فَقَط كمعمر وَغَيره من كبار الْمُعْتَزلَة فَإِن قَالُوا أَخطَأ من قَالَ هَذَا وَكفر قُلْنَا لَهُم وَأَخْطَأ أَيْضا وَكفر من قَالَ أَن أَفعَال الْمُخْتَار لم يخلقها الله تَعَالَى وَلَا فرق فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى هُوَ خَالق الطبيعة والمطبوع الَّذين ينسبون الْفِعْل إِلَيْهِمَا فَهُوَ خَالق ذَلِك الْفِعْل قُلْنَا لَهُم وَالله عز وَجل أَيْضا هُوَ خَالق الْمُخْتَار وخالق اخْتِيَاره وخالق قوته وهم الَّذين ينسبون الْفِعْل إِلَيْهِم فَهُوَ عز وَجل خَالق ذَلِك الْفِعْل وَلَا فرق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا من إِضَافَة التَّأْثِير وَجَمِيع الْأَفْعَال إِلَى كل من ظَهرت مِنْهُ من جماد أَو عرض أَو حَيّ أَو نَاطِق أَو غير نَاطِق فَهُوَ الَّذِي تشهد بِهِ الشَّرِيعَة وَبِه جَاءَ الْقُرْآن وَالسّنَن كلهَا وَبِه تشهد الْبَيِّنَة لِأَنَّهُ أَمر محسوس مشَاهد وَبِه تشهد جَمِيع اللُّغَات من جَمِيع أهل الأَرْض قاطبة لَا نقُول لُغَة الْعَرَب فَقَط بل كل لُغَة لَا نحاشي شَيْئا مِنْهَا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا شَيْء أصح مِنْهُ فَإِن قَالُوا تسمون الجماد وَالْعرض كسبا قُلْنَا لَا لأَنا لَا نتعدى مَا جَاءَت بِهِ اللُّغَة من أحَال اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِرَأْيهِ فقد دخل فِي جملَة من قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَلحق بالسوفسطائية فِي أبطالهم التفاهم وَلَو جَاءَت اللُّغَة بذلك لقلناه كَمَا نقُول أَن الله عز وَجل فَاعل ذَلِك وَلَا نُسَمِّيه كاسباً فَإِن قيل أتقولون أَن الجمادات وَالْعرض عَامل قُلْنَا نعم لِأَن اللُّغَة جَاءَت بذلك وَبِه نقُول الْحَدِيد يعْمل وَالْحر يعْمل فِي الْأَجْسَام وَهَكَذَا فِي غير ذَلِك فَإِن قيل أتقولون للجماد وَالْعرض استطاعة وَقُوَّة وطاقة وقدرة قُلْنَا إِنَّمَا نتبع اللُّغَة فَقَط فَنَقُول إِن الجمادات والأعراض قوى يظْهر بهَا مَا خلق الله تَعَالَى فِيهَا من الْأَفْعَال وفيهَا طَاقَة لَهَا وَلَا نقُول فِيهَا قدرَة وَلَا نمْنَع من أَن نقُول فِيهَا طَاقَة قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} فَنَقُول الْحَدِيد ذُو بَأْس شَدِيد وَذُو قُوَّة عَظِيمَة وَذُو طَاقَة وَقد قُلْنَا لكم لَا نتعدى فِي التَّسْمِيَة والعبارة جملَة مَا جَاءَت بِهِ اللُّغَة وَلَا نتعدى فِي تَسْمِيَة الله تَعَالَى وَالْخَبَر عَنهُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَنَصّ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ بِهِ الْبُرْهَان وَمَا عداهُ فَبَاطِل وضلال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما اعتراضهم بهل الْخلق هُوَ الْكسْب أَو غَيره فَنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنَا وَجَمِيع أَعمالنَا وأفعالنا لذَلِك هُوَ خلق الله عز وَجل فِينَا كَمَا ذكرنَا لِأَن كل ذَلِك شَيْء وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} ولكننا لَا نتعدى باسم الْكسْب حَيْثُ أوقعه الله تَعَالَى مخبرا لنا بأننا نجزي بِمَا كسبت أَيْدِينَا وَبِمَا كسبنا فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَلَا يحل أَن يُقَال أَنه كسب لله تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يقلهُ وَلَا أذن فِي قَوْله وَلَا يحل أَن يُقَال أَنَّهَا خلق لنا لِأَن الله تَعَالَى لم يقلهُ وَلَا أذن فِي قَوْله لَكِن نقُول هِيَ خلق لله كَمَا نَص على أَنه خَالق كل شَيْء ونقول هِيَ كسب لنا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَلَا نُسَمِّيه فِي الشَّرِيعَة وَلَا فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله عز وَجل لِأَن الله خَالق الْأَلْسِنَة الناطقة بالأسماء وخالق الْأَسْمَاء وخالق المسميات حاشاه تَعَالَى وخالق الْهَوَاء الَّذِي يَنْقَسِم على حُرُوف الهجاء فتتركب مِنْهَا الْأَسْمَاء فَإِذا كَانَت الْأَسْمَاء مخلوقة لله والمسميات دونه تَعَالَى مخلوقة لله عز وَجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وَجل فَلَيْسَ لأحد إِيقَاع اسْم على مُسَمّى لم يوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة أَو أَبَاحَ إِيقَاعه عَلَيْهِ بإباحته الْكَلَام باللغة الَّتِي أمرنَا الله عز وَجل بالتفاهم بهَا وَبِأَن نتعلم بهَا ديننَا ونعلمه(3/47)
بهَا وَقد نَص تَعَالَى على هَذَا القَوْل مُنْكرا على قوم أوقعوا اسْما على مسميات لم يَأْذَن الله تَعَالَى بهَا وَلَا بإيقاعها عَلَيْهِ {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} فَأخْبر عز وَجل أَن من أوقع اسْما على مُسَمّى لم يَأْتِ بِهِ نَص بإيجابه أَو بِالْإِذْنِ فِيهِ بالشريعة أَو بجملة اللُّغَة فَإِنَّمَا يتبع الظَّن وَالظَّن أكذب الحَدِيث وَإِنَّمَا يتبع هَوَاهُ وَقد حرم الله تَعَالَى اتِّبَاع الْهوى وَأخْبر تَعَالَى أَن الْهدى قد جَاءَ من عِنْده وَقَالَ تَعَالَى {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} فَلَيْسَ لأحد أَن يتَعَدَّى الْقُرْآن وَالسّنة اللَّذين هما هدى الله عز وَجل وَبِه التَّوْفِيق فصح ضَرُورَة أَنه لَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَن أفعالنا خلق لنا وَلَا أَنَّهَا كسب لله عز وَجل وَلَكِن الْحق الَّذِي لَا يجوز خِلَافه هُوَ أَنَّهَا خلق لله تَعَالَى كسب لنا كَمَا جَاءَ فِي هدى الله الَّذِي هُوَ الْقُرْآن وَقد بَينا أَيْضا أَن الْخلق هُوَ الإبداع والاختراع وَلَيْسَ هَذَا لنا أصلا فأفعالنا لَيست خلقا لنا وَالْكَسْب إِنَّمَا هُوَ استضافة الشَّيْء إِلَى جاعله أَو جَامعه بِمَشِيئَة لَهُ وَلَيْسَ يُوصف الله تَعَالَى بِهَذَا فِي أفعالنا فَلَا يجوز أَن يُقَال هِيَ كسب لَهُ تَعَالَى وَبِه نتأيد وَأَيْضًا فقد وافقونا كلهم على تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق للأجسام وَكلهمْ حاشا معمر أَو عَمْرو بن بَحر الجاحظ موافقون لنا على تَسْمِيَة البارئ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق للأعراس كلهَا حاشا أَفعَال المختارين وَكلهمْ وَمعمر والجاحظ أَيْضا موافقون لنا على تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالق الإماتة والأحياء وَكلهمْ موافقون لنا على أَنه تَعَالَى إِنَّمَا سمي خَالِقًا لكل مَا خلق لإبداعه إِيَّاه وَكم يكن قبل ذَلِك فَإِذا ثَبت بالبرهان اختراعه تَعَالَى لسَائِر الْأَعْرَاض الَّتِي خالفونا فِيهَا وَجب أَن يُسمى خلقا لَهُ عز وَجل وَيُسمى هُوَ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا وَأما اعتراضهم بِأَنَّهُ إِذا كَانَت أفعالنا خلقا لله تَعَالَى وَكَانَ مُتَوَهمًا منا ومستطاعاً عَلَيْهِ فِي ظَاهر امرنا بسلامة جوارحنا أَن لَا تكون تِلْكَ الْأَفْعَال فقد ادعينا أننا مستطيعون فِي ظَاهر الْأَمر بسلامة الْجَوَارِح وَأَنه متوهم منا منع الله من أَن يخلقها وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَازم للمعتزلة على الْحَقِيقَة لَا لنا لأَنهم الْقَائِلُونَ أَنهم يقدرُونَ ويستطيعون على الْحَقِيقَة على ترك أفعالهم وعَلى ترك الْوَطْء الَّذِي قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَن يخلق مِنْهُ الْوَلَد وعَلى ترك الضَّرْب الَّذِي قد علم الله أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَنه يكون مِنْهُ الْمَوْت وانقضاء الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده وعَلى ترك الْحَرْث وَالزَّرْع الَّذِي قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا بُد أَن يكون وَأَن يكون مِنْهُ النَّبَات الَّذِي تكون مِنْهُ الأقوات والمعاش فيلزمهم وَلَا بُد أَنهم قادرون على منع الله تَعَالَى مِمَّا قد علم وَقَالَ أَنه سيفعل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن بلغ هَهُنَا فَلَا بُد إِن يرجع إِمَّا تَائِبًا محسناً إِلَى نَفسه أَو خاسئاً غاوياً مُقَلدًا مُنْقَطِعًا أَو يتمادى على طرد قَوْله فيكفر وَلَا بُد مَعَ خِلَافه لضَرُورَة الْحس والمشاهدة وضرورة الْعقل وَالْقُرْآن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما نَحن فجوابنا هَا هُنَا أننا لم نستطع قطّ على فعل مَا لم يعلم الله أننا سنفعله وَلَا على ترك مَا علم أننا نفعله وَلَا على فسخ علم الله تَعَالَى أصلا وَلَا على تَكْذِيبه عز وَجل فِي فعل مَا أَمر تَعَالَى بِهِ وَإِن كُنَّا فِي ظَاهر الْأَمر نطلق مَا أطلق الله تَعَالَى من الِاسْتِطَاعَة الَّتِي لَا يكون بهَا إِلَّا مَا علم الله تَعَالَى أَنه يكون وَلَا مزِيد وَهِي استطاعة بِإِضَافَة لَا استطاعة على الْإِطْلَاق لَكِن نقُول هُوَ مستطيع بِصِحَّة جوارحه أَي أَنه متوهم كَون الْفِعْل مِنْهُ فَقَط فَإِن قَالُوا أفأمركم الله تَعَالَى بِأَن تكذبوا قَوْله وتبطلوا علمه إِذْ أَمركُم بِفعل مَا علم أَنه لَا تفعلونه قُلْنَا عِنْد(3/48)
تَحْقِيق الْأَمر فَإِن أمره عز وَجل لمن علم أَنه لَا يفعل مَا أَمر بِهِ أَمر تعجيز كَقَوْلِه {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديداً} وَكَقَوْلِه {من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء ثمَّ ليقطع فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تحيرت الْمُعْتَزلَة هَا هُنَا حَتَّى قَالَ بَعضهم لَو لم يقتل زيد لعاش وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل لَو لم يقتل لمات وشغب الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَو لم يقتل لعاش بقول الله عز وَجل {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سره أَن ينسأ فِي أَجله فَليصل رَحمَه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ بِظَاهِرِهِ حجَّة عَلَيْهِم لِأَن النَّقْص فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ من بَاب الْإِضَافَة وبالضرورة علمنَا أَن من عمر مائَة عَام وَعمر آخر ثَمَانِينَ سنة فَإِن الَّذِي عمر ثَمَانِينَ نقص من عدد عمر الآخر عشْرين عَاما فَهَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَة ومقتضاها على الْحَقِيقَة لَا مَا يَظُنّهُ من لَا عقل لَهُ من أَن الله تَعَالَى جَار تَحت أَحْكَام عباده إِن ضربوا زيدا أَمَاتَهُ وَإِن لم يضربوه لم يمته وَمن أَن علمه غير مُحَقّق فَرُبمَا أعاش زيدا ماية سنة وَرُبمَا أعاشه أقل وَهَذَا هُوَ البداء بِعَيْنِه ومعاذ الله تَعَالَى من هَذَا القَوْل بل الْخلق كُله مصرف تَحت أَمر الله عز وَجل وَعلمه فَلَا يقدر أحد على تعدِي مَا علم الله تَعَالَى أَنه يكون وَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا مَا سبق فِي علمه أَن يكون وَالْقَتْل نوع من أَنْوَاع الْمَوْت فَمن سَأَلَ عَن الْمَقْتُول لَو لم يقتل لَكَانَ يَمُوت أَو يعِيش فسؤاله سخيف لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْأَل لَو لم يمت هَذَا الْمَيِّت أَكَانَ يَمُوت أَو كَانَ لايموت وَهَذِه حَمَاقَة جدا لِأَن الْقَتْل عِلّة لمَوْت الْمَقْتُول كَمَا أَن الْحمى القاتلة والبطن الْقَاتِل وَسَائِر الْأَمْرَاض القاتلة علل للْمَوْت الْحَادِث عَنْهَا وَلَا فرق وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سره أَن ينسأ فِي أَجله فَليصل رَحمَه فَصَحِيح مُوَافق لِلْقُرْآنِ وَلما توجبه الْمُشَاهدَة وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن الله عز وَجل لم يزل يعلم أَن زيدا سيصل رَحمَه وَأَن ذَلِك سَبَب إِلَى أَن يبلغ من الْعُمر كَذَا وَكَذَا وَكَذَا كل حَيّ فِي الدُّنْيَا لِأَن من علم الله تَعَالَى أَن سيعمره كَذَا وَكَذَا من الدَّهْر فَإِنَّهُ تَعَالَى قد علم وَقدر أَنه سيتغذى بِالطَّعَامِ وَالشرَاب ويتنفس بالهواء وَيسلم من الْآفَات القاتلة تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي لَا بُد من استيفائها والمسبب وَالسَّبَب كل ذَلِك قد سبق فِي علم الله عز وَجل كَمَا هُوَ لَا يُبدل قَالَ تَعَالَى {مَا يُبدل القَوْل لدي} وَلَو كَانَ على غير هَذَا لوَجَبَ البداء ضَرُورَة ولكان غير عليم بِمَا يكون متشككاً فِيهِ لَا يكون أم لَا يكون جَاهِلا بِهِ جملَة وَهَذِه صفة المخلوقين لَا صفة الْخَالِق وَهَذَا كفر مِمَّن قَالَ بِهِ وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنَصّ الْقُرْآن يشْهد بِصِحَّة مَا قُلْنَا قَالَ الله تَعَالَى عز وَجل {لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم} وَقَالَ تَعَالَى {قل لن ينفعكم الْفِرَار أَن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل} وَقَالَ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} وَقَالَ تَعَالَى مُنكر القَوْل قوم جرت الْمُعْتَزلَة فِي ميدانهم {الَّذين قَالُوا لإخوانهم وقعدوا لَو أطاعونا مَا قتلوا قل فادرؤوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا}(3/49)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه نُصُوص لَا يبعد من ردهَا بعد ان سَمعهَا عَن الْكفْر نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وموه بَعضهم بِأَن ذكر قَول الله تَعَالَى {ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم لِأَنَّهُ تَعَالَى نَص على أَنه قضى أَََجَلًا وَلم يقل لشَيْء دون شَيْء لَكِن على الْجُمْلَة ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَأجل مُسَمّى عِنْده} فَهَذَا الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده هُوَ الَّذِي قضى بِلَا شكّ إِذْ لَو كَانَ غَيره لَكَانَ أَحدهمَا لَيْسَ أَََجَلًا إِذا أمكن التَّقْصِير عَنهُ أَو مجاوزته وَلَكِن الْبَارِي تَعَالَى مُبْطلًا إِذْ سَمَّاهُ أَََجَلًا وَهَذَا كفر لَا يَقُوله مُسلم وَأجل الشَّيْء هُوَ معياده الَّذِي لَا يتعداه وَإِلَّا فَلَيْسَ يُسمى أَََجَلًا الْبَتَّةَ وَلم يقل تَعَالَى إِن الْأَجَل الْمُسَمّى عِنْده هُوَ غير الْأَجَل الَّذِي قضى فأجل كل شَيْء منقضى أمره بِالضَّرُورَةِ نعلم ذَلِك وَيبين ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} قَالَ {وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا} وَقد أخبرنَا تَعَالَى بذلك أَيْضا فَقَالَ {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا} فتظاهرت الْآيَات كلهَا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ قَوْلنَا وبتكذيب من قَالَ غير ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الأرزاق فَإِن الله تَعَالَى أخبرنَا فَقَالَ {الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {وخلقناكم أَزْوَاجًا} فَكل مَال حَلَال فَإِنَّمَا نقُول أَنه تَعَالَى رزقنا إِيَّاه وكل امْرَأَة حَلَال فَإنَّا نقُول إِن الله تَعَالَى زَوجْنَا إِيَّاهَا أَو ملكنا إِيَّاهَا وَأما من أَخذ مَالا بِغَيْر حق أَو امْرَأَة بِغَيْر حق فَلَا يجوز أَن نقُول انه تَعَالَى رزقنا إِيَّاه وَلَا أَن الله تَعَالَى ملكنا إِيَّاه وَلَا أَن الله أَعْطَانَا إِيَّاه وَلَا أَن الله تَعَالَى زَوجْنَا إِيَّاهَا وَلَا أَن الله تَعَالَى ملكنا إِيَّاهَا وَلَا أَنْكَحنَا إِيَّاهَا لِأَن الله تَعَالَى لم يُطلق لنا أَن نقُول ذَلِك وَقد قُلْنَا إِن الله تَعَالَى لَهُ التَّسْمِيَة لَا لنا لَكِن نقُول إِن الله ابتلانا بِهَذَا المَال وبهذه الْمَرْأَة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وَخلق تملكنا إيَّاهُمَا ونكاهما لنا واستعمالنا إيَّاهُمَا وَلَا نقُول أَنه أطعمنَا الْحَرَام وَلَا أَبَاحَ لنا الْحَرَام وَلَا وهب لنا الْحَرَام وَلَا آتَانَا الْحَرَام كَمَا ذكرنَا من التَّسْمِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَلَيْسَ إِذا كَانَت أفعالكم لكم وَللَّه تَعَالَى فقد وَجب أَنكُمْ شركاؤه فِيهَا فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا من أبرد ماموهوا بِهِ وَهُوَ عايد عَلَيْهِم لأَنهم يَقُولُونَ أَنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وَهِي بعض الْأَعْرَاض وَأَن الله تَعَالَى يفعل سَائِر الْأَعْرَاض ويخلقها ويخترعها فَهَذَا هُوَ عين الْإِشْرَاك والتشبيه فِي حَقِيقَة الْمَعْنى وَهُوَ الاختراع تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَأما نَحن فَلَا يلْزمنَا إِيجَاب الشّركَة لله تَعَالَى فِيمَا قُلْنَا لِأَن الْإِشْرَاك لَا يجب بَين المستركين إِلَّا باتفاقهما فِيمَا اشْتَركَا فِيهِ وبرهان ذَلِك أَن أَمْوَالنَا ملك لنا وَملك لله عز وَجل بِإِجْمَاع منا وَمِنْهُم وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب أَن تكون شركاؤه فِيهَا لاخْتِلَاف جِهَات الْملك لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَالك لَهَا لِأَنَّهَا مخلوقة لَهُ تَعَالَى وَهُوَ مصرفنا فِيهَا وناقلها عَنَّا وناقلنا عَنْهَا كَيفَ شَاءَ الله تَعَالَى وَهِي ملكنا لِأَنَّهَا كسب وملزمون إحكامها ومباح لنا التَّصَرُّف فِيهَا بالوجوه الَّتِي أَبَاحَهَا الله تَعَالَى لنا وَأَيْضًا فَنحْن عالمون بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَالله تَعَالَى عَالم بذلك وَلَيْسَ ذَلِك مُوجبا لِأَن نَكُون شركاءه فِي ذَلِك الْعلم لاخْتِلَاف الْأَمر فِي ذَلِك لِأَن علمنَا عرض مَحْمُول فِينَا وَهُوَ غَيرنَا وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ غَيره وَمثل هَذَا كثير جدا لَا يُحْصى فِي دهر طَوِيل بل لَا يُحْصِيه مفصلا إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ(3/50)
فَكيف لم يجب الِاشْتِرَاك الْبَتَّةَ بَين الله تَعَالَى وبيننا عِنْدهم فِي هَذِه الْوُجُوه كلهَا وَوَجَب أَن يكون شركاؤه فِي شَيْء لَيْسَ للاشتراك الْبَتَّةَ فِيهِ مدْخل وَهُوَ خلقه تَعَالَى لأفعال لنا هُوَ فَاعل لَهَا بِمَعْنى مخترع لَهَا وَنحن فاعلون لَهَا بِمَعْنى ظُهُورهَا مَحْمُولَة فِينَا وَهَذَا خلاف فعل الله تَعَالَى لَهَا وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا بِأَن الْأَفْعَال لله تَعَالَى من جِهَة الْخلق وَهِي لنا من جِهَة الْكسْب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تذاكرت هَذَا مَعَ شيخ طرابلسي يكنى أَبَا الْحسن معتزلي فَقَالَ لي وللأفعال جِهَات وَزَاد بَعضهم فَقَالَ أَو لَيست أعراضاً وَالْعرض لَا يحمل الْعرض وَالصّفة لَا تحمل الصّفة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جهل من قَائِله وَقَضِيَّة فَاسِدَة من أهذار الْمُتَكَلِّمين ومشاغبهم وَقَول يردهُ الْقُرْآن والمعقول وَالْإِجْمَاع من جَمِيع اللُّغَات والمشاهدة فَأَما الْقُرْآن فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {عَذَاب عَظِيم} و {عَذَاب أَلِيم} {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} وَقَالَ تَعَالَى {وأنبتها نباتاً حسنا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} وَقَالَ تَعَالَى {ومكروا مكراً كبارًا} وَقَالَ تَعَالَى {إِن كيدكن عَظِيم} وَقَالَ تَعَالَى {وجاؤوا بِسحر عَظِيم} وَقَالَ تَعَالَى {صفراء فَاقِع لَوْنهَا} وَقَالَ تَعَالَى {قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم} وَقَالَ تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} وَقَالَ تَعَالَى {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} وَقَالَ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله} وَقَالَ تَعَالَى {تلفح وُجُوههم النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {فأخذتكم الصاعقة} وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّا تنْبت الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار} وَقَالَ تَعَالَى {فَيخرج مِنْهُ المَاء} وَقَالَ تَعَالَى {فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبداً رابياً} {فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فوصف الله تَعَالَى الْعَذَاب بالعظم بالإيلام وَبِأَن فِيهِ أكبر وَأدنى وَوصف النَّبَات بالْحسنِ وَكيد الشَّيْطَان بالضعف وَكيد النِّسَاء بالعظم وَالْمَكْر بِالْكبرِ وَالسحر بالعظم واللون بالفقوع وَذكر أَن الْبغضَاء تبدو وَأَن الْكَلَام الطّيب يصعد إِلَيْهِ تَعَالَى وَأَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة ترفع الْكَلَام الطّيب وَأَن الظَّن يردي وَأَن الْعَمَل الرَّدِيء يسْخط الله تَعَالَى وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَن يجمع إِلَّا فِي جُزْء ضخم فَكيف يساعد امْرأ مُسلما لِسَانه على إِنْكَار شَيْء من هَذَا بعد شَهَادَة الله عز وَجل بِمَا ذكرنَا وَأما إِجْمَاع اللُّغَات فَكل لُغَة لَا يُنكر أحد فِيهَا القَوْل بِصُورَة حَسَنَة وَصُورَة قبيحة وَحُمرَة مشرقة وَحُمرَة مضيئة وَحُمرَة كدرة وَلَا يخْتَلف أحد من أهل الأَرْض فِي أَن يَقُول صف لي عمل فلَان وَهَذَا مَوْصُوف وَصفَة عمل كَذَا وَكَذَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوا بِعَيْنِه وَهُوَ أَكثر من أَن يُحْصى وَأما الْحس وَالْعقل والمعقول فبيقين يدْرِي كل ذِي فهم أَن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هَذِه خَاصَّة الْكَيْفِيَّة الَّتِي تُوجد فِي غَيرهَا وكل هَذَا عرض يحمل عرضا وَصفَة تحمل صفة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد عارضني بَعضهم فِي هَذَا فَقَالَ لَو أَن الْعرض يحمل الْعرض لحمل ذَلِك الْعرض عرضا آخر وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود أَعْرَاض لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا بَاطِل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقلت أَن المشاهدات لَا تدفع بِهَذِهِ الدَّعْوَى الْفَاسِدَة وَهَذَا الَّذِي ذكرت(3/51)
لَا يلْزم لأننا لم نقل كل عرض فَوَاجِب أَن يحمل أبدا لكننا نقُول أَن من الْأَعْرَاض مَا يحمل الْأَعْرَاض كَالَّذي ذكرنَا وَمِنْهَا مَا لايحمل الْأَعْرَاض وكل ذَلِك جَار على مَا رتبه الله عز وَجل وعَلى مَا خلقه وكل ذَلِك لَهُ نِهَايَة تقف عِنْدهَا وَلَا يزِيد وَنحن إِذا وجد فِيمَا بَيْننَا جسم يزِيد على جسم آخر زِيَادَة مَا فِي طوله أَو عرضه فَلَيْسَ يجب من ذَلِك أَن الزِّيَادَة مَوْجُودَة إِلَى مَالا نِهَايَة لَهُ لَكِن تَنْتَهِي الزِّيَادَة إِلَى حَيْثُ رتبها الله عز وَجل وتقف وَإِنَّمَا الْعلم كُله معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَقَط ونقول لَهُم أتخالف حمرَة التفاحة حمرَة الخوخة أم لَا فَلَا بُد لَهُم من أَن يَقُولُوا بِأَنَّهَا قد تخالفها فِي صفة مَا إِلَّا ان ينكروا العيان فَنَقُول لَهُم أتخالف الْحمرَة والصفرة أم لَا فَلَا بُد أَيْضا من نعم فَنَقُول لَهُم أخلاف الْحمرَة للحمرة هُوَ خلاف الْحمرَة للصفرة أم لَا فَلَا بُد من لَا وَلَو قَالُوا نعم للزمهم أَن الصُّفْرَة هِيَ الْحمرَة إِذْ كَانَت الصُّفْرَة لَا تخالفها الْحمرَة إِلَّا بِمَا تخَالف فِيهِ الْحمرَة الْحمرَة الْأُخْرَى والخضرة فَإِذا فِي الْحمرَة والصفرة صفتان بهما يَخْتَلِفَانِ غير الصّفة الَّتِي بهَا تخَالف الْحمرَة الْحمرَة الْأُخْرَى والخضرة فقد صَحَّ يَقِينا أَن الصّفة قد تحمل الصّفة وَأَن الْعرض قد يحمل الْعرض بضرورة الْمُشَاهدَة على حسب مَا رتبه الله تَعَالَى وكل ذَلِك ذُو نِهَايَة وَلَا بُد وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذِه الْمعَانِي وتناهيها هُوَ أَن الْعَالم كُله جَوْهَر حَامِل وَعرض مَحْمُول وَلَا مزِيد والجوهر أَجنَاس وأنواع وَالْعرض أَجنَاس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذَكرنَاهَا فِي كتاب التَّقْرِيب عمدتها أَن الْأَجْنَاس أقل عددا من الْأَنْوَاع المنقسمة تحتهَا بِلَا شكّ والأنواع أَكثر عددا من الْأَجْنَاس إِذْ لَا بُد من ان يكون تَحت كل جنس نَوْعَانِ أَو أَكثر من نَوْعَيْنِ وَالْكَثْرَة والقلة لَا يقعان ضَرُورَة إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة من مبدئه ومنتهاه لِأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يُمكن أَن يكون شَيْء أَكثر مِنْهُ وَلَا أقل مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيا لَهُ لِأَن هَذَا يُوجب النِّهَايَة وَلَا بُد فالعالم إِذا ذُو نِهَايَة لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئا غير الْأَجْنَاس والأنواع الَّتِي للجواهر والأعراض فَقَط والمعاني إِنَّمَا هِيَ للأشياء الْمعبر عَنْهَا بالألفاظ فَقَط فَإذْ هَذَا كَمَا ذكرنَا فَإِنَّمَا نقيس الْأَشْيَاء بصفاتها الَّتِي تقوم مِنْهَا حُدُودهَا مثل أَن نقُول مَا الْإِنْسَان فَنَقُول جسم ملون وَنَفس فِيهِ تمكن أَن تكون متصرفة فِي الْعُلُوم والصناعات يقبل الْحَيَاة وَالْمَوْت فَيُقَال مَا الْجِسْم وَمَا النَّفس وَمَا اللَّوْن وَمَا الصناعات وَمَا الْعُلُوم وَمَا الْحَيَاة وَمَا الْمَوْت فَإِذا فسرت جَمِيع هَذِه الْأَلْفَاظ ورسمت كل مَا يَقع عَلَيْهِ وَفعلت كَذَلِك فِي جَمِيع الْأَجْنَاس والأنواع فقد انْتَهَت الْمعَانِي وانقطعت وَلَا سَبِيل إِلَى التَّمَادِي بِلَا نِهَايَة أصلا لِأَن كل مَا ينطبق بِهِ أَو يعقل فَإِنَّهُ لَا يعدو الْأَجْنَاس والأنواع الْبَتَّةَ والأنواع والأجناس محصورة كَمَا بَينا وكل مَا خرج من الْأَشْخَاص إِلَى حد الْفِعْل فقد حصره الْعدَد لِأَنَّهُ ذُو مبدأ وكل مَا حصره الْعدَد فمتناه ضَرُورَة فَجَمِيع الْمعَانِي من الْأَعْرَاض وَغَيرهَا محصورة بِمَا ذكرنَا من الْبُرْهَان الصَّحِيح الَّذِي ذكرنَا أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا خرج إِلَى الْوُجُود فِي الدَّهْر مذ كَانَ الْعَالم من جنس أَو عرض فَهُوَ كُله مَحْصُور عدده متناه أمده ذُو غَايَة فِي ذَاته فِي مبدئه ومنتهاه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد نعجز نَحن عَن عد شُعُور أجسامنا ونوقن أَنَّهَا ذَات عدد متناه بِلَا شكّ فَلَيْسَ قُصُور قَوْلنَا عَن إحصاء عدد مَا فِي الْعَالم بمعترض على وجوب وجود النِّهَايَة فِي جَمِيع أشخاص جواهره وأعراضه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم إِذا كَانَ فعلنَا خلقا لله عز وَجل ثمَّ عذبنا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا عذبنا على خلقه فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا لَا يلْزم وَلَو لزمنا للزمهم إِذا كَانَ تَعَالَى يعذبنا على إرادتنا(3/52)
وحركتنا الواقعتين منا أَن يعذبنا على كل حَرَكَة لنا أَو على كل إِرَادَة لنا بل على كل حَرَكَة فِي الْعَالم وعَلى كل إِرَادَة فَإِن قَالُوا لَا يعذبنا إِلَّا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بِخِلَاف أمره عز وَجل وَكَذَلِكَ نقُول نَحن أَنه لَا يعذبنا إِلَّا على خلقه فِينَا الَّذِي هُوَ ظَاهر منا بِخِلَاف أمره وَهُوَ مَنْسُوب إِلَيْنَا ومكتسب لنا لإيثارنا إِيَّاه الْمَخْلُوق فِينَا فَقَط لَا على كل مَا خلق فِينَا أَو فِي غَيرنَا وَلَا فرق وَلَو أخبرنَا تَعَالَى أَنه يعذبنا على مَا خلق فِي غَيرنَا لقلنا بِهِ ولصدقناه كَمَا نقر أَنه يعذب أَقْوَامًا على مَا لم يفعلوه قطّ وَلَا أمروا بِهِ لَكِن على مَا يَفْعَله غَيرهم مِمَّن جَاءَ بعدهمْ بِأَلف عَام لِأَن أُولَئِكَ كَانُوا أول من فعل مثل ذَلِك الْفِعْل قَالَ الله تَعَالَى {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مَعَ أثقالهم} وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن أحد ابْني آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {ليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم أَلا سَاءَ مَا يزرون} وَلَيْسَ هَذَا مُعَارضا لقَوْله تَعَالَى {وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء} بل كلا الْآيَتَيْنِ متفقة مَعَ الْأُخْرَى لِأَن الْخَطَايَا الَّتِي نفى الله عز وَجل أَن يحملهَا أحد عَن أحد هِيَ بِمَعْنى أَن يحط حمل هَذَا لَهَا من عَذَاب الْعَامِل بهَا شَيْئا فَهَذَا لَا يكون لِأَن الله عز وَجل نَفَاهُ وَأما الْحمل لمثل عِقَاب الْعَامِل للخطيئة مضاعفاً زَائِدا إِلَى عِقَابه غير حاط من عِقَاب الآخر شَيْئا فَهُوَ وَاجِب مَوْجُود وَكَذَلِكَ أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من سنّ سنة فِي الْإِسْلَام سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ مثل وزر من عمل بهَا أبدا لَا يحط ذَلِك من أوزار العاملين لَهَا شَيْئا وَلَو أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يعذبنا على فعل غَيرنَا دون أَن نسنه وَإنَّهُ يعذبنا على غير فعل فَعَلْنَاهُ أَو على الطَّاعَة لَكَانَ كل ذَلِك حَقًا وعدلاً ولوجب التَّسْلِيم لَهُ وَلَكِن الله تَعَالَى وَله الْحَمد قد أمننا من ذَلِك بقوله تَعَالَى {لَا يضركم من ضل إِذا أهتديتم} ولحكمه تَعَالَى أننا لَا نجزي إِلَّا بِمَا عَملنَا أَو كُنَّا مبتدئين لَهُ فَآمَنا ذَلِك وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَقد أيقنا أَيْضا أَنه تَعَالَى يأجرنا على مَا خلق فِينَا من الْمَرَض والمصائب وعَلى فعل غَيرنَا الَّذِي لَا أثر لنا فِيهِ كضرب غَيرنَا لنا ظلما وتعذيبهم لنا وعَلى قتل الْقَاتِل لمن قتل ظلما وَلَيْسَ هَا هُنَا من الْمَقْتُول صَبر وَلَا عمل أصلا فَإِنَّمَا أجر على فعل غَيره مُجَردا إِذا أحدثه فِيهِ وَكَذَلِكَ من أَخذ غَيره مَاله والمأخوذ مَاله لَا يعلم بذلك إِلَى أَن مَاتَ فَأَي فرق بَين أَن يأجرنا على فعل غَيرنَا وعَلى فعله تَعَالَى فِي إحراق مَال من لم يعْمل باحتراق مَاله وَبَين أَن يعذبنا على ذَلِك لَو شَاءَ عز وَجل وَأما قَوْلهم فرض الله عز وَجل الرِّضَا بِمَا قضى وَبِمَا خلق فَإِن كَانَ الْكفْر وَالزِّنَا وَالظُّلم مِمَّا خلق فَفرض علينا الرِّضَا بذلك فجوابنا إِن الله عز وَجل لم يلْزمنَا قطّ الرِّضَا بِمَا خلق وَقضى بِكُل مَا ذكر بل فرض الرِّضَا بِمَا قضى علينا من مُصِيبَة فِي نفس أَو فِي مَال مظهر تمويههم بِهَذِهِ الشُّبْهَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} فَالْجَوَاب أَن يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن هَذِه الْآيَة أعظم حجَّة على أَصْحَاب أَلا صلح وهم جُمْهُور الْمُعْتَزلَة فِي ثَلَاثَة أوجه وَهِي حجَّة على جَمِيع الْمُعْتَزلَة فِي وَجْهَيْن لِأَن فِي هَذِه الْآيَة أَن مَا أصَاب الْإِنْسَان من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَهُ من سَيِّئَة فَمن نَفسه وهم كلهم لَا يفرقون بَين الْأَمريْنِ بل الْحسن والقبيح من أَفعَال الْمَرْء كل ذَلِك عِنْدهم من نفس الْمَرْء لَا خلق الله تَعَالَى فِي شَيْء من فعله لَا حَسَنَة وَلَا قبيحة فَهَذِهِ الْآيَة مبطلة لقَوْل جَمِيعهم فِي هَذَا الْبَاب وَالْوَجْه الثَّانِي إِنَّهُم كلهم قَائِلُونَ أَنه لَا يفعل الْمَرْء حسنا وَلَا قبيحاً الْبَتَّةَ إِلَّا بِقُوَّة موهوبة(3/53)
من الله تَعَالَى مكنة بهَا من فعل الْخَيْر وَالشَّر وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة تمكيناً مستوياً وَهِي الِاسْتِطَاعَة على اخْتلَافهمْ فِيهَا فهم متفقون على أَن الْبَارِي تَعَالَى خَالِقهَا وواهبها كَانَت نفس المستطيع أَو بَعْضهَا أوعر ضافية وَفِي هَذِه الْآيَة فرق بَين الْحسن والسيء كَمَا ترى وَأما الْوَجْه الثَّالِث الَّذِي خَالف فِيهِ الْقَائِلُونَ بالأصلح خَاصَّة هَذِه الْآيَة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى لم يُؤَيّد فَاعل الْحَسَنَة بِشَيْء من عِنْده تَعَالَى وَلم يُؤثر فَاعل السَّيئَة وَالْآيَة مخبرة بِخِلَاف ذَلِك فَصَارَت الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم ظَاهِرَة مبطلة لقَولهم وَأما قَوْلنَا نَحن فِيهَا فَهُوَ مَا قَالَه الله عز وَجل إِذْ يَقُول مُتَّصِلا بِهَذِهِ الْآيَة دون فصل {قل كل من عِنْد الله فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} ثمَّ قَالَ تَعَالَى بأثر ذَلِك بعد كَلَام يسير {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح بِمَا ذكرنَا أَن كل هَذَا الْكَلَام مُتَّفق لَا مُخْتَلف فَقدم الله تَعَالَى إِن كل شَيْء من عِنْده فصح بِالنَّصِّ أَنه تَعَالَى خَالق الْخَيْر وَالشَّر وخالق كل مَا أصَاب الْإِنْسَان ثمَّ أخبر تَعَالَى أَن مَا أَصَابَنَا من حَسَنَة فَمن عِنْده وَهَذَا هُوَ الْحق لِأَنَّهُ لَا يجب لنا تَعَالَى عَلَيْهِ شَيْء فالحسنات الْوَاقِعَة منا فضل مُجَرّد مِنْهُ لَا شَيْء لنا فِيهِ وإحسان مِنْهُ إِلَيْنَا لن نستحقه قطّ عَلَيْهِ وَأخْبر عز وَجل أَن مَا أَصَابَنَا من مُصِيبَة فَمن أَنْفُسنَا بعد أَن قَالَ إِن الْكل من عِنْد الله تَعَالَى فصح أننا مستحقون بالنكال لظُهُور السَّيئَة منا وإننا عاصون بذلك كَمَا حكم علينا تَعَالَى فَحكمه الْحق وَالْعدْل وَلَا مزِيد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا فَإِذا كَانَ الله خالقكم وخالق أفعالكم فَأنْتم والجمادات سَوَاء قُلْنَا كلا لِأَن الله تَعَالَى خلق فِينَا علما نَعْرِف بِهِ أَنْفُسنَا الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَخلق فِينَا مَشِيئَة لكل مَا خلق فِينَا يُسمى فعلا لنا فخلق فِيهِ اسْتِحْسَان مَا يستحسنه واستقباح مَا يستقبحه وَخلق تَصرفا فِي الصناعات والعلوم وَلم يخلق فِي الجمادات شَيْئا من ذَلِك فَنحْن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أَو كَارِهُون متصرفون علما بِخِلَاف الجمادات فَإِن قيل فَأنْتم مالكون لأموركم مفوض إِلَيْكُم أَعمالكُم مخترعون لأفعالكم قُلْنَا لَا لِأَن الْملك والاختراع لَيْسَ هُوَ لأحد غير الله تَعَالَى إِذْ الْكل مِمَّا فِي الْعَالم مخترع لَهُ وَملك لَهُ عز وَجل والتفويض فِيهِ معنى من الِاسْتِغْنَاء وَلَا غَنِي بِأحد عَن الله عز وَجل وَبِه نتأيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد أبطلنا بحول الله تَعَالَى وقوته كل مَا شغب بِهِ الْمُعْتَزلَة فِي أَن أَفعَال الْعباد غير مخلوقة لله تَعَالَى فلنأت ببرهان ضَرُورِيّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى على صِحَة القَوْل بِأَنَّهَا مخلوقه لله تَعَالَى فَنَقُول وَبِه عز وَجل نتأيد أَن الْعَالم كُله مَا دون الله تَعَالَى يَنْقَسِم قسمَيْنِ جَوْهَر وَعرض لَا ثَالِث لَهما ثمَّ يَنْقَسِم الْجَوْهَر إِلَى أَجنَاس وأنواع وَلكُل نوع مِنْهَا فصل يتَمَيَّز بِهِ مِمَّا سواهُ من الْأَنْوَاع الَّتِي يجمعها وإياه جنس وَاحِد وبالضرورة نعلم أَن مَا لزم الْجِنْس الْأَعْلَى لزم كل مَا تَحْتَهُ إِذْ محَال أَن تكون نَار غير حارة أَو هَوَاء راسب بطبعه أَو إِنْسَان صهال بطبعه وَمَا أشبه هَذَا ثمَّ بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن الْإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا إِلَّا الْحَرَكَة والسكون والفكر والإرادة وَهَذِه كلهَا كيفيات يجمعها مَعَ اللَّوْن والطعم والمحبة والأشكال جنس الْكَيْفِيَّة فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون بعض مَا تَحت النَّوْع الْوَاحِد وَالْجِنْس الْوَاحِد مخلوقاً وَبَعضه غير مَخْلُوق وَهَذَا أَمر يُعلمهُ بَاطِلا من لَهُ أدنى علم بحدود الْعَالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذَلِك مَعَ كل حَرَكَة فِي الْعَالم وكل سُكُون فِي الْعَالم نوع من الْحَرَكَة وَنَوع من السّكُون ثمَّ يَنْقَسِم كل ذَلِك قسمَيْنِ وَلَا مُرِيد حَرَكَة(3/54)
اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذَلِك حَرَكَة تحد بِحَدّ الْحَرَكَة وَسُكُون يحد بِحَدّ السّكُون وَمن الْمحَال أَن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تَعَالَى وَبَعضهَا غير مَخْلُوق وَكَذَلِكَ السّكُون أَيْضا فَإِن لجؤا إِلَى قَول معمر فِي أَن هَذِه الْأَعْرَاض كلهَا فعل مَا ظَهرت فِيهِ بطباع ذَلِك الشَّيْء سهل أَمرهم بعون الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَنهم إِذا أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ تَعَالَى خَالق مَا ظهر مِنْهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رتب كَونه وظهوره على مَا هُوَ عَلَيْهِ رُتْبَة لَا يُوجد بِخِلَافِهَا وَهَذَا هُوَ الْخلق بِعَيْنِه وَلَكنهُمْ قوم لَا يعلمُونَ كالمتكسع فِي الظُّلُمَات وكما قَالَ تَعَالَى {كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا} نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن نوع الحركات مَوْجُود قبل خلق النَّاس فَمن الْمحَال الْبَين أَن يخلق الْمَرْء مَا قد كَانَ نَوعه مَوْجُودا قبله وَأَيْضًا فَإِن عمدتهم فِي الِاحْتِجَاج على الْقَائِلين بِأَن الْعَالم لم يزل إِنَّمَا هِيَ مُقَارنَة الْأَعْرَاض للجواهر وَظُهُور الحركات مُلَازمَة للمتحرك بهَا فَإِذا كَانَ ذَلِك دَلِيلا باهراً على حُدُوث الْجَوَاهِر وَأَن الله تَعَالَى خلقهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون ذَلِك دَلِيلا باهراً أَيْضا على حُدُوث الْأَعْرَاض وَأَن الله تَعَالَى خلقهَا لَوْلَا ضعف عقول الْقَدَرِيَّة وَقلة علمهمْ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا امتحنهم بِهِ ونسأله التَّوْفِيق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق} فَأثْبت تَعَالَى أَن من خلق شَيْئا فَهُوَ لَهُ إِلَه فيلزمهم بِالضَّرُورَةِ إِنَّهُم آلِهَة لأفعالهم الَّتِي خلقوها وَهَذَا كفر مُجَرّد إِن طردوه وَإِلَّا لَزِمَهُم الِانْقِطَاع وَترك قَوْلهم الْفَاسِد وَأَيْضًا فَإِن من خلق شَيْئا لم يعنه غَيره عَلَيْهِ لَكِن انْفَرد بخلقه فبالضرورة يعلم أَنه يصرف مَا خلق كَمَا يَفْعَله إِذا شَاءَ ويتركه إِذا شَاءَ ويفعله حسنا إِذا شَاءَ وقبيحاً إِذا شَاءَ فَإذْ هم خلقُوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إِلَى أبصارنا حَتَّى نرَاهَا أَو نلمسها أَو ليزيدوا فِي قدرهَا وليخالفوها عَن رتبتها فَإِن قَالُوا لَا نقدر على ذَلِك فليعلموا انهم كاذبون فِي دعاويهم خلقهَا لأَنْفُسِهِمْ فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نفعلها كَمَا قوانا الله على فعلهَا فليعلمون أَن الله تَعَالَى إِذا هُوَ المقوي على فعل الْخَيْر وَالشَّر فَإِن بِهِ عز وَجل كَانَ الْخَيْر وَالشَّر وَإِذ لَوْلَا هُوَ لم يكن خير وَلَا شَرّ وَبِه كَانَا فَهُوَ كَونهمَا وأعان عَلَيْهِمَا وأظهرهما واخترعهما وَهَذَا معنى خلقه تَعَالَى لَهما وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان أَن الله تَعَالَى خَالق أَفعَال خلقه قَوْله تَعَالَى حاكياً عَن سحرة فِرْعَوْن مُصدقا لَهُم ومثنيا عَلَيْهِم فِي قَوْلهم {رَبنَا أفرغ علينا صبرا} فصح أَنه خَالق مَا يفرغه من الصَّبْر الَّذِي لَو لم يفرغه على الصابر لم يكن لَهُ صَبر وَأَيْضًا فَإِن جنس الحركات كلهَا والسكون كُله والمعارف كلهَا جنس وَاحِد وكل مَا قيل على الْكل قيل على جَمِيع أَجْزَائِهِ وعَلى كل بعض من أَبْعَاضه فنسألهم عَن حركات الْحَيَوَان غير النَّاطِق وسكونه ومعرفته بِمَا يعرف من مضاره ومنافعه فِي أكله وشربه وَغير ذَلِك أكل ذَلِك مَخْلُوق لله تَعَالَى أم هُوَ غير مَخْلُوق فَإِن قَالُوا كل ذَلِك مَخْلُوق كَانُوا قد نقضوا هَذِه الْمُقدمَات الَّتِي يشْهد الْعقل والحس بتصديقها وَظهر فَسَاد قَوْلهم فِي التَّفْرِيق بَين معرفتنا وَمَعْرِفَة سَائِر الْحَيَوَان بِمَا عرفه وَبَين حركاتنا وَبَين حركات سَائِر الْحَيَوَان وَبَين سكوننا وسكونه وَهَذِه مُكَابَرَة ظَاهِرَة وَدَعوى بِلَا برهَان وَإِن قَالُوا بل كل ذَلِك غير مَخْلُوق ألزمناهم مثل ذَلِك فِي سَائِر الْأَعْضَاء كلهَا فَإِن تناقضوا كفونا أنفسهم وَإِن تَمَادَوْا لَزِمَهُم أَنه تَعَالَى لم يخلق شَيْئا من الْأَعْرَاض وَهَذَا إلحاد ظَاهر وَإِبْطَال لِلْخلقِ وَكفى بِهَذَا إضلالاً ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَيَكْفِي من هَذَا أَن(3/55)
الْأَعْرَاض تجْرِي على صِفَات الْفَاعِل وَنحن نجد الْحَكِيم لَا يقدر على الطيش وَالْبذَاء وَإِن الطياش البذي لَا يقدر على الْحيَاء وَالصَّبْر والسيء الْخلق لَا يقدر على الْحلم والحليم لَا يقدر على النرق والسخي لَا يقدر على الْمَنْع والشحيح لَا يقدر على الْجُود وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} فصح أَن من النَّاس موقى شح نَفسه مفلحاً وَغير موقي وَلَا مُفْلِح وَكَذَلِكَ الزكي لَا يقدر على البلادة والبليد لَا يقدر على الزكا والحافظ لَا يقدر على النسْيَان وَالنَّاسِي لَا يقدر على ثبات الْحِفْظ والشجاع لَا يقدر على الْجُبْن والجبان لَا يقدر على الشجَاعَة هَكَذَا فِي جَمِيع الْأَخْلَاق الَّتِي عَنْهَا تكون الْأَفْعَال فصح ان ذَلِك خلق لله تَعَالَى لَا يقدر الْمَرْء على إحاطة شَيْء من ذَلِك أصلا حَتَّى أَن مخرج صَوت أَحَدنَا وَصفَة كَلَامه لَا يقدر الْبَتَّةَ على صرفه كَمَا خلق عَلَيْهِ من الجهارة والخفاء أَو الطّيب والسماحة وَكَذَلِكَ خطه لَا يُمكنهُ صرفه عَمَّا رتبه الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَو جهد وَهَكَذَا جَمِيع حركات الْمَرْء حَتَّى وَقع قَدَمَيْهِ ومشيه فَلَو كَانَ هُوَ خَالق كل ذَلِك لصرفه كَمَا يَشَاء فَإِذا لَيْسَ فِيهِ قُوَّة على صرف شَيْء من ذَلِك عَن هَيئته فقد ثَبت ضَرُورَة أَنه خلق الله تَعَالَى فِيمَن نسب فِي اللُّغَة إِلَى أَنه فَاعله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَكْثَرت الْمُعْتَزلَة فِي التولد وتحيرت فِيهِ حيرة شَدِيدَة فَقَالَت طَائِفَة مَا يتَوَلَّد عَن فعل الْمَرْء مثل الْقَتْل والألم الْمُتَوَلد عَن رمي السهْم وَمَا أشبه ذَلِك فَإِنَّهُ فعل الله عز وَجل وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ فعل الطبيعة وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ فعل الَّذِي فعل الْفِعْل الَّذِي عَنهُ تولد وَقَالَ بَعضهم هُوَ فعل لَا فَاعل لَهُ وَقَالَ جَمِيع أهل الْحق أَنه فعل الله عز وَجل وخلقه فالبرهان فِي ذَلِك هُوَ الْبُرْهَان الَّذِي ذكرنَا فِي خلق الْأَفْعَال من أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي التَّعْدِيل والتجوير قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله هَذَا الْبَاب هُوَ أصل ضَلَالَة الْمُعْتَزلَة نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك على أننا رَأينَا مِنْهُم من لَا يرضى عَن قَوْلهم فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذَلِكَ أَن جمهورهم قَالُوا وجدنَا من فعل الْجور فِي الشَّاهِد كَانَ جائراً وَمن فعل الظُّلم كَانَ ظَالِما وَمن أعَان فَاعِلا على فعله ثمَّ عاقبه عَلَيْهِ كَانَ جائراً عابثاً قَالُوا وَالْعدْل من صِفَات الله تَعَالَى وَالظُّلم والجور منفيان عَنهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم} وَقَالَ تَعَالَى {لَا ظلم الْيَوْم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد علم الْمُسلمُونَ أَن الله تَعَالَى عدل لَا يجور وَلَا يظلم وَمن وَصفه عز وَجل بالظلم والجور فَهُوَ كَافِر وَلَكِن لَيْسَ هَذَا على مَا ظَنّه الْجُهَّال من أَن عُقُولهمْ حاكمة على الله تَعَالَى فِي أَن لَا يحسن مِنْهُ إِلَّا مَا حسنت عُقُولهمْ وَأَنه يقبح مِنْهُ تَعَالَى مَا قبحت عُقُولهمْ وَهَذَا هُوَ تَشْبِيه مُجَرّد لله تَعَالَى بخلقه إِذْ حكمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يحسن مِنْهُ مَا حسن منا ويقبح مِنْهُ مَا قبح منا وَيحكم عَلَيْهِ فِي الْعقل بِمَا يحكم علينا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَذْهَب يلْزم كل من قَالَ لما كَانَ الْحَيّ فِي الشَّاهِد لَا يكون إِلَّا بحياة وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى حَيا بحياة وَلَيْسَ بَين الْقَوْلَيْنِ فرق وَكِلَاهُمَا لَازم لمن الْتزم(3/56)
أَحدهمَا وَكِلَاهُمَا إضلال وَخطأ وَإِنَّمَا الْحق هُوَ أَن كل مَا فعله الله عز وَجل أَي شَيْء كَانَ فَهُوَ مِنْهُ عز وَجل حق وَعدل وَحِكْمَة وَإِن كَانَ بعض ذَلِك منا جوراً وسفهاً وكل مَا لم يَفْعَله الله عز وَجل فَهُوَ الظُّلم وَالْبَاطِل والعبث والتفاوت وَأما أجراؤهم الحكم على الْبَارِي تَعَالَى بِمثل مَا يحكم بِهِ بَعْضنَا على بعض فضلال بَين وَقَول سبق لَهُ أصل عِنْد الدهرية وَعند المنانية وَعند البراهمة وَهُوَ أَن الدهرية قَالَت لما وجدنَا الْحَلِيم فِيمَا بَيْننَا لَا يفعل إِلَّا لاجتلاب مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة وَوجدنَا من فعله مَا لَا فَائِدَة فِيهِ فَهُوَ عابث هَذَا الَّذِي لَا يعقل غَيره قَالُوا وَلما وجدنَا فِي الْعَالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انْتَفَى بذلك أَن يكون لَهُ فَاعل حَكِيم وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم مثل هَذَا سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنهم زادوا فَقَالُوا علمنَا بذلك أَن للْعَالم فَاعِلا سَفِيها غير الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ النَّفس وَأَن الْبَارِي الْحَكِيم خَلاهَا تفعل ذَلِك ليريها فَسَاد مَا تخيلته فَإِذا استبان ذَلِك لَهَا أفْسدهُ الْبَارِي الْحَكِيم تَعَالَى حِينَئِذٍ وأبطله وَلم تعد النَّفس إِلَى فعل شَيْء بعْدهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأبطال هَذَا القَوْل يثبت بِمَا يبطل بِهِ قَول الْمُعْتَزلَة سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَقَالَت المنانية بِمثل مَا قَالَت بِهِ الدهرية سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنَّهَا قَالَت وَمن خلق خلقا ثمَّ خلق من يضل ذَلِك الْخلق فَهُوَ ظَالِم عابث وَمن خلق خلقا ثمَّ سلط بَعضهم على بعض وأغرى بَين طالع خلقه فَهُوَ ظَالِم عابث قَالُوا فَعلمنَا أَن خَالق الشَّرّ وفاعله هُوَ غير خَالق الْخَيْر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا نَص قَول الْمُعْتَزلَة إِلَّا أَنَّهَا زَادَت قبحاً بِأَن قَالَت أَن الله تَعَالَى لم يخلق من أَفعَال الْعباد لَا خيرا وَلَا شرا وَأَن خَالق الْأَفْعَال الْحَسَنَة والقبيحة هُوَ غير الله تَعَالَى لَكِن كل وَاحِد يخلق فعل نَفسه ثمَّ زَادَت تناقضاً فَقَالَت أَن خَالق عنصر الشَّرّ هُوَ إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وَفعله كل شَرّ وخالق طباعهم على تضادها هُوَ الله تَعَالَى وَقَالَت البراهمة أَن من الْعَبَث وَخلاف الْحِكْمَة وَمن الْجور الْبَين أَن يعرض الله تَعَالَى عباده لما يعلم انهم يعطبون عِنْده ويستحقون الْعَذَاب أَن وَقَعُوا فِيهِ يُرِيدُونَ بذلك إبِْطَال الرسَالَة والنبوات كلهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبالضرورة نعلم انه لَا فرق بَين خلق الشَّرّ وَبَين خلق الْقُوَّة الَّتِي لَا يكون الشَّرّ إِلَّا بهَا وَلَا بَين ذَلِك وَبَين خلق من علم الله عز وَجل أَنه لَا يفعل إِلَّا الشَّرّ وَبَين خلق إِبْلِيس وأنظاره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وتسليطه على إغواء الْعباد وإضلالهم وتقويته على ذَلِك وَتَركه يضلهم إِلَّا من عصم الله مِنْهُم فَإِن قَالُوا إِن خلق الله تَعَالَى إِبْلِيس وقوى الشَّرّ وفاعل الشَّرّ خير وَعدل وَحسن صدقُوا وَتركُوا أصلهم الْفَاسِد ولزمهم الرُّجُوع إِلَى الْحق فِي أَن خلقه تَعَالَى للشر وَالْخَيْر وَلِجَمِيعِ أَفعَال عباده وتعذيبه من شَاءَ مِنْهُم مِمَّن لم يهده وإضلاله من أضلّ وهداه من هدى كل ذَلِك حق وَعدل وَحسن وَإِن أحكامنا غير جَارِيَة عَلَيْهِ لَكِن أَحْكَامه جَارِيَة علينا وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يخفى إِلَّا على من أضلّهُ الله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من إضلاله لنا وَلَا فرق بَين شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْعقل الْبَتَّةَ وبرهان ضَرُورِيّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد يُقَال لمن قَالَ لَا يجوز أَن يفعل الله تَعَالَى إِلَّا مَا هُوَ حسن فِي الْعقل منا وَلَا أَن يخلق وَيفْعل مَا هُوَ قَبِيح فِي الْعقل فِيمَا بَينا منا يَا هَؤُلَاءِ إِنَّكُم أَخَذْتُم الْأَمر من عِنْد أَنفسكُم ثمَّ عكستموه فَعظم غلطكم وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَنْتُم مقرون بِأَن الله تَعَالَى لم يزل وَاحِدًا وَحده لَيْسَ مَعَه خلق أصلا وَلَا شَيْء مَوْجُود لَا جسم وَلَا عرض وَلَا جَوْهَر وَلَا عقل وَلَا مَعْقُول وَلَا سفه وَلَا غير(3/57)
ذَلِك ثمَّ أقررتم بِلَا خلاف مِنْكُم انه خلق النُّفُوس وأحدثها بعد ان لم تكن وَخلق لَهَا الْعُقُول وركبها فِي النُّفُوس بعد إِن لم تكن الْعُقُول الْبَتَّةَ أَن لَا تحدثُوا على الْبَارِي تَعَالَى حكما لَازِما لَهُ من قبل بعض خلقه فَلَيْسَ فِي الْجُنُون أفحش من هَذَا الْبَتَّةَ ثمَّ أخبرونا إِذا كَانَ الله وَحده لَا شَيْء مَوْجُود مَعَه فَفِي أَي شَيْء كَانَت صُورَة الْحسن حَسَنَة وَصُورَة الْقَبِيح قبيحة وَلَيْسَ هُنَالك عقل أصلا يكون فِيهِ الْحسن حسنا والقبيح قبيحاً وَلَا كَانَت هُنَالك نفس عَاقِلَة أَو غير عَاقِلَة فيقبح عِنْدهَا الْقَبِيح وَيحسن الْحسن فَأَي شَيْء قَالَ تَحْسِين الْحسن وتقبيح الْقَبِيح وهما عرضان لَا بُد لَهما من حَامِل وَلَا حَامِل أصلا وَلَا مَحْمُول وَلَا شَيْء حسن وَلَا شَيْء قَبِيح حَتَّى أحدث الله تَعَالَى النُّفُوس وَركب فِيهَا الْعُقُول المخلوقة وقبح فِيهَا على قَوْلكُم مَا قبح وَحسن فِيهَا على قَوْلكُم مَا حسن فَإذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يكون مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي الْأَزَل شَيْء مَوْجُود أصلا قَبِيح وَلَا حسن وَلَا عقل يقبح فِيهِ شَيْء أَو يحسن فقد وَجب يَقِينا أَن لَا يمْتَنع من قدرَة الله تَعَالَى وَفعله شَيْء يحدثه لقبح فِيهِ وَوَجَب أَن لَا يلْزمه تَعَالَى شَيْء لحسنه إِذْ لَا قبح وَلَا حسن الْبَتَّةَ فِيمَا لم يزل فبالضرورة وَجب أَن مَا هُوَ الْآن عندنَا قَبِيح فَإِنَّهُ لم يقبح بِلَا أول بل كَانَ لقبحه أول لم يكن مَوْجُودا قبله فَكيف أَن يكون قبيحاً قبله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْحسن وَلَا فرق وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع جملَة أَن يكون مُمكنا أَن يفعل الْبَارِي تَعَالَى حِينَئِذٍ شَيْئا ثمَّ يمْتَنع مِنْهُ فعله بعد ذَلِك لِأَن هَذَا يُوجب إِمَّا تبدل طبيعة وَالله تَعَالَى منزه عَن ذَلِك وَأما حُدُوث حكم عَلَيْهِ فَيكون تَعَالَى متعبداً وَهَذَا هُوَ الْكفْر السخيف نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ فَإِن قَالُوا لم يزل الْقَبِيح قبيحاً فِي علم الله عز وَجل وَلم يزل الْحسن حسنا فِي علمه تَعَالَى قُلْنَا لَهُم هبكم أَن هَذَا كَمَا قُلْتُمْ فَعَلَيْكُم فِي هَذَا حكمان مبطلان لقولكم الْفَاسِد أَحدهمَا أَنكُمْ جعلتم الحكم فِي ذَلِك لما فِي الْمَعْقُول لَا لما سبق فِي علم الله عز وَجل فَلم تجْعَلُوا الْمَنْع من فعل مَا هوقبيح عنْدكُمْ أَلا لِأَن الْعُقُول قبحته فأحطتم فِي هَذَا وَالثَّانِي أَنه تَعَالَى أَيْضا لم يزل يعلم أَن الَّذِي يَمُوت مُؤمنا فَإِنَّهُ لَا يكفر وَلم يزل تَعَالَى يعلم أَن الَّذِي يَمُوت كَافِرًا لَا يُؤمن فَلم جوزتم قدرته على إِحَالَة مَا علم من ذَلِك وتبديله وَلم تجوزوا قدرته تَعَالَى على إِحَالَة مَا علم حسنا إِلَى الْقبْح وإحالة مَا علم قبيحاً إِلَى الْحسن وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ أصلا فَإِذا ثَبت ضَرُورَة أَنه لَا قَبِيح لعَينه وَلَا حسن لعَينه الْبَتَّةَ وانه لَا قَبِيح إِلَّا مَا حكم الله تَعَالَى بِأَنَّهُ قَبِيح وَلَا حسن إِلَّا مَا حكم بِأَنَّهُ حسن وَلَا مزِيد وَأَيْضًا فَإِن دعواكم أَن الْقَبِيح لم يزل قبيحاً فِي علم الله تَعَالَى مَا دليلكم على هَذَا بل لَعَلَّه تَعَالَى لم يزل عليماً بِأَن أَمر كَذَا يكون حسنا بُرْهَة من الدَّهْر ثمَّ يقبحه قيصير قبيحاً إِذا قبحه لَا قبل ذَلِك كَمَا فعل تَعَالَى بِجَمِيعِ الْملَل المنسوخة وَهَذَا أصح من قَوْلكُم لظُهُور براهين هَذَا القَوْل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَلم يزل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليماً أَن عقد الْكفْر وَالْقَوْل بِهِ قَبِيح من العَبْد إِذا فعلهمَا مُعْتَقدًا لَهما لِأَن الله قبحهما لَا لِأَنَّهُمَا حَرَكَة أَو عرض فِي النَّفس وَهَذَا هُوَ الْحق لظُهُور براهين هَذَا أَيْضا لَا لِأَن ذَلِك قَبِيح لعَينه وَيُقَال لَهُم أَيْضا أخبرونا من حسن الْحسن فِي الْعُقُول وَمن قبح الْقبْح فِي الْعُقُول فَإِن قَالُوا الله عز وَجل قُلْنَا لَهُم أَفَكَانَ الله تَعَالَى قَادر على عكس تِلْكَ الرُّتْبَة إِذْ رتبها على أَن يرتبها بِخِلَاف مَا رتبها عَلَيْهِ فَيحسن فِيهَا الْقَبِيح ويقبح فِيهَا الْحسن فَإِن قَالُوا نعم أوجبوا أَنه لم يقبح شَيْء إِلَّا بعد ان حكم الله تَعَالَى بقبحه وَلم يحسن شَيْء إِلَّا بعد ان حكم الله تَعَالَى بحسنه وَأَنه كَانَ لَهُ تَعَالَى أَن يفعل بِخِلَاف مَا فعل وَله(3/58)
