القوم إلا القصع يرقصها ريها والشبع ويس لو تليت ما انصدع ألا منكر منكم للبدع؟
ع. وتكرم عن مثل ذاك البيع؟
وقال آخر وأحسن ما شاء(2):
ذهب الرجال وحال دون مجالهم زعموا بأنهم على آثارهم لبسوا الدلوق مرقعا، وتقشفوا ... زمر من الأوباش والأنذال ساروا، ولكن سيرة البطال كتقشف الأقطاب والأبدال
قطعوا طريق السالكين، وغوروا عمروا ظواهرهم بأثواب التقى ... سبل الهدى، بجهالة وضلال وحشوا بواطنهم من الأدغال
__________
(1) هو ظهير الدين، أبو إسحاق إبراهيم بن نصر الموصل، وقد أورد ابن خلكان في تاريخه صفحة في ترجمته مع زيادة، وكذلك الحافظ ابن كثير في الجزء الثالث عشر من البداية والنهاية.
(2) إغاثة اللهفان (1/344-359).(1/191)
إن قلت: قال الله، قال رسوله أو قلت: قد قال الصحابة، والأولى أو قلت: قال الآل، آل المصطفى أو قلت: قال الشافعي، وأحمد أو قلت: قال صحابهم من بعدهم ويقول: قلبي قال لي، عن سره، عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي دعوى، إذا حققتها، ألفيتها تركوا الحقائق والشرائع، واقتدوا جعلوا المرا فتحا، وألفاظ الخنا نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم جعلوا السماع مطية لهواهم هو طاعة، هو قربة، هو سنة شيخ قديم، صادهم بتحيل هجروا له القرآن والأخبار ... همزوك همز المنكر المتغالي تبعوهم في القول والأعمال صلى عليه الله، أفضل آل وأبو حنيفة، والإمام العالي فالكل عندهم كشبه خيال عن سر سري، عن صفا أحوالي عن شاهدي، عن واردي عن حالي عن سر ذاتي، عن صفات فعالي ألقاب زور، لفقت بمحال بظواهر الجهال والضلال شطحا، وصالوا صولة الادلال نبذ المسافر فضلة الأكال وغلوا، فقالوا فيه كل محال صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال حتى أجابوا دعوة المحتال والآثار، إذ شهدت لهم بضلال
ورأوا سماع الشعر أنفع للفتى تالله ما ظفر العدو بمثلها ... من أوجه سبع لهم بتوال من مثلهم، وا خيبة الآمال
نصب الحبال لهم، فلم يقعوا بها ... فأتى بذا الشرك المحيط الغالي
فإذا بهم وسط العرين ممزقي ... الأثواب، والأديان والأحوال(1/192)
لا يسمعون سوى الذي يهوونه ودعوا إلى ذات اليمين، فأعرضوا خروا على القرآن عند سماعه وإذا تلا القاري عليهم سورة ويقول قائلهم: أطلت، وليس ذا هذا وكم لغو وكم صخب، وكم حتى إذا قام السماع لديهم وامتدت الأعناق، تسمع وحي ذا وتحركت تلك الرؤوس، وهزها فهنالك الأشواق والأشجان تالله لو كانوا صحاة أبصروا لكنما سكر السماع أشد من فإذا هما اجتمعا لنفس مرة يا أمة لعبت بدين نبيها أشمتموا أهل الكتاب بدينكم ... شغلا به عن سائر الأشغال عنها، وسار القوم ذات شمال صما وعميانا ذوي إهمال فأطالها، عدوه في الأثقال عشر، فخفف، أنت ذو إملال ضحك بلا أدب، ولا إجمال خشعت له الأصوات بالإجلال ك. الشيخ من مترنم قوال طرب، وأشواق لنيل وصال والأحوال، لا أهلا بذي الأحوال ماذا دهاهم من قبيح فعال سكر المدام، وذا بلا إشكال نالت من الخسران كل منال كتلاعب الصبيان في الأوحال والله لن يرضوا بذي الأفعال
كم ذا نعير منهم بفريقكم قالوا لنا: دين عبادة أهله بل لا تجيء شريعة بجوازه ... سرا وجهرا عند كل جدال؟ هذا السماع، فذاك دين محال؟ فسلوا الشرائع تكتفوا بسؤال
لو قلتمو فسق، ومعصية، وتز ... يين من الشيطان للأنذال(1/193)
ليصد عن وحي الإله ودينه كنا شهدنا أن ذا دين أتى والله منهم قد سمعنا ذا وتمام ذاك القول بالحيل التي جعلته كالثوب المهلهل نسجه ما شئت من مكر ومن خدع ومن فاحتل على إسقاط كل فريضة واحتل على المظلوم يقلب ظالما واقلب، وحول، فالتحيل كله إن كنت تفهم ذا ظفرت بكل ما فاحتل على شرب المدام وسمها واحتل على أكل الربا واهجر شنا واحتل على الوطء الحرام، ولا تقل واحتل على حل العقود وفسخها إلا على المحتال، فهو طبيبها واحتل على نقض الوقوف وعودها فكر، وقدر ثم فصل بعد ذا واحتل على الميراث، فانزعه ... وينال فيه حيلة المحتال بالحق دين الرسل، لا بضلال إلى الآذان من أفواههم بمقال فسخت عقود الدين فسخ فصال فيه تفصله من الأوصال حيل، وتلبيس بلا إقلال وعلى حرام الله بالإحلال وعلى الظلوم، بضد تلك الحال في القلب، والتحويل ذو إعمال تبغي من الأفعال والأقوال غير اسمها، واللفظ ذو إجمال عة لفظه، واحتل على الأبدال هذا زنا، وانكح رخي البال بعد اللزوم، وذاك ذو إشكال يا محنة الأديان بالمحتال طلقا، ولا تستحي من إبطال فإذا غلبت فلج في الإشكال من الوراث، ثم أبلع جميع المال
قد أثبتوا نسبا وحصرا فيكم ... حتى تحوز الإرث للأموال(1/194)
واعمد إلى تلك الشهادة، واجعل فالحصر إثبات، ونفي غير معلـ واحتل على مال اليتيم فإنه لا سوطه تخشى، ولا من سيفه واحتل على أكل الوقوف فإنها فأبو حنيفة عنده هي باطل فالمال مال ضائع، أربابه وإذا تصح بحكم قاض عادل قد عطل الناس الشروط وأهملوا وتمام ذاك قضاتنا، وشهودنا أما الشهود فهم عدول عن طريق زورا وتنميقا وكتمانا، وتلبـ ينسى شهادته، ويحلف إنه فإذا رأى المنقوش قال: ذكرتها ويقول قائلهم: أخوض النار في ثقل لي الميزان، إني خائض أما القضاة فقد تواتر عنهم ماذا تقول لمن يقول حكمت فإذا استغثت أغثت بالجلد الذي ... الإبطال همك، تحظ بالابطال وم، وهذا موضع الإشكال رزق هني من ضعيف الحال والقول قولك في نفاذ المال مثل السوائب ربة الإهمال في الأصل، لم تحتج إلى إبطال هلكوا فخذ منه بلا مكيال فشروطها صارت إلى اضمحلال مقصودها، فالكل في إهمال فاسأل بهم ذا خبرة بالحال العدل في الأقوال والأفعال ـيسا، وإسرافا بأخذ نوال ناس لها، والقلب ذو إغفال يا للمذكر، جئت بالآمال نزر يسير ؟ ذاك عين خبال للمنكبين، أجر بالأغلال ما قد سمعت، فلا تفه بمقال أنك فاسق، أو كافر في الحال؟ قد طرقوه كمثل طرق نعال
فيقول طق، فتقول: قط فتعارضا ... ويكون قول الجلد ذا إعمال
فأجارك الرحمن من ضرب، ومن ... عرض، ومن كذب وسوء مقال(1/195)
هذا ونسبة ذاك أجمعه إلى حاشا رسول الله يحكم بالهوى والله لو عرضت عليه كلها إلا التي منها يوافق حكمه أحكامه عدل، وحق كلها شهدت عقول الخلق قاطبة بما فإذا أتت أحكامه ألفيتها حتى يقول السامعون لحكمه: لله أحكام الرسول وعدلها كانت بها في الأرض أعظم رحمة أحكامهم تجري على وجه السدا أمنا، وعزا في هدى، وتراحم فتغيرت أوضاعها، حتى غدت فتغيرت أعمالهم وتبدلت لو كان دين الله فيهم قائما وإذا همو حكموا بحكم جائر قالوا: أتنكر حكم شرع محمد ... دين الرسول، وذا من الأهوال والجهل، تلك حكومة الضلال لاجتثها بالنقض والأبطال فهو الذي يلقاه بالإقبال في رحمة، ومصالح، وحلال في حكمه من صحة وكمال وفق العقول، تزيل كل عقال ما بعد هذا الحق غير ضلال
عجت فروج الناس، ثم حقوقهم كم تستحل بكل حكم باطل والكل في قعر الجحيم، سوى الذي أو ما سمعت بأن ثلثيهم غدا وزماننا هذا، فربك عالم يا باغي الإحسان يطلب ربه واسلك طريق القوم أين يتمموا أنظر إلى هدي الصحابة والذي تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى درجوا على نهج الرسول وهديه نعم الرفيق لطالب يبغي الهدى القانتين المخبتين لربهم التاركين لكل فعل سيء ... بين العباد ونورها المتلالي والناس في سعد وفي إقبال
أهواؤهم تبع لدين نبيهم ما شابهم في دينهم نقص، ولا عملوا بما علموا، ولم يتكلفوا وسواهم بالضد في الأمرين قد فهم الأدلة للحيارى من يَسِر وهم النجوم هداية وإضاءة يمشون بين الناس هونا، نطقهم ... د، وحالهم في ذاك أحسن حال وتواصل، ومحبة، وجلال منكورة، مسلوبة الأعمال أحوالهم بالنقص بعد كمال لرأيتهم في أحسن الأحوال حكموا لمنكره بكل وبال حاشا لذا الشرع الشريف العالي(1/196)
حلما، وعلما، مع تقى وتواضع يحيون ليلهم بطاعة ربهم وعيونهم تجري بفيض دموعهم في الليل رهبان، وعند جهادهم وإذا بدا علم الرهان رأيتهم بوجوههم أثر السجود لربهم ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم وبرابع السبع الطوال صفاتهم وبراءة، والحشر فيها وصفهم ... لله بالبكرات والآصال لا يرتضيه ربنا المتعالي يقضي بدين الله، لا لنوال في النار، في ذاك الزمان الخالي؟ هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي؟ ليفوز منه بغاية الآمال خذ يمنة ما الدرب ذات شمال كانوا عليه في الزمان الخالي سبل الهدى في القول والأفعال وبه اقتدوا في سائر الأحوال فمآله في الحشر خير مآل الناطقين بأصدق الأقوال والعالمين بأحسن الأعمال
وسواهم بالضد في ذي الحال في قولهم شطح الجهول الغالي فلذاك ما شابوا الهدى بضلال تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال
بهداهم لم يخش من إضلال وعلو مزلة، وبعد منال بالحق ، لا بجهالة الجهال
ونصيحة، مع رتبة الإفضال بتلاوة، وتضرع، وسؤال مثل انهمال الوابل الهطال لعدوهم من أشجع الأبطال يتسابقون بصالح الأعمال وبها أشعة نوره المتلالي في صورة الفتح المبين العالي قوم يحبهم ذوو إدلال وبهل أتى، وبسورة الأنفال
عرض القرآن والسنة على الكشف:
- قال الغزالي: وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله، وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف.(1)
" التعليق:
__________
(1) 1/104).(1/197)
هذا أمر خطير وخطير جدا، معناه تشكيك المسلمين في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يصل منهم إلى هذا الهوس الذي يسمى بالكشف فلا قرآن عنده ولا سنة لأنه بالكشف يعرف صحة القرآن والسنة. وقد درج المسلمون بحمد الله خلفا عن سلف ما ذكر أحد منهم هذا الوسواس وفي مقدمتهم جيل الصحابة ومن أخذ عنهم من التابعين فكلهم أخذوا كتاب الله عن قناعة كافية، حفظوا لفظه ودرسوا معناه وعملوا بمقتضاه دون أن يخطر ببال أحد منهم هذا الوسواس الذي يذكره الغزالي باسم الكشف، وهاهي كتب السنة والتفسير وعلوم القراءات والقرآن لم نجد فيها من ذكر هذا الوسواس، وحاشاهم من ذلك فإن هذه دسيسة إبليسية روج لها المتصوفة كالغزالي وأضرابه ولله در الشيخ الإمام أبي العباس بن تيمية رحمة الله عليه، في كتابه القيم درء تعارض العقل والنقل إذ قال: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة. وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات.(1)
صرف المسلمين عن دراسة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
جاء في الإحياء:
ولذلك قال: بشر: "حدثنا" باب من أبواب الدنيا، فإذا سمعت الرجل يقول: حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي". ودفن بشر بن الحارث بضعة عشر ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب، وكان يقول: أنا أشتهي أن أحدث ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت. وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا. إلى أن قال:
__________
(1) 5/348).(1/198)
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا(1). وقال في موضع آخر: وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري: نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا، قال:وفيما ذا رغبت؟ قالت: في الحديث(2). وقال في موضع آخر: وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلا، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس(3). وقال في موضع آخر: ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره.(4)
" التعليق:
هكذا نقل الغزالي هذه الأقوال التي مفادها طرح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمي المسلمين لها وراءهم ظهريا والاشتغال بهذه الترهات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. وبما قاله الغزالي وبما نقله عن غيره، يجب أن نرمي بكتب الحديث كلها في البحار وأن نحرقها بالنار لأنها كلها من علوم الدنيا. وهذا هو الذي يصوره الغزالي للناس أنه من إحياء علوم الدين، والمتتبع لكتاب الغزالي يراه من أكبر المعاول التي تهدم علوم الدين، فكيف هذا والسنة هي المصدر الكبير للشريعة الإسلامية بعد كتاب الله والجهل بها جهل بالإسلام، والقرآن لا يمكن أن يفهم الفهم الصحيح إلا بالرجوع إلى السنة ودراستها، وعلى كل حال فدراسة السنة وما ورد في فضلها أمر معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة، وبشرف السنة يشرف دراسها، فالشرف كله في دراسة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بهما لا في هذه الوساوس التي ملأ الغزالي كتابه بها. وتعجبني كلمة ذكرها محمد بن عبد الرحمن المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي في الحديث وأهله أنقلها لأهميتها، وللرد بها على هذه الخزعبلات التي ضررها واضح على المسلمين.
__________
(1) 1/61).
(2) 2/237).
(3) 3/24).
(4) 3/19).(1/199)
قال في مقدمة تحفة الأحوذي:
الفصل الثاني في فضيلة علم الحديث وأهله:
اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة جميع العقائد واسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها ومركز المعاملات ومحط جارها وقارها هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرضع من دره ولم يخض في بحره ولم يقتطف من زهره ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام، فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم كيف وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم وسواطع الحكم من عند رب العالمين، فكلامه أشرف الكلم وأفضلها وأجمع الحكم وأكملها، كما قيل كلام الملوك ملك الكلام وهو تلو كلام الله العلام وثاني أدلة الأحكام، فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها تتوقف على بيانه صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم لا يعتمد عليها ولا يصار إليها، فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات، ونصوص الأحكام ومأخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف(1/200)
فهو الحري بالترويج والاشتهار، وما كان زيفا غير جيد عند ذاك النقاد، فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان، فهي -أي علوم الأحاديث- مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من انقاد لها فقد رشد واهتدى وأوتى الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى، وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر وأنذر وبشر وضرب الأمثال وذكر وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر وقد ارتبط بها أتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين والحياة الأبدية بلا مين. كيف وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو يحس في خلده واستقام عليه، فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب والعمل، العمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين عليه السلام يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث. ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أوالسيئة، وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا(1/201)
ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالحاصل أن أهل الحديث كثر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلا عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حاق وسط جنانهم، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، وقال الله تعالى: يَوْمَ { نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ }(1). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة أي نبيهم وهذا كقوله تعالى: وَلِكُلِّ { أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } الآية(2)، وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.(3)انتهى.
وقد ورد في فضيلة علم الحديث وأهله أحاديث كثيرة وأنا أقتصر ههنا على ذكر خمسة:
__________
(1) الإسراء الآية (71).
(2) يونس الآية (47).
(3) 5/96).(1/202)
الحديث الأول: روى الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"(1)، وقال: هذا حديث حسن غريب قال القاري في المرقاة شرح المشكاة: ورواه ابن حبان في صحيحه ذكره ميرك، والأحاديث في هذا الباب كثيرة قال ابن حبان عقب هذا الحديث: في الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة يكون أصحاب الحديث إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم، وقال غيره لأنهم يصلون عليه قولا وفعلا(2)انتهى.
وقال الخطيب في كتابه 'شرف أصحاب الحديث': قال لنا أبو نعيم هذه منقبة شريفة تختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا.(3)
وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث هذه البشرى فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكراتهم ودروسهم فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم. انتهى.
__________
(1) رواه الترمذي (2/354/484) وقال: حسن غريب وابن حبان (3/192/911) وغيرهما. وإسناده ضعيف من أجل عبد الله بن كيسان. قال ابن القطان (3/613): لا تعرف حاله ولا يعرف روى عنه إلا موسى بن يعقوب الزمعي.
(2) المرقاة (3/11-12).
(3) شرف أصحاب الحديث (ص.35).(1/203)
الحديث الثاني: روى الترمذي عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع"(1). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب أحاديث أخرى، قال القاري: خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحدا من الأمة ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنما وجل في الدارين حظا وقسما(2)انتهى.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها. الحديث، قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحملة علمه ولابد بفضل الله تعالى من نيل بركته(3)انتهى.
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله:
أهل الحديث عصابة الحق فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم زهر منضرة لألاؤها كتألق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ما أدركوه بها من السبق
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.115).
(2) المرقاة (1/488).
(3) عارضة الأحوذي (10/124-125).(1/204)
الحديث الثالث: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي"، قلنا: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس"(1). قال القسطلاني في مقدمة إرشاد الساري بعد ذكر هذا الحديث:ولا ريب أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمن قام بذلك كان خليفة لمن يبلغ عنه وكما لا يليق بالأنبياء عليهم السلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوه، فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه حيث قال: "بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري.(2)
قال المظهري: أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة، قال البيضاوي: قال ولو آية ولم يقل ولو حديثا لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف انتهى.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى:بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال سفيان الثوري: لا أعلم علما أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى أن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية(3)انتهى.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (6/395/5842) وغيره. قال الشيخ الألباني في الضعيفة (854): "باطل".
(2) رواه أحمد (2/159)، البخاري (6/496/3461) والترمذي (5/39/2669) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3) إرشاد الساري (1/12-13).(1/205)
الحديث الرابع: روى البيهقي في المدخل عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(1). كذا في المشكاة قال القسطلاني بعد ذكره من حديث أسامة بن زيد: وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدى العلائي وفيه تخصيص جملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها، وقال النووي في أول تهذيبه: هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وإن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاء من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئا من علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئا منه انتهى.
__________
(1) رواه ابن وضاح في ما جاء في البدع (ص.25) والعقيلي في الضعفاء (4/256) وابن بطة في الإبانة (1/1/198/33) والبيهقي (10/209) وابن عبد البر في التمهيد (المقدمة ص.65 فتح البر) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص.29) وابن عدي في الكامل (1/146) وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/37-39).(1/206)
على أنه قد يقال ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم حقيقة لعدم عملهم كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازاني في تقرير قول التلخيص وقد ينزل العالم منزلة الجاهل وصرح به الإمام الشافعي في قوله:
ولا العلم إلا مع التقى ولا العقل إلا مع الأدب
ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين وأوثق عرى اليقين، لا يرغب في نشره إلا صادق تقي ولا يزهده إلا كل منافق شقي، قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد(1)انتهى.
__________
(1) إرشاد الساري (1/13-14).(1/207)
الحديث الخامس: أخرج الترمذي في باب ما جاء في أهل الشام من أبواب الفتن عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"(1)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: قال محمد بن إسماعيل (يعني البخاري) قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث انتهى. قال الإمام البخاري في صحيحه باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم، قال الحافظ في الفتح: قوله وهم أهل العلم، هو من كلام المصنف، وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث، قال وذكر (أي البخاري) في كتاب 'خلق أفعال العباد' عقب حديث أبي سعيد في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }(2)هم الطائفة المذكورة في حديث لا تزال طائفة من أمتي ثم ساقه وقال: وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر وسلمة بن نفيل وقرة بن إياس انتهى.
وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ومن طريق يزيد بن هارون مثله.(3)انتهى ما في الفتح.
قلت: ولأهل العلم في فضيلة الحديث وأهله أقوال كثيرة منثورة ومنظومة، فمن أقوالهم المنظومة ما أنشد السيد المرتضى الحسيني لنفسه في أماليه الشيخونية:
__________
(1) رواه أحمد (3/436)، الترمذي (4/420/2192) وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه (1/4-5/6) وصححه ابن حبان (16/292-293/7302-7303).
(2) البقرة الآية (143).
(3) انظر الفتح (13/363).(1/208)
عليك بأصحاب الحديث فإنهم ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم جهابذة شم سراة فمن أتى لقد شرقت شمس الهدى في وجوههم فلله محياهم معا ومماتهم ... خيار عباد الله في كل محفل نجوم الهدى في أعين المتأمل إلى حيهم يوما فبالنور يمتلي وقدرهم في الناس لا زال يعتلي لقد ظفروا إدراك مجد مؤثل غدت منهم فخرا لكل محصل رأى المرء من صب النبي المفضل وآل له والصحب أهل التفضل
وقال الإمام الشافعي مقالة أرى المرء من أهل الحديث كأنه عليه صلاة الله ما ذر شارق
ومنها ما قال السيد المرتضى الواسطي:
علم الحديث شريف ليس يدركه وجاهد النفس في تحصيله فغدا يلقى الشيوخ ويروي عنهم سندا ذاك الذي فاز بالحسنى وتم له ... إلا الذي فارق الأوطان مغتربا يجتاب بحرا وفي الأوعار مضطربا وحافظ ما روى عنهم وما كتبا حظ السعادة موهوبا ومكتسبا لقد نفى الله عنه الهم والوصبا
طوبى لمن كان هذا العلم صاحبه
ومنها ما قال بعضهم وأجاد:
أصح ما قيل بعد الذكر من خبر أعظم بها هاديا زكاه خالقه فلو تمسك خلق الله أجمعهم هذا هو العلم والبحر الذي سعدت ... حديث خير البرايا سيد البشر
تشفى الصدور به حقا وخادمه تلقي ملائكة الرحمن أجنحة يستغفر الله حيتان البحار لمن الفضل لله هذا نور من شرقت صلى عليه إله العرش ما صدحت ... بالعدل والفضل والآيات والسور بلفظة منه نالوا أشرف الوطر غواصه بأعالي جوهر الدرر يوم الورود تراه فاز بالصدر له إذا سار هذا أفخر البشر يرعاه بالفهم لو وقتا من العمر له البشائر في الآفاق بالبشر على فنن الأغصان والشجر
ومنها ما قال محمد بن محمد المديني:
أحق أناس يستضاء بهديهم خلائف أصحاب الحديث ذوو الحمى فلولاهم لم يعرف الشرع عالم وهل نشر الآثار قوم سواهم فديتهم من عصبة علم الهدى ... أئمة أصحاب الحديث الأفاضل لهم رتب عليا وأسنى الفضائل ولم تك فتوى في فنون المسائل نعم حفظوها ناقلا بعد ناقل لقد أحرزوا فضلا على كل فاضل(1/209)
هم القوم لا يشقى لعمري جليسهم ... فمن فاتهم يحظى بغير الفضائل
ومنها ما قال السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليماني رحمه الله تعالى:
سلام على أهل الحديث فإنني هم بذلوا في حفظ سنة أحمد وأعني بهم أسلاف سنة أحمد أولئك أمثال البخاري ومسلم بحور أحاشيهم عن الجزر إنما رووا وارتووا من بحر علم محمد كفاهم كتاب الله والسنة التي أأنتم أهدى أم صحابة أحمد أولئك أهدى في الطريقة منكم وشتان ما بين المقلد والهدى فمن قلد النعمان أصبح شاربا ومن يقتدي أضحى إمام معارف فمقتديا في الحق كن لا مقلدا وأقبح من كل ابتداع سمعته مذاهب من رام الخلاف لبعضها يصب عليه سوط ذم وغيبة ويعزى إليه كل ما لا يقوله فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية وليس له ذنب سوى أنه غدا ويتبع أقوال النبي محمد لئن عده الجهال ذنبا فحبذا علام جعلتم أيها الناس ديننا هم علماء الدين شرقا ومغربا ولكنهم كالناس ليس كلامهم ولا زعموا حاشاهم أن قولهم بلى صرحوا أنا نقابل قولهم ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد أولئك في بيت القصيد هم قصدي وأحمد أهل الجد في العلم والجد لهم مدد يأتي من الله بالمد وليس لهم تلك المذاهب من ورد كفت قبلهم صحب الرسول ذوي المجد وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي ومن يقتدي والضد يعرف بالضد نبيذا وفيه القول للبعض بالحد وكان أونسيا في العبادة والزهد وخل أخا التقليد في الأسر بالقد وأنكاه للقلب الموفق للرشد يعض بأنياب الأساود والأسد ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد لتنصيصه عند التهامي والنجد ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد يتابع قول الله في الحل والعقد وهل غيره بالله في الشرع من يهدي به حبذا يوم انفرادي في لحدي لأربعة لا شك في فضلهم عندي ونور عيون الفضل والحق والزهد دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي دليل فيستهدي به كل مستهدي إذا خالف المنصوص بالقدح والرد(1/210)
ومنها ما قال أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي:
عليك بأصحاب الحديث فإنهم وما النور إلا في الحديث وأهله فأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى ومن ترك الآثار ضلل سعيه ... على منهج للدين ما زال معجما إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما
وأعمى البرايا من إلى البدع انتمى
وهل يترك الآثار من كان مسلما
ومنها ما قال أبو بكر بن أبي داود السجستاني:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ولذ بكتاب الله والسنن التي ودع عنك آراء الرجال وقولهم ولا تك في قوم تلهو بدينهم إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح أتت عن رسول الله تنجو وتربح فقول رسول الله أزكى وأشرح فتطعن في أهل الحديث وتقدح فأنت على خير تبيت وتصبح
ولله در أبي بكر حميد القرطبي فلقد أحسن وأجاد حيث قال:
نور الحديث مبين فادن واقتبس واطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت فلا تضيع في سوى تقييد شارده وخل سمعك عن بلوى أخي جدل ... واحد الركاب له نحو الرضا الندس أعلامه برباها يا ابن أندلس عمرا يفوتك بين اللحظ والنفس شغل اللبيب بها ضرب من الهوس ولا أتت عن أبي هر ولا أنس ليست برطب إذا عدت ولا يبس أجدى وجدك منها نغمة الجرس وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس يجلو بنور هداه كل ملتبس حمى لمحترس نعمى لمبتئس تمحو العمى بهما عن كل ملتمس تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس من هديهم أبدا تدنو إلى قبس واندب مدارسهم بالأربع الدرس تكن رفيقهم في حضرة القدس فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر إلا هوى وخصومات ملفقة فلا يغرك من أربابها هذر أعرهم أذنا صما إذا نطقوا ما العلم إلا كتاب الله أو أثر نور لمقتبس خير لملتمس فاعكف ببابهما على طلابهما ورد بقلبك عذبا من حياضهما واقف النبي وأتباع النبي يكن والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم واسلك طريقهم والزم فريقهم تلك السعادة إن تلمم بساحتها
وقال بعض الأعلام مخمسا على هذه القصيدة:(1/211)
إن كنت تطلب علما جد ملتمس ... وحرت إذ غم عنك الرطب باليبس
فاسمع لنصح لبيب أي محترس
نور الحديث مبين فادن واقتبس واقطع علائق من تحصليه منعت ... واحد الركاب له نحو الرضى الندس تنظر شموس الهدى في الأفق قد طلعت
وحجب غي ترى عن قلبك ارتفعت
فاطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت ... أعلامه برباها يا ابن الأندلس لا تقنع الدهر من حلوى موائده
ولازم الدرس واغنم من فوائده
واشرب فديتك علا من موارده
ولا تضع في سوى تقييد شارده دع الكلام فما فيه سوى الخطل ... عمرا يفوتك بين اللحظ والنفس واحذر مجالسه تحفظ من العلل
فهو شر ابتداع جاء بالخلل
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل الله يعلم كم قد سيق من ضرر ... شغل اللبيب بها ضرب من الهوس للناس من أجله في البدو والحضر
اقبح بها بدعة تدني إلى الشرر
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر وكم دماء غدت في الناس مهرقة ... ولا أتت عن أبي هر ولا أنس فهو الكلام بكسر ساء مخرقة
فلا ترى فيه شمس الحق مشرقة
ألا هوى وخصومات ملفقة داء كما جرب في الناس منتشر ... ليس برطب إذا عدت ولا يبس وكتبه بين أهل العلم تستطر
ذر بدعة عند أهل الحق تحتقر
فلا يغرك من أربابها هذر نأوا عن الحق بالأوهام وانطلقوا ... أجدى وجدك منها نغمة الجرس في مهمه بلقع ما فيه مرتفق
وجادلوا بأباطيل بها مرقوا
أعرهم أذنا صما إذا نطقوا وابعد عن الرأي بعدا يعدك الخطر ... وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
فهو السحاب ولكن ما به مطر
الرأي أغصان سدر ما بها ثمر
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر ... يجلو بنور سناه كل ملتبس لم ينأ عنه سوى ذي الغي والهوس
إن الحديث زلال خير منبجس
فاعمل به لا تكن عنه بمنحبس
نور لمقتبس خير لملتمس وإن للدين أصلين اعتنى بهما ... حمى لمحترس نعمى لمبتئس خير القرون وجدوا في اطلابهما
يا ويل من جرا على اجتنابهما
فاعكف ببابهما على طلابهما ودع فريقا جروا على نقاضهما ... تمحو العمى بهما عن كل ملتمس ولا تملن يوما من عراضهما
وسرح الطرف وارتع في رياضهما(1/212)
ورد بقلبك عذبا من حياضهما لا تركنن لتقليد بأي زمن ... تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس فذاك جهل عظيم في الصدور كمن
إن المقلد بيت العنكبوت سكن
واقف النبي واتباع النبي تكن شد الرحال إليهم كي تجالسهم ... من هديهم أبدا تدنوا إلى قبس واحذر فديتك يوما أن تعاكسهم
لا تحسدنهم ولكن كن منافسهم
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم ... واندب مدارسهم بالأربع الدرس وكن مجالسهم تشرب رحيقهم
واطلب مودتهم وكن صديقهم
وقرهم كلهم واعرف حقوقهم
واسلك طريقهم واتبع فريقهم ... تكن رفيقهم في حضرة القدس كفيلة للنفوس باستراحتها
هي الشريعة فانظر في سماحتها
في حظرها حكمة وفي إباحتها
تلك السعادة إن تلمم بساحتها ... فحط رحلك قد عوفيت من تعس(1)
وقال ابن قتيبة رحمه الله في كتابه 'تأويل مختلف الحديث': فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته وتتبعوه من مظانه وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره وأخباره برا وبحرا، وشرقا وغربا. يرحل الواحد منهم راجلا مقويا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة. ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي. فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا، وبسق بعد أن كان دارسا، واجتمع بعد أن كان متفرقا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه عليها من كان عنها غافلا، وحكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان، وإن كان فيه خلاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2)
__________
(1) مقدمة تحفة الأحوذي (ص.10-21).