ذَلِك الْآن وأبداً وَبَطل أَن يكون تَعَالَى متعبداً لنَفسِهِ وموجباً عَلَيْهِ مَا يكون ظَالِما مذموماً إِن خَالفه وَإِن قَالُوا لَا يُوصف تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى ولزمهم القَوْل بِمثل قَول عَليّ الأسواري من أَنه تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا فعل فَحكم هَذَا الردي الدّين وَالْعقل بِأَنَّهُ أقدر من ربه تَعَالَى وَأقوى لانه عد نَفسه الخسيسة يقدر على مَا فعل وعَلى مَا لم يفعل وربه تَعَالَى لَا يقدر الاعلى مَا فعل وَلَو علم الْمَجْنُون أَنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إِلَى مَا يَبْدُو مِنْهَا وَلَا يُمكن أَن يظْهر مِنْهَا غير مَا يظْهر لسخنت عينه ولطال عويله على عَظِيم مصيبته نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَمن عظم مَا حل بالقدرية المتنطعين بِالْجَهْلِ والعمى وَالْحَمْد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيرا كَمَا هُوَ أَهله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لَهُم هكم شنعتم فِي قَبِيح انه قَبِيح فَلم نفيتم عَن الله عز وَجل خلق الْخَيْر كُله وَخلق الْحسن كُله فقلتم لم يخلق الله تَعَالَى الْإِيمَان وَلَا الْإِسْلَام وَلَا الصَّلَاة وَلَا الزَّكَاة وَلَا النِّيَّة الْحَسَنَة وَلَا اعْتِقَاد الْخَيْر وَلَا إيتَاء الزَّكَاة وَلَا الصَّدَقَة ولاالبر لِأَن خلق هَذَا قَبِيح أم كَيفَ الْأَمر فبأن تمويهكم بِذكر خلق الشَّرّ وَأَنْتُم قد اسْتَوَى عنْدكُمْ الْخَيْر وَالشَّر فِي أَن الله تَعَالَى لم يخلق شَيْئا من ذَلِك كُله فدعو التمويه الضَّعِيف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وقرأت فِي مسَائِل لأبي هَاشم عبد السَّلَام ابْن أبي عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجائي رَئِيس الْمُعْتَزلَة وَابْن رئيسهم كلَاما لم يردد فِيهِ كثيرا دون حَيَاء وَلَا رَقَبَة يجب على الله أَن بِفعل كَذَا كَأَنَّهُ الْمَجْنُون يخبر عَن نَفسه أَو عَن رجل من عرض النَّاس فليت شعري أما كَانَ لَهُ عقل أَو حس يسائل بِهِ نَفسه فَيَقُول لَيْت شعري من أوجب على الله تَعَالَى هَذَا الَّذِي قضى بووجوبه عَلَيْهِ وَلَا بُد لكل وجوب وَإِيجَاب من مُوجب ضَرُورَة وَإِلَّا كَانَ يكون فعلا لَا فَاعل لَهُ وَهَذَا كفر مِمَّا أجَازه فَمن هَذَا الْمُوجب على الله تَعَالَى حكما مَا وَهَذَا لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون أوجبه تَعَالَى عَلَيْهِ بعض خلقه أما الْعقل وَأما الْعَاقِل فَإِن كَانَ هَذَا فقد رفع الْقَلَم عَنهُ وأف لكل عقل يقوم فِيهِ أَنه حَاكم على خالقه ومحدثه بعد أَن لم يكن ومرتبه على مَا هُوَ عَلَيْهِ ومصرفه على مَا يَشَاء وَإِمَّا أَن يكون تَعَالَى أوجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يزل غير مُوجب لَهُ على نَفسه فَإِن قَالَ بِهَذَا قيل لَهُ فقد كَانَ غير وَاجِب عَلَيْهِ حَتَّى أوجبه فَإذْ هُوَ كَذَلِك فقد كَانَ مُبَاحا لَهُ أَن يعذب من لم يقدره على ترك مَا عذبه عَلَيْهِ وعَلى خلاف سَائِر مَا ذكرت أَنه أوجبه على نَفسه وَإِذا وَجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يكن وَاجِبا عَلَيْهِ فممكن لَهُ أَن يسْقط ذَلِك الْوُجُوب عَن نَفسه وَإِمَّا أَن يكون تَعَالَى لم يزل مُوجبا ذَلِك على نَفسه فَإِن قَالَ بِهَذَا لَزِمته عظيمتان مخرجتان لَهُ عَن الْإِسْلَام وَعَن جَمِيع الشَّرَائِع وهما أَن الْبَارِي تَعَالَى لم يزل فَاعِلا وَلم يزل فعله مَعَه لِأَن الْإِيجَاب فعل وَمن لم يزل مُوجبا فَلم يزل فَاعِلا وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر نَفسه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يمانع بَين جَمِيع الْمُعْتَزلَة فِي إِطْلَاق هَذَا الْجُنُون من أَنه يجب على الله أَن يفعل كَذَا وَيلْزمهُ ان يفعل كَذَا فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْكفْر الْمَحْض وَبِهَذَا يلوح بطلَان مَا يتأولونه فِي قَول الله تَعَالَى {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} وَقَوله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام حق الْعباد على الله أَن لَا يعذبهم يَعْنِي إِذا قَالُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَحقّ على الله أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال يَعْنِي عَن شَارِب الْخمر وَإِن كل هَذَا إِنَّمَا هُوَ أَن الله تَعَالَى قضى بذلك وَجعله حتما وَاجِبا وَكَونه حَقًا فَوَجَبَ ذَلِك مِنْهُ(3/59)
تَعَالَى لَا عَلَيْهِ فأبدلت من منَ على وحروف الْجَرّ يُبدل بَعْضهَا من بعض ثمَّ نقُول لَهُم من خلق إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وَالْخمر والخنازير وَالْحِجَارَة المعبودة وَالْميسر والأصنام والأزلام وَمَا أهل لغير الله بِهِ وَمَا ذبح على النصب فَمن قَوْلهم وَقَول كل مُسلم أَن الله تَعَالَى خَالق هَذَا كُله فلنسألهم أَشَيْء حسن هُوَ كل ذَلِك أم رِجْس وقبيح وَشر فَإِن قَالُوا بل رِجْس وقبيح ونجس وَشر وَفسق صدقُوا وأقروا أَنه تَعَالَى خلق الأنجاس والرجس وَالشَّر وَالْفِسْق وَمَا لَيْسَ حسنا فَإِن قَالُوا بل هِيَ حسان فِي إِضَافَة خلقهَا إِلَى الله تَعَالَى وَهِي رِجْس ونجس وَشر وَفسق تَسْمِيَة الله تَعَالَى لَهَا بذلك قُلْنَا صَدقْتُمْ وَهَكَذَا نقُول أَن الْكفْر والمعاصي هِيَ فِي أَنَّهَا أَعْرَاض وحركات خلق لله تَعَالَى حسن من خلق الله تَعَالَى كل ذَلِك وَهِي من العصاة بإضافتها إِلَيْهِم قبايح ورجس وَقَالَ عز وَجل {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} فليخبرونا بِأَيّ ذَنْب كَانَ من هَذِه الْأَشْيَاء وَجب أَن يسخطها الله تَعَالَى وَأَن يرجسها وَيجْعَل غَيرهَا طَيّبَات هَل هَا هُنَا إِلَّا أَنه تَعَالَى فعل مَا يَشَاء وَأي فرق بَين أَن يسْخط مَا شَاءَ فيلعنه مِمَّا لَا يعقل ويرضى عَمَّا شَاءَ من ذَلِك فيعلي قدره وَيَأْمُر بتعظيمه كناقة صَالح وَالْبَيْت الْحَرَام وَبَين أَن يفعل ذَلِك أَيْضا فِيمَن يعقل فَيقرب بَعْضًا كَمَا شَاءَ وَيبعد بَعْضًا كَمَا شَاءَ وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى وجود الْفرق فِيهِ أبدا ثمَّ نسألهم هَل حابى الله تَعَالَى من خلقه فِي أَرض الْإِسْلَام بِحَيْثُ لَا يلقى إِلَّا دَاعيا إِلَى الدّين ومحسنا لَهُ على من خلقه فِي أَرض الزنج والصين وَالروم بِحَيْثُ لَا يسمع إِلَّا ذاماً لدين الْمُسلمين مُبْطلًا لَهُ وصاداً عَنهُ وَهل رَأَوْا فظا وسمعوا بِمن خرج من هَذِه الْبِلَاد طَالبا لصِحَّة الْبُرْهَان على الدّين فَمن أنكر هَذَا كَابر العيان والحس وَمن أذعن لَهَا ترك قَول الْمُعْتَزلَة الْفَاسِد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل الصَّحِيح هُوَ أَن الْعقل الصَّحِيح يعرف بِصِحَّتِهِ ضَرُورَة أَن الله تَعَالَى حَاكم على كل مَا دونه وَأَنه تَعَالَى غير مَحْكُوم عَلَيْهِ وَأَن كل مَا سواهُ تَعَالَى فمخلوق لَهُ عز وَجل سوآء كَانَ جوهراً حَامِلا أَو عرضا مَحْمُولا لَا خَالق سواهُ وَأَنه يعذب من يَشَاء أَن يعذبه وَيرْحَم من يَشَاء أَن يرحمه وَأَنه لَا يلْزم أحدا إِلَّا مَا ألزمهُ الله عز وَجل وَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح الله وَلَا حسن إِلَّا مَا حسن الله وَأَنه لَا يلْزم لأحد على الله تَعَالَى حق وَلَا حجَّة وَللَّه تَعَالَى على كل من دونه وَمَا دونه الْحق الْوَاجِب وَالْحجّة الْبَالِغَة لَو عذب المطيعين وَالْمَلَائِكَة والأنبياء فِي النَّار مخلدين لَكَانَ ذَلِك لَهُ ولكان عدلا وَحقا مِنْهُ وَلَو نعم إِبْلِيس وَالْكفَّار فِي الْجنَّة مخلدين كَانَ ذَلِك لَهُ وَكَانَ حَقًا وعدلاً مِنْهُ وَإِن كل ذَلِك إِذْ أَبَاهُ الله تَعَالَى وَأخْبر أَنه لَا يَفْعَله صَار بَاطِلا وجوراً وظلماً وَأَنه لَا يَهْتَدِي أحد إِلَّا من هداه الله عز وَجل وَلَا يضل أحد إِلَّا أضلّهُ الله عز وَجل وَلَا يكون فِي الْعَالم إِلَّا مَا أَرَادَ الله عز وَجل كَونه من خيرا أَو شَرّ وَغير ذَلِك وَمَا لم يرد عز وَجل كَونه فَلَا يكون الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَنحن نجد الْحَيَوَان لَا يُسمى عدوان بَعْضهَا على بعض قبيحاً وَلَا ظلما وَلَا يلام على ذَلِك وَلَا يلام على من ربى شَيْئا مِنْهَا على الْعدوان عَلَيْهَا فَلَو كَانَ هَذَا النَّوْع قبيحاً لعَينه وظلماً لعَينه لقبح مَتى وجد فَلَمَّا لم يكن كَذَلِك صَحَّ أَنه لَا يقبح شَيْء لعَينه الْبَتَّةَ لَكِن إِذا قبحه الله عز وَجل فَقَط فَإذْ قد بَطل قَوْلهم بالبرهان الْكُلِّي الْجَامِع لأصلهم الْفَاسِد فلنقل بحول الله تَعَالَى وقوته إبِْطَال أَجزَاء مسائلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين فَأول ذَلِك أَن نسألهم فَنَقُول عرفونا(3/60)
مَا هَذَا الْقَبِيح فِي الْعقل أَعلَى الْإِطْلَاق فَقَالَ قَائِلُونَ من زعمائهم مِنْهُم الْحَارِث بن عَليّ الْوراق الْبَغْدَادِيّ وَعبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الكعبي الْبَلْخِي وَغَيرهمَا أَن كل شَيْء حسن بِوَجْه مَا قلت يمْتَنع وُقُوع مثله من الله تَعَالَى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون حسنا إِذْ لَيْسَ قبيحاً الْبَتَّةَ على كل حَال وَأما مَا كَانَ قبيحاً على كل حَال فَلَا يحسن الْبَتَّةَ فَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل أبدا قَالُوا وَمن الْقَبِيح على كل حَال أَن تفعل بغيرك مَا لَا تُرِيدُ أَن يفعل بك وتكليف مَا لَا يُطَاق ثمَّ التعذيب عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَظن هَؤُلَاءِ المبطلون إِذْ أَتَوا بِهَذِهِ الحماقة أَنهم أغربوا وقرطسوا وهم بِالْحَقِيقَةِ قد هذوا وهدروا وَهَذَا عين الخطاء وَإِنَّمَا قبح بعض هَذَا النَّوْع إِذْ قبحه الله عز وَجل وَحسن بعضه إِذْ حسنه الله عز وَجل وَالْعجب من مباهتتهم فِي دَعوَاهُم أَن الْمُحَابَاة فِيمَا بَيْننَا ظلم وَلَا نَدْرِي فِي أَي شَرِيعَة أم فِي أَي عقل وجدوا أَن الْمُحَابَاة ظلم وَأَن الله تَعَالَى قد أَبَاحَهَا إِلَّا حَيْثُ شَاءَ وَذَلِكَ أَن للرِّجَال أَن ينْكح امْرَأتَيْنِ وَثَلَاثًا وأربعاً من الزَّوْجَات وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح حسن وَأَن يطَأ من إمائه أَي عدد أحب وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح حسن وَلَا يحل للْمَرْأَة أَن تنْكح غير وَاحِد وَلَا يكون عَبدهَا وَهَذَا مِنْهُ حسن وبالضرورة نَدْرِي أَن فِي قلوبهن من الْغيرَة كَمَا فِي قُلُوبنَا وَهَذَا مَحْظُور فِي شَرِيعَة غَيرنَا والنفار مِنْهُ مَوْجُود فِي بعض الْحَيَوَان بالطبع وَالْحر الْمُسلم ملكه أَن يستعبد أَخَاهُ الْمُسلم وَلَعَلَّه عِنْد الله تَعَالَى خير من سَيّده فِي دينه وَفِي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه وَلَا يجوز أَن يستعبده هوأحد لَا عَبده ذَلِك وَلَا غَيره وَهَذَا مِنْهُ حسن وَقد أحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَفسِهِ المقدسة ماأكرمه الله تَعَالَى بِهِ من أَن لاينكح أحد من بعده من نِسَائِهِ أمهاتنا رضوَان الله عَلَيْهِنَّ وَأحب هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام نِكَاح من نكح من النِّسَاء بعد أَزوَاجهنَّ وكل ذَلِك حسن جميل صَوَاب وَلَو أحب ذَلِك غَيره كَانَ مُخطئ الْإِرَادَة قبيحاً ظَالِما وَمثل هَذَا أَن تتبع كثير جدا إِذْ هُوَ فَاش فِي الْعَالم وَفِي أَكثر الشَّرِيعَة فَبَطل هَذَا القَوْل الْفَاسِد مِنْهُم وَقد نَص الله تَعَالَى على إِبَاحَة مَا لَيْسَ عدلا عِنْد الْمُعْتَزلَة بل على الْإِطْلَاق وعَلى الْمُحَابَاة حَيْثُ شَاءَ وكل ذَلِك عدل مِنْهُ قَالَ عز وَجل {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} فأباح تَعَالَى لنا أَن لَا نعدل بَين مَا ملكت أَيْمَاننَا وأباح لنا مُحَابَاة من شِئْنَا مِنْهُنَّ فصح أَن لَا عدل إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عدلا فَقَط وَإِن كل شَيْء فعله الله فَهُوَ الْعدْل فَقَط لَا عدل سوى ذَلِك وَكَذَلِكَ وجدنَا الله تَعَالَى قد أعْطى الابْن الذّكر من الْمِيرَاث حظين وَإِن كَانَ غَنِيا مكتسباً وَأعْطى الْبِنْت حظاً وَاحِدًا وَإِن كَانَت صَغِيرَة فقيرة فَبَطل قَول الْمُعْتَزلَة وَصَحَّ أَن الله تَعَالَى يحابي من يَشَاء وَيمْنَع من يَشَاء وَإِن هَذَا هُوَ الْعدْل لَا مَا تظنه الْمُعْتَزلَة عدلا بجهلها وَضعف عقولها وَأما تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق والتعذيب عَلَيْهِ فَإِنَّمَا قبح ذَلِك فِيمَا بَيْننَا لِأَن الله تَعَالَى حرم ذَلِك علينا فَقَط وَقد علمت الْمُعْتَزلَة كَثْرَة عدد من يخالفهم فِي أَن هَذَا لَا يقبح من الله تَعَالَى الَّذِي لَا آمُر فَوْقه وَلَا يلْزمه حكم عقولنا وَمَا دَعوَاهُم على مخالفيهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنهم خالفوا قَضِيَّة الْعقل ببديهته إِلَّا كدعوى المجسم عَلَيْهِم أَنهم خالفوا قَضِيَّة الْعقل ببديهته إِذْ أَجَازُوا وجود الْفِعْل مِمَّا لَيْسَ جسماً وَإِذ أجَاز واحيا بِلَا حَيَاة وعالماً لَا بِعلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلتا الدعويين على الْعُقُول كَاذِبَة وَقد بَينا فِيمَا سلف من كتَابنَا هَذَا غلط من ادّعى فِي الْعقل مَا لَيْسَ فِيهِ وَبينا أَن الْعقل لَا يحكم بِهِ على الله الَّذِي خلق الْعقل ورتبه على ماهو(3/61)
بِهِ وَلَا مزِيد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة أَن من الْقَبِيح بِكُل حَال والمحظور فِي الْعقل بِكُل وَجه كفر نعْمَة الْمُنعم وعقوق الْأَب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْخَطَأ لِأَن الْعَاقِل الْمُمَيز بالأمور إِذا تدبرها علم يَقِينا أَنه لَا منعم على أحد إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الَّذِي أوجده من عدم ثمَّ جعل لَهُ الْحَواس والتمييز وسخر لَهُ مَا فِي الأَرْض وَكَثِيرًا مِمَّا فِي السَّمَاء وخوله المَال وَإِن كل منعم دون الله عز وَجل فَإِن كَانَ منعماً بِمَال فَإِنَّمَا أعْطى من مَال الله عز وَجل فالنعمة لله عز وَجل دونه وَإِن كَانَ ممرضاً أَو معتقاً أَو خَائفًا من مَكْرُوه فَإِنَّمَا صرف فِي ذَلِك كلما وهبه الله عز وَجل من الْكَلَام وَالْقُوَّة والحواس والأعضاء وَإِنَّمَا تصرف بِكُل ذَلِك فِي ملك الله عز وَجل وَفِيمَا هُوَ تَعَالَى أولى بِهِ مِنْهُ فالنعمة لله عز وَجل دونه فَالله تَعَالَى هُوَ ولي كل نعْمَة فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فَلَا منعم إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى منعماً وَلَا يجب شكر منعم إِلَّا بعد أَن يُوجب الله تَعَالَى شكره فَحِينَئِذٍ يجب وَإِلَّا فَلَا وَيكون حِينَئِذٍ من لم يشكره عَاصِيا فَاسِقًا أَتَى كَبِيرَة لخلاف أمرالله تَعَالَى بذلك فَقَط وَلَا فرق بَين تولدنا من مني أبوينا وَبَين تولدنا من التُّرَاب وَالْأَرْض وَلَا خلاف فِي أَنه لَا يلْزمنَا بر التُّرَاب وَلَا لَهُ علينا حق لَيْسَ ذَلِك إِلَّا لِأَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل لَهُ علينا حَقًا وَقد يرضع الصَّغِير شَاة فَلَا يجب لَهَا عَلَيْهِ حق لِأَن الله تَعَالَى لم يَجعله لَهَا وَجعله لِلْأَبَوَيْنِ وَإِن كَانَا كَافِرين مجنونين وَلم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عَنَّا بلذاتهما لَيْسَ هَهُنَا إِلَّا أَمر الله تَعَالَى فَقَط وبرهان آخر أَن امْرأ لَو زنى بِامْرَأَة عَالما بِتَحْرِيم ذَلِك أَو غير ذَلِك عَالم إِلَّا أَنه مِمَّن لَا يلْحق بِهِ الْوَلَد الْمَخْلُوق من نطفته النَّازِلَة من ذَلِك الْوَطْء فَإِن بره لَا يلْزم ذَلِك الْوَلَد أصلا وَيلْزمهُ بر أمه لَان الله تَعَالَى أمره بذلك لَهَا وَلم يَأْمُرهُ بذلك فِي الَّذِي تولد من نطفته فَقَط وَلَا فرق فِي الْعقل بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي ذَلِك وَلَا فرق فِي الْمَعْقُول وَفِي الْولادَة تولد الْجَنِين من نُطْفَة الْوَاطِئ لأمه بَين أَوْلَاد الزِّنَا وَأَوْلَاد الرشدة لَكِن لما ألزم الله تَعَالَى أَوْلَاد الرشدة المتولدين عَن عقد نِكَاح أَو ملك يَمِين فاسدين أَو صَحِيحَيْنِ برآماتهم وشكرهم وَجعل عقوقهم من الْكَبَائِر لزمنا ذَلِك وَلما لم يلْزم ذَلِك أَوْلَاد الزَّانِيَة لم يلْزمهُم وَقد علمنَا نَحن وهم يَقِينا أَن رجلَيْنِ مُسلمين لَو خرجا فِي سفر فَأَغَارَ أَحدهمَا على قَرْيَة من قرى دَار الْحَرْب فَقتل كل رجل بَالغ فِيهَا وَأخذ جَمِيع أَمْوَالهم وسبى ذَرَارِيهمْ ثمَّ خمس ذَلِك بِحكم الإِمَام الْعدْل وَوَقع فِي حَظه أَطْفَال قد تولى هُوَ قتل آبَائِهِم وسبى أمهاتهم ووقعن أَيْضا بِالْقِسْمَةِ الصَّحِيحَة فِي حِصَّته فنكحهن وَصرف أَوْلَادهنَّ فِي كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده وَلم يكلفهم من ذَلِك إِلَّا مَا يُطِيقُونَ وكساهم وَأنْفق عَلَيْهِم بِالْمَعْرُوفِ كَمَا أَمر الله تَعَالَى فَإِن حَقه وَاجِب عَلَيْهِم بِلَا خلاف وَلَو أعتقهم فَإِنَّهُ منعم عَلَيْهِم وشكره فرض عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ لَو فعل ذَلِك بِمن اشْتَرَاهُ وهومسلم بعد وأغار الثَّانِي على قَرْيَة للْمُسلمين فَأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فَقَط وَلم يقتل أحدا وَلَا سبى لَهُم حُرْمَة فربى الصّبيان أحسن تربية وَكَانُوا فِي قَرْيَة شقاء وَجهد وتعب وشظف عَيْش وَسُوء حَال فرفه مَعَايشهمْ وعلمهم الْعلم وَالْإِسْلَام وخولهم المَال ثمَّ أعتقهم فَلَا خلاف فِي أَنه لَا حق لَهُ عَلَيْهِم وَإِن ذمه وعداوته فرض عَلَيْهِم وَإنَّهُ لَو وطئ امْرَأَة مِنْهُنَّ وَهُوَ مُحصن وَكَانَ أحدهم قد ولي حكما للزمه شدخ رَأسه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوت أَفلا يتَبَيَّن لكل ذِي عقل من أهل الْإِسْلَام إِنَّه لَا محسن وَلَا منعم إِلَّا الله تَعَالَى وَحده لَا شريك لَهُ إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى محسناً أَو منعماً وَلَا شكر لَازِما لأحد على(3/62)
أحد إِلَّا من ألزمهُ الله تَعَالَى شكره وَلَا حق لأحد على أحد إِلَّا من جعل الله تَعَالَى لَهُ حَقًا فَيجب كل ذَلِك إِذْ أوجبه الله تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا وَقد أَجمعُوا مَعنا على أَن من أَفَاضَ إِحْسَان الدُّنْيَا على إِنْسَان أفاضه بِوَجْه حرمه الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يلْزمه شكره وَإِن من أحسن إِلَى آخر غَايَة الْإِحْسَان فشكره بِأَن اعانه فِي دُنْيَاهُ بِمَا لَا يجوز فِي الدّين فَإِنَّهُ مسيء إِلَيْهِ ظَالِم فصح يَقِينا أَنه لَا يجب شَيْء وَلَا يحسن شَيْء وَلَا يقبح شَيْء إِلَّا مَا أوجبه الله تَعَالَى فِي الدّين أَو حسنه الله فِي الدّين أَو قبحه الله فِي الدّين فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَقَالَ بَعضهم الْكَذِب قَبِيح على كل حَال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَقد أَجمعُوا مَعنا على بطلَان هَذَا القَوْل وعَلى تَحْسِين الْكَذِب فِي مَوَاضِع خَمْسَة إِذْ حسنه الله تَعَالَى وَذَلِكَ نَحْو إِنْسَان مُسلم مستتر من أَمَام ظَالِم يَظْلمه ويطلبه فَسَأَلَ ذَلِك الظَّالِم هَذَا الَّذِي استتر عِنْده الْمَطْلُوب وَسَأَلَ أَيْضا كل من عِنْده خَبره وَعَن مَاله فَلَا خلاف بَين أحد من الْمُسلمين فِي أَنه أَن صدقه ودله على مَوْضِعه وعَلى مَا لَهُ فَإِنَّهُ عَاص لله عز وَجل فَاسق ظَالِم فَاعل فعلا قبيحاً وَإنَّهُ لَو كذبه وَقَالَ لَهُ لَا أَدْرِي مَكَانَهُ وَلَا مَكَان مَاله فَإِنَّهُ مأجور محسن فَاعله فعلا حسنا وَكَذَلِكَ كذب الرجل لامْرَأَته فِيمَا يستجر بِهِ مودتها وَحسن صحبتهَا وَالْكذب فِي حَرْب الْمُشْركين فِيمَا يُوجد بِهِ السَّبِيل إِلَى إهلاكهم وتخليص الْمُسلمين مِنْهُم فصح أَنه إِنَّمَا قبح الْكَذِب حَيْثُ قبحه الله عز وَجل وَلَوْلَا ذَلِك مَا كَانَ قبيحاً بِالْعقلِ أصلا إِذْ مَا وَجب بضرورة الْعقل فمحال أَن يَسْتَحِيل فِي هَذَا الْعَالم الْبَتَّةَ عَمَّا رتبه الله عز وَجل فِي وجود الْعقل إِيَّاه كَذَلِك فصح كذبهمْ على الْعُقُول وَقَالَ بَعضهم الظُّلم قَبِيح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ ونسألهم مَا معنى الظُّلم فَلَا يَجدونَ إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه قتل النَّاس وَأخذ أَمْوَالهم وآذاهم وَقتل الْمَرْء نَفسه أَو التشويه بهَا أَو إِبَاحَة حرمه للنَّاس ينكحونهن وكل هَذَا فَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ قبيحاً لعَينه وَقد أَبَاحَ الله عز وَجل أَخذ أَمْوَال قوم بخراسان من أجل ابْن عمهم قتل بالأندلس رجلا خطأ لم يرد قَتله لَكِن رمى صيدا مُبَاحا لَهُ أَو رمى كَافِرًا فِي الْحَرْب فصادف الْمُسلم السهْم وَهُوَ خَارج من خلف جبل فَمَاتَ ووجدناه تَعَالَى قد أَبَاحَ دم من زنى وَهُوَ مُحصن وَلم يطَأ امْرَأَة قطّ إِلَّا زَوْجَة لَهُ عجوزاً شعرهَا سَوْدَاء وَطئهَا مرّة ثمَّ مَاتَت وَلَا يجد من أَن ينْكح وَلَا من أَن يتسرى وَهُوَ شَاب مُحْتَاج إِلَى النِّسَاء وَحرم دم شيخ زنى وَله ماية جَارِيَة كَالنُّجُومِ حسنا إِلَّا أَنه لم يكن لَهُ قطّ زَوْجَة وَأما قتل الْمَرْء نَفسه فقد حسن الله تَعَالَى تَعْرِيض الْمَرْء نَفسه للْقَتْل فِي سَبِيل الله عز وَجل وصدمة الجموع الَّتِي يُوقن أَنه مقتول فِي فعله ذَلِك وَقد أَمر عز وَجل من قبلنَا بقتل نَفسه قَالَ تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم فَتَابَ عَلَيْكُم} وَلَو أمرنَا عز وَجل بِمثل ذَلِك لَكَانَ حسنا كَمَا كَانَ حسنا أمره عز وَجل بذلك بني إِسْرَائِيل وَأما التشويه بِالنَّفسِ فَإِن الْخِتَان وَالْإِحْرَام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود لَوْلَا أَمر الله تَعَالَى بذلك وتحسينه إِيَّاه لَكَانَ لَا معنى لَهُ ولكان على أصولهم تشويهاً وَدَلِيل ذَلِك أَن أَمر أَمن النَّاس لَو قَامَ ثمَّ وضع رَأسه فِي الأَرْض فِي غير صَلَاة بِحَضْرَة النَّاس لَكَانَ عابثاً بِلَا شكّ مَقْطُوعًا عَلَيْهِ بالهوس وَكَذَلِكَ لَو تجرد الْمَرْء من ثِيَابه أَمَام الجموع فِي غير حج وَلَا عمْرَة وكشف رَأسه وَرمى بالحصى وَطَاف بِبَيْت مهر وَلَا مستديراً بِهِ لَكَانَ مَجْنُونا بِلَا شكّ لَا سِيمَا أَن امْتنع من قبل قملة وَمن فلى رَأسه وَمن قصّ أَظْفَاره وشاربه لَكِن لما أَمر الله عز وَجل بِمَا أَمر بِهِ من ذَلِك كَانَ فرضا وَاجِبا(3/63)
وحسناً وَكَانَ تَركه قبيحا وإنكاره كفرا وَأما إِبَاحَة الْمَرْء حرمه للنِّكَاح فَهَذَا أعجب مَا أَتَوا بِهِ أما علمُوا أَن الله تَعَالَى خلى بَين عَبده وإمائه يفجر بَعضهم بِبَعْض وَهُوَ قَادر على مَنعهم من ذَلِك فَلم بِفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذَلِك بِإِقْرَار الْمُعْتَزلَة فَهَذَا من الله حسن وَمن عباده قَبِيح لِأَن الله قبحه وَلَا مزِيد وَلَو حسنه تَعَالَى لحسن أما شاهدوا انكاح الرِّجَال بناتهممن رجال ثمَّ يُطلق الرجل مِنْهُم الْمَرْأَة فَمن آخر ثمَّ آخر وَهَكَذَا مَا أمكنهم وَكَذَلِكَ إِن مَاتَ عَنْهَا فَأَي فرق فِي الْعُقُول بَين إِبَاحَة وَطئهَا بِلَفْظ زَوجتك أَو أنكحتك وَبَين حظر وَطئهَا بِالْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ بِلَفْظَة قُم فطاها فَهَل هَا هُنَا قَبِيح إِلَّا مَا قبحه الله عز وَجل أَو حسن إِلَّا مَا حسن الله عز وَجل وَقَالَ بَعضهم الْكفْر قَبِيح على كل حَال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَمَا قبح الْكفْر إِلَّا لِأَن الله قبحه وَنهى عَنهُ وَلَوْلَا ذَلِك مَا قبح وَقد أَبَاحَ الله عز وَجل كلمة الْكفْر عِنْد التقية وأباح بهَا الدَّم فِي غير التقية وَلَو أَن امْرأ اعْتقد أَن الْخمر حرَام قبل أَن ينزل تَحْرِيمهَا لَكَانَ كَافِرًا أَو لَكَانَ ذَلِك مِنْهُ كفرا إِن كَانَ عَالما بِإِبَاحَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ صَار ذَلِك الْكفْر إِيمَانًا وَصَارَ الْآن من اعْتقد تحليلها كَافِرًا وَصَارَ اعْتِقَاد تحليلها كفر أفْصح أَن لَا كفر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل كفرا وَلَا إِيمَانًا إِلَّا مَا سَمَّاهُ إِيمَانًا وَأَن الْكفْر لَا يقبح إِلَّا بعد أَن قبحه الله عز وَجل وَلَا يحسن الْإِيمَان إِلَّا بعد ان حسنه الله عز وَجل فَبَطل كل مَا قَالُوهُ فِي الْجور وَالْكفْر وَالظُّلم وَصَحَّ أَنه لَا ظلم إِلَّا مَا نهى الله عَنهُ وَلَا جور إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِك وَلَا عدل إِلَّا مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ أَو إِبَاحَة أَي شَيْء كَانَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِذا هَذَا كَمَا ذكرنَا فقد صَحَّ أَنه لَا ظلم فِي شَيْء من فعل الْبَارِي تَعَالَى وَلَو أَنه تَعَالَى عذب من لم يقدره على مَا أَمر بِهِ من طَاعَته لما كَانَ ذَلِك ظلما إِذْ لم يسمه تَعَالَى ظلما وَكَذَلِكَ لَيْسَ ظلماٍ خلقه تَعَالَى للأفعال الَّتِي هِيَ من عباده عز وَجل كفر وظلم وجور لِأَنَّهُ لَا آمُر عَلَيْهِ تَعَالَى وَلَا ناهياً بل الْأَمر أمره وَالْملك ملكه وَقَالُوا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق ثمَّ التعذيب عَلَيْهِ قَبِيح فِي الْعُقُول جملَة لَا يحسن بِوَجْه من الْوُجُوه فِيمَا بَيْننَا فَلَا يحسن من الْبَارِي تَعَالَى أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد نسي هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَا لَا يجب أَن ينسى وَيُقَال لَهُم أَلَيْسَ قَول الْقَائِل فِيمَا بَيْننَا اعبدوني أسجدوا إِلَى قبحاً لَا يحسن بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا على حَال من الْأَحْوَال فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم أَو لَيْسَ هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى حسنا وَحقا فَلَا بُد من نعم فَإِن قَالُوا إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لأننا لَا نستحقه قيل لَهُم وَكَذَلِكَ إِنَّمَا قبح منا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق والتعذيب عَلَيْهِ لأننا لَا نستحق هَذِه الصّفة وَأي شَيْء أَتَوا بِهِ من الْفرق فَهُوَ رَاجع عَلَيْهِم فِي تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا فرق وَكَذَلِكَ الممتن بإحسانه الْجَبَّار المتكبر ذُو الْكِبْرِيَاء قَبِيح فِيمَا بَيْننَا على كل حَال وَهُوَ من الله تَعَالَى حسن وَحقّ وَقد سمى نَفسه الْجَبَّار النتكبر وَأخْبر أَن لَهُ كبرياء وَهُوَ تَعَالَى يمن بإحسانه فَإِن قَالُوا حسن ذَلِك مِنْهُ لِأَن الْكل خلقه قيل لَهُم وَكَذَلِكَ حسن مِنْهُ تَكْلِيف من لَا يَسْتَطِيع ثمَّ تعذيبه لِأَن الْكل خلقه وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْننَا من عذب حَيَوَانا بالتف وَالضَّرْب ثمَّ أحسن علفه ورفهه فَهُوَ قَبِيح على كل وَجه وفاعله عابث وهم يَقُولُونَ أَن الْبَارِي تَعَالَى أَبَاحَ ذَلِك فِي الْحَيَوَان من أكلهَا وذبحها ثمَّ يعوضها على ذَلِك وَهَذَا مِنْهُ عز وَجل حسن أَلا أَن يلجؤا إِلَى أَنه تَعَالَى لَا يقدر على تعويض الْحَيَوَان إِلَّا بعد إيلامها وتعذيبها فَهَذَا أقبح قَول وأبينه كذبا وأوضحه نخبة وأتمة كفر أَو ذمه للباري تَعَالَى وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فَإِن قَالُوا إِن إيلام الْحَيَوَان قد يحسن فِيمَا(3/64)
بَيْننَا مثل أَن يسْقِي الْإِنْسَان من يحب مَاء الْأَدْوِيَة الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إِلَى مَنَافِع لَوْلَا هَذَا الْمَكْرُوه لم يكن ليصل إِلَيْهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه لم ينفكوا بِهِ مِمَّا سَأَلَهُمْ عَنهُ أَصْحَابنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَنحن لم نسألهم عَمَّن لَا يقدر على نَفعه إِلَّا بعد الْأَذَى الَّذِي هُوَ أقل من النَّفْع الَّذِي يصل إِلَيْهِ بعد ذَلِك الْأَذَى إِنَّمَا سألناهم عَمَّن يقدر على نَفعه دون أَن يبتديه بالأذى ثمَّ لَا يَنْفَعهُ إِلَّا حَتَّى يُؤْذِيه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ تَكْلِيف من يدْرِي الْمَرْء أَنه لَا يطيقه وَأَنه إِذا لم يطقه عذبه قَبِيح فِيمَا بَيْننَا فَقَالَ قَائِل مِنْهُم إِن هَذَا قد يحسن فِيمَا بَيْننَا وَذَلِكَ أَن يكون الْمَرْء يُرِيد أَن يُقرر عِنْد صديقه مَعْصِيّة عَبده لَهُ فيأمره وَهُوَ يدْرِي أَنه لَا يطيعه فَإِن نَهْيه لَهُ حسن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالْأولِ وَلَا فرق وَلم نسألهم عَمَّن لم يقدر على تَعْرِيف صديقه مَعْصِيّة غُلَامه لَهُ إِلَّا بتكليفه أَمَامه مَا لَا يطيعه فِيهِ وَلَا عَمَّن لَا يقدر على منع العَاصِي لَهُ بِأَكْثَرَ من النَّهْي وَإِنَّمَا نسألهم عَمَّن لَا مَنْفَعَة لَهُ فِي أَن يعلم زيدا مَعْصِيّة غُلَامه لَهُ وَعَمن يقدر على أَن يعرف زيدا بذلك ويقرره عِنْده بِغَيْر أَن يَأْمر من لَا يطيعه وَعَمن يقدر على مَنعه من الْمعْصِيَة فَلَا يفعل ذَلِك أَلا أَن يعْجزُوا رَبهم كَمَا ذكرنَا فَهَذَا مَعَ أَنه كفر فَهُوَ أَيْضا كذب ظَاهر لِأَنَّهُ تَعَالَى قد أخبر عَن أهل النَّار أَنهم لَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ فتقرر هَذَا عندنَا تقرراً لَو رَأينَا ذَلِك عيَانًا مَا زادنا علما بِصِحَّتِهِ وَكَذَلِكَ قد شاهدنا قوما آخَرين أَرَادوا ضروباً من الْمعاصِي فحال الله تَعَالَى بَينهم وَبَينهَا بضروب من ألحوايل وَأطلق آخَرين وَلم يحل بَينهم وَبَينهَا بل قوي الدَّوَاعِي لَهَا وَرفع الْمَوَانِع عَنْهَا جملَة حَتَّى ارتكبوها فلاح كذب الْمُعْتَزلَة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تَعَالَى وَشدَّة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وَقُوَّة جهلهم وتناقضهم نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ بعد هَذَا كُله فَأَي مَنْفَعَة لنا فِي تعريفنا أَن فِرْعَوْن يَعْصِي وَلَا يُؤمن وَمَا الَّذِي ضرّ الْأَطْفَال إِذا مَاتُوا قبل أَن يعرفوا من أطَاع وَمن عصى ونسألهم أَيْضا عَمَّن أعْطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذَلِك يصلح للْجِهَاد ولقطع الطَّرِيق والتلصص وَهُوَ يدْرِي أَنه لَا يسْتَعْمل شَيْئا من ذَلِك فِي الْجِهَاد إِلَّا فِي قطع الطَّرِيق والتلصص وَعَمن مكن آخر من خمر وَامْرَأَة عاهرة وبغاء وأخلى لَهُ منزلا مَعَ كل ذَلِك أَلَيْسَ عابثاً ظَالِما بِلَا خلاف فَلَا بُد من نعم وَنحن وهم نعلم أَن الله عز وَجل وهب لجَمِيع النَّاس القوى الَّتِي بهَا عصوا وَهُوَ يدْرِي أَنهم يعصونه بهَا وَخلق الْخمر وبثها بَين أَيْديهم وَلم يحل بَينهم وَبَينهَا وَلَيْسَ ظَالِما وَلَا عابثاً فَإِن عجزوه تَعَالَى إِلَى عَن الْمَنْع من ذَلِك بلغو العاية من الْكفْر فَإِن عجز نَفسه منا عَن منع الْخمر من شاربها وَهُوَ يقدر على ذَلِك لفي غَايَة الضعْف والمهانة أَو مُرِيد لكَون ذَلِك كَمَا شَاءَ لَا معقب لحكمه وَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فانقطعوا عِنْد هَذِه وَلم يكن لَهُم جَوَاب إِلَّا أَن بَعضهم قَالَ إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عَن التعويض وَلِأَن ذَلِك مَحْظُور وَهَذَا مَحْظُور علينا وَلَو أَن امْرأ لَهُ منا عبيد وَقد صَحَّ عِنْده بأخبار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم لَا يُؤمنُونَ أبدا فَإِن كسوتهم وإطعامهم مُبَاح لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عَلَيْهِم لَا لَهُم وَإِقْرَار مِنْهُم بِأَنَّهُ إِنَّمَا قبح ذَلِك منا لِأَنَّهُ محرم علينا وَكَذَلِكَ كسْوَة العبيد الَّذين يُوقن أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَإِنَّمَا حسن ذَلِك لأننا مأمورون بِالْإِحْسَانِ إِلَى العبيد وَإِن كَانُوا كفَّارًا وَلَو فعلنَا ذَلِك بِأَهْل دَار الْحَرْب لَكنا عصاة لأننا نهينَا عَن ذَلِك لَيْسَ هَا هُنَا شَيْء يقبح وَلَا يحسن إِلَّا مَا أَمر الله تَعَالَى فَقَط وَأما قَوْلهم أَن ذَلِك قبح منا لجهلنا بالمصالح(3/65)
فليقنعوا بهذافمن أجابهم بِهَذَا بِعَيْنِه فِي الْفرق بَين حسن تَكْلِيف الله تَعَالَى مَا لَا يُطَاق وتعذيبه عَلَيْهِ مِنْهُ وقبح ذَلِك منا وَإنَّهُ إِنَّمَا قبح منا لجهلنا بالمصالح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فكلا الجوابين عندنَا فَاسد وَلَا مصلحَة فِيمَا أدّى إِلَى النَّار وَالْخُلُود فِيهَا بِلَا نِهَايَة وَلَكنَّا نقُول قبح منا مَا نَهَانَا الله عَنهُ وَحسن منا ماأمرنا بِهِ وكل مَا فعله رَبنَا تَعَالَى الَّذِي لَا آمُر فَوْقه فَهُوَ عدل وَحسن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وسألهم أَصْحَابنَا فَقَالُوا إِن الْمَعْهُود بَيْننَا أَن الْحَكِيم لَا يفعل إِلَّا لاجتلاب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة وَمن فعل لغير ذَلِك فَهُوَ سَفِيه والباري تَعَالَى يفعل لغير اجتلاب مَنْفَعَة وَلَا لدفع مضرَّة وَهُوَ حَكِيم فَقَالَت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة أَن الْبَارِي تَعَالَى يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع إِلَى عباده وَدفع المضار عَنْهُم وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم لم يكن الْحَكِيم فِيمَا بَيْننَا حكيماً لِأَنَّهُ يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع وَدفع المضار لِأَنَّهُ قد يفعل ذَلِك كل ملتذ وكل متشف وَإِن لم يكن حكيما وَإِنَّمَا سمي الْحَكِيم حكيما لإحكامه عمله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْحَيَوَان مَا يحكم عمله مثل الخطاف وَالْعَنْكَبُوت والنحل ودود القز وَلَا يُسمى بِشَيْء من ذَلِك حكيما وَلَكِن إِنَّمَا سمي الْحَكِيم حكيما على الْحَقِيقَة لالتزامه الْفَضَائِل واجتنابه الرزائل فَهَذَا هُوَ الْعقل وَالْحكمَة الْمُسَمّى فَاعله حكيماً عَاقِلا وَهَكَذَا هُوَ فِي الشَّرِيعَة لِأَن جَمِيع الْفَضَائِل إِنَّمَا هِيَ طاعات الله عز وَجل والرذائل إِنَّمَا هِيَ مَعَاصيه فَلَا حَكِيم إلامن أطَاع لله عز وَجل واجتنب مَعَاصيه وَعمل مَا أمره ربه عز وَجل وَلَيْسَ من أجل هَذَا يُسمى الْبَارِي حكيماً إِنَّمَا سمي حكيماً لِأَنَّهُ سمى نَفسه حكيماً فَقَط وَلَو لم يسم نَفسه حكيماً مَا سميناه حكيماً كَمَا لم نسمه عَاقِلا إِذْ لم يسم بذلك ثمَّ نقُول لَهُم وَأما قَوْلكُم إِنَّمَا سمي الله حكيماً لفعله الْحِكْمَة فَأنْتم مقرون أَنه أعْطى الْكفَّار قُوَّة الْكفْر وَلَا يُسمى مَعَ ذَلِك مقوياً على الْكفْر وَأما من قَالَ مِنْهُم أَنه تَعَالَى يفعل لاجتلاب الْمَنَافِع إِلَى عباده وَدفع المضار عَنْهُم فَكَلَام فَاسد إِذا قيل على عُمُومه لِأَن كل مستضر يَفْعَله فِي دُنْيَاهُ وأخراه لم يصرف الله تَعَالَى عَنهُ تِلْكَ الْمضرَّة وَقد كَانَ قَادِرًا على صرفهَا عَنهُ إِلَّا أَن يعجزوه عَن ذَلِك فيكفروا وسألهم أَصْحَابنَا فَقَالُوا إِذا كَانَ الله عز وَجل لَا يفعل إِلَّا مَا هُوَ عدل بَيْننَا فَلم حلق من يدْرِي أَنه يكفر بِهِ وَأَنه سيخلده بَين أطباق النيرَان أبدا فَأَجَابُوا عَن هَذَا بأجوبة فَمن أظرفها أَن كثيرا مِنْهُم قَالُوا لَو لم يخلق من يكفر بِهِ ويخلده فِي نَار جَهَنَّم لما اسْتحق الْعَذَاب أحد وَلَا دخل النَّار أحدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وتكفي من الدّلَالَة على ضعف عقل هَذَا الْجَاهِل هَذَا الْجَواب ونقول لَهُ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي وَهل الْخَيْر كُله على مَا بَيْننَا إِلَّا أَن لَا يعذب أحد بالنَّار وَهل الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وَالْعدْل الَّذِي لَا عدل عندنَا سواهُ إِلَّا نجاة النَّاس كلهم من الْأَذَى واجتماعهم فِي النَّعيم الدَّائِم وَلَكِن الْمُعْتَزلَة قوم لَا يعْقلُونَ وَأجَاب بَعضهم فِي هَذَا بِأَن قَالَ لَو كَانَ هَذَا السّلم الْجَمِيع من اللوم ولكان لَا شَيْء أوضع وَلَا أخس من الْعقل لِأَن الَّذِي لَا عقل لَهُ سَالم من الْعَذَاب واللوم والأمم كلهَا مجمعة على فضل الْعقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَو عرف هَذَا الْجَاهِل معنى الْعقل لم يجب بهذاا لسخف لِأَن الْعقل على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْمَال الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي وَمَا عدا هَذَا فَلَيْسَ عقلا بل هُوَ سخيف وحمق قَالَ الله عز وَجل حِكَايَة عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} ثمَّ صدقهم الله عز وَجل فِي هَذَا فَقَالَ {فَاعْتَرفُوا بذنبهم فسحقاً لأَصْحَاب السعير} فَصدق الله من عَصَاهُ أَنه لَا يعقل ثمَّ نقُول لَهُم نعم لَا منزلَة أخس وَلَا أوضع وَلَا أسقط من منزلَة وموهبة أدَّت إِلَى الخلود(3/66)
فِي النيرَان عقلا كَانَت أَو غير عقل قَوْلكُم فِي الْعقل لَو كَانَ كَون الْإِنْسَان حشرة أَو دودة أَو كَلْبا كَانَ أحظى لَهُ وَأسلم وَأفضل عَاجلا وآجلاً وَأحب إِلَى كل ذِي عقل صَحِيح وتمييز غير مَدْخُول وَإِذا كَانَ عِنْد هَؤُلَاءِ الْقَوْم الْعقل الْمَوْهُوب وبالأعلى صَاحبه وسبباً إِلَى تَكْلِيفه أموراً لم يَأْتِ بهَا فَاسْتحقَّ النَّار فَلَا شكّ عِنْد كل ذِي حس سليم فِي أَن عَدمه خير من وجوده فَإِن قَالُوا أَن التَّكْلِيف لم يُوجب عَلَيْهِ دُخُول النَّار قُلْنَا نعم وَلكنه كَانَ سَببا إِلَى ذَلِك وَلَوْلَا التَّكْلِيف لم يدْخل النَّار أصلا وَقد شهد الله عز وَجل بِصِحَّة هَذَا القَوْل شَهَادَة وَلَا تخفى على مُسلم وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوماً جهولا} فَحَمدَ الله تَعَالَى أباءة الْجَمَاعَات من قبُول التَّمْيِيز الَّذِي بِهِ وَقع التَّكْلِيف وَتحمل أَمَانَة الشَّرَائِع وذم عز وَجل اخْتِيَار الْإِنْسَان لتحملها وَسمي ذَلِك مِنْهُ ظلما وجهلاً وجوراً وَهَذَا مَعْرُوف فِي بنية الْعقل وَالتَّمَيُّز أَن السَّلامَة الْمَضْمُونَة لَا يعدل بهَا التَّغْرِير الْمُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك أَو إِلَى النَّعيم وَقَالَ بَعضهم خلق الله عز وَجل من يكفر وَمن يعلم أَنه يخلد فِي النَّار ليعظ بذلك الْمَلَائِكَة وحو رالعين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خبط لَا عهد لنا بِمثلِهِ وَهَذَا غَايَة السخف والعبث وَالظُّلم فَأَما الْعَبَث فَإِن فِي الْعُقُول منا أَن من عذب وَاحِدًا ليعظ بِهِ آخر فغاية الْعَبَث والسخف وَأما الْجور فَأَي جور أعظم فِيمَا بَيْننَا من أَن يخلق قوما قد علم أَنه يعذبهم ليعظ بهم آخَرين من خلقه مخلدين فِي النَّعيم فَهَلا عذب الْمَلَائِكَة وحور الْعين ليعظ بهم الْجِنّ وَالْإِنْس وَهل هَذَا على أصولهم إِلَّا غَايَة الْمُحَابَاة وَالظُّلم والعبث تَعَالَى الله عَن ذَلِك يفعل مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وسألهم أَصْحَابنَا عَن إيلام الله عز وَجل الصغار وَالْحَيَوَان وإباحته تَعَالَى ذَبحهَا فوجموا عِنْد هَذِه وَقَالَ بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى يعوضهم على ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْعَبَث فِيمَا بَيْننَا وَلَا شَيْء أتم فِي الْعَبَث وَالظُّلم مِمَّن يعذب صَغِيرا ليحسن بعد ذَلِك إِلَيْهِ فَقَالُوا أَن تعويضه بعد الْعَذَاب بالجدري والأمراض أتم وألذ من تنعيمه دون تَعْذِيب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا عَلَيْهِم جوابان أَحدهمَا أَن يَقُول لَهُم أَكَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يُوفي الْأَطْفَال وَالْحَيَوَان ذَلِك النَّعيم دون إيلام أَو كَانَ غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا كَانَ غير قَادر جمعُوا مَعَ الْكفْر الْجُنُون لَان ضَرُورَة الْعقل يعلم بهَا انه إِذا قدر على أَن يعطيهم مِقْدَارًا مَا من النَّعيم بعد الإيلام فَلَا شكّ فِي أَنه قَادر على ذَلِك الْمِقْدَار نَفسه دون إيلام يتقدمه لَيْسَ فِي الْعقل غير هَذَا أصلا إِذْ لَيْسَ هَا هُنَا منزلَة زَائِدَة فِي الْقُدْرَة وَلَا فعلان مُخْتَلِفَانِ وَإِنَّمَا هُوَ عَطاء وَاحِد فِي كلا الْوَجْهَيْنِ وَإِن قَالُوا أَنه قَادر على ذَلِك فقد وَجب الْعَبَث على أصولهم إِذْ كَانَ قَادِرًا على أَن يعطيهم دون إيلام مَا لم يعطهم إِلَّا بعد غَايَة الإيلام وَالْجَوَاب الثَّانِي أَن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم فِي خير دون إيلام وَهَذِه مُحَابَاة وظلم للمؤلم مِنْهُم فَقَالُوا إِن المؤلم لم يَزْدَدْ فِي نعيمه لأجل إيلامه فَقُلْنَا لَهُم فَهَذِهِ مُحَابَاة بِزِيَادَة النَّعيم للمؤلم فَهَلا آلم الْجَمِيع ليسوى بَينهم فِي النَّعيم أَو هلا يُسَوِّي بَينهم فِي النَّعيم بِأَن لَا يؤلم مِنْهُم أحدا وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ الْبَتَّةَ وَقَالَ بَعضهم فعل ذَلِك ليعظ بهم غَيرهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْجور بَيْننَا وَلَا عَبث أعظم من أَن يعذب إنْسَانا لَا ذَنْب لَهُ ليوعظ بذلك آخَرُونَ مذنبون وَغير مذنبين وَالله تَعَالَى قد أنكر هَذَا بقوله تَعَالَى(3/67)
وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى}
فقد انْتَفَى عَن الله عز وَجل هَذَا الظُّلم حَقًا وَلَقَد كَانَ على أصولهم الْفَاسِدَة تعذيبه الطغاة وإيلامه الْبُغَاة ليعظ بذلك غَيرهم أَدخل فِي الْعدْل وَالْحكمَة من أَن يؤلم طفْلا أَو حَيَوَانا لَا ذَنْب لَهما ليعظ بذلك آخَرين بل لَعَلَّ هَذَا الْوَجْه قد صَار سَبِيلا إِلَى كفر كثير من النَّاس وَأجَاب بَعضهم فِي ذَلِك بِأَن قَالَ إِنَّمَا فعل ذَلِك عز وَجل بالأطفال ليؤجر آبَاءَهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَالَّذي قبله فِي الْجور سَوَاء بِسَوَاء إِن يُؤْذى من لَا ذَنْب لَهُ ليأجر بذلك مذنباً أَو غير مذنب حاشا لله من هَذَا إِلَّا أَن فِي هَذَا مزية من التَّنَاقُض لِأَن هَذَا التَّعْلِيل ينْقض عَلَيْهِم فِي أَوْلَاد الْكفَّار وَأَوْلَاد الزِّنَا مِمَّن قد مَاتَت أمه وَفِي الْيَتَامَى من آبَائِهِم وأمهاتهم وَرب طِفْل قد قتل الْكفَّار أَو الْفُسَّاق أَبَاهُ وَأمه وَترك هُوَ بدار مضيعة حَتَّى مَاتَ هزلا أَو أَكلته السبَاع فليت شعري من وعظ بِهَذَا أَو من أوجز بِهِ مَعَ أَن هَذَا مِمَّا لم يجدوه يحسن بَيْننَا الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه يَعْنِي أَن نؤذي إِنْسَان لَا نب لَهُ لينْتَفع بذلك آخَرُونَ وهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى فعل هَذَا فَكَانَ حسنا وَحِكْمَة ولجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ إِن الله عز وَجل فِي هَذَا سرا من الْحِكْمَة وَالْعدْل يُوقن بِهِ وَإِن كُنَّا لَا نعلم لما هُوَ وَلَا كَيفَ هُوَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ قد بلغُوا هَا هُنَا فقد قرب أَمرهم بعون الله تَعَالَى وَهُوَ أَنه يلْزمهُم تَصْدِيق من يَقُول لَهُم وَللَّه تَعَالَى فِي تَكْلِيف من لَا يَسْتَطِيع ثمَّ تعذيبه عَلَيْهِ سر من الْحِكْمَة يُوقن بِهِ وَلَا نعلمهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَلَا نقُول بِهَذَا بل نقُول إِنَّه لَا سر هَاهُنَا أصلا بل كل ذَلِك كَمَا هُوَ عدل من الله عز وَجل لَا من غَيره وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ولجأت طَائِفَتَانِ مِنْهُم إِلَى أَمريْن أَحدهمَا قَول بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن يزِيد فَإِنَّهُ قَالَ أَن الْأَطْفَال لَا يألمون أَلْبَتَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا نَدْرِي لَعَلَّه يَقُول مثل ذَلِك فِي الْحَيَوَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا انْقِطَاع سمج ولجاج فِي الْبَاطِل قَبِيح وَدفع للعيان والحس وكل أحد منا قد كَانَ صَغِيرا ويوقن أننا كُنَّا نألم الْأَلَم الشَّديد الَّذِي لَا طَاقَة لنا بِالصبرِ عَلَيْهِ وَالثَّانيَِة أَحْمد بن حابظ الْبَصْرِيّ وَالْفضل الْحَرْبِيّ وَكِلَاهُمَا من تلاميذ النظام فَإِنَّهُمَا قَالَا أَن أَرْوَاح الْأَطْفَال وأرواح الْحَيَوَان كَانَت فِي أجساد قوم عصاة فعوقبت بِأَن ركبت فِي أجساد الْأَطْفَال وَالْحَيَوَان لتؤلم عُقُوبَة لَهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن هرب عَن الإذعان للحق أَو عَن الْإِقْرَار بالانقطاع إِلَى الْكفْر وَالْخُرُوج عَن الْإِسْلَام فقد بلغ إِلَى حَالَة مَا كُنَّا نُرِيد ان يبلغهَا لَكِن إِذا آثر الْكفْر فَإلَى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ من يَتَّقِي مُخَالفَة الْإِسْلَام فَأَما أهل الْكفْر فقد تمّ وَالله الْحَمد إبطالنا لقَولهم وَقد أبطلنا قَول أَصْحَاب التناسخ فِي صدر كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد لله فأغنى عَن إِعَادَته وَإِذا بلغ خصمنا إِلَى مُكَابَرَة الْحس أَو إِلَى مُفَارقَة الْإِسْلَام فقد انْقَطع وَظهر بَاطِل قَوْله وَللَّه تَعَالَى الْحَمد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن لجؤا إِلَى قَول معمر والجاحظ وَقَالُوا أَن آلام الْأَطْفَال هِيَ فعل الطبيعة لَا فعل الله تَعَالَى لم يتخلصوا بذلك من الِانْقِطَاع بل نقُول لَهُم هَل الله عز وَجل قَادر على مُعَارضَة(3/68)
هَذِه الطبيعة الْمُقطعَة لحم هَذَا الصَّبِي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية لَهُ ووجع الْحَصَاة واحتباس الْبَوْل أَو الْغَائِط أَو انطلاق الْبَطن حَتَّى يَمُوت والعدو القاسي الْقلب يرحمه ويتقطع لَهُ لعَظيم مَا يرى بِهِ من التضرر والأوجاع بِقُوَّة من عِنْده تَعَالَى يفرج بهَا عَن هَذَا الطِّفْل الْمِسْكِين المعذب أم هُوَ تَعَالَى غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا هُوَ غير قَادر على ذَلِك فَمَا فِي الْعَالم أعجز مِمَّن تغلبه طبيعة هُوَ خلقهَا وطبعها ووضعها فِيمَن هِيَ فِيهِ وَرُبمَا غلها طَبِيب ضَعِيف من خلقه بعقار ضَعِيف من خلقه فَهَل فِي الْجُنُون وَالْكفْر أَكثر من هَذَا القَوْل أَن يكون هُوَ خلق الطبيعة ووضعها فِيمَن هِيَ فِيهِ ثمَّ لَا يقدر على كف عَملهَا الَّذِي هُوَ وَضعه فِيهَا وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على صرف الطبيعة وكفها وَلم يفعل دخل فِي نفس مَا أنكر وَأقر على ربه على أَصله الْفَاسِد بالظلم والعبث وبالضرورة نَدْرِي أَن من رأى طفْلا فِي نَار أَو مَاء وَهُوَ قَادر على استنقاذة بِلَا مُؤنَة وَلم يفعل فَهُوَ عابث ظَالِم وَلَكِن الله تَعَالَى يفعل ذَلِك وَهُوَ الحكم الْعدْل فِي حكمه لَا العابث وَلَا الظَّالِم وَهَذَا هُوَ الَّذِي أعظموا من أَن يكون قَادر على هدي الْكفَّار وَلَا يفعل ولجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ لَو عَاشَ هَذَا الطِّفْل لَكَانَ طاغياً قُلْنَا لَهُم لم نسئلكم بعد عَمَّن مَاتَ طفْلا إِنَّمَا سألناكم عَن إيلامه قبل بُلُوغه ثمَّ نجيبهم عَن قَوْلهم فِيمَن مَاتَ من الْأَطْفَال أَنه لَو عَاشَ لَكَانَ طاغياً فَنَقُول لَهُم هَذَا أَشد فِي الظُّلم أَن يعذبه على مَا لم يفعل بعد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد وجدنَا الله عز وَجل قد حرم ذبح بعض الْحَيَوَان وَأكله وأباح ذبح بعضه وَأوجب ذبح بعضه إِذا نذر النَّاذِر بذَبْحه قرباناً فَنَقُول للمعتزلة اخبرونا مَا كَانَ ذَنْب الَّذِي أُبِيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنَّار وَأكله وَمَا كَانَ ذَنْب الَّذِي حرم كل ذَلِك فِيهِ حَتَّى حرم الْعِوَض الَّذِي تَدعُونَهُ وَمَا كَانَ بخت الَّذِي حرم إيلامه ووجدناه عز وَجل قد أَبَاحَ ذبح صغَار الْحَيَوَان مَعَ مَا يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كَالْإِبِلِ وَالْبَقر فَأَي فرق بَين ذبحنا لمصالحنا أَو لتعوض هِيَ وَبَين مَا حرم من ذبح أطفالنا وصغار أَوْلَاد أَعْدَائِنَا لمصالحنا أَو ليعوضوا فَإِن طردوا دَعوَاهُم فِي الْمصلحَة لرَبهم أَن كل من لَهُ مصلحَة فِي قتل غَيره كَانَ لَهُ قَتله فَإِن قَالُوا لَا يجوز ذَلِك الاحيث أَبَاحَهُ الله عز وَجل تركُوا قَوْلهم ووفقوا للحق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى قد حرم قتل قوم مُشْرِكين يجْعَلُونَ لَهُ الصاحبة وَالْولد ويهود ومجوس إِذا أعطونا دِينَارا أَو أَرْبَعَة دَنَانِير فِي الْعَام وهم يكفرون بِاللَّه تَعَالَى وأباح قتل مُسلم فَاضل قد تَابَ وَأصْلح لزنا سلف مِنْهُ وَهُوَ مُحصن وَلم يبح لنا اسْتِبْقَاء مُشْركي الْعَرَب من عباد الْأَوْثَان إِلَّا بِأَن يسلمُوا وَلَا بُد فَأَي فرق بَين هَؤُلَاءِ الْكفَّار وَبَين الْكفَّار الَّذين افْترض علينا إبقاؤهم لذهب نَأْخُذهُ مِنْهُم فِي الْعَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا لنا هَل فِي أَفعَال الله تَعَالَى عَبث وضلال وَنقص ومذموم فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِمَّا أَن يكون فِي أَفعاله تَعَالَى عَبث يُوصف بِهِ أَو عيب مُضَاف إِلَيْهِ أَو ضلال يُوصف بِهِ أَو نقص ينْسب إِلَيْهِ أَو جور مِنْهُ أَو ظلم مِنْهُ أَو مَذْمُوم مِنْهُ فَلَا يكون ذَلِك أصلا بل كل أَفعاله عدل وَحِكْمَة وَخير وصواب وَكلهَا حسن مِنْهُ تَعَالَى ومحمود مِنْهُ وَلَكِن فِيهَا عيب على من ظهر مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل وعبث مِنْهُ وضلال مِنْهُ وظلم مِنْهُ ومذموم مِنْهُ ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم هَل فِي أَفعاله تَعَالَى سخف وجنون وحمق وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وَسَوَاد الْوَجْه فَإِن قَالُوا لَا أكذبهم الله عز وَجل بقوله تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها}(3/69)
وَمَوْت الْأَنْبِيَاء وَفرْعَوْن وإبليس وكل ذَلِك مَخْلُوق وَإِن قَالُوا أَن الله تَعَالَى خَالق كل ذَلِك وَلَكِن لَا يُضَاف شئ مِنْهُ إِلَى الله عز وَجل على الْوَجْه المذموم وَلَكِن على الْوَجْه الْمَحْمُود قُلْنَا هَذَا قَوْلنَا فِيمَا سألتمونا عَنهُ وَلَا فرق فَإِن قَالُوا أَتَرْضَوْنَ بِأَفْعَال الله عز وَجل وقضائه قُلْنَا نعم بِمَعْنى أننا مُسلمُونَ لفعله وقضائه وَمن الرضى بِفِعْلِهِ وقضائه أَن نكره مَا كره إِلَيْنَا قَالَ تَعَالَى {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان} ثمَّ نسألهم عَن هَذَا بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم أَتَرْضَوْنَ بِفعل الله تَعَالَى وقضائه فَإِن قَالُوا نعم لَزِمَهُم الرضى بقتل من قتل من الْأَنْبِيَاء وَالْخُمُور والأنصاب والأزلام وبإبليس ويلزمهم أَن يرضى مِنْهُم بالخلود فِي النَّار من خلد فِيهَا وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَسَأَلَ بعض أَصْحَابنَا بعض العتزلة فَقَالَ إِذا كَانَ عنْدكُمْ إِنَّمَا خلق الله تَعَالَى الْكفَّار وَهُوَ يعلم انهم لَا يُؤمنُونَ وَأَنه سيعذبهم بَين أطباق النيرَان أبدا ليعط بهم الْمَلَائِكَة وحور الْعين فقد كَانَ يَكْفِي من ذَلِك خلق وَاحِد مِنْهُم فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَزلَة ان الْمُؤمنِينَ الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة وَالْمَلَائِكَة وحور الْعين وَجَمِيع من لاعذاب عَلَيْهِ وَمن الْأَطْفَال أَكثر من الْكفَّار بِكَثِير جدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم يخرج بِهَذَا الْمَوْت مِمَّا ألزمهُ السَّائِل لِأَن الموعظة كَانَت تتمّ بِخلق وَاحِد هَذَا لَو كَانَ يخلق من يعذب ليوعظ بِهِ آخر وَجه فِي الْحِكْمَة بَيْننَا وَأَيْضًا فلولا ذكره الْمَلَائِكَة لَكَانَ كَاذِبًا فِي ظَنّه إِن عدد الداخلين فِي الْجنَّة من النَّاس أَكثر من الداخلين النَّار لِأَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لِأَن الله عز وَجل يَقُول {فَأبى أَكثر النَّاس إِلَّا كفورا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله} وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم} فليت شعري فِي أَي حِكْمَة وجدوا فِيمَا بَينهم أَو بَيْننَا أَو فِي أَي عدل خلق من يكون أَكْثَرهم مخلدين فِي جَهَنَّم على أصُول هَؤُلَاءِ الْجُهَّال وَأما نَحن فَإِنَّهُ لَو عذب أهل السَّمَوَات كلهم وَجَمِيع من عمر الأَرْض لَكَانَ عدلا مِنْهُ وَحقا مِنْهُ وَحِكْمَة مِنْهُ وَلَو لم يخلق النَّار وَأدْخل كل من خلق الْجنَّة لَكَانَ حَقًا مِنْهُ وعدلاً وَحِكْمَة مِنْهُ لَا عدل وَلَا حِكْمَة وَلَا حق إِلَّا مَا فعل وَمَا أَمر بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ولجأ قوم مِنْهُم إِلَى أَن قَالُوا إِن الله تَعَالَى لم يعلم من يكفر وَمن يُؤمن وأقروا أَنه لَو علم من يَمُوت كَافِرًا لَكَانَ خلقه لَهُ جوراً وظلماً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَؤُلَاء أَيْضا مَعَ عَظِيم مَا أَتَوا بِهِ من الْكفْر فِي تجهيل رَبهم تَعَالَى فَلم يتخلصوا مِمَّا ألزمهم أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْحِكْمَة خلق من لَا يدْرِي أيموت كَافِر أفيعذبه أم لَا وَهَذَا هُوَ التَّغْرِير بِمن خلق وتعريضهم للهلكة على جَهله وَهَذَا لَيْسَ من الْحِكْمَة وَلَا من الْعدْل فِيمَا بَيْننَا لمن يُمكنهُ أَن لَا يغرر وَقد كَانَ الْبَارِي تَعَالَى قَادِرًا على أَن لَا يخلق كَمَا قد كَانَ لم يزل لَا يخلق ثمَّ خلق إِلَّا أَن يلجأ إِلَى أَنه تَعَالَى لَا يقدر على أَن لَا يخلق فيجعلوه مُضْطَرّا ذَا طبيعة غالبة وَهَذَا كفر مُجَرّد مَحْض ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا قَرَأت الْمُعْتَزلَة أَن أَطْفَال بني آدم كلهم أَوْلَاد الْمُشْركين وَأَوْلَاد الْمُسلمين فِي الْجنَّة دون عَذَاب وَلَا تَقْرِير تَكْلِيف فقد نسوا قَوْلهم الْفَاسِد أَن الْعقل أفضل من عَدمه بل مَا نرى السَّلامَة على قَوْلهم وضمانها والحصول على النَّعيم الدَّائِم فِي الْآخِرَة بِلَا تَقْرِير إِلَّا فِي عدم الْعقل فَكيف فارقوا هَذَا الِاسْتِدْلَال وَأما نَحن فَنَقُول(3/70)
إِن من أسعده الله تَعَالَى من الْمَلَائِكَة فَلم يعرضهم لشئ من الْفِتَن أَعلَى حَالا من كل خلق غَيرهم ثمَّ بعدهمْ الَّذين عصم الله تَعَالَى من النَّبِيين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وأمنهم من الْمعاصِي ثمَّ من سبقت لَهُم من الله تَعَالَى الْحسنى من مؤمني الْجِنّ وَالْإِنْس الَّذين لَا يدْخلُونَ النَّار والحور الْعين اللَّاتِي خُلِقْنَ لأهل الْجنَّة على أَن لهَؤُلَاء الْمَذْكُورين حاشا الْحور الْعين حَالَة من الْخَوْف طول بقائهم فِي الدُّنْيَا يَوْم الْحَشْر فِي هول المطلع وشنعة ذَلِك الْموقف الَّذِي لَا يقي بِهِ شئ إِلَّا السَّلامَة مِنْهُ وَلَا يهنأ مَعَه عَيْش حَتَّى يخلص مِنْهُ وَقد تمنى كثير من الصَّالِحين الْعُقَلَاء الْفُضَلَاء أَن لَو كَانُوا نسياً منسياً فِي الدُّنْيَا وَلَا يعرضُوا لما عرضوا لَهُ على أَنهم قد آمنُوا بِالضَّمَانِ التَّام الَّذِي لَا ينجس وَلَقَد أَصَابُوا فِي ذَلِك إِذْ السَّلامَة لَا يعد لَهَا شئ الا عِنْد الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن الثَّوَاب وَالنَّعِيم بعد الضَّرْب بالسياط والضغط بأنواع الْعَذَاب والتعريض لكل بلية أطيب وألذ وَأفضل من النَّعيم السَّالِم من أَن يتقدمه بلَاء ثمَّ الْأَطْفَال الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة دون تَكْلِيف وَلَا عَذَاب وَمن بلغ وَلَا تَمْيِيز لَهُ ثمَّ منزلَة من دخل النَّار ثمَّ أخرج مِنْهَا بعد أَن دخل فِيهَا على مَا فيهامن الْبلَاء نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَأما من يخلد فِي النَّار فَكل ذِي حس سليم توقن نَفسه يَقِين ضَرُورَة أَن الْكَلْب والدود والقرد وَجَمِيع الحشرات أحسن حَالا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مِنْهُ وَأَعْلَى مرتبَة وَأتم سَعْدا وَأفضل صفة وَأكْرم عناية من عِنْد البارى تَعَالَى وَيَكْفِي من هَذَا أَخْبَار الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} فنص تَعَالَى على أَن حَال الجمادية أحسن مِنْهُ حَالَة فاعجبوا للمعتزلة الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى أعْطى من يتَمَنَّى يَوْم الْقِيَامَة أَن يكون تُرَابا أفضل عَطِيَّة عِنْده وَلم يتْرك فِي قدرته أصلح مِمَّا عمل بِهِ وَأَن خلقه لَهُ كَانَ خيرا لَهُ من أَن لَا يخلقه وَنحن نَعُوذ بِاللَّه لأنفسنا من أَن يعْمل بِنَا مَا عمل بهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عجائبهم قَوْلهم أَن الله تَعَالَى لم يخلق شَيْئا لَا يعْتَبر بِهِ أحد من الْمُكَلّفين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول لَهُم مَا دليلكم على هَذَا وَقد علمنَا بضرورة الْحس أَن لله تَعَالَى فِي قعور الْبحار وأعماق الأَرْض أَشْيَاء كَثِيرَة لم يرهَا إِنْسَان قطّ فَلم يبْق إِلَّا أَن يَدْعُو عوض الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ فِي عمق الْجبَال وقعور البحور فَهَذِهِ دَعْوَى مفتقرة إِلَى دَلِيل وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلَة قَالَ عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَأَيْضًا فمما تبطل بِهِ دَعْوَى هَؤُلَاءِ الْقَائِلين بِغَيْر علم على الله أَن الله تَعَالَى إِذا خلق زيدا لَهُ من الطول كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ لَو خلقه على أقل من ذَلِك الطول بإصبع لَكَانَ الِاعْتِبَار بخلقه سَوَاء كَمَا هُوَ الْآن وَلَا مزِيد وَهَكَذَا كل مِقْدَار من الْمَقَادِير فَإِن ادعوا أَن الزِّيَادَة فِي الْعدَد زِيَادَة فِي الْعبْرَة لَزِمَهُم أَن يلزموا رَبهم تَعَالَى أَن يزِيد فِي مِقْدَار طول كل مَا خلق لِأَنَّهُ كَانَ زِيَادَة فِي الِاعْتِبَار وَإِلَّا فقد قصر وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ سهم لَا يُحْصِيه إِلَّا الَّذِي خلقهمْ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم مقرون أَن الْعُقُول معطاة من عِنْد الله عز وَجل فنسألهم أفاضل بَين عباده فِيمَا أَعْطَاهُم من الْعُقُول أم لَا فَإِن قَالُوا الأكابر والحس ولزمهم مَعَ ذَلِك أَن عقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتميزه وعقل عِيسَى وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَأَيوب وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتميزهم وعقل مَرْيَم بنت عمرَان وتمييزها بل تَمْيِيز جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَسَائِر الْمَلَائِكَة ثمَّ تَمْيِيز أبي بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وعقولهم وتمييز أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَبَنَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/71)
ورضوان الله على جَمِيع من ذكرنَا وعقولهن ثمَّ تميز سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وعقولهم لَيْسَ شئ من ذَلِك أفضل من الْعقل والتمييز المعطيين لهَذَا المخنث اللغاء الرقان ولهذه الزَّانِيَة الخليقة المتبرجة السحاقة وَلِهَذَا الشَّيْخ الَّذِي يلْعَب مَعَ الصّبيان بالكعاب فِي الخابات ويعجفهم إِذا قدر وَمن بلغ هَذَا الْمبلغ وساوى بَين من أعْطى الله عز وَجل كل من ذكرنَا من الْعقل والتمييز فقد كفى خَصمه مُؤْنَته وَإِن قَالُوا بل الله تَعَالَى فَاضل بَين عباده فِيمَا أَعْطَاهُم من الْعقل والتمييز قيل لَهُم صَدقْتُمْ وَهَذَا هُوَ المحباة والجور على أصولكم وَلَا مُحَابَاة على الْحَقِيقَة أَكثر من هَذَا وَهِي عندنَا حق وَعدل مِنْهُ تَعَالَى لَا يسْأَل عَمَّا يفعل ولعمري أَن فيهم لعجبا إِذْ يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى لم يُعْط أحدا من خلقه إِلَّا مَا أعْطى سَائِرهمْ فَهَلا إِن كَانُوا صَادِقين سَاوَى جَمِيعهم إِبْرَاهِيم النظام وَأَبا لهذيل العلاف وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجبائي فِي دقة نظرهم وقوتهم على الْجِدَال إِذْ كلهم فِيمَا منحهم الله عز وَجل من ذَلِك سَوَاء فَإذْ لَا شكّ فِي عجزهم عَن بُلُوغ ذَلِك فَلَا شكّ فِي أَن كل أحد لَا يقدر أَن يزِيد فِيمَا منحه الله تَعَالَى بِهِ وَلَيْسَ يُمكنهُم أصلا أَن يدعواها هُنَا أَنهم كلهم قادرن على ذكاء الدّهن وحدة النّظر وَقُوَّة الفطنة وجودة الْحِفْظ والبتة لدقيق الْحجَّة وَإِن لم يظْهر وكما ادعوا ذَلِك فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَصحت الْمُحَابَاة من الله تَعَالَى يَقِينا عيَانًا لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قروا أَن الْعُقُول والذكاء وَقبُول الْعلم ذكاء الخاطر ودقة الْفَهم غير موهوبة من الله تَعَالَى عز وَجل قُلْنَا لَهُم فَمن خلقهَا فَإِن قَالُوا هِيَ فعل الطبيعة قُلْنَا لَهُم وَمن خلق الطبيعة الَّتِي فعلت الْعُقُول وكل ذَلِك بذلتها متفاضلة فَمن قَوْلهم أَن الله تَعَالَى خلقهَا فَيُقَال لَهُم فَهُوَ مُوجب الْمُحَابَاة إِذْ رتب الطبيعة رُتْبَة الْمُحَابَاة وَلَا بُد وَإِن قَالُوا لم تخلق الطبيعة وَلَا الْعُقُول لَحِقُوا بالدهرية وصاروا إِلَى مَا لم يرد لَهُم الْمصير إِلَيْهِ وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبالضرورة نَدْرِي أَن من كَانَ تميزه أتم كَانَ اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وَهَذَا هُوَ الْمُحَابَاة الَّتِي أنكروها وسموها ظلما وجوراً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمهما أمكنهم من الدفاع والقحة فِي شَيْء فَإِنَّهُ لَا يُمكنهُم اعْتِرَاض أصلا فِي أَن فضل الله تَعَالَى على الْمَسِيح ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وعَلى يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ جعل عِيسَى نَبيا ناطقاً عَاقِلا فِي المهد رَسُولا حِين سُقُوطه من بطن أمه وَإِذ أَتَى يحيالحكم صَبيا أتم وأعلا وَأكْثر من فَضله على من ولد فِي أقاصي بِلَاد الْخَزّ والزنج حَيْثُ لم يستمع قطّ ذكر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مُتبعا أقبح الذّكر من التَّكْذِيب وانه كَانَ متخيلاً وَأكْثر من فَضله بِلَا شكّ على فِرْعَوْن إِذْ دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ {رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالاً فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم قَالَ قد أجيبت دعوتكما}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن من ضل بعد هَذَا لضال وَإِن من قَالَ أَن فضل الله عز وَجل وعطاءه لمُوسَى وَعِيسَى وَيحيى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعصمته لَهُم كفضله وعطائه على فِرْعَوْن وملئه وعصمته لَهُم الَّذين نَص عز وَجل على أَنه شدّ على قُلُوبهم شداً مَنعهم الْإِيمَان حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم فَلَا يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم حِينَئِذٍ لضعيف الْعقل قَلِيل الْعلم مهلهل الْيَقِين وَلَا أبين من هَذِه الْآيَة فِي تَفْضِيل الله عز وَجل بعض خلقه على بعض خلقه واختصاص بَعضهم بِالْهدى وَالرَّحْمَة دون بعض ومحاباته من شَاءَ مِنْهُم واضلالهم من ضل مِنْهُم وَأَيْضًا فَإِنَّهُم لَا(3/72)
يَسْتَطِيعُونَ ان الله عز وَجل فضل بني آدم على كثير مِمَّن خلق قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} وَهُوَ الْمُحَابَاة بِعَينهَا الَّتِي هِيَ عِنْد الْمُعْتَزلَة جور وظلم فَيُقَال لَهُم على أصلكم الْفَاسِد هلا رزق الله الْعقل سَائِر الْحَيَوَان فيعرضهم بذلك للمراتب السّنيَّة الَّتِي عرض لَهَا بني آدم وهلا سَاوَى بَين الْحَيَوَان وبيننا فِي أَن لَا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فَهَل هَذَا إِلَّا مُحَابَاة مُجَرّدَة وَفعل لما يَشَاء لَا معقب لحكمه لَا يسْأَل عَمَّا يفعل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكر بَعضهم أَن الله تَعَالَى قبح فِي عقول بني آدم أكل مَا يعطيهم وَأكل أَمْوَال غَيرهم وَلم يقبح ذَلِك فِي عقول الْحَيَوَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأقر هَذَا الْجَاهِل لِأَن الله تَعَالَى هُوَ المقبح والمحسن فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح الله وَلَا محسن إِلَّا مَا حسن وَهَذَا قَوْلنَا وَلم يقبح الله تَعَالَى قطّ خلقه لما خلق وَإِنَّمَا قبح منا كَون ذَلِك الَّذِي خلق من الْمعاصِي فِينَا فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَإِن الْأَمر لَا بَين من ذَلِك ألم تروا أَن الله خلق الْحَيَوَان فَجعل بعضه أفضل من بعض بِلَا عمل أصلا ففضل نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر النوق نعم وعَلى نُوق الْأَنْبِيَاء الَّذين هم أفضل من صَالح وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يَقُولُوا أَنه تَعَالَى إِنَّمَا فَضلهَا تَفْضِيلًا لصالح عَلَيْهِ السَّلَام وَجعل تَعَالَى الْكَلْب مَضْرُوبا بِهِ الْمثل فِي الخساسة والرزالة وَجعل القردة والخنازير معذبا بعض من عَصَاهُ بتصويره فِي صورتهَا فلولا أَن صورتهَا عَذَاب ونكال مَا جعل الْقلب فِي صورتهَا أَشد مَا يكون من عَذَاب الدُّنْيَا ونكالها وَجعل بعض الْحَيَوَان متقرباً إِلَى الله عز وَجل بذَبْحه وَبَعضه محرما ذبحه وَبَعضه مَأْوَاه الرياض وَالْأَشْجَار وَالْخضر وَبَعضه مَأْوَاه الحشوش والرداع والدبر وَبَعضه قَوِيا وَبَعضه ضَعِيفا مُنْتَفعا بِهِ فِي الأودية وَبَعضه سما قَاتلا وَبَعضه قَوِيا على الْخَلَاص مِمَّن أَرَادَ بطير انه وعدوه أَو قوته وَبَعضه مهينا لَا مخلص عِنْده وَبَعضه خيلاً فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر يُجَاهد عَلَيْهَا الْعَدو وَبَعضه سباعاً ضارية مسلطة فِي سَائِر الْحَيَوَان ذاعرة لَهَا قاتلة لَهَا آكِلَة لَهَا وَجعل سَائِر الْحَيَوَان لَا ينقصر مِنْهَا وَبَعضهَا حَيَاة عَادِية مهلكة وَبَعضه مَأْكُولا على كل حَال فَأَي ذَنْب كَانَ لبعضه حَتَّى سلط عَلَيْهِ غَيره فَأَكله وَقَتله وأبيح ذبحه وَقَتله وَإِن لم يُؤْكَل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وَسَائِر الْهَوَام وَنهى عَن قتل النَّحْل وَعَن قتل الصَّيْد فِي الْحَرَمَيْنِ والأحرام وأباحه فِي غير الْحَرَمَيْنِ والأحرام فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى يعوض مَا أَبَاحَ ذبحه وَقَتله مِنْهَا قيل لَهُ فَهَلا أَبَاحَ ذَلِك فِيمَا حرم قَتله ليعوضه أَيْضا وَهَذِه مُحَابَاة لَا شكّ فِيهَا مَعَ أَنه فِي الْمَعْهُود من الْمَعْقُول عين الْعَبَث إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى لَا يقدر على نعيمها إِلَّا بِتَقْدِيم الْأَذَى فَإِنَّهُم لَا ينفكون بِهَذَا من الْمُحَابَاة لَهَا على من لم يبح ذَلِك فِيهَا من سَائِر الْحَيَوَان مَعَ أَنه تعجيز لله عز وَجل وَيُقَال لَهُم مالذي عَجزه عَن ذَلِك وأقدره على تنعيم من تقدم لَهُ الْأَذَى فِي الدُّنْيَا أطبيعة فِيهِ جَارِيَة على بنيتها أم فَوْقه وَأهب لَهُ تِلْكَ الْقُدْرَة وَلَا بُد من أحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ كِلَاهُمَا كفر مُجَرّد وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم يبطل بتنعيم الله عز وَجل الْأَطْفَال الَّذين ولدُوا أَحيَاء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لَهُم وَلَا تَعْذِيب فَهَلا فعل بِجَمِيعِ الْحَيَوَان كَذَلِك على أصولكم(3/73)
وَأَيْضًا فقد كَانَ عز وَجل قَادِرًا على ان يَجْعَل غذاءنا فِي غير الْحَيَوَان لَكِن فِي النَّبَات وَالثِّمَار كعيش كثير من النَّاس فِي الدُّنْيَا لَا يَأْكُلُون لَحْمًا فَمَا ضرهم ذَلِك فِي عيشهم شَيْئا فَهَل هَاهُنَا إِلَّا ان الله تَعَالَى لَا يجوز الحكم على أَفعاله بِمَا يحكم بِهِ على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وَهُوَ تَعَالَى آمرنا لَا مَأْمُور وَلَا مَنْهِيّ فَكل مَا فعل فَهُوَ عدل وَحِكْمَة وَحقّ وكل مَا فَعَلْنَاهُ فَإِنَّهُ وَافق أمره عز وَجل كَانَ عدلا وَحقا وَإِن خَالف أمره عز وَجل كَانَ جوراً وظلماً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْحَيَوَان فَإِن قَوْلنَا فِيهِ هُوَ نَص مَا قَالَه الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول عز وَجل {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ عز وَجل {وَإِذا الوحوش حشرت} فَنحْن موقنون أَن الوحوش كلهَا وَجَمِيع الدَّوَابّ وَالطير تحْشر كلهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا شَاءَ الله تَعَالَى وَلما شَاءَ عز وَجل وَأما نَحن فَلَا نَدْرِي لماذا وَالله أعلم بِكُل شَيْء وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يقْتَصّ يَوْمئِذٍ للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فَنحْن نقر بِهَذَا وَبِأَنَّهُ يقْتَصّ يَوْمئِذٍ للشاة الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء وَلَا نَدْرِي مَا يفعل الله بهما بعد ذَلِك إِلَّا أَنا نَدْرِي يَقِينا أَنَّهَا لَا تعذب بالنَّار لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وبيقين نَدْرِي أَن هَذِه الصّفة لَيست إِلَّا فِي الْجِنّ وَالْإِنْس خَاصَّة وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا الله تَعَالَى وَقد أيقنا ان سَائِر الْحَيَوَان الَّذِي فِي هَذَا الْعَالم مَا عدا الْمَلَائِكَة والحور وَالْإِنْس وَالْجِنّ فَإِنَّهُ غير متعبد بِشَرِيعَتِهِ وَأما الْجنَّة فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة وَالْحَيَوَان حاشى من ذكرنَا لَا يَقع عَلَيْهِم اسْم مُسلمين لِأَن الْمُسلم هُوَ المتعبد بِالْإِسْلَامِ وَالْحَيَوَان الْمَذْكُور غير متعبد بشرع فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن أَطْفَال الْمُسلمين وَأَطْفَال الْمُشْركين كلهم فِي الْجنَّة فَهَل يَقع على هَؤُلَاءِ اسْم مُسلمين فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقُول نعم كلهم مُسلمُونَ بلاشك لقَوْل الله تَعَالَى {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَقَوله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله} وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَرُوِيَ على الْملَّة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ أَو يشركانه وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله عز وَجل إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء كلهم فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين عَن دينهم فصح لَهُم كلهم اسْم الْإِسْلَام وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد نَص عَلَيْهِ السَّلَام على أَنه رأى كل من مَاتَ طفْلا من أَوْلَاد الْمُشْركين وَغَيرهم فِي رَوْضَة مَعَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما المجانين وَمن مَاتَ فِي الفترة وَلم تبلغه دَعْوَة نَبِي وَمن إدركه الاسلام وَقد هرم أَو أَصمّ لَا يسمع فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تبْعَث لَهُم يَوْم الْقِيَامَة نَار موقدة ويؤمرون بِدُخُولِهَا فَمن دَخلهَا كَانَت عَلَيْهِ برد أَو دخل الْجنَّة أَو كلا مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَنحْن نؤمن بِهَذَا ونقر بِهِ وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ بلغ الْكَلَام هَا هُنَا فلنصله إِن شَاءَ الله تَعَالَى راغبين فِي الْأجر من الله عز وَجل على بَيَان الْحق فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن الله تَعَالَى قد نَص كَمَا ذكرنَا أَنه آخذ من بني آدم من ظُهُورهمْ ذرياتهم وَهَذَا نَص جلي على أَنه عز وَجل خلق أَنْفُسنَا كلهَا من عهد آدم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الأجساد حِينَئِذٍ بِلَا شكّ كَانَت تُرَابا وَمَاء وَأَيْضًا فَإِن الْمُكَلف الْمُخَاطب إِنَّمَا هُوَ النَّفس لَا الْجَسَد فصح يَقِينا أَن نفوس كل من يكون من بني آدم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَانَت مَوْجُودَة مخلوقة حِين خلق آدم بِلَا شكّ وَلم(3/74)
يقل الله عز وَجل أَنه أفنانا بعد ذَلِك وَنَصّ تَعَالَى على أَنه خلق الأَرْض وَالْمَاء حِينَئِذٍ بقوله تَعَالَى {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} وَقَوله تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} وَأخْبر عز وَجل إِنَّه خلقنَا من طين والطين هُوَ التُّرَاب وَإِنَّمَا خلق تَعَالَى من ذَلِك أجسامنا فصح أَن عنصر أجسامنا مَخْلُوق مُنْذُ أول خلقه تَعَالَى السَّمَوَات وَأَن أَرْوَاحنَا وَهِي أَنْفُسنَا مخلوقة مُنْذُ أَخذ الله تَعَالَى عَلَيْهَا الْعَهْد وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} وَثمّ توجب فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن التعقيب بمهلة ثمَّ يصور الله تَعَالَى من الطين أجسامنا من اللَّحْم وَالدَّم وَالْعِظَام بِأَن يحِيل أَعْرَاض التُّرَاب وَالْمَاء وصفاتهما فَتَصِير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بهَا فتستحيل فِينَا لَحْمًا وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فَقَط وَكَذَلِكَ تعود أجسامنا بعد الْمَوْت تُرَابا وَلَا بُد وتصعد رطوباتها المائية وَأما جمع الله تَعَالَى الْأَنْفس إِلَى الأجساد فَهِيَ الْحَيَاة الأولى بعد افتراقها الَّذِي هُوَ الْمَوْت الأول فَتبقى كَذَلِك فِي عَالم الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ عَالم الِابْتِلَاء مَا شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ ينقلنا بِالْمَوْتِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِرَاق الْأَنْفس للأجساد ثَانِيَة إِلَى البرزخ الَّذِي تقيم فِيهِ الْأَنْفس إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وتعود أجسامنا تُرَابا كَمَا قُلْنَا ثمَّ يجمع الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة بَين أنفسناوأجسادنا الَّتِي كَانَت بعد أَن يُعِيدهَا وينشرها من الْقُبُور وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي اسْتَقَرَّتْ أجزاؤها فِيهَا لَا يعلمهَا غَيره وَلَا يحصيها سواهُ عز وَجل لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَذِهِ الْحَيَاة الثَّانِيَة الَّتِي لَا تبيد أبدا ويخلد الْإِنْس وَالْجِنّ مؤمنهم فِي الْجنَّة بِلَا نِهَايَة وكافرهم فِي النَّار بِلَا نِهَايَة وَأما الْمَلَائِكَة وحور الْعين فكلهم فِي الْجنَّة خلقُوا من النُّور وفيهَا يبقون أبدا بِلَا نِهَايَة وَلم ينقلوا عَنْهَا قطولا ينقلون هَذَا كُله نَص قَول الله عز وَجل إِذْ يَقُول {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} وَإِذ يَقُول الله تَعَالَى مُصدقا لِلْقَائِلين {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} فَلَا يشذ عَن هَذَا أحد إِلَّا من أبانه الله تَعَالَى بمعجزة ظَهرت فِيهِ كمن أَحْيَاهُ الله عز وَجل آيَة لنَبِيّ كالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام وكالذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم فَهَؤُلَاءِ وَالَّذِي أَمَاتَهُ الله مائَة عَام ثمَّ أَحْيَاهُ كلهم مَاتُوا ثَلَاث موتات وحيوا ثَلَاث مَرَّات وَأما من ظن أَن الصعقة الَّتِي تكون يَوْم الْقِيَامَة موت فقد أَخطَأ بعض الْقُرْآن الَّذِي ذكرنَا لِأَنَّهَا كَانَت تكون حِينَئِذٍ لكل أحد ثَلَاث موتات وَثَلَاث إحياآت وَهَذَا كذب وباطل وَخلاف لِلْقُرْآنِ وَقد بَين عز وَجل هَذَا نصا فَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَفَزعَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله} فَبين تَعَالَى أَن تِلْكَ الصعقة إِنَّمَا هِيَ فزع لَا موت وَبَين ذَلِك بقوله تَعَالَى فِي سُورَة الزمر {وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا وَوضع الْكتاب وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} الْآيَة فَبين تَعَالَى أَن تِلْكَ الصعقة مُسْتَثْنى مِنْهَا من شَاءَ الله عز وَجل وَفسّر بهَا الْآيَة الَّتِي ذكرنَا قبل وبينت أَنَّهَا فزعة لَا موتَة وَكَذَلِكَ فَسرهَا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَنَّهُ أول من يقوم فَيرى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما فَلَا يدْرِي أَكَانَ مِمَّن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطّور فسماها إفاقة وَلَو كَانَت موتَة مَا سَمَّاهَا إفاقة بل إحْيَاء فَكَذَلِك كَانَت صعقة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَوْم الطّور فزعة لَا موتا قَالَ تَعَالَى {وخر مُوسَى صعقاً فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك}(3/75)
هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا ذكرنَا أَن الدّور سبع وَهِي عالمون كل عَالم مِنْهَا قَائِم بِذَاتِهِ فأولها دَار الِابْتِدَاء وعالمه وَهُوَ الَّذِي خلق عز وَجل فِيهِ الْأَنْفس جملَة وَاحِدَة وَأخذ عَلَيْهَا الْعَهْد هَكَذَا نَص تَعَالَى على أَنَّهَا الْأَنْفس بقوله عز وَجل {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم} وَهِي دَار وَاحِدَة لأَنهم كلهم فِيهَا مُسلمُونَ وَهِي دَار طَوِيلَة على آخر النُّفُوس جدا إِلَّا على أول المخلوقين فَهِيَ قَصِيرَة عَلَيْهِم جدا وَثَانِيها وَهِي دَار الِابْتِلَاء وعالمه وَهِي الَّتِي نَحن فِيهَا وَهِي الَّتِي يُرْسل الله تَعَالَى النُّفُوس إِلَيْهَا من عَالم الِابْتِدَاء فتقيم فِيهِ فِي أجسادها متعبدة مَا أَقَامَت حَتَّى تُفَارِقهُ جيلاً بعد جيل حَتَّى تستوفي جَمِيع الْأَنْفس المخلوقة بسكناها الْمُوفق لَهَا فِيهِ ثمَّ ينقضى هَذَا الْعلم وَهِي دَار قَصِيرَة جدا على كل نفس فِي ذَاتهَا لِأَن مُدَّة عمر الْإِنْسَان فِيهَا قَلِيل وَلَو عمر ألف عَام فَكيف بأعمار جُمْهُور النَّاس الَّتِي هِيَ من سَاعَة إِلَى حُدُود الْمِائَة عَام ثمَّ داران اثْنَتَانِ للبرزخ وهما اللَّتَان ترجع إِلَيْهِمَا النُّفُوس عِنْد خُرُوجهَا من هَذَا الْعَالم وفراقها أجسادها وهما عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا نَص على ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر أَنه رأى لَيْلَة أسر بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام آدم فِي سَمَّاهُ الدُّنْيَا وَعَن يَمِينه أسوده وَعَن يسَاره أسوده فَسَأَلَ عَنْهَا فَأخْبر أَنَّهَا نسم بنيه وَأَن الَّذين عَن يَمِينه أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَالَّذين عَن يسَاره أَرْوَاح أهل الشَّقَاء وَقد نَص الله تَعَالَى على هَذَا أَيْضا فَقَالَ تَعَالَى {وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة عَلَيْهِم نَار مؤصدة}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَكَذَا نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء بِلَا شكّ فَمن الْبَاطِل أَن يفوز الشُّهَدَاء بِفضل يحرمه الْأَنْبِيَاء وهم المقربون الَّذين ذكر الله تَعَالَى أَنهم فِي الْجنَّة إِذْ يَقُول تَعَالَى {فَأَما إِن كَانَ من المقربين فَروح وَرَيْحَان وجنة نعيم} فهاتان داران قائمان لم يدْخل أهلهما بعد لَا جنَّة وَلَا نَارا بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة وَقَالَ تَعَالَى {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدواً وعشياً وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الْكفَّار أَنهم يَقُولُونَ يَوْم الْبَعْث {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} فصح أَنهم لم يعذبوا فِي النَّار بعد وَهَكَذَا جَاءَت الْأَخْبَار كلهَا بِأَن الْجَمِيع يَوْم الْقِيَامَة يصيرون إِلَى الْجنَّة وَإِلَى النَّار لَا قبل ذَلِك حاشى الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء فَقَط وَلَا يُنكر خُرُوجهمْ من الْجنَّة لحضور الْحساب فقد دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجنَّة ثمَّ خرج عَنْهَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى} وهما داران طويلتان على أول النُّفُوس جدا حاشى آخر المخلوقين فَهِيَ قَصِيرَة عَلَيْهِم جدا وَإِنَّمَا استقصرها الْكفَّار كَمَا قَالَ عز وَجل فِي الْقُرْآن لأَنهم انتقلوا عَنْهَا إِلَى عَذَاب النَّار نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا فاستقلوا تِلْكَ الْمدَّة وَإِن كَانَت طَوِيلَة حَتَّى ظَنّهَا بَعضهم لشدَّة مَا صَارُوا إِلَيْهِ يَوْمًا أَو بعض(3/76)
يَوْم وَقَالَ بَعضهم إِن لبثتم إِلَّا عشرا ثمَّ الدَّار الْخَامِسَة هِيَ عَالم الْبَعْث وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ عَالم الْحساب ومقداره خَمْسُونَ ألف سنة قَالَ تَعَالَى {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلاً أَنهم يرونه بَعيدا ونراه قَرِيبا يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ وَتَكون الْجبَال كالعهن وَلَا يسْأَل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لَو يفتدي من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه} فصح أَنه يَوْم الْقِيَامَة وَبِهَذَا أَيْضا جَاءَت الْأَخْبَار الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْأَيَّام الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا أَن الْيَوْم مِنْهَا ألف سنة فَهِيَ آخر قَالَ تَعَالَى {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} فَهِيَ أَيَّام أخر بِنَصّ الْقُرْآن وَلَا يحل إِحَالَة نَص عَن ظَاهره بِغَيْر نَص آخر أَو إِجْمَاع بِيَقِين أَو ضَرُورَة حس ثمَّ الدَّار السَّادِسَة وَالسَّابِعَة داران للجزاء وهما الْجنَّة وَالنَّار وهما داران لَا آخر لَهما وَلَا فنَاء لَهما وَلَا لمن فيهمَا نَعُوذ بِاللَّه من سخطه الْمُوجب للنار ونسأله الرضى مِنْهُ الْمُوجب للجنة وَمَا تَوْفِيقًا إِلَّا بِاللَّه الرَّحِيم الْكَرِيم وَأما من قَالَ أَن قَوْله تَعَالَى فِي يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ مِقْدَار خمسين ألف سنة لَو تولى ذَلِك الْحساب غَيره فَهُوَ مكذب لرَبه تَعَالَى مُخَالف لِلْقُرْآنِ وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طول ذَلِك الْيَوْم وبضرورة الْعقل نَدْرِي أَنه لَو كلف جَمِيع أهل الأَرْض محاسبة أهل حصروا وَاحِد فِيمَا أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذَلِك مَا قَامُوا بِهِ فِي ألف ألف عَام فَبَطل هَذَا القَوْل الْكَاذِب بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذ قد بَينا بطلَان قَول الْمُعْتَزلَة فِي تحكمهم على رَبهم وإيجابهم عَلَيْهِ مَا أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إِيَّاه بِأَنْفسِهِم فِيمَا يحسن مِنْهُم ويقبح وتجويزهم إِيَّاه فِيمَا فعل وَقضى وَقدر فلنبين بحول الله وقوته أَنهم المجورون لَهُ على الْحَقِيقَة لَا نَحن ثمَّ نذْكر مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ مُصدقا لقولنا ومكذباً لقَولهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد أَن من الْمحَال الْبَين أَن يَقُول الْمُعْتَزلَة أننا نجور الله تَعَالَى وَنحن نقُول أَنه لَا يجور الْبَتَّةَ وَلَا جَار قطّ وَإِن كل مَا فعل أَو يفعل أَي شئ كَانَ فَهُوَ الْعدْل وَالْحق وَالْحكمَة على الْحَقِيقَة لَا شكّ فِي ذَلِك وَأَنه لَا جور إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل جوراً وَهُوَ مَا ظهر فِي عصاة عباده من الْجِنّ وَالْإِنْس مِمَّا خَالف أمره تَعَالَى وَهُوَ خالقه فيهم كَمَا شَاءَ فَكيف يكون مجور إِلَيْهِ عز وَجل من هَذِه هِيَ مقَالَته وَإِنَّمَا المجور لرَبه تَعَالَى من يَقُول فِيمَا أخبر الله عز وَجل أَنه خلقه هَذَا جور وظلم فَإِن قَابل هَذَا القَوْل لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَنه مكذب لرَبه عز وَجل فِي إخْبَاره فِي الْقُرْآن أَنه برأَ المصائب كلهَا وخلقها وَأَنه تَعَالَى خلقنَا وَمَا نعمل وَأَنه خلق كل شئ بِقدر محرف لكَلَام ربه تَعَالَى الَّذِي هُوَ غَايَة الْبَيَان عَن موَاضعه مبدل لَهُ بَعْدَمَا سَمعه وَقد نَص الله تَعَالَى فِيمَن يحرف الْكَلم عَن موَاضعه ويبدله بعد مَا سَمعه مَا نَص فَهَذَا خطه كفران التزامها وَالثَّانيَِة وَهِي تَصْدِيق الله عز وَجل فِي إخْبَاره بذلك وتجويزه فِي فعله لَا بُد لَهُ من ذَلِك وَهَذِه أَيْضا خطة كفران التزامها أَو الِانْقِطَاع والتناقض والثبات على اعْتِقَاد الْبَاطِل بِلَا حجَّة تقليداً للعيارين الشطار الْفُسَّاق كالنظام والعلاف وَبشر نخاس الرَّقِيق وَمعمر الْمُتَّهم عِنْدهم فِي دينه وثمامة الخليع الْمَشْهُور بالقبايح والجاحظ وَهُوَ من عرف هزلا وعيارة وإنهما لَا وَهَذِه أسلم الْوُجُوه لَهُم ونعوذ بِاللَّه من مثلهَا ثمَّ هم بعد هَذَا صنفان أَصْحَاب الْأَصْلَح وَأَصْحَاب اللطف فَأَما أَصْحَاب اللطف فَإِن أَصْحَاب الْأَصْلَح يصفونهم بِأَنَّهُم مجورون(3/77)
لله مجهلون لَهُ وَأَصْحَاب الْأَصْلَح يصفهم أَصْحَاب اللطف بِأَنَّهُم معجزون لله تَعَالَى مشبهون لَهُ بخلقه فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه يفعل مَا يَشَاء بِخِلَاف مَا قَالَت الْمُعْتَزلَة فَقَالَ عز وَجل {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وأمرنا عز وَجل أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصراً كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه غَايَة الْبَيَان فِي أَنه عز وَجل لَهُ أَن يكلفنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وَأَنه لَو شَاءَ ذَلِك لَكَانَ من حَقه وَلَو لم يكن لَهُ ذَلِك لما أمرنَا بِالدُّعَاءِ فِي أَن لَا يحملنا ذَلِك ولكان الدُّعَاء بذلك كالدعاء فِي أَن يكون إِلَهًا خَالِقًا على أصولهم وَنَصّ تَعَالَى كَمَا تلونا على أَنه قد حمل من كَانَ قبلنَا الإصر وَهُوَ الثّقل الَّذِي لَا يُطَاق وأمرنا أَن نَدْعُوهُ بِأَن لَا يحمل ذَلِك علينا وَأَيْضًا فقد أمرنَا تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَن نَدْعُوهُ فِي أَن لَا يؤاخذنا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا وَهَذَا هُوَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق نَفسه لِأَن النسْيَان لَا يقدر أحد على الْخَلَاص مِنْهُ وَلَا يتَوَهَّم التحفظ مِنْهُ وَلَا يُمكن أحدا دَفعه عَن نَفسه فلولا أَن لَهُ تَعَالَى أَن يُؤَاخذ بِالنِّسْيَانِ من شَاءَ من عباده لما أمرنَا بِالدُّعَاءِ فِي النجَاة مِنْهُ وَقد وجدنَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام مؤاخذين بِالنِّسْيَانِ مِنْهُم أَبونَا آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي} يُرِيد نسيانه عَدَاوَة إِبْلِيس لَهُ الَّذِي حذره الله تَعَالَى مِنْهَا ثمَّ آخذه على ذَلِك وَأخرجه من الْجنَّة ثمَّ تَابَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُله على أصُول الْمُعْتَزلَة جور وظلم تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالَ عز وَجل وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا وَلَو فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره فصح يَقِينا أَن ترك الشّرك من الْمُشْركين مُمْتَنع لِامْتِنَاع مَشِيئَة الله تَعَالَى لتَركه وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} ومشيئة الله هِيَ تَفْسِير إِذن الله وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} فَهَذَا نَص جلي على أَنه لَا يُمكن أحد أَن يُؤمن إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل لَهُ فِي الْإِيمَان فصح يَقِينا أَن كل من آمن فَلم يُؤمن إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل وَأَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يُؤمن وَإِن كل من لم يُؤمن فَلم يَأْذَن الله تَعَالَى لَهُ فِي الْإِيمَان وَلَا شَاءَ أَن يكون مِنْهُ الْإِيمَان هَذَا نَص هَاتين الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يحتملان تَأْوِيلا غَيره أصلا وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَنه تَعَالَى عَنى الْإِكْرَاه على الْإِيمَان لِأَن نَص الْآيَتَيْنِ مَانع من هَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَن كل من آمن فَإِنَّمَا آمن بِإِذن الله عز وَجل وَإِن من لم يُؤمن فَإِن الله تَعَالَى لم يَشَاء أَن يُؤمن فيلزمهم على هَذَا أَن كل مُؤمن فِي الْعَالم فمكره على الْإِيمَان وَهَذَا شَرّ من قَول الْجَهْمِية وَأَشد فَإِن قَالُوا أَن إِذن الله تَعَالَى هَا هُنَا إِنَّمَا هُوَ أمره لَزِمَهُم ضَرُورَة أحد وَجْهَيْن لَا بُد مِنْهُمَا إماأن يَقُولُوا أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر الْكفَّار بِالْإِيمَان لِأَن النَّص قد جَاءَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَو أذن لَهُم لآمنوا وَإِمَّا أَن يَقُولُوا أَن كل من فِي الْعَالم فهم مُؤمنُونَ لأَنهم عِنْدهم مَأْذُون لَهُم فِي الْإِيمَان إِذا كَانَ الْإِذْن هُوَ الْأَمر وكلا الْقَوْلَيْنِ كفر مُجَرّد ومكابرة للعيان ونعوذ بِاللَّه من الضلال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْإِذْن هَا هُنَا ومشيئته تَعَالَى هُوَ خلق الله تَعَالَى للْإيمَان فِيمَن آمن وَقَوله لإيمانه كن فَيكون وَعدم إِذْنه تَعَالَى وَعدم مَشِيئَته للْإيمَان هُوَ أَن لَا يخلق فِي الْمَرْء الْإِيمَان فَلَا يُؤمن لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ إِذْ قد صَحَّ أَن الْإِذْن هَا هُنَا لَيْسَ هُوَ الْأَمر وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة}(3/78)
فَأخْبر تَعَالَى أَنه هدى بَعضهم دون بعض وَهَذَا عِنْد الْمُعْتَزلَة جور وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فنص على انه خلقهمْ ليدخلهم النَّار نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء}
وَأمر تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} فنص تَعَالَى على زيغ قُلُوب من لم يهدهم من الَّذين زاغوا إِذْ أزاغ الله قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ} فَقطع تَعَالَى على أَن كَلِمَاته قد حقت على الْفَاسِقين انهم لَا يُؤمنُونَ فَمن الَّذِي حقق عَلَيْهِم أَن لايؤمنوا إِلَّا هُوَ عز وَجل وَهَذَا جور عِنْد الْمُعْتَزلَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل آيَة ذَكرنَاهَا فِي بَاب الِاسْتِطَاعَة مِنْهُنَّ حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وكل آيَة نتلوها إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي بَاب إِثْبَات أَن الله عز وَجل أَرَادَ كَون الْكفْر وَالْفِسْق بعد هَذَا الْبَاب مَنْهِيّ أَيْضا حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وَكَذَلِكَ كل آيَة نتلوها إِن شَاءَ الله عز وَجل فِي إبِْطَال قَول من قَالَ لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى شَيْء أصلح مِمَّا أعطَاهُ الله أَبَا جهل وَفرْعَوْن وَأَبا لَهب مِمَّا يَسْتَدْعِي إِلَى الْإِيمَان فَإِنَّهَا حجَّة عَلَيْهِم فِي هَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله تَعَالَى {وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا رَبك بلام للعبيد وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه قَادر على أَن يسمعهم والإسماع هَاهُنَا الْهدى بِلَا شكّ لِأَن آذانهم كَانَت صحاحاً وَمعنى قَوْله تَعَالَى {وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ لتولوا عَن الْكفْر وهم معرضون عَنهُ لَا يجوز غير هَذَا لِأَنَّهُ محَال أَن يهْدِيهم الله وَقد علم من قُلُوبهم خيرا فَلَا يهتدوا وَهَذَا تنَاقض قد تنزه كَلَامه عز وَجل عَنهُ فصح أَنه كَمَا ذكرنَا يَقِينا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسائرها حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ بل هُوَ حجَّة لنا عَلَيْهِم وَهُوَ نَص قَوْلنَا أَنه خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بِالْحَقِّ وأفعال الْعباد بَين السَّمَاء وَالْأَرْض بِلَا شكّ فَالله تَعَالَى خلقهَا بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ اختراعه لَهَا وكل مَا فعل تَعَالَى حق وإضلاله من أضلّ حق لَهُ وَمِنْه تَعَالَى وهداه من هدى حق مِنْهُ تَعَالَى ومحاباته من حابى بِالنُّبُوَّةِ وبالطاعة حق مِنْهُ وَنحن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى من كل من قَالَ أَن الله تَعَالَى خلق شَيْئا بِغَيْر الْحق أَو أَنه تَعَالَى خلق شَيْئا لاعباً أَو أَنه تَعَالَى ظلم أحدا بل فعله عدل وَصَلَاح وَلَقَد ظهر لكل ذِي فهم أننا قَائِلُونَ بِهَذِهِ الْآيَات على نَصهَا وظاهرها فَأَي حجَّة لَهُم علينا فِي هَذِه النُّصُوص لَو عقلوا وَأما الْمُعْتَزلَة فَيَقُولُونَ أَنه تَعَالَى لم يخلق كثيرا مِمَّا بَين السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا سِيمَا عباد بن سُلَيْمَان مِنْهُم تلميذ هِشَام بن عَمْرو الفوطي الْقَائِل أَن الله تَعَالَى لم يخلق الجدب وَلَا الْجُوع وَلَا الْأَمْرَاض وَلَا الْكفَّار وَلَا الْفُسَّاق وَمُحَمّد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جَعْفَر بن حَرْب الْقَائِل أَن الله تَعَالَى لم يخلق العيدان وَلَا المزامير وَلَا الطنابير وكل ذَلِك لَيْسَ يخلق من خلق الله تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وهم يَقُولُونَ أَن الله عز وَجل لَو حابى أحدا لَكَانَ ظَالِما لغيره وَقد صَحَّ أَن الله تَعَالَى حابى مُوسَى وَإِبْرَاهِيم(3/79)
وَيحيى ومحمداً صلوَات الله عَلَيْهِم دون غَيرهم وَدون أبي لَهب وَأبي جهل وَفرْعَوْن وَالَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه فعلى قَول الْمُعْتَزلَة يجب أَن الله تَعَالَى ظلم هَؤُلَاءِ الَّذين حابى غَيرهم عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ إِلَّا بترك قَوْلهم الْفَاسِد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَهَكَذَا نقُول مَا خلقهمْ الله تَعَالَى إِلَّا ليكونوا لَهُ عباداً مصرفين بِحكمِهِ فيهم منقادين لتدبيره إيَّاهُم وَهَذِه حَقِيقَة الْعِبَادَة وَالطَّاعَة أَيْضا عبَادَة وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن الْقَائِلين {أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ} وَقد علم كل أحد ان قوم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يعبدوا قطّ فِرْعَوْن عبَادَة تدين لَكِن عبدوه عبَادَة تذلل فَكَانُوا لَهُ عبيدا فهم لَهُ عَابِدُونَ وَكَذَلِكَ قَول الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} وَقد علم كل أحد أَنهم لم يعبدوا الْجِنّ عبَادَة تدين لَكِن عبدوهم عبَادَة تصرف لأمرهم وإغوائهم فَكَانُوا لَهُم بذلك عبيدا فصح القَوْل بِأَنَّهُم يَعْبُدُونَهُمْ وَهَذَا بَين وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا معنى هَذِه الْآيَة أَنه تَعَالَى خلقهمْ ليأمرهم بِعِبَادَتِهِ ولسنا نقُول بِهَذَا لِأَن فيهم من لم يَأْمُرهُ الله تَعَالَى قطّ بِعِبَادَتِهِ كالأطفال والمجانين فَصَارَ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِلَا برهَان وَالَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ الْمشَاهد الْمُتَيَقن الْعَام لكل وَاحِد مِنْهُم واما ظن الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة فَبَاطِل يكذبهُ إِجْمَاعهم مَعنا أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن كثيرا مِنْهُم لَا يعبدونه فَكيف يجوز أَن يخبر أَنه خلقهمْ لأمر قد علم أَنه لَا يكون مِنْهُم إِلَّا أَن يصيروا إِلَى قَول من يَقُول انه تَعَالَى لَا يعلم الشَّيْء حَتَّى يكون فَيتم كفر من لَجأ إِلَى هَذَا وَلَا يخلصون مَعَ ذَلِك من نِسْبَة الْعَبَث إِلَى الْخَالِق تَعَالَى إِذْ غرر من خلق فِيمَا لَا يدْرِي أيعطبون فِيهِ أم يفوزون وتحيرت الْمُعْتَزلَة الْقَائِلُونَ بالأصلح وبإبطال الْمُحَابَاة فِي وَجه الْعدْل فِي سِتَّة عشر بَابا وَهِي الْعدْل فِي إدامة الْعَذَاب الْعدْل فِي إيلام الْحَيَوَان الْعدْل فِي تَبْلِيغ من فِي الْمَعْلُوم أَنه يكفر الْعدْل فِي الْمَخْلُوق الْعدْل فِي الْمَخْلُوق الْعدْل فِي إِعْطَاء الِاسْتِطَاعَة الْعدْل فِي الْإِرَادَة الْعدْل فِي الْبَدَل الْعدْل فِي الْأَمر الْعدْل فِي عَذَاب الْأَطْفَال الْعدْل فِي اسْتِحْقَاق الْعَذَاب الْعدْل فِي الْمعرفَة الْعدْل فِي اخْتِلَاف أَحْوَال المخلوقين الْعدْل فِي اللطف الْعدْل فِي الْأَصْلَح الْعدْل فِي نسخ الشَّرَائِع الْعدْل فِي النُّبُوَّة
الْكَلَام فِي هَل شَاءَ الله عز وَجل كَون الْكفْر وَالْفِسْق
وإراده تَعَالَى من الْكَافِر وَالْفَاسِق أم لم يَشَاء ذَلِك وَلَا أَرَادَ كَونه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَت الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى لم يَشَاء أَن يكفر الْكَافِر وَلَا أَن يفسق الْفَاسِق وَلَا ان يشْتم تَعَالَى وَلَا أَن يقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} وَقَالُوا من فعل مَا أَرَادَ الله فَهُوَ مأجور محسن فَإِن كَانَ الله تَعَالَى أَرَادَ ان يكفر الْكَافِر وَأَن يفسق الْفَاسِق فقد فعلا جَمِيعًا مَا أَرَادَ الله تَعَالَى مِنْهُمَا فهما محسنان مأجوران وَذهب أهل السّنة أَن لَفْظَة شَاءَ وَأَرَادَ لَفْظَة مُشْتَركَة تقع على مَعْنيين أَحدهمَا الرضى وَالِاسْتِحْسَان فَهَذَا مَنْهِيّ عَن الله تَعَالَى انه أَرَادَهُ أَو شاءه فِي كل مَا نهى عَنهُ وَالثَّانِي أَن يُقَال أَرَادَ وَشاء بِمَعْنى أَرَادَ كَونه وَشاء وجوده فَهَذَا هُوَ الَّذِي نخبر بِهِ عَنهُ الله عز وَجل فِي كل مَوْجُود فِي الْعَالم من خير أَو شَرّ فسلكت الْمُعْتَزلَة سَبِيل السفسطة فِي التَّعَلُّق بالألفاظ الْمُشْتَركَة الْوَاقِعَة على مَعْنيين فَصَاعِدا والتمويه الَّذِي يضمحل إِذا فتش ويفتضح إِذا بحث(3/80)
عَنهُ وَهَذِه سَبِيل الْجُهَّال الَّذين لَا حِيلَة بأيدهم إِلَّا المخرفة وَقَالَ أهل السّنة لَيْسَ من فعل مَا أَرَادَ الله تَعَالَى وَمَا شَاءَ الله كَانَ محسناً وَإِنَّمَا المحسن من فعل بِمَا أمره الله تَعَالَى بِهِ ورضيه مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم فَنَقُول لَهُم أخبرونا أَكَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على منع الْكفَّار من الْكفْر وَالْفَاسِق من الْفسق وعَلى منع من شَتمه من النُّطْق بِهِ وَمن إمراره على خاطره وعَلى الْمَنْع من قتل من قتل من أنبيائه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أم كَانَ عَاجِزا عَن الْمَنْع من ذَلِك فَإِن قَالُوا لم يكن قَادِرًا على الْمَنْع من شَيْء من ذَلِك فقد أثبتوا لَهُ معنى الْعَجز ضَرُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد وَإِبْطَال لإلهيته تَعَالَى وَقطع عَلَيْهِ بالضعف وَالنَّقْص وتناهي الْقُوَّة وَانْقِطَاع الْقُدْرَة مَعَ التَّنَاقُض الْفَاحِش لأَنهم مقرون أَنه تَعَالَى هُوَ أَعْطَاهُم الْقُوَّة الَّتِي بهَا كَانَ الْكفْر وَالْفِسْق وَشَتمه تَعَالَى وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَمن الْمحَال الْمَحْض أَن يكون تَعَالَى لَا يقدر على أَن لَا يعطيهم الَّذِي أَعْطَاهُم وَهَذِه صفة الْمُضْطَر الْمُجبر وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على مَنعهم من كل ذَلِك أفروا ضَرُورَة أَنه مُرِيد لبقائهم على الْكفْر وَأَنه المبقي للْكَافِرِ وللكفر وحالف الزَّمَان الَّذِي امْتَدَّ فِيهِ الْكَافِر على كفره وَالْفَاسِق على فسقه وَهَذَا نَفسه هُوَ قَوْلنَا أَنه أَرَادَ كَون الْكفْر وَالْفِسْق والشتم لَهُ وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلم يرض عَن شَيْء من ذَلِك بل سخطه تَعَالَى وَغَضب على فَاعله وَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَانَ الله تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَهُوَ إِذن يغْضب مِمَّا أَرَادَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقر أَنه تَعَالَى يغْضب على فَاعل مَا أَرَادَ كَونه مِنْهُ ثمَّ نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم فاذ هَذَا عنْدكُمْ مُنكر وَأَنْتُم مقرون بِأَنَّهُ قَادر على الْمَنْع مِنْهُ فَهُوَ عنْدكُمْ يغْضب مِمَّا أقرّ ويسخط مَا يقره وَلَا يُغَيِّرهُ وَيثبت مَا لَا يرضى وَهَذَا هُوَ الَّذِي شنعوا فِيهِ وَلَا يقدرُونَ على دَفعه والشاعة عَلَيْهِم رَاجِعَة لأَنهم أَنْكَرُوا مَا لَزِمَهُم وبالضرورة نَدْرِي أَن من قدر على الْمَنْع من شَيْء فَلم يفعل وَلَا منع مِنْهُ فقد أَرَادَ وجود كَونه وَلَو لم يرد كَونه لغيره ولمنع مِنْهُ وَلما تَركه يفعل فَإِن قَالُوا أَنه حَكِيم وخلاهم دون منع لسر من الْحِكْمَة لَهُ فِي ذَلِك قيل لَهُم فاقنعوا بِمثل هَذَا الْجَواب مِمَّن قَالَ لكم أَنه أَرَادَ كَونه لِأَنَّهُ حَكِيم كريم عَزِيز وَله فِي ذَلِك سر من الْحِكْمَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَنَقُول أَنه تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك وَلَا سر هَاهُنَا وَإِن كل مَا فعل فَهُوَ حِكْمَة وَحقّ وَأَن قَوْلهم هَذَا هَادِم لمقدمتهم الْفَاسِدَة أَنه يقبح من الْبَارِي تَعَالَى مَا يقبح منا وَفِيمَا بَيْننَا وَمَا علم قطّ ذُو عقل أَن من خلى من عدوه منطلق الْيَد على وليه وَأحب النَّاس إِلَيْهِ يقْتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينْطَلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طَوْعًا وَكرها وَالسَّيِّد حَاضر يرى وَيسمع وَهُوَ قَادر على الْمَنْع من ذَلِك فَلَا يفعل بل لَا يقنع بتركهم إِلَّا حَتَّى يُعْطي عدوه الْقُوَّة على كل ذَلِك والآلات الْمعينَة لَهُ ويمده بالقوى شَيْئا بعد شَيْء فَلَيْسَ حكيماً وَلَا حَلِيمًا وَلكنه عابث ظَالِم جَائِر فيلزمهم على أصلهم الْفَاسِد أَن يحكموا على الله تَعَالَى بِكُل هَذَا لأَنهم معترفون بِأَنَّهُ تَعَالَى فعل كل هَذَا وَهَذَا لَا يلْزمنَا لأننا نقُول إِن الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَأَن كل مَا فعل مِمَّا ذكرنَا وَغَيره فَهُوَ كُله مِنْهُ تَعَالَى حِكْمَة وَحقّ وَعدل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَبَطل بضرورة الْمُشَاهدَة قَوْلهم إِن الله تَعَالَى لم يرد كَون الْكفْر أَو كَون الْفسق أَو كَون شَتمه تَعَالَى وَقتل أنبيائه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَو(3/81)
لم يرد كَونه لمنع من ذَلِك كَمَا منع من كَون كل مَا لم يرد أَن يكون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيَكْفِي من هَذَا كُله اجْتِمَاع الْأمة على قَول مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَهَذَا على عُمُومه مُوجب أَن كل مَا فِي الْعَالم كَانَ أَو يكون أَي شَيْء كَانَ فقد شاءه الله تَعَالَى وكل مَا لم يكن وَلَا يكون فَلم يشأه الله تَعَالَى نصا لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَنه أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} فنص تَعَالَى نصا جلياً على أَنه لَا يَشَاء أحد استقامة على طَاعَته تَعَالَى إِلَّا أَن شَاءَ الله تَعَالَى أَن يَسْتَقِيم فَلَو صَحَّ قَول الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى شَاءَ أَن يَسْتَقِيم كل ملكف لَكَانَ بِنَصّ الْقُرْآن كل مُكَلّف مُسْتَقِيم لِأَن الله تَعَالَى عِنْدهم قد شَاءَ ذَلِك وَهَذَا تَكْذِيب مُجَرّد لله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من مثله فصح يَقِينا لَا مدْخل للشَّكّ فِي صِحَّته أَنه تَعَالَى شَاءَ خلاف الاسْتقَامَة مِنْهُم وَلم يَشَأْ أَن يستقيموا بِنَصّ الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة غَايَة فِي الْبَيَان فِي أَن الله تَعَالَى جعل عدَّة مَلَائِكَة النَّار فتْنَة للَّذين كفرُوا وليقولوا مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا فَأخْبر تَعَالَى أَنه أَرَادَ أَن يفتن الَّذين كفرُوا وَأَن يضلهم فيضلوا وَأَنه تَعَالَى قصد إضلالهم وَحكم بذلك كَمَا قصد هدى الْمُؤمنِينَ وأراده وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجمياً لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته أأعجمي وعربي قل هُوَ للَّذين آمنُوا هدى وشفاء وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمي}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص تَعَالَى على أَنه أنزل الْقُرْآن هدى للْمُؤْمِنين وَعمي للْكفَّار وبيقين نَدْرِي أَنه تَعَالَى إِذا نزل الْقُرْآن أَرَادَ أَن يَقُول كَمَا قَالَ تَعَالَى عمي للْكفَّار وَهدى للْمُؤْمِنين وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} هَكَذَا هِيَ الْآيَة كلهَا مَوْصُولَة بَعْضهَا بِبَعْض فنص تَعَالَى على أَنه لَو شَاءَ لأمن النَّاس وَالْجِنّ وهم أهل الأَرْض كلهم وَلَو فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله عز وَجل ليفهمنا حرف يدل على امْتنَاع الشَّيْء لِامْتِنَاع غَيره فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى لم يَشَأْ أَن يُؤمن كل من فِي الأَرْض وَإِذ لَا شكّ فِي ذَلِك فباليقين نَدْرِي أَنه شَاءَ مِنْهُم خلاف الْإِيمَان وَهُوَ الْكفْر وَالْفِسْق لَا بُد وَلَو كَانَ الله تَعَالَى أذن للْكَافِرِينَ فِي الْإِيمَان على قَول الْمُعْتَزلَة لَكَانَ كل من فِي الأَرْض قد آمن لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَنه لَا يُؤمن أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذَا أَمر من الْمُعْتَزلَة يكذبهُ العيان فصح أَن الْمُعْتَزلَة كذبت وَأَن الله تَعَالَى صدق وَأَنه لم يَأْذَن قطّ لمن مَاتَ كَافِرًا فِي الْإِيمَان وَأَن من عمي عَن هَذِه لأعمى الْقلب وَكَيف لَا يكون أعمى الْقلب من أعمى الله قلبه عَن الْهدى وبالضرورة نَدْرِي أَن قَول الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} حق وَإِن من لم يَأْذَن الله تَعَالَى لَهُ فِي الْإِيمَان فَإِنَّهُ تَعَالَى لم يَشَأْ أَن يُؤمن وَإِذا لم يَشَأْ أَن يُؤمن فبلا شكّ أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يكفر هَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى {ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا إِن يَشَاء الله} فَبين تَعَالَى أتم بَيَان على أَن الْآيَات لَا تغني شَيْئا وَلَا النّذر وهم الرُّسُل وَإنَّهُ لَا يُؤمن شَيْء(3/82)
من ذَلِك إِلَّا من شَاءَ الله عز وَجل أَن يُؤمن فصح يَقِينا أَنه لَا يُؤمن إِلَّا من شَاءَ الله إيمَانه وَلَا يكفر إِلَّا من شَاءَ الله كفره فَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن} فبالضرورة نعلم أَن من صبا وَجَهل فَإِن الله تَعَالَى لم يصرف عَنهُ الكيد الَّذِي صرفه برحمته عَمَّن لم يصب وَلم يجهل وَإِذ صرفه تَعَالَى عَن بعض وَلم يصرفهُ عَن بعض فقد أَرَادَ تَعَالَى إضلال من حبا وَجَهل وَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} فليت شعري إِذْ قَالَ تَعَالَى أَنه جعل قُلُوب الْكَافرين فِي أكنة ان يفقهوا الْقُرْآن وَجعل الوقر فِي آذانهم أتراه أَرَادَ أَن يفقهوه أَو أَرَادَ أَن لَا يفقهوه وَكَيف يسوغ فِي عقل أحد أَن يخبر تَعَالَى أَنه فعل عز وَجل شَيْئا لم يرد أَن يَفْعَله وَلَا أَرَادَ كَونه وَلَا شَاءَ إيجاده وَهَذَا تَخْلِيط لَا يتشكل فِي عقل كل ذِي مسكة من عقل فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الوقر فِي آذانهم وَكَون الأكنة على قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} فنص تَعَالَى على أَنه لم يرد أَن يجعلنا أمة وَاحِدَة وَلَكِن شَاءَ أَن يضل قوما وَيهْدِي قوما فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ إضلال من ضل وَقَالَ تَعَالَى مثنياً على قوم ومصدقاً لَهُم فِي قَوْلهم {قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} فَقَالَ النَّبِيُّونَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام واتباعهم قَول الْحق الَّذِي شهد الله عز وَجل بتصديقه أَنهم إِنَّمَا خلصوا من الْكفْر بِأَن الله تَعَالَى نجاهم مِنْهُ وَلم ينج الْكَافرين مِنْهُ وَأَن الله تَعَالَى إِن شَاءَ ان يعودوا فِي الْكفْر عَادوا فِيهِ فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى شَاءَ ذَلِك مِمَّن عَاد فِي الْكفْر وَقد قَالَت الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة معنى هَذَا إِلَّا ان يَأْمُرنَا الله بتعظيم الْأَصْنَام كَمَا أمرنَا بتعظيم الْحجر الْأسود والكعبة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد لِأَن الله تَعَالَى لَو أمرنَا بذلك لم يكن عوداً فِي مِلَّة الْكفْر بل كَانَ يكون ثَابتا على الْإِيمَان وتزايداً فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} فليت شعري إِذْ زادهم الله مَرضا أتراه لم يَشَاء وَلَا أَرَادَ مَا فعل من زِيَادَة الْمَرَض فِي قُلُوبهم وَهُوَ الشَّك وَالْكفْر وَكَيف يفعل الله مَالا يُرِيد أَن يفعل وَهل هَذَا إِلَّا إلحاد مُجَرّد مِمَّن قَالَه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد} فنص تَعَالَى على أَنه لَو شَاءَ لم يقتتلوا فَوَجَبَ ضَرُورَة أَنه شَاءَ وَأَرَادَ أَن يقتتلوا وَفِي اقتتال المقتتلين ضلال بِلَا شكّ فقد شَاءَ الله تَعَالَى كَون الضلال ووجوده بِنَصّ كَلَامه تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَمن يرد الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} فنص تَعَالَى على انه أَرَادَ فتْنَة المفتتنين وهم الْكفَّار وكفرهم الَّذين لم يملك لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الله شَيْئا فَهَذَا نَص على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون الْكفْر من الْكفَّار وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَنه تَعَالَى لم يرد أَن يطهر قُلُوبهم وبالضرورة نَدْرِي أَن من لم يرد الله أَن يطهر قلبه فقد أَرَادَ فَسَاد دينه الَّذِي هُوَ ضد طَهَارَة الْقلب وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الله تَعَالَى لم يرد هدى الْجَمِيع وَإِذا لم يرد هدَاهُم فقد(3/83)