(2) ص.73-74).(1/213)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب 'نقض المنطق' وكله في ذكر مناقب أهل الحديث نقتطف منه جملا يسيرة تدل على مقصودنا. فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر، والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك. وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلا، وأعدلهم قياسا، وأصوبهم رأيا، وأسدهم كلاما، وأصحهم نظرا، وأهداهم استدلالا، وأقومهم جدلا، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاما، وأحدهم بصرا ومكاشفة، وأصوبهم سمعا ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا، وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل.(1)
__________
(1) يريد الفرق والطوائف الإسلامية.(1/214)
فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال تعالى: وَالَّذِينَ { اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى }(1)وقال: وَلَوْ { أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) }(2). وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم، فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم، وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل، وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى، وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم. فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض: فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين، لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به، ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه،كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم، حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة(3)
__________
(1) محمد الآية (17).
(2) النساء الآيات (66-68).
(3) يعني يوم الوفاة والموت إذ به تظهر الحقيقة..(1/215)
يقر بذلك، كما قال الإمام أحمد: "آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز" فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته، فأما وقت الموت فلابد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق، ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته، مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف، سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ من اليهود والنصارى عشرون ألفا، وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة، وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة، وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك، وكذلك مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة، وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه أو لاعتقاده ضعف دلالتها أو رجحان غيرها عليها.(1/216)
وكذلك المسائل الاعتقادية الخبرية لم ينبل أحد من الطوائف ورؤوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة، فالمعتزلة أولا -وهم فرسان الكلام- إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من يغطي عن مساويهم لأجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الإثبات والسنة والحديث وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن أهل السنة والحديث من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة، وقبول الأخبار، وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في علي ونحو ذلك. وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك، وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير علي وعثمان وغيرهما، وما كفروا به المسلمين من الذنوب، ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان، ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة.(1/217)
وكذلك متكلمة أهل الاثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم، ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كلاهما، وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه وينتصر له بذلك، فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه كالبيهقي، والقشيري أبي القاسم، وابن عساكر الدمشقي، إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث، أو بما رده من أقوال مخالفيهم لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين، ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك، كشيخه الأول أبي علي وولده أبي هاشم، لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات والقدر والإمامة والفضائل والشفاعة، والحوض والصراط والميزان، وله من الردود على المعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية، وبيان تناقضهم: ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك ويعرف له حقه وقدره، قَدْ { جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }(1)،
__________
(1) الطلاق الآية (3)..(1/218)
وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار، لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله هي من جنس المجاهد المنتصر، فالراد على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحي بن يحي يقول: "الذب عن السنة أفضل من الجهاد"، والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون، وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم"(1)ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا، والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة، وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا، ووجه شكره: نصره للسنة والدين، فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه، فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف، إذ الحمد إنما يكون على الحسنات، والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره، وهذا هو السنة، فالخير كله باتفاق الأمة هو فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك.
__________
(1) رواه أحمد (2/309)، البخاري (6/220-221/3062)، مسلم (1/105-106/111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(1/219)
ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة، وبهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام والمتكلمين الصفاتية، كابن كرام، وابن كلاب والأشعري، وما تكلم فيه من تكلم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه، أو لاقتضاء أصل قياس مهدوه رد ذلك، كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية، فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحة ما عارضه، لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان، فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي،وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف يعظم فيه أمر المخالفة للسنة. ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية، كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين وفي دولة السلاجقة ابتداء، وكذلك الخليفة القادر ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه أمر القاضي أبي بكر ونحوه، وهموا به حتى كان يختفي، وإنما تستر بمذهب الإمام أحمد وموافقته ثم ولي النظام وسعوا في رفع اللعنة، واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق، كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي، وفتواهما حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية، وقد قيل: إن أبا إسحاق استعفى عن ذلك فألزموه وأفتوا بأنه لا يجوز لعنتهم، ويعزر من يلعنهم، وعلل الدامغاني بأنهم طائفة من المسلمين، وعلل أبو إسحاق -مع ذلك- بأن لهم ذبا وردا على أهل البدع المخالفين للسنة، فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إلا بموافقة السنة والحديث.(1/220)
وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة، فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها: "ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان، ويعزر فاعله تعزيرا بليغا رادعا، وأما لبس الحلق والدمالج والسلاسل والأغلال والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة، وشر الأمور محدثاتها، وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار، وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك، ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور، ويعزر فاعله، ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا، والمؤمن لا يكون لعانا، وما أقربه من عود اللعنة عليه قال: ولا تحل الصلاة عند القبور، ولا المشي عليها من الرجال والنساء، ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(1)
__________
(1) رواه مالك (1/280 فتح البر) وعنه ابن سعد (2/240-241) عن عطاء بن يسار مرسلا. قال ابن عبد البر: هذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات. ورواه عبد الرزاق (1/406/1587) وابن أبي شيبة (2/150/7544) عن زيد بن أسلم مرسلا. وقوى إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (ص.25) ووصله ابن عبد البر (1/281 فتح البر) من طريق البزار من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، وأشار إلى تصحيحه..(1/221)
قال: وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر، وعادت اللعنة عليه، فمن لعن من ليس أهلا للعنة وقعت اللعنة عليه، والعلماء أنصار فروع الدين، والأشعرية أنصار أصول الدين، قال: وأما دخولهم النيران فمن لا يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال، فإنه من ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع، فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة، ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره، فإن الله يضل من لا خلاق له بما يظهر على يدي هؤلاء، وأما من تمسك بالشرع الشريف: فإنه لو رأى من هؤلاء من يطير في الهواء أو يمشي على الماء فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد، انتهى.
فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن، وأمر بتعزير اللاعن لأجل ما نصروه من أصول الدين، وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث، والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث، ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة، وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد، ولهذا قال أبو القاسم ابن عساكر في مناقبه: ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القشيري. ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجد من يمدح الأشعري بمدحة إلا إذا وافق السنة والحديث ولا يذمه من يذمه إلا بمخالفة السنة والحديث.(1/222)
وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث، واتفاق شهادتهم على أن الحق في ذلك، ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه، فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه، والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره، وأما مثل الأستاذ أبي المعالي وأبي حامد ونحوهما ممن خالفوا أصوله في مواضع: فلا تجدهم يعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث، وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في الفقه الموافق للسنة والحديث، بما ذكروه في الأصول مما يوافق السنة والحديث، وما ردوه مما يخالف السنة والحديث وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإلا لم يصح ذلك.
وكانت الرافضة والقرامطة -علماؤها وأمراؤها- قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية، حتى غلبت على الشام والعراق، وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة، فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق، وقهروهم بخراسان، وحجروهم بمصر، وكان في وقتهم من الوزراء: مثل نظام الملك، ومن العلماء: مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك. وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه كأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي ونحوهما، لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث وأما الأكابر مثل ابن حبيب وابن سحنون ونحوهما فلون آخر.(1/223)
وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان أبو محمد -ابن حزم- في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره،لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى،وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب مضمونا إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر، وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء.(1/224)
وتعظيم أئمة الأمة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال أكثر من أن يذكر هنا، وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام و الإيمان، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل، فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله، والرشيد كان كثير الغزو والحج، وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الفتنة هاهنا"(1)ظهر حينئذ كثير من البدع، وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين الهند، وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس، وأحسنهم إيمانا وعدلا وجودا، فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثيري الإضاعة لمواقيت الصلاة، كما جاءت فيهم الأحاديث: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة"(2)
__________
(1) رواه أحمد (2/18)، البخاري (6/259/3104) ومسلم (4/2228/2905) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه أحمد (5/159)، البخاري في الأدب المفرد (954)، مسلم (1/448/648)، أبو داود (1/299/431)، الترمذي (1/332-333/176)، النسائي (2/448/858) وابن ماجة (1/398/1256) من حديث أبي ذر رضي الله عنه..(1/225)
لكن كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة، وكانت الشريعة أعز وأظهر، وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم، وفي دولة أبي العباس المأمون ظهر الخرمية ونحوهم من المنافقين وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة، فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب كان من أثر ذلك: ما ظهر من استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا، وإنما هو جهل وظلم، إذ التسوية بين المؤمن والمنافق والمسلم والكافر أعظم الظلم، وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل، فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه. وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم، وكذلك في أيام المعتضد والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك.(1/226)
وفي دولة بني بويه ونحوهم: الأمر بالعكس، فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة. ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه كان الإسلام والسنة في مملكته أعز، فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل ما لم ينشره مثله فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة.
وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان بالشام عز أهل الإسلام والسنة في زمنه، وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم، وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هبيرة لهم، فإنه كان من أمثل وزراء الإسلام، ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره. وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال، ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض، كذلك فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع، وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير، وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد لأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال، وهذا باب واسع كما قدمناه.(1/227)
وجميع الطوائف المتقاتلة من أهل الأهواء تشهد لهم بأنهم أصلح من الآخرين وأقرب إلى الحق، فنجد كلام أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلام أهل الملل مع المسلمين وحالهم معهم. وإذا قابلنا بين الطائفيتن -أهل الحديث، وأهل الكلام- فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول: إنما يعيبهم بقلة المعرفة أو بقلة الفهم.
أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو بآثار لا تصلح للاحتجاج.
وأما الثاني: فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضين ولا يهتدون للخروج من ذلك.
والأمر راجع إلى شيئين، إما زيادة أقوال غير مفيدة تظن أنها مفيدة،كالأحاديث الموضوعة، وإما أقوال مفيدة لكنهم لا يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أولا إلى صحة الحديث، وثانيا إلى فهم معناه، كاتباع القرآن، فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين، ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا، ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم، يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الأصول والفروع وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة.
ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وربما تأولوه على غير تأويله ووضعوه على غير موضعه، ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم، ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا، وقد يكون منكرا من القول وزورا، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم، وقد رأيت من هذا عجائب، لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علما، لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.(1/228)
وبيان ذلك: أن ما ذكر من فضول الكلام الذي لا يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق وفي أهل الكلام والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث، فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج هؤلاء بالحدود والأقيسية الكثيرة العقيمة التي لا تفيد معرفة، بل تفيد جهلا وضلالا، وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر، وما أحسن قول الإمام أحمد: "ضعيف الحديث خير من رأي فلان".
ثم لأهل الحديث من المزية: أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق، وقد آمنوا بذلك، وأما المتكلمة فيتكلفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حق، وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة، بل إما في تأييده وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقة والثابتة.(1/229)
إذا عرف هذا فقد قال الله تعالى عن أتباع الأئمة من أهل الملل المخالفين للرسل: فَلَمَّا { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ }(1)، وقال تعالى: يَوْمَ { تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) -إلى قوله- وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) }(2)، ومثل هذا في القرآن كثير. وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك، فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين، وخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فهو الأمين على جميع الكتب وقد بلغ أبين البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعملا.
__________
(1) غافر الآية (83).
(2) الأحزاب الآيات (66-68).(1/230)
وأما غير أتباعه من أهل الكلام، فالكلام في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم، وهذا يدخل فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلاسفة، فالكلام في هذا المقام واسع لا ينضبط هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم، لا يكاد -والله أعلم- تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك. وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم -وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام- كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل، إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة وإما أن تكون المسألة باطلا، فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا.(1)
__________
(1) نقض المنطق (ص.7-24).(1/231)
وقال في موضع آخر رحمه الله في الكتاب نفسه: ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول وعلم خاصته مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ ابن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل سعد ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول وأعلمهم بباطن أموره، وأتبعهم لذلك، فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم علم خاصة الرسول وبطانته، كما أن خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمة الإسلام مثل أئمة العلماء، فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره مثل مالك ابن أنس، فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أموره اعتمد أتباعه على روايته، حتى إنه تؤخذ عنه مسائل السر التي رواها ابن أبي الغمر، وإن طعن بعض الناس فيها، وكذلك أبو حنيفة، فأبو يوسف ومحمد وزفر أعلم الناس به وكذلك غيرهما.(1/232)
وقد يكتب العالم كتابا أو يقول قولا فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فرب مبلغ أوعى من سامع"(1)، لكن بكل حال لابد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين بحال المبلغ عنه، كما يكون في أتباع الأئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم، ومن المستقر في أذهان المسلمين: أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقا، وهو بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها وزكا الناس بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: وَاذْكُرْ { عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) }(2)، فالأيدي القوة في أمر الله، والأبصار البصائر في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهما خاصا،كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه"(3)،
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.115).
(2) ص الآية (45).
(3) رواه أحمد (1/79)، البخاري (1/271/111)، الترمذي (4/17/1412)، النسائي (8/392/4758) وابن ماجة (2/887/2658) عن علي رضي الله عنه من قوله..(1/233)
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ورووها كل بحسبه، قَدْ { عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } .(1)
وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(2). وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه: "سمعت ورأيت" وسمع الكثير من الصحابة، وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها، قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمعوا ما سمع وحفظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، و ذَلِكَ { فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) } .(3)
__________
(1) البقرة الآية (60).
(2) تقدم تخريجه (ص.115).
(3) الجمعة الآية (4).(1/234)
وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه، من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة الى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها. وهكذا ورثتهم من بعدهم اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيال فلسفي، ولا رأي قياسي، ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات، لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة، فإن المرء على دين خليله: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }(1)، وبكل حال فهم أعلم الأمة بحديث الرسول، وسيرته ومقاصده وأحواله. ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا، وكذلك أهل القرآن. وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم. ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونهما هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء، هذا أمر محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيرا من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم.(2)
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) نقض المنطق (ص.77-81).(1/235)
وبعد نقلنا لبعض كلام أهل العلم في فضيلة الحديث وأهله، ننقل بعض ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلم القارئ من المحق أرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه المهديون المرضيون والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، أم الغزالي وأصحابه الذين يصرفون المسلمين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوساوسهم الشيطانية التي أمرنا أن نستعيذ منها في سورة بكاملها من سور القرآن الكريم، وهي رقية أهل السنة والجماعة قال الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) }(1)، وقد كتب إمام من أئمة السنة كتابا سماه 'ذم الموسوسين'، وهؤلاء منهم، وقد كتب العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه القيم 'إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان' وذكر فيه أحوال هؤلاء الموسوسين، وقد كتب العلامة ابن الجوزي كتابا قيما بين فيه تلبيس إبليس على هؤلاء وبين أحوالهم، وتخبطاتهم وشطحاتهم، فمن شاء طلب هذه الكتب فإنها نافعة بإذن الله في معالجة هذا الوسواس الذي ضيع للمسلمين عقولهم ودينهم، وجنى عليهم من جميع الوجوه، وما يزالون حتى الآن يرغبون في هذا الوسواس رغم وضوح ضلاله وبيان فساده ولكن بعد الناس عن الكتاب والسنة جعلهم يجرون وراء كل ناعق، ولو خالف ما هو معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة، كهذه المسألة التي نحن بصدد علاجها.
__________
(1) سورة الناس.(1/236)
أخرج الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"(1). وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(2). وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعير وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: "أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه"(3).
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.115).
(2) رواه أحمد (2/372)، البخاري في الأدب المفرد (38)، مسلم (3/1255/1631)، أبو داود (3/300/2880)، الترمذي (3/660/1376) والنسائي (6/561-562/3653) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد (5/37و39)، البخاري (1/209/67)، مسلم (3/1305-1306/1679)، أبو داود (3/485/1948)، ابن ماجة (1/85/233) والنسائي في الكبرى (3/432-433/5850-5851) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه(1/237)
وأخرج أيضا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكان منها نقية، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجاديب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".(1)
ومن الطامات: الأخذ عن الرهبان:
__________
(1) رواه أحمد (4/399)، البخاري (1/232/79)، مسلم (4/1787-1788/2282) والنسائي في الكبرى (3/427/5843) عن أبي موسى رضي الله عنه.(1/238)
قال الغزالي: قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان، دخلت عليه في صومعته فقلت: يا سمعان، منذ كم أنت في صومعتك؟ قال: منذ سبعين سنة، قلت: فما طعامك، قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا، قلت: أحببت أن أعلم، قال: في كل ليلة حمصة، قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذا الحمصة، قال: ترى الدير الذي بحذائك، قلت: نعم، قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا، فيزينون صومعتي، ويطوفون حولها، ويعظموني، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرت عز تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: حسبك أو أزيدك، قلت: بلى، قال أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي: ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا: يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ، قلت: من قوته، قالوا: فما تصنع به ونحن أحق به، ثم قالوا: ساوم، قلت: عشرون دينارا: فأعطوني عشرين دينارا، فرجعت إلى الشيخ فقال: يا حنيفي ما الذي صنعت، قلت: بعته منهم، قال: بكم ؟، قلت: بعشرين دينارا، قال: أخطأت لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك، هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة.(1)
" التعليق:
__________
(1) الإحياء (3/334).(1/239)
هذه هي علوم القوم ومصادرهم التي يستقون منها المعرفة، ولا أدري ماذا سيقول المحبون لأبي حامد الغزالي، هل سيؤولون هذه القصة ويخرجونها على ما تمليه عليهم أهواؤهم، أو سيقولون الحق؟ ويضربون بالإحياء عرض الحائط، ويقولون هذا ليس من ديننا. فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب على عمر لما رآه يقرأ من كتب أهل الكتاب. فقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني".(1)
__________
(1) رواه أحمد (3/387) وابن أبي شيبة (9/47) والدارمي (1/115) والبيهقي في الشعب (1/200) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/805-806/1497) وابن أبي عاصم (1/27/50) والبزار (1/78-79/124 كشف الأستار). من حديث جابر رضي الله عنه وفي إسناده مجالد بن سعيد وله شواهد. انظر الإرواء (1589).(1/240)
وقد بوب عليه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن: سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، ثم قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك عن يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آَمَنَّا { بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }(1).(2)ثم قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم أخبرنا ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.(3)
__________
(1) البقرة الآية (136).
(2) البخاري (8/215-216/4485).
(3) البخاري (13/411-412/7363).(1/241)
فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإمام البخاري رحمه الله يبوب في صحيحه على هذه المسألة بباب طويل عريض، فمن أحق بالهدى، هل هؤلاء أم أبو حامد الذي يسوق لنا من هذه الخرافات السمجة التي يتنزه العقلاء عن حكايتها فضلا عن أهل العلم، فضلا عمن يعنون عنوانا يسميه إحياء علوم الدين، فهل في المعقول أن يعيش شخص في كل يوم بحمصة مدة سبعين سنة، ولكن الصوفية يسوقون كل كذب ويصدقون به كهذا. ثم إن الراهب لم يذكر له إلا سفاسف الأمور التي ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها فضلا عن أهل العلم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فما هذا الطواف المذكور في القصة، فإن كان طواف عبادة فهو شرك بالله، وهو غالب ما يدل عليه السياق، ثم إعطاؤه السائل الحمص ليذهب به إلى أهل الدير فيه من البدع والشرور ما فيه، فهذا طريق الشرك إذا لم يكن هو، وهكذا يروج الصوفية مثل هذه الأباطيل والخرافات والضلالات التي ضلت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فوا حسرتاه على علماء الإسلام الذين تركوا رواج هذا الضلال على المسلمين، وزكوه وأحيوه وما يزالون.
من الطامات: مخالفة هدي الأنبياء والرسل في طلب ما عند الله من الفضل والخير:
قال الغزالي: وقال الحسن: إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه، وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطا. وكان بعضهم يقول في دعائه: يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني.(1)
" التعليق:
__________
(1) 3/210).(1/242)
هكذا يطلق الغزالي النقل عن التابعين، ولا يبين المصدر والسند حتى نستطيع أن نتعامل مع النص إما بقبوله أو برفضه. والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة هو الزهد والإعراض عما حرم الله والرغبة فيما عند الله من الفضل، وآيات القرآن كثيرة وكثيرة جدا، قال الله تعالى: فَإِذَا { قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) }(1)، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }(2)، وقال تعالى: قُلْ { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ }(3).
__________
(1) الجمعة الآية (10).
(2) البقرة الآية (168).
(3) الأعراف الآية (32).(1/243)
وفي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة".(1)وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه"(2). وفي البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"(3). وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أيوب يغتسل عريانا، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك"(4). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"(5).
__________
(1) رواه أحمد (2/67)، البخاري (3/376/1429) ومسلم (2/717/1033)، أبو داود (2/297/1648) والنسائي (5/65/2532) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفي الباب عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(2) رواه أحمد (2/243)، البخاري (4/381/2074)، مسلم (2/721/1042) والنسائي (8/98/2583) عن أبي هريرة.
(3) رواه أحمد (4/131و132)، البخاري (4/380/2072) وابن ماجة (2/723/2138) بمعناه، كلهم من حديث المقداد.
(4) رواه أحمد (2/314)، البخاري (6/518-519/3391) والنسائي (1/219-220/407) من حديث أبي هريرة.
(5) رواه أحمد (4/197) والبخاري في الأدب المفرد (299) وابن حبان (8/6-7/3210-3211) والحاكم (2/2) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. كلهم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.(1/244)
وهذه المسألة لا تحتاج إلى كثرة سياق الأدلة، فإن المنهاج النبوي من أوله إلى آخره قائم على تقوية أتباعه وأمرهم بأخذ أسباب القوة وبأحدثها لأن أصحاب المنهاج النبوي هم أمة الجهاد والمواجهة، فكيف يدخل لنا الغزالي هذه المفاسد باسم إحياء علوم الدين لتضعف قوتنا، ويعلو عدونا ويسيطر علينا. وكان ذلك كذلك لما انتشرت هذه الكتب الرديئة والأفكار الرذيلة، والتي أبعدت المسلمين عن واقع الحياة وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم إذ يقول: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ولا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".(1)أخرجه مسلم.
من الطامات: التنقيص من شأن النبوة:
__________
(1) رواه أحمد (2/366)، مسلم (4/2052/2664)، ابن ماجة (1/31/79) والنسائي في عمل اليوم والليلة (625) من حديث أبي هريرة.(1/245)
قال الغزالي: وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه، فامتنع عليها، وخرج هاربا من منزله وتركها فيه. قال سليمان: فرأيت تلك الليلة في المنام يوسف عليه السلام وكأني أقول له أنت يوسف؟ قال: نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم، أشار إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ { هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }(1). وعنه أيضا ما هو أعجب من هذا.
__________
(1) يوسف الآية (24).(1/246)
وذلك أنه خرج من المدينة حاجا ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئا، وجلس سليمان في الخيمة وكان من أجمل الناس وجها وأورعهم، فبصرت به أعرابية من قلة الجبل وانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه وعليها البرقع والقفازان، فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت: أهنئني، فظن أنها تريد طعاما، فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها، فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله، فقال: جهزك إلي إبليس ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب، فلم يزل يبكي فلما رأت منه ذلك سدلت البرقع على وجهها وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها، وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه فقال: ما يبكيك؟ قال: خير، ذكرت صبيتي، قال: لا والله إن لك قصة، إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية، فوضع رفيقه السفرة وجعل يبكي بكاء شديدا فقال سليمان: وأنت ما يبكيك؟ قال: أنا أحق بالبكاء منك لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها، فلم يزالا يبكيان فلما انتهى سليمان إلى مكة فسعى وطاف ثم أتى الحجر فاحتبى بثوبه فأخذته عينه فنام، وإذا رجل وسيم طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة: فقال له سليمان: رحمك الله من أنت؟ فقال له: أنا يوسف، قال: يوسف الصديق؟ قال: نعم، قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعجبا، فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب.(1)
" التعليق:
__________
(1) الإحياء (3/105).(1/247)
هذا أمر عجيب من الغزالي أن يستره باسم إحياء علوم الدين، وهو في الحقيقة طعن في النبوة وأصحابها بطريق قصصي يدخل على مرضى القلوب الذين لا ميزان شرعي عندهم. فالنبوة مكانة لا يصل إليها أحد إلا من اختاره الله للنبوة، هذا هو المقرر عند علماء الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلفهم وخلفهم، أما المتصوفة والفلاسفة منهم فإدراك النبوة عندهم ومقامها أمر سهل ويسير، وذلك بالمجاهدات والخلوات والسياحة والجوع والسهر وغير ذلك من تعذيب النفس مما نهى الله عنه، ولذلك يقول قائلهم في تفضيل الولي على النبي:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
فلذا لا يستغرب أن يذكر الغزالي هذه القصص التي مفادها أفضلية سليمان بن يسار الرجل الصالح على يوسف النبي الرسول سبط إبراهيم الخليل عليه السلام، والذي خصص الله له سورة بكاملها في القرآن لعظم شأنه عنده. وحاشا سليمان بن يسار أن يصدر منه هذا الذي حكاه الغزالي عنه، فإن سليمان بن يسار من أجل العلماء ومن خيرتهم، ولكن هذه القصة وأمثالها من وضع الوضاعين، ولذا لا يذكر الغزالي المصادر التي ينقل منها ولا الأسانيد التي يمكن أن يرجع إليها، فيلقي بمثل هذا إلى الجهلة والغفلة الذين لا يهمهم صحة القصة أو بطلانها، وإنما يهمهم إشباع رغبة الهوى ومتابعة الشيطان في تخطيطه، وعلى فرض صحة هذه القصة فإن هذه منامة شيطانية لا تجوز حكايتها لأنها تخالف ما عند المسلمين من الأصول الصحيحة المعلومة عندهم بالضرورة، فلا مقارنة عندهم بين نبي وغيره في الفضل، بل نهينا أن نفضل الأنبياء على بعضهم(1)فضلا عما هو دونهم، والله المستعان.
ومن الطامات: مساوئ الأخلاق والكبائر عند الصوفية من الولاية والمقامات:
__________
(1) أحمد (2/264)، البخاري (6/557/3414)، مسلم (4/1843-1844/2373)، أبو داود (5/53/4671) والنسائي في الكبرى (6/448/11458) من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تفضلوا بين أنبياء الله ... ".(1/248)
قال الغزالي: كما حكي عن بعضهم، أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملإ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيضه حتى صار الحلم عادة له، بحيث كان يضرب به المثل.(1)
" التعليق:
أقول: فالغزالي يذكر هذا من المقامات، ومن صفات الأولياء، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك كبيرة من الكبائر. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"(2)فكيف يتقرب هؤلاء إلى الله بما يخالف نصوص السنة الصحيحة الصريحة ويجعلون ذلك مكرمة لهم ودينا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا"(3). وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة"(4). فهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح، ولكن القوم يرون الهداية في خلافه، والغزالي يسجل ذلك على أنه من إحياء علوم الدين. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم"(5).
__________
(1) 3/62).
(2) رواه أحمد (2/164)، البخاري (10/494/5973)، مسلم (1/92/90)، أبو داود (5/352/5141) والترمذي (4/276/1902).
(3) أحمد (2/337)، مسلم (4/2005/2597) والبخاري في الأدب المفرد (317).
(4) أحمد (6/448)، مسلم (4/2006/2598)، البخاري في الأدب المفرد (316) وأبو داود (5/211-212/4907).
(5) أحمد (2/235)، مسلم (4/2000/2587)، البخاري في الأدب المفرد (423)، أبو داود (5/203/4894) والترمذي (4/310/1981).(1/249)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر(1).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر السباب فسوقا وانحرافا عن الدين وهؤلاء يعتبرونه قربة وديانة، ومثالا للزهد والاستقامة والغزالي يعتبره من إحياء علوم الدين. وعن أبي جري جابر بن سليم رضي الله عنه قال: رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: السلام عليك، قال: قلت أنت رسول الله، قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلت راحلتك، فدعوته ردها عليك، قال: قلت اعهد إلي، قال: لا تسبن أحدا، فما سببت بعده حرا ولا عبدا، ولا بعيرا ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، إن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه.(2)
__________
(1) أحمد (1/385)، البخاري (10/569/6044)، مسلم (1/81/64)، الترمذي (4/311/1983)، النسائي (7/137-139/4116-4124) وابن ماجة (1/27/69).
(2) أحمد (5/63-64)، البخاري في الأدب المفرد (1182)، أبو داود (4/344-345/4084) والترمذي (5/68/2722) مختصرا وقال: "حسن صحيح". وصححه ابن حبان (2/279-281/521-522).(1/250)
قلت: هكذا المنهاج النبوي، المعاهدة على ترك السباب والمشاتمة والأمر بالصبر لمن عيرك بما يعلم فيك حتى تكمل أخلاق المسلمين وتكون المثال الأعلى، وأما الغزالي وجماعته فيرون خلاف ذلك ويذكرون تلك القصص الباردة التي مفادها الرد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري ومسلم من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على ملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمنا فهو كقتله، ومن قذف بكفر فهو كقتله".(1)
وفي صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد".(2)إلى غير ذلك من الأحاديث.
__________
(1) أحمد (4/33و34)، البخاري (10/570/6047)، مسلم (1/104/110)، أبو داود (3/573-574/3257)، الترمذي (4/98/1543)، النسائي (7/9/3779) وابن ماجة (1/678/2098).
(2) أحمد (4/429)، مسلم (4/2005/2596)، أبو داود (3/56/2561) والنسائي في الكبرى (5/252/8816).(1/251)
وفي كتاب الله يقول الله تعالى: * { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ }(1)وفيه: وَإِنْ { عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) }(2)وفيه: وَلَمَنْ { صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) }(3)وفيه: خُذِ { الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) }(4)وفي صفات عباد الرحمن في القرآن وَإِذَا { مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) }(5)وفيه: وَاصْبِرْ { عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) }(6)والقرآن والسنة مملوآن بمثل هذا، والغزالي وأصحابه يردون على هذا باسم إحياء علوم الدين، والذين يرغبون الناس في قراءة هذا الكتاب واقتنائه هم شركاء لهم في كل وقت وحين.
ومن الطامات: الأخذ عن الهنود منهاج الصوفية ومخالفة النبوة:
قال الغزالي: وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على نصبة واحدة، وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع.(7)
" التعليق:
__________
(1) النساء الآية (148).
(2) النحل الآية (126).
(3) الشورى الآية (43).
(4) الأعراف الآية (199).
(5) الفرقان الآية (72).
(6) لقمان الآية (17).
(7) 3/62).(1/252)
هكذا يصرح الغزالي بالمصدر الذي يأخذ منه دينه وسلوكه، ولا شك أن هذا الفعل إن صح فعله عمن ذكره مخالف لمنهاج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالوسطية في كل شيء، وجاء بالسماحة ورفع الحرج عن الأمة، وجاء برفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. وفي البخاري عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".(1)
قلت: ماذا لو رأى أو سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكاه الغزالي من الوقوف على الرؤوس، فهو يكره لأمته التنطع والتشدد، ويعتبر ذلك خروجا عن منهاجه وعن ديانته السمحة التي جاء بها. وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة".(2)وفي مسند أحمد والأدب المفرد للبخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.(3)وفي المسند أيضا من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم هديا قاصدا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه"(4)
__________
(1) أحمد (6/56و61) والبخاري (1/95/20).
(2) البخاري (1/126/39) والنسائي (8/496-498/5049).
(3) ذكره البخاري في صحيحه (1/126فتح) تعليقا. ووصله في الأدب المفرد رقم: (287) وأحمد (1/236) والبزار (1/58/78 كشف الأستار) والطبراني في الكبير (11/227/11571، 11572) قال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن.
(4) رواه أحمد (5/350) وابن أبي عاصم في السنة (1/46/95) والبيهقي (3/18) وصححه ابن خزيمة (2/199/1179) والحاكم (1/312) ووافقه الذهبي.(1/253)
قلت: كل هذا لا يرتضيه الغزالي ويرى خلافه في المناهج الهندية الكافرة التي لم تهتد بنور النبوة. وفي الصحيحين عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قلت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: "مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه"(1). وروى البخاري عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟، قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له:كل، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان، إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان".(2)
ومن الطامات: تعريض الإنسان نفسه لقتلها وهو أمر محرم:
قال الغزالي: وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب، فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج.(3)
" التعليق:
__________
(1) رواه أحمد (6/51)، البخاري (1/136/43)، مسلم (1/542/785)، النسائي (3/241-242/1641) وابن ماجة (2/1416/4238).
(2) رواه البخاري (4/262-263/1968) والترمذي (4/526/2413).
(3) الإحياء (3/62).(1/254)
قلت: وهذا أمر محرم لا يجوز فعله، والله تبارك وتعالى حرم علينا أن نعرض أنفسنا إلى التهلكة وإلى كل ما من شأنه أن يضر جزءا من البدن عاجلا أو آجلا، قال الله تعالى: وَلَا { تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }(1)والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب. والصلاة على عظم شأنها لا يجوز للجنب الاغتسال لها في وقت البرد إذا كان الماء يضر به لبرودته، فيتحول إلى التيمم الذي لا ضرر فيه، وقد أخذ بذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قصة عمرو بن العاص لما أجنب تيمم واستدل بقوله تعالى: وَلَا { تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) }(2)وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك(3). ورخص للمسافر في الإفطار، وهذه الصور كثيرة في الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء رحمة لأمته ولم يبعث بشقائهم وأمرِهم بقتل أنفسهم وتعريضهم إلى التهلكة كما يذكر لنا الغزالي عن هؤلاء المنافقين ويعتبره من مناقبهم ومن ولايتهم. وفي فتح الباري من حديث زهير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم من ركب البحر إذا ارتج فقد برئت منه الذمة، وفي رواية فلا يلومن إلا نفسه. أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث. وقال الحافظ: وإسناده حسن.(4)
__________
(1) البقرة الآية (195).
(2) النساء الآية (29).
(3) ذكره البخاري في صحيحه (1/598 فتح) تعليقا ووصله أحمد (4/203-204) وأبو داود (1/238/334) والحاكم (1/177) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان (4/142-143/1315) وانظر الإرواء رقم (154).
(4) رواه أبو عبيد في غريب الحديث (1/275) عن زهير بن عبد الله مرسلا ورواه أحمد (5/271) والبخاري في الأدب المفرد رقم: (1194) والتاريخ الكبير (3/426) عن زهير بن عبد الله عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر الصحيحة رقم (828).(1/255)
قال ابن عبد البر في التمهيد: ولا يجوز عند أهل العلم ركوب البحر في حين ارتجاجه، ولا في الزمن الذي الأغلب منه عدم السلامة فيه والعطب والهلاك، وإنما يجوز -عندهم- ركوبه في زمان تكون السلامة فيه الأغلب، والله أعلم.(1)
فيلاحظ القارئ أن هؤلاء الذين يزعمهم الغزالي أنهم الأولياء وأصحاب المقامات في شق والنبي صلى الله عليه وسلم في شق آخر، فكيف يكون هذا إحياء علوم الدين، وهو في الحقيقة رد صريح على من جاء بعلوم الدين، والله المستعان.
ومن الطامات: الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه من الأنبياء والصحابة والتابعين ومخالفة الفطر السليمة والدعوة إلى الزنا بجميع أنواعه:
قال الغزالي: اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي ألا يشغل نفسه بالتزويج فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك، ويستجره إلى الأنس بالزوجة. ومَن أنس بغير الله تعالى شغل عن الله، ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى فلا تقاس الملائكة بالحدادين. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا، وقال: ما رأيت مريدا تزوج فثبت على حاله الأول، وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها؟ فقال: لا آنسني الله بها، أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى، وقال أيضا: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم. إلى أن قال: فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة.(2)
" التعليق:
__________
(1) 3/12) فتح البر.
(2) 3/101).(1/256)
وفي هذا الطامة من المفسدة والمخالفة لشرع الله ما هو واضح، وقد سبق أن ذكرنا بعض ذلك فلنصف ما حضرنا من الأدلة من الكتاب والسنة حتى يعلم القارئ مخالفة هؤلاء لشرع الله جملة وتفصيلا، وأن كتابة هذه العناوين إنما هي خدعة للجاهلين والغافلين عن منهاج الكتاب والسنة. جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"(1)وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"(2)وفي الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف"(3)
__________
(1) رواه أحمد (1/378)، البخاري (9/132/5065)، مسلم (2/1018-1019/1400)، أبو داود (2/538-539/2046)، الترمذي (3/392/1081)، النسائي (6/364-366/3206-3211) وابن ماجة (1/592/1845).
(2) رواه أحمد (2/168)، مسلم (2/1090/1467)، النسائي (6/377/3232) وابن ماجة (1/596/1855).
(3) رواه أحمد (2/251)، الترمذي (4/157-158/1655) والنسائي (6/323/3120) وابن ماجه (2/841-842/2518) وصححه ابن حبان (9/339/4030) والحاكم (2/160) على شرط مسلم ووافقه الذهبي..(1/257)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبدا، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".(1)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والمراد من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل، وقوله: "فليس مني" إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى: "فليس مني" أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى "فليس مني" ليس على ملتي لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه".(2)
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.39).
(2) 9/131).(1/258)
وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"(1)وفي سنن أبي داود من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها، فنهاه ثم أتاه الثانية، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم".(2)أما القرآن فقد قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا { الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }(3)وقال تعالى أيضا: فَلَا { تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }(4)وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم: وَلَقَدْ { أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }(5)وقال تعالى: وَالَّذِينَ { يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }(6)وقال تعالى: وَمِنْ { آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }(7)
__________
(1) رواه أحمد (2/428)، البخاري (9/163-164/5090)، مسلم (2/1086/1466)، أبو داود (2/539-540/2047)، النسائي (6/376/3230) وابن ماجة (1/597/1858).
(2) رواه أبو داود (2/542/2050) والنسائي (6/373-374/3227) وصححه ابن حبان (9/363-364/4056-4057) والحاكم (2/162) ووافقه الذهبي.
(3) النور الآية (32).
(4) البقرة الآية (232).
(5) الرعد الآية (38).
(6) الفرقان الآية (74).
(7) الروم الآية (21)..(1/259)
وقال تعالى: فَانْكِحُوا { مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }(1)، وفي البخاري بسنده إلى عطاء قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا فإنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة(2). وفي البخاري أيضا عن سعيد بن جبير قال لي ابن عباس: "هل تزوجت، قلت: لا، قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء".(3)
هذه هي آيات القرآن، وهذه نصوص السنة، فمن أحق بالاتباع هل نصوص القرآن والسنة أم كلام الغزالي الذي فيه من المفاسد والآفات:
" الأولى: الرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما أمر الله به، وقد تقدم ما قاله الحافظ فيمن ترك ذلك تنطعا وزهدا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن في هذا من المفسدة إلا أنه داخل تحت عموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا } .(4)
" الثانية: قطع النسل الذي هو من أهم أهداف الزواج، وهو مخطط قديم في إضعاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم بجميع الوسائل، وما يزال هذا المخطط ينفذ ويحاط بمجموعة من المغريات، وفي نفس الوقت من التخوفات، فالنبي صلى الله عليه وسلم يباهي بأمته يوم القيامة الأمم، وهؤلاء يزهدون في ذلك.
" الثالثة: التشبه بالرهبان والهنود، هذه سنة رهبانية شيطانية هندية هندوكية، تبناها الصوفية منهاجا لهم.
__________
(1) النساء الآية (3).
(2) رواه أحمد (1/231)، البخاري (9/139/5067)، مسلم (2/1086/1465) والنسائي (6/360/3196).
(3) رواه أحمد (1/231) والبخاري (9/140/5068)
(4) المائدة الآية (87).(1/260)
" الرابعة: إشاعة الفاحشة في المجتمع وما عرف اللواط في العالم الإسلامي إلا بقلة الزواج، ولهذا يكثر اللواط في كثير من الطرق الصوفية بل بعضهم يرى اللواط قربة، ويعرف ذلك من درس أحوالهم، وعرف أشخاصهم والله تعالى يقول في القرآن: إِن { الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } .(1)
" الخامسة: وهي خطيرة قول الغزالي: ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذه تهمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتبادر من العبارة إلا ذلك، ويكفي الإنسان خزي وعار أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نسمع إلى الغزالي إذا حاول أن يهدئ من هذه العبارة فمهما لطف من القول، فإن هذه كبيرة وكبيرة جدا.
ومن الطامات: تصريحه بأن رؤية أبي يزيد مرة واحدة أنفع من رؤية الله سبعين مرة:
__________
(1) النور الآية (19).(1/261)
قال الغزالي: وحكي أن أبا تراب النخشبي كان معجبا ببعض المريدين، فكان يدنيه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجدته فقال له أبو تراب يوما: لو رأيت أبا يزيد؟ فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: "لو رأيت أبا يزيد" هاج وجد المريد، فقال: ويحك ما أصنع بأبي يزيد، قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد، قال أبو تراب: فهاج طبعي، ولم أملك نفسي فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة. قال: فبهت الفتى من قوله وأنكره فقال: وكيف ذاك؟ قال له: ويلك أما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره فعرف ما قلت فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره ليخرج إلينا من الغيضة وكان يأوي إلى غيضة فيها سباع، قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره فقلت للفتى: هذا أبو يزيد فانظر إليه، فنظر إليه الفتى فصعق فحركناه فإذا هو ميت، فتعاونا على دفنه، فقلت لأبي يزيد: يا سيدي نظره إليك قتله، قال: لا، ولكن كان صاحبكم صادقا، واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه، فلما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله لأنه في مقام الضعفاء المريدين فقتله ذلك.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/356).(1/262)
فلا أدري كيف تسجل هذه الوقاحات وهذه البلايا والمصائب في كتب المسلمين، وتدخل ضمن عنوان إحياء علوم الدين، وضررها على الدين واضح بل ضررها على الإنسانية جمعاء، مسلمهم وكافرهم. عقلية فاسدة وقصص لا معنى لها وكفريات لا حد لها ولا مقدار. فلا أدري لو سمع الصحابة ومن بعدهم من التابعين، والأئمة المرضيون مثل هذه الخزعبلات ماذا يقولون؟ فكيف بنبي من الأنبياء وهو من أولي العزم من الرسل يطلب رؤية ربه ويعتبرها من أسعد ما يصل إليه، ولا تتحقق له لضعفه وعدم قدرته على ذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم جعل ذلك ذروة أصول دينه، والقرآن اعتبر رؤية الله تعالى نهاية السعادة هذا من جهة. ومن جهة أخرى، هل هناك من يقارن بين الخالق والمخلوق، والمقارنة بينهما والتسوية نهاية التشبيه الذي أجمع العلماء على كفر صاحبه، وليس في علماء المسلمين بحمد الله من يفعل ذلك إلا الصوفية أهل الحلول والاتحاد الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق، وضلال هذا الكلام واضح لكل ذي لب سليم، إلا من مسخ قلبه وانقلبت فطرته وسقط ميزانه، فهو الذي يعجب بهذه الترهات ويتأولها ليعتذر لهؤلاء الضلال، والله المستعان.
ومن الطامات: التمدح بالظلم والظالمين:
قال الغزالي: ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم، فسكت، ثم قال: إن لله عبادا في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة ولكن لا يفعلون، قيل: لم ؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها حتى قال: ولو سألوه ألا يقيم الساعة لم يقمها.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/356).(1/263)
إذا قرأت هذه القصة تبين لك المنهاج الصوفي الذي أدخل على المسلمين كل المصائب والبلايا والفساد الخلقي والسياسي. لو فتحنا كتاب الله من أوله إلى آخره كم نجد من الآيات التي تحرم الظلم وتنعى على الظالمين ظلمهم، وتنفي عن رب العالمين الظلم قليله وكثيره، وكم من الأحاديث القدسية وغير القدسية في تحريم الظلم وذم الظالمين، وميزان المؤرخين وكل عاقل فيمن مضى من الحكام والحاضرين هو ظلمهم وعدلهم، وما تميز العُمَران عن بقية الخلفاء إلا بالعدل ونفي الظلم ورد المظالم إلى أهلها، وما مدح أحد إلا بعدله ومحاربته للظلم،وما ذم أحد إلا بالظلم والمعاصي،وفي مقدمتها الشرك بالله، فكيف يتمدح هؤلاء بما يخالف الشرائع والفطر والعقول السليمة، ولوضوح هذا، أترك القارئ يرجع بنفسه لمعرفة النصوص الكثيرة في هذا الباب، وضلال باقي النص واضح حيث وصفوا الله تعالى بالظلم، وادعوا ما لا يجوز لهم من سؤاله ألا يقيم الساعة، والمسلم لا يجوز له بحال أن يدعي مثل هذه الدعاوى الكاذبة، و الله المستعان.
ومن الطامات: الصوفية لا يقنعون بالنبوة والرسالة فيتمنون أكثر من ذلك:
قال الغزالي: ولذلك: كان أبو يزيد يقول: إن أعطاك مناجاة موسى، وروحانية عيسى، وخلة إبراهيم فاطلب ما وراء ذلك.(1)
" التعليق:
ماذا بعد النبوة من مرتبة،فالقرآن والكتب السماوية من أولها إلى آخرها تعتبر النبوة أعلى المراتب. ولكن الصوفية يعتبرون الولاية أفضل من ذلك كما صرح بذلك إمامهم وشيخهم الضال الهالك المسمى بمحيي الدين بن عربي.
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
__________
(1) 4/357).(1/264)
وكأني بهذا النص يطابق ما ذكره ابن عربي، فمن لا يرضى بمناجاة موسى، ولا مرتبة عيسى، ولا خلة إبراهيم، فهو لا شك أفضل من هؤلاء الذين أجمع المسلمون على تقدمهم في المرتبة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وأهل الأهواء وأهل البدع يتأولون مثل هذه الكفريات، ويحللونها بما يناسب أهواءهم وبدعهم، فلا ينبغي للمسلم الصادق أن يلتفت إلى ذلك.
ومن الطامات: مخالفة ما هو معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة:
قال الغزالي: وقد قال بعض العارفين: كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من ذهب وفضة وجوهر يتخشخش ويتثنى معهن، فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوما، ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال، وقيل لي انظر إليهن فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر إليهن، وقلت: أعوذ بك مما سواك، لا حاجة لي بهذا فلم أزل أتضرع حتى صرفهن الله عني.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/357).(1/265)
في هذا النص ما يخالف المعلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة، فتزكية النفس أمر منهي عنه في القرآن وفي السنة، وهو منهاج يهودي أخذه الصوفية من اليهود، أما المسلم الحق فيعيش بين الخوف والرجاء قال تعالى : أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) }(1). قال الحافظ ابن كثير: قال الحسن وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ { أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } .(2)وكل ما ورد من نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدح فهو صادق على الإنسان نفسه قبل غيره، كما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد ابن الأسود: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجه المداحين التراب(3)، وفي القرآن: فَلَا { تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) }(4)وفي مسند أحمد: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه وإياكم والتمادح فإنه الذبح"(5)والحكم لأحد بجنة أو نار في حياته أو بعد موته منهاج يهودي أيضا، أما المسلمون والسلف الصالح فمنهاجهم عدم الحكم لأحد بجنة أو نار.
__________
(1) النساء الآيتان (49و50).
(2) المائدة الآية (18).
(3) أحمد (6/5)، مسلم (4/2297/3002(68))، البخاري في الأدب المفرد (339)، الترمذي (4/518/2393) وابن ماجة (2/1232/3742).
(4) النجم الآية (32).
(5) رواه أحمد (4/92) والطبراني في الكبير (19/350/815) والطحاوي في المشكل (4/390/1687) وروى الشطر الأخير منه موضع الشاهد ابن ماجه (2/1232/3743). وقال في الزوائد: إسناد حديث معاوية بن أبي سفيان حسن لأن معبد الجهني مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات.(1/266)
أخرج البخاري في صحيحه بسنده إلى أم العلاء امرأة من الأنصار، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله قد أكرمه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا.(1)
__________
(1) رواه أحمد (6/436)، البخاري (3/147/1243) والنسائي في الكبرى (4/385/7634).(1/267)
انظر رعاك الله إلى سيد الأولين والآخرين لا يحكم لنفسه بجنة بعد وفاته، وهؤلاء يزعمون لأنفسهم أكثر من ذلك، فبعدا لهم وسحقا. وفي صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلا، ولهذه أهلا"(1)فالنبي صلى الله عليه وسلم حريص على أمته، رحيم بهم رؤوف بهم، يدلهم على خير ما ينفعهم، ويحذرهم شر ما يضرهم، ويجعلهم الأمة الصادقة التي تتعامل مع خالقها على ما يرضيه منها وذلك باتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأما هؤلاء الضلال فيسخرون من الأمة ويضحكون عليها، ويجعلونها أمة تائهة تعيش على الأماني والأحلام، وعلى الكذب والدجل، وشر منهم أهل هذا العصر الذي نحن فيه، الذي اتضحت فيه معالم السنة، وافتضحت فيه مخازي البدعة، ومع ذلك يحيطون أنفسهم بأسوار من البدع، ويكذبون على الناس بالليل والنهار، ويلعبون على الشباب الجهال الذين لم يتعلموا من العلم إلا أعدادا حسابية وجملا ركيكة من بعض المدارس العلمانية، ولو أخذوا أعلى الشهادات، وتجد الأمي الذي صفت نظرته وعرف الحق وأهله أحسن منهم حالا، والله المستعان.
ومن الطامات: البحث عن صفة اليهود من ذلة ومسكنة:
__________
(1) رواه أحمد (6/41)، مسلم (4/2050/2662)، أبو داود (5/86/4713)، النسائي (4/359/1946) وابن ماجة (1/32/82).(1/268)
قال الغزالي: وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام، فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئا كان أهم الأشياء علي،قال: فرأيته فما غلب علي همي ولا همتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس علمني شيئا إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل: اللهم أسبل علي كثيف سترك، وحط علي سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك، واحجبني عن قلوب خلقك، قال: ثم غاب فلم أره، ولم أشتق إليه بعد ذلك فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحكي أنه صار بحيث كان يستذل ويمتهن حتى كان أهل الذمة يسخرون به، ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يلعبون به فكانت راحته ركود قلبه واستقامة حاله في ذله وخموله.(1)
" التعليق:
انظر رعاك الله ووقاك شر هذه الطامات التي مفادها أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كافية لهؤلاء الضلال، فيحتاجون إلى غيرها، ولهذا لفقوا دينهم بين الهندوسية والرهبانية وغيرها مما سيذكر إن شاء الله، فأين الغزالي من غضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إذ وجده ينظر في بعض صفحات التوراة(2)وهل ديننا دين العزة والكرامة أم هو دين الذلة والمهانة، فالله تعالى يقول: وَلِلَّهِ { الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }(3)ويقول: وَلَا { تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) }(4)والنصوص في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جدا.
ومن الطامات: المسلم بمنزلة الكلب في الخسة والدناءة عند الصوفية:
__________
(1) 4/357).
(2) تقدم تخريجه (ص.271).
(3) المنافقون الآية (8).
(4) آل عمران الآية (139).(1/269)
قال الغزالي: ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة. حتى روي أن ابن الكريبي، وهو أستاذ الجنيد، دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك، حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك فقال: قد رضت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت".(1)
" التعليق:
هكذا ننقل هذه المخازي وهذه الطامات الكبرى التي مفادها أن المسلمين أحقر من اليهود والنصارى الذين وصفهم الله تعالى بقوله: وَضُرِبَتْ { عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ }(2)والله تبارك وتعالى جعل الذلة والمسكنة من غضبه على أعدائه اليهود، وهؤلاء يجعلون الذلة والصغار والحقار من أهم أسس منهاجهم نسأل الله السلامة والعافية.
ومن الطامات: السرقة واللصوصية منهاج صوفي:
قال الغزالي: وعنه أيضا أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت علي قلبي فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت، وجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضربا، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي.(3)
" التعليق:
والسرقة هي منهاج الصوفية، مضافة إلى الذلة والمسكنة التي اعتبروها من أعظم أصول الصلاح، وهي لعمر الله غضب من الله على أعدائه، فالسرقة من منهاج الصوفية ويفتخرون بهذا اللقب، كما هو واضح في هذه الواقعة المخذولة.
ومن الطامات: قول المسلم: "سبحان الله" شرك عند الصوفية:
__________
(1) 4/358).
(2) البقرة الآية (61).
(3) 4/358).(1/270)
قال الغزالي: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى، وشغله بنفسه حجاب له، فليس بين القلب وبين الله حجاب بعد، وتخلل حائل، وإنما بعد القلوب شغلها بغيره أو بنفسها، وأعظم الحجب شغل النفس. ولذلك حكي أن شاهدا عظيم القدر من أعيان أهل بسطام، كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوما، أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر، وأقوم الليل لا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئا، وأنا أصدق به وأحبه فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة، قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعمله، قال: لا تقبله، قال: فاذكره لي حتى أعمل، قال: اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزا، واجمع الصبيان حولك، وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود، وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله تقول لي مثل هذا، فقال أبو يزيد: قولك: "سبحان الله" شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها، وما سبحت ربك، فقال: هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره، فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء، فقال: لا أطيقه، قال: قد قلت لك إنك لا تقبل.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/358).(1/271)
فلا أدري أين نضع هذه النصوص من الدين الذي يريد الغزالي إحياءه، أما دين الإسلام فلا، فهو بريء من هذه الترهات، فالقرآن من أوله إلى آخره ما جاء إلا لتنزيه الله تبارك وتعالى عن الشرك والشركاء، وهذا يعتبر التسبيح شركا، فهل بعد هذا من كلام، وأعجب من شبابنا الجهلة الذين يشيعون في تجمعاتهم أن فلانا وعلانا يكفر الغزالي، ويشغلون الناس بقضية التكفير، ولكن لا يقرؤون عليهم هذه البلايا فيحذرونهم منها، فإسلام الغزالي وتكفيره لا يفيد بشيء، والاشتغال به من أكبر العبث، ولكن الواجب المحتم على المسلم التحذير من هذه البلايا والاشتغال ببيانها، وتحذير الناس منها من أعظم النصيحة للإسلام وللمسلمين.
ومن الطامات: ذم ما مدح الله به خير عباده:
قال الغزالي: فأما القاصر منه فهو الذي يجري مجرى رقة النساء يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن، فيورث البكاء وتفيض الدموع.(1)
" التعليق:
انظر هداك الله إلى مخالفة صريح القرآن الذي يقول: وَإِذَا { سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) }(2)وقوله تعالى: اللَّهُ { نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }(3)ويكفي الإنسان خزي أن يخالف صريح القرآن لباطل يروج به لجماعة من المنحرفين.