أَرَادَ كَون كفرهم الَّذِي هُوَ ضد الْهدى وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَنه تَعَالَى لم يَشَأْ هدى الْكفَّار لَكِن حق قَوْله بِأَنَّهُم لَا بُد من أَن يكفروا فَيَكُونُوا من أهل جَهَنَّم وَقَالَ تَعَالَى {من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم} فَأخْبر تَعَالَى أَنه شَاءَ أَن يضل من أضلّهُ وَشاء ان يهدي من جعله على صِرَاط مُسْتَقِيم وهم بِلَا شكّ غير الَّذين لم يجعلهم على صِرَاط مُسْتَقِيم وَأَرَادَ فتنتهم وَأَن لَا يطهر قُلُوبهم وَأَن يَكُونُوا من أَصْحَاب النَّار نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَشهد الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن من لم يهده الله تَعَالَى ضل وَصَحَّ أَن من ضل فَلم يهده الله عز وَجل وَمن لم يهده الله وَهُوَ قَادر على هداه فقد أَرَادَ ضلاله وإضلاله وَلم يرد هداه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} فصح يقينالا إِشْكَال فِيهِ أَن الله تَعَالَى شَاءَ ان يشركوا اذنص على أَنه لَو شَاءَ أَن لَا يشركوا مَا أشركوا أَو قَالَ تَعَالَى {يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} وَهَذَا نَص على أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يفعلوه إِذْ أخبر أَنه لَو شَاءَ أَن لَا يفعلوه مَا فَعَلُوهُ وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} فنص تَعَالَى على أَنه لَو لم يَشَأْ أَن يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا مَا أوحوه وَلَو شَاءَ أَن لَا يلبس بَعضهم دين بعض وَأَن لَا يقتلُوا اولادهم مَا لبس عَلَيْهِم دينهم وَلَا قتلوا اولادهم فصح ضَرُورَة أَنه تَعَالَى شَاءَ أَن يلبس دين من الْتبس دينه وَأَرَادَ كَون قَتلهمْ أَوْلَادهم وَأَن يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم} فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى سلط أَيدي الْكفَّار على من قَتَلُوهُ من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فنص على أَنه يُرِيد هدى قوم فيهديهم ويشرح صُدُورهمْ للْإيمَان وَيُرِيد ضلال آخَرين فيضلهم بِأَن يضيق صُدُورهمْ ويحرجها فكأنهم كلفوا الصعُود إِلَى السَّمَاء فيكفروا وَقَالَ تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} فنص تَعَالَى على أَن من صَبر فصبره لَيْسَ إِلَّا بِاللَّه فصح أَن من صَبر فَإِن الله أَتَاهُ الصَّبْر وَمن لم يصبر فان الله عزوجل لم يؤته الصَّبْر وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تنازعوا} فنهانا عَن الِاخْتِلَاف وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك وَلذَلِك خلقهمْ} فنص تَعَالَى أَنه خلقهمْ للِاخْتِلَاف إِلَّا من رحم الله مِنْهُم وَلَو شَاءَ لم يَخْتَلِفُوا فصح يَقِينا أَن الله خلقهمْ لما نَهَاهُم عَنهُ من الِاخْتِلَاف وَأَرَادَ كَون الِاخْتِلَاف مِنْهُم وَقَالَ عزوجل {تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شَيْء قدير} وَقَالَ تَعَالَى {بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة} فنص تَعَالَى على أَنه أغرى الْكفَّار وسلب الْمُؤمنِينَ فِي الْملك وَأَنه بعث أُولَئِكَ الَّذين دخلُوا الْمَسْجِد ودخوله مسخط لله تَعَالَى بلاشك فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى خلق كل ذَلِك وَأَرَادَ كَونه وَقَالَ عزوجل {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن أَتَاهُ الله الْملك} فَهَذَا نَص جلي على أَن الله اتي ذَلِك الْكَافِر فصح يَقِينا أَن الله(3/84)
تَعَالَى فعل تَمْلِيكه وَملكه على أهل الْإِيمَان وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن ذَلِك يسْخط الله عزوجل ويغضبه وَلَا يرضاه وَهُوَ نفس الَّذِي أنكرته الْمُعْتَزلَة وشنعت بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم عَمَّا مَضَت الدُّنْيَا عَلَيْهِ مذ كَانَت من أَولهَا إِلَى يَوْمنَا هَذَا من النَّصْر النَّازِل على مُلُوك أهل الشّرك والملوك الجورة والظلمة وَالْغَلَبَة المعطاة لَهُم على من ناوأهم من أهل الْإِسْلَام وَأهل الْفضل واحترام من أَرَادَهُم بِالْمَوْتِ أَو باضطراب الْكَلِمَة ويانى النَّصْر لَهُم بِوُجُوه الظفر الَّذِي لَا شكّ فِي أَنه الله تَعَالَى فَاعله من أَمَاتَهُ أعدائهم من أهل الْفضل وتأييدهم عَلَيْهِم وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم فِي أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَونه وَقَالَ عزوجل {وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} فنص تَعَالَى نصاجليا لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَنه كره أَن يخرجُوا فِي الْجِهَاد الَّذِي افْترض عَلَيْهِم الْخُرُوج فِيهِ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كره تَعَالَى كَون مَا أَرَادَ وَنَصّ على أَنه ثبطهم عَن الْخُرُوج فِي الْجِهَاد ثمَّ عذبهم على التثبيط الَّذِي أخبر تَعَالَى أَنه فعله وَنَصّ تَعَالَى على أَنه قَالَ اقعدوا مَعَ القاعدين وَهَذَا يَقِين لَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام لِأَن الله تَعَالَى لم يَأْمُرهُم بالقعود عَن الْجِهَاد مَعَ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل لعنهم وَسخط عَلَيْهِم إِذْ قعدوا فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَهُوَ ضَرُورَة أَمر تكوين فصح ان الله تَعَالَى خلق قعودهم الْمُغْضب لَهُ الْمُوجب لسخطه وَإِذا نَص تَعَالَى على أَمر فَلَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْهِ وَقَالَ عزوجل {فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} وَهَذَا نَص جلي على أَنه عزوجل أَرَادَ أَن يموتوا وَهُوَ كافرون وَأَنه تَعَالَى أَرَادَ كفرهم وَالْقَاف من تزهق مَفْتُوحَة بِلَا خلاف من أحد من الْقُرَّاء معطوفة على مَا اراد الله عزوجل من أَن يعذبهم بهَا فِي الدُّنْيَا وَالْوَاو تدخل الْمَعْطُوف فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِلَا خلاف من أحد فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل فان الله عزوجل قَالَ فِي الَّذين قعدوا عَن الْخُرُوج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} فَلهَذَا ثبطهم قُلْنَا لَا عَلَيْكُم أكانوا مأمورين بِالْخرُوجِ مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام متوعدين بالنَّار إِن قعدوا لغير عذرأم كانو غير مأمورين بذلك فَإذْ لَا شكّ فِي أَنهم كَانُوا مأمورين فقد ثبطهم الله عزوجل عَمَّا أَمرهم بِهِ وعذبهم على ذَلِك وَخلق قعودهم عَمَّا أَمرهم بِهِ ثمَّ نقُول لَهُم أَكَانَ تَعَالَى قَادِرًا على ان يكف عَن أهل الْإِسْلَام خبالهم وفتنتهم لَو خَرجُوا مَعَهم أم لَا فَإِن قَالُوا لم يكن قَادِرًا على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى وَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى كَانَ قَادِرًا على ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق وأقروا أَن الله تَعَالَى ثبطهم وَكره كَون مَا افْترض عَلَيْهِم وَخلق قعودهم الَّذِي عذبهم عَلَيْهِ وَلَا مُهِمّ عَلَيْهِ كَمَا شَاءَ لَا معقب لحكمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ جَاءَت النُّصُوص كَمَا ذكرنَا متظاهرة لَا تحْتَمل تَأْوِيلا بِأَنَّهُ عزوجل أَرَادَ ضلال من ضل وَشاء كفر من كفر فقد علمنَا ضَرُورَة أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض فَلَمَّا اخبر عزوجل أَنه لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر فبالضرورة علمنَا أَن الَّذِي نفى عز وَجل هُوَ غير الَّذِي اثْبتْ فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فَالَّذِي نفى تَعَالَى هُوَ الرضى بالْكفْر وَالَّذِي أثبت هُوَ الْإِرَادَة لكَونه والشيئة لوُجُوده وهما مَعْنيانِ متغايران بِنَصّ الْقُرْآن وَحكم اللُّغَة فَإِن أَبَت الْمُعْتَزلَة من قبُول كَلَام رَبهم وَكَلَام نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام إِبْرَاهِيم ويوسف وَشُعَيْب وَسَائِر الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِم وَسلم وأبت(3/85)
أَيْضا من قبُول اللُّغَة وَمَا أوجبته الْبَرَاهِين الضرورية مِمَّا شهِدت بِهِ الْحَواس والعقول من الله تَعَالَى لَو لم يرد كَون مَا هُوَ مَوْجُود كَائِن لمنع مِنْهُ وَقد قَالَ تَعَالَى {الَّذين كذبُوا شعيباً كَانُوا هم الخاسرين} فَشهد الله تَعَالَى بتكذيبهم واستعاضته من ذَلِك بأصول المنانية أَن الْحَكِيم لَا يُرِيد كَون الظُّلم وَلَا يخلقه فلبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ وَلَقَد لَجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ إِن لله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات معنى وَمُرَاد لَا نعلمهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تجاهل ظَاهر وراجع لنا عَلَيْهِم سواهُ بِسَوَاء فِي خلق الله تَعَالَى أَفعَال عباده ثمَّ يعذبهم عَلَيْهَا وَلَا فرق فَكيف وَهَذَا كُله لَا معنى لَهُ بل الْآيَات كلهَا حق على ظَاهرهَا لَا يحل صرفهَا عَنهُ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} وَقَالَ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ تَعَالَى {تبياناً لكل شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فَأخْبر تَعَالَى أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَنه لَا يفهمهُ أحد وَأَنه لَيْسَ بَيَانا نَعُوذ بِاللَّه من مُخَالفَة الله عز وَجل وَمُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا فرق بَين مَا تلونا من الْآيَات فِي أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون الْكفْر والضلال وَبَين قَوْله تَعَالَى {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {إِن الله يفعل مَا يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {يجتبي من رسله من يَشَاء} وَقَوله {يرْزق من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {يخْتَص برحمته من يَشَاء} وَقَوله تَعَالَى {فعال لما يُرِيد} فَهَذَا الْعُمُوم جَامع لمعاني هَذِه الْآيَات وَنَصّ الْقُرْآن وَإِجْمَاع لأمة على أَن الله عز وَجل حكم بِأَن من حلف فَقَالَ إِن شَاءَ الله أَو إِلَّا أَن يَشَاء الله على أَي شَيْء حلف فَإِنَّهُ إِن فعل مَا حلف عَلَيْهِ أَن لَا يَفْعَله فَلَا حنث عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة تلْزمهُ لِأَن الله تَعَالَى لَو شَاءَ لَا نفذه وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل وَقَالُوا {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لِأَن الله عز وَجل لَا يتناقض كَلَامه بل يصدق بعضه بَعْضًا وَقد أخبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ أَن يُؤمنُوا لآمنوا وَأَنه لَو لم يَشَاء أَن يشركوا مَا أشركوا وَأَنه شَاءَ إضلالهم وَأَنه لَا يُرِيد أَن يطهر قُلُوبهم فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكذب الله عز وَجل قَوْله الَّذِي أخبر بِهِ وَصدقه فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن فِي الْآيَة الَّتِي ذكرُوا بَيَان نقض اعتراضهم بهَا بأوضح برهَان وَهُوَ أَنه لم يقل تَعَالَى أَنهم كذبُوا فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} فَكَانَ يكون لَهُم حِينَئِذٍ فِي الْآيَة مُتَعَلق وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم عِنْدهم لَكِن تخرصاً لَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة معنى غير هَذَا أصلا وَهَذَا حق وَهُوَ قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى لم يُنكر قطّ فِيهَا وَلَا فِي غَيرهَا معنى قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم بل صدقه فِي الْآيَات الْأُخَر وَإِنَّمَا أنكر عز وَجل أَن قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم لَكِن بالتخرص وَقد أكذب الله عز وَجل من قَالَ الْحق الَّذِي لَا حق أَحَق مِنْهُ إِذْ قَالَه غير مُعْتَقد لَهُ قَالَ عز وَجل {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَمَّا قَالُوا أصدق الْكَلَام وَهُوَ الشَّهَادَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ رَسُول غير معتقدين لذَلِك سماهم الله تَعَالَى كاذبين وَهَكَذَا فعل عز وَجل فِي قَوْلهم {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم}(3/86)
لما قَالُوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُوَ الْحق غير عَالمين بِصِحَّتِهِ أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم أَن يقولوه متخرصين وبرهان هَذَا قَول الله تَعَالَى أثر هَذِه الْآيَة نَفسهَا {أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله فهم بِهِ مستمسكون بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} فَبين تَعَالَى أَنهم قَالُوا ذَلِك بِغَيْر علم من كتاب أَتَاهُم وَأَن الَّذين قَالُوا معتقدين لَهُ إِنَّمَا هُوَ أَنهم اهتدوا بِاتِّبَاع آثَار آبَائِهِم فَهَذَا هُوَ الَّذِي عقدوا عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي أنكر تَعَالَى عَلَيْهِم لَا قَوْلهم لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم فَبَطل أَن يكون لَهُم فِي الْآيَة مُتَعَلق أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن سكتوا هَا هُنَا لم يهنهم التمويه وَقُلْنَا لَهُم صلوا الْقِرَاءَة وَأَتمُّوا معنى الْآيَة فَإِن بعد قَوْله تَعَالَى {فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} مُتَّصِلا بِهِ {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فآخر الْآيَة يبين أَولهَا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَيْضا لم يكذبهم فِيمَا قَالُوهُ من ذَلِك بل حكى عز وَجل أَنهم قَالُوا {لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} وَلم يكذبهم فِي ذَلِك أصلا بل حكى هَذَا القَوْل عَنْهُم كَمَا حكى تَعَالَى أَيْضا قَوْلهم {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} وَلَو أنكر عزو جلّ قَوْلهم ذَلِك لأكذبهم فَإذْ لم يكذبهم فَلَقَد صدقهم فِي ذَلِك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله عز وَجل {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ قل تَعَالَوْا اتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا تلونا جَمِيع الْآيَات على نسقها فِي الْقُرْآن واتصالها خوف أَن يعترضوا بِالْآيَةِ ويسكتوا عِنْد قَوْله يخرصون فكثيراً مَا احتجنا إِلَى بَيَان مثل هَذَا من الِاقْتِصَار على بعض الْآيَة دون بَعْضهَا من تمويه من لَا يَتَّقِي الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة من أعظم حجَّة على الْقَدَرِيَّة لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يُنكر عَلَيْهِم قَوْلهم {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} وَلَو أنكرهُ لكذبهم فِيهِ وَإِنَّمَا أنكر تَعَالَى قَوْلهم ذَلِك بِغَيْر علم وَإِن وافقوا الصدْق وَالْحق كَمَا قدمنَا آنِفا وَقد بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِم ذَلِك بقوله عز وَجل فِي الْآيَة نَفسهَا {إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن انتم إِلَّا تخرصون} ثمَّ لم يدعنا تَعَالَى فِي لبس من ذَلِك بل وَاتبع ذَلِك نسقاً وَاحِدًا بِأَن قَالَ {فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} نصدقهم عز وَجل فِي قَوْلهم إِنَّه لَو شَاءَ مَا أشركوا وَلَا آباؤهم وَلَا حرمُوا مَا حرمُوا وَأخْبر تَعَالَى أَنه لَو شَاءَ لهداهم فاهتدوا وَبَين تَعَالَى أَن لَهُ الْحجَّة عَلَيْهِم فِي ذَلِك وَلَا حجَّة لأحد عَلَيْهِ تَعَالَى وَأنكر عز وَجل أَن اخْرُجُوا ذَلِك فَخرج الْعذر لأَنْفُسِهِمْ أَو فَخرج الِاحْتِجَاج على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا تفعل الْمُعْتَزلَة ثمَّ بَين تَعَالَى أَنه إِنَّمَا أنكر أَيْضا تكذيبهم رسله(3/87)
بقوله تَعَالَى {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم} بِالذَّالِ الْمُشَدّدَة بِلَا خلاف من الْقُرَّاء ودعواهم أَن الله تَعَالَى حرم مَا ادعوا تَحْرِيمه وهم كاذبون بقوله تَعَالَى {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا} فوضح بِكُل مَا ذكرنَا بطلَان قَول الْمُعْتَزلَة الْجُهَّال وَبِأَن صِحَة قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى شَاءَ كَون كل مَا فِي الْعَالم من إِيمَان وشرك وَهدى وضلال وَإِن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون ذَلِك كُله وَكَيف يُمكن أَن يُنكر تَعَالَى قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَقد أخبرنَا عز وَجل بِهَذَا نصا فِي قَوْله فِي السُّورَة نَفسهَا {اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ واعرض عَن الْمُشْركين وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} فلاح يَقِينا صدق مَا قُلْنَا من انه تَعَالَى لم يكذبهم فِي قَوْلهم لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء وَهَذَا مثل مَا ذكره الله تَعَالَى من قَوْلهم {أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} فَلم يُورد الله عز وَجل قَوْلهم هَذَا تَكْذِيبًا بل صدقُوا فِي ذَلِك بِلَا شكّ وَلَو شَاءَ الله لأطعم الْفُقَرَاء والمجاويع وَمَا أرى الْمُعْتَزلَة تنكر هَذَا وَإِنَّمَا أورد الله تَعَالَى قَوْلهم هَذَا لاحتجاجهم بِهِ فِي الِامْتِنَاع من الصَّدَقَة وإطعام الجائع وَبِهَذَا نَفسه احتجت الْمُعْتَزلَة على رَبهَا إِذْ قَالَت يكلفنا مَالا يقدرنا عَلَيْهِ ثمَّ يعذبنا بعد ذَلِك على مَا أَرَادَ كَونه منا فسلكوا مَسْلَك الْقَائِلين لم كلفنا الله عز وَجل إطْعَام هَذَا الجائع وَلَو أَرَادَ إطعامه لأطعمه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد تَبًّا لمن عَارض أَمر ربه وَاحْتج عَلَيْهِ بل لله الْحجَّة الْبَالِغَة وَلَو شَاءَ لأطعم من ألزمنا إطعامه وَلَو شَاءَ لهدى الْكَافرين فآمنوا وَلكنه تَعَالَى لم يرد ذَلِك بل أَرَادَ أَن يعذب من لَا يطعم الْمِسْكِين وَمن أضلّهُ من الْكَافرين لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَالَت الْمُعْتَزلَة معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض} وَسَائِر الْآيَات الَّتِي تلوتهم إِنَّمَا هُوَ لَو شَاءَ عز وَجل لاضطرهم إِلَى الْإِيمَان فآمنوا مضطرين فَكَانُوا لَا يسْتَحقُّونَ الْجَزَاء بِالْجنَّةِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَأْوِيل جمعُوا فِيهِ بلايا جمة أَولهَا أَنه قَول بِلَا برهَان وَدَعوى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط وَيُقَال لَهُم مَا صفة الْإِيمَان الضَّرُورِيّ الَّذِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ وَمَا صفة الْإِيمَان غير الضَّرُورِيّ الَّذِي يسْتَحق بِهِ الثَّوَاب عنْدكُمْ فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على فرق أصلا إِلَّا أَن يَقُولُوا هُوَ مثل مَا قَالَ الله عز وَجل إِذْ يَقُول تَعَالَى {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} وَمثل قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح إِن كُنْتُم صَادِقين قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم وَلَا هم ينظرُونَ} وَمثل حَالَة المحتضر عِنْد المعاينة الَّتِي لَا يقبل فِيهَا إيمَانه وكما قيل لفرعون {الْآن وَقد عصيت قبل}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُم كل هَذِه الْآيَات حق وَقد شاهدت الْمَلَائِكَة تِلْكَ الْآيَات وَتلك الْأَحْوَال وَلم يبطل بذلك قبُول إِيمَانهم فَهَلا على أصولكم صَار إِيمَانهم إِيمَان اضطرار لَا يسْتَحقُّونَ عَلَيْهِ جَزَاء فِي الْجنَّة أم صَار جزاؤهم عَلَيْهِ أفضل من جَزَاء كل مُؤمن دونهم وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن إِيمَان الْمُؤمنِينَ إِذْ صَحَّ عِنْدهم صدق النَّبِي بمشاهدة المعجزات من شقّ الْقَمَر وإطعام النَّفر الْكثير من الطَّعَام الْيَسِير ونبعان المَاء الغزير من بَين الْأَصَابِع وشق الْبَحْر وإحياء الْمَوْتَى وأوضح كل ذَلِك مِمَّا يصير فِيهِ من بلغه كمن شَاهده وَلَا(3/88)
فرق فِي صِحَة الْيَقِين لكَونه هَل إِيمَانهم إِلَّا ايمان يَقِين قدصح عِنْدهم وَأَنه حق وَلم يتخالجهم فِيهِ شكّ فَإِن علمهمْ بِهِ كعلمهم أَن ثَلَاثَة أَكثر من اثْنَيْنِ وكعلمهم مَا شاهدوه بحواسهم فِي أَنه كُله حق وعلموه ضَرُورَة أم إِيمَانهم ذَلِك لَيْسَ يَقِينا مَقْطُوعًا بِصِحَّة مَا آمنُوا بِهِ عِنْده كقطعهم على صِحَة مَا علموه بحواسهم وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا بل هُوَ الْآن يَقِين قد صَحَّ علمهمْ بِأَنَّهُ حق لَا مدْخل للشَّكّ فِيهِ عِنْدهم كتيقنهم صِحَة مَا علموه بمشاهدة حواسهم قُلْنَا لَهُم نعم هَذَا هُوَ الْإِيمَان الاضطراري بِعَيْنِه والاففرقوا وَهَذَا الَّذِي موهتم بِأَنَّهُ لَا يسْتَحق عَلَيْهِ من الْجَزَاء كَالَّذي يسْتَحق على غَيره وَبِكُل تمويهكم بِحَمْد الله تَعَالَى إِذْ قُلْتُمْ ان معنى قَوْله تَعَالَى {لجمعهم على الْهدى} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض} إِنَّه كَانَ يضطرهم إِلَى الْإِيمَان فَإِن قَالُوا بل لَيْسَ إِيمَان الْمُؤمنِينَ هَكَذَا وَلَا علمهمْ بِصِحَّة التَّوْحِيد والنبوة على يَقِين وضرورة قيل لَهُم قد أوجبتم أَن الْمُؤمنِينَ على شكّ فِي إِيمَانهم وعَلى عدم يَقِين فِي اعْتِقَادهم وَلَيْسَ هَذَا إِيمَانًا بل كفر مُجَرّد مِمَّن كَانَ دينه هَكَذَا فَإِن كَانَ هَذَا صفة إِيمَان الْمُعْتَزلَة فهم أعلم بِأَنْفسِهِم وَأما نَحن فايماننا وَللَّه الْحَمد إِيمَان ضَرُورِيّ لَا مدْخل للشَّكّ فِيهِ كعلمنا أَن ثَلَاثَة أكبر من اثْنَيْنِ وَأَن كل بِنَاء فمبني وكل من أَتَى بمعجزة فمحق فِي نبوته وَلَا نبالي إِن كَانَ ابْتِدَاء علمنَا اسْتِدْلَالا أم مدْركا بالحواس إِذْ كَانَت نتيجة كل ذَلِك سَوَاء فِي تَيَقّن صِحَة الشَّيْء المعتقدو بِاللَّه تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نسألهم عَن الَّذين يرَوْنَ بعض آيَات رَبنَا يَوْم لَا ينفع نفسا إيمَانهَا أَكَانَ الله تَعَالَى قادا على ان ينفهم بذلك الْإِيمَان ويجزيهم عَلَيْهِ جزاءه لسَائِر الْمُؤمنِينَ أم هُوَ تَعَالَى غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق وَالتَّسْلِيم لله عز وَجل وَإنَّهُ تَعَالَى منع من شَاءَ وَأعْطى من شَاءَ وَأَنه تَعَالَى أبطل إِيمَان بعض من آمن عِنْد رُؤْيَة آيَة من آيَاته وَلم يبطل إِيمَان من آمن عِنْد رُؤْيَة آيَة أُخْرَى وَكلهَا سَوَاء فِي بَاب الإعجاز وَهَذَا هُوَ الْمُحَابَاة والمحضة والجور الْبَين عِنْد الْمُعْتَزلَة فَإِن عجزوا رَبهم تَعَالَى عَن ذَلِك أحالوا وَكَفرُوا وجعلوه تَعَالَى مُضْطَرّا مطبوعاً مَحْكُومًا عَلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد قَالَ عز وَجل {فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين} فَهَؤُلَاءِ قوم يُونُس لما رأواالعذاب آمنُوا فَقبل الله عز وَجل مِنْهُم إِيمَانهم وآمن فِرْعَوْن وَسَائِر الْأُمَم المعذبة لما رَأَوْا الْعَذَاب فَلم يقبل الله عز وَجل مِنْهُم فَفعل الله تَعَالَى مَا شَاءَ لَا معقب لحكمه فَظهر فَسَاد قَوْلهم فِي أَن الْإِيمَان الاضطراري لَا يسْتَحق عَلَيْهِ جَزَاء جملَة وَصَحَّ أَن الله تَعَالَى يقبل إِيمَان من شَاءَ وَلَا يقبل إِيمَان من شَاءَ وَلَا مزِيد ثمَّ يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هبكم لَو صَحَّ لكم هَذَا الْبَاطِل الغث الَّذِي هديتم بِهِ من أَن معنى قَوْله تَعَالَى {لجمعهم على الْهدى} إِنَّمَا هُوَ لاضطرهم إِلَى الْإِيمَان فأخبرونا لَو كَانَ ذَلِك فَأَي ضَرَر كَانَ يكون فِي ذَلِك على النَّاس وَالْجِنّ بل كَانَ يكون فِي ذَلِك الْخَيْر كُله وماذا ضرّ الْأَطْفَال إِذْ لم يكن لَهُم إِيمَان اخْتِيَاري كَمَا تَزْعُمُونَ وَقد حصلوا على أفضل الْمَوَاهِب من السَّلامَة من النَّار بِالْجُمْلَةِ وَمن هول المطلع وصعوبة الْحساب وفظاعة تِلْكَ المواقف كلهَا وَدخل الْجنَّة جَمِيعهم بِسَلام آمِنين منعمين لم يرَوا فَزعًا رَآهُ غَيرهم وَأَيْضًا فَإِن دَعوَاهُم هَذِه الَّتِي كذبُوا فِيهَا على الله عز وَجل إِذْ وصفوا عَن مُرَاد الله تَعَالَى مَا لم يقلهُ تَعَالَى فقد خالفوا فِيهَا الْقُرْآن واللغة لِأَن اسْم الْهدى وَالْإِيمَان لَا يقعان الْبَتَّةَ على معنى غير الْمَعْنى الْمَعْهُود فِي الْقُرْآن واللغة وهما طاعات الله عز وَجل وَالْعَمَل بهَا وَالْقَوْل بهَا والتصديق بجميعها الْمُوجب كل ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن رَضِي الله عز وَجل وجنته وَلَا يُسمى الجماد وَالْحَيَوَان غيرالناطق وَلَا الْمَجْنُون وَلَا الطِّفْل(3/89)
مُؤمنا وَلَا مهتدياً الاعلى معنى جرى أَحْكَام الْإِيمَان على الْمَجْنُون والطفل خَاصَّة وبرهان مَا قُلْنَا قَول الله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} فصح أَن الْهدى الَّذِي لَو أَرَادَ الله تَعَالَى جمع النَّاس عَلَيْهِ هُوَ المنقذ من النَّار وَالَّذِي لَا يمْلَأ جَهَنَّم من أَهله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} فصح أَن الْإِيمَان جملَة شَيْء وَاحِد وَهُوَ المنقذ من النَّار الْمُوجب للجنة وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {من يهد الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً} وَيَقُول {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} وَيَقُول تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} فَهَذِهِ الْآيَات مَبْنِيَّة على أَن الْهدى الْمَذْكُور هُوَ الِاخْتِيَارِيّ عِنْد الْمُعْتَزلَة لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُول لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى لم يرد قطّ بقوله لجمعهم على الْهدى ولآمن من فِي الأَرْض إِيمَانًا فِيهِ إِكْرَاه فَبَطل هذرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالُوا لنا فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى كَون الْكفْر والضلال فأريدوا مَا أَرَادَ الله تَعَالَى من ذَلِك قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَيْسَ لنا أَن نَفْعل مَا لم نؤمر بِهِ أَولا يحل لنا أَن نُرِيد مَا لم يَأْمُرنَا الله تَعَالَى بإرادته وَإِنَّمَا علينا مَا أمرنَا بِهِ فنكره مَا أمرنَا بكراهيته ونحب مَا أمرنَا بمحبته ونريد مَا أمرنَا بإرادته ثمَّ نسألهم هَل أَرَادَ الله تَعَالَى إمراض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أمرضه وَمَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أَمَاتَهُ وَمَوْت إِبْرَاهِيم ابْنه إِذْ أَمَاتَهُ أَو لم يرد الله شَيْئا من ذَلِك فَلَا بُد من أَن الله تَعَالَى أَرَادَ كَون كل ذَلِك فَيلْزم أَن يُرِيدُوا موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومرضه وَمَوْت ابْنه إِبْرَاهِيم لِأَن الله تَعَالَى أَرَادَ كل ذَلِك فَإِن أجابوا إِلَى ذَلِك ألحدوا بِلَا خلاف وعصوا الله وَرَسُوله وَإِن أَبَوا من ذَلِك بَطل مَا أَرَادوا إلزامنا إِيَّاه إِلَّا أَنه لَازم الْهم على أصولهم الْفَاسِدَة لَا لنا لأَنهم صححوا هَذِه الْمَسْأَلَة وَنحن لم نصححها وَمن صحّح شَيْئا لزمَه ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لسنا ننكر فِي حَال مَا يُبَاح لنا فِيهِ إِرَادَة الْكفْر من بعض النَّاس فقد أثنى الله عز وَجل على ابْن آدم فِي قَوْله لِأَخِيهِ {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} فَهَذَا ابْن آدم الْفَاضِل قد أَرَادَ أَن يكون أَخُوهُ من أَصْحَاب النَّار وَأَن يبوء بإثمه مَعَ إِثْم نَفسه وَقد صوب الله عز وَجل قَول مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم قَالَ قد أجيبت دعوتكما} فَهَذَا مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام قد أَرَادَا وأحبا أَن لَا يُؤمن فِرْعَوْن وَأَن يَمُوت كَافِرًا إِلَى النَّار وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه دَعَا على عتبَة بن أبي وَقاص أَن يَمُوت كَافِرًا إِلَى النَّار فَكَانَ كَذَلِك (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وأصدق الله عز وَجل أَنا عَن نَفسِي الَّتِي هُوَ أعلم بِمَا فِيهَا مني أَن الله تَعَالَى يعلم أَنِّي لأسر بِمَوْت عقبَة بن أبي معيط كَافِرًا وَكَذَلِكَ أَمر أبي لَهب لأذاهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولتتم كلمة الْعَذَاب عَلَيْهِمَا وَأَن الْمَرْء ليسر بِمَوْت من استبلغ فِي أَذَاهُ ظلما بِأَن يَمُوت على أقبح طَريقَة وَقد روينَا هَذَا عَن بعض الصَّالِحين فِي بعض الظلمَة وَلَا حرج على من ائتسى بِمُحَمد وبموسى وبأفضل ابْني آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وليت شعري أَي فرق بَين لعن الْكَافِر والظالم وَالدُّعَاء عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ فِي النَّار وَبَين الدُّعَاء عَلَيْهِ بِأَن يَمُوت غير متوب عَلَيْهِ والمسرة بكلا الْأَمريْنِ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَالَ عز وَجل {وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم}(3/90)
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى سلط الْكفَّار على من سلطهم من الْأَنْبِيَاء وعَلى أهل بِئْر مَعُونَة وَيَوْم أحد ونصرهم أملاه لَهُم وابتلاه للْمُؤْمِنين وَإِلَّا فَيُقَال لمن أنكر هَذَا أتراه تَعَالَى كَانَ عَاجِزا عَن مَنعهم فَإِن قَالُوا نعم كفرُوا وناقضوا لِأَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه كف أَيدي الْكفَّار عَن الْمُؤمنِينَ إذشاء وسلط أَيْديهم على الْمُؤمنِينَ وَلم يكفها إذشاء (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ بعض شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن إِسْلَام الله تَعَالَى من أسلم من الْأَنْبِيَاء إِلَى أعدائه فَقَتَلُوهُمْ وجرحوهم وَإِسْلَام من أسلم من الصّبيان إِلَى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الْفَاحِشَة إِذا كَانَ ليعوضهم أفضل الثَّوَاب فَلَيْسَ خذلاناً فَقُلْنَا دَعونَا من لَفْظَة الخذلان فلسنا نجيزها لِأَن الله تَعَالَى لم يذكرهَا فِي هَذَا الْبَاب لَكنا نقُول لكم إِذا كَانَ قتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أعظم مَا يكون من الْكفْر وَالظُّلم وَكَانَ الله عز وَجل بقولكم قد أسلم أنبياءه صلوَات الله عَلَيْهِم إِلَى أعدائهم ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أَن الله عز وَجل أَرَادَ إسْلَامهمْ إِلَى أعدائهم وَإِذا أَرَادَ الله عز وَجل ذَلِك بإقراركم فقد أَرَادَ بإقراركم كَون أعظم مَا يكون من الْكفْر وَشاء وُقُوع أعظم الضلال وَرَضي ذَلِك لأنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام على الْوَجْه الَّذِي تَقولُونَ كاينا مَا كَانَ وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَأَيْضًا فَنَقُول لهَذَا الْقَائِل إِذا كَانَ إِسْلَام الْأَنْبِيَاء إِلَى أَعدَاء الله عز وَجل يَقْتُلُونَهُمْ لَيْسَ ظلما وعبثا على توجيهكم المناقض لَا صولكم فِي أَنه أدّى إِلَى أجزل الْجَزَاء فَلَيْسَ خذلاناً وَكَذَلِكَ إِسْلَام الْمُسلم إِلَى عدوه يحضه ويرتكب فِيهِ الْفَاحِشَة فَهُوَ على أصولكم خير وَعدل فيلزمكم أَن تَتَمَنَّوْا ذَلِك وَأَن تسروا بِمَا نيل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي ذَلِك وَأَن تدعوا فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا خلاف قَوْلكُم وَخلاف إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَلَا يلْزمنَا نَحن ذَلِك لأننا لَا نسر إِلَّا بِمَا أمرنَا الله تَعَالَى بالسرور بِهِ وَلَا نتمنى إِلَّا مَا قد أَبَاحَ لنا تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فِيهِ وكل فعله عز وَجل وَأَن كَانَ عدلا مِنْهُ وَخيرا فقد افْترض تَعَالَى علينا أَن ننكر من ذَلِك مَا سَمَّاهُ من غير ظلم وَأَن نبرأ مِنْهُ وَلَا نتمناه لمُسلم فَإِنَّمَا نتبع مَا جَاءَت بِهِ النُّصُوص فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ قَائِل من الْمُعْتَزلَة إِذا حملتم قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمى} فَمَا يدريكم لَعَلَّه عَلَيْكُم عمى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه لَا يكون عمى إِلَّا على الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَنحن مُؤمنُونَ وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فقد أمنا ذَلِك وَقد ذمّ الله تَعَالَى قوما حملُوا الْقُرْآن على غير ظَاهره فَقَالَ تَعَالَى {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} فَهَذِهِ صفتكم على الْحَقِيقَة الْمَوْجُودَة فِيكُم حسا فَمن حمل الْقُرْآن على مَا خُوطِبَ بِهِ من اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَاتبع بَيَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالقرآن لَهُ هدى وشفاء وَمن بدل كَلمه عَن موَاضعه وَادّعى فِيهِ دعاوى بِرَأْيهِ وكهانات بَطْنه وأسرار وَأعْرض عَن بَيَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبين عَن الله تَعَالَى بأَمْره وَمَال إِلَى قَول المنانية فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْقُرْآن عمى وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن نَوَادِر الْمُعْتَزلَة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أَنهم قَالُوا أَن الشَّهَادَة(3/91)
الَّتِي غبط الله تَعَالَى بهَا الشُّهَدَاء وَأوجب لَهُم بهَا أفضل الْجَزَاء وتمناها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وفضلاء الْمُسلمين لَيْسَ هِيَ قتل الْكَافِر لِلْمُؤمنِ وَلَا قتل الظَّالِم للْمُسلمِ البريء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجنون الْمُعْتَزلَة وجهلهم وإهذارهم ووساوسهم لَا قِيَاس عَلَيْهَا وَحقّ لمن اسْتغنى عَن الله عز وَجل وَقَالَ أَنه يقدر على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ ربه تَعَالَى وَقَالَ أَن عقله كعقول الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سَوَاء بِسَوَاء إِن يَخْذُلهُ الله عز وَجل مثل هَذَا الخذلان نَعُوذ بِاللَّه من خذلانه ونسئله الْعِصْمَة فَلَا عَاصِم سواهُ أما سمعُوا قَول الله عز وَجل {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء} ثمَّ إِنَّهُم فسروا الشَّهَادَة بعقولهم فَقَالُوا إِنَّمَا الشَّهَادَة الصَّبْر على الْجراح المؤدية إِلَى الْقَتْل والعزم على التَّقَدُّم إِلَى الْحَرْب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْكَلَام من الْجُنُون ثَلَاثَة أضْرب أَحدهمَا أَنه كَلَام مُبْتَدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الْخَيْر جملَة وَالثَّانِي أَنه لَو وضح مَا ذكرُوا لكَانَتْ الشَّهَادَة فِي الْحَيَاة لَا بِالْمَوْتِ لِأَن الصَّبْر على الْجراح والعزم على التَّقَدُّم لَا يكونَانِ إِلَّا فِي الْحَيَاة وَالشَّهَادَة فِي سَبِيل الله لَا تكون بِنَصّ الْقُرْآن وصحيح الْأَخْبَار وَإِجْمَاع الْأمة إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالثَّالِث أَن الَّذِي مِنْهُ هربوا فِيهِ وَقَعُوا بِعَيْنِه وَهُوَ أَن الشَّهَادَة الَّتِي تمنى الْمُسلمُونَ بهَا أَن كَانَت الْعَزْم على التَّقَدُّم إِلَى الْحَرْب وَالصَّبْر على الْجراح المودية إِلَى الْقَتْل فقد حصل تمني قتل الْكفَّار للْمُسلمين وتمني أَن يجرحوا الْمُسلمين جراحاً تُؤدِّي إِلَى الْقَتْل وتمني ثبات الْكفَّار على الْكفْر حَتَّى يجرحوا أهل الْإِسْلَام جراحاً قاتلة وَحرب الْكفَّار للْمُسلمين وثباتهم لَهُم وجراحهم إيَّاهُم معاص وَكفر بِلَا شكّ فقد حصلوا على تمني الْمعاصِي وَهُوَ الَّذِي بِهِ شنعوا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل كل مَا شنعت بِهِ الْمُعْتَزلَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْكَلَام فِي اللطف والأصلح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وضل جُمْهُور الْمُعْتَزلَة فِي فصل من الْقدر ضلالا بَعيدا فَقَالُوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عَمْرو وحفصاً الْفَرد وَبشر بن الْمُعْتَمِر ويسيراً مِمَّن اتبعهم أَنه لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى شَيْء أصلح مِمَّا أعطَاهُ جَمِيع النَّاس كافرهم ومؤمنهم وَلَا عِنْده هدي أهْدى مِمَّا قد هدى بِهِ الْكَافِر وَالْمُؤمن هَذَا مستويا وَأَنه لَيْسَ يقدر على شَيْء هُوَ أصلح مِمَّا فعل بالكفار وَالْمُؤمنِينَ ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ جمهورهم أَنه تَعَالَى قَادر على أَمْثَال مَا فعل من الصّلاح بِلَا نِهَايَة وَقَالَ الْأَقَل مِنْهُم وهم عباد وَمن وَافقه هَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتْرك الله تَعَالَى شَيْئا يقدر عَلَيْهِ من الصّلاح من أجل فعله لصلاح مَا وحجتهم فِي هَذَا الْكفْر الَّذِي أَتَوا بِهِ أَنه لَو كَانَ عِنْده أصلح أَو أفضل مِمَّا فعل بِالنَّاسِ ومنعهم إِيَّاه لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما لَهُم وَلَو أعْطى شَيْئا من فَضله بعض النَّاس دون بعض لَكَانَ محابياً ظَالِما والمحاباة جور وَلَو كَانَ عِنْده مَا يُؤمن بِهِ الْكفَّار إِذْ أَعْطَاهُم إِيَّاه ثمَّ مَنعهم إِيَّاه لَكَانَ ظَالِما لَهُم غَايَة الظُّلم قَالُوا وَقد علمنَا أَن إنْسَانا لَو ملك أَمْوَالًا عَظِيمَة تفضل عَنهُ وَلَا يحْتَاج إِلَيْهَا فقصده جَار فَقير لَهُ تحل لَهُ الصَّدَقَة فَسَأَلَهُ درهما يحي بِهِ نَفسه وَهُوَ يعلم فقره إِلَيْهِ وَيعلم أَنه يتدارك بِهِ رمقه فَمَنعه لَا لِمَعْنى فَإِنَّهُ بخيل قَالُوا فَلَو علم أَنه إِذْ أعطَاهُ الدِّرْهَم سهلت عَلَيْهِ أَفعَال كلفه إِيَّاهَا فَمَنعه من ذَلِك لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما فَلَو علم أَنه لَا يصل إِلَى(3/92)
مَا كلفه إِلَّا بذلك الدِّرْهَم فَمَنعه لَكَانَ بَخِيلًا ظَالِما سَفِيها فَهَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ لَا حجَّة لَهُم غير هَذِه الْبَتَّةَ وَذهب ضرار بن عَمْرو وَحَفْص الْفَرد وَبشر بن الْمُعْتَمِر وَمن وافقهم وهم قَلِيل مِنْهُم إِلَى أَن عِنْد الله عز وَجل ألطافاً كَثِيرَة لَا نِهَايَة لَهَا لَو أَعْطَاهَا الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا اختياريا يسْتَحقُّونَ بِهِ الثَّوَاب بِالْجنَّةِ وَقد أَشَارَ إِلَى نَحْو هَذَا وَلم يحققه أَبُو عَليّ الجبائي وَابْنه أَبُو هَاشم وَكَانَ بشر بن الْمُعْتَمِر يكفر من قَالَ بالأصلح والمعتزلة الْيَوْم تَدعِي أَن بشرا تَابَ عَن القَوْل باللطف وَرجع إِلَى القَوْل بالأصلح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحجَّة هَؤُلَاءِ أَنه تَعَالَى قد فعل بهم مَا يُؤمنُونَ عِنْده وَلَو شاؤا فَلَيْسَ لَهُم عَلَيْهِ غير ذَلِك وَلَا يلْزمه أَكثر من ذَلِك فعارضهم أَصْحَاب الْأَصْلَح بِأَن قَالُوا أَن الِاخْتِيَار هُوَ مَا يُمكن فعله وَيُمكن تَركه فَلَو كَانَ الْكفَّار عِنْد إتْيَان الله تَعَالَى بِتِلْكَ الألطاف يختارون الْإِيمَان لأمكن أَن يفعلوه وَأَن لَا يفعلوه أَيْضا فَعَادَت الْحَال إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنهم كَانُوا يُؤمنُونَ وَلَا بُد فَهَذَا إِ ضطرار من الله تَعَالَى لَهُم إِلَى الْإِيمَان لَا اخْتِيَار قَالُوا وَنحن لَا ننكر هَذَا بل الله تَعَالَى قَادر على أَن يضطرهم إِلَى الْإِيمَان كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل} قَالُوا فَالَّذِي فعل تَعَالَى بهم أفضل وَأصْلح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا لَازم لمن لم يقل أَن أَفعَال الْعباد مخلوقه لله تَعَالَى لُزُوما لَا ينفكون عَنهُ وَأما نَحن فَلَا يلْزمنَا وَإِنَّمَا سألناهم هَل الله تَعَالَى قَادر على أَن يَأْتِي الْكفَّار بألطاف يكون مِنْهُم الْإِيمَان عِنْدهَا بِاخْتِيَار وَلَا بُد ويثيبهم على ذَلِك أتم ثَوَاب يثيبه عبدا من عباده أم لَا فَقَالُوا لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَأَن أَصْحَاب الْأَصْلَح غيب عَن الْعَالم أَو كَأَنَّهُمْ إِذا حَضَرُوا فِيهِ سلبت عُقُولهمْ وطمست حواسهم وَصدق الله فقد نبه على مثل هَذَا إِذْ يَقُول تَعَالَى {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} أَتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَا شاهدوا أَن الله عز وَجل منع الْأَمْوَال قوما وَأَعْطَاهَا آخَرين ونبأ قوما وأرسلهم إِلَى عباده وَخلق قوما آخَرين فِي أقاصي أَرض الزنج يعْبدُونَ الْأَوْثَان وأمات قوما من أوليائه وَمن أعدائه عطشاً وَعِنْده مجادح السَّمَوَات وَسَقَى آخَرين المَاء العذب أما هَذِه مُحَابَاة ظَاهِرَة فَإِن قَالُوا إِن كل مَا فعل من ذَلِك فَهُوَ أصلح بِمن فعله بِهِ سألناهم عَن إماتته تَعَالَى الْكفَّار وهم يصيرون إِلَى النَّار وإعطائه تَعَالَى قوما مَالا ورياسة فبطروا وأهلكوا وَكَانُوا مَعَ الْقلَّة والخمول صالحين وأفقر أَقْوَامًا فسرقوا وَقتلُوا كَانُوا فِي حَال الْغنى صالحين وَأَصَح أَقْوَامًا وجمل صورهم فَكَانَ ذَلِك سَببا لكَون الْمعاصِي مِنْهُم وتركوها إِذْ أسنوا وأمرض أَقْوَامًا فتركوا الصَّلَاة عمدا وضجروا وثربوا وَتَكَلَّمُوا بِمَا هُوَ الْكفْر أَو قريب مِنْهُ وَكَانُوا فِي صحتهم شاكرين لله يصلونَ وَيَصُومُونَ أَهَذا الَّذِي فعل الله بهم كَانَ أصلح لَهُم فَإِن قَالُوا نعم كابروا المحسوس وَإِن قَالُوا لَو عاشوا لزادوا قُلْنَا لَهُم فَإِنَّمَا كَانَ أصلح لَهُم أَن يخترمنهم الله عز وَجل قبل الْبلُوغ أَو أَن يُطِيل أعمارهم فِي الْكفْر ويملكهم الجيوش فيهلكوا بهَا أَرض الْإِسْلَام وَيُقَوِّي أَجْسَادهم وأذهانهم فيضل بهم جمَاعَة كَمَا فعل لسَعِيد الفيومي الْيَهُودِيّ وأباريطا اليعقوبي النَّصْرَانِي والمحققين بالْكلَام من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمنانية والدهرية أما كَانَ أصلح لَهُم وَلمن ضل مِنْهُم أَن يميتهم صغَارًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فانقطعوا فلجأ بَعضهم إِلَى أَن قَالَ لَعَلَّه قد سبق فِي علم الله تَعَالَى أَنه لَو أماتهم صغَارًا لكفر خلق من الْمُؤمنِينَ(3/93)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْجَواب من السخافة وُجُوه جمة أَولهَا أَنه دَعْوَى بِالدَّلِيلِ وَالثَّانِي أَنهم لَا ينفكون بِهِ مِمَّا ألزمناهم ونقول لَهُم كَانَ الله عز وَجل قَادِرًا على أَن يميتهم وَلَا يُوجب مَوْتهمْ كفر أحد فَإِن قَالُوا لأعجزوا رَبهم تَعَالَى وَإِن قَالُوا بل كَانَ قَادِرًا على ذَلِك ألزموه الْجور وَالظُّلم على أصولهم وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ وَالثَّالِث أَنه مَا يسمع فِي الْعَالم أسخف من قَول من قَالَ أَن إنْسَانا مُؤمنا يكفر من أجل صَغِير مَاتَ فَهَذَا أَمر مَا شوهد قطّ فِي الْعَالم وَلَا توهم وَلَا يدْخل فِي الْإِمْكَان وَلَا فِي الْعقل وَكم طِفْل يَمُوت كل يَوْم مذ خلق الله تَعَالَى الدُّنْيَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَهَل كفر أحد قطّ من أجل موت ذَلِك الطِّفْل وَإِنَّمَا عهدنا النَّاس يكفرون عِنْدَمَا يَقع لَهُم من الْغَضَب الَّذِي يخلقه الله عز وَجل فِي طبائعهم وبالعصبية الَّتِي آتَاهُم الله عز وَجل أَسبَابهَا وبالملك الَّذِي أَتَاهُم الله إِيَّاه إِذا عارضهم فِيهِ عَارض وَالرَّابِع أَنه لَيْسَ فِي الْجور وَلَا فِي الْعَبَث وَلَا فِي الظُّلم وَلَا فِي الْمُحَابَاة أعظم من أَن يبقي طفْلا حَتَّى يكفر فَيسْتَحق الخلود فِي النَّار وَلَا يميته طفْلا فينجوا من النَّار من أجل صَلَاح قوم لَوْلَا كفر هَذَا المنحوس لكفر أُولَئِكَ وَمَا فِي الظُّلم والمحاباة أقبح من هَذَا وَهل هَذَا إِلَّا كمن وقف إنْسَانا للْقَتْل فَأخذ هُوَ آخر من عرض الطَّرِيق فَقتله مَكَانَهُ كَأَنَّهُ يظْهر فَسَاد هَذَا القَوْل السخيف الملعون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم قد يخرج من صلبه مُؤمن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد يَمُوت الْكَافِر عَن غير عقب وَقد يلد الْكَافِر كفَّارًا أضرّ على الْإِسْلَام مِنْهُ وَمَعَ هَذَا فَكل مَا ذكرنَا يلْزم أَيْضا فِي هَذَا الْجَواب السخيف وَأَيْضًا فقد يخرج من صلب الْمُؤمن كَافِر طاغ وظالم بَاغ يفْسد الْحَرْث والنسل ويثير الظُّلم وَيُمِيت الْحق ويؤسس القتالات والمنكرات حَتَّى يضل بهَا خلق كثير حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا حق وَسنة فَأَي وَجه لخلق هَؤُلَاءِ على أصُول الْمُعْتَزلَة الضلال نعم وَأي معنى وَأي صَلَاح فِي خلق إِبْلِيس ومردة الشَّيَاطِين وإعطائهم الْقُوَّة على إضلال النَّاس من الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وبالضرورة نعلم أَن من نصب المصايد للنَّاس فِي الطرقات وَطرح الشوك فِي ممشاهم فَإِنَّهُ عائب سَفِيه فِيمَا بَيْننَا وَالله تَعَالَى خلق كل مَا ذكرنَا بإقرارهم وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم ثمَّ وَجَدْنَاهُ تَعَالَى قد شهد للَّذين بَايعُوا تَحت الشَّجَرَة بِأَنَّهُ علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم ثمَّ أمات مِنْهُم من ولي مِنْهُم أُمُور الْمُسلمين سَرِيعا ووهن قوي بَعضهم وَملك عَلَيْهِم زياداً وَالْحجاج وبغاة الْخَوَارِج فَأَي مصلحَة فِي هَذَا للحجاج ولقطري أَو لسَائِر الْمُسلمين لَو عقلت الْمُعْتَزلَة وَلَكِن الْحق هُوَ قَوْلنَا وَهُوَ أَن كل ذَلِك عدل من الله وَحقّ وَحِكْمَة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج الْمُسَلط ولقطري ونظايرهما أَرَادَ الله تَعَالَى بذلك هلاكهم فِي الْآخِرَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ نسألهم مَاذَا تَقولُونَ إِذا أَمر الله عز وَجل بجلد الْحرَّة فِي الزناماية وبجلد الْأمة نصف ذَلِك أَلَيْسَ هَذَا مُحَابَاة للْأمة وَإِذ خول الله عز وَجل قوما مَا أَمْوَالًا جمة فعاثوا فِيهَا وَحرم آخَرين أما هَذَا عين الْمُحَابَاة والجور على أصلهم الْفَاسِد فِيمَن منع جَاره الْفَقِير إِلَّا أَن يطردوا قَوْلهم فيصيروا إِلَى قَول من ذكر أَن الْوَاجِب يواسي النَّاس فِي الْأَمْوَال وَالنِّسَاء على السوَاء وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن الْقَوْم يدعونَ نفي التَّشْبِيه ويكفرن من شبه الله تَعَالَى بخلقه ثمَّ لَا نعلم أحد أَشد تَشْبِيها لله تَعَالَى بخلقه مِنْهُ قيلزمونه الحكم ويحرون عَلَيْهِ الْأَمر وَالنَّهْي ويشبهونه بخلقه تَعَالَى فِيمَا يحسن مِنْهُ ويقبح ثمَّ نقضوا أصولهم إِذْ من قَوْلهم أَن مَا صلح بَيْننَا بِوَجْه من الْوُجُوه فلسنا نعبده عَن الْبَارِي تَعَالَى وَنحن نجد فِيمَا بَيْننَا من يحابي(3/94)
أحد عبيده على الآخر فَيجْعَل أحدهم مشرفاً على مَاله وَعِيَاله وحاضناً لوَلَده ويرتضيه لذَلِك من صغره بِأَن يُعلمهُ الْكتاب والحساب وَيجْعَل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذَلِك من صغره وَكَذَلِكَ الْإِمَاء فَيجْعَل إِحْدَاهُنَّ مَحل إزَاره ومطلباً لوَلَده وَيجْعَل الثَّانِيَة خَادِمًا لهَذِهِ فِي الطَّبْخ وَالْغسْل وَهَذَا عدل بِإِجْمَاع الْمُسلمين كلهم فَلم أَنْكَرُوا أَن يحابى الْبَارِي عز وَجل من شَاءَ من عباده بِمَا أحب من التَّفْضِيل ووجدوا فِي الشَّاهِد من يُعْطي المحاويج من مَاله فيعطي أحدهم مَا يُغْنِيه ويخرجه من الْفقر وَذَلِكَ نَحْو ألف دِينَار ثمَّ يُعْطي آخر مثله ألف دِينَار ويزيده ألف دِينَار فَإِنَّهُ وَإِن حابى فمحسن غير ملوم فَلم منعُوا رَبهم من ذَلِك وجوره إِذا فعله وَهُوَ تَعَالَى بِلَا شكّ أتم ملكا لكل مَا فِي الْعَالم من أَحَدنَا لما خوله عز وَجل من الْأَمْلَاك وَنَقَضُوا أصلهم فِي أَن مَا حسن فِي الشَّاهِد بِوَجْه من الْوُجُوه لم يمنعوا وُقُوعه من الْبَارِي عز وَجل ووجدوا فِي الشَّاهِد من يدّخر أَمْوَالًا عَظِيمَة فَيُؤَدِّي جَمِيع الْحُقُوق اللَّازِمَة لَهُ حَتَّى لَا يبْقى بِحَضْرَتِهِ مُحْتَاج ثمَّ يمْنَع سَائِر ذَلِك فَلَا يُسمى بَخِيلًا فلأي شَيْء منعُوا رَبهم عز وَجل من مثل ذَلِك وجوروه وبخلوه إِذا لم يُعْط أفضل مَا عِنْده وَهَذَا كُله بَين لَا إِشْكَال فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم عَن قَول لَهُم عَجِيب وَهُوَ أَنهم أَجَازُوا أَن يخلق الله عز وَجل أَضْعَف الْأَشْيَاء ثمَّ لَا يكون قَادر على أَضْعَف مِنْهُ فَهَكَذَا هُوَ قَادر فَاعل أصلح الْأَشْيَاء ثمَّ لَا يكون قَادر على أصلح مِنْهُ وعَلى أَصْغَر الْأَشْيَاء وَهُوَ الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَلَا يقدر على أَصْغَر مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا إِيجَاب مِنْهُم لتناهي قدرَة الله عز وَجل وتعجيز لَهُ تَعَالَى وَإِيجَاب لحدوثه وَإِبْطَال إلهيته إِذْ التناهي فِي الْقُوَّة صفة الْمُحدث الْمَخْلُوق لَا صفة الْخَالِق الَّذِي لم يزل وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَإِجْمَاع الْمُسلمين وتشبيه الله تَعَالَى بخله فِي تناهي قدرتهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلكنه لَازم لكل من قَالَ بالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وبالقياس لُزُوما صَحِيحا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ ونعوذ بِاللَّه من هَذِه المقالات الْمهْلكَة بل نقُول أَن الله تَعَالَى كل مَا خلق شَيْئا صَغِيرا أَو ضَعِيفا أَو كَبِيرا أَو قَوِيا أَو مصلحَة فَإِنَّهُ أبدا بِلَا نِهَايَة قَادر على خلق أَصْغَر مِنْهُ وأضعف وَأقوى وَأصْلح
قَالَ أَبُو مجمد ونسألهم أيقدر الله تَعَالَى على مَا لَو فعله لكفر النَّاس كلهم فَإِن قَالُوا لَا لَحِقُوا بعلي الأسواري وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا وَلَو قَالُوهُ لأكذبهم الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة} وَإِن قَالُوا نعم هُوَ قَادر على ذَلِك قُلْنَا لَهُم فقد قطعْتُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى يقدر على الشَّرّ وَلَا يقدر على الْخَيْر هَذِه مُصِيبَة على أصولهم ولزمهم أَيْضا فَسَاد أصلهم فِي قَوْلهم أَن من يقدر على شَيْء قدر على ضِدّه لأَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى يقدر على مَا يكفر النَّاس كلهم عِنْده وَلَا يقدر على مَا يُؤمن جَمِيعهم عِنْده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسأل من قَالَ مِنْهُم أَنه تَعَالَى يقدر على مثل مَا فعل من الصّلاح بِلَا نِهَايَة لَا على أَكثر من ذَلِك فَنَقُول لَهُم أَن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الْبَارِي عز وَجل لِأَن بضرورة الْحس نَدْرِي أَنه إِذا استضافت الْمصَالح بَعْضهَا إِلَى بعض كَانَت أصلح من انْفِرَاد كل مصلحَة عَن الْأُخْرَى فَإِذا هُوَ قَادر عنْدكُمْ على ذَلِك وَلم يَفْعَله بعباده فقد لزمَه مَا ألزمتموه لَو كَانَ قَادِرًا على أصلح مِمَّا فعل وَلم يَفْعَله فَقَالُوا هَذَا كالدواء وَالطَّعَام وَالشرَاب لكل(3/95)