ومن الطامات: اتهام الله تعالى بالظلم:
قال الغزالي: قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة.(4)
" التعليق:
__________
(1) 4/157).
(2) المائدة الآية (83).
(3) الزمر الآية (23).
(4) 4/168).(1/272)
وهل في الخزي أكثر من هذا: اتهام الله تبارك وتعالى بالجور والظلم بحيث أكرم الملائكة من غير وسيلة سابقة، وطرد إبليس بغير ذنب، فما هذا؟ أين نصوص القرآن المستفيضة في وصف الله تبارك وتعالى بالعدل ونفي الظلم؟ وأين ما قصه الله تبارك وتعالى علينا من قصة إبليس ومخازيه وجرائمه وإبائه وامتناعه عن السجود لآدم؟ وقد كرر الله قصته في القرآن لبيان فحشه وضلاله وخبثه ومكره زيادة على مئات الآيات التي وصفته بأوصاف دقيقة لو تتبعها الغزالي لما وقع في هذه المهاوي السحيقة التي لازمها التسوية بين المتقين والكفار والفجار، وأنه لا فرق بينهم، فأولئك أكرموا من غير وسيلة سابقة وأولئك أهينوا من غير جريمة لاحقة، وأين قوله تعالى في وصفه للملائكة: عَلَيْهَا { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) }(1)وقوله: وَمَنْ { عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) }(2)وقوله: وَقَالُوا { اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) }(3). وهذا أمر معلوم عند المسلمين جميعا بالضرورة، فالملائكة مثال للطاعة وإبليس وجنوده مثال للتمرد والعناد وأصل للشرور والمعاصي المنتشرة في الأرض ومنها هذا المسمى بالإحياء الذي انتشر شره وملأ الدنيا بدعة وضلالا، ونشر في المسلمين من الحديث الضعيف والموضوع ما الله عالم به، ولا يعلم شره إلا من مارسه وعرضه على ميزان الكتاب والسنة والمقاييس العلمية الصحيحة، وأما المخرفون والمهرجون فالإحياء من أكبر مكاسبهم في تضليل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله المستعان.
__________
(1) التحريم الآية (6).
(2) الأنبياء الآيتان (19و20).
(3) الأنبياء الآيتان (26و27).(1/273)
من الطامات: استحباب ما حرمه الله ورسوله:
قال الغزالي: وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا إسحاق النوري رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع، قال: فاستعظمت ذلك واستقبحته له، فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك، فقال: لا يعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم وكأنه أشار به إلى قوله: "يد المعطي هي العليا"(1)فقال بعضهم يد المعطي هي يد الآخذ للمال لأنه يعطي الثواب والقدر له لا لما يأخذه، ثم قال الجنيد: هات الميزان، فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال: احملها إليه، فقلت في نفسي: إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره، فكيف خلط به مجهولا وهو رجل حكيم؟ واستحييت أن أسأله فذهبت بالصرة إلى النوري، فقال: هات الميزان، فوزن مائة درهم، وقال: ردها عليه، وقل له: أنا لا أقبل منك أنت شيئا وأخذ ما زاد على المائة، قال: فزاد تعجبي فسألته فقال: الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه، وزن المائة لنفسه طلبا لثواب الآخرة، وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عز وجل، فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه، قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى، وقال: أخذ ماله ورد مالنا، الله المستعان.(2)
" التعليق:
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.274).
(2) 4/215-216).(1/274)
انظر عافاك الله من هذه البلايا والمصائب التي تسجل باسم إحياء علوم الدين، وهي مناقضة لما جاءت به علوم الدين أصولها وفروعها. أين الأحاديث التي وردت في النهي عن السؤال، وما أكثرها وقد جمعها أئمة الحديث رضوان الله عليهم، فمنها ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم"(1)ومنها عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر"(2)والأحاديث في هذا كثيرة وكثيرة جدا، ومع هذا تجد هؤلاء يستحسنون التسول ويرونه من المنهاج الصوفي المعظم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى علم الغيب المدعى في القصة، وسنتكلم عليه إن شاء الله في حينه، والقصد أن هؤلاء يخالفون ما هو معلوم عند المسلمين بالضرورة ويرونه منهاجا مثاليا، فمتى يرتفع شأن المسلمين عن هذه الترهات والبلايا التي أخرتهم دهرا من الزمان وما يزالون قليلي الوزن في نظر أعدائهم، فكيف يرتقي ويكون سيد العالم من يرى التسول منهاجا له، ويراه من كبريات الصلاح، والله المستعان.
ومن الطامات: الصوفية يخالفون القرآن في تكريم بني آدم:
قال الغزالي: وقال المسيح عليه السلام: بحق أقول لكم إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم على المزابل مع الكلاب كثير.(3)
" التعليق:
__________
(1) رواه أحمد (2/15)، البخاري (3/431/1474)، مسلم (2/720/1040) والنسائي (5/98-99/2584).
(2) رواه أحمد (2/231)، مسلم (2/720/1041) وابن ماجة (1/588-589/1838).
(3) 4/231).(1/275)
أين قال المسيح هذا، وفي أي كتاب، ومن أي مصدر؟ وهل لنا مصدر عن المسيح وإخوانه من الأنبياء إلا القرآن والسنة الصحيحة، وما سوى ذلك فمن تحريف اليهود وصنعهم بإجماع من يعتد به إلا الصوفية الذين يستقون أصولهم من تحريفات اليهود والنصارى كهذا المثال الذي نحن بصدده، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أين نصوص القرآن المستفيضة في تحليل الطيبات وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء به هو تحليل الطيبات قال الله تعالى من سورة الأعراف في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ { يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }(1)الآية. وقوله تعالى من سورة المائدة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) }(2)، وفي سورة الأعراف: * { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }(3)
__________
(1) الآية (157).
(2) المائدة الآيتان (87و88).
(3) الأعراف الآيتان (31و32)..(1/276)
وفي سورة البقرة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }(1)وفي السورة نفسها: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) }(2)إلى غير ذلك من الآيات، وأما الأحاديث وأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأعمال السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيصعب حصرها، وهذا الأصل معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة فما حرمه الله فهو الحرام، وما أباحه فهو المباح، وقال تعالى: هُوَ { الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } .(3)
فمن تصدق أيها المسلم؟ هل تصدق ربك في هذه الآيات الصريحات، و نبيك في قوله وفعله و سلفك الصالح الذين كانوا يأكلون الطيبات ويتركون المحرمات، أم الغزالي وحكاياته ومن قرأ سيرة عثمان ذي النورين وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وغيرهم ممن أقام الله بهم أعلام الإسلام يرى ما أورده الغزالي من تحريفات اليهود وكذبهم على المسيح عليه السلام داخلا في المخطط التخريبي للإسلام والمسلمين، وإعطاء الفرص للعدو ليتقوى ويقوى على إبادة المسلمين وتفتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم وسحق معنوياتهم، وكان كذلك لما سجل المسلمون مثل هذا الفكر وروجوا له وما يزالون مع الأسف.
ومن الطامات: الصوفية مشبهة يصفون الله بالعجز وعدم القدرة:
قال الغزالي: وليس في الإمكان أصلا أحسن منه ولا أتم ولا أكمل، ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلا يناقض الجود، وظلما يناقض العدل.(4)
" التعليق:
__________
(1) البقرة الآية (172).
(2) البقرة الآية (168).
(3) البقرة الآية (29).
(4) 4/258).(1/277)
هذه العبارة من أخبث العبارات الموجودة في هذا الكتاب، فهي نقض لأسماء الله وصفاته التي جاءت من أجل بيان كمال قدرته، وأن قدرته لا نهاية لها ولا حد، فقبح الله علما يتعلم منه هذا الضلال وهذه الوقاحة على أسماء الله وصفاته، فماذا يمثل الكون في قدرة الله، قال الله تعالى: قُلْ { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي }(1)وقال الخضر لموسى عليه السلام كما في الصحيح: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر"(2)فأين علم النبوة والرسالة من علم إبليس وجنوده الذين ينطقون على ألسنة هؤلاء ، فهل من العقيدة الإسلامية أن نحدد صفة من صفات الله، وأن نعلل ذلك بجهلنا وضلالنا، اللهم لا، فالمسلم يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقف عند هذا الحد، ومن دخل إلى البحر غرق فيه، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، تِلْكَ { حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) } .(3)
ومن الطامات: نسف العقيدة من أولها إلى آخرها:
__________
(1) الكهف الآية (109).
(2) رواه أحمد (5/117)، البخاري (1/290-291/122)، مسلم (4/1847-1850/2380)، أبو داود (5/81/4707) مختصرا، الترمذي (5/289-292/3149) والنسائي في الكبرى (6/389-390/11308) عن أبي بن كعب.
(3) البقرة الآية (229).(1/278)
قال الغزالي: ولهذا دخل جماعة على الجنيد فقال: ماذا تطلبون؟ قالوا: نطلب الرزق، فقال: إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه، قالوا: نسأل الله، قال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون، فقال: التوكل على التجربة شك، قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة. وقال أحمد بن عيسى الخراز: كنت في البادية فنالني جوع شديد، فغلبتني نفسي أن أسال الله تعالى طعاما، فقلت: ليس هذا من أفعال المتوكلين، فطالبتني أن أسأل الله صبرا، فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يهتف بي ويقول:
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا
ويسألنا على الإقتار جهدا كأنا لا نراه ولا يرانا(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/274-275).(1/279)
أليس هذا نسفا للعقيدة من أولها إلى آخرها، ونسفا للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال الله تعالى: قُلْ { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ }(1)وقال الله تعالى: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }(2)وقال تعالى: ادْعُوا { رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) }(3)وفي السنن من حديث النعمان بن بشير: "الدعاء هو العبادة"(4)، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم في يقظته وسفره وحضره كلها دعاء، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الدعاء في سرائه وضرائه لا نستطيع إحصاءه، وغزواته وحروبه كان من أهم أسباب نصره فيها هو الدعاء، ورجوع المشركين عنه في غزوة الخندق كان بسبب الدعاء. والصلاة من أولها إلى آخرها كلها دعاء، والعبادة جميعها دعاء ووقوف بين يدي الله، فما هذه العقيدة الكاذبة التي يذكرها الغزالي باسم إحياء علوم الدين يصد الناس بها عن أصول الدين وفروعه، والله المستعان.
ومن الطامات: آيات القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الترغيب والترهيب لا معنى لها عند الصوفية:
__________
(1) الفرقان الآية (77).
(2) البقرة الآية (186).
(3) الأعراف الآية (55).
(4) رواه أحمد (4/267)، البخاري في الأدب المفرد (714)، أبو داود (2/161/1479) والترمذي (5/194-195/2969) وابن ماجه (2/1258/3828) وصححه ابن حبان (3/172/890) والحاكم (1/490-491) ووافقه الذهبي.(1/280)
قال الغزالي: ولهذا قال أبو سليمان الداراني: إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله، ولذلك قال بعض إخوان معروف الكرخي له، أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق، فسكت فقال: ذكر الموت، فقال: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكا هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
وفي أخبار عيسى عليه السلام: إذا رأيت الفتى مشغوفا بطلب الرب تعالى، فقد ألهاه ذلك عما سواه.
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال: ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق، فقال: تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان، قلت: فأنت، قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه. وعن علي بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلا قاعدا على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلا قائما على باب الجنة يتصفح وجوه الناس فيدخل بعضا ويرد بعضا، قال: ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلا قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ قال: معروف الكرخي عبد الله لا خوفا من ناره ولا شوقا إلى جنته، بل حبا له فأباحه النظر إليه إلى يوم القيامة ...
وقال الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك، قالت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبا له وشوقا إليه.(1)
وقال إبراهيم بن أدهم: إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني بذكرك، وفرغتني للتفكر في عظمتك.(2)
" التعليق:
__________
(1) 4/310).
(2) 4/360).(1/281)
فمن قرأ هذا وآمن به فليطرح الكتاب والسنة في مزبلته، ولا يلتفت إليه فإن القرآن من أوله إلى آخره يعظم الجنة ونعيمها، ويخوف من النار وعذابها، وأدعية الرسول صلى الله عليه وسلم كلها استعاذة من النار وطلب للجنة، ولذا جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال أي الرسول صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن"(1)وهذا الأصل لا يحتاج إلى برهان، وهناك سور بكاملها خصصت للحديث عن الجنة والنار، فسورة الرحمن، وسورة الواقعة، وسورة الإنسان، وسورة النبأ، وسورة الغاشية، ومعظم سور القرآن ترغيب وترهيب، ويأتي هؤلاء المفلسون ويزهدون الناس فيما عند الله بترهاتهم وشطحاتهم، ويعلم الله أن هذا مخطط لنسف علوم الدين، ورحمة الله على الإمام ابن تيمية إذ يقول في الإحياء: كمن أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.(2)
ومن الطامات: السياحة منهاج صوفي وهي من البدع الكبرى وهي التي تسمى عند التبليغيين بالخروج المزعوم:
قال الغزالي: سمع إبراهيم بن أدهم قائلا يقول: وهو في سياحة وكان على الجبل:
كل شيء منك مغفو ... ر سوى الإعراض عنا
قد وهبنا كل ما فا ... ت فهب لنا ما فات منا
فاضطرب وغشي عليه، فلم يفق يوما وليلة وطرأت عليه أحوال ثم قال: سمعت النداء من الجبل: يا إبراهيم كن عبدا، فكنت عبدا واسترحت.(3)
" التعليق:
هذه الطامة فيها شقان من الباطل:
" الشق الأول:
__________
(1) رواه أحمد (3/474)، أبو داود (1/501/792) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه ابن ماجه (1/295/910) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات وصححه ابن حبان (3/149-150/868).
(2) الفتاوى (10/551) وقد تقدم في فتوى الإمام ابن تيمية في كتاب الإحياء.
(3) 4/335).(1/282)
السياحة: وهذه السياحة التي يفعلها هؤلاء غير مشروعة، وهي من فعل المبتدعة من الهنود وغيرهم، وقد ذكر الأستاذ إحسان إلهي ظهير رحمة الله عليه في كتابه 'التصوف المنشأ والمصادر' تحت عنوان "المذاهب الهندية الفارسية" -بعد كلام طويل، ذكر فيه المقارنة بين صوفية الهنود والصوفية المنتسبين إلى الإسلام-: ...ومنذ القرن الثاني وما بعده، وحين بدأ المسلمون بنقل كتب الشعوب الأخرى واتسعت دائرة العلوم، ترجم مقدار من آثار البوذية والهندية مما يدخل في باب التصوف العملي، أي الزهد وترك الدنيا، ووصف العادات والتقاليد الهندية والبوذية في هذا الباب ناهيك بنقل كتب هندية وبوذية في القرن الثاني للهجرة والصلات التجارية والاقتصادية القائمة بين المسلمين والهنود في أوائل الخلافات العباسية، وقد انتشرت طائفة من تاركي الدنيا والسائحين من الهنود والمانيين في العراق وسائر البلاد الإسلامية الأخرى، وكما كانوا يتحدثون في القرن الأول عن الرهبان السائحين مع المسيحيين، كذلك أخذوا يتحدثون في القرن الثاني عن رهبان وسياح ممن لم يكونوا مسلمين ولا نصارى وهم الذين سماهم الجاحظ "رهبان الزنادقة" واعتبرهم من زهاد المانوية.(1/283)
قال الجاحظ: إن هؤلاء سياح، والسياحة بالنسبة لهم في حكم التوقف، واعتزال الساترة في الصوامع والأديرة، وتلك الجماعة يسافرون دائما اثنين اثنين، ويسيحون بحيث إذا رأى الإنسان واحدا منهم يتيقن أن الثاني ليس ببعيد عنه إلى حد ما، وسيظهر قريبا، ومن عاداتهم أنهم لا ينامون ليلتين في مكان واحد، ولهؤلاء السياح خصال أربع: القدس، والطهارة، والصدق والمسكنة. وهؤلاء السياح تركوا بدورهم أثرا في صوفية المسلمين، كما أثر فيهم أيضا السياح والمتجولون والمرتاهون من البوذيين الذين أذاعوا قصة بوذا، وقدموه مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا بحيث أن المرتاضين كانوا يعرفونه في كتاباتهم بالمثال الكامل للزهد وهو الأمير القوي الشكيمة، الذي رمى الدنيا ظهريا، وحرر نفسه، أو يقولون إنه أسير جدير بالثناء، خليق بالاحترام، متزين بزي الفقراء، وهذا الموضوع أوجد قصصا ذات صور مختلفة، والنقطة الهامة التي يجب ألا تنسى هي أن الديانة البوذية كانت قد انتشرت في شرق إيران أي "بلخ وبخارى" وفي ما وراء النهر، كذلك قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكانت لها صوامع ومعابد مشهورة، وكانت معابد بلخ البوذية أكثر شهرة بنوع خاص، وصارت بلخ ونواحيها من أهم المراكز الصوفية في القرون الإسلامية الأولى، وكان صوفيو خراسان يعدون في الرعيل الأول من الصوفية في الشجاعة الفكرية والحرية الشخصية والعقيدة المعروفة بالفناء في الله، المقتبسة من الأفكار الهندية إلى حد ما، والتي انتشرت على الأكثر بواسطة صوفية خراسان مثل أبي يزيد البسطامي، وأبي سعيد أبي الخير.(1/284)
وقبل أن ننتقل إلى فكرة أخرى نريد أن نلفت الأنظار إلى أن معتنقي البوذية والجينية والديانات الهندية الأخرى كان لهم أن يترهبوا ويتجردوا عن الدنيا وما فيها، ويختاروا العزلة والخلوة، ويتيهوا في المفاوز والخلوات ويعيشوا في المغارات والخانقاوات ويعذبوا أنفسهم ويأتوا بالمجاهدات والرياضات، ويتحملوا المشاق، ويتعمقوا في المراقبات والمكاشفات وغير ذلك من الأمور لأن قادتهم وزعماءهم وهداتهم ومرشديهم فعلوا مثل ذلك لحصول المعرفة، واكتشاف الحق والوصول إلى طمأنينة الروح والقلب، والاتصال بالخالق والاتحادية حسب زعمهم تشبها لهم واقتداء بهم، وتمسكا بأسوتهم واقتفاء آثارهم ومنهاجهم. فعلى المتبعين أن يسلكوا جميع تلك المراحل التي سلكها سادتهم وكبراؤهم، وأن يكابدوا في هذا السبيل تلك الآلام التي تكابدها أولئك، وكذلك النصارى.
أولا: لأنه نقل عن مسيحهم ما يشجعهم على التبتل والعزلة.(1/285)
ثانيا: أن حواريي المسيح وقديسي المسيحية الأوائل تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل التمسك بمذهبهم، فأوذوا وأجبروا على ترك المساكن والمواطن وعاشوا في الصحاري والمغارات فرارا بدينهم، وحفاظا على إيمانهم، فحبس منهم وقتل منهم كثيرون وعذب الآخرون.فتأسيا بهم وتقديرا لهم حرموا أنفسهم من ملذات الدنيا ونعيمها، وألزموا عليهم العزبة والجوع والمشاق وهجروا العيش بين الأهل والأولاد. وأما المسلمون فلا نبيهم أمرهم بذلك ولا أصحابه ورفاقه الأبرار خيرة خلق الله، وأبرار هذه الأمة عملوا به، ودينهم دين الاعتدال، والدين الوسط الناسخ لجميع الشرائع السماوية منها والأرضية الإلهامية منها وغير الإلهامية، وَمَنْ { يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } .(1)والذي كمل قبل انتقال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } .(2)وما لم يكن فيهما فهو ابتداع وإحداث فيه، وليس منه ولا له علاقة به. ولا ندري ممن أخذ متصوفة المسلمين ونساكهم من المسلمين هذا المنهج والمسلك الذي بنوا عليه تصوفهم وزهدهم، اللهم إلا ممن ذكرناهم من المسيحية وأصحاب الديانات الهندية، وهذه أحوال معتدلي الصوفية ومتقدميهم. وأما المتطرفون والمتأخرون فقد زادوا على هذين المصدرين مصدرا آخر، استقوا منه فلسفتهم وتشبثوا بآرائه ومقولاته وهو الأفلوطينية الحديثة.(3)
قال جامعه:
__________
(1) آل عمران الآية (85).
(2) المائدة الآية (3).
(3) ص.120).(1/286)
فالغزالي يريد إحياء الديانات الهندية والمسيحية والأفلوطينية تحت عنوان إحياء علوم الدين، ولو لم يضع هذا العنوان، واكتشف الناس هذه المصادر الخارجة عن الإسلام والمحرفة والمعادية له ما قبلوا منه هذا، ولفعلوا بكتابه ما فعله المرابطون يوم أن اكتشفوا هذه الحقيقة.
والسياحة المشروعة في الإسلام تتلخص في المسائل الآتية:
1- الجهاد في سبيل الله، وهذا يكون تحت راية إمام المسلمين، وليس هو من العمل الفردي، وإذا تعين الخروج كان واجبا إلا من أعذره الشرع، وفيه من الآيات والأحاديث ما هو معروف عند المسلمين من الدين بالضرورة.
2- الخروج إلى الدعوة إلى الله وإلى تعليم المسلمين أمر دينهم، وهذا أيضا يكون بأمر من إمام المسلمين إن كان لهم إمام كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن، وبعلي بن أبي طالب، وبأبي بكر الصديق، وبالقراء وغيرهم ممن أرسلهم إلى تعليم المسلمين أمر دينهم والقضاء بينهم.(1/287)
وأما إن لم يكن لهم إمام فمن توفرت فيه شروط العلم، وكان أهلا للتعليم وكانت البلدة في حاجة إليه، وليس فيها من يقوم بالمهمة، وفي بلدته من يغني عنه تعين خروجه لأن علماء الكتاب والسنة هم مبلغون عن الله بعد رسله وأنبيائه، فيجب عليهم البلاغ وعلى المسلمين أن يتعاونوا معهم ببذل الأموال وتسهيل الطرق وتيسيرها حتى تبلغ رسالة الرسل إلى خلق الله وعباده. وأما خروج العوام فهذا يلحق بما ذكر في هذه القصة أو في هذه الطامة التي ذكرها أبو حامد، وقد سئل الإمام أحمد رحمة الله عليه عن السياحة فأنكرها واعتبرها من الأمر المبتدع. وأما ما ورد في الآية: التَّائِبُونَ { الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ }(1)فقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "بيان أن المراد بالسياحة الصيام" وذكر أقوال السلف في ذلك. قال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: السائحون الصائمون(2)، وكذا روي عن سعيد بن جبير، والعوفي عن ابن عباس، وقال علي بن أبي طالحة عن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون، وكذلك قال الضحاك رحمه الله. وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم ابن يزيد عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام. وهكذا قال: مجاهد، وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمان السلمي، والضحاك بن مزاحم، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، أن المراد بالسائحين، الصائمون، وقال الحسن البصري: السائحون الصائمون شهر رمضان. وقال أبو عمرو العبدي: السائحون الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
__________
(1) التوبة الآية (112).
(2) الطبراني في الكبير (9/225/9095) قال الهيثمي في المجمع (7/34-35): وفيه عاصم بن بهدلة وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون وبقية رجاله رجال الصحيح.(1/288)
ثم قال بعد كلام رحمه الله: وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري(1)عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"(2).
قلت: هذا الذي قرر ابن كثير قرره الإمام ابن تيمية.
جاء في الفتاوى: سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن رجل تفقه وعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفا من كسب الحرام والشبهات، وبعث الآخرة وطلب رضا الله ورسوله، وساح في أرض الله والبلدان، فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا؟
فأجاب: الحمد لله وحده، "الزهد المشروع" هو ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند الله، كما في الحديث الذي في الترمذي(3): "ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك" لأن الله تعالى يقول: لِكَيلَا { تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ }(4)فهذا صفة "القلب".
__________
(1) 1/94/19)، ورواه أحمد (3/6)، أبو داود (4/461-462/4267)، النسائي (8/498-499/5051) وابن ماجة (2/1317/3980).
(2) تفسير ابن كثير (4/156-157).
(3) رواه الترمذي (4/493-494/2340) وابن ماجه (2/1373/4100) وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه... وعمرو بن واقد منكر الحديث. كلاهما من حديث أبي ذر.
(4) الحديد الآية (23).(1/289)
وأما في "الظاهر" فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة الله من مطعم وملبس ومال وغير ذلك، كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام قلائل. وجماع ذلك خلق رسول الله كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(1)وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودا، ولا يتكلف مفقودا، ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحب إليه، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد، أو العبادة على المشروع، ويقول: أينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يغضب لذلك، ويقول: "والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بحدود الله تعالى"(2)وبلغه أن بعض أصحابه قال: أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني".(3)
__________
(1) رواه أحمد (3/310-311)، مسلم (2/592/867)، النسائي (3/209-210/1577)، وابن ماجة (1/17/45) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (10/628/6101) ومسلم (4/1829/2356) عن عائشة رضي الله عنها.
(3) تقدم تخريجه (ص.39).(1/290)
فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو من دين الأنبياء، بل قد قال تعالى: وَلَقَدْ { أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }(1)والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبا تارة ومستحبا أخرى، فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين؟ وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع، كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه، قال الإمام أحمد: ليس السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين.(2)
3- الخروج في طلب العلم، وهذا أمر ندب إليه الشرع وأمر به، قال الله تعالى: فَلَوْلَا { نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح !$sغ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }(3)وقوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(4)وفعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في رحلاتهم المتواترة إلينا وكتبهم المسجلة إلينا في طلب العلم والحديث، وهذا أمر لا مرية فيه ولا جدال بين المسلمين فيه، بل هو من أسس مناهجهم لأنهم أمة العلم والدعوة إليه.
4- الخروج إلى الحج والعمرة، وهما من فرائض الإسلام وأركانه، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ { عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) }(5)وهذا أصل لا ينكره إلا من خرج عن دائرة الإسلام، وقد خصصت كتب الحديث والفقه مساحة كبرى لهذه الفريضة في مؤلفاتها.
__________
(1) الرعد الآية (38).
(2) مجموع الفتاوى (10/641-643).
(3) التوبة الآية (122).
(4) رواه ابن ماجه (1/81/224) وغيره من حديث أنس رضي الله عنه وضعف إسناده البوصيري في الزوائد، وله طرق كثيرة وشواهد يتقوى بها. انظر تخريج أحاديث مشكلة الفقر رقم: (86).
(5) آل عمران الآية (97).(1/291)
5- الخروج إلى المساجد الثلاثة، وقد جاء النص بذلك عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، كما ثبت في الصحيح: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".(1)
6- الخروج لصلة الرحم، وهذا أمر مقرر عند المسلمين، ومعلوم عندهم من الدين بالضرورة، وآيات القرآن فيه كثيرة، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيه متواترة خرجها أصحاب الصحاح وغيرهم، قال تعالى: فَهَلْ { عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) }(2)قال تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ }(3)ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع"(4)والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) رواه أحمد (2/234)، البخاري (3/81/1189)، مسلم (2/1014/1397)، أبو داود (2/529/2033) والنسائي (2/368/699) وابن ماجة (1/452/1409) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) محمد الآيتان (22و23).
(3) النساء الآية (1).
(4) رواه أحمد (4/84)، البخاري (10/508/5984)، مسلم (4/1981/2556)، أبو داود (2/323/1696) والترمذي (4/279/1909) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.(1/292)
7- الخروج في طلب الرزق والتجارة، وقد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وفعل الرسول، وفعل السلف الصالح على ذلك، قال الله تعالى: وَإِذَا { ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }(1)وكل خروج ندب إليه الشرع كالإصلاح بين الناس، كما قال الله تعالى: * { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ }(2)وكما قال تعالى: وَإِنْ { بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }(3)وما لم يكن كذلك فهو بدعة هندية مسيحية، فخروج العوام وأشباههم ممن لا علاقة لهم بهذه المقاصد التي ذكرنا فهم مبتدعة آثمون لأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، ووزعوا الخروج ووقتوا له أوقاتا، ورتبوا لكل وقت مرتبة في التزكية، وهذا لا شك أنه أمر مبتدع ليس له أصل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،ولكنه الجهل والعمى والأهواء التي غلبت على النفوس، والله المستعان.
" الشق الثاني:
__________
(1) النساء الآية (101).
(2) النساء الآية (114).
(3) الحجرات الآية (9).(1/293)
وهو مخاطبة الخالق مباشرة، وهذه فرية كبرى ومصيبة عظمى، فالخطاب من الله خاص بالأنبياء والملائكة، ومن ادعاه لنفسه فقد ادعى النبوة، أو أنه من الملائكة، قال الله تعالى: * { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ }(1)قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(2)وقوله: "أو من وراء حجاب" كما كلم موسى عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها. وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا(3)وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله: أَوْ { يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } كما ينزل جبريل وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(4)
__________
(1) الشورى الآية (51).
(2) الإحسان 8/32/3239و3241) وابن ماجة (2/725/2144) والحاكم (2/4)و(4/325-326) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث جابر رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أمامة وحذيفة وغيرهم رضي الله عنهم.
(3) رواه الترمذي (5/214-215/3010) وقال حسن غريب وابن ماجه (2/936/2800) والحاكم (3/203-204) وصححه. وصححه ابن حبان (15/490-491/7022).
(4) 7/203-204)..(1/294)
وقد اختص الله نبيه موسى عليه السلام بكلامه من وراء حجاب وأصبح يعرف بكليم الله، وقال الله فيه: وَكَلَّمَ { اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) }(1)وقال فيه تبارك وتعالى: إِنِّي { اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي }(2)فمن ادعى أن الله تعالى خاطبه مباشرة فقد زعم أنه شارك موسى فيما اختصه الله به. وهذا الأصل الخبيث الذي ادعاه الصوفية هو نسخة طبق الأصل من دعاوى الشيعة الذين هم الأصل الكبير للصوفية.
__________
(1) النساء الآية (164).
(2) الأعراف الآية (144).(1/295)
جاء في الكافي للكليني -وهو عند الشيعة كالبخاري عند أهل السنة- عن جعفر الباقر الإمام المعصوم لدى القوم أنه قال: "ما جاء به علي عليه السلام آخذ به، وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وآله، ولمحمد صلى الله عليه وآله الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين عليه السلام باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وآله، ولقد حملت على مثل حمولته، وهي حمولة الرب، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله يدعى فيكسى وأدعى فأكسى، ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني أبشر بإذن الله وأؤدي عنه، كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه.(1)
__________
(1) أصول الكافي (1/253-254).(1/296)
والرواية في هذا الموضوع كثيرة عن الشيعة. قال إحسان إلهي ظهير: هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يرى الشيعة أن أئمتهم أولئك أفضل من الأنبياء كما صرح بذلك الكليني، أن الإمامة فوق النبوة والرسالة والخلة، حيث نقل رواية عن جعفر بن محمد الباقر أنه قال: "إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، واتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما".(1)وروي أيضا عن يوسف التمار أنه سمع جعفر بن محمد الباقر أنه قال: "ورب الكعبة، ورب البنية ثلاث مرات، لو كنت بين موسى والخضر عليهما السلام لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون، وما هو كائن حتى تقوم الساعة".(2)وعنه أنه قال: "إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون".(3)وقد بوب الحر العاملي صاحب موسوعة حديثية شيعية كبيرة بابا مستقلا بعنوان: الأئمة الإثنا عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم، وإن الأنبياء أفضل من الملائكة، ثم أورد تحته روايات عديدة منها ما رواه عن جعفر أنه قال: "إن الله خلق أولي العزم من الرسل، وفضلهم بالعلم وأورثنا علمهم، وفضلنا عليهم في علمهم، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمهم، وعلمنا علم الرسول وعلمهم".(4)
وعلى ذلك قال الخميني زعيم شيعة إيران في كتابه"ولاية الفقيه" ما نصه:
__________
(1) كتاب الحجة من أصول الكافي (1/230-231).
(2) الكافي في الأصول (1/319).
(3) الكافي في الأصول (1/319-320).
(4) الفصول المهمة في أصول الأئمة (ص.152). انظر الشيعة وأهل البيت (ص.26).(1/297)
"إن من ضروريات مذهبنا، أنه لا ينال أحد المقامات المعنوية الروحية للأئمة حتى ملك مقرب، ولا نبي مرسل كما روي عندنا بأن الأئمة كانوا أنوارا تحت ظل العرش قبل تكوين هذا العالم، وأنهم قالوا: إن لنا مع الله أحوالا لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا المعتقد من الأسس والأصول التي قام عليها مذهبنا".(1)
قال إحسان إلهي ظهير: فهذه هي عقائد الشيعة الإثنا عشرية في أئمتهم بأنه يأتي إليهم جبريل، وينزل عليهم الوحي، ويكلمهم الله من وراء حجاب، ويناجيهم من دون حجاب، وأن النبوة لم تنقطع ولم تختم بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، وأن الولاية أعظم وأفضل من النبوة والرسالة، وعلمهم بدون واسطة فصاروا يعلمون علم ما كان وما يكون، وفضلهم على الخلائق من الأنبياء والرسل.
والنصوص والروايات في هذا الخصوص جاوزت المئات، وعليها أسست وبنيت الديانة الشيعية نتيجة مآمرة يهودية للقضاء على الإسلام ودعوة خاتم النبيين الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم.
هذا وبعد هذا عندما نرجع إلى آراء الصوفية وأفكارهم وعقائدهم، معتقداتهم وكتبهم ورسائلهم، رواياتهم ومقولاتهم، تصريحاتهم وعباراتهم، نجد معظم هذه الأفكار وطابعها واضحا جليا، بل إنها عين هذه الترهات والخزعبلات، مبثوثة منشورة في كتب الأولين منهم والآخرين.(2)
ثم كل النصوص الكثيرة من كتب الصوفية -وهي كثيرة جدا- من قرأها لا يجد الفرق بين ما تذكره الشيعة في كتبها وما هو مسجل في كتب وطبقات الصوفية، وممن نقل عنهم الغزالي قال في المنقذ من الضلال -وهو كتاب من أصول الضلال-: ومن أول الطريق تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.(3)
__________
(1) انظر الشيعة وأهل البيت (ص.25).
(2) التصوف المنشأ والمصادر (ص.162).
(3) المنقذ من الضلال (ص.127).(1/298)
ويقول الدباغ في 'الإبريز' -وهو كتاب كبير في الضلال والخرافات-: وأما ما ذكروه في الفرق بين النبي والولي من نزول الملك وعدمه فليس بصحيح، لأن المفتوح عليه سواء كان وليا أو نبيا لابد أن يشاهد الملائكة بذواتهم على ما هم عليه، ويخاطبهم ويخاطبونه، وكل من قال: إن الولي لا يشاهد الملك ولا يكلمه، فذلك دليل على أنه غير مفتوح عليه".(1)
وجاء في الكتاب المسمى بالوحيد: أن الشيخ تاج الدين ابن شعبان كان إذا سأله إنسان في حاجة يقول له اصبر حتى يجيء جبريل.(2)
ونكتفي بهذا القدر من النقول التي تدل صراحة على تنفيذ المخطط المرسوم من طرف أعداء الله وأعداء رسله لنسف النبوة والرسالات، وإحلال المذاهب الكفرية محلها، فكيف يكون هذا الأصل من إحياء علوم الدين، وهو نسف لأصول الدين وفروعه. والنقول شاهدة بهذا، ولا أظن من في قلبه مسكة عقل وإنصاف يشك في هذا المخطط بله أن يدافع عن هذه الأصول الباطلة، بله أن يتبناها ويجعلها منهاجا له، بل ربما تجرأ وسماها بالمنهاج النبوي أو بإحياء علوم الدين كما فعل الغزالي في كتبه.
ومن الطامات: مخالفتهم في طريقة العبادة:
قال الغزالي: وقال أبو خالد الصفار: لقي نبي من الأنبياء عابدا فقال له: إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معشر الأنبياء نعمل عليه، أنتم تعملون على الخوف والرجاء، ونحن نعمل على المحبة والشوق.(3)
" التعليق:
__________
(1) ص.151).
(2) الأخلاق المتبولية للشعراني بتحقيق د. منيع عبد الحليم محمود (1/454).
(3) 4/361).(1/299)
فأين سند هذه القصة؟ ومن تكلم بها؟ ومن النبي الذي قال هذا؟ وما هذه المقارنة بين العباد والأنبياء؟ وهل للعبادة طريق غير الأنبياء؟ وهل العباد لهم وحي خاص بهم؟ يختلفون به على الأنبياء، كل هذا يحتاج إلى جواب، ولا يعرف الجواب عنه إلا من أخذ بالمقاييس الشرعية، وأما من يريد إضلال الناس فلا يبالي ويروي كل ما يجد ولا يسأل عن السند ولا عن مدلول المتن، كما هو واقع في هذه القصة وغيرها، والله المستعان.
ومن الطامات: مخالفة طريقة الرسل والقرآن في الترغيب والترهيب:(1/300)
قال الغزالي: ونيات الناس في الطاعات أقسام، إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار، ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء، وهو الرغبة في الجنة وهذا وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن، وموضع قضاء وطرهما الجنة، فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه، كالأجير السوء، ودرجته درجة البله، وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله.(1)
__________
(1) الحديث الذي روى في هذا الباب "أكثر أهل الجنة البله" لا يصح، وقد أخرجه البزار (2/411/1983 كشف الأستار) والبيهقي في الشعب (2/126/1367و1368) وابن عدي في الكامل (3/313) وقال: "وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر لم يروه عن عقيل غير سلامة هذا". وقال الهيثمي في المجمع (8/79): "فيه سلامة بن روح وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد بن صالح وغيره، وروايته عن عقيل وجادة"..(1/301)
وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى، والفكر فيه حبا لجماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة، فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، يريدون وجهه فقط، وثواب الناس بقدر نياتهم، فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى الكريم، ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين، كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين، بل أشد، فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيرا من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين، بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان، وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها، وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء، فعمى أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها لا تشعر به أصلا، ولا تلتفت إليه ولو كان لها عقل، وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن ولا يزالون مختلفين -كل حزب بما لديهم فرحون- ولذلك خلقهم.
حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني، ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال: يا رب، كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال إلي. رؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يطالبني على الدعاوى بالبرهان إلا على قول واحد، قلت يوما: أي خسارة أعظم من خسران الجنة، فقال: أي خسارة أعظم من خسران لقائي.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/375).(1/302)
كل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي جاءت في ذكر أوصاف الجنة ونعيمها وأوصاف النار ولهيبها لا معنى له ولا فائدة فيه، انظر إلى هذا الانحراف كيف يصل بأصحابه إلى هذه الدرجة التي مفادها مفارقة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والله المستعان.
ومن الطامات: الصوفية يردون على الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - :
قال الغزالي: وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل الله، فقال: إلى متى تقولون الله وأنا محترق بالله. وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري، فقدم فقير وقال السلام عليكم، هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه؟ قال: فأشاروا إليه بمكان -وكان ثَم عين ماء- فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله ومضى إلى ذلك المكان، ومد رجليه ومات. وكان أبو العباس الدينوري يتكلم في مجلسه فصاحت امرأة تواجدا فقال لها: موتي، فقامت المرأة، فلما بلغت الدار التفتت إليه وقالت: قد مِتُّ، ووقعت ميتة. ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري قالت: لما قرب أجل أبي علي الروذباري، وكان رأسه في حجري، فتح عينيه وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت، وهذه الجنان قد زينت، وهذا قائل يقول: يا أبا علي قد بلغناك الرتبة القصوى، وإن لم تردها ثم أنشأ يقول:
وحقك لا نظرت إلى سواكا بعين مودة حتى أراكا
أراك معذبي بفتور لحظ وبالخد المورد من حياكا
وقيل للجنيد: قل لا إله إلا الله، فقال: ما نسيته فأذكره.(1)
" التعليق:
__________
(1) 4/482).(1/303)
وهكذا نعيش مع هذه الطامات، ونأسف على حال المسلمين حيث نزل إلى هذا الحد، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلالتهم وإمامتهم لم يصدر عن أحد منهم ما صدر عن هؤلاء من دعاوى طويلة عريضة، فأجل الناس جميعهم عند خالقهم، وهذا الأصل قرره القرآن أحسن تقرير، قال الله تعالى: إِنَّ { اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }(1)وقال تعالى: قُلْ { لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ }(2)فخرق هذا الأصل هو شرك بالله بإجماع المسلمين لم يخالف في ذلك إلا هؤلاء الدجاجلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تزهيد المسلمين في التوحيد، فما معنى الأحاديث التي وردت في فضيلة الذكر بـ 'لا إله إلا الله'، وهل فيها فرق بين الذاكر لله والناسي، أم الأمر مجرد عبادة يتعبد بها المسلمون، وهذا الموضع لا يحتاج إلى تطويل، فذكر المسلم لـ'لا إله إلا الله' أمر يقدره من يعرف معنى هذه الكلمة، وأن الأنبياء والرسل ما بعثوا إلا لتحقيقها، فكيف بهؤلاء يزهدون الناس فيها ويعتبرون ذلك كمالا، وهو لعمر الله المصيبة العظمى.
ومن الطامات: التهوين من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) لقمان الآية (34).
(2) الأعراف الآية (188).(1/304)
قال الغزالي: وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول لا إله إلا الله صادقا، ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى، ولا معبود غيره. ومن اتخذ إلهه هواه فهو بعيد من الصدق في توحيده وأمره مخطر في نفسه، فإن عجزت عن ذلك كله فكن محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حريصا على تعظيم سنته، ومتشوقا إلى مراعاة قلوب الصالحين من أمته، ومتبركا بأدعيتهم فعساك أن تنال من شفاعته أو شفاعتهم فتنجو بالشفاعة إن كنت قليل البضاعة.(1)
" التعليق:
هكذا يفسر الغزالي الصدق والإخلاص ويجعله في الدرجة الأولى، وهذا أمر صحيح، ولكن يرى الغزالي أن الذي لا يتحقق له ذلك فليكن محبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا من الخطر ما فيه، فالإخلاص لله لا يتحقق إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهما شيئان لا ينفصلان فلا إخلاص ولا توحيد إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن مذهب الفلاسفة والصوفية التهوين من شأن النبوة، وأن التوحيد يمكن أن يحصل بغير النبوة لأن النبوة عندهم أمر مكتسب يدرك بالمجاهدة وقوة الذكاء والمخيلة، ولهذا كان الكثير من الصوفية ينتظر أن تنزل عليه الرسالة، ولهذا كان عبد الحق بن سبعين منهم يقول: لقد حجر ابن آمنة واسعا إذ يقول لا نبي بعدي، وفي لفظ آخر له: فقد زرب ابن آمنة. فضلال الصوفية في باب النبوة أمر معروف، وللغزالي في ذلك من الكلام ما فضحه به العلماء على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه. فما يقرره الغزالي ههنا أصل خطير، يلزم منه الاستغناء عن النبوة فمن حقق التوحيد فلا حاجة به إلى النبي وإلى محبته. وكلامه في ذلك واضح لا غبار عليه، وهل بعد هذا الضلال من ضلال؟ وهل بعد هذه المصيبة من مصيبة؟ فأين إحياء علوم الدين؟ بل هذا ضرب للنبوة أصولها وفروعها.
ومن الطامات: الصوفية يحرفون الكلم عن مواضعه:
__________
(1) 4/525-526).(1/305)
قال الغزالي: وكذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ { نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }(1)وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان.(2)
" التعليق:
هكذا يحرف الغزالي كتاب الله ويحمل آياته على ما لا تدل عليه، وجره إلى هذا ضلاله الفلسفي المعروف، فاقرأ تفاسير السلف الذين هم القدوة هل تجد أحدا منهم قد ذهب هذا المذهب الباطل الذي يقرره الغزالي بوقاحة واضحة.
ومن الطامات: ادعاء علم الغيب الذي اختص الله به نفسه:
قال الغزالي: وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلا، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس ...
وعن أبي سعيد الخراز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس فناداني وقال: والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، فاستغفرت الله في سري فناداني وقال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، ثم غاب عني ولم أره.
وقال زكرياء بن داود: دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل الهاشمي وهو عليل، وكان ذا عيال، ولم يعرف له سبب يعيش به قال: فلما قمت قلت في نفسي: من أين يأكل هذا الرجل؟ قال: فصاح بي يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإن لله تعالى ألطافا خفية.
__________
(1) الأنعام الآية (75).
(2) 3/17).(1/306)
وقال أحمد النقيب: دخلت على الشبلي، فقال مفتونا: يا أحمد فقلت: ما الخبر، قال: كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فعاد مني خاطري وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون دينارا فقال: اجعلها في مصالحك، قال: وقمت فأخدتها وخرجت وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير فقال: أعطها المزين، فقلت: إن جملتها كذا وكذا، قال: أو ليس قد قلنا لك إنك بخيل، قال: فناولتها المزين، فقال المزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا ألا نأخذ عليه أجرا، قال: فرميت بها في دجلة، وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل.
وقال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير النيناني، واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاما، فلما خرجت من عنده، إذا به قد لحقني وقد حمل طبقا فيه طعام وقال: يا فتى كل، فقد خرجت الساعة من اعتقادك. وكان أبو الخير النيناني هذا مشهورا بالكرامات.
وقال إبراهيم الرقي: قصدته مسلما عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستويا فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي، فلما سلم، خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير وقلت: قصدني سبع، فخرج وصاح به، وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني فتنحى الأسد، فتطهرت فلما رجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.(1)
__________
(1) 3/24-25).(1/307)
قال الغزالي: والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده أمران أحدهما: عجائب الرؤيا الصادقة، فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضا في اليقظة، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات، فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه. والثاني: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن، وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره، إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور.(1)
__________
(1) 3/25).(1/308)
قال الغزالي: اعلم أن العلوم ليست ضرورية وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم، فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا، ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد، ينقسم إلى ما لا يدري العبد أنه كيف حصل له، ومن أين حصل، وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب، والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني يسمى وحيا، وتختص به الأنبياء، والأول يختص به الأولياء والأصفياء والذي قبله وهو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة التي سبق ذكرها، فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلك تارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل.(1/309)
وتمام ارتفاع الحجاب بالموت، فبه ينكشف الغطاء وينكشف أيضا في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم، تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما، ودوامه في غاية الندور، فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه، ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيار العبد، ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك، بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم، فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة وإليه الإشارة بقوله تعالى(1): * { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } .(2)
" التعليق:
هذا الذي نقلناه عن الغزالي هو صريح في ادعاء علم الغيب والاطلاع على اللوح المحفوظ، وهذا الأمر أخذه الصوفية مباشرة عن الشيعة إلا أنهم وضعوا له بعض الحيثيات التي نهايتها الرجوع إلى مصدرهم الأساسي الذي مثلوه أحسن تمثيل كما سبق أن ذكرت. وبالنظر إلى كتاب الكليني المسمى بالكافي، نجد النسخ متطابقة، ولا فرق بين العقيدة الشيعية والعقيدة الصوفية التي عنون لها أبو حامد بهذا العنوان الكبير الذي روج لها طيلة هذه العصور، والمسلمون في سبات عميق ما بين مؤيد ومتأول لما ورد في الإحياء من طامات وبلايا إلا من انتبه إلى الخطر، وأدلى بما عنده من النصح للأمة، وكان المثال لذلك هو ابن تاشفين رحمه الله، وهاك بعض النماذج من كتاب الشيعة المعتمد عندهم حتى تعلم ما ينبغي أن تعلمه عن عقيدتك، وأن الشيعة تعاقدوا مع الصوفية عقدا مؤبدا في نشر ضلالهم، ولكن باسم جديد وبطرق مختلفة.
قال الكليني:
" باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث:
__________
(1) الشورى الآية (51).
(2) 3/18-19).(1/310)
عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: وَكَانَ { رَسُولًا نَبِيًّا (51) } ما الرسول وما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك، قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث } .(1)
كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا عليه السلام: جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص.
عن الأحول قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرسول والنبي والمحدث، قال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى آتاه جبرئيل عليه السلام من عند الله بالرسالة وكان محمد صلى الله عليه وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة، وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع، ولا يعاين ولا يرى في منامه ... (2)
" باب أن الأئمة عليهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه:
عن عبد الرحمن بن كثير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: نحن ولاة أمر الله، وخزنة علم الله وعيبة وحي الله.
عن سورة بن كليب قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه، لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه.
__________
(1) في قراءتهم الباطلة.
(2) الكافي (1/231-232).(1/311)
عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تبارك وتعالى استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك، فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك، وهم خزاني على علمي من بعدك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد أنبأني جبرئيل عليه السلام بأسمائهم وأسماء آبائهم ... (1)
" باب أن الأئمة هم أركان الأرض:
عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما جاء به علي عليه السلام آخذ به وما نهى عنه انتهى عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وآله ولمحمد صلى الله عليه وآله الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين عليه السلام باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وآله ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب وإن رسول الله صلى الله عليه وآله يدعى فيكسى، وأدعى فأكسى ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي علمت المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني، أبشر بإذن الله وأؤدي عنه، كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه ... (2)
" باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم:
__________
(1) الكافي (1/248-249).
(2) الكافي (1/253-254).(1/312)
عن سيف التمار قال: كنا مع أبي عبد الله عليه السلام جماعة من الشعية في الحجر فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا فقلنا: ليس علينا عين فقال: ورب الكعبة ورب البنية -ثلاث مرات- لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وراثة.
عدة من أصحابنا منهم عبد الأعلى وأبو عبد عبيدة وعبد الله بن بشر الخثعمي سمعوا أبا عبد الله عليه السلام يقول: إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، قال: ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز وجل يقول: فيه تبيان كل شيء ...
" باب جهات علوم الأئمة عليهم السلام:
عن أبي الحسن الأول موسى عليه السلام قال: قال: مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: وراثة من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن علي عليه السلام؟ قال: قلت: إنا نتحدث أنه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال: أو ذاك ...
" باب أن الأئمة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه:
قال أبو جعفر عليه السلام: لو كان لألسنتكم أوكية لحدثت كل امرئ بما له وعليه.(1/313)
وبهذا الإسناد قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من أين أصاب علي ما أصابهم مع علمهم بمناياهم وبلاياهم؟ قال: فأجابني -شبه المغضب- ممن ذلك إلا منهم؟ فقلت: ما يمنعك جعلت فداك؟ قال: ذاك باب أغلق إلا أن الحسين بن علي صلوات عليهما فتح منه شيئا يسيرا ثم قال: يا أبا محمد، إن أولئك كانت على أفواههم أوكية.
" التعليق:
انظر رحمك الله إلى ما يذكره الغزالي في إحيائه عن أرباب التصوف، ومطابقته لما تنسبه الرافضة لعلي رضي الله عنه ولأئمتهم من الإحاطة بعلوم الغيب؛ وعلي رضي الله عنه من خيرة أولياء الله وعباده، بل هو رابع الخلفاء الراشدين في الفضل والمكانة، بل لا يشك أحد في فضله إلا من في قلبه مرض كالنواصب والخوارج وأضرابهم من مرضى القلوب لما سئل: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.(1)
ومنهاج أهل السنة والجماعة هو تتبع النصوص وجمعها إلى بعضها ورد المتشابه إلى المحكم. وأما الذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء نشر البدعة، وابتغاء مخالفة النصوص الصريحة.
والثالث: ما ذكره الغزالي من الطرق التي توصل إلى الكشف والوصول إلى ذلك الكشف الذي يذكره هو وأضرابه، فهو أكثر من علم النبوة، فالأنبياء ما ذكروا عن أنفسهم أنهم كانوا ينظرون إلى اللوح المحفوظ وإنما كانوا يخبرون على طريق الملك، ولم يدع نبينا صلى الله عليه وسلم وهو إمام الأنبياء وسيدهم، أنه اطلع على اللوح المحفوظ وحسبك ضلالا أن تدعي ما لم يذكر لنبي من الأنبياء، والحكم عند أهل العلم في مثل هذه القضايا معروف: الاستتابة وإلا القتل.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص.263).(1/314)
والرابع: معلوم عند أئمة السير والعقيدة والحديث والفقه أن من آيات النبوة الإخبار بالمغيبات ماضيها ومستقبلها، فإذا كان هؤلاء الدجاجلة يزعمون لأنفسهم هذه الآية، فما فائدة اختصاص الأنبياء بهذه المعجزة.
والخامس: ما ورد من آيات القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم في اختصاص الله تعالى بعلم الغيب.
جاء في غاية الأماني في الرد على النبهاني: اعلم أن الغيب قسمان: قسم استأثر الله تعالى به، فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي ولا رسول، ولا صفي ولا ولي، ولا منجم ولا كاهن، ولا عراف ولا غيرهم، وهو المذكور في قوله تعالى: إِنَّ { اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }(1)فكل من هذه الأمور لم يطلع الله عليها أحدا من أنبيائه وأصفيائه، والكلام على هذه الآية مفصل في كتب التفاسير، ولا مجال لنا لذكره في هذا المقام. وأما القسم الثاني فهو الذي يجوز أن يعرفه غير الله ويطلع عليه وهو ما عدا الخمسة السابقة، وله أسباب كثيرة: منها الوحي، والكهانة، والطرق، والزجر ونحو ذلك، وبالجملة علم الغيب لله سبحانه فلا يقال لغيره عالم الغيب ومن اطلع على شيء منه بواسطة وحي أو غيره يقال أطلعه الله، وما من أحد من المسلمين إلا ويعرف غيوبا كثيرة -كالأخبار التي وردت في أحوال البرزخ والحساب والجنة والنار- ولا يقال لأحد منهم عالم الغيب، وكثير من المتصوفة يدعون أن مشائخهم يعلمون الغيب، وهذا تعبير شنيع، وربما قالوا بالكشف وكل ذلك مما لا أصل له.
__________
(1) لقمان الآية (34).(1/315)
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَمَا { أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ }(1)وما أخبر به من الغيوب فبوحي من الله وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) }(2)وهكذا الأنبياء والرسل وهذا نوح لما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك لم يعلم السبب في صنعها، وموسى لم يدر قبل لقي فرعون ماذا يكون من أمره حتى قال: وَلَهُمْ { عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) }(3)وإبراهيم أعلمه الله وأوحى إليه أن يذبح إسماعيل فبادر إلى ذلك، فلم يعلم هو ولا إسماعيل أن الله ينسخ هذا الحكم، ويعقوب بقي يبكي على ولده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن ولم يعلم بحال يوسف، وداود لم يعلم بحقيقة من تسوروا المحراب، وقالوا: خَصْمَانِ { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ }(4)القصة، وما حكم به في مسألة الحرث، وتفهيم سليمان لها دونه، وما كان من ضيف لوط وقومه ولم يعلم بحقيقتهم حتى قال هؤلاء ضيفي فلا تخزون، وما كان من قصة يونس حين ذهب مغاضبا فكان من أمره ما كان، ولو كان له اطلاع على العاقبة وكشف على الحقيقة لما ذهب حتى ألقي في البحر، وساهم وكان من المدحضين، ولو استوعبنا ذلك لطال الكلام، انظر إلى القرآن الكريم وما أخبر فيه سبحانه عن أنبيائه ورسله تجد الأمر واضحا، قال تعالى: عَفَا { اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ }(5)يَا أَيُّهَا { النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ }(6)و$tB { كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ }(7)إلى غير ذلك من الآيات الناصة على عدم علم الأنبياء بما لم يعلمهم الله به.
__________
(1) الأحقاف الآية (9).
(2) النجم الآيات (3و4).
(3) الشعراء الآية (14).
(4) ص الآية (22).
(5) التوبة الآية (43).
(6) التحريم الآية (1).
(7) الأنفال الآية (67).(1/316)
وفي كتاب الحيوان للجاحظ، قال الله عز وجل: وَتَفَقَّدَ { الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ڑْüخ7ح !$tَّ9$# (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }(1)ثم قال: فَمَكَثَ { غَيْرَ بَعِيدٍ }(2)يعني الهدهد، فقال لسليمان المتوعد له بالذبح عقوبة له، والعقوبة لا تكون إلا على المعصية لبشري آدمي لم تكن عقوبته الذبح، فدل ذلك على أن المعصية إنما كانت له ولا تكون المعصية لله إلا ممن يعرف الله، أو ممن كان يمكنه أن يعرف الله تعالى فترك ما يجب عليه من المعرفة، وفي قوله لسليمان: أَحَطتُ { بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) }(3)ثم قال بعد أن عرف فضل ما بين الملوك والسوقة، وما بين النساء والرجال، وعرف عظيم عرشها وكثرة ما أوتيت في ملكها، قال: وَجَدْتُهَا { وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) }(4)فعرف السجود للشمس وأنكر المعاصي، ثم قال: أَلَّا { يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) }(5)ويتعجب من سجودهم لغير الله، ثم علم أن الله يعلم غيب السماوات و الأرض، ويعلم السر والعلانية، ثم قال: اللَّهُ { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (26) }(6)
__________
(1) النمل الآيات (20و21).
(2) النمل الآية (22).
(3) النمل الآيات (22و23).
(4) النمل الآية (24).
(5) النمل الآية (25).