ذَلِك مِقْدَار يصلح بِهِ من أعْطِيه فَإِذا استضافت إِلَيْهِ أَمْثَاله كَانَ ضرورا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَلم يقل قطّ ذُو عقل وَمَعْرِفَة بحقائق الْأُمُور إِن غفار كَذَا مصلحَة جملَة وعَلى كل حَال وَلَا أَن الْأكل مصلحَة أبدا وعَلى الْجُمْلَة وَلَا أَن الشَّرَاب مصلحَة بِكُل وَجه أبدا وَإِنَّمَا الْحق أَن مِقْدَارًا من الدَّوَاء مصلحَة لعِلَّة كَذَا فَقَط فَإِن زَاد أَو نقص أَو تعدى بِهِ تِلْكَ الْعلَّة كَانَ ضَرَرا وَكَذَلِكَ الطَّعَام وَالشرَاب هما مصلحَة فِي حَال مَا وبقدر مَا فَمَا راد أَو تعدى بِهِ وقته كَانَ ضَرَرا وَمَا نقص عَن الْكِفَايَة كَانَ ضَرَرا لَيْسَ إِطْلَاق اسْم الصّلاح فِي شَيْء من ذَلِك أولى من إِطْلَاق اسْم الضَّرَر لِأَن كلا الْأَمريْنِ مَوْجُود فِي ذَلِك كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ الصّلاح من الله عز وَجل للْعَبد وَالْهدى لَهُ وَالْخَيْر من قبله عز وَجل كَذَلِك بل على الْإِطْلَاق وَالْجُمْلَة وعَلى كل حَال بل كلما زَاد الصّلاح وكثروا زَاد الْهدى وَكبر وَزَاد الْخَيْر وَكبر فَهُوَ أفضل فَإِن قَالُوا نجد الصَّلَاة وَالصِّيَام إِثْمًا فِي وَقت مَا وَأَجرا فِي آخر قُلْنَا مَا كَانَ من هَذَا مَنْهِيّا عَنهُ فَلَيْسَ صلاحاً الْبَتَّةَ وَلَا هُوَ هدى وَلَا خير بل هُوَ إِثْم وخذلان وضلال وَلَيْسَ فِي هَذَا كلمناكم لَكِن فِيمَا هُوَ صَلَاح حَقِيقَة وَهدى حَقِيقَة وَخير حَقِيقَة وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ أَصْحَاب الْأَصْلَح مِنْهُم أَن من علم الله تَعَالَى أَنه يُؤمن من الْأَطْفَال إِن عَاشَ أَو يسلم من الْكفَّار إِن عَاشَ أَو يَتُوب من الْفُسَّاق إِن عَاشَ فَإِنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يميته الله قبل ذَلِك قَالُوا وَكَذَلِكَ من علم الله تَعَالَى أَنه إِن عَاشَ فعل خيرا فَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يميته الله قبل فعله قَالُوا وَلَا يُمِيت الله تَعَالَى أحدا إِلَّا وَهُوَ يدْرِي أَنه إِن أبقاه طرفَة عين فَمَا زَاد فَإِنَّهُ لَا يفعل شَيْئا من الْخَيْر أصلا بل يكفر أَو يفسق وَلَا بُد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من طوامهم الَّتِي جمعت الْكفْر والسحق وَلم ينفكوا بهَا فَمَا فروا عَنهُ من تجوير الْبَارِي تَعَالَى بزعمهم وَأما الْكفْر فَإِنَّهُ يلْزمهُم أَن إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو بلغ لكفر أَو فسق وليت شعري إِذْ هَذَا عِنْدهم كَمَا زَعَمُوا فَلم أمات بَعضهم أثر وِلَادَته ثمَّ آخر بعد سَاعَة ثمَّ يَوْم ثمَّ يَوْمَيْنِ وَهَكَذَا شهرا بعد شهر وعاماً بعد عَام إِلَى أَن أمات بَعضهم قبل بُلُوغه بِيَسِير وَكلهمْ عِنْدهم سَوَاء فِي أَنهم لَو عاشوا لكفروا أَو فسقوا كلهم وَإِذ عَنى بهم هَذِه الْعِنَايَة فَلم أبقى من الْأَطْفَال من درى أَنه يكفر ويفسق وَنعم ويؤتيهم القوى والتدقيق فِي الْفَهم كالفيومي سعيد بن يُوسُف والمعمس دَاوُد بن قزوان وَإِبْرَاهِيم الْبَغْدَادِيّ وَأبي كثير الطَّبَرَانِيّ متكلمي الْيَهُود وَأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النَّصَارَى وقردان بخت المثاني حَتَّى أَضَلُّوا كثيرا بشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم وَلَا سَبِيل إِلَى وجود فرق أصلا وَهَذَا مُحَابَاة وجور على أصولهم ثمَّ نجده تَعَالَى قد عذب بعض هَؤُلَاءِ الْأَطْفَال باليتم وَالْقمل والعرى وَالْبرد والجوع وَسُوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حَتَّى يموتوا كَذَلِك وَبَعْضهمْ مرفه مخدوم منعم حَتَّى يَمُوت كَذَلِك وَلَعَلَّهُمَا الْأَب وَأم وَكَذَلِكَ يلْزمهُم أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم نعم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم وَسَائِر الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن كل وَاحِد مِنْهُم لَو عَاشَ طرفَة عين على الْوَقْت الَّذِي مَاتَ فِيهِ لكفر أَو فسق ولزمهم مثل هَذَا فِي جِبْرِيل ومكائيل وَحَملَة الْعَرْش عَلَيْهِم السَّلَام إِن كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّهُم يموتون فَإِن تَمَادَوْا على هَذَا كفرُوا وَقد صرح بَعضهم بذلك جهارا وَإِن أَبَوا تناقضوا ولزمهم أَن الله تَعَالَى يُمِيت من يدْرِي أَنه يزْدَاد خيرا ويبقي من يدْرِي أَنه يكفر وَهَذَا(3/96)
عِنْدهم على أصولهم عين الظُّلم والعبث
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأجَاب بَعضهم فِي هَذَا السُّؤَال بِأَن قَالَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امتحنه الله عز وَجل قبل مَوته بِمَا بلغ ثَوَابه على طَاعَته فِيهِ مبلغ ثَوَابه على كل طَاعَة تكون منا لَو عَاشَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جُنُون ناهيك بِهِ لوجوه أَولهَا أَنه مُحَابَاة مُجَرّدَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام على غَيره وهلا فعل ذَلِك بِغَيْرِهِ وَعجل راحتهم من الدُّنْيَا ونكدها وَثَانِيها أَن هَذَا القَوْل كذب بحت وَذَلِكَ أَن المحن فِي الْعَالم مَعْرُوفَة وَهِي إِمَّا فِي الْجِسْم بالعلل وَأما فِي المَال بِالْإِتْلَافِ وَأما فِي النُّفُوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة وَالْقطع دون الأمل لَا محنة فِي الْعَالم تخرج عَن هَذِه الْوُجُوه إِلَّا المحنة فِي الدّين فَقَط نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك فَأَما المحنة فِي الْجِسْم فكذبوا وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا سليم الْأَعْضَاء سويها معافى من مثل محنة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر أهل الْبلَاء نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَأما فِي المَال فَمَا شغله الله عز وَجل مِنْهُ بِمَا يَقْتَضِي محنته فِي فضوله وَلَا أحوجه إِلَى أحد بل أَقَامَهُ على حد الْغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الْفضل فِيمَا يقربهُ من ربه عز وَجل وَأما النَّفس فَأَي محنة لمن قَالَ الله عز وَجل لَهُ {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} وَلمن رفع ذكره وَضمن لَهُ إِظْهَار دينه على الدّين كُله وَلَو كره أعداؤه وَجعل شائنه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عَدو فَأَي خوف وَأي هوان يتوقعه عَلَيْهِ السَّلَام وَأما أَهله وأحبته فاحترم بَعضهم فَأَجره فيهم كإبراهيم ابْنه وَخَدِيجَة وَحَمْزَة وجعفر وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم ورقية بَنَاته رَضِي الله عَنْهُم وَأقر عينه بِبَقَاء بَعضهم وصلاحه كعائشة وَسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَفَاطِمَة ابْنَته وَعلي وَالْعَبَّاس وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأَوْلَاد الْعَبَّاس وَعبد الله بن جَعْفَر وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث رَضِي الله عَن جَمِيعهم فَأَي محنة هَاهُنَا أَلَيْسَ قد أعاذ الله تَعَالَى من مثل محنة حبيب بن عدي سميَّة أم عمار رَضِي الله عَنْهُم أَلَيْسَ من قتل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن أنشر بِالْمِنْشَارِ وأحرق بالنيران أعظم محنة وَمن خَالفه قومه فَلم يتبعهُ مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير وعذب الْجُمْهُور كهود وَصَالح وَلُوط وَشُعَيْب وَغَيرهم اعظم محنة وَهل هَذِه إِلَّا مُكَابَرَة وحماقة وقحة وَأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وَجل على الْجِنّ وَالْإِنْس طَاعَته وأكرمه برسالته وأمنه من كل النَّاس وأكب عدوه لوجهه وَغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَهل هَذِه إِلَّا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مُجَرّدَة لَهُ على جَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ وَهل اسْتحق عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا قطّ على ربه تَعَالَى حَتَّى ابْتَدَأَ بِهَذِهِ النِّعْمَة الجليلة وَقد تَحنث قبله زيد بن عَمْرو بن نفَيْل بن عبد الْعزي الْعَدوي وَقيس بن سَاعِدَة الأبادي وَغَيرهمَا فَمَا أكْرمُوا بِشَيْء من هَذَا وَلَكِن نوك الْمُعْتَزلَة لَيْسَ عَلَيْهِ قِيَاس (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمِمَّا سئلوا عَنهُ أَن قيل لَهُم أَلَيْسَ قد علم الله أَن فِرْعَوْن وَالْكفَّار إِن أعاشهم كفرُوا فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم أبقاهم حَتَّى كفرُوا واخترم على قَوْلهم من علم أَنه إِن عَاشَ كفر وَهَذَا تَخْلِيط لَا يعقل ونقول لَهُم أَيْضا أَيّمَا كَانَ أصلح للْجَمِيع لَا سِيمَا لأهل النَّار خَاصَّة أَن يخترعنا الله تَعَالَى كلنا فِي الْجنَّة كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين أم مَا فعل بِنَا من خلقنَا فِي الدُّنْيَا والتعريض للبلاء فِيهَا وللخلود فِي النَّار (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فلحوا عِنْد هَذِه فَقَالَ بَعضهم لم يخلق الْجنَّة بعد فَقُلْنَا لَهُم هبكم أَن الْأَمر كَمَا قُلْتُمْ فَإِنَّمَا كَانَ أصلح للْجَمِيع أَن يعجل الله عز وَجل خلقهَا ثمَّ يخلقنا فِيهَا أَو يُؤَخر خلقنَا(3/97)
حَتَّى يخلقها ثمَّ يخلقنا مِنْهَا أم خلقه لنا حَيْثُ خلقنَا فَإِن عجزوا رَبهم جَعَلُوهُ ذَا طبيعة متناهي الْقُدْرَة ومشبها لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضَعِيفا وَهَذَا كفر مُجَرّد وَنفي السُّؤَال أَيْضا مَعَ ذَلِك يحسبه فِي أَن يجعلنا كالملائكة وَأَن يجعلنا كلنا أَنْبيَاء كَمَا فعل بِعِيسَى وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ جهلنا بِوَجْه الْمصلحَة فِي ذَلِك مِمَّا يخرج هَذَا الْأَمر عَن الْحِكْمَة فَقُلْنَا لَهُم فاقنعوا بِمثل هَذَا بِعَيْنِه فَمن قَالَ لكم لَيْسَ جهلنا بِوَجْه الْمصلحَة وَالْحكمَة فِي خلق الله تَعَالَى لأفعال عباده وَفِي تَكْلِيفه الْكَافِر وَالْفَاسِق مَالا يُطيق ثمَّ يعذبهما على ذَلِك مِمَّا يُخرجهُ عَن الْحِكْمَة وَهَذَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما نَحن فَلَا نرضى بِهَذَا بل مَا جهلنا ذَلِك لَكِن نقطع على أَن كل مَا فعله الله تَعَالَى فَهُوَ عين الْحِكْمَة وَالْعدْل وَإِن من أَرَادَ إِجْرَاء أَفعاله تَعَالَى على الْحِكْمَة الْمَعْهُودَة بَيْننَا وَالْعدْل الْمَعْهُود بَيْننَا فقد ألحدوا حظارضل وَشبه الله عز وَجل بخلقه لِأَن الْحِكْمَة وَالْعدْل بَيْننَا إِنَّمَا هما طَاعَة الله عز وَجل فَقَط لاحكمة وَلَا عدل غير ذَلِك إِلَّا مَا امرنا بِهِ أَي شَيْء كَانَ فَقَط وَأما الله تَعَالَى فَلَا طَاعَة لأحد عَلَيْهِ فَبَطل أَن تكون أَفعاله جَارِيَة على أَحْكَام العبيد المأمورين المربوبين المسؤلين عَمَّا يَفْعَلُونَ لَكِن أَفعاله تَعَالَى جَارِيَة على الْعِزَّة وَالْقُدْرَة والجبروت والكبرياء وَالتَّسْلِيم لَهُ وَأَن لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَلَا مزِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقد خَابَ من خَالف مَا قَالَ الله عز وَجل وَمَعَ هَذَا كُله فَلم يتخلصوا من رُجُوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على رَبهم تَعَالَى عَن ذَلِك وَقَالَ متكلموهم لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم نعلم مِقْدَار النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك وَكُنَّا أَيْضا نَكُون غير مستحقين لذَلِك النَّعيم بِعَمَل عَمِلْنَاهُ وإدخالنا الْجنَّة بعد استحقاقنا لَهُم أتم فِي النِّعْمَة وأبلغ فِي اللَّذَّة وَأَيْضًا فَلَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم يكن بُد من التوعد على مَا حظر علينا وَلَيْسَت الْجنَّة دَار توعد وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قد علم أَن بَعضهم كَانَ يكفر فَيجب عَلَيْهِ الْخُرُوج من الْجنَّة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا قدرُوا عَلَيْهِ من السخف وَهَذَا كُله عَائِد عَلَيْهِم بحول الله تَعَالَى وقوته وعونه لنا فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما قَوْلهم لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم نعلم مِقْدَار النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك فإننا نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَكَانَ الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلقنا فِيهَا ويخلق فِينَا قُوَّة وطبيعة نعلم بهَا قدر النِّعْمَة علينا فِي ذَلِك أَكثر من علمنَا بذلك بعد دخولنا فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة أَو كعلمنا ذَلِك أم كَانَ غير قَادر على ذَلِك فَإِن قَالُوا كَانَ غير قَادر على ذَلِك عجزوا رَبهم تَعَالَى وَجعلُوا قوته متناهية يقدر على أمرنَا وَلَا يقدر على غَيره وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لعرض دَاخل أَو لبنية متناهية الْقُوَّة وَهَذَا كفر مُجَرّد وَإِن قَالُوا كَانَ الله قَادِرًا على ذَلِك أقرُّوا بِأَنَّهُ عز وَجل لم يفعل بهم أصلح مَا عِنْده وَأَن عِنْده أصلح مِمَّا فعل بهم وَأَيْضًا فَإِن كَانُوا أَرَادوا بذلك أَن اللَّذَّة تعقب الْبلَاء والتعب أَشد سُرُورًا وأبلغ لَزِمَهُم أَن يبطلوا نعم الْجنَّة جملَة لِأَنَّهُ لَيْسَ نعيمها الْبَتَّةَ مشوباً بألم وَلَا تَعب وكل ألم بعد الْعَهْد بِهِ فَإِنَّهُ ينسى كَمَا قَالَ الْقَائِل ... كَانَ الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى
وَلم يفْتَقر يَوْمًا إِذا مَا تمولا ...
فَلَزِمَ على هَذَا الأَصْل أَن يحدد الله تَعَالَى لأهل الْجنَّة آلا مَا فِيهَا ليتجدد لَهُم بذلك وجود اللَّذَّة وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام ويلزمهم أَيْضا أَن يدْخل النَّبِيين وَالصَّالِحِينَ النَّار ثمَّ يخرجهم مِنْهَا إِلَى الْجنَّة فتضاعف اللَّذَّة وَالسُّرُور أضعافاً بذلك وَيُقَال لَهُم كُنَّا نَكُون(3/98)
كالملائكة والحور الْعين فَإِن كَانُوا عَالمين بِمِقْدَار مَا هم فِيهِ من نعيم وَلَذَّة فَكُنَّا نَحن كَذَلِك وَإِن كَانُوا غير عَالمين بِمِقْدَار مَا هم فِيهِ من اللَّذَّة وَالنَّعِيم فَهَلا أَعْطَاهُم هَذِه الْمصلحَة ولأي شَيْء مَنعهم هَذِه الْفَضِيلَة الَّتِي أَعْطَاهَا لنا وهم أهل طَاعَته الَّتِي لم تشب بِمَعْصِيَة فَإِن قَالُوا إِن الْمَلَائِكَة وحور الْعين قد شاهدوا عَذَاب الْكفَّار فِي النَّار فَقَامَ لَهُم مقَام التَّرْهِيب قُلْنَا لَهُم وَهل الْمُحَابَاة والجور إِلَّا أَن يعرض قوما للمعاطب ويبقيهم حَتَّى يكفروا فيخلدوا فِي النَّار ليوعظ بهم قوم آخَرُونَ خلقُوا فِي الْجنَّة والرفاهية سرمداً أبدا لَا بُد وَهل عين الظُّلم إِلَّا هَذَا فِيمَا بَيْننَا على أصُول الْمُعْتَزلَة وَكَمن يَقُول من الطغاة قتل الثُّلُث فِي صَلَاح الثُّلثَيْنِ صَلَاح وَهل فِي الشَّاهِد عَبث وسفه أعظم من عَبث من يَقُول لآخر هَات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع فِي قفاك وأنتف سبالك وأمشيك فِي طَرِيق ذَات شوك دون رَاحَة فِي ذَلِك وَلَا مَنْفَعَة وَلَكِن لأعطيك بعد ذَلِك ملكا عَظِيما ولعلك فِي خلال ضربي إياك أَن تتضرر فَتَقَع فِي بِئْر مُنْتِنَة لَا يخرج مِنْهَا أبدا فَأَي مصلحَة عِنْد ذِي عقل فِي هَذَا الْحَال لَا سِيمَا وَهُوَ قَادر على أَن يُعْطِيهِ ذَلِك الْملك دون أَن يعرضه لشَيْء من هَذَا الْبلَاء فَهَذِهِ صفة الله عز وَجل عِنْد الْمُعْتَزلَة لَا يسْتَحقُّونَ من أَن يصفوا أنفسهم بِأَن يصفوا الله تَعَالَى بِالْعَدْلِ وَالْحكمَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما نَحن فَنَقُول لَو أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يفعل هَذَا كُله بِعَيْنِه مَا أنكرناه ولعلمنا أَنه مِنْهُ تَعَالَى حق وَعدل وَحِكْمَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْعجب أَن يكون الله تَعَالَى يخلقنا يَوْم الْقِيَامَة خلقا لَا نجوع فِيهِ أبدا وَلَا نعطش وَلَا نبول وَلَا نمرض وَلَا نموت وَينْزع مَا فِي صدورنا من غل ثمَّ لَا يقدر على أَن يخلقنا فِيهَا وَلَا على أَن يخلقنا خلقا نلتذ مَعَه بأبتدائنا فِيهَا كالتذاذنا بِدُخُولِهَا بعد طول النكد فَهَل يفرق بَين شيءمن هَذَا إِلَّا من لَا عقل لَهُ أَو مستخف بالباري تَعَالَى وبالدي وَأما قَوْلهم لَو خلقنَا الله تَعَالَى فِي الْجنَّة لَكنا غير مستحقين لذَلِك النَّعيم فَإنَّا نقُول لَهُم أخبرونا عَن الْأَعْمَال الَّتِي استحققتم بهَا الْجنَّة عِنْد أَنفسكُم أفبضرورة الْعقل علمْتُم أَن من عَملهَا فقد اسْتحق الْجنَّة دينا وَاجِبا على ربه تَعَالَى أم لم تعلمُوا ذَلِك وَلَا وَجب ذَلِك إِلَّا حَتَّى أعلمنَا الله عز وَجل أَنه يفعل وَجعل الْجنَّة جَزَاء على هَذِه الْأَعْمَال فَإِن قَالُوا بِالْعقلِ عرفنَا اسْتِحْقَاق الْجنَّة على هَذِه الْأَعْمَال كابروا وكذبوا على الْعقل وَكَفرُوا لأَنهم بِهَذَا القَوْل يوجبون الِاسْتِغْنَاء عَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ولزمهم أَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل الْجنَّة جَزَاء على هَذِه الْأَعْمَال لَكِن وَجب ذَلِك عَلَيْهِ حتما لَا بِاخْتِيَارِهِ وَلَا بِأَنَّهُ لَو شَاءَ غير ذَلِك لَكَانَ لَهُ وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأَيْضًا فَإِن شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السبت وَتَحْرِيم الشحوم وَغير ذَلِك قد كَانَ الْجنَّة جَزَاء على الْعَمَل بهَا ثمَّ صَارَت الْآن جَهَنَّم جَزَاء على الْعَمَل بهَا فَهَل هَا هُنَا إِلَّا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ ذَلِك فَقَط وَلَو لم يرد ذَلِك لم يجب من ذَلِك شَيْء فَإِن قَالُوا بل مَا علمنَا اسْتِحْقَاق الْجنَّة بذلك إِلَّا بِخَبَر الله تَعَالَى أَنه حكم بذلك فَقَط قيل لَهُم فقد كَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يخبرنا أَنه جعل الْجنَّة حَقًا لنا يخْتَر عَنَّا فِيهَا كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين وَأَيْضًا فقد كذبُوا فِي دَعوَاهُم اسْتِحْقَاق الْجنَّة بأعمالهم فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا من أحد ينجيه عمله أَو يدْخلهُ الْجنَّة عمله قيل لَا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فبضرورة الْعقل نَدْرِي أَن مَا زَاد على الْمُمَاثلَة فِي الْجَزَاء فِيمَا بَيْننَا فَإِنَّهُ تفضل مُجَرّد فِي الْإِحْسَان وجور فِي الْإِسَاءَة هَذَا حكم الْمَعْهُود(3/99)
فِي الْعقل فعل أصُول الْمُعْتَزلَة يلْزمهُم أَن بَقَاء أَحَدنَا فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار أَكثر من إحسانه أَو إساءته جَزَاء على مَا سلف مِنْهُ فضل مُجَرّد وعقاب زايد على مِقْدَار الجرم وَقد فعله الله عز وَجل بِلَا شكّ وَهُوَ عدل وَحِكْمَة وَحقّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَن دُخُول الْجنَّة على وَجه الْجَزَاء على الْعَمَل أَعلَى دَرَجَة أَسْنَى رُتْبَة من دُخُولهَا بالتفضل الْمُجَرّد فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا خطأ مَحْض لَا نناقد علمنَا أَن هَذَا الحكم إِنَّمَا يَقع بَين الْأَكفاء والمتماثلين وَأما الله تَعَالَى فَلَيْسَ لَهُ كفوا أحد وَمن كَانَ عبدا لآخر فَإِن إقبال السَّيِّد عَلَيْهِ بالتفضل عَلَيْهِ الْمُجَرّد والاختصاص والمحاباة أَسْنَى لَهُ وَأَعْلَى وأشرف لرتبته وَأَرْفَع لدرجته من أَن لَا يُعْطِيهِ شَيْئا بِمِقْدَار مَا يسْتَحقّهُ لخدمته ويستخبره إِيَّاه هَذَا مَا يُنكره إِلَّا معاند فَكيف وَلَيْسَ لأحد على الله حق وَحِينَئِذٍ كل مَا وهبه الله تَعَالَى لأحد بَين أنبيائه وَمَلَائِكَته عَلَيْهِم السَّلَام وكل مَا أخبر تَعَالَى أَنه أوجبه وَكتبه على نَفسه وَجعله حَقًا لِعِبَادِهِ فَكل ذَلِك تفضل مُجَرّد من الله عز وَجل واختصاص مبدأ لَو لم ينعم بِهِ عز وَجل لم يجب عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ لَا يَقُول غير هَذَا إِلَّا مَدْخُول الدّين فَاسد الْعقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم يقرونَ أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم جَمِيعهم السَّلَام وَصَدقُوا فِي هَذَا ثمَّ نقضوا هَذَا الأَصْل بأصلهم هَذَا السخيف من قَوْلهم أَن من دخل الْجنَّة بعد التَّعْرِيض للبلاء فَهُوَ أفضل من ابْتِدَاء النِّعْمَة والتقريب فَنحْن على قَوْلهم أفضل من الْمَلَائِكَة على جَمِيعهم السَّلَام وَقد قَالُوا أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْأَنْبِيَاء فعلى هَذَا التَّقْرِيب أَن يكون نَحن أفضل من الْمَلَائِكَة بِدَرَجَة وَأفضل من النَّبِيين بدرجتين وَهَذَا كفر مُجَرّد وتناقض ظَاهر وَأما قَوْلهم أننا لَو خلقنَا فِي الْجنَّة لم يكن بُد من التوعد والتحذر فإننا نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق حَتَّى لَو كَانَ مَا يَقُولُونَ لما منع من ذَلِك أَن يخلقوا فِي الْجنَّة ثمَّ يطلعوا مِنْهَا فيروا النَّار ويعاينوا وحشتها وَهُوَ لَهَا وقبحها ونفار النُّفُوس عَنْهَا كَالَّذي يعرض لنا عِنْد الِاطِّلَاع على الغيران العقيمة الْمظْلمَة وَإِن كُنَّا قطّ لم نقع فِيهَا وَلَا شاهدنا من وَقع فِيهَا أبل ذَلِك كَانَ يكون أبلغ فِي التحذير من وصفهَا دون رُؤْيَة لَكِن كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ وحور الْعين فَيكون ذَلِك أدعى لَهُم إِلَى الشُّكْر وَالْحَمْد والاغتباط بمكانهم وَاجْتنَاب مَا نهو عَنهُ خوف مُفَارقَة مَا قد حصلوا عَلَيْهِ ثمَّ نقُول لَهُم أَيْضا قُولُوا هَذَا فهم بعد دُخُولهمْ الْجنَّة أمباح لَهُم الْكفْر والشتم وَالضَّرْب فِيمَا بَينهم أم مَحْظُور عَلَيْهِم لَزِمَهُم تمادي التوعد والتحذير هُنَالك قُلْنَا نَكُون لَو اخترعنا فِيهَا على الْحَال الَّتِي تكون فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة وَلَا فرق وَكَانَ يكون أصلح لجميعنا بِلَا شكّ فَإِن قَالُوا قد سبقت الطَّاعَة فِي الدُّنْيَا قيل لَهُم وَكَذَلِكَ كَانَت تسبق مِنْهُم فِي الْجنَّة كالملائكة سَوَاء بِسَوَاء وهم لَا يَقُولُونَ أَن الْمعاصِي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مُبَاح لَهُم فِي الْجنَّة وَلَا يَقُولُونَ هَذَا أحد فَيحْتَاج إِلَى كسر هَذَا القَوْل فَإِن لجؤا إِلَى قَول أبي الْهُذيْل أَن أهل الْجنَّة مضطرون لَا مختارون قيل لَهُم وَكُنَّا نَكُون فِيهَا كَذَلِك أَيْضا كَمَا نَكُون يَوْم الْقِيَامَة فِيهَا فَهَذَا أَكَانَ أصلح للْجَمِيع بِلَا شكّ وَهَذَا مَا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم أَن الله علم أَن بَعضهم يكفر وَلَا بُد فَيجب عَلَيْهِ الْخُرُوج من الْجنَّة قُلْنَا لَهُم أيقدر الله على خلاف مَا علم أم لَا فَإِن قَالُوا نعم يقدر وَلَكِن لَا يفعل أقرُّوا أَنه فعل من ترك ابتدائنا فِي الْجنَّة إِمْضَاء لما سبق فِي علمه غير مَا كَانَ أصلح لنا بِلَا شكّ وَرَجَعُوا إِلَى الْحق الَّذِي هُوَ(3/100)
قَوْلنَا أَنه تَعَالَى فعل مَا سبق فِي علمه من تَكْلِيف مَالا يُطَاق وَمن خلقه تَعَالَى الْكفْر وَالظُّلم وإنعامه على من شَاءَ وَحده لَا شريك لَهُ وَتركُوا قَوْلهم فِي الْأَصْلَح وَإِن قَالُوا لَا يقدر على غير مَا علم أَن يَفْعَله جَعَلُوهُ محيراً مُضْطَرّا عَاجِزا متناهي الْقُوَّة ضَعِيف الْقُدْرَة مُحدثا فِي أَسْوَأ حَالَة مِنْهُم وَهَكَذَا كفر وَخلاف لِلْقُرْآنِ ولإجماع الْمُسلمين نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم أَي مصلحَة للحشرات وَالْكلاب والبق والدود فِي خلقهَا حشرات وَلم يخلقها نَاسا مكلفين معرضين لدُخُول الْجنَّة فَإِن قَالُوا لَو جعلهَا نَاسا لكفروا قيل لَهُم فقد جعل الْكفَّار نَاسا فَكَفرُوا فَهَلا نظر لَهُم كَمَا نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لِئَلَّا يكفروا فَكَانَ أصلح لَهُم على قَوْلكُم وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم فَنَقُول لَهُم إِذا قُلْتُمْ أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على لطف لَو أَتَى بِهِ الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ مَعَه الْجنَّة لكنه قَادر على أَن لَا يضطرهم إِلَى الْإِيمَان أخبرونا عَن إيمَانكُمْ الَّذِي تستحقون بِهِ الثَّوَاب هَل يشوبه عنْدكُمْ شكّ أم يُمكن بِوَجْه من الْوُجُوه أَن يكون عنْدكُمْ بَاطِلا فَإِن قَالُوا نعم يشوبه شكّ وَيُمكن أَن يكون بَاطِلا أقرُّوا على أنفسهم بالْكفْر وكفونا مؤنتهم وَإِن قَالُوا لَا يشوبه شكّ وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون بَاطِلا قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ الِاضْطِرَار بِعَيْنِه لَيست الضَّرُورَة فِي الْعلم شَيْئا غير هَذَا إِنَّمَا هُوَ معرفَة لَا يشوبها شكّ لَا يُمكن اخْتِلَاف مَا عرف بهَا فَهَذَا هُوَ علم الضَّرُورَة نَفسه وَمَا عدا هَذَا فَهُوَ ظن وَشك فَإِن قَالُوا إِن الِاضْطِرَار مَا علم بالحواس أَو بِأول الْعقل وَمَا عداهُ فَهُوَ مَا عرف بالاستدلال قُلْنَا هَذِه دَعْوَى فَاسِدَة لِأَنَّهَا بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وتقسيمنا هُوَ الْحق الَّذِي يعرف ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسألهم أَيّمَا كَانَ أصلح للْعَالم أَن يكون برياً من السبَاع والأفاعي وَالدَّوَاب العادية أَو أَن يكون فِيهِ كَمَا هِيَ مسلطة على النَّاس وعَلى سَائِر الْحَيَوَان وعَلى الْأَطْفَال فَإِن قَالُوا خلق الله الأفاعي وَالسِّبَاع كخلق الْحفر والحرث ومزجرة للْكفَّار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من ظريف الْجُنُون وَلَقَد ضل بخلقتها جمع من المخذولين مِمَّن جرى مجْرى الْمُعْتَزلَة فِي أَن يتعقبوا على الله عز وَجل فعله كالمنانية وَالْمَجُوس اللَّذين جعلُوا إِلَهًا خَالِقًا غير الْحَكِيم الْعدْل ثمَّ نقُول للمعتزلة إِن كَانَت كَمَا تَقولُونَ مصلحَة فَكَانَ الاستكثار من الْمصلحَة أصلح وأبلغ فِي الزّجر والتحريف وكل هَذِه الدعاوي مِنْهُم حماقات ومكابرات بِلَا برهَان لَيست أجوبتهم فِيهَا بأصلح من أجوبة المنانية وَالْمَجُوس وَأَصْحَاب التناسخ بل كلهَا جَارِيَة فِي ميدان وَاحِد من أَنَّهَا كلهَا دَعْوَى فَاسِدَة بِلَا برهَان بل الْبُرْهَان ينقضها وَكلهَا رَاجِعَة إِلَى أصل وَاحِد وَهُوَ تَعْلِيل أَفعَال الله عز وَجل الَّذِي لَا عِلّة لَهَا أصلا وَالْحكم عَلَيْهِ بِمثل الحكم على خلقه فيمَ يحسن مِنْهُ ويقبح تَعَالَى الله عَن ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لأَصْحَاب الْأَصْلَح خَاصَّة مَا معنى دعائكم فِي الْعِصْمَة وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى قد عصم الْكفَّار كَمَا عصم الْمُؤمنِينَ فَلم يعتصموا وَمَا معنى دعائكم فِي الْإِعَادَة من الخذلان وَفِي الرَّغْبَة فِي التَّوْفِيق وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لَيْسَ عِنْده أفضل مِمَّا قد أعطاكموه وَلَا فِي قدرته زِيَادَة على مَا قد فعله بكم وَأي معنى لدعائكم فِي التَّوْبَة وَأَنْتُم تقطعون على أَنه لَا يقدر على أَن يعينكم فِي ذَلِك بِمِقْدَار شَعْرَة زَائِدَة على مَا قد أعطاكموه فَهَل دعاؤكم فِي ذَلِك الإضلال وهزل وهزء كمن دَعَا إِلَى الله أَن يَجعله من بني آدم أَو أَن يَجْعَل النَّبِي(3/101)
نَبيا وَالْحجر حجرا وَهل بَين الْأَمريْنِ فرق فَإِن الدُّعَاء عمل أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ فَقيل لَهُم إِن أوامره تَعَالَى من جملَة أَفعاله بِلَا شكّ وأفعاله عنْدكُمْ تجْرِي على مَا يحسن فِي الْعقل ويقبح فِيهِ فِي الْمَعْهُود وَفِيمَا بَيْننَا وعَلى الْحِكْمَة عنْدكُمْ وَقد علمنَا أَنه لَا يحسن فِي الشَّاهِد بِوَجْه من الْوُجُوه أَن يَأْمر أحدا يرغب إِلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِيَدِهِ وَلَا فِيمَا قد أعطَاهُ إِيَّاه وكلا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ عَبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أَن الله تَعَالَى حكم بِهَذَا وَفعله وَهُوَ أمره لَهُم بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ أما فِيمَا لَا تُوصَف عِنْدهم بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَأما فِيمَا قد أَعْطَاهُم إِيَّاه وَهُوَ عِنْدهم عدل وَحِكْمَة فنقضوا أصلهم الْفَاسِد بِلَا شكّ وَأما نَحن فإننا نقُول أَن الدُّعَاء عمل أمرنَا الله عز وَجل بِهِ فِيمَا يقدر عَلَيْهِ ثمَّ إِن شَاءَ أَعْطَانَا وَإِن شَاءَ منعنَا إِيَّاه لَا معقب لحكمه وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِن فِي ابْتِدَاء الله عز وَجل كِتَابه الْمنزل إِلَيْنَا بقوله تَعَالَى آمراً لنا أَن نقُوله رَاضِيا منا أَن نقُوله {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} ثمَّ خَتمه تَعَالَى كِتَابه آمراً لنا أَن نقُوله رَاضِيا بقوله {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} لَا بَين بَيَان فِي تَكْذِيب الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْد الله تَعَالَى أصلح مِمَّا فعل وَإنَّهُ غير قَادر على كف وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَلَا على هدي الْكفَّار هدى يسْتَحقُّونَ بِهِ الثَّوَاب كَمَا وعد المهتدين لِأَنَّهُ عز وَجل نَص على أَنه هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهُ العون لنا وَالْهدى إِلَى صِرَاط من خصّه بِالنعْمَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى وضل فولا أَنه تَعَالَى قَادِرًا على الْهدى الْمَذْكُور وَإِن عِنْده عونا على ذَلِك لَا يؤتيه إِلَّا من شَاءَ دون من لم يَشَأْ وَإنَّهُ تَعَالَى أنعم على قوم بِالْهدى وَلم ينعم بِهِ على آخَرين لما أمرنَا أَن نَسْأَلهُ من ذَلِك مَا لَيْسَ يقدر عَلَيْهِ أَو مَا قد أعطَاهُ إِيَّاه وَنَصّ تَعَالَى على أَنه قَادر على صرف وَسْوَسَة الشَّيْطَان فلولا أَنه تَعَالَى يصرفهَا عَمَّن يَشَاء لما أمرنَا عز وَجل أَن نستعيذ مِمَّا لَا يقدر على الإعاذة مِنْهُ أَو مِمَّا قد أعاذنا بعد مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا مخلص لَهُم من هَذَا أصلا ثمَّ نسألهم أَي مصلحَة للعصاة فِي أَن جعل بعض حركاتهم وسكونهم كَبَائِر يسْتَحقُّونَ عَلَيْهَا النَّار وَجعل بعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة وَلَقَد كَانَ أصلح أَن يَجْعَلهَا كلهَا صغائر مغفورة وَلَقَد أصلح أَن يَجْعَلهَا كلهَا صغائر مغفورة فَإِن قَالُوا هَذَا أزْجر عَن الْمعاصِي وَأصْلح قيل لَهُم فَهَلا إِذْ هُوَ كَمَا تَقولُونَ جعلهَا جَمِيعهَا كَبَائِر زاجرة فَهُوَ أبلغ فِي الزّجر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن آيَات كَثِيرَة لَا يحْتَمل تَأْوِيلا بتكذيب المعجزين لرَبهم تَعَالَى وَلَيْسَ يُمكنهُم وجود آيَة وَلَا سنة يتعلقون بهَا أصلا فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} أفلم يكن عِنْده أصلح من فتْنَة يضل بهَا بعض خلقه حاشى لله من هَذَا الْكفْر والتعجيز وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن الَّذين أثنى عَلَيْهِم من مؤمني الْجِنّ انهم قَالُوا {وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَصدقهمْ الله عز وَجل فِي ذَلِك إِذْ لَو أنكرهُ لما أوردهُ مثنياً عَلَيْهِم بذلك وَهَذَا فِي غَايَة الْبَيَان الَّذِي قد هلك من خَالفه وَبَطل بِهِ قَول الضلال الْمُلْحِدِينَ الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى أَرَادَ رشد فِرْعَوْن وإبليس وَأَنه لَيْسَ عِنْده أصلح وَلَا يقدر لَهما على هدى(3/102)
أصلا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فليت شعري أَي مصلحَة لَهُم فِي أَن يذرأهم لِجَهَنَّم نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه الْمصلحَة وَقَالَ تَعَالَى {وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته} فصح أَنه تَعَالَى هُوَ الَّذِي يقي السَّيِّئَات وَأَن الَّذِي رَحمَه هُوَ الَّذِي وَقَاه السَّيِّئَات لِأَن من لم يقه السَّيِّئَات فَلم يرحمه وَبلا شكّ أَن من وَقَاه السَّيِّئَات فقد فعل بِهِ أصلح مِمَّا فعل بِمن لم يقه إِيَّاهَا هَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} وَلَا يشك من لدماغه أقل سَلامَة أَو فِي وَجهه من برد الْحيَاء شَيْء فِي إِن هَذَا كَانَ أصلح بالكفار من إدخالهم النَّار بِأَن لَا يؤتهم ذَلِك الْهدى وَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ من دُخُولهمْ الْجنَّة بِغَيْر اسْتِحْقَاق وَقَالَ تَعَالَى {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم} فليت شعري أَيْن فعله تَعَالَى بهؤلاء نسْأَل الله أَن يجعلنا مِنْهُم من فعله بالذين قَالَ فيهم أَنه ختم على قُلُوبهم وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَجعل صُدُورهمْ ضيقَة حرجة إِن من سَاوَى بَين الْأَمريْنِ وَقَالَ أَن الله تَعَالَى لم يُعْط هَؤُلَاءِ إِلَّا مَا أعْطى هَؤُلَاءِ وَلَا أعْطى من الْهدى والاختصاص مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَيحيى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا مَا أعْطى إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَأَبا جهل وَأَبا لَهب وَالَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمتقيلين وَالشّرط والبغائيين والعوهر وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد بل سوى فِي التَّوْفِيق بَين جَمِيعهم وَلم يقدر لَهُم على مزِيد من الصّلاح لقَلِيل الْحيَاء عديم الدّين وَمَا جَوَابه إِلَّا قَوْله تَعَالَى {إِن رَبك لبالمرصاد} وَقَالَ عز وَجل {كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فأيما كَانَ أصلح للْكفَّار المخلدين فِي النَّار أَن يَكُونُوا مَعَ الْمُؤمنِينَ أمة وَاحِدَة لَا عَذَاب عَلَيْهِم أم بعثة الرُّسُل إِلَيْهِم وَهُوَ عز وَجل يدْرِي أَنهم لَا يُؤمنُونَ فَيكون ذَلِك سَببا إِلَى تخليدهم فِي جَهَنَّم وَقَالَ تَعَالَى {وأملي لَهُم أَن كيدي متين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا إِنَّمَا نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَلَهُم عَذَاب مهين} وَقَالَ تَعَالَى {أيحسبون إِنَّمَا نمدهم بِهِ من مَال وبنين نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْبَيَان فِي أَن الله عز وَجل أَرَادَ بهم وَفعل بهم مَا فِيهِ فَسَاد أديانهم وهلاكهم الَّذِي هُوَ ضد الصّلاح وَإِلَّا فَأَي مصلحَة لَهُم فِي أَن يستدرجوا إِلَى الْبِلَاد من حَيْثُ لَا يعلمُونَ وَفِي الْإِمْلَاء لَهُم ليزدادوا إِثْمًا وَنَصّ تَعَالَى إِن كل ذَلِك الَّذِي فعله لَيْسَ مسارعة لَهُم فِي الْخَيْر فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ الهلكى جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميراً} فَهَل بعد هَذَا بَيَان فِي أَن الله عز وَجل أَرَادَ هلاكهم ودمارهم وَلم يرد صَلَاحهمْ فَأمر مُتْرَفِيهَا بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً فأيما كَانَ أصلح لَهُم أَن لَا يؤمروا فيسلموا أَو أَن يؤمروا وَهُوَ تَعَالَى يدْرِي أَنهم لَا يأتمرون فَيدْخلُونَ النَّار فَإِن قَالُوا فاحملوا قَوْله تَعَالَى أمرنَا مُتْرَفِيهَا على ظَاهره قُلْنَا نعم هَكَذَا نقُول وَلم يقل تَعَالَى أَنه أَمرهم بِالْفِسْقِ وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى أمرناهم فَقَط وَقد نَص تَعَالَى(3/103)
على أَنه لَا يَأْمر بالفحشاء فصح قَوْلنَا أَيْضا وَقَالَ عز وَجل {وَأَن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} فنص تَعَالَى على أَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو توَلّوا لَا يدل قوما غَيرهم لَا يكونُونَ أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ خيرا مِنْهُم فقد صَحَّ أَنه عز وَجل قَادر على أَن يخلق أصلح مِنْهُم وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا لقادرون على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} وَفِي هَذَا كِفَايَة وَقَالَ تَعَالَى {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَهَل فِي الْبَيَان أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يفعل أصلح مِمَّا فعل وَإِن عِنْده تَعَالَى أصلح مِمَّا أعْطى خلقه أبين أَو أوضح أَو أصح من إخْبَاره تَعَالَى أَنه قَادر على أَن يُبدل نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ أحب النَّاس إِلَيْهِ خيرا من الْأزْوَاج اللواتي أعطَاهُ واللواتي هن خير النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل قَول الْبَقر الشاذة أَصْحَاب الْأَصْلَح فِي أَنه تَعَالَى لَا يقدر على أصلح مَا فعل بعباده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد نسْأَل الله الْعَافِيَة مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ ونسأله الْهدى الَّذِي حرمهم إِيَّاه وَكَانَ قَادِرًا على أَن يتفضل عَلَيْهِم بِهِ فَلم يرد وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل من منع قدرَة الله عز وَجل عَن شَيْء مِمَّا ذكرنَا فَلَا شكّ فِي كفره لِأَنَّهُ عجز ربه تَعَالَى وَخَالف جَمِيع أهل الْإِسْلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا إِذا كَانَ عِنْده أصلح مِمَّا فعل بِنَا وَلم يؤتنا إِيَّاه وَلَيْسَ بَخِيلًا وَخلق أَفعَال عباده وعذبهم عَلَيْهَا وَلم يكن ظَالِما فَلَا تنكروا على من قَالَ أَنه جسم وَلَا يشبه خلقه وَأَنه يَقُول غير الْحق وَلَا يكون كَاذِبًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّه تَعَالَى لم يقل أَنه جسم وَلَو قَالَه لقلناه وَلم يكن ذَلِك تَشْبِيها لَهُ بخلقه وَلم يقل تَعَالَى أَن يَقُول غير الْحق بل قد أبطل ذَلِك وَقطع بِأَن قَوْله الْحق فَمن قَالَ على الله مَا لم يقلهُ فَهُوَ ملحد كَاذِب على الله عز وَجل وَقد قَالَ تَعَالَى أَنه خلق كل شَيْء وخلقنا وَمَا نعمل وَأَنه لَو شَاءَ لهدى كل كَافِر وَأَنه غير ظَالِم وَلَا بخيل وَلَا مُمْسك فَقُلْنَا مَا قَالَ من كل ذَلِك وَلم نقل مَا لم يقل وَقُلْنَا مَا قَامَ بِهِ الْبُرْهَان الْعقلِيّ من أَنه تَعَالَى خَالق كل مَوْجُود دونه وَأَنه تَعَالَى قَادر على كل من يسْأَل عَنهُ وَأَنه لَا يُوصف بِشَيْء من صِفَات الْعباد لَا ظلم وَلَا بخل وَلَا غير ذَلِك وَلم نقل مَا قد قَامَ الْبُرْهَان الْعقلِيّ على أَنه بَاطِل من أَنه جسم أَو أَنه يَقُول غير الْحق وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْأَصْلَح وَهُوَ ابْن بدد الغزال تلميذ مُحَمَّد بن شبيب تلميذ النظام بلَى إِن عِنْد الله ألطافاً لَو أَتَى بهَا الْكفَّار لآمنوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ مَعَه الثَّوَاب إِلَّا أَن الثَّوَاب الَّذِي يستحقونه على مَا فعل بهم أعظم وَأجل فَلهَذَا مَنعهم تِلْكَ الألطاف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه ضَعِيف لأننا إِنَّمَا سألناهم هَل يقدر الله تَعَالَى على ألطاف إِذا أَتَى بهَا أهل الْكفْر آمنُوا إِيمَانًا يسْتَحقُّونَ بِهِ مثل هَذَا الثَّوَاب الَّذِي يُؤْتِيهم على الْإِيمَان الْيَوْم أَو أَكثر من ذَلِك الثَّوَاب فَلَا بُد لَهُ من ترك قَوْله أَو يعجز ربه تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونسأل جَمِيع أَصْحَاب الْأَصْلَح فَنَقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أخبرونا عَن كل من شَاهد براهين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مِمَّن لم لَا يُؤمن بِهِ وَصحت عِنْده بِنَقْل التَّوَاتُر هَل صَحَّ ذَلِك عِنْدهم صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَنَّهَا شَوَاهِد مُوجبَة صدق نبوتهم أم لم يَصح ذَلِك عِنْدهم إِلَّا بغالب الظَّن وبصفة أَنَّهَا مِمَّا يُمكن أَن يكون تخييلاً أَو سحرًا أَو نفلا مَدْخُولا وَلَا بُد من أحد الْوَجْهَيْنِ فَإِن قَالُوا بل صَحَّ ذَلِك عِنْدهم صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا وَثَبت ذَلِك فِي عُقُولهمْ بِلَا شكّ(3/104)
قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ الِاضْطِرَار نَفسه الَّذِي لَا اضطرار فِي الْعَالم غَيره وَهَذِه صفة كل من ثَبت عِنْده شَيْء ثباتاً متيقناً كمن يتَيَقَّن بالْخبر الْمُوجب للْعلم موت فلَان وَكَون صفّين والجمل وكسائر مَا لم يُشَاهد الْمَرْء بحواسه فَالْكل على هَذَا مضطرون إِلَى الْإِيمَان لَا مختارون لَهُ وَإِن قَالُوا لم يَصح عِنْدهم شَيْء من ذَلِك هَذِه الصِّحَّة قُلْنَا لَهُم فَمَا قَامَت عَلَيْهِم حجَّة النُّبُوَّة قطّ وَلَا صحت لله تَعَالَى عَلَيْهِم حجَّة وَمن كَانَ هَكَذَا فاختياره للْإيمَان إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَاب وتقليد وَاتِّبَاع لما مَالَتْ إِلَيْهِ نَفسه وَغلب ظَنّه فَقَط وَفِي هَذَا بطلَان جَمِيع الشَّرَائِع وَسُقُوط حجَّة الله تَعَالَى وَهَذَا كفر مُجَرّد
الْكَلَام فِي هَل لله تَعَالَى نعْمَة على الْكفَّار أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف المتكلمون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَن نعم الله تَعَالَى على الْكفَّار فِي الدّين وَالدُّنْيَا كنعمه على الْمُؤمنِينَ وَلَا فرق وَهَذَا قَول فَاسد قد نقضناه آنِفا وَللَّه الْحَمد وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى إِن الله تَعَالَى لَا نعْمَة لَهُ على كَافِر أصلا لَا فِي دين وَلَا دنيا وَقَالَت طَائِفَة لَهُ تَعَالَى عَلَيْهِم نعم فِي الدُّنْيَا فَأَما فِي الدّين فَلَا نعْمَة لَهُ عَلَيْهِم فِيهِ أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله عز وَجل {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَوَجَدنَا الله عز وَجل يَقُول {الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصراً إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِي جعل لكم الأَرْض قراراً وَالسَّمَاء بِنَاء وصوركم فَأحْسن صوركُمْ ورزقكم من الطَّيِّبَات ذَلِكُم الله ربكُم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا عُمُوم بِالْخِطَابِ بإنعام الله تَعَالَى على كل من خلق الله تَعَالَى وَعُمُوم لمن يشْكر من النَّاس وَالْكفَّار من جملَة مَا خلق الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَأما أهل الْإِسْلَام فكلهم شَاكر لله تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ ثمَّ يتفاضلون فِي الشُّكْر وَلَيْسَ أحد من الْخلق يبلغ كل مَا عَلَيْهِ من شكر الله تَعَالَى فصح أَن نعم الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا على الْكفَّار كهي على الْمُؤمنِينَ وَرُبمَا أَكثر فِي بَعضهم فِي بعض الْأَوْقَات قَالَ تَعَالَى {بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} وَهَذَا نَص جلي على نعم الله تَعَالَى على الْكفَّار وَأَنَّهُمْ بدلوها كفرا فَلَا يحل لأحد أَن يُعَارض كَلَام ربه تَعَالَى بِرَأْيهِ الْفَاسِد وَأما نعْمَة الله فِي الدّين فَإِن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِم الرُّسُل هادين لَهُم إِلَى مَا يرضى الله تَعَالَى وَهَذِه نعْمَة عَامَّة بِلَا شكّ فَلَمَّا كفرُوا وجحدوا نعم الله تَعَالَى فِي ذَلِك أعقبهم الْبلَاء وَزَوَال النِّعْمَة كَمَا قَالَ عز وَجل {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل = كتاب الْإِيمَان
وَالْكفْر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي مَاهِيَّة الْإِيمَان فَذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ معرفَة الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَقَط وَإِن أظهر الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَسَائِر أَنْوَاع الْكفْر بِلِسَانِهِ وعبادته فَإِذا عرف الله تَعَالَى بِقَلْبِه فَهُوَ مُسلم من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول أبي مُحرز الجهم بن صَفْوَان وَأبي(3/105)
الْحسن الْأَشْعَرِيّ الْبَصْرِيّ وأصحابهما وَذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ إِقْرَار بِاللِّسَانِ بِاللَّه تَعَالَى وَأَن اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه فَإِذا فعل ذَلِك فَهُوَ مُؤمن من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَصْحَابه ذهب قوم إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ مَعًا فَإِذا عرف الْمَرْء الدّين بِقَلْبِه وَأقر بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُسلم كَامِل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَإِن الْأَعْمَال لَا تسمى إِيمَانًا وَلكنهَا شرائع الْإِيمَان وَهَذَا قَول أبي حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت الْفَقِيه وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء ذهب سَائِر الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث والمعتزلة والشيعة وَجَمِيع الْخَوَارِج إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ بِالدّينِ وَالْإِقْرَار بِهِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالجوارح وَأَن كل طَاعَة وَعمل خير فرضا كَانَ أَو نَافِلَة فَهِيَ إِيمَان وكل مَا ازْدَادَ الْإِنْسَان خيرا ازْدَادَ إيمَانه وَكلما عصى نقص إيمَانه وَقَالَ مُحَمَّد بن زِيَاد الحريري الْكُوفِي من آمن بِاللَّه عز وَجل وَكذب برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ مُؤمنا على الْإِطْلَاق وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَلكنه مُؤمن كَافِر لِأَنَّهُ آمن بِاللَّه تَعَالَى فَهُوَ مُؤمن وَكَافِر بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فحجة الْجَهْمِية والكرامية والأشعرية وَمن ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة حجَّة وَاحِدَة وَهِي أَنهم قَالُوا إِنَّمَا أنزل الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين وبلغة الْعَرَب خاطبنا الله تَعَالَى وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِيمَان فِي اللُّغَة هُوَ التَّصْدِيق فَقَط وَالْعَمَل بالجوارح لَا يُسمى فِي اللُّغَة تَصْدِيقًا فَلَيْسَ إِيمَانًا قَالُوا وَالْإِيمَان هُوَ التَّوْحِيد والأعمال لَا تسمى توحيداً فَلَيْسَتْ إِيمَانًا قَالُوا وَلَو كَانَت الْأَعْمَال توحيداً وإيماناً لَكَانَ من ضيع شَيْئا منا قد ضيع الْإِيمَان وَفَارق الْإِيمَان فَوَجَبَ أَن لَا يكون مُؤمنا قَالُوا وَهَذِه الْحجَّة إِنَّمَا تلْزم أَصْحَاب الحَدِيث خَاصَّة لَا تلْزم الْخَوَارِج وَلَا الْمُعْتَزلَة لأَنهم يَقُولُونَ بذهاب الْإِيمَان جملَة بإضاعة الْأَعْمَال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا لَهُم حجَّة غير مَا ذكرنَا وكل مَا ذكرُوا فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ أصلا لما نذكرهُ إِن شَاءَ الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق فِي اللُّغَة فَهَذَا حجَّة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تَاما كَافِيا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى غَيره وَذَلِكَ قَوْلهم أَن الْإِيمَان فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن هُوَ التَّصْدِيق فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا على الْإِطْلَاق وَمَا سمي قطّ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ دون التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ إِيمَانًا فِي لُغَة الْعَرَب وَمَا قَالَ قطّ عَرَبِيّ أَن من صدق شَيْئا بِقَلْبِه فأعلن التَّكْذِيب بِهِ بِقَلْبِه وبلسانه فَإِنَّهُ لَا يُسمى مُصدقا بِهِ أصلا وَلَا مُؤمنا بِهِ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ مَا سمي قطّ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ دون التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ إِيمَانًا فِي لُغَة الْعَرَب أصلا على الْإِطْلَاق وَلَا يُسمى تَصْدِيقًا فِي لُغَة الْعَرَب وَلَا إِيمَانًا مُطلقًا إِلَّا من صدق بالشَّيْء بِقَلْبِه وَلسَانه مَعًا فَبَطل تعلق الْجَهْمِية والأشعرية باللغة جملَة ثمَّ نقُول لمن ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة فِي أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَالْقلب مَعًا وَتعلق فِي ذَلِك باللغة إِن تعلقكم باللغة لَا حجَّة لكم فِيهِ أصلا لِأَن اللُّغَة يجب فِيهَا ضَرُورَة أَن كل من صدق بِشَيْء فَإِنَّهُ مُؤمن بِهِ وَأَنْتُم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكُمْ توقعون اسْم الْإِيمَان وَلَا تطلقونه على كل من صدق بِشَيْء مَا وَلَا تطلقونه إِلَّا على صفة محدودة دون سَائِر الصِّفَات وَهِي من صدق بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن والبعث وَالْجنَّة وَالنَّار وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك مِمَّا قد أَجمعت الْأمة على أَنه لَا يكون مُؤمنا من لم يصدق بِهِ وَهَذَا خلاف(3/106)
اللُّغَة مُجَرّد فَإِن قَالُوا أَن الشَّرِيعَة أوجبت علينا هَذَا قُلْنَا صَدقْتُمْ فَلَا تتعلقوا باللغة حَيْثُ جَاءَت الشَّرِيعَة بِنَقْل اسْم مِنْهَا عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة كَمَا فَعلْتُمْ آنِفا سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ صَحِيحا لوَجَبَ أَن يُطلق اسْم الْإِيمَان لكل من صدق بِشَيْء مَا ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية الْمَسِيح وبإلاهية الْأَوْثَان مُؤمنين لأَنهم مصدقون بِمَا صدقُوا بِهِ وَهَذَا لَا يَقُوله أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام بل قَالَه كَافِر عِنْد جَمِيعهم وَنَصّ الْقُرْآن يكفر من قَالَ بِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى {ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} فَهَذَا الله عز وَجل شهد بِأَن قوما يُؤمنُونَ بِبَعْض الرُّسُل وَبِاللَّهِ تَعَالَى ويكفرون بِبَعْض فَلم يجز مَعَ ذَلِك أَن يُطلق عَلَيْهِم اسْم الْإِيمَان أصلا با أوجب لَهُم اسْم الْكفْر بِنَصّ الْقُرْآن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَول مُحَمَّد بن زِيَاد الحريري لَازم لهَذِهِ الطوائف كلهَا لَا ينفكون عَنهُ على مُقْتَضى اللُّغَة وموجبها وَهُوَ قَول لم يخْتَلف مسلمان فِي أَنه كفر مُجَرّد وَأَنه خلاف لِلْقُرْآنِ كَمَا ذكرنَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل تعلق هَذِه الطوائف باللغة جملَة وَأما قَوْلهم أَنه لَو كَانَ الْعَمَل يُسمى إِيمَانًا لَكَانَ من ضيع مِنْهُ شَيْئا فقد أضاع الْإِيمَان وَوَجَب أَن لَا يكون مُؤمنا فَإِنِّي قلت لبَعْضهِم وَقد ألزمني هَذَا الْإِلْزَام كلَاما تَفْسِيره وَبسطه إننا لَا نسمي فِي الشَّرِيعَة اسْما إِلَّا بِأَن يَأْمُرنَا الله تَعَالَى أَن نُسَمِّيه أَو يُبِيح لنا الله بِالنَّصِّ أَن نُسَمِّيه لأننا لَا نَدْرِي من أَرَادَ الله عز وَجل منا إِلَّا بِوَحْي وَارِد من عِنْده علينا وَمَعَ هَذَا فَإِن الله عز وَجل يَقُول مُنْكرا لمن سمي فِي الشَّرِيعَة شَيْئا بِغَيْر إِذْنه عز وَجل {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} وَقَالَ تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} فصح أَنه لَا تَسْمِيَة مُبَاحَة لملك وَلَا لأنسي دون الله تَعَالَى وَمن خَالف هَذَا فقد افترى على الله عز وَجل الْكَذِب وَخَالف الْقُرْآن فَنحْن لَا نسمي مُؤمنا إِلَّا من سَمَّاهُ الله عز وَجل مُؤمنا وَلَا نسقط الْإِيمَان بعد وُجُوبه إِلَّا عَمَّن أسْقطه الله عز وَجل عَنهُ وَوجدنَا بعض الْأَعْمَال الَّتِي سَمَّاهَا الله عز وَجل إِيمَانًا لم يسْقط الله عز وَجل اسْم الْإِيمَان عَن تاركها فَلم يجز لنا أَن نسقطه عَنهُ لذَلِك لَكِن نقُول انه ضيع بعض الْإِيمَان وَلم يضيع كُله كَمَا جَاءَ النَّص على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا سقط كل مَا موهت بِهِ هَذِه الطوائف كلهَا وَلم يبْق لَهُم حجَّة أصلا فلنقل بعون الله عز وَجل وتأييده فِي بسط حجَّة القَوْل الصَّحِيح الَّذِي هُوَ قَول جُمْهُور أهل الْإِسْلَام وَمذهب الْجَمَاعَة وَأهل السّنة وَأَصْحَاب الْآثَار من أَن الْإِيمَان عقد وَقَول وَعمل وَفِي بسط مَا أجملناه مِمَّا نقدنا بِهِ قَول المرجئة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أصل الْإِيمَان كَمَا قُلْنَا فِي اللُّغَة التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وباللسان مَعًا بِأَيّ شَيْء صدق الْمُصدق لَا شَيْء دون شَيْء الْبَتَّةَ إِلَّا أَن الله عز وَجل على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقع لَفْظَة الْإِيمَان على العقد بِالْقَلْبِ لِأَشْيَاء محدودة مَخْصُوصَة مَعْرُوفَة على على العقد لكل شَيْء وأوقعها أَيْضا تَعَالَى على الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاء خَاصَّة لَا بِمَا سواهَا وأوقعها أَيْضا على أَعمال الْجَوَارِح لكل مَا هُوَ طَاعَة لَهُ تَعَالَى فَقَط فَلَا يحل لأحد خلاف الله تَعَالَى فِيمَا أنزلهُ وَحكم بِهِ وَهُوَ تَعَالَى خَالق اللُّغَة وَأَهْلهَا فَهُوَ أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على مَا يَشَاء وَلَا عجب أعجب مِمَّن أوجد لأمريء الْقَيْس أَو لزهير أَو(3/107)
لجرير أَو الحطيئة والطرماح أَو لأعرابي أسدي بن سلمي أَو تميمي أَو من سَائِر أَبنَاء الْعَرَب بوال على عَقِبَيْهِ لفظا فِي شعر أَو نثر جملَة فِي اللُّغَة وَقطع بِهِ وَلم يعْتَرض فِيهِ ثمَّ إِذا وجد لله تَعَالَى خَالق اللُّغَات وَأَهْلهَا كلَاما لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا جعله حجَّة وَجعل يصرفهُ عَن وَجهه ويحرفه عَن موَاضعه ويتحيل فِي إحالته عَمَّا أوقعه الله عَلَيْهِ وَإِذا وجد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلَاما فعل بِهِ مثل ذَلِك وتالله لقد كَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم قبل أَن يُكرمهُ الله تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ وَأَيَّام كَونه فَتى بِمَكَّة بِلَا شكّ عِنْد كل ذِي مسكة من عقل أعلم بلغَة قومه وأفصح فِيهَا وَأولى بِأَن يكون مَا نطق بِهِ من ذَلِك حجَّة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فَكيف بعد أَن اختصه الله تَعَالَى للنذارة واجتباه للوساطة بَينه وَبَين خلقه وأجى على لِسَانه كَلَامه وَضمن حفظه وَحفظ مَا يَأْتِي بِهِ فَأَي ضلال أضلّ مِمَّن يسمع لبيد بن ربيعَة بن مَالك بن جَعْفَر بن كلاب يَقُول ... فعلت فروع إِلَّا يهقان وأطفلت ... لجلهتين ظباؤها ونعامها ...