(6) النمل الآية (26)..(1/317)
وهذا يدل على أنه أعلم من ناس كثير من المميزين المستدلين الناظرين، قال سليمان: سَنَنْظُرُ { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) }(1)ثم قال: اذْهَبْ { بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) }(2)فَلَمَّا { جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) }(3)وذلك أنها قَالَتْ { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) }(4)
__________
(1) النمل الآية (27).
(2) النمل الآيات (28-31).
(3) النمل الآية (36).
(4) النمل الآيتان (34و35)..(1/318)
قال سليمان للهدهد: ارْجِعْ { إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) }(1)اهـ.(2)
وأطال الجاحظ الكلام على هذه الآيات إلى أن قال: ثم طعن في ملك سليمان وملكة سبأ ناس من الدهرية، وقال: زعمتم أن سليمان سأل ربه رَبِّ { اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }(3)وأن الله تعالى أعطاه ذلك، فملكه على الجن فضلا عن الإنس، وعلمه منطق الطير، وسخر له الريح، فكانت الجن له خيولا، والرياح له مسخرة، ثم زعمتم -هو إما بالشام وإما بسواد العراق- أنه لا يعرف باليمن ملكة هذه صفتها، وملوكنا اليوم دون سليمان في القدرة لا يخفى عليهم صاحب الخزر، ولا صاحب الروم، ولا صاحب الترك، ولا صاحب النوبة، وكيف يجهل سليمان موضع هذه الملكة مع قرب دارها، واتصال بلادها، وليس دونها بحار ولا أوعار، والطريق نهج الخف والحافر والقدم، فكيف والجن والإنس طوع يمينه، ولو كان حين أخبره الهدهد بمكانها أضرب عنها صفحا لكان لقائل أن يقول ما أتاه الهدهد إلا بأمر يعرفه، فهذا وما أشبهه دليل على فساد أخباركم.
__________
(1) النمل الآيات (37-40).
(2) 2/36-37).
(3) ص الآية (35).(1/319)
فأجاب الجاحظ بقوله: قلنا أن الدنيا إذا خلاها الله وتدبير أهلها ومجاري أمورها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعم أن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان أنبه أهل زمانه لأنه نبي ابن نبي، وكان يوسف وزير ملك مصر ومن النباهة بالموضع الذي لا يدفع وله البرد وإليه يرجع جواب الأخبار، ثم لم يعرف يعقوب مكان يوسف ولا يوسف مكان يعقوب دهرا من الدهور مع النباهة والقدرة واتصال الدار، وكذلك القول في موسى بن عمران ومن كان معه في التيه، [فقد كانوا أمة من الأمم يكسعون أربعين عاما في مقدار فراسخ يسيرة، ولا يهتدون إلى المخرج وما كانت بلاد التيه](1)إلا من ملاعبهم ومنتزهاتهم، ولا يعدم مثل العسكر الأدلاء والجمالين والمكارين والفيوح والرسل والتجار، ولكن الله صرف أوهامهم ورفع ذلك القصد من صدورهم، وكذلك القول في الشياطين الذين يسترقون السمع في كل ليلة فتقول أنهم لو كان كلما أراد مريد منهم أن يصعد ذكر أنه قد رجم أو رجم صاحبه، وأنه كذلك منذ كان لم يصل معه أحد إلى استراق السمع كان محالا أن يروم ذلك أحد منهم مع الذكر والعيان إلى آخر ما قال(2). والكلام في هذه المسألة طويل الذيل، وما ذكرناه كاف في المرام، وما نقله عن مشايخه من الكشف لا أصل له.
__________
(1) سقط من كتاب الحيوان للجاحظ بتحقيق فوزي عطوي.
(2) الحيوان (2/40-41).(1/320)
والسادس: نسأل الغزالي ومحبيه، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم صاحب كشف أو لم يكن؟ وهل سلك الطرق التي ذكروها؟ فإن كان صاحب كشف فلماذا لم يكشف قضايا أحد؟ وترك أصحابه يموتون واحدا واحدا ويختلف مع أصحابه في الخروج وفي الأخير يقرر الخروج. ولماذا لم يكشف قصة حنين ورجوع الصحابة عنه؟ وكذا حديث الإفك الذي تحير فيه مدة حتى جاءه الوحي من الله، ومن هذه الأمثلة كثير. فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبره به جبريل عن ربه أخبر به، وما أخفاه عنه خفي، والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك علم اليقين، وهؤلاء الدجاجلة يزعمون لأنفسهم ما لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خير الأتقياء وسيد المحسنين والمتقين، وما كنت أظن أن يصل المسلمون إلى هذه الدرجة من الوقاحة على الله وعلى رسوله حتى رأيتها في كتب الصوفية، وخصوصا ما يسمى بإحياء علوم الدين، وهو لعمر الله الإجهاز على الدين كله أصوله وفروعه، ولو لم تكن فيه إلا هذه القضية لكان كافيا في طرحه وإحراقه كما فعل المرابطون جزاهم الله خيرا.
ومن الطامات: اتخاذ مساجد الضرار وتوابعها من البلايا والمصائب من البدع:(1/321)
قال الغزالي: وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية. أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة، فقيل له: يَا أَيُّهَا { الْمُزَّمِّلُ (1) } يَا أَيُّهَا { الْمُدَّثِّرُ (1) } .(1)
__________
(1) 3/76).(1/322)
وقال في موضع آخر من الجزء نفسه: فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى فمن كان لله كان الله له، وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن، وعن العلم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض، والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير، ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه الله الله، على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان، ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان، ويصادف قلبه مواظبا على الذكر، ثم يواظب عليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق، وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته، وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود، وقد يتأخر وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفا وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد يقتصر على فن واحد ومنازل أولياء الله تعالى فيه(1/323)
لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم، وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء ثم استعداد وانتظار فقط.(1)ثم استرسل الغزالي في ذكر هذا الهذيان بما يثقل ذكره وتسود به الصحائف، فعليهم ما يستحقون من ربهم فقد أفسدوا الدين أيما إفساد.
" التعليق:
أقول: إن هذه الخلوات والزوايا التي هي من العمد الصوفية، إذا لم تكن هي مساجد الضرار التي قال الله تعالى فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ { اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) } .(2)
__________
(1) 3/19-20).
(2) التوبة الآيات (107-110).(1/324)
قال الحافظ ابن كثير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم(1/325)
بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: "إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله"، فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَالَّذِينَ { اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا }(1)هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم وأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله عز وجل: لَا { تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } إلى قوله: وَاللَّهُ { لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) }(2)
__________
(1) التوبة الآية (107).
(2) التوبة الآيتان (108و109)..(1/326)
وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء، وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه" فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال: (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليه بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: وَالَّذِينَ { اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا }(1)
__________
(1) التوبة الآية (107)..(1/327)
إلى آخر القصة، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة ابن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر وابناه مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل [بن] الحارث وهم من بني ضبيعة، وبحزج وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. وقوله (وليحلفن) أي الذين بنوه (إن أردنا إلا الحسنى) أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس، قال الله تعالى: وَاللَّهُ { يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) } أي فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله، وقوله: لَا { تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } نهي من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبدا، ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله، ولهذا قال تعالى: لَمَسْجِدٌ { أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ }(1)والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة"(2)،
__________
(1) التوبة الآية (108).
(2) رواه الترمذي (2/145-146/324) وابن ماجه (1/452/1411) والحاكم (1/487) من حديث أسيد بن ظهير رضي الله عنه. وله شواهد عن جمع من الصحابة: سهل بن حنيف وابن عمرو وكعب بن عجرة وأبي سعيد رضي الله عنهم..(1/328)
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا(1)، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة(2)فالله أعلم.(3)
__________
(1) رواه أحمد (2/30)، البخاري (3/89/1194)، مسلم (2/1016/1399)، أبو داود (2/533-534/2040) والنسائي (2/367/697) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) رواة ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/258/3488) والطبراني في الكبير (24/317-318/801و802) عن الشموس بنت النعمان رضي الله عنها. قال الهيثمي في المجمع (4/11): "رجاله ثقات".
(3) تفسير ابن كثير (4/148-150).(1/329)
ومن قرأ الآية وسبب نزولها مما ذكره الحافظ ابن كثير يجد أنه لا فرق بين ما ذكر في الآية وفي سبب نزولها، وبين ما ذكره الصوفية في إحداث الخلوة التي جعلوها مكانا للعبادة، وذكروا لها من الشروط والأوصاف ما زادوا به على المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار بما أخذوه عن جهلة الهنود وعبادهم الوثنيين الذين لا نبي لهم ولا رسول، وفي كلام الغزالي من الباطل ما يجب دفعه ورده وكل جملة من جمله تحمل ضلالا كبيرا، فلذا سنقتصر في كلمتنا هذه على ما سماه بالخلوة ونترك بقية الأمور إلى حينها ما لم يتقدم بعضها فنقول وبالله التوفيق: إن الذي يستقرئ نصوص الكتاب والسنة يجد أن من خصائص هذه الأمة أن الأرض جعلت لها كلها مسجدا، وأينما أدركت المصلي الصلاة صلاها(1)وذلك رفعا للحرج وتوسيعا على الأمة، وخصصت المساجد للاجتماع في الصلوات الفرائض للرجال على طريق الوجوب في أرجح الأقوال من تمكن منهم، ولصلاة الجمعة إلا للمسافر والمريض ومن استثني في الحديث(2)، وجعلت المساجد الثلاثة أفضل بيوت الله على الإطلاق(3)، وصحت النصوص في شد الرحال إليها(4)
__________
(1) أحمد (3/304)، البخاري (1/574/335)، مسلم (1/370-371/521) والنسائي (1/229-231/430) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: " ... وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل".
(2) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر" أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/222)، الطبراني في الكبير (2/51-52/1257)، البيهقي (3/183-184) وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (16/188) من حديث تميم الداري. وصححه الشيخ الألباني، انظر الإرواء (3/54-58).
(3) أخرجه أحمد (2/466)، البخاري (3/81/1190)، مسلم (2/1012/1394)، الترمذي (2/147/325)، النسائي (2/365/693) وابن ماجة (1/450/1404) من حديث أبي هريرة.
(4) تقدم تخريجه (ص.333)..(1/330)
والاعتكاف فيها(1)والصلاة على أرضها وما يتبع ذلك من ذكر وتلاوة وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وجعلت البيوت كلها محلا لأداء النوافل بالليل والنهار، وصح عنه صلى الله عليه وسلم فضيلة الصلاة فيها إلا المكتوبة(2)وهي خلوة المسلم وصومعته، أي محل عبادته الفردية طيلة عمره، أما تخصيص مكان معين للعبادة بشروط هندية مفتعلة في البراري والقفار والجبال والسهول والأمكنة البعيدة، فهذا أمر ليس من الإسلام في شيء، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد نزول الوحي عليه عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه أنه ذهب إلى مكان معين في جبل أو غار ليتضرع فيه بالعبادة، والمنقول عنه بالتواتر هو الصلاة في المسجد وفي البيت وفي سفره وحضره وعن أصحابه كذلك وخلفائه والهدي هديه، والأسوة أسوته، والاقتداء به هو المتعين، وأما عباد الهنود وجهالهم فتجب علينا محاربتهم، وهاهي كتب الحديث بين أيدينا والآثار والفقه لم يذكر واحد منهم هذا الأصل الباطل الذي دندن حوله الغزالي، والذي تلقفه عنه المعاصرون وأثبتوه في كتبهم.
__________
(1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" أخرجه الإسماعيلي في المعجم (3/720-721)، الطحاوي في المشكل (4/20) والبيهقي (4/316) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. وصححه الشيخ الألباني، انظر الصحيحة (2786).
(2) أخرجه أحمد (5/187)، البخاري (10/634/6113)، مسلم (1/539-540/781(213))، أبو داود (2/145/1447)، الترمذي مختصرا (2/312/450) والنسائي (3/219-220/1598) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.(1/331)
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا الباطل الذي ذكره الغزالي فأجاب رحمه الله جوابا كافيا، أفاد فيه وأجاد قال: وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي وهذا خطأ، فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه وإلا فلا، وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون، وقد أقام صلوات الله عليه بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء، وعام الفتح أقام بها قريبا من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع، وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه ولم يقصده. وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية ويقال: إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه، كالصلاة والاعتكاف في المساجد فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ بل قال له الملك عليه السلام (اقرأ) قال صلوات الله عليه وسلامه: "فقلت لست بقارئ"(1)، ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة، ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين كأبي جهل قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ { الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) (19) }(2)
__________
(1) رواه أحمد (6/232-233)، البخاري (8/926-927/4953) ومسلم (1/139-142/160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) العلق الآيات (9-19)..(1/332)
و(طائفة) يجعلون الخلوة أربعين يوما ويعظمون أمر الأربعينية، ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وقد روى أن موسى عليه السلام صامها وصام المسيح أيضا أربعين لله تعالى وخوطب بعدها، فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل، كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي. وهذا أيضا غلط، فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل شرعت لموسى عليه السلام كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة. وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عددا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل فنزلت عليهم الشياطين لأنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها، قال تعالى: ثُمَّ { جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) } .(1)
__________
(1) الجاثية الآيتان (18و19).(1/333)
وكثير منهم لا يحد للخلوة مكانا ولا زمانا بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة. ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية: الصلاة والصيام والقراءة والذكر، وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير مشروعة، فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة أن لا يزيد على الفرض، لا قراءة ولا نظرا في حديث نبوي ولا غير ذلك، بل قد يأمرونه بالذكر ثم قد يقولون ما يقوله أبو حامد: ذكر العامة: (لا إله إلا الله) وذكر الخاصة: (الله، الله) وذكر خاصة الخاصة: (هو، هو). والذكر بالاسم المفرد مظهرا ومضمرا بدعة في الشرع وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلاما لا إيمانا ولا كفرا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"(1)وفي حديث آخر: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"(2)وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(3)والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة.
__________
(1) رواه أحمد (5/10) وعلقه البخاري (11/694)، مسلم (3/1685/2137)، النسائي في عمل اليوم والليلة (845) وابن ماجة (2/1253/3811) عن سمرة رضي الله عنه وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
(2) رواه الترمذي (5/431/3383)، النسائي في عمل اليوم والليلة (831) وابن ماجه (2/1249/3800) من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (3/126/846) والحاكم (1/503) ووافقه الذهبي.
(3) رواه الترمذي (5/534/3585) وقال غريب من هذا الوجه. من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وله شواهد من حديث علي رضي الله عنه وغيره. انظر الصحيحة رقم (1503).(1/334)
وأما ذكر الاسم المفرد فبدعة لم يشرع وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان: ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين يبين أنه ليس قصدنا ذكر الله تعالى، ولكن جمع القلب على شيء معين حتى تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالا شيطانيا فيلبسه الشيطان، ويخيل إليه أنه قد صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطي ما لم يعطه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا موسى عليه السلام يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.(1/335)
وأبلغ من ذلك من يقول ليس مقصودنا إلا جمع النفس بأي شيء كان، حتى يقول لا فرق بين قولك: يا حي. وقولك يا جحش. وهذا مما قاله لي شخص منهم وأنكرت ذلك عليه ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها الشيطان. ومنهم من يقول: إذا كان قصد وقاصد ومقصود فاجعل الجميع واحدا فيدخله في أول الأمر في وحدة الوجود. وأما أبو حامد وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر -لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر- ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول: الله، الله. وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل قد يقولون: إنه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء. ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للأنبياء، وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في (الإحياء) وغيره، كما أنه يبالغ في مدح الزهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه، فإن المتفلسفة كابن سينا وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال، ولهذا يقولون: النبوة مكتسبة، فإذا تفرغ صفى قلبه -عندهم- وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء، وعندهم أن موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم كلم من سماء عقله، لم يسمع الكلام من خارج فلهذا يقولون أنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى وأعظم مما حصل لموسى. و (أبو حامد) يقول: إنه سمع الخطاب كما سمعه موسى عليه السلام، وإن لم يقصد هو بالخطاب وهذا كله لنقص إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، وهذا الذي قالوه باطل من وجوه:
أحدها: أن هذا الذي يسمونه (العقل الفعال) باطل لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر.(1/336)
الثاني: أن ما يجعله الله في القلوب يكون تارة بواسطة الملائكة إن كان حقا، وتارة بواسطة الشياطين إذا كان باطلا، والملائكة والشياطين أحياء ناطقون، كما قد دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من جهة الأنبياء، وكما يدعي ذلك من باشره من أهل الحقائق وهم يزعمون أن الملائكة والشياطين صفات لنفس الإنسان فقط، وهذا ضلال عظيم.
الثالث: أن الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربهم بالوحي، ومنهم من كلمه الله تعالى فقربه وناداه، كما كلم موسى عليه السلام لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض كما يزعمه هؤلاء.
الرابع: أن الإنسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر، فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل أو سمع وكلاهما لم يدل على ذلك.(1/337)
الخامس: أن الذي قد علم بالسمع والعقل أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين، ثم تنزلت عليه الشياطين، كما كانت تتنزل على الكهان، فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر الله الذي أرسل به رسله فإذا خلا من ذلك تولاه الشيطان قال الله تعالى: وَمَنْ { يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) }(1)وقال الشيطان فيما أخبر الله عنه: فَبِعِزَّتِكَ { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) }(2)وقال تعالى: إِنَّ { عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) }(3)والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئا، وإنما يعبد الله بما أمر به على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين. وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين، واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء الله المتقين، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
__________
(1) الزخرف الآيتان (36و37).
(2) ص الآيتان (82و83).
(3) الحجر الآية (42).(1/338)
السادس: إن هذه الطريقة لو كانت حقا فإنما تكون في حق من لم يأته رسول، فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك طريق فمن خالفه ضل، وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة وذكر ودعاء وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر وانتظار ما ينزل. فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض الأنبياء لكانت منسوخة بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله تعالى في قلب العبد إلهاما ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق.(1/339)
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله، ويملؤه بمحبة الله وكذلك يخرج عنه خوف غير الله ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله ويثبت فيه التوكل على الله، وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا يناقضه وينافيه، كما قال جندب(1)وابن عمر(2): "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". وأما الاقتصار على الذكر المجرد الشرعي مثل قول: لا إله إلا الله، فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانا، لكن ليس هذا الذكر وحده هو الطريق إلى الله تعالى دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة ثم القراءة ثم الذكر ثم الدعاء، والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من القراءة، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة أفضل من القراءة، ثم قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل. وقد ييسر عليه هذا دون هذا فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل، كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسرا عليه والفاضل متعسرا عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في المقدمة (1/23/61) والبيهقي (3/120) وقال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) أخرجه البيهقي (3/120) وصححه الحاكم (1/35) ووافقه الذهبي، وله شواهد من حديث ابن مسعود وحذيفة وغيرهما.(1/340)
السابع: أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط، وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما صقله هؤلاء، وهذا قياس فاسد لأن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية كما حصل لهذا الحائط من هذا الحائط، بل هو يقول إن العلم منقوش في النفس الفلكية، ويسمى ذلك (اللوح المحفوظ) تبعا لابن سينا. وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله ورسوله ليس هو النفس الفلكية، وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة وكسوه لحاء الشريعة. وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ والملك والشيطان والحدوث والقدم وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت طائفة القرامطة الباطنية.
والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية كما يزعم هؤلاء فلا فرق في ذلك بين الناظر والمستدل والمفرغ قلبه، فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل. ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين، ولهم تنزلات معروفة، وقد بسط الكلام عليها ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله كالتلمساني، وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة، لكن ليس هذا موضع بسطها وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس.(1/341)
ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية، بل سهر مطلق، وجوع مطلق، وصمت مطلق مع الخلوة، كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره، وهي تولد لهم أحوالا شيطانية، وأبو طالب قد ذكر بعض ذلك، لكن أبا طالب أكثر اعتصاما بالكتاب والسنة من هؤلاء، ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة من جنس أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذب محض وإن كان ليس فيه إلا قراءة قرآن، ويذكر أحيانا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو وأبو حامد وغيرهما، وذكروا أنه يزن الخبز بخشب رطب كلما جف نقص الأكل. وذكروا صلوات الأيام والليالي، وكلها كذب موضوعة، ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئا من الخيالات الفاسدة وليس هذا موضع بسط ذلك. وإنما الغرض التنبيه بهذا على جنس من العبادات البدعية وهي الخلوات البدعية سواء قدرت بزمان أو لم تقدر لما فيها من العبادات البدعية، إما التي جنسها مشروع ولكن غير مقدرة، وإما ما كان جنسه غير مشروع، فأما الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب. فالأول: كاعتزال الأمور المحرمة ومجانبتها كما قال تعالى: وَإِذَا { رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }(1)ومنه قوله تعالى عن الخليل: فَلَمَّا { اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) }(2)وقوله عن أهل الكهف: وَإِذِ { اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ }(3)فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة، ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكهف وقد قال موسى: وَإِنْ { لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) } .
__________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) مريم الآية (49).
(3) الكهف الآية (16).(1/342)
(1)
وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع، وذلك بالزهد فيه فهو مستحب وقد قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه. وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة، فهذا حق كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس أفضل؟ قال: "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير"(2)وقوله: "يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة" دليل على أن له مالا يزكيه وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلاة فيهم، فقد قال صلوات الله عليه: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة جماعة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان" وقال: "عليكم بالجماعة فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم".(3)
فصل:
__________
(1) الدخان الآية (21).
(2) أخرجه مسلم (3/1503-1504/1889)، النسائي في الكبرى (5/257/8830) وابن ماجة (2/1316/3977) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه بنحوه البخاري (11/401/6494)، مسلم (3/1503/1888)، أبو داود (3/11/2485)، الترمذي (4/160/1660)، النسائي (6/318/3105) وابن ماجة (2/1316-1317/3978) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) رواه أحمد (5/196) وأبو داود (1/371/547) والنسائي (2/441-442/846) والحاكم (1/211) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وصححه ابن حبان (5/457-458/2101).(1/343)
وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة وإما غير مساجد: مثل الكهوف والغيران التي في الجبال، ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي أو رجل صالح، ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية. فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه وقد مات من سنين كثيرة ويقول: أنا فلان، وربما قال له: نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا كما جرى للتونسي مع نعمان السلامى. والشياطين كثيرا ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثم شيوخ لهم زهد وعلم وورع ودين يصدقون بمثل هذا. ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه، ومن هؤلاء من رأى في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ قال: إنه إبراهيم الخليل، ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه.(1/344)
وبعضهم كان يحكي: أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابها؟(1)
ومن الطامات: منافسة النبوة وهو ما يسمى عندهم بالشيخ المربي:
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/393-407).(1/345)
قال الغزالي: فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدي به، فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يبقي في متابعته شيئا ولا يذر وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور: الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر، وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه، ويصلح لقربه.(1)واسترسل الغزالي في هذيانه بما لا نثقل به قراءنا فإن في هذا الضلال كفاية لمن أراد أن يعرف الحق.
" التعليق:
حيل الصوفية كثيرة لا تنتهي إلا بالقضاء على مناهجهم ومصادرهم وهذه منها، فمن أين جاء الصوفية بهذه المشيخة المزعومة؟ والجواب أنهم أخذوها مباشرة من الشيعة الروافض حذو القذة بالقذة وإن كذبت فهاك روايات من كتاب الكافي للكليني إن قرأتها وأمعنت فيها النظر لا تجد الفرق لا في قليل ولا في كثير كما قرر أبو حامد الغزالي، وكما قال صاحب 'الإحسان الرجال' بعد حكايته لكلام الغزالي في المشيخة العمياء التي عبر عنها هنا في الإحياء.
قال ياسين في الإحسان: إن إسلاس القياد لولي مرشد يدلك على الطريق شرط في السلوك وما كان لولي أن يأمر إلا بحق.
__________
(1) 3/75-76).(1/346)
قال الكليني في أصول الكافي:
" باب فرض طاعة الأئمة
علي بن إبراهيم عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) } .(1)
الحسين بن محمد الأشعري عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصباح قال: أشهد أني سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أشهد أن عليا إمام فرض الله طاعته، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته وأن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته، وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته.
وبهذا الإسناد عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي قال: حدثنا حماد ابن عثمان عن بشير العطار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته.
محمد بن يحي عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: وَآَتَيْنَاهُمْ { مُلْكًا عَظِيمًا (54) }(2)قال: الطاعة المفروضة.
عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القماط، عن أبي الحسن العطار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة.
__________
(1) النساء الآية (80).
(2) النساء الآية (54).(1/347)
أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله: أَمْ { يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .(1)
أحمد بن محمد عن علي بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبد الله عليه السلام قولنا في الأوصياء أن طاعتهم مفترضة قال: فقال: نعم هم الذين قال الله تعالى: أَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ }(2)وهم الذين قال الله عز وجل: إِنَّمَا { وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا } .(3)
وبهذا الإسناد عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن عليه السلام فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، مثل طاعة علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: نعم.
وبهذا الإسناد عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الأئمة هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحد؟ قال: نعم.
وبهذا الإسناد عن مروك بن عبيد، عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائما على رأس الرضا عليه السلام بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب.
__________
(1) النساء الآية (54).
(2) النساء الآية (59).
(3) المائدة الآية (55).(1/348)
علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنا، ومن أنكرنا كان كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء.
علي عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن الفضيل قال: سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل قال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، قال أبو جعفر عليه السلام: حبنا إيمان وبغضنا كفر.
محمد بن الحسن عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن فضالة بن أيوب، عن أبان، عن عبد الله بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: أعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به؟ قال: فقال: هات قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأن عليا كان إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسن إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسين إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده علي بن الحسين إماما فرض الله طاعته حتى انتهى الأمر إليه، ثم قلت: أنت يرحمك الله؟ قال: فقلت: هذا دين الله ودين ملائكته.
ابن إبراهيم عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: اعلموا أن صحبة العالم واتباعه دين يدان الله به، وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم.(1)
" التعليق:
__________
(1) أصول الكافي (1/241-244).(1/349)
بعد قراءتنا للنصوص التي ساقها الرافضي الكليني في كتابه 'الكافي' نقول: ما بال هؤلاء يدعون لأنفسهم من العصمة ويقررون لمشايخهم من الطاعة التي لا تتقيد بما قيد به رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة أمرائه وإليكم بعض النصوص من كتب الحديث وكلام وأعمال خيرة خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم فهم أحق بكل خير، فإن كان الصواب فهم أهله، وإن كان العلم فهم نقلته، ولا علم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بغير طريقهم، ولكن الصوفية الذين أخذوا أصولهم عن الروافض لا يعتبرون بهذا ويضربون عنه صفحا، ويدعون لمشايخهم ما خص الله به رسله من عصمة كاملة وتسديد في القول والفعل لأنهم مبلغون عن الله والقرآن قد ذكر لنا نماذج من ذلك وهي محفوظة بحمد الله عند جميع المسلمين.
فصل في السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية:
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".(1)
__________
(1) رواه أحمد (2/17)، البخاري (13/152/7144)، مسلم (3/1469/1839)، أبو داود (3/93-94/2626)، الترمذي (4/182/1707)، النسائي (7/179-180/4217) وابن ماجة (2/956/2864).(1/350)
وعن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمر عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا، وأوقدتم نارا، ثم دخلتم فيها فجمعوا حطبا فأوقدوا نارا، فلما هموا بالدخول فقاموا ينظر بعضهم إلى بعض فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارا من النار، أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف.(1)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى".(2)
ولشيخنا العلامة مفخرة السلفيين كلمة جيدة عند هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة قال رحمه الله ما لفظه: وفي الحديث فوائد كثيرة أهمها أنه لا يجوز إطاعة أحد في معصية الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الأمراء والعلماء والمشايخ، ومنه يعلم ضلال طوائف من الناس.
__________
(1) رواه أحمد (1/124)، البخاري (13/152/7145)، مسلم (3/1469/1840)، أبو داود (3/92-93/2625) والنسائي (7/179/4216).