فَجعله حجَّة وَأَبُو زِيَاد الْكلابِي يَقُول مَا عرفت الْعَرَب قطّ إِلَّا يهقان وَإِنَّمَا هُوَ اللهق بَيت مَعْرُوف وَيسمع قَول ابْن أَحْمَر كناه نقلق عَن مأموسة الْحجر وعلماء اللُّغَة يَقُولُونَ أَنه لم يعرف قطّ لأحد من الْعَرَب أَنه سمى النَّار مأموسى إِلَّا ابْن أَحْمَر فَيَجْعَلهُ حجَّة ويجيز قَول من قَالَ من الْأَعْرَاب هَذَا حجر من خرب وَسَائِر الشواذ من مَعْهُود اللُّغَة مِمَّا يكثر لَو تكلفنا ذكره ونحتج بِكُل ذَلِك ثمَّ يمْتَنع من إِيقَاع اسْم الْإِيمَان على مَا أوقعه عَلَيْهِ الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد بن عبد الله الْقرشِي المسترضع فِي بني سعد بن بكر ويكابر فِي ذَلِك بِكُل بَاطِل وَبِكُل حَمَاقَة وَبِكُل دفع للمشاهدة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَمن الأيات الَّتِي أوقع الله تَعَالَى فِيهَا اسْم الْإِيمَان على أَعمال الدّيانَة قَوْله عز وَجل {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والتصديق بالشَّيْء أَي شَيْء كَانَ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَكَذَلِكَ التَّصْدِيق بِالتَّوْحِيدِ والنبوة لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو كل مُعْتَقد بِقَلْبِه أَو مقرّ بِلِسَانِهِ بِأَيّ شَيْء أقرّ أَو أَي شَيْء اعْتقد من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا أما أَن يصدق بِمَا اعْتقد وَأقر وَأما أَن يكذب بِمَا اعْتقد وَأما منزلَة بَينهمَا وَهِي الشَّك فَمن الْمحَال أَن يكون إِنْسَان مُكَذبا بِمَا يصدق بِهِ وَمن الْمحَال أَن يشك أحد فِيمَا يصدق بِهِ فَلم يبْق إِلَّا أَنه مُصدق بِمَا اعْتقد بِلَا شكّ وَلَا يجوز أَن يكون تَصْدِيق وَاحِد أَكثر من تَصْدِيق آخر لِأَن أحد التصديقين إِذا دَخلته دَاخِلَة فبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَنه قد خرج عَن التَّصْدِيق وَلَا بُد وَحصل فِي الشَّك لِأَن معنى التَّصْدِيق إِنَّمَا هُوَ أَن يَقع ويوقن بِصِحَّة وجود مَا صدق بِهِ وَلَا سَبِيل إِلَى التَّفَاضُل فِي هَذِه الصّفة فَإِن لم يقطع وَلَا أَيقَن بِصِحَّتِهِ فقد شكّ فِيهِ فَلَيْسَ مُصدقا بِهِ وَإِذا لم يكن مُصدقا بِهِ فَلَيْسَ مُؤمنا بِهِ فصح أَن الزِّيَادَة الَّتِي ذكر الله عز وَجل فِي الْإِيمَان لَيست فِي التَّصْدِيق أصلا وَلَا فِي الِاعْتِقَاد الْبَتَّةَ فَهِيَ ضَرُورَة فِي غير التَّصْدِيق وَلَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا الْأَعْمَال فَقَط فصح يَقِينا أَن أَعمال الْبر إِيمَان بِنَصّ الْقُرْآن وَكَذَلِكَ قَول الله عز وَجل {فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا} فَإِن قَالَ قَائِل معنى زِيَادَة الْإِيمَان هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ لما نزلت تِلْكَ الْآيَة صدقُوا بهَا فَزَادَهُم بنزولها إِيمَانًا تَصْدِيقًا بِشَيْء وَارِد لم يكن عِنْدهم قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا محَال لِأَنَّهُ(3/108)
قد اعْتقد الْمُسلمُونَ فِي أول إسْلَامهمْ أَنهم مصدقون بِكُل مَا يَأْتِيهم بِهِ نَبِيّهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي المستأنف فَلم يزدهم نزُول الْآيَة تَصْدِيقًا لم يَكُونُوا اعتقدوه فصح أَن الْإِيمَان الَّذِي زادتهم الْآيَات إِنَّمَا هوألعمل بهَا الَّذِي لم يَكُونُوا عملوه وَلَا عرفوه وَلَا صدقُوا بِهِ قطّ وَلَا كَانَ جَائِزا لَهُم أَن يعتقدوه ويعملوا بِهِ بل كَانَ فرضا عَلَيْهِم تَركه والتكذيب بِوُجُوبِهِ وَالزِّيَادَة لَا تكون إِلَّا فِي كمية عدد لَا فِيمَا سواهُ وَلَا عدد للاعتقاد وَلَا كمية وَإِنَّمَا الكمية وَالْعدَد فِي الْأَعْمَال والأقوال فَقَط فَإِن قَالُوا أَن تلاوتهم لَهَا زِيَادَة إِيمَان قُلْنَا صَدقْتُمْ وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا والتلاوة عمل بجارحة اللِّسَان لَيْسَ إِقْرَارا بالمعتقد وَلكنه من نوع الذّكر بالتسبيح والتهليل وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} وَلم يزل أهل الْإِسْلَام قبل الْجَهْمِية والأشعرية والكرامية وَسَائِر المرجئة مُجْمِعِينَ على أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عَنى بذلك صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس قبل أَن ينْسَخ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَة وَقَالَ عز وَجل {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} فنص تَعَالَى على أَن عبَادَة الله تَعَالَى فِي حَال إخلاص الدّين لَهُ تَعَالَى وَأقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة الواردتين فِي الشَّرِيعَة كُله دين الْقيمَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} فنص تَعَالَى على أَن الدّين هُوَ الْإِسْلَام وَنَصّ قبل على أَن الْعِبَادَات كلهَا وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة هِيَ الدّين فأنتج ذَلِك يَقِينا أَن الْعِبَادَات هِيَ الدّين وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام فالعبادات كلهَا هن الْإِسْلَام وَقَالَ عز وَجل {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} فَهَذَا نَص جلي على أَن الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان وَقد وَجب قبل بِمَا ذكرنَا أَن أَعمال الْبر كلهَا هِيَ الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان فأعمال الْبر كلهَا إِيمَان وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنص تَعَالَى وَأقسم بفسه أَن لَا يكون مُؤمنا إِلَّا بتحكيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل ماعن ثمَّ يسلم بِقَلْبِه وَلَا يجد فِي نَفسه حرجاً مِمَّا قضى فصح أَن التَّحْكِيم شَيْء غير التَّسْلِيم بِالْقَلْبِ وَأَنه هُوَ الْإِيمَان الَّذِي لَا إِيمَان لمن لم يَأْتِ بِهِ فصح يَقِينا أَن الْإِيمَان اسْم وَاقع على الْأَعْمَال فِي كل مَا فِي الشَّرِيعَة وَقَالَ تَعَالَى {وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} فصح أَن لَا يكون التَّصْدِيق مُطلقًا إِيمَانًا إِلَّا حَتَّى يستضيف إِلَيْهِ مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَمِمَّا يتَبَيَّن أَن الْكفْر يكون بالْكلَام قَول الله تَعَالَى {وَدخل جنته وَهُوَ ظَالِم لنَفسِهِ قَالَ مَا أَظن أَن تبيد هَذِه أبدا وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة وَلَئِن رددت إِلَى رَبِّي لأجدن خيرا مِنْهَا منقلباً قَالَ لَهُ صَاحبه وَهُوَ يحاوره أكفرت بِالَّذِي خلقك من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ سواك رجلا} إِلَى قَوْله {يَا لَيْتَني لم أشرك بربي أحدا} فَأثْبت الله لَهُ الشّرك وَالْكفْر مَعَ إِقْرَاره بربه تَعَالَى إِذْ شكّ فِي الْبَعْث وَقَالَ تَعَالَى {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} فصح أَن من آمن بِبَعْض الدّين وَكفر بِشَيْء مِنْهُ فَهُوَ كَافِر مَعَ صِحَة تَصْدِيقه لما صدق من ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأكْثر الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا مَوْضُوعَة من عِنْد الله تَعَالَى على مسميات لم يعرفهَا الْعَرَب قطّ هَذَا أَمر لَا يجهله أحد من أهل الأَرْض فَمن يدْرِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة ويدري الْأَسْمَاء(3/109)
الشَّرْعِيَّة كَالصَّلَاةِ فَإِن مَوْضُوع هَذِه اللَّفْظَة فِي لُغَة الْعَرَب الدُّعَاء فَقَط فأوقعها الله عز وَجل على حركات محدودة مَعْدُودَة من قيام مَوْصُوف إِلَى جِهَة مَوْصُوفَة لَا تتعدى وركوع كَذَلِك وَسُجُود كَذَلِك وقعود كَذَلِك وَذكر كَذَلِك وَقِرَاءَة كَذَلِك وَذكر كَذَلِك فِي أَوْقَات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس مَحْدُود مَتى لم تكن على ذَلِك بطلت وَلم تكن صَلَاة وَمَا عرفت الْعَرَب قطّ شَيْئا من هَذَا كُله فضلا عَن أَن تسميه حَتَّى أَتَانَا بِهَذَا كُله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ بَعضهم أَن فِي الصَّلَاة دُعَاء فَلم يخرج الِاسْم بذلك عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ لَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن من أَتَى بِعَدَد الرَّكْعَات وَقَرَأَ أم الْقُرْآن وقرآناً مَعهَا فِي كل رَكْعَة وأتى بعد بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود وَالْجُلُوس وَالْقِيَام وَالتَّشَهُّد وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم بتسليمتين فقد صلى كَمَا أَمر وَإِن لم يدع بِشَيْء أصلا وَفِي الْفُقَهَاء من يَقُول أَن من صلى خلف الإِمَام فَلم يقْرَأ أصلا وَلَا تشهد وَلَا دَعَا أصلا فقد صلى كَمَا أَمر وَأَيْضًا فَإِن ذَلِك الدُّعَاء فِي الصَّلَاة لَا يخْتَلف أحد من الْأمة فِي أَنه لَيْسَ شَيْئا وَلَا يُسمى صَلَاة أصلا عِنْد أحد من أهل الْإِسْلَام فعلى كل قد أوقع الله عز وَجل اسْم الصَّلَاة على أَعمال غير الدُّعَاء وَلَا بُد وعَلى دُعَاء مَحْدُود لم تعرفه الْعَرَب قطّ وَلَا عرفت إِيقَاع الصَّلَاة على دُعَاء بِعَيْنِه دون سَائِر الدُّعَاء وَمِنْهَا الزَّكَاة وَهِي مَوْضُوع فِي اللُّغَة للنماء وَالزِّيَادَة فأوقعها الله تَعَالَى على إِعْطَاء مَال مَحْدُود مَعْدُود من جملَة أَمْوَال مَا مَوْصُوفَة محدودة مَعْدُودَة مُعينَة دون سَائِر الْأَمْوَال لقوم محدودين فِي أَوْقَات محدودة فَإِن هُوَ تعدى شَيْئا من ذَلِك لم يَقع على فعله اسْم زَكَاة وَلم تعرف الْعَرَب قطّ هَذِه الصِّفَات وَالصِّيَام فِي لُغَة الْعَرَب الْوُقُوف تَقول صَامَ النَّهَار إِذا طَال حَتَّى صَار كَأَنَّهُ وَاقِف لطوله قَالَ امْرُؤ الْقَيْس إِذا صَامَ النَّهَار وهجرا وَقَالَ آخر وَهُوَ النَّابِغَة الذبياني ... خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة
تَحت العجاج وخيل تعلك اللجما ...
فأوقع الله تَعَالَى اسْم الصّيام على الِامْتِنَاع من الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع وتعمد الْقَيْء من وَقت مَحْدُود وَهُوَ تبين الْفجْر الثَّانِي إِلَى غرُوب الشَّمْس فِي أَوْقَات من السّنة محدودة فَإِن تعدى ذَلِك لم يسم صياما وَهَذَا أَمر لم تعرفه الْعَرَب قطّ فَظهر فَسَاد قَول من قَالَ أَن الْأَسْمَاء لَا تنْتَقل فِي الشَّرِيعَة عَن موضوعها فِي اللُّغَة وَصَحَّ أَن قَوْلهم هَذَا مجاهرة سمجة قبيحة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد وضح وجود الزِّيَادَة فِي الْإِيمَان بِخِلَاف قَول من قَالَ أَنه التَّصْدِيق فبالضرورة نَدْرِي أَن الزِّيَادَة تَقْتَضِي النَّقْص ضَرُورَة وَلَا بُد لِأَن معنى الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ عدد مُضَاف إِلَى عدد وَإِذا كَانَ ذَلِك فَذَلِك الْعدَد الْمُضَاف إِلَيْهِ هُوَ بِيَقِين نَاقص عِنْد عدم الزِّيَادَة فِيهِ وَقد جَاءَ النَّص بِذكر النَّقْص وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَشْهُور الْمَنْقُول نقل الكواف أَنه قَالَ للنِّسَاء مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين أسلب للرجل الحازم مِنْكُن قُلْنَ يَا رَسُول الله وَمَا نُقْصَان ديننَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَلَيْسَ تقيم الْمَرْأَة الْعدَد من الْأَيَّام والليالي لَا تَصُوم وَلَا تصلي فَهَذَا نُقْصَان دينهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو نقص من التَّصْدِيق شَيْء لبطل عَن أَن يكون تَصْدِيقًا لِأَن التَّصْدِيق لَا يَتَبَعَّض أصلا ولصار شكا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وهم مقرون بِأَن امْرأ لَو لم يصدق بِآيَة من الْقُرْآن أَو بِسُورَة مِنْهُ وَصدق بسائره لبطل إيمَانه فصح أَن التَّصْدِيق لَا يَتَبَعَّض أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله عز وَجل على أَن الْيَهُود يعْرفُونَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَأَنَّهُمْ يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون}(3/110)
وَأخْبر تَعَالَى عَن الْكفَّار فَقَالَ {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} فَأخْبر تَعَالَى أَنهم يعْرفُونَ صدقه وَلَا يكذبونه وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وهم كفار بِلَا خلاف من أحد من الْأمة وَمن أنكر كفرهم فَلَا خلاف من أحد من الْأمة فِي كفره وَخُرُوجه عَن الْإِسْلَام وَنَصّ تَعَالَى عَن إِبْلِيس أَنه عَارِف بِاللَّه تَعَالَى وبملائكته وبرسله وبالبعث وَأَنه قَالَ {رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَالَ {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} وَقَالَ {خلقتني من نَار وخلقته من طين} وَكَيف لَا يكون مُصدقا بِكُل ذَلِك وَهُوَ قد شَاهد ابْتِدَاء خلق الله تَعَالَى لآدَم وخاطبه الله تَعَالَى خطابا كثيرا أَو سَأَلَهُ مَا مَنعك أَن تسْجد وَأمره بِالْخرُوجِ من الْجنَّة وَأخْبرهُ أَنه منظر إِلَى يَوْم الدّين وَأَنه مَمْنُوع من إغواء من سبقت لَهُ الْهِدَايَة وَهُوَ مَعَ ذَلِك كُله كَافِر بِلَا خلاف أما بقوله عَن آدم أَنا خير مِنْهُ وَأما بامتناعه للسُّجُود لَا يشك أحد فِي ذَلِك وَلَو كَانَ الْإِيمَان هُوَ بالتصديق وَالْإِقْرَار فَقَط لَكَانَ جَمِيع المخلدين فِي النَّار مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْكفَّار مُؤمنين لأَنهم كلهم مصدقون بِكُل مَا كذبُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا مقرون بِكُل ذَلِك لَكَانَ إِبْلِيس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الدُّنْيَا مُؤمنين ضَرُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه وَإِنَّمَا كفر أهل النَّار بمنعهم من الْأَعْمَال قَالَ تَعَالَى {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فلجأ هَؤُلَاءِ المخاذيل إِلَى أَن قَالُوا إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لم يعرفوا قطّ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَمعنى قَول الله تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} أَي أَنهم يميزون صورته ويعرفون أَن هَذَا الرجل هُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي فَقَط وَأَن معنى قَوْله تَعَالَى {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} إِنَّمَا هُوَ أَنهم يَجدونَ سواداً فِي بَيَاض لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ وَلَا يفهمون مَعْنَاهُ وَإِن إِبْلِيس لم يقل شَيْئا مِمَّا ذكر الله عز وَجل عَنهُ انه قَالَ مجداً بل قَالَه هازلا وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَيْضا أَنه لَيْسَ على ظهر الأَرْض وَلَا كَانَ قطّ كَافِر يدْرِي أَن الله حق وَأَن فِرْعَوْن قطّ لم يتَبَيَّن لَهُ أَن مُوسَى نَبِي بِالْآيَاتِ الَّتِي عمل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا إِذا كَانَ الْكَافِر يصدق أَن الله حق والتصديق إِيمَان فِي اللُّغَة فَهُوَ مُؤمن إِذا أوفيه إِيمَان لَيْسَ بِهِ مُؤمنا وكلا الْقَوْلَيْنِ محَال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه نُصُوص أَقْوَالهم الَّتِي رأيناها فِي كتبهمْ وسمعناهم مِنْهُم وَكَانَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ لهَذَا الْكفْر الْمُجَرّد أَن قَالُوا أَن الله عز وَجل سمى كل من ذكرنَا كفَّارًا ومشركين فَدلَّ ذَلِك على أَنه علم أَن فِي قُلُوبهم كفرا وشركاً وجحداً وَقَالَ هَؤُلَاءِ أَن شِئْتُم الله عز وَجل وشئتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ كفرا لكنه دَلِيل على أَن فِي قلبه كفرا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَوْلهم فِي أَخْبَار الله تَعَالَى عَن الْيَهُود أَنهم يعْرفُونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَعَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَنهم يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَبَاطِل بحت ومجاهرة لَا حَيَاء مَعهَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَمَا ذكرُوا لما كَانَ فِي ذَلِك حجَّة لله تَعَالَى عَلَيْهِم وَأي معنى أَو أَي فَائِدَة فِي أَن يجيزوا صورته ويعرفوا انه مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب فَقَط أَو فِي أَن يَجدوا كتابا لَا يفقهُونَ مَعْنَاهُ فَكيف وَنَصّ الْآيَة نَفسهَا مكذبة لَهُم لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُول {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَأَن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} فنص تَعَالَى أَنهم يعلمُونَ الْحق فِي نبوته وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم}(3/111)
وَإِنَّمَا أورد تَعَالَى معرفتهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محتجاً عَلَيْهِم بذلك لَا أَنه أَتَى من ذَلِك بِكَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ واما قَوْلهم فِي إِبْلِيس فَكَلَام دَاخل فِي الاستخفاف بِاللَّه عز وَجل وَبِالْقُرْآنِ لَا وَجه لَهُ غير هَذَا إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع فِي الْعقل وَفِي الْإِمْكَان غَايَة الِامْتِنَاع أَن يكون إِبْلِيس يُوَافق فِي هزله عين الْحَقِيقَة فِي أَن الله تَعَالَى كرم آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه تَعَالَى أمره بِالسُّجُود فَامْتنعَ وَفِي أَن الله تَعَالَى خلق آدم من طين وخلقه من نَار وَفِي أخباره آدم أَن الله تَعَالَى نَهَاهُ عَن الشَّجَرَة وَفِي دُخُوله الْجنَّة وَخُرُوجه عَنْهَا إِذا خرجه الله تَعَالَى وَفِي سُؤَاله الله تَعَالَى النظرة وَفِي ذكره يَوْم يبْعَث الْعباد وَفِي أخباره أَن الله تَعَالَى أغواه وَفِي تهديده ذُرِّيَّة آدم قبل أَن يَكُونُوا وَقد شَاهد الْمَلَائِكَة وَالْجنَّة وَابْتِدَاء خلق آدم وَلَا سَبِيل إِلَى مُوَافقَة هازل مَعْنيين صَحِيحَيْنِ لَا يعلمهَا فَكيف بِهَذِهِ الْأُمُور الْعَظِيمَة وَأُخْرَى أَن الله تَعَالَى حاشى لَهُ من أَن يُجيب هازلاً بِمَا يَقْتَضِيهِ معنى هزله فَإِنَّهُ تَعَالَى أمره بِالسُّجُود ثمَّ سَأَلَهُ عَمَّا مَنعه من السُّجُود ثمَّ أَجَابَهُ إِلَى النظرة الَّتِي سَأَلَ ثمَّ أخرجه عَن الْجنَّة وَأخْبرهُ أَنه يعْصم مِنْهُ من شَاءَ من ذُرِّيَّة آدم وَهَذِه كلهَا معَان من دافعها خرج عَن الْإِسْلَام لتكذيبه الْقُرْآن وَفَارق الْمَعْقُول لتجويزه هَذِه المحالات وَلحق بالمجانين الوقحاء وَأما قَوْلهم أَن أَخْبَار الله تَعَالَى بِأَن هَؤُلَاءِ كلهم كفار دَلِيلا على أَن فِي قُلُوبهم كفرا وَأَن شتم الله تَعَالَى لَيْسَ كفر وَلكنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا وَإِن كَانَ كَافِرًا لم يعرف الله تَعَالَى قطّ فَهَذِهِ مِنْهُم دعاوي كَاذِبَة مفتراة لَا دَلِيل لَهُم عَلَيْهَا وَلَا برهَان لَا من نَص وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من حجَّة عقل أصلا وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قِيَاس وَلَا من قَول أحد من السّلف قبل اللعين جهم بن صَفْوَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وإفك وزور فَسقط قَوْلهم هَذَا من قرب وَللَّه الْحَمد رب الْعَالمين فَكيف والبرهان قَائِم بِإِبْطَال هَذِه الدَّعْوَى من الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فَأَما الْقُرْآن فَإِن الله عز وَجل يَقُول {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} فَأخْبر تَعَالَى بِأَنَّهُم يصدقون بِاللَّه تَعَالَى وهم مَعَ ذَلِك مشركون وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه شَهَادَة من الله مكذبة لقَوْل هَؤُلَاءِ الضلال لَا يردهَا مُسلم أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبلغنا عَن بَعضهم أَنه قَالَ فِي قَول الله تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} إِن هَذَا إِنْكَار من الله تَعَالَى لصِحَّة معرفتهم بنبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَذَلِكَ لِأَن الرِّجَال لَا يعْرفُونَ صِحَة أبنائهم على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ ظن مِنْهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر وتحريف للكلم عَن موَاضعه وَيرد مَا شِئْت مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأول ذَلِك أَن هَذَا الْخطاب من الله تَعَالَى عُمُوم للرِّجَال وَالنِّسَاء من الَّذين أُوتُوا الْكتاب لَا يجوز أَن يخص بِهِ الرِّجَال دون النِّسَاء فَيكون من فعل ذَلِك مفترياً على الله تَعَالَى وبيقين يدْرِي كل مُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النِّسَاء كَمَا بعث إِلَى الرِّجَال وَالْخطاب بِلَفْظ الْجمع الْمُذكر يدْخل فِيهِ بِلَا خلاف من أهل اللُّغَة النِّسَاء وَالرِّجَال وَقد علمنَا أَن النِّسَاء يعرفن أبناءهن على الْحَقِيقَة بِيَقِين وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ أَن الله تَعَالَى لم يقل كَمَا يعْرفُونَ من خلقنَا من نطفتهم فَكَانَ يسوغ لهَذَا الْجَاهِل حِينَئِذٍ هَذَا التمويه الْبَارِد باستكراه أَيْضا وَإِنَّمَا قَالَ(3/112)
قَالَ تَعَالَى كَمَا يعْرفُونَ أبنائهم فأضاف تَعَالَى النُّبُوَّة إِلَيْهِم فَمن لم يقل أَنهم أَبْنَاءَهُم بعد أَن جعلهم الله أَبْنَاءَهُم فقد كذب الله تَعَالَى وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ كل من خلق من نُطْفَة الرجل يكون ابْنه فولد الزِّنَا مَخْلُوق من نُطْفَة إِنْسَان لَيْسَ هُوَ أَبَاهُ فِي حكم الدّيانَة أصلا وَإِنَّمَا أَبْنَاؤُنَا من جعلهم الله أبناءنا فَقَط كَمَا أَن الله تَعَالَى جعل أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ مِنْهُنَّ أمهاتنا وَإِن لم يلدننا وَنحن أبناؤهن وَإِن لم نخرج من بطونهن فَمن أنكر هَذَا فَنحْن نصدقه لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مُؤمنا فلسن أمهاته وَلَا هُوَ ابْن لَهُنَّ وَالْوَجْه الثَّالِث هُوَ أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أورد الْآيَة مبكتاً للَّذين أُوتُوا الْكتاب لَا معتذرا عَنْهُم لَكِن مخبرا بِأَنَّهُم يعْرفُونَ صِحَة نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآياته وَبِمَا وجدوا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل معرفَة قَاطِعَة لَا شكّ فِيهَا كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم ثمَّ أتبع ذَلِك تَعَالَى بِأَنَّهُم يكتمون الْحق وهم عالمون بِهِ فَبَطل هذر هَذَا الْجَاهِل المخذول وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ عز وَجل {لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من الغي} فنص تَعَالَى على أَن الرشد قد تبين من الغي عُمُوما وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} وَقَالَ تَعَالَى {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى لن يضروا الله شَيْئا} وَهَذَا نَص جلي من خَالفه كفر فِي أَن الْكفَّار قد تبين لَهُم الْحق وَالْهدى فِي التَّوْحِيد والنبوة وَقد تبين لَهُ الْحق فبيقين يدْرِي كل ذِي حس سليم أَنه مُصدق بِلَا شكّ بِقَلْبِه وَقَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة قَالُوا هَذَا سحر مُبين وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَيْضا نَص جلي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا على أَن الْكفَّار جَحَدُوا بألسنتهم الْآيَات الَّتِي أَتَى بهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام واستيقنوا بقلوبهم أَنَّهَا حق وَلم يجحدوا قطّ أَنَّهَا كَانَت وَإِنَّمَا جَحَدُوا أَنَّهَا من عِنْد الله فصح أَن الَّذِي استيقنوا مِنْهَا هُوَ الَّذِي جَحَدُوا وَهَذَا يبطل قَول من قَالَ من هَذِه الطَّائِفَة أَنهم إِنَّمَا استيقنوا كَونهَا وَهِي عِنْدهم حيل لَا حقائق إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى كذبا تَعَالَى الله عَن ذَلِك لأَنهم لم يجحدوا كَونهَا وَإِنَّمَا جَحَدُوا أَنَّهَا من عِنْد الله وَهَذَا الَّذِي جَحَدُوا هُوَ الَّذِي استيقنوا بِنَصّ الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لفرعون {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض بصائر} فَمن قَالَ أَن فِرْعَوْن لم يعلم أَن الله تَعَالَى حق وَلَا علم أَن معجزات مُوسَى حق من عِنْد الله تَعَالَى فقد كذب ربه تَعَالَى وَهَذَا كفر مُجَرّد وَقد شغب بَعضهم بِأَن هَذِه الْآي قُرِئت لقد علمت بِضَم التَّاء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقِرَاءَتَيْن حق من عِنْد الله تَعَالَى لَا يجوز أَن يرد مِنْهُمَا شَيْء فَنعم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام علم ذَلِك وَفرْعَوْن علم ذَلِك فَهَذِهِ نُصُوص الْقُرْآن وَأما من طَرِيق الْمَعْقُول والمشاهدة وَالنَّظَر فَإنَّا نقُول لَهُم هَل قَامَت حجَّة الله تَعَالَى على الْكفَّار كَمَا قَامَت على الْمُؤمنِينَ بتبين براهينه عز وَجل لَهُم أم لم تقم حجَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِم قطّ إِذْ لم يتَبَيَّن الْحق قطّ لكَافِر فَإِن قَالُوا أَن حجَّة الله تَعَالَى لم تقم قطّ على كَافِر إِذْ لم يتَبَيَّن الْحق للْكفَّار كفرُوا بِلَا خلاف من أحد وعذروا الْكفَّار وخالفوا الْإِجْمَاع وَإِن أقرُّوا أَن حجَّة الله تَعَالَى قد قَامَت على الْكفَّار بِأَن الْحق تبين لَهُم صدقُوا وَرَجَعُوا إِلَى الْحق وَإِلَى قَول أهل الْإِسْلَام وبرهان آخر أَن كَانَ أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَمَا سمعهم أحد إِلَّا مقرين(3/113)
بِاللَّه تَعَالَى وبنبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن الله تَعَالَى حرم على الْيَهُود الْعَمَل فِي السبت والتحوم فَمن الْبَاطِل أَن يتواطؤا كلهم فِي شَرق الأَرْض وغربها على إعلان مَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافه بِلَا سَبَب دَاع إِلَى ذَلِك وبرهان آخر وَهُوَ أَنا قد شاهدنا من النَّصَارَى وَالْيَهُود طوائف لَا يحصي عَددهمْ أَسْلمُوا وَحسن إسْلَامهمْ وَكلهمْ أَوَّلهمْ عَن آخِرهم يخبر من استخبره مَتى بقوا أَنهم فِي إسْلَامهمْ يعْرفُونَ أَن الله تَعَالَى حق وَأَن نبوة مُوسَى وَهَارُون حق كَمَا كَانُوا يعْرفُونَ ذَلِك فِي أَيَّام كفرهم وَلَا فرق وَمن أنكر هَذَا فقد كَابر عقله وحسه وَلحق بِمن لَا يسْتَحق أَن يكلم وبرهان آخر وَهُوَ انهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن نقل التَّوَاتُر يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ فَوَجَبَ من هذَيْن الْحكمَيْنِ أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين نقل إِلَيْهِم مَا أَتَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام من المعجزات نقل التَّوَاتُر قد وَقع لَهُم بِهِ الْعلم الضَّرُورِيّ بِصِحَّة نبوته من أجلهَا وَهَذَا لَا محيد لَهُم عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم إِن شِئْتُم الله تَعَالَى كفرا وَكَذَلِكَ شتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ دَعْوَى لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ} فنص تَعَالَى على أَن من الْكَلَام مَا هُوَ كفر وَقَالَ تَعَالَى {إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} فنص تَعَالَى أَن من الْكَلَام فِي آيَات الله تَعَالَى مَا هُوَ كفر بِعَيْنِه مسموع وَقَالَ تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ أَن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة} فنص تَعَالَى على أَن الِاسْتِهْزَاء بِاللَّه تَعَالَى أَو بآياته أَو برَسُول من رسله كفر فَخرج عَن الْإِيمَان وَلم يقل تَعَالَى فِي ذَلِك أَنِّي علمت أَن فِي قُلُوبكُمْ كفرا بل جعلهم كفَّارًا بِنَفس الِاسْتِهْزَاء وَمن ادّعى غير هَذَا فقد قَول الله تَعَالَى مَا لم يقل وَكذب على الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر يضل بِهِ الَّذين كفرُوا يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبحكم اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن أَن الزِّيَادَة فِي الشَّيْء لَا تكون الْبَتَّةَ إِلَّا مِنْهُ لَا من غَيره فصح أَن النسيء كفر وَهُوَ عمل من الْأَعْمَال وَهُوَ تَحْلِيل مَا حرم الله تَعَالَى فَمن أحل مَا حرم الله تَعَالَى وَهُوَ عَالم بِأَن الله تَعَالَى حرمه فَهُوَ كَافِر بذلك الْفِعْل نَفسه وكل من حرم مَا أحل الله تَعَالَى فقد أحل مَا حرم الله عز وَجل لِأَن الله تَعَالَى حرم على النَّاس أَن يحرموا مَا أحل الله وَأما خلاف الْإِجْمَاع فَإِن جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَن أعلن جحد الله تَعَالَى أَو جحد رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مَحْكُوم لَهُ بِحكم الْكفْر قطعا أما الْقَتْل واما أَخذ الْجِزْيَة وَسَائِر أَحْكَام الْكفْر وَمَا شكّ قطّ أحد فِي هَل هم فِي بَاطِن أَمرهم منؤمنين أم لَا وَلَا فَكروا فِي هَذَا وَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحد من أَصْحَابه وَلَا أحد مِمَّن بعدهمْ وَأما قَوْلهم أَن الْكفَّار إِذا كَانُوا مُصدقين بِاللَّه تَعَالَى وَنبيه بقلوبهم بقلوبهم والتصديق فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن هُوَ الْإِيمَان ففيهم بِلَا شكّ إِيمَان فَالْوَاجِب أَن يَكُونُوا بإيمَانهمْ ذَلِك مُؤمنين أَو أَن يكون فيهم إِيمَان لَيْسُوا بِكَوْنِهِ فيهم مُؤمنين ولابد من أحد الْأَمريْنِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تمويه فَاسد لِأَن التَّسْمِيَة كَمَا قد منا الله تَعَالَى لَا لأحد دونه وَقد أوضحنا الْبَرَاهِين على أَن الله تَعَالَى نقل اسْم الْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة إِلَى معنى آخر وَحرم فِي الدّيانَة إِيقَاع اسْم الْإِيمَان على التَّصْدِيق الْمُطلق وَلَوْلَا نقل الله تَعَالَى للفظة الْإِيمَان كَمَا ذكرنَا(3/114)
لوَجَبَ أَن يُسمى كل كَافِر على وَجه الأَرْض مُؤمنا وَأَن يخبر عَنْهُم بِأَن فيهم إِيمَانًا لأَنهم مُؤمنُونَ وَلَا بُد بأَشْيَاء كَثِيرَة مِمَّا فِي الْعَالم يصدقون بهَا هَذَا لَا يُنكره ذُو مسكة من عقل فَلَمَّا صَحَّ إجماعنا وإجماعهم وَإِجْمَاع كل من ينتمي إِلَى الْإِسْلَام على انهم وَإِن صدقُوا بأَشْيَاء كَثِيرَة فَإِنَّهُ لَا يحل لأحد أَن يسميهم مُؤمنين على الْإِطْلَاق وَلَا أَن يَقُول أَن لَهُم إِيمَانًا مُطلقًا أصلا لم يجز لأحد أَن يَقُول فِي الْكَافِر الْمُصدق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن الله تَعَالَى حق والمصدق بِقَلْبِه أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَنه مُؤمن وَلَا أَن فِيهِ إِيمَانًا أصلا إِلَّا حَتَّى يَأْتِي بِمَا نقل الله تَعَالَى إِلَيْهِ اسْم الْإِيمَان من التَّصْدِيق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَأَنه بَرِيء من كل دين غير دينه ثمَّ يتمادى بِإِقْرَارِهِ على مَا لَا يتم إِيمَان إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِهِ حَتَّى يَمُوت لَكنا نقُول أَن فِي الْكَافِر تَصْدِيقًا بِاللَّه تَعَالَى هُوَ بِهِ مُصدق بِاللَّه تَعَالَى وَلَيْسَ بذلك مُؤمنا وَلَا فِيهِ إِيمَان كَمَا أمرنَا الله تَعَالَى لَا كَمَا أَمر جهم والأشعري
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل هَذَا القَوْل الْمُتَّفق على تَكْفِير قَائِله وَقد نَص على تكفيرهم أَبُو عبيد الْقَاسِم فِي كِتَابه الْمَعْرُوف برسالة الْإِيمَان وَغَيره وَلنَا كتاب كَبِير نقضنا فِيهِ شبه أهل هَذِه الْمقَالة الْفَاسِدَة كتبناه على رجل مِنْهُم يُسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ أَن الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وكل من بعدهمْ قد صَحَّ إِجْمَاعهم على أَن من أعلن بِلِسَانِهِ بِشَهَادَة الْإِسْلَام فَإِنَّهُ عِنْدهم مُسلم مَحْكُوم لَهُ بِحكم الْإِسْلَام وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّوْدَاء أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ أَبُو طَالب قل كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ إِمَّا بِالْإِجْمَاع الْمَذْكُور فَصَحِيح وَإِنَّمَا حكمنَا لَهُم بِحكم الْإِيمَان فِي الظَّاهِر وَلم نقطع على أَنه عِنْد الله تَعَالَى مُؤمن وَهَكَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويؤمنوا بِمَا أرْسلت بِهِ فَإِذا فعلوا عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّوْدَاء أَنَّهَا مُؤمنَة فَظَاهر الْأَمر كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ قَالَ لَهُ خَالِد بن الْوَلِيد رب مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قلبه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس وَأما قَوْله لِعَمِّهِ أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله فَنعم يحاج بهَا على ظَاهر الْأَمر وحسابه على الله تَعَالَى فَبَطل كل مَا موهوا بِهِ ثمَّ نبين بطلَان قَوْلهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَنه يبين بطلَان قَول هَؤُلَاءِ قَول الله عز وَجل {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا وَلَهُم عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون} وَقَوله عز وَجل {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم} وَقَوله(3/115)
{قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا إِنَّمَا هَذِه الْآيَة بِمَعْنى أَن هَذِه الْأَفْعَال تدل على أَن فِي الْقلب إِيمَانًا قُلْنَا لَهُم لَو كَانَ مَا قُلْتُمْ لوَجَبَ وَلَا بُد أَن يكون ترك من ترك شَيْئا من هَذِه الْأَفْعَال دَلِيلا على أَنه لَيْسَ فِي قلبه إِيمَان وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ هَذَا أصلا مَعَ أَن هَذَا صرف لِلْآيَةِ عَن وَجههَا وَهَذَا لَا يجوز إِلَّا ببرهان وَقَوْلهمْ هَذَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا} فَأثْبت عز وَجل لَهُم الْإِيمَان الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق ثمَّ أسقط عَنَّا ولايتهم إِذْ لم يهاجروا فَأبْطل إِيمَانهم الْمُطلق ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} فصح يَقِينا أَن هَذِه الْأَعْمَال إِيمَان حق وَعدمهَا لَيْسَ إِيمَانًا وَهَذَا غَايَة الْبَيَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَقَالَ تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} فنص عز وَجل فِي هَذِه الْآيَة على أَن من آمن بِلِسَانِهِ وَلم يعْتَقد الْإِيمَان بِقَلْبِه فَإِنَّهُ كَافِر ثمَّ أخبرنَا تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ من هم وَأَنَّهُمْ الَّذين آمنُوا وأيقنوا بألسنتهم وَقُلُوبهمْ مَعًا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَأخْبر تَعَالَى أَن هَؤُلَاءِ هم الصادقون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ويلزمهم أَن الْمُنَافِقين مُؤمنُونَ لإقراهم بِالْإِيمَان بألسنتهم وَهَذَا قَول مخرج عَن الْإِسْلَام وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ اتَّخذُوا إِيمَانهم جنَّة فصدوا عَن سَبِيل الله أَنهم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا فطبع على قُلُوبهم} فَقطع الله تَعَالَى عَلَيْهِم بالْكفْر كَمَا ترى لأَنهم أبطنوا الْكفْر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان آخر وَهُوَ أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب لأحكم لَهُ عِنْد الله عز وَجل لِأَن أَحَدنَا يلفظ بالْكفْر حاكياً وقارئاً لَهُ فِي الْقُرْآن فَلَا يكون بذلك كَافِرًا حَتَّى يقر أَنه عقده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن احْتج بِهَذَا أهل الْمقَالة الأولى وَقَالُوا هَذَا يشْهد بِأَن الإعلان بالْكفْر لَيْسَ كفرا قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لَيست لنا وَإِنَّمَا هِيَ لله تَعَالَى فَلَمَّا أمرنَا تَعَالَى بِتِلَاوَة الْقُرْآن وَقد حكى لنا فِيهِ قَول أهل الْكفْر وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر خرج القاريء لِلْقُرْآنِ بذلك عَن الْكفْر إِلَى رضى الله عز وَجل وَالْإِيمَان بحكايته مَا نَص الله تَعَالَى بأَدَاء الشَّهَادَة بِالْحَقِّ فَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} خرج الشَّاهِد الْمخبر عَن الْكَافِر بِكُفْرِهِ عَن أَن يكون بذلك كَافِر إِلَى رضى الله عز وَجل وَالْإِيمَان وَلما قَالَ تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} أخرج من ثَبت إكراهه عَن أَن يكون بِإِظْهَار الْكفْر كَافِر إِلَى رخصَة الله تَعَالَى والثبات على الْإِيمَان وَبَقِي من أظهر الْكفْر لَا قارياً وَلَا شَاهدا وَلَا حاكياً وَلَا مكْرها على وجوب الْكفْر لَهُ بِإِجْمَاع الْأمة على الحكم لَهُ بِحكم الْكفْر وبحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وبنص الْقُرْآن(3/116)
على من قَالَ كلمة الْكفْر أَنه كَافِر وَلَيْسَ قَول الله عز وَجل وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا على مَا ظنوه من اعْتِقَاد الْكفْر فَقَط بل كل من نطق بالْكلَام الَّذِي يحكم لقائله عِنْد أهل الْإِسْلَام بِحكم الْكفْر لَا قارياً وَلَا شَاهدا وَلَا حاكياً وَلَا مكْرها فقد شرح بالْكفْر صَدرا بِمَعْنى أَنه شرح صَدره لقبُول الْكفْر الْمحرم على أهل الْإِسْلَام وعَلى أهل الْكفْر أَن يقولوه وَسَوَاء اعتقده أَو لم يَعْتَقِدهُ لِأَن هَذَا الْعَمَل من إعلان الْكفْر على غير الْوُجُوه الْمُبَاحَة فِي إِيرَاده وَهُوَ شرح الصَّدْر بِهِ فَبَطل تمويههم بِهَذِهِ الْآيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وبرهان آخر وَهُوَ قَول الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} فنص الله تَعَالَى على الْإِيمَان أَنه شَيْء قبل نفي الارتياب وَنفي الارتياب لَا يكون ضَرُورَة إِلَّا بِالْقَلْبِ وَحده فصح أَن الْإِيمَان إِذْ هُوَ قبل نفي الارتياب شَيْء آخر غير نفي الارتياب وَالَّذِي قبل نفي الارتياب هُوَ القَوْل بِاللِّسَانِ ثمَّ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْجهَاد مَعَ ذَلِك بِالْبدنِ وَالنَّفس وَالْمَال فَلَا يتم الْإِيمَان بِنَصّ كَلَام الله عز وَجل إِلَّا بِهَذِهِ الْأَقْسَام كلهَا فَبَطل بِهَذَا النَّص قَول من زعم أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده أَو القَوْل بِاللِّسَانِ وَحده أَو كِلَاهُمَا فَقَط دون الْعَمَل بِالْبدنِ وبرهان آخر وَهُوَ أَن نقُول لَهُم أخبرونا عَن أهل النَّار المخلدين فِيهَا الَّذين مَاتُوا على الْكفْر أهم حِين كَونهم فِي النَّار عارفون بقلوبهم صِحَة التَّوْحِيد والنبوة الَّذِي بجحدهم لكل ذَلِك ادخُلُوا النَّار وَهل هم حيئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لَا وَلَا بُد من أَحدهمَا فَإِن قَالُوا هم عارفون بِكُل ذَلِك مقرون بِهِ بألسنتهم وَقُلُوبهمْ قُلْنَا أهم مُؤمنُونَ أم غير مُؤمنين فَإِن قَالُوا هم غير مُؤمنين قُلْنَا قد تركْتُم قَوْلكُم أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة بِالْقَلْبِ أَو الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَقَط أَو كِلَاهُمَا فَقَط فَإِن قَالُوا هَذَا حكم الْآخِرَة قُلْنَا لَهُم فَإِذا جوزتم نقل الْأَسْمَاء عَن موضوعها فِي اللُّغَة فِي الْآخِرَة فَمن أَيْن منعتم من ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَلم تجوزوه لله عز وَجل فِيهَا وَلَيْسَ فِي الحماقة أَكثر من هَذَا وَإِن قَالُوا بل هم مُؤمنُونَ قُلْنَا لَهُم فَالنَّار إِذن أعدت للْمُؤْمِنين لَا للْكَافِرِينَ وَهِي دَار الْمُؤمنِينَ وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام الْمُتَّقِينَ وَإِن قَالُوا بل هم غير عارفين بِالتَّوْحِيدِ وَلَا بِصِحَّة النُّبُوَّة فِي حَال كَونهم فِي النَّار أكذبهم نُصُوص الْقُرْآن وكذبوا رَبهم عز وَجل فِي إخْبَاره أَنهم عارفون بِكُل ذَلِك هاتفون بِهِ بألسنتهم راغبون فِي الرّجْعَة وَإِلَّا قَالَه نادمون على مَا سلف مِنْهُم وكذبوا نُصُوص الْمَعْقُول وجاهروا بالمحال إِذْ جعلُوا من شَاهد الْقِيَامَة والحساب وَالْجَزَاء غير عَارِف بِصِحَّة ذَلِك فصح بِهَذَا أَن لَا إِيمَان وَلَا كفر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى إِيمَانًا وَكفرا وشركاً فَقَط وَلَا مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا مُشْرك إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى بِشَيْء من ذَلِك أما فِي الْقُرْآن وَأما على لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ أَن الْإِيمَان هُوَ العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ دون الْعَمَل بالجوارح فَلَا نكفر من قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة وَإِن كَانَت خطأ وبدعة وَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا أخبرونا عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وبريء من كل دين حاشا الْإِسْلَام وَصدق بِكُل مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واعتقد ذَلِك بِقَلْبِه وَمَات إِثْر ذَلِك أمؤمن هُوَ أم لَا فَإِن جَوَابنَا أَنه مُؤمن بِلَا شكّ عِنْد الله عز وَجل وَعِنْدنَا قَالُوا فأخبرونا أناقص الْإِيمَان هُوَ أم كَامِل الْإِيمَان قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ أَنه كَامِل الْإِيمَان فَهَذَا قَوْلنَا وَإِن قُلْتُمْ أَنه نَاقص الْإِيمَان سألناكم مَاذَا نَقصه(3/117)
من الْإِيمَان وماذا مَعَه مَعَ الْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه مُؤمن نَاقص الْإِيمَان بِالْإِضَافَة إِلَى من لَهُ إِيمَان زَائِد بأعمال لم يعملها وَهَذَا وكل وَاحِد فَهُوَ نَاقص الْإِيمَان بِالْإِضَافَة إِلَى من هُوَ أفضل أعمالاً مِنْهُ حَتَّى يبلغ الْأَمر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي لَا أحد أتم إِيمَانًا مِنْهُ بِمَعْنى أحسن أعمالاً مِنْهُ وَأما قَوْله مَا الَّذِي نَقصه من الْإِيمَان فَإِنَّهُ نَقصه الْأَعْمَال الَّتِي عَملهَا غَيره وَالَّتِي رَبنَا عز وَجل أعلم بمقاديرها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمِمَّا يبين أَن اسْم الْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة مَنْقُول عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة وَإِن الْكفْر أَيْضا كَذَلِك فَإِن الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية وَسمي الزراع كَافِرًا لتغطيته الْحبّ وَسمي اللَّيْل كَافِرًا لتغطيته كل شَيْء قَالَ الله عز وَجل {فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع} وَقَالَ تَعَالَى {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} يَعْنِي الزراع وَقَالَ لبيد بن ربيعَة يَمِينهَا أَلْقَت زَكَاة فِي كَافِر يَعْنِي اللَّيْل ثمَّ نقل الله تَعَالَى اسْم الْكفْر فِي الشَّرِيعَة إِلَى جحد الربوبية وَجحد نبوة نَبِي من الْأَنْبِيَاء صحت نبوته فِي الْقُرْآن أَو جحد شَيْء مِمَّا أَتَى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا صَحَّ عِنْد جاحده بِنَقْل الكافة أَو عمل شَيْء قَامَ الْبُرْهَان بِأَن الْعَمَل بِهِ كفر مِمَّا قد بَيناهُ فِي كتاب الإيصال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَو أَن إنْسَانا قَالَ أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَافِر وكل من تبعه كَافِر وَسكت وَهُوَ يُرِيد كافرون بالطاغوت كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} وَلما اخْتلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن قَائِل هَذَا مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَن إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَأَبا جهل مُؤمنُونَ لما اخْتلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن قَائِل هَذَا مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر وَهُوَ يُرِيد مُؤمنُونَ بدين الْكفْر فصح عِنْد كل ذِي مسكة من يتحيز أَن اسْم الْإِيمَان وَالْكفْر منقولان فِي الشَّرِيعَة عَن موضوعهما فِي اللُّغَة بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَأَنه لَا يجوز إِيقَاع اسْم الْإِيمَان الْمُطلق على معنى التَّصْدِيق بِأَيّ شَيْء صدق بِهِ الْمَرْء وَلَا يجوز إِيقَاع اسْم الْكفْر على معنى التغطية لأي شَيْء غطاه الْمَرْء لَكِن على مَا أوقع الله تَعَالَى عَلَيْهِ اسْم الْإِيمَان وَاسم الْكفْر وَلَا مزِيد وَثَبت يَقِينا أَن مَا عدا هَذَا ضلال مُخَالف لِلْقُرْآنِ وللسنن ولإجماع أهل الْإِسْلَام أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبَقِي حكم التَّصْدِيق على حَاله فِي اللُّغَة لَا يخْتَلف فِي ذَلِك إنسي وَلَا جني وَلَا كَافِر وَلَا مُؤمن فَكل من صدق بِشَيْء فَهُوَ مُصدق بِهِ فَمن صدق بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يصدق بِمَا لَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بِهِ فَهُوَ مُصدق بِاللَّه تَعَالَى أَو بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ مُؤمنا وَلَا مُسلما لكنه كَافِر مُشْرك لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
اعترافات للمرجئية الطَّبَقَات الثَّلَاث الْمَذْكُورَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ الْكفْر ضد الْإِيمَان قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِطْلَاق هَذَا القَوْل خطأ لِأَن الْإِيمَان اسْم مُشْتَرك يَقع على معَان شَتَّى كَمَا ذكرنَا فَمن تِلْكَ الْمعَانِي شَيْء يكون الْكفْر ضداً لَهُ وَمِنْهَا مَا يكون الْفسق ضداً لَهُ لَا الْكفْر وَمِنْهَا مَا يكون التّرْك ضداً لَهُ لَا الْكفْر وَلَا الْفسق فَأَما الْإِيمَان الَّذِي يكون الْكفْر ضداً لَهُ فَهُوَ العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فَإِن الْكفْر ضد لهَذَا الْإِيمَان وَأما الْإِيمَان الَّذِي يكون الْفسق ضداً لَهُ لَا الْكفْر فَهُوَ مَا كَانَ من الْأَعْمَال فرضا فَإِن تَركه ضد للْعَمَل وَهُوَ فسق لَا كفر وَأما الْإِيمَان الَّذِي يكون التّرْك لَهُ(3/118)
ضداً فَهُوَ كل مَا كَانَ من الْأَعْمَال تَطَوّعا فَإِن تَركه ضد الْعَمَل بِهِ وَلَيْسَ فسقاً وَلَا كفرا برهَان ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ من وُرُود النُّصُوص بِتَسْمِيَة الله عز وَجل أَعمال الْبر كلهَا إِيمَانًا وتسميته تَعَالَى مَا سمي كفرا وَمَا سمي فسقاً وَمَا سمي مَعْصِيّة وَمَا سمي إِبَاحَة لَا مَعْصِيّة وَلَا كفرا وَلَا إِيمَانًا وَقد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لأحد غَيره فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم أَلَيْسَ جحد الله عز وَجل بِالْقَلْبِ فَقَط لَا بِاللِّسَانِ كفرا فَلَا بُد من نعم قَالَ فَيجب على هَذَا أَن يكون التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَحده إِيمَانًا فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا كَانَ يَصح لكم لَو كَانَ التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده أَو بِاللِّسَانِ وَحده إِيمَانًا وَقد أوضحنا آنِفا أَنه لَيْسَ شَيْء من ذَلِك على انْفِرَاده إِيمَانًا وَأَنه لَيْسَ إِيمَانًا إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل إِيمَانًا وَلَيْسَ الْكفْر إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله عز وَجل كفرا فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل من أهل الطَّائِفَة الثَّالِثَة أَلَيْسَ جحد الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ وباللسان هُوَ الْكفْر كُله فَكَذَلِك يجب أَن يكون الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى بِاللِّسَانِ وَالْقلب هُوَ الْإِيمَان كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد لَيْسَ شَيْء مِمَّا قُلْتُمْ بل الْجحْد لشَيْء مِمَّا صَحَّ الْبُرْهَان أَنه لَا إِيمَان إِلَّا بتصديقه كفر والنطق بِشَيْء من كل مَا قَامَ الْبُرْهَان أَن النُّطْق بِهِ كفر كفر وَالْعَمَل بِشَيْء مِمَّا قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ كفر كفر فالكفر يزِيد وَكلما زَاد فِيهِ فَهُوَ كفر وَالْكفْر ينقص وَكله مَعَ ذَلِك مَا بَقِي مِنْهُ وَمَا نقص فكله كفر وَبَعض الْكفْر أعظم وَأَشد وأشنع من بعض وَكله كفر وَقد أخبر تَعَالَى عَن بعض الْكفْر أَنه تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هداً وَقَالَ عز وَجل {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ثمَّ قَالَ {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} فَأخْبر تَعَالَى أَن قوما يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب فَإذْ كل هَذَا قَول الله عز وَجل وَقَوله الْحق فالجزاء على قدر الْكفْر بِالنَّصِّ وَبَعض الْجَزَاء أَشد من بعض بالنصوص ضَرُورَة وَالْإِيمَان أَيْضا يتفاضل بنصوص صِحَاح وَردت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجَزَاء عَلَيْهِ فِي الْجنَّة بتفاضل بِلَا خلاف فَإِن قَالَ من الطبقتين الأوليتين أَلَيْسَ من قَوْلكُم من عرف الله عز وَجل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقر بهما بِقَلْبِه فَقَط إِلَّا أَنه مُنكر بِلِسَانِهِ لكل ذَلِك أَو لبعضه فَإِنَّهُ كَافِر وَكَذَلِكَ من قَوْلكُم أَن من أقرّ بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلِسَانِهِ فَقَط إِلَّا أَنه مُنكر بِقَلْبِه لكل ذَلِك أَو لبعضه فَإِنَّهُ كَافِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا نعم هَكَذَا نقُول قَالُوا فقد وَجب من قَوْلكُم إِذا كَانَ بِمَا ذكرنَا كَافِرًا أَن يكون فعله ذَلِك كفرا وَلَا بُد إِذْ لَا يكون كَافِرًا إِلَّا بِكُفْرِهِ فَيجب على قَوْلكُم أَن الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقَلْبِ كفر وَلَا بُد وَيكون الْإِقْرَار بِاللَّه تَعَالَى أَيْضا وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللِّسَانِ أَيْضا كفر وَلَا بُد وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنَّهُمَا إيما فقد وَجب على قَوْلكُم أَن يَكُونَا كفرا إِيمَانًا وفاعلهما كَافِرًا مُؤمنا مَعًا وَهَذَا كَمَا ترَوْنَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا شغب ضَعِيف وإلزام كَاذِب سموهُ لأننا لم نقل قطّ أَن من اعْتقد وَصدق بِقَلْبِه فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأنكر بِلِسَانِهِ ذَلِك أَو بعضه فَإِن اعْتِقَاده لتصديق ذَلِك كفر وَلَا أَنه كَانَ بذلك كَافِرًا وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه كفر بترك إِقْرَاره بذلك بِلِسَانِهِ فَهَذَا هُوَ الْكفْر وَبِه صَار كَافِرًا وَبِه أَبَاحَ الله تَعَالَى دَمه أَو أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُ بإجماعكم مَعنا وَإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وَكَانَ تَصْدِيقه بِقَلْبِه فَقَط بِكُل ذَلِك لَغوا محبطا كَأَنَّهُ لم يكن لَيْسَ إِيمَانًا وَلَا كفرا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة قَالَ تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون}(3/119)
وبالضرورة يدْرِي كل مُسلم أَن من حَبط عمله وَبَطل فقد سقط حكمه وتأثيره وَلم يبْق لَهُ رسم وَكَذَلِكَ لم نقل أَن من أقرّ بِلِسَانِهِ وَحده بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجحد بِقَلْبِه أَن إِقْرَاره بذلك بِلِسَانِهِ كفر وَلَا أَنه كَانَ بِهِ كَافِرًا لكنه كَانَ كَافِرًا بجحده بِقَلْبِه لما جحد من ذَلِك وجحده لذَلِك هُوَ الْكفْر وَكَانَ إِقْرَاره بِكُل ذَلِك بِلِسَانِهِ لَغوا محبطاً كَمَا ذكرنَا لَا إِيمَانًا وَلَا كفرا وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَسقط هَذَا الْإِيهَام الْفَاسِد فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم أَلَيْسَ بعض الْإِيمَان إِيمَانًا وَبَعض الْكفْر كفرا وَأَرَادَ أَن يلْزمنَا من هَذَا أَن العقد بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالجوارح إِذا كَانَ ذَلِك إِيمَانًا فإبعاضه إِذا إنفردت إِيمَانًا أَو أَن نقُول أَن إبعاض الْإِيمَان لَيست إِيمَانًا فيموه بِهَذَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إننا نقُول ونصرح أَنه لَيْسَ بعض الْإِيمَان إِيمَانًا أصلا بل الْإِيمَان متركب من أَشْيَاء إِذا اجْتمعت صَارَت إِيمَان كالبلق لَيْسَ السوَاد وَحده بلقاً وَلَا الْبيَاض وَحده بلقاً فَإِذا اجْتمعَا صَارا بلقاً وكالباب لَيْسَ الْخشب وَحده بَابا وَلَا المسامير وَحدهَا بَابا فَإِذا اجْتمعَا على شكل سمي حِينَئِذٍ بَابا وكالصلاة فَإِن الْقيام وَحده لَيْسَ صَلَاة وَلَا الرُّكُوع وَحده صَلَاة وَلَا الْجُلُوس وَحده صَلَاة وَلَا الْقِرَاءَة وَحدهَا صَلَاة وَلَا الذّكر وَحده صَلَاة وَلَا اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَحده صَلَاة أصلا فَإِذا اجْتمع كل ذَلِك سمي الْمُجْتَمع حِينَئِذٍ صَلَاة وَكَذَلِكَ الصّيام المفترض وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ لَيْسَ صِيَام كل سَاعَة من النَّهَار على انفرادها صياما فَإِذا اجْتمع صيامها كلهَا يُسمى صياما وَقد يَقع فِي الْيَوْم الْأكل وَالْجِمَاع وَالشرَاب سَهوا فَلَا يمْنَع ذَلِك من أَن يكون صِيَامه صَحِيحا وَالتَّسْمِيَة لله عز وَجل كَمَا قدمنَا لَا لأحد دونه بل من الْإِيمَان شَيْء إِذا إنفردكان كفرا كمن قَالَ مُصدقا بِقَلْبِه لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَهَذَا إِيمَان فَلَو أفرد لَا إِلَه وَسكت وسكوت قطع كفر بِلَا خلاف من أحد ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم فَإِذا انْفَرد صِيَامه أَو صلَاته دون إِيمَان أَهِي طَاعَة فَمن قَوْلهم لَا فقد صَارُوا فِيمَا أَرَادوا أَن يموهوا بِهِ علينا من أَن إبعاض الطَّاعَات إِذا انْفَرَدت لم تكن طَاعَة بل كَانَت مَعْصِيّة وَإِذا اجْتمعت كَانَت طَاعَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا إِذا كَانَ النُّطْق بِاللِّسَانِ عنْدكُمْ إِيمَانًا فَيجب إِذا عدم النُّطْق بِأَن يسكت الْإِنْسَان بعد إِقْرَاره أَن يكون سُكُوته كفرا فَيكون بسكوته كَافِرًا قُلْنَا إِن هَذَا يلْزمنَا عنْدكُمْ فَمَا تَقولُونَ إِن سألكم أَصْحَاب مُحَمَّد بن كرام فَقَالُوا لكم إِذا كَانَ الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَان عنْدكُمْ فَيجب إِذا سَهَا عَن الِاعْتِقَاد وإحضاره ذكره أما فِي حَال حَدِيثه مَعَ من يتحدث أَو فِي حَال فكره أَو نَومه أَن يكون كَافِرًا وَأَن يكون ذَلِك السَّهْو كفرا فجوابهم أَنه مَحْمُول على مَا صَحَّ مِنْهُ من الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول للجهمية والأشعرية فِي قَوْلهم إِن جحد الله تَعَالَى وَشَتمه وَجحد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ كل ذَلِك بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كفرا لكنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا أخبرونا عَن هَذَا الدَّلِيل الَّذِي ذكرْتُمْ أتقطعون بِهِ فتثبتونه يَقِينا وَلَا تشكون فِي أَن فِي قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هُوَ دَلِيل يجوز ويدخله الشَّك وَيُمكن أَن لَا يكون فِي قلبه كفر وَلَا بُد من أَحدهمَا فَإِن قَالُوا أَنه دَلِيل لَا نقطع بِهِ قطعا وَلَا نثبته يَقِينا قُلْنَا لَهُم فَمَا بالكم تحتجون بِالظَّنِّ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا}(3/120)
وأعجب من هَذَا أَنكُمْ إِنَّمَا قُلْتُمْ أَن إعلان الْكفْر إِنَّمَا قُلْنَا أَنه دَلِيل على أَن فِي الْقلب كفرا لِأَن الله تَعَالَى سماهم كفَّارًا فَلَا يمكننا رد شَهَادَة الله تَعَالَى فَعَاد هَذَا الْبلَاء عَلَيْكُم لأنكم قطعْتُمْ أَنَّهَا شَهَادَة الله عز وَجل ثمَّ لم تصدقوا شَهَادَته وَلَا قطعْتُمْ بهَا بل شَكَكْتُمْ فِيهَا وَهَذَا تَكْذِيب من لإخفاء بِهِ وَأما نَحن فمعاذ الله من أَن نقُول أَو نعتقد أَن الله تَعَالَى شهد بِهَذَا قطّ بل من أدعى أَن الله شهد بِأَن من أعلن الْكفْر فَإِنَّهُ جَاحد بِقَلْبِه كذب على الله عز وَجل وافترى عَلَيْهِ بل هَذِه شَهَادَة الشَّيْطَان الَّتِي أضلّ بهَا أولياءه وَمَا شهد الله تَعَالَى إِلَّا بضد هَذَا وبأنهم يعْرفُونَ الْحق ويكتمونه ويعرفون أَن الله تَعَالَى حق وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا ويظهرون بألسنتهم خلاف ذَلِك وَمَا سماهم الله عز وَجل قطّ كفَّارًا إِلَّا بِمَا ظهر مِنْهُم بألسنتهم وأفعالهم كَمَا فعل بإبليس وَأهل الْكتاب وَغَيرهم وَإِن قَالُوا بل يثبت بِهَذَا الدَّلِيل ونقطع بِهِ ونوقن أَن كل من أعلن بِمَا يُوجب إِطْلَاق اسْم الْكفْر عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ جَاحد بِقَلْبِه قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا بَاطِل من وُجُوه أَولهَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان وَثَانِيها أَنه علم غيب لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل وَالَّذِي يضمره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس فمدعى هَذَا معدي علم غيب ومدعي علم الْغَيْب كَاذِب وَثَالِثهَا أَن الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا ذكرنَا قد جَاءَت النُّصُوص فيهمَا بِخِلَاف هَذَا كَمَا تلونا قبل وَرَابِعهَا إِن كَانَ الْأَمر كَمَا تَقولُونَ فَمن أَيْن اقتصرتم بِالْإِيمَان على عقد الْقلب فَقَط وَلم تراعوا إِقْرَار اللِّسَان وَكِلَاهُمَا عنْدكُمْ مُرْتَبِط بِالْآخرِ لَا يُمكن انفرادهما وَهَذَا يبطل قَوْلكُم أَنه إِذا اعْتقد الْإِيمَان بِقَلْبِه لم يكن كَافِرًا بإعلانه الْكفْر فجوزتم أَن يكون يعلن الْكفْر من يبطن الْإِيمَان فَظهر تنَاقض مَذْهَبهم وعظيم فَسَاده وخامسها أَنه كَانَ إعلان الْكفْر بِاللِّسَانِ دَلِيلا على الْجحْد بِالْقَلْبِ وَالْكفْر بِهِ وَلَا بُد فَإِن إعلان الْإِيمَان بِاللِّسَانِ يجب أَيْضا أَن يكون دَلِيلا قَاطعا باتاً وَلَا بُد على أَن فِي الْقلب إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا لَا شكّ فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى سمى هَؤُلَاءِ مُؤمنين كَمَا سمى أؤلئك كفَّارًا وَلَا فرق بَين الشَّهَادَتَيْنِ فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى قد أخبر عَن الْمُنَافِقين المعلنين بِالْإِيمَان المبطنين للكفر والجحد قيل لَهُم وَكَذَلِكَ أعلمنَا الله تَعَالَى وَأخْبرنَا أَن إِبْلِيس وَأهل الْكتاب وَالْكفَّار بِالنُّبُوَّةِ إِنَّهُم يعلنون الْكفْر ويبطنون التَّصْدِيق ويؤمنون بِأَن الله تَعَالَى حق وَأَن رَسُوله حق يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أبنائهم وَلَا فرق وكل مَا موهتم بِهِ من الْبَاطِل وَالْكذب فِي هَؤُلَاءِ امكن للمرامية مثله سَوَاء بِسَوَاء فِي الْمُنَافِقين وَقَالُوا لم يكفروا قطّ بإبطانهم الْكفْر لَكِن لما سماهم الله بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا علمنَا أَنهم نطقوا بعد ذَلِك بالْكفْر والجحد بِشَهَادَة الله تَعَالَى بذلك كَمَا أدعيتم أَنْتُم شَهَادَته تَعَالَى على مَا فِي نفوس الْكفَّار وَلَا فرق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلتا الشَّهَادَتَيْنِ من هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ كذب على الله عز وَجل تَعَالَى وَمَا شهد الله عز وَجل قطّ على إِبْلِيس وَأولى الْكتاب بالْكفْر إِلَّا بِمَا أعلنوه من الاستخفاف بِالنُّبُوَّةِ وبآدم وبالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَلَا شهد تَعَالَى قطّ على الْمُنَافِقين بالْكفْر إِلَّا بِمَا بطنوه من الْكفْر فَقَط وَأما هَذَا فتحريف للكلم عَن موَاضعه وأفك مفتري ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونظروا قَوْلهم قَالُوا مثل هَذَا أَن نقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل(3/121)
هَذِه الدَّار الْيَوْم إِلَّا كَافِر أَو يَقُول كل من دخل هَذِه الدَّار الْيَوْم فَهُوَ كَافِر قَالُوا فدخول تِلْكَ الدَّار دَلِيل على أَنه يعْتَقد الْكفْر لَا أَن دُخُول الدَّار كفر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب وتمويه ضَعِيف بِأَن دُخُول تِلْكَ الدَّار فِي ذَلِك الْيَوْم كفر مَحْض مُجَرّد وَقد يُمكن أَن يكون الدَّاخِل فِيهَا مُصدقا بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن تَصْدِيقه ذَلِك قد حَبط بِدُخُولِهِ الدَّار وبرهان ذَلِك أَنه لَا يخْتَلف اثْنَان من أهل الْإِسْلَام فِي أَن دُخُول تِلْكَ الدَّار لَا يحل الْبَتَّةَ لعَائِشَة وَلَا لأبي بكر وَلَا لعَلي وَلَا لأحد من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا لأحد من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم كَمَا أَن الله تَعَالَى قد نَص على أَنه علم مَا فِي قُلُوبهم وَأنزل السكينَة عَلَيْهِم وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فقد وَجب ضَرُورَة أَن هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم لَو دخلُوا تِلْكَ الدَّار لكانوا كفَّارًا بِلَا شكّ بِنَفس دُخُولهمْ فِيهَا ولحبط إِيمَانهم فَإِن قَالُوا فَإِن قَالُوا لَو دَخلهَا هَؤُلَاءِ لم يكفروا كَانُوا هم قد كفرُوا لأَنهم بِهَذَا القَوْل قاطعون بِأَن كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كذب فِي قَوْله لَا يدخلهَا إِلَّا كَافِرًا وَاحْتج بَعضهم فِي هَذَا الْمَكَان بقول الأخطل النَّصْرَانِي لَعنه الله إِذْ يَقُول ... إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا
جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا على هَذَا الِاحْتِجَاج أَن نقُول مَلْعُون مَلْعُون قَائِل هَذَا الْبَيْت وملعون مَلْعُون من جعل قَول هَذَا النَّصْرَانِي حجَّة فِي دين الله عز وَجل وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اللُّغَة الَّتِي يحْتَج فِيهَا بالعربي وَإِن كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا هِيَ قَضِيَّة عقلية فالعقل والحس يكذب بِأَن هَذَا الْبَيْت وَقَضِيَّة شَرْعِيَّة فَالله عز وَجل أصدق من النَّصْرَانِي اللعين إِذْ يَقُول عز وَجل {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} فقد أخبر عز وَجل بِأَن من النَّاس من يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي فُؤَاده بِخِلَاف قَول الأخطل لَعنه الله أَن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَاللِّسَان دَلِيل على الْفُؤَاد فَأَما نَحن فنصدق الله عز وَجل ونكذب الأخطل وَلعن الله من يَجْعَل الأخطل حجَّة فِي دينه الله وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل فَإِن قَالُوا أَن الله عز وَجل قَالَ {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} قُلْنَا لَوْلَا أَن الله عز وَجل عرفه بهم وَلَده عَلَيْهِم بلحن القَوْل مَا كَانَ لحن قَوْلهم دَلِيلا عَلَيْهِم وَلم يُطلق الله تَعَالَى على هَذَا على كل أحد بل على أُولَئِكَ خَاصَّة بل قد نَص تَعَالَى على آخَرين بِخِلَاف ذَلِك إِذْ يَقُول {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} فَهَؤُلَاءِ من أهل الْمَدِينَة مُنَافِقُونَ مَرَدُوا على النِّفَاق لم يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلحن قَوْلهم وَلَو أَن النَّاس لم يضْربُوا قطّ كَلَام رَبهم تَعَالَى بعضه بِبَعْض وأخذوه كُله على مُقْتَضَاهُ لاهتدوا وَلَكِن من يهده الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً وَقد قَالَ عز وَجل {إِن الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملي لَهُم ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا نزل الله سنطيعكم فِي بعض الْأَمر وَالله يعلم أسرارهم فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} فجعلهم تَعَالَى مرتدين كفرا بعد علمهمْ الْحق وَبعد أَن تبين لَهُم الْهدى بقوله للْكفَّار مَا قَالُوا فَقَط وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه يعرف أسرارهم وَلم يقل تَعَالَى أَنَّهَا جحد أَو تَصْدِيق بل قد صَحَّ أَن فِي سرهم التَّصْدِيق لِأَن الْهدى قد تبين لَهُم وَمن تبين لَهُ شَيْء فَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يجحده بِقَلْبِه أصلا وَأخْبرنَا تَعَالَى أَنه قد أحبط أَعْمَالهم باتبَاعهمْ مَا أسخطه وكراهيتهم رضوانه وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون}(3/122)
فَهَذَا نَص جلي وخطاب للْمُؤْمِنين بِأَن إِيمَانهم يبطل جملَة وأعمالهم تحبط بِرَفْع أَصْوَاتهم فَوق صَوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون جحد كَانَ مِنْهُم أصلا وَلَو كَانَ مِنْهُم جحدا لشعروا لَهُ وَالله تَعَالَى أخبرنَا بِأَن ذَلِك يكون وهم لَا يَشْعُرُونَ فصح أَن من أَعمال الْجَسَد مَا يكون كفرا مُبْطلًا لإيمان فَاعله جملَة وَمِنْه مَا لَا يكون كفرا لَكِن على مَا حكم الله تَعَالَى بِهِ فِي كل ذَلِك وَلَا مزِيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل من أَيْن قُلْتُمْ أَن التَّصْدِيق لَا يتفاضل وَنحن نجد خضرَة أَشد خضرَة وشجاعة أَشد من شجاعة لَا سِيمَا والشجاعة والتصديق كيفيات من صِفَات النَّفس مَعًا فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن كل مَا قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فَإِنَّمَا يقبلهَا بمزاج يدْخلهُ من كَيْفيَّة أُخْرَى وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا فِيمَا بَينه وَبَين ضِدّه مِنْهَا وسائط قد تمازج كل وَاحِد من الضدين أَو فِيمَا جَازَ امتزاج الضدين فِيهِ كَمَا نجد بَين الخضرة وَالْبَيَاض وسائط من حمرَة وصفرة تمازجهما فتولد حِينَئِذٍ بالممازجة الشدَّة والضعف وكالصحة الَّتِي هِيَ اعْتِدَال مزاج الْعَفو فَإِذا مازج ذَلِك الِاعْتِدَال فضل مَا كَانَ مَرضه بِحَسب مَا مَا زجه فِي الشدَّة والضعف والشجاعة إِنَّمَا هِيَ استسهال النَّفس للثبات والإقدام عِنْد الْمُعَارضَة فِي اللِّقَاء فَإِذا ثَبت الِاثْنَان فإثباتاً وَاحِدًا وأقداما إقداماً مستوياً فهما فِي الشجَاعَة سَوَاء وَإِذا ثَبت أَحدهمَا أَو أقدم فَوق ثبات الآخر وإقدامه كَانَ أَشْجَع مِنْهُ وَكَانَ الآخر قد مازج ثباته أَو إقدامه جبن وَأما مَا كَانَ من الكيفيات لَا يقبل المزاج أصلا فَلَا سَبِيل إِلَى وجود التَّفَاضُل فِيهِ وَكَانَ ذَلِك على حسن مَا خلقه الله عز وَجل من كل ذَلِك وَلَا مزِيد كاللون فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى أَن يكون لون أَشد دُخُولا فِي أَنه لون من لون آخر إِذْ لَو مازج التَّصْدِيق غَيره لصار كذبا فِي الْوَقْت وَلَو مازج التَّصْدِيق شَيْئا غَيره لصار شكا فِي الْوَقْت وَبَطل التَّصْدِيق جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْإِيمَان قد قُلْنَا أَنه لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيق وَحده بل أَشْيَاء مَعَ التَّصْدِيق كَثِيرَة فَإِنَّمَا دخل التَّفَاضُل فِي كَثْرَة تِلْكَ الْأَشْيَاء وقلتها وَفِي كَيْفيَّة إيرادها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال شعيرَة من إِيمَان ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال برة من إِيمَان ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان إِلَى أدنى أدنى من ذَلِك إِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام من قصد إِلَى عمل شَيْء من الْخَيْر أَو هم بِهِ وَلم يعمله بعد أَن يكون مُصدقا بِقَلْبِه بِالْإِسْلَامِ مقرا بِلِسَانِهِ كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه مِثْقَال كَذَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن النُّصُوص على أَن الْأَعْمَال إِيمَان قَول الله تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنص تَعَالَى نصا جلياً لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَأقسم تَعَالَى بِنَفسِهِ أَنه لَا يُؤمن أحد إِلَّا من حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا شجر بَينه وَبَين غَيره ثمَّ يسلم لما حكم بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يجد فِي نَفسه حرجاً مِمَّا قضى وَهَذِه كلهَا أَعمال بِاللِّسَانِ وبالجوارح غير التَّصْدِيق بِلَا شكّ وَفِي هَذِه كِفَايَة لمن عقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْعجب قَوْلهم أَن الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالزَّكَاة لَيست إِيمَانًا لَكِنَّهَا شرائع الْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه تَسْمِيَة لم يَأْذَن الله تَعَالَى بهَا وَلَا رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحدا من(3/123)
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بل الْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان وَهُوَ الشَّرَائِع الشَّرَائِع هِيَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاخْتلف النَّاس فِي الْكفْر والشرك فَقَالَت طَائِفَة هِيَ اسمان واقعان على مَعْنيين وَإِن كل شرك كفر وَلَيْسَ كل كفر شركا وَقَالَ هَؤُلَاءِ لَا شرك إِلَّا قَول من جعل لله شَرِيكا قَالَ هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى كفَّارًا لَا مشركون وَسَائِر الْملَل كفار مشركون وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَغَيره وَقَالَ آخَرُونَ الْكفْر والشرك سَوَاء وكل كَافِر فَهُوَ مُشْرك وكل مُشْرك فَهُوَ كَافِر وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَغَيره
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الطَّائِفَة الأولى بقول الله عزو جلّ {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} قَالُوا فَفرق الله تَعَالَى بَين الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَقَالُوا لَفْظَة الشّرك مَأْخُوذَة من الشَّرِيك فَمن لم يَجْعَل لله شَرِيكا فَلَيْسَ شركا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه عُمْدَة حجتهم مَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَاتين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما احتجاجهم بقول الله عز وَجل {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين} فَلَو لم يَأْتِ فِي هَذَا الْمَعْنى غير هَذَا الْمَعْنى غير هَذِه الْآيَة لكَانَتْ حجتهم ظَاهِرَة لَكِن الَّذِي أنزل هَذِه الْآيَة هُوَ الْقَائِل {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا} وَقَالَ تَعَالَى {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَهَذَا كُله تشريك ظَاهر لإخفائه فَإذْ قد صَحَّ الشّرك والتشريك فِي الْقُرْآن من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فقد صَحَّ أَنهم مشركون وَأَن الشّرك وَالْكفْر اسمان لِمَعْنى وَاحِد وَقد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لنا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ أَن قَوْله تَعَالَى {الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين} كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا} وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن الْمُنَافِقين كفار وَكَقَوْلِه تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} وَلَا خلاف فِي أَن جِبْرِيل وَمِيكَائِيل من جملَة الْمَلَائِكَة وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} وَالرُّمَّان الرُّمَّان من الْفَاكِهَة وَالْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب وَالْعرب تعيد الشَّيْء باسمه وَإِن كَانَت قد أجملت ذكره تَأْكِيدًا لأَمره فَبَطل تعلق من تعلق بتفريق الله تَعَالَى بَين الْكفَّار وَالْمُشْرِكين فِي اللَّفْظ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بِأَن لفظ الشّرك مَأْخُوذ من الشَّرِيك فقد قُلْنَا ان التَّسْمِيَة لله عز وَجل لَا لأحد دونه وَله تَعَالَى أَن يُوقع أَي أسم شَاءَ على أَي مُسَمّى شَاءَ برهَان ذَلِك إِن من أشرك بَين عبيدين لَهُ فِي عمل مَا أَو بَين اثْنَيْنِ فِي هبة وَهبهَا لَهما فَإِنَّهُ لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم مُشْرك وَلَا يحل أَن يُقَال أَن فلَانا أشرك وَلَا أَن عمله شرك فصح أَنَّهَا لَفْظَة منقولة أَيْضا عَن موضوعها فِي اللُّغَة كَمَا أَن الْكفْر لَفْظَة منقولة أَيْضا عَن موضوعها إِلَى مَا أوقعهَا الله تَعَالَى عَلَيْهِ والتعجب من أهل هَذِه الْمقَالة وَقَوْلهمْ أَن النَّصَارَى لَيْسُوا مُشْرِكين وشركهم أظهر وَأشهر من أَن يجهله أحد لأَنهم يَقُولُونَ كلهم بِعبَادة الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس وَأَن الْمَسِيح إِلَه حق ثمَّ يجْعَلُونَ البراهمة مُشْرِكين وهم لَا يقرونَ إِلَّا بِاللَّه وَحده وَلَقَد كَانَ يلْزم أهل هَذِه الْمقَالة أَن لَا يجْعَلُوا كَافِرًا إِلَّا من جحد الله تَعَالَى فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ اتخذ الْيَهُود وَالنَّصَارَى(3/124)
أَرْبَابًا من دون الله وهم يُنكرُونَ هَذَا وَقُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن التَّسْمِيَة لله عز وَجل فَلَمَّا كَانَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى يحرمُونَ مَا حرم أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ وَيحلونَ مَا أحلُّوا كَانَت هَذِه ربوبية صَحِيحَة وَعبادَة صَحِيحَة قد دانوا بهَا وسمى الله تَعَالَى هَذَا الْعَمَل اتِّخَاذ أَرْبَابًا من دون الله وَعبادَة وَهَذَا هُوَ الشّرك بِلَا خلاف كَمَا سمي كفرهم بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِي نَاسخ لما هم عَلَيْهِ كفر بِاللَّه عز وَجل وَأَن كَانُوا مُصدقين بِهِ تَعَالَى لَكِن لما أحبط الله تَعَالَى تصديقهم سقط حكمه جملَة فَإِن قَالُوا كَيفَ تَقولُونَ أَن الْكفَّار مصدقون بِاللَّه تَعَالَى وَالله تَعَالَى يَقُول {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَيَقُول تَعَالَى {وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم} قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن كل من خرج إِلَى الْكفْر بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَا بُد لَهُ من أَن يكون مُكَذبا بِشَيْء مِمَّا لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ أَو رد أمرا من أمرو الله عز وَجل لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ فَهُوَ مكذب بذلك الشَّيْء الَّذِي رده أَو كذب بِهِ وَلم يقل الله تَعَالَى الَّذِي كذب بِاللَّه عز وَجل لَكِن قَالَ كذب وَتَوَلَّى وَلَا قَالَ تَعَالَى وَأما من كَانَ من المكذبين بِاللَّه وَإِنَّمَا قَالَ من المكذبين الضَّالّين فَقَط فَمن كذب بِأَمْر من أُمُور الله عز وَجل لَا يَصح الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ فَهُوَ مكذب على الْإِطْلَاق كَمَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى وَإِن كَانَ مُصدقا بِاللَّه تَعَالَى وَبِمَا صدق بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالُوا كَيفَ تَقولُونَ أَن الْيَهُود عارفون بِاللَّه تَعَالَى وَالنَّصَارَى وَالله تَعَالَى يَقُول {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قُلْنَا أَن التَّسْمِيَة إِلَى الله عز وَجل لَا لأحد دونه وَقُلْنَا أَن اسْم الْإِيمَان مَنْقُول عَن مَوْضُوعه فِي اللُّغَة عَن التَّصْدِيق الْمُجَرّد إِلَى معنى آخر زَائِد مَعَ التَّصْدِيق فَلَمَّا لم يستوفوا تِلْكَ الْمعَانِي بَطل تصديقهم جملَة واستحقوا بِبُطْلَانِهِ أَن يسموا غير مُؤمنين وَبِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر فَإِن قيل فَهَل هم مصدقون بِاللَّه وباليوم الآخر قُلْنَا نعم فَإِن قيل ففيهم موحدون لله تَعَالَى قُلْنَا نعم فَإِن قيل فيهم مُؤمنُونَ بِاللَّه وبالرسول وباليوم الآخر قُلْنَا لَا لِأَن الله تَعَالَى نَص على كل مَا قُلْنَا فَأخْبر تَعَالَى أَنهم يعرفونه ويقرون بِهِ ويعرفون نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه نَبِي فأقررنا بذلك وَأسْقط تَعَالَى عَنْهُم اسْم الْإِيمَان فأسقطناه عَنْهُم وَمن تعدى هَذِه الطَّرِيقَة فقد كذب ربه تَعَالَى وَخَالف الْقُرْآن وعاند الرَّسُول وخرق إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وكابر حسه وعقله مَعَ ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا نقُول فِيمَن كَانَ مُسلما ثمَّ أطلق واعتقد مَا يُوجب الْخُرُوج عَن الْإِسْلَام كالقول بنبوة إِنْسَان بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تَحْلِيل الْخمر أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ مُصدق بِاللَّه عز وَجل وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موحد عَالم بِكُل ذَلِك وَلَيْسَ مُؤمنا مُطلقًا وَلَا مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى وَلَا بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر لما ذكرنَا آنِفا وَلَا فرق لإِجْمَاع الْأمة كلهَا على اسْتِحْقَاق اسْم الْكفْر على من ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْكَلَام فِي تَسْمِيَة الْمُؤمن بِالْمُسلمِ وَالْمُسلم بِالْمُؤمنِ وَهل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام اسمان لمسمى وَاحِد وَمعنى وَاحِد أَو لمسميين ومعنيين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان اسمان واقعان على مَعْنيين وَأَنه قد يكون مُسلم غير مُؤمن وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ}(3/125)
وَبِالْحَدِيثِ الْمَأْثُور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ لَهُ سعد هَل لَك يَا رَسُول الله فِي فلَان فَإِنَّهُ مُؤمن فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مُسلم وَبِالْحَدِيثِ الْمَأْثُور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أَتَاهُ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة فَتى غير مَعْرُوف الْعين فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام فَأَجَابَهُ بأَشْيَاء فِي جُمْلَتهَا إقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وأعمال أخر مَذْكُورَة فِي ذَلِك الحَدِيث وَسَأَلَهُ عَن الْإِيمَان فَأَجَابَهُ بأَشْيَاء من جُمْلَتهَا أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَبِحَدِيث لَا يَصح من أَن الْمَرْء يخرج عَن الْإِيمَان إِلَى الْإِسْلَام وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لفظان مُتَرَادِفَانِ على معنى وَاحِد وَاحْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْإِيمَان أَصله فِي اللُّغَة التَّصْدِيق على الصّفة الَّتِي ذكرنَا قبل ثمَّ أوقعه الله عز وَجل فِي الشَّرِيعَة على جَمِيع الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي إِذا قصد بِكُل ذَلِك من عمل أَو ترك وَجه الله عز وَجل وَأَن الْإِسْلَام أَصله فِي اللُّغَة التبرؤ تَقول أسلمت أَمر كَذَا إِلَى فلَان إِذا تبرأت مِنْهُ إِلَيْهِ فَسُمي الْمُسلم مُسلما لِأَنَّهُ تَبرأ من كل شَيْء إِلَى الله عز وَجل ثمَّ نقل الله تَعَالَى اسْم الْإِسْلَام أَيْضا إِلَى جَمِيع الطَّاعَات وَأَيْضًا فَإِن التبرؤ إِلَى الله من كل شَيْء هُوَ معنى التَّصْدِيق لِأَنَّهُ لَا يبرأ إِلَى الله تَعَالَى من كل شَيْء حَتَّى يصدق بِهِ فَإِذا أُرِيد بِالْإِسْلَامِ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ خلاف الْكفْر وَخلاف الْفسق فَهُوَ وَالْإِيمَان شَيْء وَاحِد كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} وَقد يكون الْإِسْلَام أَيْضا بِمَعْنى الاستسلام أَي أَنه استسلم للملة خوف الْقَتْل وَهُوَ غير مُعْتَقد لَهَا فَإِذا أُرِيد بِالْإِسْلَامِ هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ غير الْإِيمَان وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الله تَعَالَى بقوله {لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص الْمَذْكُورَة من الْقُرْآن وَالسّنَن وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ الْإِيمَان فصح أَن الْإِسْلَام لَفْظَة مُشْتَركَة كَمَا ذكرنَا وَمن الْبُرْهَان على أَنَّهَا لَفْظَة منقولة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة أَن الْإِسْلَام فِي اللُّغَة هُوَ التبرؤ فَأَي شَيْء تَبرأ مِنْهُ الْمَرْء فقد أسلم من ذَلِك الشَّيْء وَهُوَ مُسلم كَمَا أَن من صدق بِشَيْء فقد آمن بِهِ وَهُوَ مُؤمن بِهِ وبيقين لَا شكّ فِيهِ يدْرِي كل وَاحِد أَن كل كَافِر على وَجه الأَرْض فَإِنَّهُ مُصدق بأَشْيَاء كَثِيرَة من أُمُور دُنْيَاهُ ومتبرىء من أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَا يخْتَلف اثْنَيْنِ من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يحل لأحد أَن يُطلق على الْكَافِر من أجل ذَلِك أَنه مُؤمن وَلَا أَنه مُسلم فصح يَقِينا أَن لَفْظَة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان منقولة عَن موضوعها فِي اللُّغَة إِلَى معَان محدودة مَعْرُوفَة لم تعرفها الْعَرَب قطّ حَتَّى أنزل الله عز وَجل بهَا الْوَحْي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه من أَتَى بهَا اسْتحق اسْم الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَسمي مُؤمنا مُسلما وَمن يَأْتِ بهَا لم يسم مُؤمنا وَلَا مُسلما وَإِن صدق بِكُل شَيْء غَيرهَا أَو تَبرأ من كل شَيْء حاشى مَا أوجبت الشَّرِيعَة التبرأ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْكفْر والشرك لفظتان منقولتان عَن موضوعهما فِي اللُّغَة لِأَن الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية والشرك أَن تشرك شَيْئا مَعَ آخر فِي أَي معنى(3/126)
جمع بَينهمَا وَلَا خلاف بَين أحد من أهل التَّمْيِيز فِي أَن كل مُؤمن فِي الأَرْض فِي أَنه يُغطي أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ من أجل ذَلِك الْكفْر وَلَا الشّرك وَلَا أَن يُسمى كَافِرًا وَلَا مُشْركًا وَصَحَّ يَقِينا أَن الله تَعَالَى نقل اسْم الْكفْر والشرك إِلَى إِنْكَار أَشْيَاء لم تعرفها الْعَرَب وَإِلَى أَعمال لم تعرفها الْعَرَب قطّ كمن جحد الصَّلَاة أَو صَوْم رَمَضَان أَو غير ذَلِك من الشَّرَائِع الَّتِي لم تعرفها الْعَرَب قطّ حَتَّى أنزل الله تَعَالَى بهَا وحيه أَو كمن عبد وثناً فَمن أَتَى بِشَيْء من تِلْكَ الْأَشْيَاء سمي كَافِرًا أَو مُشْركًا وَمن لم يَأْتِ بِشَيْء من تِلْكَ الْأَشْيَاء لم يسم كَافِرًا وَلَا مُشْركًا وَمن خَالف هَذَا فقد كَابر الْحس وَجحد العيان وَخَالف الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع الْمُسلمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاخْتلف النَّاس فِي قَول الْمُسلم أَنا مُؤمن فروينا عَن ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من أَصْحَابه الأفاضل وَمن بعده من الْفُقَهَاء أَنه كره ذَلِك وَكَانَ يَقُول أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَقَالَ بَعضهم آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَكَانُوا يَقُولُونَ من قَالَ أَنا مُؤمن فَلْيقل إِنَّه من أهل الْجنَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا ابْن مَسْعُود وَأَصْحَابه حجج فِي اللُّغَة فَأَيْنَ جهال المرجئة المموهون فِي نصر بدعتهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل عندنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن هَذِه صفة يعلمهَا الْمَرْء من نَفسه فَإِن كَانَ يدْرِي أَنه مُصدق بِاللَّه عز وَجل وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا أَتَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه يقر بِلِسَانِهِ بِكُل ذَلِك فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعْتَرف بذلك كَمَا أَمر تَعَالَى إِذْ قَالَ تَعَالَى {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} وَلَا نعْمَة أوكد وَلَا أفضل وَلَا أولى بالشكر من نعْمَة الْإِسْلَام فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يَقُول أَنا مُؤمن مُسلم قطعا عِنْد الله تَعَالَى فِي وقتي هَذَا وَلَا فرق بَين قَوْله أَنا مُؤمن مُسلم وَبَين قَوْله أَنا أسود أَو أَنا أَبيض وَهَكَذَا سَائِر صِفَاته الَّتِي لَا يشك فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الامتداح وَالْعجب فِي شَيْء لِأَنَّهُ فرض عَلَيْهِ أَن يحقن دَمه بِشَهَادَة التَّوْحِيد قَالَ تَعَالَى {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} وَقَول ابْن مَسْعُود عندنَا صَحِيح لِأَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان اسمان منقولان عَن موضوعهما فِي اللُّغَة إِلَى جَمِيع الْبر والطاعات فَإِنَّمَا منع ابْن مَسْعُود من القَوْل بِأَنَّهُ مُسلم مُؤمن على معنى أَنه مستوف لجَمِيع الطَّاعَات وَهَذَا صَحِيح وَمن ادّعى لنَفسِهِ هَذَا فقد كذب بِلَا شكّ وَمَا منع رَضِي الله عَنهُ من أَن يَقُول الْمَرْء أَنِّي مُؤمن بِمَعْنى مُصدق كَيفَ وَهُوَ يَقُول قل آمَنت بِاللَّه وَرُسُله أَي صدقت وَأما من قَالَ فَقل أَنَّك فِي الْجنَّة فَالْجَوَاب أننا نقُول إِن متْنا على مَا نَحن عَلَيْهِ الْآن فَلَا بُد لنا من الْجنَّة بِلَا شكّ وبرهان ذَلِك أَنه قد صَحَّ من نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع أَن من آمن بِاللَّه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِكُل مَا جَاءَ بِهِ أَو لم يَأْتِ بِمَا هُوَ كفر فَإِنَّهُ فِي الْجنَّة إِلَّا أننا لَا نَدْرِي مَا يفعل بِنَا فِي الدُّنْيَا وَلَا نَأْمَن مكر الله تَعَالَى وَلَا إضلاله وَلَا كيد الشَّيْطَان وَلَا نَدْرِي مَاذَا نكسب غَدا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي تَسْمِيَة المذنب من أهل ملتنا فَقَالَت المرجئة هُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان وَإِن لم يعْمل خيرا قطّ وَلَا كف عَن شَرّ قطّ وَقَالَ بكر بن أُخْت(3/127)
عبد الْوَاحِد بن زيد هُوَ كَافِر مُشْرك كعابد الوثن بِأَيّ ذَنْب كَانَ مِنْهُ صَغِيرا أَو كَبِيرا وَلَو فعله على سَبِيل المزاح وَقَالَت الصغرية إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ مُشْرك كعابد الوثن وَإِن كَانَ الذَّنب صَغِيرا فَلَيْسَ كَافِرًا وَقَالَت الأباضية إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ كَافِر نعْمَة تحل موارثته ومناكحته وَأكل ذَبِيحَته وَلَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن صَاحب الْكَبِير مُنَافِق وَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَانَ الذَّنب من الْكَبَائِر فَهُوَ فَاسق لَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا وَلَا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وَأكل ذَبِيحَته قَالُوا وَإِن كَانَ من الصَّغَائِر فَهُوَ مُؤمن لَا شَيْء عَلَيْهِ فِيهَا وهب أهل السّنة من أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفُقَهَاء إِلَى أَنه مُؤمن فَاسق نَاقص الْإِيمَان وَقَالُوا الْإِيمَان اسْم معتقده وَإِقْرَاره وَعلمه الصَّالح وَالْفِسْق اسْم عمله السيء إِلَّا أَن بَين السّلف مِنْهُم وَالْخلف اخْتِلَافا فِي تَارِك الصَّلَاة عمدا حَتَّى يخرج وَقتهَا وتارك الصَّوْم لَو مضى كَذَلِك وتارك الزَّكَاة وتارك الْحَج كَذَلِك وَفِي قَاتل الْمُسلم عمدا وَفِي شَارِب الْخمر وفيمن سبّ نَبيا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وفيمن رد حَدِيثا قد صَحَّ عِنْده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فروينا عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ومعاذ بن جبل وَابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَعَن ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق ابْن رَاهْوَيْةِ رَحْمَة الله عَلَيْهِم وَعَن تَمام سَبْعَة عشر رجلا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَن من ترك صَلَاة فرض عَامِدًا ذَاكِرًا حَتَّى يخرج وَقتهَا فَإِنَّهُ كَافِر مُرْتَد وَبِهَذَا يَقُول عبد الله بن الْمَاجشون صَاحب مَالك وَبِه يَقُول عبد الْملك بن حبيب الأندلسي وَغَيره وروينا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ مثل ذَلِك فِي تَارِك الْحَج وَعَن ابْن عَبَّاس وَغير مثل ذَلِك فِي تَارِك الزَّكَاة وَالصِّيَام وَفِي قَاتل الْمُسلم عمدا وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي شَارِب الْخمر وَعَن اسحق بن رَاهْوَيْةِ أَن من رد صَحِيحا عِنْده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد كفر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج من كفر من المذنبين بقول الله عز وَجل {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} فصح أَن من لم يكذب وَلَا تولى أَلا يصلاها قَالُوا وَوجدنَا هَؤُلَاءِ كلهم لم يكذبوا وَلَا توَلّوا بل هم مصدقون معترفون بِالْإِيمَان فصح أَنهم لَا يصلونها وَأَن المُرَاد بالوعيد الْمَذْكُور فِي الْآيَات المنصوصة إِنَّمَا هُوَ فعل تِلْكَ الأفاعيل من الْكفَّار خَاصَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أَيْضا من كفر من ذكرنَا بِأَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر وَلَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَلَا ينهب نهبة ذَات شَرّ حِين ينهبها وَهُوَ مُؤمن وَترك الصَّلَاة شرك وَإِن كفرا بكم أَن ترغبوا عَن آبائكم وَمثل هَذَا كثير
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا نعلم لمن قَالَ وَهُوَ مُنَافِق حجَّة أصلا وَلَا لمن قَالَ أَنه كَافِر نعْمَة إِلَّا أَنهم نزعوا بقول الله عز وَجل {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار}(3/128)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن كفر النِّعْمَة عمل يَقع من الْمُؤمن وَالْكَافِر وَلَيْسَ هُوَ مِلَّة وَلَا اسْم دين فَمن ادّعى اسْم دين وملة غير الْإِيمَان الْمُطلق وَالْكفْر الْمُطلق فقد أَتَى بِمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَأما من قَالَ هُوَ فَاسق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر فَمَا لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا أَنهم قَالُوا قد صَحَّ الْإِجْمَاع على انه فَاسق لِأَن الْخَوَارِج قَالُوا هُوَ كَافِر فَاسق وَقَالَ غَيرهم هُوَ مُؤمن فَاسق فاتفقوا على الْفسق فَوَجَبَ القَوْل بذلك وَلم يتفقوا على إيمَانه وَلَا على كفره فَلم يجز القَوْل بذلك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خلاف لإِجْمَاع من ذكر لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُم أحد جعل الْفسق اسْم دينه وَإِنَّمَا سموا بذلك عمله وَالْإِجْمَاع والنصوص قد صَحَّ كل ذَلِك على أَنه لَا دين إِلَّا الْإِسْلَام أَو الْكفْر من خرج من أَحدهمَا دخل فِي الآخر وَلَا بُد إِذْ لَيْسَ بَينهمَا وسيطة وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم وَهَذَا حَدِيث قد أطبق جَمِيع الْفرق المنتمية إِلَى الْإِسْلَام على صِحَّته وعَلى القَوْل بِهِ فَلم يَجْعَل عَلَيْهِ السَّلَام دينا غير الْكفْر وَالْإِسْلَام وَلم يَجْعَل هَاهُنَا دينا ثَالِثا اصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واحتجت الْمُعْتَزلَة أَيْضا بِأَن قَالَت الله تَعَالَى {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون} فصح أَن هَؤُلَاءِ الَّذين سماهم الله تَعَالَى مجرمين وفساقاً وأخرجهم عَن الْمُؤمنِينَ نصا فَإِنَّهُم لَيْسُوا على دين الْإِسْلَام وَإِذا لم يَكُونُوا على دين الْإِسْلَام فهم كفار بِلَا شكّ إِذْ لَا دين هَا هُنَا غَيرهمَا أصلا برهَان هَذَا قَوْله تَعَالَى {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَقد علمنَا ضَرُورَة أَنه لَا دَار إِلَّا الْجنَّة أَو النَّار وَأَن الْجنَّة لَا يدخلهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُسلمُونَ فَقَط وَنَصّ الله تَعَالَى على أَن النَّار لَا يدخلهَا إِلَّا المكذب الْمُتَوَلِي وَالْمُتوَلِّيّ المكذب كَافِر بِلَا خلاف فَلَا يخلد فِي النَّار إِلَّا كَافِر وَلَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن فصح أَنه لَا دين إِلَّا الْإِيمَان وَالْكفْر فَقَط وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَهَؤُلَاءِ الَّذين سماهم الله عز وَجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عَن الْمُؤمنِينَ فهم كفار مشركون لَا يجوز غير ذَلِك وَقَالَ الْمُؤمن مَحْمُود محسن ولي الله عز وَجل والمذنب مَذْمُوم مسيء عَدو لله قَالُوا وَمن الْمحَال أَن يكون إِنْسَان وَاحِد مَحْمُودًا مذموماً محسناً مسيئاً عدوا لله وليا لَهُ مَعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي أنكروه لَا نكرَة فِيهِ بل هُوَ أَمر مَوْجُود مشَاهد فَمن أحسن من وَجه وأساء من وَجه آخر كمن صلى ثمَّ زنى فَهُوَ محسن مَحْمُود ولي الله فِيمَا أحسن فِيهِ من صَلَاة وَهُوَ مسيء مَذْمُوم عَدو لله فِيمَا أَسَاءَ فِيهِ من الزِّنَا قَالَ عز وَجل {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} فبالضرورة نَدْرِي أَن الْعَمَل الَّذِي شهد الله عز وَجل أَنه سيء فَإِن عَامله فِيهِ مَذْمُوم مسيء عَاص لله تَعَالَى ثمَّ يُقَال لَهُم مَا تَقولُونَ إِن عارضتكم المرجئة بكلامكم نَفسه فَقَالُوا من الْمحَال أَن يكون إِنْسَان وَاحِد مَحْمُودًا مذموماً محسناً مسيئا عَدو لله وليا لَهُ مَعًا ثمَّ أَرَادوا تَغْلِيب الْحَمد وَالْإِحْسَان وَالْولَايَة وَإِسْقَاط الذَّم والإساءة والعداوة كَمَا أردتم أَنْتُم بِهَذِهِ الْقَضِيَّة نَفسهَا تَغْلِيب الذَّم والإساءة والعداوة وَإِسْقَاط الْحَمد وَالْإِحْسَان وَالْولَايَة بِمَا ينفصلون عَنْهُم فَإِن قَالَت الْمُعْتَزلَة أَن الشَّرْط فِي حَمده وإحسانه وولايته أَن تجتنب الْكَبَائِر قُلْنَا لَهُم فَإِن عارضتكم المرجئة فَقَالَت أَن الشَّرْط فِي ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شَهَادَة التَّوْحِيد فَإِن قَالَت الْمُعْتَزلَة(3/129)
أَن الله قد ذمّ الْمعاصِي وتوعد عَلَيْهَا قيل لَهُم فَإِن المرجئة تَقول لكم أَن الله تَعَالَى قد حمد الْحَسَنَات ووعد عَلَيْهَا وَأَرَادَ بذلك تَغْلِيب الْحَمد كَمَا أردتم تَغْلِيب الذَّم فَإِن ذكرْتُمْ آيَات الْوَعيد ذكرُوا آيَات الرَّحْمَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا مخلص للمعتزلة مِنْهُ وَلَا للمرجئة أَيْضا فوضح بِهَذَا أَن كلا الطَّائِفَتَيْنِ مخطئة وَأَن الْحق هُوَ جمع كل مَا تعلّقت بِهِ كلتا الطَّائِفَتَيْنِ من النُّصُوص الَّتِي فِي الْقُرْآن وَالسّنَن وَيَكْفِي من هَذَا كُله قَول الله عز وَجل {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وَقَوله تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَقَوله تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل أَتَيْنَا بهَا وَكفى بِنَا حاسبين} فصح بِهَذَا كُله أَنه لَا يُخرجهُ عَن اسْم الْإِيمَان إِلَّا الْكفْر وَلَا يُخرجهُ عَن اسْم الْكفْر إِلَّا الْإِيمَان وَأَن الْأَعْمَال حسنها حسن إِيمَان وقبيحها قَبِيح لَيْسَ إِيمَانًا والموازنة تقضي على كل ذَلِك وَلَا يحبط الْأَعْمَال إِلَّا الشّرك قَالَ تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَقَالُوا إِذا أقررتم أَن أَعمال الْبر كلهَا إِيمَانًا وَأَن الْمعاصِي لَيست أيماناً فَهُوَ عنْدكُمْ مُؤمن غير مُؤمن قُلْنَا نعم وَلَا نكرَة فِي ذَلِك وَهُوَ مُؤمن بِالْعَمَلِ الصَّالح غير مُؤمن بِالْعَمَلِ السيء كَمَا نقُول محسن بِمَا أحسن فِيهِ مسيء غير محسن مَعًا بِمَا أَسَاءَ فِيهِ وَلَيْسَ وَلَيْسَ الْإِيمَان عندنَا التَّصْدِيق وَحده فيلزمنا التَّنَاقُض وَهَذَا هُوَ معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن أَي لَيْسَ مُطيعًا فِي زِنَاهُ ذَلِك وَهُوَ مُؤمن بِسَائِر حَسَنَاته وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {كَذَلِك حقت كلمة رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ} فَفرق تَعَالَى بَين الْفسق وَالْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد نعم وَقد أوضحنا أَن الْإِيمَان هُوَ كل عمل صَالح فبيقين نَدْرِي أَن الْفسق لَيْسَ إِيمَانًا فَمن فسق فَلم يُؤمن بذلك الْعَمَل الَّذِي هُوَ الْفسق وَلم يقل عز وَجل إِنَّه لَا يُؤمن فِي شَيْء من سَائِر أَعماله وَقد قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} فهولاء قدشهد الله تَعَالَى لَهُم بِالْإِيمَان فَإِذا وَقع مِنْهُم فسق لَيْسَ إِيمَانًا فَمن الْمحَال أَن يبطل فسقه إيمَانه فِي سَائِر أَعماله وَأَن يبطل إيمَانه فِي سَائِر الْأَعْمَال فسقه بل شَهَادَة الله تَعَالَى لَهُ بِالْإِيمَان فِي جهاده حق وَبِأَنَّهُ لم يُؤمن فِي فسقه حق أَيْضا فَإِن الله عز وَجل قَالَ {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} فَيلْزم الْمُعْتَزلَة أَن يصرحوا بِكفْر كل عَاص وظالم وفاسق لِأَن كل عَامل بالمعصية فَلم يحكم بِمَا أنزل الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَنَقُول إِن كل من كفر فَهُوَ فَاسق ظَالِم عَاص وَلَيْسَ كل فَاسق ظَالِم عَاص كَافِرًا بل يكون مُؤمنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى الوفيق وَقد قَالَ تَعَالَى {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم} فبعض الظُّلم مغْفُور بِنَصّ الْقُرْآن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا قد وَجب لعن الْفُسَّاق والظالمين وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا لعنة الله على الظَّالِمين} وَالْمُؤمن يجب ولَايَته وَالدُّعَاء لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّارِق وَمن(3/130)
لعن أَبَاهُ وَمن غير منار الأَرْض فيلزمكم أَن تدعوا على الْمَرْء الْوَاحِد باللعنة وَالْمَغْفِرَة مَعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول أَن الْمُؤمن الْفَاسِق يتَوَلَّى دينه وملته وعقده وَإِقْرَاره ويتبرأ من عمله الَّذِي هُوَ الْفسق وَالْبَلَاء وَالْولَايَة لَيست من عين الْإِنْسَان مُجَرّدَة فَقَط وَإِنَّمَا هِيَ لَهُ أَو مِنْهُ بِعَمَلِهِ الصَّالح أَو الْفَاسِد فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فبيقين نَدْرِي أَن المحسن فِي بعض أَفعاله من الْمُؤمنِينَ نتولاه من أجل مَا أحسن فِيهِ ونبرأ من عمله السيء فَقَط وَأما الله تَعَالَى فَإِنَّهُ يتَوَلَّى عمله الصَّالح عِنْده ويعادي علمه الْفَاسِد وَأما الدُّعَاء باللعنة وَالرَّحْمَة مَعًا فلسنا ننكره بل هُوَ معنى صَحِيح وَمَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى قطّ وَلَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهي أَن يلعن العَاصِي على مَعْصِيَته ويترحم عَلَيْهِ لإحسانه وَلَو أَن امْرأ زنى أَو سرق وَحَال الْحول على مَاله وجاهد لوَجَبَ أَن يحد للزِّنَا وَالسَّرِقَة وَلَو لعن لأحسن لَا عَنهُ وَيُعْطِي نصِيبه من الْمغنم ونقبض زَكَاة مَاله وَنُصَلِّي عَلَيْهِ عِنْد ذَلِك لقَوْل الله {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وبيقين نَدْرِي أَنه قد كَانَ فِي أُولَئِكَ الَّذين كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يقبض صَدَقَاتهمْ وَيُصلي عَلَيْهِم مذنبون عصاة لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَخْلُو جَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من عَاص وَكَذَلِكَ كل من مَاتَ فِي عصره عَلَيْهِ السَّلَام وَصلى عَلَيْهِ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام والمسلمون مَعَه وَبعده فبيقين نَدْرِي أَنه قد كَانَ فيهم مذنب بِلَا شكّ وَإِذا صلى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَإِن ذكر عمله الْقَبِيح وَلعن وذم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال نَفسه فِي أَصْحَاب الصَّغَائِر الَّذين يُوقع عَلَيْهِم الْمُعْتَزلَة اسْم الْإِيمَان فَهَذِهِ السؤالات كلهَا لَازِمَة لَهُم إِذْ الصَّغَائِر ذنُوب ومعاص بِلَا شكّ إِلَّا أننا لَا نوقع عَلَيْهَا اسْم فسق وَلَا ظلم إِذا انْفَرَدت عَن الْكَبَائِر لِأَن الله تَعَالَى ضمن غفرانها لمن اجْتنب الْكَبَائِر وَمن غفر لَهُ ذَنبه فَمن الْمحَال أَن يُوقع عَلَيْهِ اسْم فَاسق أَو اسْم ظَالِم لِأَن هذَيْن اسمان يسقطان قبُول الشَّهَادَة مجتنب الْكَبَائِر وَإِن تستر بالصغاير فشهادته مَقْبُولَة لِأَنَّهُ لَا ذَنْب لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلنَا على الْمُعْتَزلَة الزامات أَيْضا تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عَلَيْهَا عِنْد نقضنا أَقْوَال المكفرة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِه نتأيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ إِن صَاحب الْكَبِيرَة كَافِر قَالَ الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فأتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} فابتدأ الله عز وَجل بخطاب أهل الْإِيمَان من كَانَ فيهم من قَاتل أَو مقتول وَنَصّ تَعَالَى على أَن الْقَاتِل عمدا وَولي الْمَقْتُول أَخَوان وَقد قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة} فصح أَن الْقَاتِل عمدا مُؤمن بِنَصّ الْقُرْآن وَحكمه لَهُ بأخوة الْإِيمَان وَلَا يكون للْكَافِرِ مَعَ الْمُؤمن بِتِلْكَ الْأُخوة وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة فأصلحوا بَين أخويكم وَاتَّقوا الله} فَهَذِهِ الْآيَة رَافِعَة للشَّكّ جملَة فِي قَوْله تَعَالَى إِن الطَّائِفَة الباغية على الطَّائِفَة الْأُخْرَى من الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُور سَائِر الْمُؤمنِينَ بقتالها حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله تَعَالَى أخوة للْمُؤْمِنين المقاتلين(3/131)
وَهَذَا أَمر لَا يضل عَنهُ إِلَّا ضال وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ حجَّة قَاطِعَة أَيْضا على الْمُعْتَزلَة أَيْضا المسقطة اسْم الْإِيمَان عَن الْقَاتِل وعَلى كل من أسقط عَن صَاحب الْكَبَائِر اسْم الْإِيمَان وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول أَنه تَعَالَى إِنَّمَا جعلهم إِخْوَاننَا إِذا تَابُوا لِأَن نَص الْآيَة أَنهم إخْوَان فِي حَال الْبَغي وَقبل الفئة إِلَى الْحق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم أَن هَذَا الاقتتال إِنَّمَا هُوَ التضارب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ فَاحش لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان وَتَخْصِيص الْآيَة بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِلَا شكّ وَالثَّانِي أَن ضرب الْمُسلم للْمُسلمِ ظلما وبغياً فسق ومعصية وَوجه ثَالِث وَهُوَ أَن الله تَعَالَى لَو لم يرد الْقِتَال الْمَعْهُود لما أمرنَا بِقِتَال من لَا يزِيد على الملاطمة وَقد عَم تَعَالَى فِيهَا باسم الْبَغي بِكُل بغي فَهُوَ دَاخل تَحت هَذَا الحكم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكرُوا قَول الله عز وَجل {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ الْآيَة بظاهرها دون تَأْوِيل حجَّة لنا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَن الْقَاتِل الْعَامِد لَيْسَ مُؤمنا وَإِنَّمَا فِيهَا نهي الْمُؤمن عَن قتل الْمُؤمن عمدا فَقَط لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا} وَهَكَذَا نقُول لَيْسَ لِلْمُؤمنِ من قتل الْمُؤمن عمدا ثمَّ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا خطأ} فاستثنى عز وَجل الْخَطَأ فِي الْقَتْل من جملَة مَا حرم من قتل الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ لِأَنَّهُ لَا يجوز النَّهْي عَمَّا لَا يُمكن الِانْتِهَاء عَنهُ وَلَا يقدر عَلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أمننا من أَن يكلفنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وكل فعل خطأ فَلم ننه عَنهُ بل قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة وَكَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض فَهُوَ أَيْضا على ظَاهره وَإِنَّمَا فِي هَذَا اللَّفْظ النَّهْي عَن أَن يرتدوا بعده إِلَى الْكفْر فيقتتلوا فِي ذَلِك فَقَط وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ أَن الْقَاتِل كَافِر وَلَا فِيهِ أَيْضا النَّهْي عَن الْقَتْل الْمُجَرّد أصلا وَإِنَّمَا نهى عَنهُ فِي نُصُوص أخر من الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ أَيْضا نهي عَن الزِّنَا وَلَا عَن السّرقَة وَلَيْسَ فِي كل حَدِيث حكم كل شَرِيعَة فَبَطل تعلقهم بِهَذَا الْخَبَر وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر فَهُوَ أَيْضا على عُمُومه لِأَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْمُسلم هَاهُنَا عُمُوم للْجِنْس وَلَا خلاف فِي أَن من نابذ جَمِيع الْمُسلمين وَقَاتلهمْ لإسلامهم فَهُوَ كَافِر برهَان هَذَا هُوَ مَا ذكرنَا من قبل من نَص الْقُرْآن فِي أَن الْقَاتِل عمدا والمقاتل مُؤْمِنَانِ وَكَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يتعارض وَلَا يخْتَلف وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ كفر لكم أَن ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل كفر مِنْكُم وَلم يقل أَنه كفر بِاللَّه تَعَالَى نعم وَنحن نقر أَن من رغب عَن أَبِيه فقد كفر بِأَبِيهِ وجحده وَيُقَال لمن قَالَ أَن صَاحب الْكَبِير لَيْسَ مُؤمنا وَلكنه كَافِر أَو فَاسق ألم يقل الله عز وَجل {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يؤمنَّ وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين}(3/132)