(2) رواه أحمد (5/66) والطبراني (3/233/3150) والطيالسي رقم: (856) والبزار (2/243/1613 كشف الأستار). من حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنهما. قال الحافظ في الفتح (13/154): "وسنده قوي". وقال الهيثمي في المجمع (5/226): "ورجال البزار رجال الصحيح".(1/351)
الأولى: بعض المتصوفة الذين يطيعون شيوخهم ولو أمروهم بمعصية ظاهرة بحجة أنها في الحقيقة ليست بمعصية، وأن الشيخ يرى ما لا يرى المريد، وأعرف شيخا من هؤلاء نصب نفسه مرشدا قص على أتباعه في بعض دروسه في المسجد قصة خلاصتها، أن أحد مشايخ الصوفية أمر ليلة أحد مريديه بأن يذهب إلى أبيه فيقتله على فراشه بجانب زوجته، فلما قتله عاد إلى شيخه مسرورا لتنفيذ أمر الشيخ. فنظر إليه الشيخ وقال: أتظن أنك قتلت أباك حقيقة؟ إنما هو صاحب أمك. وأما أبوك فهو غائب. ثم بنى على هذه القصة حكما شرعيا بزعمه فقال لهم: إن الشيخ إذا أمر مريده بحكم مخالف للشرع في الظاهر، أن على المريد أن يطيعه في ذلك، قال: ألا ترون إلى هذا الشيخ أنه في الظاهر أمر الولد بقتل والده، ولكنه في الحقيقة إنما أمره بقتل الزاني بوالدة الولد، وهو يستحق القتل شرعا. ولا يخفى بطلان هذه القصة شرعا من وجوه كثيرة.
أولا: أن تنفيذ الحد ليس من حق الشيخ مهما كان شأنه، وإنما هو من حق الأمير أو الوالي.
ثانيا: أنه لو كان له ذلك فلماذا نفذ الحد بالرجل دون المرأة وهما في ذلك سواء؟
ثالثا: إن الزاني المحصن حكمه شرعا القتل رجما، وليس القتل بغير الرجم.(1/352)
ومن ذلك يتبين أن ذلك الشيخ قد خالف الشرع من وجوه، وكذلك شأن ذلك المرشد الذي بنى على القصة ما بنى من وجوب إطاعة الشيخ ولو خالف الشرع ظاهرا، حتى لقد قال لهم: إذا رأيتم الشيخ على عنقه الصليب فلا يجوز لكم أن تنكروا عليه. ومع وضوح بطلان مثل هذا الكلام، ومخالفته للشرع والعقل معا نجد في الناس من ينطلي عليه كلامه وفيهم بعض الشباب المثقف، ولقد جرت بيني وبين أحدهم مناقشة حول تلك القصة وكان قد سمعها من ذلك المرشد وما بنى عليها من حكم، ولكن لم تجد المناقشة معه شيئا وظل مؤمنا بالقصة لأنها من باب الكرامات في زعمه، قال: وأنتم تنكرون الكرامة، ولما قلت له: لو أمرك شيخك بقتل والدك فهل تفعل؟ فقال: إنني لم أصل بعد إلى هذه المنزلة. فتبا لإرشاد يؤدي إلى تعطيل العقول والاستسلام للمضلين إلى هذه المنزلة، فهل من عتب بعد ذلك على من يصف دين هؤلاء بأنه أفيون الشعوب؟
الطائفة الثانية: وهم المقلدة الذين يؤثرون اتباع كلام المذهب على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، مع وضوح ما يؤخذ منه، فإذا قيل لأحدهم مثلا: لا تصل سنة الفجر بعد أن أقيمت الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك صراحة لم يطع، وقال: المذهب يجيز ذلك، وإذا قيل له: إن نكاح التحليل باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، أجابك بقوله: لا بل هو جائز في المذهب الفلاني. وهكذا إلى مئات المسائل، ولهذا ذهب كثير من المحققين إلى أن أمثال هؤلاء المقلدين ينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى في النصارى: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(1)كما بين ذلك الفخر الرازي في تفسيره.
__________
(1) التوبة الآية (31).(1/353)
الطائفة الثالثة: وهم الذين يطيعون ولاة الأمور فيما يشرعونه للناس من نظم وقرارات مخالفة للشرع، كالشيوعية وما شابهها، وشرهم من يحاول أن يظهر أن ذلك موافق للشرع غير مخالف له، وهذه مصيبة شملت كثيرا ممن يدعي العلم والإصلاح في هذا الزمان، حتى اغتر بذلك كثير من العوام، فصح فيهم وفي متبوعيهم الآية السابقة: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(1)نسأل الله الحماية والسلامة.(2)
وأنت إذا قرأت هذه النصوص الصحيحة الصريحة علمت تعمد الصوفية لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذه النصوص هي عند المسلمين معروفة ومحفوظة وهي في مصنفاتهم الأولى، وبعد هذه النصوص ننقل لك نماذج من خيرة خلق الله، يصرحون فيها بأنهم يخطئون ويصيبون وهم الذين رووا لنا هذه الأحاديث، والحديث الذي عمم الخطأ على بني آدم كلهم ولم يستثن واحدا منهم، كما جاء في الترمذي وغيره، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".(3)قال في سبل السلام والحديث دال على أنه لا يخلو من الخطيئة إنسان لما جبل عليه هذا النوع من الضعف وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه وترك ما عنه نهاه، ولكنه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده، وأخبر أن خير الخطائين التوابون المكثرون للتوبة على قدر كثرة الخطأ.(4)
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت الحديث رقم 181.
(3) رواه الترمذي (4/568-569)/2499) وابن ماجه (2/1420/4251) وصححه الحاكم (4/244) وقال الحافظ في البلوغ (1505): وسنده قوي.
(4) سبل السلام (4/245).(1/354)
قال الإمام الحافظ ابن كثير في بدايته في بيعة الصديق: وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس، إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم الذي هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، وهذا إسناد صحيح.(1)
__________
(1) البداية والنهاية (6/305-306).(1/355)
فهذا الصديق رضي الله عنه يعلنها صريحة في أول خطبة يخطبها على سادة المهاجرين والأنصار، ويبين لهم أن أعماله وأقواله أمران: أمر فيه صواب، فعليهم متابعته عليه، وأمر فيه خطأ فعليهم نصيحته وتقويمه، وهكذا كان كل الخلفاء بعده، بل كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل السلف الصالح فما منهم إلا مخطئ ومصيب، وحسبهم فخرا أن تعد أخطاؤهم، وما يزال الصحابة ومن بعدهم يرد بعضهم على بعض وينبه المصيب منهم المخطئ ويرجعه إلى الحق والصواب، ويشكر المخطئ للمصيب ذلك، وأجمع الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة على النهي عن تقليدهم، وما من أحد منهم إلا رويت عنه في ذلك أقوال، وللعلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة قيمة في هذا الموضوع: 'رفع الملام عن الأئمة الأعلام'. وللإمام ابن حزم بحث هام في كتابه 'إحكام الأحكام' نقتطف منه بعض الفوائد وإلا فالكتاب فيه إسهاب في الموضوع فهو جدير وحري بالقراءة.
قال أبو محمد: كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن ذلك قول الله عز وجل: مَثَلُ { الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ }(1)ثم قال الله تعالى على إثر هذه الآية: وَتِلْكَ { الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) } .(2)
قال أبو محمد: فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه تعالى وقول نبيه عليه السلام فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقر أن هذا هو قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا ودخل في جملة الآية المذكورة.(3)
__________
(1) العنكبوت الآية (41).
(2) العنكبوت الآية (43).
(3) الإحكام (6/123-124).(1/356)
اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة فلا كبيرة أعظم منها.
قلت: هذا الذي يذكره أبو محمد رحمه الله هو فيمن يعرض نصوص القرآن والسنة على قول إمامه كمقلدة المذاهب وأشباههم. أما الصوفية فلا كتاب ولا سنة ولا أثر ولا قول لصاحب من الصحابة، ولا لتابعي من التابعين، ولا غيرهم من أهل العلم، وإنما الطاعة العمياء التي تسمى عندهم بالمشيخة، وأن التلميذ لا وصول له إلا بهذه الطاعة العمياء، وأن خطأ الشيخ خير من صوابه، وهو كالميت مع غاسله، وكالأعمى مع قائده، كما ذكر الغزالي في إحيائه فيما نحن بصدد الرد عليه. فما ذكره أبو محمد وتبرأ منه واعتبره من أعظم الكبائر هو أيسر وأسهل من هذه المشيخة المعصومة التي لا توزن ولا تعرض على أي ميزان شرعي إلا الطاعة العمياء كما قدمنا. ثم استرسل أبو محمد في ذكر الآيات والتعليق عليها رادا في ذلك على مقلدة الفقهاء، وكل ما ذكره عنهم، فمن نرد عليه أعظم وأطم، فمخالفة هؤلاء لصريح النصوص أمر لا يشك فيه من تتبع أحوالهم.(1/357)
وقال ابن حزم: قال الله تعالى: أَمْ { حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً }(1)قال أبو محمد: ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة، وقال تعالى: يَوْمَ { تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) }(2)وقال تعالى: فَأْتُوا { بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) }(3)وقال تعالى: قُلْ { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) } .(4)
قال أبو محمد: فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهدا لقوله، أو ببرهان على صدق قوله، وإلا فليس صادقا، لكنه كاذب آفك، مفتر على الله عز وجل، ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل، بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار، نعوذ بالله منها وما أدى إليها. وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثنيا عليهم: وَأَنَّا { ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) }(5)فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده.
__________
(1) التوبة الآية (16).
(2) الأحزاب الآيتان (66و67).
(3) الصافات الآية (157).
(4) البقرة الآية (111).
(5) الجن الآية (5).(1/358)
وقال تعالى: إِذْ { تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) } .(1)قال أبو محمد: هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذي قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم، فإنهم رحمهم الله تبرأوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار وهلك المقلدون لهم بعدما سمعوا من الوعيد الشديد، والنهي عن التقليد، وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم، وتبرأوا منهم إن فعلوا ذلك. ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر ثنا على بن الحسن بن فهر، حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد ابن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به. وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، من أتانا بخير منه قبلناه منه.
وقال عز وجل: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) }(2)قال أبو محمد: وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر، بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح -الذي يقرون بصحته، وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة- فيأبون من قبولها، لا نفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) البقرة الآية (166).
(2) البقرة الآية (170).(1/359)
وقال تعالى: وَمَنْ { أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ }(1)وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ { مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) } .(2)قال أبو محمد: هذه صفة ظاهرة من كل مقلد، يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم، ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه. ولا انتفع ببصره فيما رأى من ذلك، ولا بعقله فيما علم من ذلك، ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وطلب الهدى ممن دون الله تعالى، فضل ضلالا بعيدا، فواحسرتا عليهم ووا أسفا لهم.
وقال تعالى: قُلْ { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِن هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } .(3)
قال أبو محمد: وهذا نص فعل المقلد، لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال: إِن { هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى.
__________
(1) القصص الآية (50).
(2) الجاثية الآية (23).
(3) الأنعام الآية (71).(1/360)
وقال تعالى: وَإِذَا { فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا }(1)وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية، وقد جاء أمر الرسول عليه السلام بتحريمها، وآخذوا الناسى، وألزموا شريعة الكفارة المخطئ، وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله، فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم، وحاكيا عنهم أنهم قالوا: إِنَّا { وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ }(2)وقال تعالى: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) }(3)وقال تعالى: وَلَا { تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) } .(4)
__________
(1) الأعراف الآية (28).
(2) الزخرف الآيات (22-24).
(3) المائدة الآية (104).
(4) البقرة الآيات (168-170)..(1/361)
ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم، وهذا نص كلام رب العالمين الذي إليه معادنا، وبين يديه موقفنا، وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك، ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا، فليتق الله على نفسه امرؤ يعلم أن وعد الله حق وأن هذه عهود ربه إليه وليتب عن التقليد وليفتش حاله، فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى، فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك، وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول: فَبَشِّرْ { عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) }(1)فالمحروم من حرم هذه البشرى، وخرج عن هذه الصفة المحمودة، نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها وأن يثبتنا في جملتهم آمين، فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه، وبأنه مبشر، وبأنه من أولي الألباب، وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد، واختار أحسنها، والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم [له] بالحسنى، مما وافق القرآن والسنة، وبالله التوفيق. فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة، وعلى هذا كان السلف الصالح.(2)
وقال أبو محمد في موضع آخر: وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم وكلهم يقول: أقول في هذا برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني وزاد بعضهم ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، وفعل ذلك أيضا من بعدهم، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس دينا فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشيء يتدين به إلا أن يصح به نص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم(3).
__________
(1) الزمر الآيتان (17و18).
(2) إحكام الأحكام لابن حزم (6/124-127).
(3) الإحكام (6/99).(1/362)
قلت: هؤلاء أولياء الصحابة وخيرتهم يصرحون بأن لهم صوابا وخطأ فصوابهم بتوفيق الله وخطؤهم من زلاتهم ومن تضليل الشيطان لهم، فكيف بالمتأخرين الذين لم يشموا رائحة الكتاب والسنة، ولم يجالسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين علمهم من علم أولئك ومع ذلك يدعون لمشايخهم ما لم يدعه هؤلاء الأولياء حقا، هذا هو البهتان وهذا هو الضلال البعيد، فإن كان خيرا سبق إليه صحابة رسول الله وإن كان غير ذلك، فهم أحق بالابتعاد عنه فرضي الله عنهم وأرضاهم ما تركوا بابا للشر إلا وسدوه، ولا بابا للخير إلا فتحوه، فمن أراد الولوج فمن بابهم، ومن أراد غير ذلك فليعلم أنه قيض له شيطان يتبعه في خطواته وَلَا { تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) } .(1)
ولأبي عمر بن عبد البر -في كتابه النفيس جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله- فصل جيد ملأه بالحكم القرآنية والنبوية والسلفية جدير بالقراءة والدرس نقتطف منه بعض ما يدل على موضوعنا وننقل قصيدته العظيمة في هذا الباب حتى يعلم أن علماء الكتاب والسنة قد ردوا هذه الفضيحة من قديم الزمان، وكتبوا فيها البحوث القيمة التي تدل على إمامتهم وعقيدتهم وتعلقهم بالكتاب والسنة، وبقراءتها يتضح للقارئ ما يخططه الصوفية للمسلمين في كل زمان من صرف عن الكتاب والسنة السليمة والعقل الصحيح، وينقلونه مباشرة إلى أصول الروافض أعداء الله الذين جاءوا لهدم الإسلام.
قال أبو عمر:
باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع
__________
(1) البقرة الآية (168).(1/363)
قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }(1)وروي عن حذيفة وغيره قالوا لم يعبدوهم من دون الله ولكن أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم. وقال عدي بن حاتم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي: يا عدي بن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك. وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال: قلت يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أربابا، قال: بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه، فقلت: بلى، فقال: تلك عبادتهم.(2)
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) رواه الترمذي (5/259-260/3095) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وحسنه الشيخ الألباني في غاية المرام (6) وللحديث شواهد يتقوى بها تأتي بعده.(1/364)
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا ابن وضاح قال: حدثنا يوسف بن عدي قال: حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عز وجل: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.(1)قال ونا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة في قوله: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } أكانوا يعبدونهم قال: لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.(2)وقال عز وجل: وَكَذَلِكَ { مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ }(3)فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا: إِنَّا { بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) }(4)وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل: * { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) }(5)
__________
(1) رواه ابن جرير (14/211-212/16637).
(2) رواه ابن جرير (14/211-212/16637) وعبد الرزاق في التفسير (2/271) وابن أبي حاتم (6/1784/10058).
(3) الزخرف الآيتان (23و24).
(4) الزخرف الآية (24).
(5) الأنفال الآية (22)..(1/365)
وقال: إِذْ { تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ }(1)وقال عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم: مَا { هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) }(2)وقال: إِنَّا { أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) }(3)ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء.
__________
(1) البقرة الآيتان (166و167).
(2) الأنبياء الآيتان (52و53).
(3) الأحزاب الآية (67).(1/366)
قال أبو عمر: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب فقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله عز وجل: وَمَا { كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ }(1)وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا، فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك.(2)ثم ذكر آثارا في ذلك ثم قال: وهذا كله لغير العامة فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم.
__________
(1) التوبة الآية (115).
(2) جامع بيان العلم (2/975-978).(1/367)
ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا { أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) }(1)وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم وقد نظمت في التقليد وموضعه أبياتا رجوت في ذلك جزيل الأجر لما علمت أن من الناس من يسرع إليه حفظ المنظوم ويتعذر عليه المنثور وهي من قصيدة لي(2):
يا سائلي عن موضع التقليد خذ وأصغ إلى قولي ودن بنصيحتي لا فرق بين مقلد وبهيمة تبا لقاض أو لمفت لا يرى فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة ثم الصحابة عند عدمك سنة وكذاك إجماع الذين يلونهم إجماع أمتنا وقول نبينا وكذا المدينة حجة إن أجمعوا وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد وعلى الأصول فقس فروعك لا تقس والشر ما فيه فديتك أسوة ... عني الجواب بفهم لب حاضر واحفظ علي بوادري ونوادري تنقاد بين جنادل ودعاثر
عللا ومعنى للمقال السائر المبعوث بالدين الحنيف الطاهر فأولاك أهل نهى وأهل بصائر من تابعيهم كابرا عن كابر مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر متتابعين أوائلا بأواخر ومع الدليل فمل بفهم وافر
فرعا بفرع كالجهول الحائر فانظر ولا تحفل بزلة ماهر
__________
(1) الأنبياء الآية (7).
(2) جامع بيان العلم (2/989-990).(1/368)
وللإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمة الله عليه فصل كبير في كتابه القيم 'إعلام الموقعين عن رب العالمين' ذكر فيه من الحجج الدامغة، والبراهين القاطعة والوجوه النيرة الساطعة ما فيه قناعة لمن أراد أن يقتنع ويعرف ضلال هؤلاء وبعدهم عن الإسلام وأصوله، وسأقتطف بعض الثمرات التي أراها منورة لهذا البحث المبارك وإلا فكلام الإمام ابن القيم في كتابه لا يغني أوله عن آخره، وأعتقد أن كل طالب علم يملك هذا الكتاب لا يمل النظر فيه لما له من حلاوة يجدها عند قراءته وهو ومثله مفخرة لكل سلفي.
قال الإمام رحمه الله:
ويقال ثامنا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده، فإنه نهاك عن ذلك وقال: لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه فهذا من مذهبه، فهلا اتبعته فيه؟
ويقال تاسعا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب من سائر من رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: أنا على بصيرة قال ما يعلم بطلانه، وإن قال: لست على بصيرة، وهو الحق، قيل له: فما عذرك غدا بين يدي الله حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه، هل هو صواب أم خطأ؟
ويقال عاشرا: هل تدعي عصمة متبوعك أو تجوز عليه الخطأ؟ والأول لا سبيل إليه، بل تقر ببطلانه، فتعين الثاني، وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الدماء وتبيح الفروج وتنقل الأموال وتضرب الأبشار بقول من أنت مقر بجواز كونه مخطئا.(1/369)
ويقال حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه، أو تقول: لا أدري، ولا بد لك من قول من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعا، فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث، فيالله العجب. كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها لا أدري؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(1/370)
ويقال ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو على ضلالة؟ فلا بد من أن تقروا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار، وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان، وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين، وكذلك يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف، واقتفى منهاجهم، وسلك سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحرمه من عداه؟ فلا بد من واحد من الأمرين، فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلا من الأنعام، وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وقفتم لقبول قول صاحبكم كله، ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله، فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول، حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على من خالفه، ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله، وبالرد على من خالفه في كل ما قاله، وهذه حال الفرقة الأخرى معكم.
ويقال ثالث عشر: فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم. قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدا.(1/371)
ويقال رابع عشر: هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله، وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم، وعما أفتيتم به في دينه محرمين ومحللين وموجبين؟ فمن قولهم: نحن موقنون بذلك، فيقال لهم: فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟ فإن قلتم: جوابنا إنا حللنا وحرمنا وقضينا بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأي واختيار، وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأى واختيار، ولما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سمت هممكم نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذا؟ فإن أمكنكم حينئذ أن تقولوا: "فعلنا ما أمرتنا به وأمرنا به رسولك" فزتم وتخلصتم، وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا: لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا، ولابد من أحد الجوابين وكأن قد.(1)
__________
(1) إعلام الموقعين (2/210-212).(1/372)
وقد ذكر العلامة أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه فصلا في كتابه القيم الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح بين فيه أسباب الضلال والشبه التي استدل بها هؤلاء الضلال. قال رحمه الله: فضلال الضلال من هؤلاء مبني على مقدمتين: إحداهما: أن هذا له كرامة فيكون وليا لله. والثانية: أن ولي الله لا يجوز أن يخطئ، بل يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به، ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبيا. والمقدمتان المذكورتان، قد تكون إحداهما باطلة، وقد يكون كلاهما باطلا، فالرجل المعين قد لا يكون من أولياء الله، وتكون خوارقه من الشياطين، وقد يكون من أولياء الله، ولكن ليس بمعصوم بل يجوز عليه الخطأ، وقد لا يكون من أولياء الله ولا يكون له خوارق، ولكن له محالات وأكاذيب.(1)
خاتمة
نرجو الله تعالى أن يختم لنا ولإخواننا بالتوحيد واتباع السنة. والحقيقة أن الذي يقرأ مثل كتاب الإحياء ويدرس مادته وموارده التي أسس عليها يخرج بالنتائج التالية:
- الأول: بعد المسلمين عن المصادر العلمية الصحيحة التي جمعت الحق كله ولم تترك لقائل مقالا.
- الثاني: أن الدعايات وإطلاقات الألقاب على كثير من الأشخاص في تاريخ الأمة الإسلامية كانت مقصودة لترويج الباطل مهما عظم خطره كما فعل بصاحبنا الغزالي الذي أطلقوا عليه حجة الإسلام، وأطلق على كتابه إحياء علوم الدين.
وكتابه هذا أكبر شاهد على قصوره في أولويات معرفة الأصل الثاني من أصول الدين، ألا وهو السنة المطهرة. فإن الغزالي أجلب في كتابه هذا من الكذب على رسوله - صلى الله عليه وسلم - والكذب على السلف الصالح رضوان الله عليهم ما لا يحصيه إلا الله، ونحسن به الظن أنه ما فعل ذلك متعمدا وإنما وقع فيه جهلا وبعدا عن دراسة السنة وتحقيق أصولها وطرق النقد لنصوصها.
__________
(1) الجواب الصحيح (2/345).(1/373)
- الثالث: الخطر العقدي الذي ضمه هذا الكتاب والذي نقلنا منه أمثلة فقط للقراء وإلا فالأمر أعظم وأوسع. فأين حجية الإسلام؟ وأين إحياء علوم الدين من هذا الطامات العقدية التي تصادم النبوة والقرآن؟
- الرابع: أن الصوفية مهما زعمت من نزاهة وقرب من السنة فإنها في الحقيقة امتداد للرفض والتشيع الذي هو من مخططات ورثة المجوس.
- الخامس: لا تجد الفرق بين أصول الرفض والتشيع ولا بين أصول التصوف مهما زعم الزاعم من بعد التصوف عن التشيع فإنه صنوه ورحمه الذي خرج منه.
- السادس: أن علماء الإسلام نصحوا للأمة وحذروا من هذا الكتاب وهم نجوم العلماء في كل عصر ومصر، فلماذا نخالفهم ونتحدى فتاواهم بشبه باردة لا تقوى على مواجهة الحجج والأدلة التي استدلوا بها.
- السابع: أن هذا الكتاب مثال واحد من آلاف الأمثلة التي تمتلئ بمثل ما امتلأ به هذا الكتاب من الطامات والضلالات العقدية والكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى السلف الصالح.
- الثامن: أن نهضة الأمة وحضارتها تتجلى في تنقية التراث من مثل هذه الكتب الدخيلة، فلا حضارة ولا رقي مع وجود هذه الكتب المليئة بمثل هذه التخبطات المزرية.
- التاسع: لا يمكن أن ينتصر المسلمون في أي زمان ومكان إلا إذا تخلصوا من مثل هذه الخرافات وهذه الترهات التي ملئت بها هذه الكتب، ولعل لأعداء الإسلام دخلا في مثل هذه المخططات الخطيرة التي تشتت شملهم وتفرق جمعهم وتؤخرهم عن ركب الحضارات الحقيقية المبنية على التوحيد والسنة لا على التخريب والدمار، وتفوق الظالم على المظلوم بكل وسائل الغلبة، لأنه إذا فقدت العقيدة الصحيحة والهدي النبوي لا يبقى إلا الغلبة للقوي.
- العاشر: لا يمكن للأمة أن تدعو إلى جمع الشمل بين جماعاتها المتفرقة وبين طوائفها المختلفة إلا إذا تخلصت من هذه الترهات وهذه الخرافات والانحرافات العقدية على اختلاف أشكالها وأنواعها والله المستعان.
فهرس الآيات(1/374)
الآية ... رقمها ... الصفحة
سورة البقرة
uqèd الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... ... 29
ô‰s% عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ... 60
ôMt/خژàرur عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا ... ... 61
ِ@è% هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ اتتتب ... 111
ںw نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ اتجدب ... 136
(# qن9qè% آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ... ... 136 ... و271
y7د9؛xx.ur جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... 143
¨bخ) الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ... ... 159 ... -18
ّŒخ) تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... ... 166
ّŒخ) تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ... وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ اتدذب ... 166-167 ... -415
$ygoƒr'¯"tƒ النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ... ... 168 ... -315
ںwur تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ... ... 168-170 ... و412
#sŒخ)ur قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا ... ... 170
$ygoƒr'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ... ... 172
#sŒخ)ur سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... 186
ںwur تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... 195
y7ù=د? حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ... ... 229
ںxsù تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ... 232
y7ù=د? الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... 253
`£JدB تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ... 282
z`tB#uن الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ... 285
سورة آل عمران
ِ@è% إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... 31
`tBur يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ... 85
!ur عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... 97(1/375)
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ... 102
ںwur تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ... 139
¨bخ) الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ... 155
ô‰s)s9 مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا ... 164 ... -168
!$£Js9urr& أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ... 165 ... -205
سورة النساء
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... 1 ... -334
(#qكsإ3R$$sù مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... 3
قOن3ٹد¹qمƒ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ ... 11 ... -136
ںwur تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ... 29
y#ّs3sù إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ... 41
ِNs9r& تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... ... 49-50
ôQr& يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ ... 54
Mكg"oY÷ s?#uنur مُلْكًا عَظِيمًا اخحب ... 54
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ... 59 ... و395
ِqs9ur أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ... 66-68
`¨B يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... 80
#sŒخ)ur ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ ... 101
w خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ... 114
`tBur يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ ... 115 ... و215
w يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ... 148
َOs9ur يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... 152
zN¯=x.ur اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا اتدحب ... 164
سورة المائدة
tPِquّ9$# أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... 3 ... و182و327
ك`ّtwU أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... 18 ... -300
$uK¯Rخ) وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ... 55
#sŒخ)ur سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ ... 83 ... -309(1/376)
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ... 87
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا ... 87-88 ... -315
#sŒخ)ur قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... 104 ... -410
سورة الأنعام
#sŒخ)ur رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا ... 68
ِ@è% أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا ... 71
ڑپد9؛xx.ur نُرِي إِبْرَاهِيمَ ... 75
uژ|³÷èyJ"tƒ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ ... 130
¨br&ur هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ... 153 ... و179
سورة الأعراف
#sŒخ)ur فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا ... 28 ... -185-409
ûسح_t6"tƒ آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... 31-32
ِ@è% مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ... 32 ... -274
ِ@è% إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... 33
ûسح_t6"tƒ آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... 35
(#qمم÷ٹ$# رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... 55
َOçFِ6ةftمurr& أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... 63
tA$s% يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ... 144
tûïد%©!$# يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... 157 ... و314
@è% لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ... 188
ةè{ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ ... 199
#sŒخ)ur قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ... 204
سورة الأنفال
$yJ¯Rخ) الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ... 2
¨bخ) شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ ... 22
$tBur كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً ... 35
$tB كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ... 67
سورة التوبة
ôQr& حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ... 16
(#ےrنsƒھB$# أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا ... 31
$xےtم اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... 43(1/377)
ڑcqà)خ6"،،9$#ur الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ... 100
ڑْïد%©!$#ur اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ... 107 ... و375
ڑْïد%©!$#ur اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ... عَلِيمٌ حَكِيمٌ اتتةب ... 107-110
î‰ةfَ،yJ©9 أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى اتةرب ... 108
î‰ةfَ،yJ©9 أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ... ... 108-109
ڑcqç6ح³¯"F9$# الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ ... 112
$tBur كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ... 115
ںwِqn=sù نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح !$sغ ... 122
سورة يونس
بe@à6د9ur أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ... 47
سورة يوسف
ô‰s)s9ur هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى ... 24
سورة الرعد
$¨Br'sù الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ ... 17
`yJsùr& يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ... 19
ô‰s)s9ur أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ ... 38 ... و332
سورة الحجر
(#qن9$s%ur يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ ... 6
¨bخ) عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا ... 42
سورة النحل
¨bخ) اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ... 90
÷bخ)ur عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... 126
سورة الإسراء
¨bخ) هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... 9
ںwur تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... 37
#sŒخ)ur قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ ... 45-46 ... -167
ô‰s)s9ur فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ... 55
ّ-ج"ّےtFَ™$#ur مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ... 64
ô‰s)s9ur كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... 70
tPِqtƒ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... 71
¨bخ) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ... 107-109
سورة الكهف(1/378)
دŒخ)ur اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... 16
¼çmtRrند‚GtFsùr& وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ... 50
@è% لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ... 109
سورة مريم
$£Jn=sù اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... 49
y7ح´¯"s9'ré& الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ... 58 ... -165
سورة طه
tA$s% اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ... 123-125
سورة الأنبياء
$tB يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ... 2 ... -170
(# qè=t"َ،sù أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ اذب ... 7
ô`tBur عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ... 19-20
(#qن9$s%ur اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ... 26-27
#x"ydur ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ... 50
$tB هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ اخثب ... 52-53
سورة الحج
cuژفاZuٹs9ur اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ... 40-41
!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ... 52
سورة النور
tûïد%©!$#ur يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... 4
cخ) الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ... 19
(#qكsإ3Rr&ur الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ... 32
سورة الفرقان
tA$s%ur الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا ... 30
كٹ$t7دمur الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... 63
#sŒخ)ur مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا اذثب ... 72
tûïد%©!$#ur يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا ... 74
ِ@è% مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ... 77
سورة الشعراء
ِNçlm;ur عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ اتحب ... 14
ِ@yd أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ اثثتب ... 221-222
سورة النمل
y‰O)xےs?ur الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ... 20-21(1/379)
y]s3yJsù غَيْرَ بَعِيدٍ ... 22
àMـymr& بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ... ... 22-23 ... -364
$yg?‰y`ur وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... 24
wr& يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ ... 25
ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) اثدب ... 26
مچفàZoYy™ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اثذب ... 27
=ydّŒ$# بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ... 28-31 ... -365
ôMs9$s% إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ... 34-35
ا`tRr'‰دJè?r& بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا ... 36
ôىإ_ِ'$# إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ... 37-40
!$yJ¯Rخ) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ... 91-92
سورة القصص
(# qèWن3ّB$# إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ... 29
ô`tBur أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى ... 50
سورة العنكبوت
م@sWtB الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ... 41
ڑپù=د?ur الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ... 43
$tBur كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ... 48
سورة الروم
ô`دBur آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... 21
سورة لقمان
#sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا ... 7
÷ژة9ô¹$#ur عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ ... 17
ô‰إءّ%$#ur فِي مَشْيِكَ ... 19
¨bخ) أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ اتزب ... 19
¨bخ) اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... 34 ... و361
سورة الأحزاب
tPِqtƒ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... 66-67 ... -406
tbqن9qà)tƒ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا اددب ... 66-68
!$¯Rخ) أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ادذب ... 67(1/380)
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ... 70-71
سورة سبأ
"tچtƒur الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... 6 ... و190
سورة يس
$tBur عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ... 69 ... و170
سورة الصافات
(#qè?ù'sù بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ اتخذب ... 157
سورة ص
بb$yJَءyz بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ... 22
ë="tGد. أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ... 29
ةb>u' اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ ... 35
ِچن.ّŒ$#ur عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... 45
y7د?¨"دèخ6sù لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ارثب ... 82-83
÷bخ) هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ارذب ... 87
سورة الزمر
÷ژإe³t6sù عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ... 17-18 ... -166و410
ھ!$# نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ... 23
t,إ™ur الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ... 71 ... -169
سورة غافر
$¯Rخ) لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا ... 51
Oكg÷YدB مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ ... 78
$£Jn=sù جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ... 83
سورة فصلت
(#qن9$s%ur قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ... 5
tA$s%ur الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ ... 26
َOخgƒخژم\y™ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ... 53
سورة الشورى
÷Pr& لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ... 21
`yJs9ur صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ احجب ... 43
$tBur كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ... 51 ... و354
سورة الزخرف
ِ@t/ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ... 22-24
y7د9؛xx.ur مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ... 23-24(1/381)
$¯Rخ) بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ اثحب ... 24
`tBur يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ ... 36
`tBur يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ ... 36-37 ... -384
¼çm¯Rخ)ur لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ... 44
سورة الدخان
bخ)ur لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ اثتب
سورة الجاثية
¢OèO جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ... 18-19
|M÷ƒuنtچsùr& مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ ... 23
سورة الأحقاف
!$tBur أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ... 9
سورة محمد
tûïد%©!$#ur اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ... 17
ِ@ygsù عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... 22-23 ... -334
ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ... 24
سورة الحجرات
$pkڑ‰r'¯"tƒ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... 6
bخ)ur بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... 9 ... -335
سورة الذاريات
$tBur خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ اخدب ... 56
سورة النجم
$tBur يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى اجب ... 3-4
ںxsù تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى اجثب ... 32
سورة الحديد
ںxّٹs3دj9 تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا ... 23
سورة الجمعة
y7د9؛sŒ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ... 4
#sŒخ*sù قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ... 10
سورة المنافقون
!ur الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... 8
سورة الطلاق
(#rك‰حkôr&ur ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ... 2
ô‰s% جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا اجب ... 3
سورة التحريم
$pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... 1
$pkِژn=tو مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ ... 6
سورة الجن(1/382)
$¯Rr&ur ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ... 5
سورة المدثر
$yJsù لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ احزب ... 49-51
سورة العلق
|M÷ƒuنu'r& الَّذِي يَنْهَى ازب ... 9-19
سورة الناس
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ اتب ... 1-6
فهرس الأحاديث والآثار
الحديث ... الراوي ... الصفحة
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ... أبو جحيفة ... 284-285
آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز ... الإمام أحمد ... 247
أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... أبو بكر ... 173-174
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ... عدي بن حاتم ... 413
أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ... ابن عباس ... 163
أجعلتني لله نداً ... ابن عباس ... 161
أجنب عمرو بن العاص فتيمم واستدل ... عمرو بن العاص ... 286-287
أجيز شهادة أهل الأهواء، أهل الصدق منهم ... أبو يوسف ... 87
أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ... ابن عباس ... 284
أحمل الحديث عن كل من لقيت إلا الرافضة ... شريك ... 88
اختلاف أمتي رحمة ... 120
أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين ... الأعمش ... 88
إذا اشترى جارية فوجدها مغنية ... الإمام مالك ... 212
إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد ... الإمام أحمد ... 104
إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ... أبو نملة الأنصاري ... 104
إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ... المقداد بن الأسود ... 151و300
إذا سلم يوم الجمعة سلمت الأيام، وإذا سلم شهر ... عائشة ... 132
إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ... معاوية بن قرة عن أبيه ... 237
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... أبو هريرة ... 267
أذن في العرس بالغناء وسماه لهواً ... عائشة ... 191
اذهب فأحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم ... 125
اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ... أبو سعيد الخدري ... 252
أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ... ابن عباس ... 6-7
اطلبوا العلم ولو بالصين ... 119
أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال ... عائشة ... 140(1/383)
اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ... الإمام مالك ... 84
أفضل الذكر لا إله إلا الله ... جابر ... 381
أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي ... عبد الله بن عمرو ... 381
أفضل الكلام بعد القرآن أربع ... سمرة بن جندب ... 381
أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم ... القاسم بن عبيدالله ... 85
اقرأ علي ... ابن مسعود ... 167
اللهم ارحم خلفائي ... ابن عباس ... 234
أليس يوم النحر ... أبو بكرة ... 267
أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ... أبو البختري ... 413-414
أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ... أنس ... 289-290
أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ... جابر بن عبد الله ... 270
أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ... جابر بن سليم ... 280-281
أنا سيد ولد آدم ولا فخر ... أبو سعيد الخدري ... 149
أنت أحق بهذا البيت ... عائشة ... 193
أنشد الأعشى شيئاً من شعره فسمعه ... الأعشى المازني ... 193
أنشدت عائشة قول أبي كبير الهذلي ... 193
إن كان المعلى يحدث بهذا الحديث عن أبي نجيح ... ابن عيينة ... 82
إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ... الإمام أحمد ... 238
إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ... عائشة ... 283
إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به ... ابن عباس ... 64
إن أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة ... 126
إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي ... ربيعة ... 407
أن رجلا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني من غرائب ... 125
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ... ابن عمر ... 376
إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت ... ابن مسعود ... 335-336
إن كذباً علي ليس ككذب على أحد ... المغيرة بن شعبة ... 80
إن لله عز وجل ملكاً ينادي كل يوم من خالف سنة ... 127
إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ... عبد الله بن عمرو ... 279
إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث ... محمد بن علي بن الحسين
إن من الشعر لحكمة ... أبيّ ... 145
إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ... محمد بن سيرين ... 85
إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ... أبو هريرة ... 283-284(1/384)
أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتاً ... ابن عباس ... 201
إن القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا ... 128
إن الله تعالى قال: من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... أبو هريرة ... 72-73
إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ... أبو هريرة ... 48
إن الله نظر في قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد ... ابن مسعود ... 179-180
إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ... أبو هريرة ... 249
إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة ... 128
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد واهتز عند السماع ... 107
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة ... عائشة ... 284
إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل، وسيأتي قوم يلهمون ... 122
إنما نهيت عن صوتين أحمقين ... جابر ... 201-202
إنما يفعله عندنا الفساق لما سئل عن الغناء ... مالك ... 212
إنما الطاعة في المعروف ... أبو طالب ... 398
أنه استنشد من شعر أمية بن أبي الصلت ... الشريد ... 192
أنه استنشد الأسود بن سريع ... الأسود بن سريع ... 192
إنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون ... أم العلاء ... 300-301
أنه سمع قصيدة كعب بن زهير ... 192
أنه صدق لبيداً في قوله ... أبو هريرة ... 193
أنه صلى الله عليه وسلم قام لعكرمة بن أبي جهل ... عبد الله بن الزبير ... 114
إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون ... أبو هريرة ... 57
أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت زمارة راع ... ابن عمر ... 174-175
إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها ... أبو سليمان الداراني ... 48-49
أنه لم يمت - صلى الله عليه وسلم - حتى تعلم الكتابة ... عبد الله بن عتبة ... 5
إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً ... أنس ... 84
إني أحب أن أسمعه من غيري ... ابن مسعود ... 167
إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ... عمر بن الخطاب ... 162
إني رأيت الليلة في المنام ظلة ... ابن عباس ... 6-7
أهجهم وروح القدس معك ... البراء بن عازب ... 193
أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام ... 119
أولى بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة ... ابن مسعود ... 232
أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار ... عائشة ... 301(1/385)
أي نبيهم في قوله تعالى: يوم ندعو كل أناس بإمامهم ... مجاهد وقتادة ... 231
الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ... عبد الله بن المبارك ... 85
الإيمان يزيد وينقص ... 128
بئس الخطيب أنت ... عدي بن حاتم ... 161
بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمر عليهم رجلاً ... علي بن أبي طالب ... 398
بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ... عدي بن حاتم ... 413
بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم ... الإمام مالك ... 235
بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ... عبد الله بن عمرو ... 104و234
بني الدين على النظافة ... 122
بينما أيوب يغتسل عرياناً، خر عليه رجل جراد ... أبو هريرة ... 274-275
بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره ... عمران بن حصين ... 281-282
تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ... معقل بن يسار ... 290-291
تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن ... 385
تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ... أبو هريرة ... 290
توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة ... عائشة ... 301
التصفيق للنساء والتسبيح للرجال ... أبو هريرة ... 173
ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله ... أبو هريرة ... 289
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ... معقل بن يسار ... 290-291
جاء رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون ... أنس ... 289
الجمعة واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض ... تميم الداري ... 377
حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ... علي بن أبي طالب ... 99
حديث صلاة التسبيح ... ابن عباس ... 199
حسبك، فإذا عيناه تذرفان ... ابن مسعود ... 167
حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف ... عطاء ... 291-292
حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ... أبو ذر ... 120
حولها ندندن ... أبو هريرة ... 322
خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة ... عمران بن حصين ... 281-282
خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً وخط خطوطا ... ابن مسعود ... 63(1/386)
خلفت بالعراق شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ... الشافعي ... 176
خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ... جابر ... 331
دخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه ... سلمة بن الأكوع ... 192
دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيداً ... عائشة ... 191و173-174
دعي هذا وقولي ما كنت تقولين ... الربيع بنت معوذ ... 140
الدعاء هو العبادة ... النعمان بن بشير ... 320
الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ... عبدالله بن عمرو بن العاص ... 289
ذاك إبراهيم، لما قال له رجل: يا خير البرية ... أنس ... 150
ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء ... ابن عمر ... 105
ذلك صريح الإيمان ... أبو هريرة ... 64
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك ... أبو بكرة ... 267-268
ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون ... عمر ... 167
الذب عن السنة أفضل من الجهاد ... يحيى بن يحيى ... 249
الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس ... ابن عباس ... 234
رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئاً ... جابر بن سليم ... 280
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجد قباء ... الشموس بنت النعمان ... 376
رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه ... الحسن البصري ... 15
رويدك سوقا بالقوارير ... أنس ... 191و184
الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ... أبو هريرة ... 51
زينوا القرآن بأصواتكم ... البراء ... 191
سئل إبراهيم عن الخطابية فقال: صنف من الرافضة ... أبو أيوب ... 87
سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل ... أبو هريرة ... 388
سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ ... ابن المبارك ... 88
سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ... ابن مسعود ... 280
سياحة هذه الأمة الصيام ... عائشة ... 329
سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ... أبو ذر ... 256
السائحون الذين يديمون الصيام من المؤمنين ... أبو عمرو العبدي ... 330
السائحون الصائمون ... ابن مسعود وابن عباس ... 329
السائحون الصائمون شهر رمضان ... الحسن البصري ... 329-330
السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ... عبد الله بن عمر ... 398
الشيخ في قومه كالنبي في أمته ... 127(1/387)
صدق سلمان ... أبو جحيفة ... 284-285
صلاة في مسجد قباء كعمرة ... أسيد بن ظهير ... 376
صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة ... أبو هريرة ... 377
ضعيف الحديث خير من رأي فلان ... الإمام أحمد ... 259
طلب العلم فريضة على كل مسلم ... أنس ... 332
عليكم بالجماعة فإنما يأخذ الذئب من الغنم القاصية ... أبو الدرداء ... 389
عليكم بالصلاة في بيوتكم ... زيد بن ثابت ... 378
عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ... عائشة ... 284
عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ... 127
عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه ... بريدة ... 284
علمنا هذا رأي، من أتانا بخير منه ... أبو حنيفة ... 407
علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ... الجنيد بن محمد ... 185
الغناء ينبت النفاق في القلب ... الإمام أحمد ... 216
فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ... أبو بكرة ... 267-268
فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ... أبو موسى ... 268
فوالله لا أزكي أحداً بعده أبدا ً ... أم العلاء ... 300-301
فيحشر الممزق لأعراض الناس كلباً ضارياً ... 123
في قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجداً ضراراً ... ابن عباس ... 373-374
الفتنة هاهنا ... ابن عمر ... 255
قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا ... سعيد بن جبير ... 292
قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت ... عمر بن الخطاب ... 138
قليل من التوفيق خير من كثير من العلم ... 121
قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان ... عبد الله بن الشخير ... 161
قيامه صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم كلما دخل ... عدي بن حاتم ... 114
كان أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة ... عائشة ... 379
كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها ... أبو هريرة ... 270-271
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم ... عائشة
كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة ... الزهري ... 63
كان يسمع إنشاد الصحابة وكانوا يرتجزون ... أنس ... 191
كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ... أبو هريرة ... 84
كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ... أنس بن مالك ... 402(1/388)
كل ذوق أو كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة ... إسماعيل بن نجيد ... 49
كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون ... ابن عباس والضحاك ... 329
كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا ... أبو بكر الصديق
كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم ... عائشة ... 174
كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم ... ابن عباس ... 271
لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره ... أبو هريرة ... 274
لعن المتشبهات من النساء بالرجال ... ابن عباس ... 173
لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ... أبو موسى الأشعري ... 190
للعامل في هذه الليلة (أي ليلة المعراج) حسنات ... 130-131
لم أر أحداً من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ... الشافعي ... 87
لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد ... أنس بن مالك ... 402-403
لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ... أنس بن مالك ... 113-114
لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ... سليمان التيمي ... 216
لو أعلم أنك استمعت لحبرته ... أبو موسى ... 190-191
لو أن رجلاً عمل بكل رخصة لكان فاسقاً ... يحيى القطان ... 216
لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً ... علي بن أبي طالب ... 398
لو كان لي عليكما سبيل ولم أجد إلا تبراً لسبكته ... الشعبي ... 82
لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ... عقبة بن عامر وبلال ... 57
لو منع الناس عن فت البعر لفتوه ... 123
لو وجدت درقة وسيفاً لغزوت سويداًَ الأنباري ... يحيى بن معين ... 81
لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ... أبو ذر ... 18
لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء ... سفيان الثوري ... 15
ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب ... معاوية
ليس منا من لم يتغن بالقرآن ... سهل بن سعد ... 191
ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ... أبو ذر ... 331
ليس السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ... الإمام أحمد ... 332
ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة ... عائشة ... 174
ليلة النصف من شعبان فيها مائة ركعة يقرأ في كل ركعة ... علي ... 131
ما أذن لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت ... أبو هريرة ... 190
ما أكل أحد طعاما ً خيراً له من أن يأكل من عمل يده ... المقدام بن معدكرب ... 274(1/389)
ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل ... 122
ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة ... أبو هريرة ... 322
ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب ... جابر بن عبد الله ... 336
ما من آدمي إلا وله ذنوب، ولكن من كان غريزته ... 125
ما من ثلاثة في قرية ولا بدو ... أبو الدرداء ... 389
ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا ... أبو بن كعب ... 317
ما يغبر إلا فاسق ومتى كان التغبير ... يزيد بن هارون ... 176
مثل السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف ... مالك ... 63
مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث ... أبو موسى ... 268
مكتوب بين عينيه كافر ... أنس ... 5
من أحيا ليلتي العيدين لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ... أبو أمامة ... 131
من ازداد بالله علماً ثم ازداد للدنيا حباً، ازداد الله عليه ... 124
من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ... 123
من بلغه عن الله شيء فيه فضل، فعمل به ... جابر بن عبد الله ... 105
من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ... المغيرة بن شعبة ... 83
من حلف على ملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ... ثابت بن الضحاك ... 281
من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله ... عمر بن الخطاب ... 105
من رغب عن سنتي فليس مني ... أنس بن مالك ... 39
من ركب البحر إذا ارتج فقد برئت منه الذمة ... زهير بن عبد الله ... 287
من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً ... أبو هريرة ... 313
من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله له صيام ... أبو هريرة ... 131-132
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... أبو هريرة ... 72-73
من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ... 125
من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ... 126
من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع ... 124
من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ... أبو هريرة ... 92
من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ... ابن مسعود ... 180
من كتم علماً عن أهله ألجم ... أبو هريرة وابن عباس وابن عمرو ... 18
من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ... أنس ... 7
من كنت مولاه فعلي مولاه ... بريدة ... 43(1/390)
من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ... معاوية ... 300
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... أبو هريرة ... 275
المؤمن ليس بحقود ... 122
المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم ... أبو هريرة ... 280
نزلت هذه الآية: ((ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم)) ... الحسن وقتادة ... 299
نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها ... ابن مسعود ... 115
نعم صومعة الرجل بيته ... طاووس ... 388
نعم المال الصالح للرجل الصالح ... عمرو بن العاص ... 275
هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان ... 63
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ... البراء ... 5
هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس ... علي ... 263
هم أصحاب الحديث ... علي بن المديني ... 237
هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم ... 122
وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ... معاوية ... 300
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ... جابر بن عبد الله ... 377
وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ... الشافعي ... 216
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... عبد الله بن رواحة ... 184
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله ... علي بن أبي طالب ... 263
والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حياً ... جابر ... 270
والله إني أخشاكم لله، وأعلمكم بحدود الله تعالى ... عائشة ... 331
وما يدريك أن الله قد أكرمه ... أم العلاء ... 300-301
وهل ينفع القرآن إلا بالعلم ... أبو ذر ... 120
لا أسمعك تحدث بهذا فأصلبك ... ابن هذيل ... 82
لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ... حذيفة بن اليمان ... 377
لا أعلم علماً أفضل من علم الحديث ... سفيان الثوري ... 235
لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس ... 124
لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم ... معاوية بن قرة عن أبيه ... 237
لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى ... ابن عمر ... 313
لا تسبن أحداً، فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ... جابر بن سليم ... 280-281
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... أبو هريرة ... 333(1/391)
لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله ... أبو هريرة ... 270-271
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما ... عمر ... 150
لا تفضلوا بين أنبياء الله ... أبو هريرة ... 278
لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار ... علي ... 80
لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون ... الإمام مالك ... 88
لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى ... عمران بن حصين والحكم بن عمرو
لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ... حذيفة ... 414
لا و الله ما رأينا منهم رجلا ًيسألكم عن الذي أنزل ... ابن عباس ... 271
لا يدخل الجنة قاطع ... جبير بن مطعم ... 334
لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ... 121
لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ... أبو الدرداء ... 279-280
لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً ... أبو هريرة ... 279
يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ... 127-128
يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق ... أبو هريرة ... 64
يا عدي بن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك ... عدي بن حاتم ... 413
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... ابن مسعود ... 289
يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض ... سهل ... 49
يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ... أبو سعيد ... 203
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... إبراهيم بن عبدالرحمن العذري ... 235
يكتب عن كل مبتدع إذا لم يكن داعية إلا الرافضة ... يزيد بن هارون ... 88
يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم ... أبو هريرة ... 84
يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شغف ... أبو سعيد الخدري ... 330
اليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة ... ابن عمر ... 274
الفهرست
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 1
أبو حامد وكراهيته لكل ما كتب ... 10
تمهيد ... 13
كتابه 'إحياء علوم الدين' ... 25
الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين من قبل أمير المؤمنين ابن تاشفين
السبب الأول: فتاوى العلماء
1- فتوى علماء أهل السنة والجماعة وهم علماء المرابطين ... 26
2- طلبة أهل السنة والجماعة ... 29(1/392)
3- فتوى الإمام المالكي الكبير أبي عبد الله بن الوليد الطرطوشي ... 30
4- الإمام المازري ... 32
5- قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي ... 33
6- الإمام ابن الجوزي ... 36
7- فتوى الإمام أبي الحسن بن سكر ... 37
8- فتوى الإمام أبي بكر بن العربي ... 37
9- فتوى الإمام الذهبي ... 39
10- فتوى الإمام ابن الصلاح ... 42
11- أبو عامر العبدري ... 43
12- فتوى كمال الدين بن أبي الشريف ... 44
13- فتوى بدر الدين الزركشي ... 45
14- فتوى الإمام ابن تيمية ... 45
السبب الثاني: ما في كتاب الإحياء من المواد الفاسدة
تمهيد ... 75
المادة الأولى: الأحاديث الضعيفة والموضوعة والباطلة ... 78
ما جاء في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 80
حكم رواية الحديث الضعيف "غير الموضوع" ... 93
المحظور الأفحش: العمل بالحديث الضعيف وقد يكون موضوعا ... 93
قاعدة العمل بالحديث الضعيف ليست على إطلاقها ... 93
" القيد الحديثي ... 94
ما توجبه الشروط المذكورة على أهل العلم من التمييز ... 95
ما ذكره المنذري من تساهل العلماء في الترغيب والترهيب والجواب عليه ... 96
الأدب في رواية الحديث الضعيف عند ابن الصلاح ... 98
لا بد من التصريح بالضعف ... 98
عاقبة التساهل برواية الأحاديث الضعيفة وكتم بيانها ... 100
" القيد الفقهي ... 101
قول ابن تيمية المفصل في ذلك وأنه لا يجوز استحباب شيء لمجرد . . . ... 102
مراد العلماء من العمل بالحديث الضعيف في الفضائل ... 103
مثال للعمل بالحديث الضعيف بشرطه ... 103
لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل ... 105
خلاصة كلام ابن تيمية في العمل بالحديث الضعيف في الفضائل ... 106
من طرق المبتدعة الاعتماد على الأحاديث الواهية ... 106
تقرير إشكال حول اشتراط الصحة في أحاديث الترغيب ... 108
رد الإشكال بتفصيل علمي دقيق ... 109
خلاصة كلام الإمام الشاطبي ... 112
صعوبة تمييز الضعيف الذي يجوز العمل به حديثيا وفقهيا ... 112
مثال من واقع بعض الفقهاء ... 113
نماذج من الأحاديث الموضوعة والباطلة والتي لا إسناد لها من الإحياء ... 119(1/393)
المادة الثانية: أصول البدع ... 130
بيان الليالي والأيام الفاضلة ... 130
المادة الثالثة: الطامات الكبرى والمصائب العظمى التي إذا سمعها المسلم وقرأها فر من هذا الكتاب فراره من الأسد ... 135
صرف المسلمين عن دراسة كتاب الله حفظا وعلما وعملا ... 135
تعريف بالشاعر البوصيري ... 146
ظروف كتابة القصيدة ... 147
نماذج من الضلالات والشركيات في قصيدة البردة ... 160
فصل ... 190
فصل ... 216
فصل ... 216
عرض القرآن والسنة على الكشف ... 225
صرف المسلمين عن دراسة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 226
فضيلة علم الحديث وأهله ... 228
من الطامات: الأخذ عن الرهبان ... 269
من الطامات: مخالفة هدي الأنبياء والرسل في طلب ما عند الله من الفضل والخير ... 273
من الطامات: التنقيص من شأن النبوة ... 276
من الطامات: مساوئ الأخلاق والكبائر عند الصوفية من الولاية والمقامات ... 279
من الطامات: الأخذ عن الهنود منهاج الصوفية ومخالفة النبوة ... 283
من الطامات: تعريض الإنسان نفسه لقتلها وهو أمر محرم ... 286
من الطامات: الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه من الأنبياء والصحابة والتابعين ... 288
من الطامات: تصريحه بأن رؤية أبي يزيد مرة واحدة أنفع من رؤية الله سبعين مرة ... 294
من الطامات: التمدح بالظلم والظالمين ... 296
من الطامات: الصوفية لا يقنعون بالنبوة والرسالة فيتمنون أكثر من ذلك ... 298
من الطامات: مخالفة ما هو معلوم عند المسلمين من الدين بالضرورة ... 299
من الطامات: البحث عن صفة اليهود من ذلة ومسكنة ... 303
من الطامات: المسلم بمنزلة الكلب في الخسة والدناءة عند الصوفية ... 305
من الطامات: السرقة واللصوصية منهاج صوفي ... 306
من الطامات: قول المسلم: "سبحان الله" شرك عند الصوفية ... 307
من الطامات: ذم ما مدح الله به خير عباده ... 309
من الطامات: اتهام الله تعالى بالظلم ... 310
من الطامات: استحباب ما حرمه الله ورسوله ... 312
من الطامات: الصوفية يخالفون القرآن في تكريم بني آدم ... 314(1/394)
من الطامات: الصوفية مشبهة يصفون الله بالعجز وعدم القدرة ... 317
من الطامات: نسف العقيدة من أولها إلى آخرها ... 319
من الطامات: آيات القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الترغيب والترهيب لا معنى لها ... 321
من الطامات: السياحة منهاج صوفي وهي من البدع الكبرى ... 324
من الطامات: مخالفتهم في طريقة العبادة ... 342
من الطامات: مخالفة طريقة الرسل والقرآن في الترغيب والترهيب ... 343
من الطامات: الصوفية يردون على الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 345
من الطامات: التهوين من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 348
من الطامات: الصوفية يحرفون الكلم عن مواضعه ... 350
من الطامات: ادعاء علم الغيب الذي اختص الله به نفسه ... 351
طامات الإحياء للغزالي مشابهة لطامات الكافي للكليني ... 355
باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث ... 355
باب أن الأئمة عليهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه ... 356
باب أن الأئمة هم أركان الأرض ... 357
باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء ... 358
باب جهات علوم الأئمة عليهم السلام ... 358
باب أن الأئمة عليهم السلام لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه ... 359
من الطامات: اتخاذ مساجد الضرار وتوابعها من البلايا والمصائب من البدع ... 369
فصل ... 390
من الطامات: منافسة النبوة وهو ما يسمى عندهم بالشيخ المربي ... 392
باب فرض طاعة الأئمة (من طامات الكافي للكليني) ... 393
فصل في السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ... 398
باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع ... 413
خاتمة ... 422
فهرس الآيات ... 425-439
فهرس الأحاديث والآثار ... 440-451
فهرس المواضيع ... 452-456(1/395)