وَفِي سُورَة النِّسَاء محصنات غير مصافحات فَهَذِهِ آيَات فِي غَايَة الْبَيَان فِي أَنه لَيْسَ فِي الأَرْض إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر أَو مُؤمنَة أَو كَافِرَة وَلَا يُوجد دين ثَالِث وَأَن المؤمنة حَلَال نِكَاحهَا لِلْمُؤمنِ وَحرَام نِكَاحهَا على الْكَافِر وَأَن الْكِتَابِيَّة حَلَال لِلْمُؤمنِ بالزواج وللكافر فخبرونا إِذا زنت الْمَرْأَة وَهِي غير مُحصنَة أَو وَهِي مُحصنَة أَو إِذا سرقت أَو شربت الْخمر أَو قذفت أَو أكلت مَال يَتِيم أَو تَعَمّدت ترك الْغسْل حَتَّى خُرُوج وَقت الصَّلَاة وَهِي عَالِمَة بذلك أَو لم تخرج زَكَاة مَالهَا فَكَانَت عنْدكُمْ بذلك كَافِرَة أَو بريئة من الْإِسْلَام خَارِجَة عَن الْإِيمَان وخارجة من جملَة الْمُؤمنِينَ أَيحلُّ لِلْمُؤمنِ الْفَاضِل ابْتِدَاء نِكَاحهَا والبقاء مَعهَا على الزَّوْجِيَّة إِن كَانَ قد تزَوجهَا قبل ذَلِك أَو يحرم على أَبِيهَا الْفَاضِل أَو أَخِيهَا الْبر أَن يَكُونَا لَهَا وليين فِي تَزْوِيجهَا وأخبرونا إِذا زنى الرجل أَو سرق أَو قذف أَو أكل مَال يَتِيم أَو فر من الزَّحْف أَو سحر أَو ترك صَلَاة عمدا حَتَّى خرج وَقتهَا أَو لم يخرج زَكَاة مَاله فَصَارَ بذلك عنْدكُمْ كَافِرًا أَو بَرِيئًا من الْإِسْلَام وَخرج عَن الْإِيمَان وَعَن جملَة الْمُؤمنِينَ أيحرم عَلَيْهِ ابْتِدَاء نِكَاح امْرَأَة مُؤمنَة أَو وَطْؤُهَا بِملك الْيَمين أَو تحرم عَلَيْهِ امْرَأَته المؤمنة الَّتِي فِي عصمته فينفسخ نِكَاحهَا مِنْهُ أَو يحرم عَلَيْهِ أَن يكون وليا لابنته المؤمنة أَو أُخْته المؤمنة فِي تَزْوِيجهَا وَهل يحرم على الَّتِي ذكرنَا وَالرجل الَّذِي ذكرنَا مِيرَاث وليهما الْمُؤمن أَو يحرم على وليهما الْمُؤمن ميراثهما أَو يحرم أكل ذَبِيحَته لِأَنَّهُ قد فَارق الْإِسْلَام فِي زعمكم وَخرج عَن جملَة الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم كلهم لَا يَقُولُونَ بِشَيْء من هَذَا فَمن الْخلاف الْمُجَرّد مِنْهُم لله تَعَالَى أَن يحرم الله تَعَالَى المؤمنة على من لَيْسَ بِمُؤْمِن فيحلونها هم وَيحرم الله تَعَالَى الَّتِي لَيست مُؤمنَة على الْمُؤمن أَلا أَن تكون كِتَابِيَّة فيحلونها هم وَيقطع الله تَعَالَى الْولَايَة بَين الْمُؤمن وَمن لَيْسَ مُؤمنا فيبقونها فِي الْإِنْكَاح وَيحرم تَعَالَى ذَبَائِح من لَيْسَ مُؤمنا إِلَّا أَن يكون كتابياً فيحلونها هم وَيقطع عز وَجل الموارثة بَين الْمُؤمن وَمن لَيْسَ مُؤمنا فيثبتونها هم وَمن خَالف الْقُرْآن وَثَبت على ذَلِك بعد قيام الْحجَّة عَلَيْهِ فَنحْن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأكْثر هَذِه الْأُمُور الَّتِي ذكرنَا فَإِنَّهُ لَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِيهَا وَلَا بَين فرقة من الْفرق المنتمية إِلَى الْإِسْلَام وَفِي بَعْضهَا خلاف نشِير إِلَيْهِ لِئَلَّا يظنّ ظان أننا أغفلناه فَمن ذَلِك الْخلاف فِي الزَّانِي والزانية فَإِن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يفْسخ النِّكَاح قبل الدُّخُول بِوُقُوعِهِ من أَحدهمَا وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من السّلف لَا يجيزون للزاني ابْتِدَاء نِكَاح مَعَ مسلمة الْبَتَّةَ وَلَا للزانية أَيْضا إِلَّا أَن يتوبا وَبِهَذَا نقُول نَحن لَيْسَ لِأَنَّهُمَا ليسَا مُسلمين بل هما مسلمان وَلكنهَا شَرِيعَة من الله تَعَالَى وَارِدَة فِي الْقُرْآن فِي ذَلِك كَمَا يحرم على الْمحرم النِّكَاح مَا دَامَ محرما وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذِه الْآيَة أَيْضا نَص جلي على أَن الزَّانِي والزانية ليسَا مُشْرِكين لِأَن الله تَعَالَى فرق بَينهمَا فرقا لَا يحْتَمل الْبَتَّةَ أَن يكون على سَبِيل التَّأْكِيد بل على أَنَّهُمَا صفتان مُخْتَلِفَتَانِ وَإِذا لم مُشْرِكين فهما ضَرُورَة مسلمان لما قد بَينا قبل من أَن كل كَافِر فَهُوَ مُشْرك وكل مُشْرك فَهُوَ كَافِر وكل من لم يكن كَافِرًا مُشْركًا فَهُوَ مُؤمن إِذْ لَا سَبِيل إِلَى دين ثَالِث وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْخلاف فِي بعض مَا ذكرنَا قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن الْمُسلم إِذا ارْتَدَّ والمسلمة إِذا لم يسلم زَوجهَا فَهِيَ امْرَأَته كَمَا كَانَت إِلَّا أَنه لَا يَطَؤُهَا وَرُوِيَ عَن عمر أَيْضا أَنَّهَا تخير فِي الْبَقَاء مَعَه أَو فِرَاقه وكل هَذَا لَا حجَّة فِيهِ وَلَا حجَّة إِلَّا فِي نَص الْقُرْآن أَو سنة وَارِدَة عَن رَسُول الله(3/133)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل قد أَمر بقتل الْمُشْركين جملَة وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا إِلَّا كتابياً يغرم الْجِزْيَة مَعَ الصغار أَو رَسُولا حَتَّى يُؤَدِّي رسَالَته وَيرجع لي مَاء مِنْهُ مستجيراً ليسمع كَلَام الله تَعَالَى ثمَّ يبلغ إِلَى مأمنه وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قَالَ بِأَن صَاحب الْكَبِيرَة قد خرج من الْإِيمَان وَبَطل إِسْلَامه وَصَارَ فِي دين آخر إِمَّا الْكفْر وَإِمَّا الْفسق إِذا كَانَ الزَّانِي وَالْقَاتِل السَّارِق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزَّحْف وآكل مَال الْيَتِيم قد خرج عَن الْإِسْلَام وَترك دينه أيقتلونه كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا يقتلونه ويخالفون الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن قَوْلهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أَنهم لَا يقتلونه وَأما فِي بعض ذَلِك حُدُود مَعْرُوفَة من قطع يدا وَجلد مائَة أَو ثَمَانِينَ وَفِي بعض ذَلِك أدب فَقَط وَأَنه لَا يحل الدَّم بِشَيْء من ذَلِك وَهَذَا انْقِطَاع ظَاهر وَبطلَان لقَولهم لَا خَفَاء بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبَعض شَاذَّة الْخَوَارِج جسر فَقَالَ تُقَام الْحُدُود عَلَيْهِم ثمَّ يستتابون فيقتلون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خلاف الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَخلاف لِلْقُرْآنِ مُجَرّد لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فقد حرم الله تَعَالَى قَتلهمْ وافترض استبقاءهم مَعَ إصرارهم وَلم يَجْعَل فيهم إِلَّا رد شَهَادَتهم فَقَط وَلَو جَازَ قَتلهمْ فَكيف كَانُوا يؤدون شَهَادَة لَا تقبل بعد قَتلهمْ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله عز وَجل {لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من الغي فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا خلاف بَيْننَا وَبينهمْ وَلَا بَين أحد من الْأمة فِي أَن من كفر بالطاغوت وآمن بِاللَّه واستمسك بالعروة الوثقى الَّتِي لَا انفصام لَهَا فَإِنَّهُ مُؤمن مُسلم فَلَو كَانَ الْفَاسِق غير مُؤمن لَكَانَ كَافِرًا وَلَا بُد وَلَو كَانَ كَافِرًا لَكَانَ مُرْتَدا يجب قَتله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ الله عز وَجل {مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين} فَوَجَبَ يَقِينا بِأَمْر الله عز وَجل أَن لَا يتْرك يعمر مَسَاجِد الله بِالصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ وَكلهمْ مُتَّفق مَعنا على أَن الْفَاسِق صَاحب الْكَبَائِر مدعُو مُلْزم عمَارَة الْمَسَاجِد بِالصَّلَاةِ مجبر على ذَلِك وَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا على ذَلِك وعَلى تَركهم يصلونَ مَعنا وإلزامهم أَدَاء الزَّكَاة وَأَخذهَا مِنْهُم وإلزامهم صِيَام رَمَضَان وَحج الْبَيْت برهَان وَاضح لَا إِشْكَال فِيهِ على أَنه لم يخرج عَن دين الْمُؤمنِينَ وَأَنه مُسلم مُؤمن وَقَالَ عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهدى} إِلَى قَوْله تعال {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ} فخاطب تَعَالَى الْمُؤمنِينَ باياس الْكَافرين عَن دينهم وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} فصح أَن لَا دين إِلَّا دين الْإِسْلَام وَمَا عداهُ شَيْء غير مَقْبُول وَصَاحبه يَوْم الْقِيَامَة خاسر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ عز وَجل {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فصح يَقِينا أَنه لَيْسَ فِي النَّاس وَلَا فِي الْجِنّ إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر(3/134)
فَمن خرج عَن أَحدهمَا دخل فِي الْآخِرَة فنسألهم عَن رجل من الْمُسلمين فسق وجاهر بالكبائر وَله أختَان إِحْدَاهمَا نَصْرَانِيَّة وَالثَّانيَِة مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هَذَا الْفَاسِق وليا فِي النِّكَاح ووارثاً وَعَن امْرَأَة سرقت وزنت وَلها ابْنا عَم أَحدهمَا يَهُودِيّ وَالْآخر مُسلم فَاضل أَيهمَا يحل لَهُ نِكَاحهَا وَهَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ وَلَا خَفَاء بِهِ فصح أَن صَاحب الْكَبَائِر مُؤمن وَقَالَ الله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} فأخبرونا أتأمرون الزَّانِي وَالسَّارِق والقاذف وَالْقَاتِل بِالصَّلَاةِ وتؤدبونه أَن لم يصل أم لَا فَمن قَوْلهم نعم وَلَو قَالُوا لخالفوا الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن فَنَقُول لَهُم أفتأمرونه بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أم بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ وَبِمَا يُمكن أَن يقبله الله تَعَالَى أم بِمَا يُوقن أَنه لَا يقبله فَإِن قَالُوا نأمره لَيْسَ عَلَيْهِ بِمَا ظهر تناقضهم إِذْ لَا يجوز أَن يلْزم أحد مَا لَا يلْزمه وَإِن قَالُوا بل بِمَا عَلَيْهِ قطعُوا بِأَنَّهُ مُؤمن لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا وَإِن قَالُوا نأمره بِمَا لَا يُمكن أَن يقبل مِنْهُ أحالوا إِذْ من الْمحَال أَن يُؤمر أحد بِعَمَل هُوَ على يَقِين من أَنه لَا يقبل مِنْهُ وَإِن قَالُوا بل نأمره بِمَا نرجو أَن يقبل مِنْهُ قُلْنَا صَدقْتُمْ وَقد صَحَّ بِهَذَا أَن الْفَاسِق من الْمُتَّقِينَ فِيمَا عمل من عمل صَالح فَقَط وَمن الْفَاسِقين فِيمَا عمل من الْمعاصِي ونسألهم أيأمرون صَاحب الْكَبِيرَة بتمتيع الْمُطلقَة إِن طَلقهَا أم لَا فَإِن قَالُوا نأمره بذلك لَزِمَهُم أَنه من الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول فِي الْمُتْعَة حَقًا على الْمُحْسِنِينَ وَحقا على الْمُتَّقِينَ فصح أَن الْفَاسِق محسن فِيمَا عمل من صَالح ومسيء فِيمَا عمل من سيئ فَإِن قَالُوا إِن الصَّلَاة عَلَيْهِ كَمَا هِيَ عنْدكُمْ على الْكفَّار أَجْمَعِينَ قُلْنَا لَا سَوَاء لِأَنَّهَا وَإِن كَانَ الْكَافِر وَغير الْمُتَوَضِّئ وَالْجنب مأمورين بِالصَّلَاةِ معذبين على تَركهَا فَإنَّا لَا نتركهم يقيمونها أصلا بل نمنعهم مِنْهَا حَتَّى يسلم الْكَافِر وَيتَوَضَّأ الْمُحدث ويغتسل الْجنب وَيتَوَضَّأ أَو يتَيَمَّم وَلَيْسَ كَذَلِك الْفَاسِق بل تجبره على إِقَامَتهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ من أحد إِلَّا أَن الجبائي المعتزلي وَمُحَمّد بن الطّيب الباقلاني ذَهَبا من بَين جَمِيع الْأمة إِلَى أَن من كَانَت لَهُ ذنُوب فَإِنَّهُ لَا تقبل لَهُ تَوْبَة من شَيْء مِنْهَا حَتَّى يَتُوب من الْجَمِيع واتبعهما على ذَلِك قوم وَقد ناظرنا بَعضهم فِي ذَلِك ولزمناهم أَن يوجبوا على كل من أذْنب ذَنبا وَاحِدًا أَن يتْرك الصَّلَاة الْفَرْض وَالزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْجُمُعَة وَالْحج وَالْجهَاد لِأَن إِقَامَة كل ذَلِك تَوْبَة إِلَى الله من تَركهَا فَإِذا كَانَت تَوْبَته لَا تقبل من شَيْء حَتَّى يَتُوب من كل ذَنْب لَهُ فَإِنَّهُ لَا يقبل لَهُ تَوْبَة من ترك صَلَاة وَلَا من ترك صَوْم وَلَا من ترك زَكَاة حَتَّى يَتُوب من كل ذَنْب لَهُ وَهَذَا خلاف لجَمِيع الْأمة إِن قَالُوهُ أَو تنَاقض إِن لم يقولوه مَعَ أَنه قَول لَا دَلِيل لَهُم على تَصْحِيحه أصلا وَمَا كَانَ هَذَا فَهُوَ بَاطِل قَالَ الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَالَ تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} فصح يَقِينا بِهَذَا اللَّفْظ أَن فِينَا غير عدل وَغير صَالح وهما منا وَنحن مُؤمنُونَ فَهُوَ مُؤمن بِلَا شكّ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن تَابُوا} يَعْنِي من الشّرك {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين} وَهَذَا نَص جلي على أَن من صلى من أهل شَهَادَة الْإِسْلَام وزكى فَهُوَ أخونا فِي الدّين وَلم يقل تَعَالَى مَا لم يَأْتِ بكبيرة فصح أَنه منا وَإِن أَتَى بالكبائر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {مذبذبين بَين ذَلِك لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} وَقَوله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم} وراموا بذلك إِثْبَات أَنه لَا مُؤمن وَلَا كَافِر فَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك الْمُنَافِقين المبطنين للكفر المظهرين(3/135)
لِلْإِسْلَامِ فهم لَا مَعَ الْكفَّار وَلَا مِنْهُم وَلَا إِلَيْهِم لِأَن هَؤُلَاءِ يظهرون الْإِسْلَام وَأُولَئِكَ لَا يظهرونه وَلَا هم مَعَ الْمُسلمين وَلَا مِنْهُم وَلَا إِلَيْهِم لإبطانهم الْكفْر وَلَيْسَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ أَنهم لَيْسُوا كفَّارًا وَقد قَالَ عز وَجل {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} فصح يَقِينا أَنهم كفار لَا مُؤمنُونَ أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيُقَال لمن قَالَ أَن صَاحب الْكَبِيرَة مُنَافِق مَا معنى هَذِه الْكَلِمَة فجوابهم الَّذِي لَا جَوَاب لأحد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة غَيره هُوَ أَن الْمُنَافِق من كَانَ النِّفَاق صفته وَمعنى النِّفَاق فِي الشَّرِيعَة هُوَ إِظْهَار الْإِيمَان وإبطان الْكفْر فَيُقَال لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يعلم مَا فِي النَّفس إِلَّا الله تَعَالَى ثمَّ تِلْكَ النَّفس الَّتِي ذَلِك الشَّيْء فِيهَا فَقَط وَلَا يجوز أَن نقطع على اعْتِقَاد أحد الْكفْر إِلَّا بِإِقْرَارِهِ بِلِسَانِهِ بالْكفْر وبوحي من عِنْد الله تَعَالَى وَمن تعاطى علم مَا فِي النُّفُوس فقد تعاطى علم الْغَيْب وَهَذَا خطأ مُتَيَقن يعلم بِالضَّرُورَةِ وحسبك من القَوْل سقوطاً أَن يُؤَدِّي إِلَى الْمحَال الْمُتَيَقن وَقد قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قلبه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لم أبْعث لأشق عَن قُلُوب النَّاس وَقد ذكر الله تَعَالَى الْمُنَافِقين فَقَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ} {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} فَإِذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعرف الْمُنَافِقين وهم مَعَه وَهُوَ يراهم ويشاهد أفعالهم فَمن بعده أَحْرَى أَن لَا يعلمهُمْ وَلَقَد كَانَ الزناة على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّرِقَة وشراب الْخمر ومضيعوا فرض الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة والقاتلون عمدا والقذفة فَمَا سمى عَلَيْهِ السَّلَام قطّ أحدا مِنْهُم منافقين بل أَقَامَ الْحُدُود فِي ذَلِك وتوعد بحرق الْمنَازل وَأمر لَدَيْهِ وَالْعَفو وأبقاهم فِي جملَة الْمُؤمنِينَ وَأبقى عَلَيْهِم حكم الْإِيمَان وَاسِعَة وَقد قُلْنَا إِن التَّسْمِيَة فِي الشَّرِيعَة لله عز وَجل لَا لأحد دونه وَلم يَأْتِ قطّ عَن الله عز وَجل تَسْمِيَة صَاحب الْكَبِيرَة منافقاً فَإِن قَالُوا قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَقد ذكر خِصَالًا من كن فِيهِ كَانَ منافقاً خَالِصا وَإِن صَامَ وَصلى وَقَالَ إِنِّي مُسلم وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام تِلْكَ الْخِصَال فَمِنْهَا إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا ائْتمن خَان وَإِذا عَاهَدَ غدر وَإِذا خَاصم فجر وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَن من كَانَت بِهِ خصْلَة مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خصْلَة من النِّفَاق حَتَّى يَدعهَا قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أخبرناك أَن الْمُنَافِق هُوَ من أظهر شَيْئا وأبطن خِلَافه مَأْخُوذ فِي أصل اللُّغَة من نافقاء اليربوع وَهُوَ بَاب فِي جَانب جُحْره مَفْتُوح قد غطاه بِشَيْء من تُرَاب وَهَذِه الْخلال كلهَا الَّتِي ذكرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا بَاطِن صَاحبهَا بِخِلَاف مَا يظْهر فَهُوَ مُنَافِق هَذَا النَّوْع من النِّفَاق وَلَيْسَ هُوَ النِّفَاق الَّذِي يظنّ صَاحبه الْكفْر بِاللَّه برهَان ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا من إِجْمَاع الْأمة على أَخذ زَكَاة مَال كل من وصف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنفاق وعَلى إنكاحه ونكاحها إِن كَانَت امْرَأَة وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وَتَركه يُصَلِّي مَعَ الْمُسلمين وعَلى تَحْرِيم دَمه وَمَاله وَلَو تَيَقنا أَنه يبطن الْكفْر لوَجَبَ قَتله وَحرم إنكاحه ونكاحها وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وَلم نتركه يُصَلِّي مَعَ الْمُسلمين وَلَكِن تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وَجل الذِّرَاع كفَّارًا إِذْ يَقُول تَعَالَى {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} لِأَن أصل الْكفْر فِي اللُّغَة التغطية فَمن ستر شَيْئا فَهُوَ كَافِر وأصل النِّفَاق فِي اللُّغَة سترشيء وَإِظْهَار خِلَافه فَمن ستر شَيْئا وَأظْهر خِلَافه فَهُوَ مُنَافِق فِيهِ وَلَيْسَ هَذَانِ من الْكفْر الديني وَلَا من النِّفَاق الشَّرْعِيّ فِي شَيْء وَبِهَذَا تتألف الْآيَات وَالْأَحَادِيث كلهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نقُول لمن قَالَ بِهَذَا القَوْل هَل أتيت بكبيرة قطّ فَإِن قَالَ لَا قيل لَهُ هَذَا القَوْل كَبِيرَة(3/136)
لِأَنَّهُ تَزْكِيَة وَقد نهى الله عز وَجل عَن ذَلِك فَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} وَقد علمنَا أَنه لَا يعرى أحد من ذَنْب إِلَّا الْمَلَائِكَة والنبيين صلى الله عَلَيْهِم وَسلم وَأما من دونهم فَغير مَعْصُوم بل قد اخْتلف النَّاس فِي عصمَة الْمَلَائِكَة والنبيين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِن كُنَّا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الْمَلَائِكَة ذَنبا صَغِيرا أَو كَبِيرا بعمد أَو خطأ من جوز على أحد من النَّبِيين ذَنبا بعمد صَغِيرا أَو كَبِيرا لَكنا أعلمنَا أَنه لم يتَّفق على ذَلِك قطّ وَإِن قَالَ بلَى قد كَانَ لي كَبِيرَة قيل لَهُ هَل كنت فِي حَال مواقفك الْكَبِيرَة شاكاً فِي الله عز وَجل أَو فِي رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو كَافِرًا بهما أم كنت موقناً بِاللَّه تَعَالَى وبالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِمَا أَتَى بِهِ موقناً بأنك مسيء مُخطئ فِي ذَنْبك فَإِن قَالَ كنت كَافِرًا أَو شاكاً فَهُوَ أعلم بِنَفسِهِ وَيلْزمهُ أَن يُفَارق امْرَأَته وَأمته المسلمتين وَلَا يَرث من مَاتَ لَهُ من الْمُسلمين ثمَّ بعد ذَلِك لَا يجوز لَهُ أَن يقطع على غَيره من المذنبين بِمثل اعْتِقَاده فِي الْجحْد وَنحن نعلم بِالضَّرُورَةِ كذب دَعْوَاهُ وندري أننا فِي حِين مَا كَانَ منا ذَنْب مُؤمنُونَ بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن قَالَ بل كنت مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى وبرسوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال ذَنبي قيل لَهُ هَذَا إبِْطَال مِنْك لِلْقَوْلِ بالنفاق وَالْقطع بِهِ على المذنبين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا دون مُخْتَلف من أحد مِنْهُم على أَن صَاحب الْكَبِيرَة مَأْمُور بِالصَّلَاةِ مَعَ الْمُسلمين وبصوم شهر رَمَضَان وَالْحج وبأخذ زَكَاة مَاله وَإِبَاحَة مناكحته وموارثته وَأكل ذَبِيحَته وبتركه يتَزَوَّج الْمَرْأَة الْمسلمَة الفاضلة ويبتاع الْأمة الْمسلمَة الفاضلة ويطأها وَتَحْرِيم دَمه وَمَاله وَأَن لَا يُؤْخَذ مِنْهُ جِزْيَة وَلَا يصغر برهَان صَحِيح على أَنه مُسلم مُؤمن وَفِي إِجْمَاع الْأمة كلهَا دون مُخَالف على تَحْرِيم قبُول شَهَادَته وَخَبره برهَان على أَنه فَاسق فصح يَقِينا أَنه مُؤمن فَاسق نَاقص الْإِيمَان عَن الْمُؤمن الَّذِي لَيْسَ بفاسق قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} فَأَما من قَالَ أَنه كَافِر نعْمَة فَمَا لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا آن بَعضهم نزع بقول الله تَعَالَى {الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن نَص الْآيَة مُبْطل لقَولهم لِأَن الله تَعَالَى يَقُول مُتَّصِلا بقوله {وَبئسَ الْقَرار وَجعلُوا لله أنداداً ليضلوا عَن سَبيله} فصح أَن الْآيَة فِي الْمُشْركين بِلَا شكّ وَأَيْضًا فقد يكفر الْمَرْء نعْمَة الله وَلَا يكون كَافِرًا بل مُؤمنا بِاللَّه تَعَالَى كَافِرًا لَا نعْمَة بمعاصيه لَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِيمَن يكفر وَلَا يكفر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن من خالفهم فِي شَيْء من مسَائِل الِاعْتِقَاد أَو فِي شَيْء من مسَائِل الْفتيا فَهُوَ كَافِر وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه كَافِر فِي بعض ذَلِك فَاسق غير كَافِر فِي بعضه على حسب مَا أدتهم إِلَيْهِ عُقُولهمْ وظنونهم وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن من خالفهم فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد فَهُوَ كَافِر وَأَن من خالفهم فِي مسَائِل الْأَحْكَام والعبادات فَلَيْسَ كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا وَلكنه مُجْتَهد مَعْذُور إِن أَخطَأ مأجور بنيته وَقَالَت طَائِفَة بِمثل هَذَا فِيمَن خالفهم فِي مسَائِل الْعِبَادَات وَقَالُوا فِيمَن خالفهم فِي مسَائِل الاعتقادات أَن كل الْخلاف(3/137)
فِي صِفَات الله عز وَجل فَهُوَ كَافِر وَإِن كَانَ فِيمَا دون ذَلِك فَهُوَ فَاسق وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يكفر وَلَا يفسق مُسلم بقول قَالَه فِي اعْتِقَاد أَو فتيا وَإِن كل من اجْتهد فِي شَيْء من ذَلِك فدان بِمَا رأى أَنه الْحق فَإِنَّهُ مأجور على كل حَال أَن أصَاب الْحق فأجران وَإِن أَخطَأ فأجر وَاحِد وَهَذَا قَول ابْن أبي ليلِي وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَدَاوُد بن عَليّ رَضِي الله عَن جَمِيعهم وَهُوَ قَول كل من عرفنَا لَهُ قولا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا نعلم مِنْهُم فِي ذَلِك خلافًا أصلا إِلَّا مَا ذكرنَا من اخْتلَافهمْ فِي تَكْفِير من ترك صَلَاة مُتَعَمدا حَتَّى خرج وَقتهَا أَو ترك أَدَاء الزَّكَاة أَو ترك الْحَج أَو ترك صِيَام رَمَضَان أَو شرب الْخمر وَاحْتج من كفر بِالْخِلَافِ فِي الاعتقادات بأَشْيَاء نوردها إِن شَاءَ الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكرُوا حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْقَدَرِيَّة والمرجئية مجوس بِهَذِهِ الْأمة وحديثاً آخر تفترق هَذِه الْأمة على بضع وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار حاشى وَاحِدَة فَهِيَ فِي الْجنَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَانِ حديثان لَا يصحان أصلا من طَرِيق الْإِسْنَاد وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ حجَّة عِنْد من يَقُول بِخَبَر الْوَاحِد فَكيف من لَا يَقُول بِهِ وَاحْتَجُّوا بالْخبر الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بالْكفْر أَحدهمَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن لَفظه يَقْتَضِي أَنه يلثم برميه للكفر وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنه بذلك كَافِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْجُمْهُور من المحتجين بِهَذَا الْخَبَر لَا يكفرون من قَالَ لمُسلم يَا كَافِر فِي مشاتمة تجْرِي بَينهمَا وَبِهَذَا خالفوا الْخَبَر الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْحق هُوَ أَن كل من ثَبت لَهُ عقد الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يَزُول عَنهُ إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع وَأما بِالدَّعْوَى والافتراء فَلَا فَوَجَبَ أَن لَا يكفر أحد بقول قَالَه إِلَّا بِأَن يُخَالف مَا قد صَحَّ عِنْده أَن الله تَعَالَى قَالَه أَو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فيستجيز خلاف الله تَعَالَى وَخلاف رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي عقد دين أَو فِي نحلة أَو فِي فتيا وَسَوَاء كَانَ مَا صَحَّ من ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْقُولًا نقل إِجْمَاع تواتروا أَو نقل آحَاد إِلَّا أَن من خَالف الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع على صِحَّته فَهُوَ أظهر فِي قطع حجَّته وَوُجُوب تكفيره لِاتِّفَاق الْجَمِيع على معرفَة الْإِجْمَاع وعَلى تَكْفِير مُخَالفَته برهَان صِحَة قَوْلنَا قَول الله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً}
قَالَت أَبُو مُحَمَّد هَذِه الْآيَة نَص بتكفير من فعل ذَلِك فَإِن قَالَ قَائِل أَن من اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ فَلَيْسَ من الْمُؤمنِينَ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَيْسَ كل من اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ كَافِرًا لِأَن الزِّنَا وَشرب الْخمر وَأكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ لَيست من سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَقد علمنَا أَن من اتبعها فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ مَعَ ذَلِك كَافِرًا وَلَكِن الْبُرْهَان فِي هَذَا قَول الله عز وَجل {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا هُوَ النَّص الَّذِي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَلَا جَاءَ نَص يُخرجهُ عَن ظَاهره أصلا(3/138)
وَلَا جَاءَ برهَان بتخصيصه فِي بعض وُجُوه الْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأماما لم تقم الْحجَّة على الْمُخَالف للحق فِي أَي شَيْء كَانَ فَلَا يكون كَافِرًا إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بتكفيره فَيُوقف عِنْده كمن بلغه وَهُوَ فِي أقاصي الزنج ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط فَيمسك عَن الْبَحْث عَن خَبره فَإِنَّهُ كَافِر فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ أَنا أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَا أَدْرِي أهوَ قرشي أم تميمي أم فَارسي وَلَا هَل كَانَ بالحجاز أَو بخراسان وَلَا أَدْرِي أَحَي هُوَ أَو ميت وَلَا أَدْرِي لَعَلَّه هَذَا الرجل الْحَاضِر أم غَيره قيل لَهُ إِن كَانَ جَاهِلا لَا علم عِنْده بِشَيْء من الْأَخْبَار وَالسير لم يضرّهُ ذَلِك شَيْئا وَوَجَب تَعْلِيمه فَإِذا علم وَصَحَّ عِنْده الْحق فَإِن عاند فَهُوَ كَافِر حَلَال دَمه وَمَاله مَحْكُوم عَلَيْهِ بِحكم الْمُرْتَد وَقد علمنَا أَن كثيرا مِمَّن يتعاطى الْفتيا فِي دين الله عز وَجل نعم وَكَثِيرًا من الصَّالِحين لَا يدْرِي كم لمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَيْن كَانَ وَلَا فِي أَي بلد كَانَ ويكفيه من كل ذَلِك إِقْرَاره بِقَلْبِه وَلسَانه أَن رجلا اسْمه مُحَمَّد أرْسلهُ الله تَعَالَى إِلَيْنَا بِهَذَا الدّين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ من قَالَ أَن ربه جسم فَإِنَّهُ إِن كَانَ جَاهِلا أَو متا وَلَا فَهُوَ مَعْذُور لَا شَيْء عَلَيْهِ وَيجب تَعْلِيمه فَإِذا قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة من الْقُرْآن وَالسّنَن فَخَالف مَا فيهمَا عناداً فَهُوَ كَافِر يحكم عَلَيْهِ بِحكم الْمُرْتَد وَأما من قَالَ أَن الله عز وَجل هُوَ فلَان لإِنْسَان بِعَيْنِه أَو أَن الله تَعَالَى يحل فِي جسم من أجسام خلقه أَو أَن بعد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبيا غير عِيسَى بن مَرْيَم فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف اثْنَان فِي تكفيره لصِحَّة قيام الْحجَّة بِكُل هَذَا على كل أحد وَلَو أمكن أَن يُوجد أحد يدين بِهَذَا لم يبلغهُ قطّ خِلَافه لما وَجب تكفيره حَتَّى تقوم الْحجَّة عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من كفر النَّاس بِمَا تؤول إِلَيْهِ أَقْوَالهم فخطأ لِأَنَّهُ كذب على الْخصم وتقويل لَهُ مَا لم يقل بِهِ وَإِن لزمَه فَلم يحصل على غير التَّنَاقُض فَقَط والتناقض لَيْسَ كفرا بل قد أحسن إِذْ فر من الْكفْر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ للنَّاس قَول إِلَّا ومخالف ذَلِك القَوْل يلْزم خَصمه الْكفْر فِي فَسَاد قَوْله وطرده فالمعتزلة تنْسب إِلَيْنَا تجوير الله عز وَجل وتشبيهه بخلقه وَنحن ننسب إِلَيْهِم مثل ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء ونلزمهم أَيْضا تعجيز الله عز وَجل وَأَنَّهُمْ يَزْعمُونَ أَنهم يخلقون كخلقه وَأَن لَهُ شُرَكَاء فِي الْخلق وَأَنَّهُمْ مستغنون عَن الله عز وَجل وَمن أثبت الصِّفَات يُسَمِّي من نفاها بَاقِيَة لأَنهم قَالُوا تَعْبدُونَ غير الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى لَهُ صِفَات وَأَنْتُم تَعْبدُونَ من لَا صفة لَهُ وَلَا نفى الصِّفَات يَقُول لمن أثبتها أَنْتُم تَجْعَلُونَ مَعَ الله عز وَجل أَشْيَاء لم تزل وتشركون بِهِ غَيره وتعبدون غير الله لِأَن الله تَعَالَى لَا أحد مَعَه وَلَا شَيْء مَعَه فِي الْأَزَل وَأَنْتُم تَعْبدُونَ شيا من جملَة أَشْيَاء لم تزل وَهَكَذَا فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ حَتَّى فِي الْكَوْن والجزء وَحَتَّى فِي مسَائِل الْأَحْكَام والعبادات فأصحاب الْقيَاس يدعونَ علينا خلاف الْإِجْمَاع وأصحابنا يثبتون عَلَيْهِم خلاف الْإِجْمَاع وإحداث شرائع لم يَأْذَن الله عز وَجل بهَا وكل فرقة فَهِيَ تنتقي بِمَا تسميها بِهِ الْأُخْرَى وتكفر من قَالَ شَيْئا من ذَلِك فصح أَنه لَا يكفر أحد إِلَّا بِنَفس قَوْله وَنَصّ معتقده وَلَا ينْتَفع أحد بِأَن يعبر عَن معتقده بِلَفْظ يحسن بِهِ قبحه لَكِن الْمَحْكُوم بِهِ هُوَ مُقْتَضى قَوْله فَقَط وَأما الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي أَن ترك الصَّلَاة شرك فَلَا تصح من طَرِيق الْإِسْنَاد وَأما الْأَخْبَار الَّتِي فِيهَا من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة فقد جَاءَت أَحَادِيث أخر بِزِيَادَة على هَذَا الْخَبَر لَا يجوز ترك تِلْكَ الزِّيَادَة وَهِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى(3/139)
يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله ويؤمنوا بِمَا أرْسلت بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا إِيمَان لأحد بِدُونِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج بعض من يكفر من سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بقول الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} إِلَى قَوْله {ليغيظ بهم الْكفَّار} قَالَ فَكل من أغاظه أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أَخطَأ من حمل الْآيَة على هَذَا لِأَن الله عز وَجل لم يقل قطّ أَن كل من غاظه وَاحِد مِنْهُم فَهُوَ كَافِر وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى أَنه يغِيظ بهم الْكفَّار فَقَط وَنعم هَذَا حق لَا يُنكره مُسلم وكل مُسلم فَهُوَ يغِيظ الْكفَّار وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يشك أحد ذُو حس سليم فِي أَن عليا قد غاظ مُعَاوِيَة وَأَن مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ غاظا عليا وَأَن عمار أغاظ أَبَا العادية وَكلهمْ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد غاظ بَعضهم بَعْضًا فَيلْزم على هَذَا تَكْفِير من ذكرنَا وحاشى لله من هَذَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول لمن كفر إنْسَانا بِنَفس مقَالَته دون أَن تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة فيعاند رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويجد فِي نَفسه الْحَرج مِمَّا أَتَى بِهِ أخبرنَا هَل ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا من الْإِسْلَام الَّذِي يكفر من لم يقل بِهِ إِلَّا وَقد بَينه ودعا إِلَيْهِ النَّاس كَافَّة فَلَا بُد من نعم وَمن أنكر هَذَا كَافِر بِلَا خلاف فَإِذا أقرّ بذلك سُئِلَ هَل جَاءَ قطّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يقبل إِيمَان أهل قَرْيَة أوأهل محلّة أَو إِنْسَان أَتَاهُ من حر أَو عبدا لَو امْرَأَة إِلَّا حَتَّى يقر إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل أَو مَعَ الْفِعْل أَو أَن الْقُرْآن مَخْلُوق أَو أَن الله تَعَالَى يرى أَو لَا يرى أَو أَن لَهُ سمعا أَو بصرا أَو حَيَاة أَو غير ذَلِك من فضول الْمُتَكَلِّمين الَّتِي أوقعهَا الشَّيْطَان بَينهم ليوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء فَإِن ادّعى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدع أحدا يسلم إِلَّا حَتَّى يوقفه على هَذِه الْمعَانِي كَانَ قد كذب بِإِجْمَاع الْمُسلمين من أهل الأَرْض وَقَالَ مَا يدْرِي أَنه فِيهِ كَاذِب وَادّعى أَن جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تواطؤا على كتمان ذَلِك من فعله عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا الْمحَال مُمْتَنع فِي الطبيعة ثمَّ فِيهِ نِسْبَة الْكفْر إِلَيْهِم إِذْ كتموا مَا لَا يتم إِسْلَام أحد إِلَّا بِهِ وَإِن قَالُوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدع قطّ أحد إِلَى شَيْء من هَذَا وَلكنه مُودع فِي الْقُرْآن وَفِي كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ صدقت وَقد صَحَّ بِهَذَا أَنه لَو كَانَ جهل شَيْء من هَذَا كُله كفرا لما ضيع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان ذَلِك للحره وَالْعَبْد وَالْحر وَالْأمة وَمن جوز هَذَا فقد قَالَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبلغ كَمَا أَمر وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه فصح ضَرُورَة أَن الْجَهْل بِكُل ذَلِك لَا يضر شَيْئا وَإِنَّمَا يلْزم الْكَلَام مِنْهَا إِذا خَاضَ فِيهَا النَّاس فَيلْزم حِينَئِذٍ بَيَان الْحق من الْقُرْآن وَالسّنة لقَوْل الله عز وَجل {كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} وَلقَوْل الله عز جلّ {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} فَمن عِنْد حِينَئِذٍ بعد بَيَان الْحق فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ لم يحكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا سلم لما قضى بِهِ وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا لم يعْمل خيرا قطّ فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت قَالَ لأَهله إِذا مت فأحرقوني ثمَّ ذَروا رمادي فِي يَوْم رَاح نصفه فِي الْبَحْر وَنصفه فِي الْبر فوَاللَّه لَئِن قدر الله تَعَالَى عَليّ ليعذبني عذَابا لم يعذبه أحدا من خلقه وَأَن الله عز جلّ جمع رماده فأحياه وَسَأَلَهُ مَا حملك على ذَلِك قَالَ خوفك يَا رب وَأَن الله تَعَالَى غفر لَهُ لهَذَا القَوْل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا إِنْسَان جهل إِلَى أَن مَاتَ أَن الله عز وَجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وَقد غفر لَهُ لإِقْرَاره وخوفه وجهله وَقد قَالَ بعض من يحرف الْكَلم عَن موَاضعه أَن معنى لَئِن قدر الله عَليّ إِنَّمَا هُوَ لَئِن ضيق الله عَليّ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه}(3/140)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل لَا يُمكن لِأَنَّهُ كَانَ يكون مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ لَئِن ضيق الله عَليّ ليضيقن عَليّ وَأَيْضًا فَلَو كَانَ هَذَا لما كَانَ لأَمره بِأَن يحرق ويذر رماده معنى وَلَا شكّ فِي أَنه إِنَّمَا أمره بذلك ليفلت من عَذَاب الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأبين من شَيْء فِي هَذَا قَول الله تَعَالَى {إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} إِلَى قَوْله {ونعلم إِن قد صدقتنا} فَهَؤُلَاءِ الحواريون الَّذين أثنى الله عز وَجل عَلَيْهِم قد قَالُوا بِالْجَهْلِ لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء وَلم يبطل بذلك إِيمَانهم وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يكفرون لَو قَالُوا ذَلِك بعد قيام الْحجَّة وتبيينهم لَهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ لَا خلاف فِيهِ وَهُوَ أَن الْأمة مجمعة كلهَا بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم وَهُوَ أَن كل من بدل آيَة من الْقُرْآن عَامِدًا وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا فِي الْمَصَاحِف بِخِلَاف ذَلِك وَأسْقط كلمة عمدا كَذَلِك أَو زَاد فِيهَا كلمة عَامِدًا فَإِنَّهُ كَافِر بِإِجْمَاع الْأمة كلهَا ثمَّ أَن الْمَرْء يُخطئ فِي التِّلَاوَة فيزيد كلمة وَينْقص أُخْرَى ويبدل كَلَامه جَاهِلا مُقَدرا أَنه مُصِيب ويكابر فِي ذَلِك ويناظر قبل أَن يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَلَا يكون بذلك عِنْد أحد من الْأمة كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا وَلَا آثِما فَإِذا وقف على الْمَصَاحِف أَو أخبرهُ بذلك من الْقُرَّاء من تقوم الْحجَّة بِخَبَرِهِ فَإِن تَمَادى على خطاه فَهُوَ عِنْد الْأمة كلهَا كَافِر بذلك لَا محَالة وَهَذَا هُوَ الحكم الْجَارِي فِي جَمِيع الدّيانَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج بَعضهم بِأَن قَالَ الله تَعَالَى {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَآخر هَذِه الْآيَة مُبْطل لتأويلهم لِأَن الله عز وَجل وصل قَوْله يحسنون صنعا بقوله {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم ولقائه فحبطت أَعْمَالهم فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا ذَلِك جزاؤهم جَهَنَّم بِمَا كفرُوا وَاتَّخذُوا آياتي ورسلي هزوا} فَهَذَا يبين أَن أول الْآيَة فِي الْكفَّار الْمُخَالفين لديانة الْإِسْلَام جملَة ثمَّ نقُول لَهُم لَو نزلت هَذِه الْآيَة فِي المتأولين من جملَة أهل الْإِسْلَام كَمَا تَزْعُمُونَ لدخل فِي جُمْلَتهَا كل متأول مُخطئ فِي تَأْوِيل فِي فتيا لزمَه تَكْفِير جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لأَنهم قد اخْتلفُوا وبيقين نَدْرِي أَن كل امرء مِنْهُم فقد يُصِيب ويخطئ بل يلْزمه تَكْفِير جَمِيع الْأمة لأَنهم كلهم لَا بُد من ان يُصِيب كل امْرِئ مِنْهُم ويخطئ بل يلْزمه تَكْفِير نَفسه لِأَنَّهُ لَا بُد لكل من تكلم فِي شَيْء من الدّيانَة من أَن يرجع عَن قَول قَالَه إِلَى قَول آخر يتَبَيَّن أَنه أصح إِلَّا أَن يكون مُقَلدًا فَهَذِهِ أَسْوَأ لِأَن التَّقْلِيد خطأ كُله لَا يَصح وَمن بلغ إِلَى هَا هُنَا فقد لَاحَ غوامر قَوْله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد أقرّ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يفهم آيَة الْكَلَالَة فَمَا كفره بذلك وَلَا فسقه وَلَا أخبرهُ أَنه آثم بذلك لَكِن أغْلظ لَهُ فِي كَثْرَة تكراره السُّؤَال عَنْهَا فَقَط وَكَذَلِكَ أَخطَأ جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفتيا فَبَلغهُ عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك فَمَا كفر بذلك أحد مِنْهُم وَلَا فسقه وَلَا جعله بذلك إِثْمًا لِأَنَّهُ لم يعانده عَلَيْهِ السَّلَام أحد مِنْهُم وَهَذَا كفتيا أبي السنابل بن بعكعك فِي آخر الْأَجَليْنِ وَالَّذين أفتوا على الزَّانِي غير الْمُحصن الرَّجْم وَقد تقصينا هَذَا فِي كتَابنَا المرسوم بِكِتَاب الْأَحْكَام فِي أصُول الْأَحْكَام هَذَا وَأَيْضًا فَإِن الْآيَة الْمَذْكُورَة(3/141)
لَا تخرج على قَول أحد مِمَّن خَالَفنَا إِلَّا بِحَذْف وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ أَن الَّذين فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} هُوَ خَبرا ابْتِدَاء مُضْمر وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِحَذْف الِابْتِدَاء كَأَنَّهُ قَالَ هم الَّذين وَلَا يجوز لأحد أَن يَقُول فِي الْقُرْآن حذفا إِلَّا بِنَصّ أخر جلي يُوجب ذَلِك أَو إِجْمَاع على ذَلِك أَو ضَرُورَة حس فَبَطل قَوْلهم وَصَارَ دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَأما نَحن فَإِن لَفْظَة الدّين عندنَا على موضوعها دون حذف وَهُوَ نعت للأخسرين وَيكون خَبرا لابتداء قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء إِلَّا أَنهم هم الْكَاذِبُونَ} فَنعم هَذِه صفة الْقَوْم الَّذين وَصفهم الله تَعَالَى بِهَذَا فِي أول الْآيَة ورد الضَّمِير إِلَيْهِم وهم الْكفَّار بِنَصّ أول الْآيَة وَقَالَ قَائِلهمْ فَإِذا عذرتم للمجتهدين إِذا أخطأوا فأعذروا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَسَائِر الْملَل فَإِنَّهُم أَيْضا مجتهدون قاصدون الْخَيْر فجوابنا وَالله تَعَالَى التَّوْفِيق إننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا وَلَا كفرنا من كفرنا بظننا وَهُوَ أَنا وَهَذِه خطة لم يؤتها الله عز وَجل أحد دونه وَلَا يدْخل الْجنَّة وَالنَّار أحدا بل الله تَعَالَى يدخلهَا من شَاءَ فَنحْن لَا نسمي بِالْإِيمَان إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى بِهِ كل ذَلِك على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يخْتَلف اثْنَان من أهل الأَرْض لَا نقُول من الْمُسلمين بل من كل مِلَّة فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع بالْكفْر على أهل كل مِلَّة غير الْإِسْلَام الَّذين تَبرأ أَهله من كل مِلَّة حاشى الَّتِي أَتَاهُم بهَا عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط فوقفنا عِنْد ذَلِك وَلَا يخْتَلف أَيْضا اثْنَان فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قطع باسم الْإِيمَان على كل من اتبعهُ وَصدق بِكُل مَا جَاءَ بِهِ وتبرأ من كل دين سوى ذَلِك فوقفنا أَيْضا عِنْد ذَلِك وَلَا مزِيد فَمن جَاءَ نَص فِي إِخْرَاجه عَن الْإِسْلَام بعد حُصُول اسْم الْإِسْلَام لَهُ أخرجناه مِنْهُ سَوَاء أجمع على خُرُوجه مِنْهُ أَو لم يجمع وَكَذَلِكَ من أجمع أهل الْإِسْلَام على خُرُوجه عَن الْإِسْلَام فَوَاجِب اتِّبَاع الْإِجْمَاع فِي ذَلِك وَأما من لَا نَص فِي خُرُوجه عَن الْإِسْلَام بعد حُصُول الْإِسْلَام لَهُ وَلَا إِجْمَاع فِي خُرُوجه أَيْضا عَنهُ فَلَا يجوز إِخْرَاجه عَمَّا قد صَحَّ يَقِينا حُصُوله فِيهِ وَقد نَص الله تَعَالَى على مَا قُلْنَا فَقَالَ {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَقَالَ تَعَالَى {ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} وَقَالَ تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} فَهَؤُلَاءِ كلهم كفار بِالنَّصِّ وَصَحَّ الْإِجْمَاع على أَن كل من جحد شَيْئا صَحَّ عندنَا بِالْإِجْمَاع أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِهِ فقد كفر وَصَحَّ بِالنَّصِّ أَن كل من اسْتَهْزَأَ بِاللَّه تَعَالَى أَو بِملك من الْمَلَائِكَة أَو بِنَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَو بِآيَة من الْقُرْآن أَو بفريضة من فَرَائض الدّين فَهِيَ كلهَا آيَات الله تَعَالَى بعد بُلُوغ الْحجَّة إِلَيْهِ فَهُوَ كَافِر وَمن قَالَ بِنَبِي بعد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو جحد شَيْئا صَحَّ عِنْده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ لم يحكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا شجر بَينه وَبَين خَصمه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد شقق أَصْحَاب الْكَلَام فَقَالُوا مَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم صل فَقَالَ لَا أفعل أَو قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناولني ذَلِك السَّيْف أدفَع بِهِ عَن نَفسِي فَقَالَ لَهُ لَا أفعل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَمر قد كفوا وُقُوعه وَلَا فضول أعظم من فضول من اشْتغل بِشَيْء(3/142)
قد أَيقَن أَنه لَا يكون أبدا وَلَكِن الَّذِي كَانَ وَوَقع فإننا نتكلم فِيهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد أَمر زِيَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل أهل الأَرْض وهم أهل الْحُدَيْبِيَة بِأَن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حَتَّى أَمرهم ثَلَاثًا وَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام وشكا ذَلِك إِلَى أم سَلمَة فَمَا كفرُوا بذلك وَلَكِن كَانَت مَعْصِيّة تداركهم الله بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَمَا قَالَ مُسلم قطّ أَنهم كفرُوا بذلك لأَنهم لم يعاندوه وَلَا كذبوه وَقد قَالَ سعد بن عبَادَة وَالله يَا رَسُول الله لِأَن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حَتَّى آتى بأَرْبعَة شُهَدَاء قَالَ نعم قَالَ إِذن وَالله يقْضِي إربه وَالله لَا تجللنهما للسيف فَلم يكن بذلك كَافِرًا إِذْ لم يكن عانداً وَلَا مُكَذبا بل أقرّ أَنه يدْرِي أَن الله تَعَالَى أَمر بِخِلَاف ذَلِك وسألوا أَيْضا عَمَّا قَالَ أَنا أَدْرِي أَن الْحَج إِلَى مَكَّة فرض وَلَكِن لَا أَدْرِي أَهِي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وَأَنا أَدْرِي أَن الْخِنْزِير حرَام وَلَكِن لَا أَدْرِي أهوَ هَذَا الْمَوْصُوف الأقرن أم الَّذِي يحرث بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجوابنا هُوَ أَن من قَالَ هَذَا فَإِن كَانَ جَاهِلا علم وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَإِن المشببين لَا يعْرفُونَ هَذَا إِذا أَسْلمُوا حَتَّى يعلمُوا وَإِن كَانَ عَالما فَهُوَ عابث مستهزئ بآيَات الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر مُرْتَد حَلَال الدَّم وَالْمَال وَمن قذف عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَهُوَ كَافِر لتكذيبه الْقُرْآن وَقد قَذفهَا مسطح وَحمْنَة فَلم يكفرا لِأَنَّهُمَا لم يَكُونَا حِينَئِذٍ مكذبين لله تَعَالَى وَلَو قذفاها بعد نزُول الْآيَة لكفر وَأما من سبّ أحدا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِن كَانَ جَاهِلا فمعذور وَإِن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة فتمادى غير معاند فَهُوَ فَاسق كمن زنى وسرق وَإِن عاند الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حَاطِب وحاطب مهَاجر يدْرِي دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق فَمَا كَانَ عمر بتكفيره حَاطِبًا كَافِرًا بل كَانَ مخطئاً متأولاً وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة النِّفَاق بغض الْأَنْصَار وَقَالَ لعَلي لَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن أبْغض الْأَنْصَار لأجل نصرتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر لِأَنَّهُ وجد الْحَرج فِي نَفسه مِمَّا قد قضى الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِظْهَار الْإِيمَان بِأَيْدِيهِم وَمن عادى عليا لمثل ذَلِك فَهُوَ أَيْضا كَافِر وَكَذَلِكَ من عادى من ينصر الْإِسْلَام لأجل نصْرَة الْإِسْلَام لَا لغير ذَلِك وَقد فرق بَعضهم بَين الِاخْتِلَاف فِي الْفتيا وَالِاخْتِلَاف فِي الِاعْتِقَاد بِأَن قَالَ قد اخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفتيا فَلم يكفر بَعضهم بَعْضًا وَلَا فسق بَعضهم بَعْضًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء فقد حدث إِنْكَار الْقدر فِي أيامهم فَمَا كفرهم أَكثر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقد اخْتلفُوا فِي الْفتيا على ذَلِك وسفكت الدِّمَاء كاختلافهم فِي تَقْدِيم بيعَة عَليّ على النّظر فِي قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من شَاءَ بأهلته عِنْد الْحجر الْأسود أَن الَّذِي أحصى رمل عالج لم يَجْعَل فِي فَرِيضَة وَاحِدَة نصفا وَنصفا وَثلثا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهنا أَقْوَال غَرِيبَة جدا فَاسِدَة مِنْهَا أَن أَقْوَامًا من الْخَوَارِج قَالُوا كل مَعْصِيّة فِيهَا حد فَلَيْسَتْ كفرا وكل مَعْصِيّة لَاحَدَّ فِيهَا فَهِيَ كفر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تحكم بِلَا برهَان وَدَعوى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل قَالَ تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين}(3/143)
فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على قَوْله فَلَيْسَ صَادِقا فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا قُلْنَا أَن كل من كَانَ على غير الْإِسْلَام وَقد بلغه أَمر الْإِسْلَام فَهُوَ كَافِر وَمن تَأَول من أهل الْإِسْلَام فَأَخْطَأَ فَإِن كَانَ لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة وَلَا تبين لَهُ الْحق فَهُوَ مَعْذُور مأجور آجرا وَاحِدًا لطلبه الْحق وقصده إِلَيْهِ مغْفُور لَهُ خَطؤُهُ إِذْ لم يعتمده لقَوْل الله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} وَإِن كَانَ مصيباً فَلهُ أَجْرَانِ أجر لإصابته وَأجر آخر لطلبه إِيَّاه وَإِن كَانَ قد قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ وَتبين لَهُ الْحق فَعِنْدَ عَن الْحق غير معَارض لَهُ تَعَالَى وَلَا لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ فَاسق لجراءته على الله تَعَالَى بإصراره على الْأَمر الْحَرَام فَإِن عِنْد عَن الْحق مُعَارضا لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر مُرْتَد حَلَال الدَّم وَالْمَال لَا فرق فِي هَذِه الْأَحْكَام بَين الْخَطَأ فِي الِاعْتِقَاد فِي أَي شَيْء كَانَ من الشَّرِيعَة وَبَين الْخَطَأ فِي الْفتيا فِي أَي شَيْء كَانَ على مَا بَينا قبل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نختصر هَا هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونوضح كل مَا أطلنا فِيهِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فَهَذِهِ الْآيَات فِيهَا بَيَان جَمِيع هَذَا الْبَاب فصح أَنه لَا يكفر أحد حَتَّى يبلغهُ أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن بلغه فَلم يُؤمن بِهِ فَهُوَ كَافِر فَإِن آمن بِهِ ثمَّ اعْتقد مَا شَاءَ الله أَن يَعْتَقِدهُ فِي نحلة أَو فتيا أَو عمل مَا شَاءَ الله تَعَالَى أَن يعمله دون أَن يبلغهُ فِي ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم بِخِلَاف مَا اعتقدوا قَالَ أَو عمل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ أصلا حَتَّى يبلغهُ فَإِن بلغه وَصَحَّ عِنْده فَإِن خَالفه مُجْتَهدا فِيمَا لم يبين لَهُ وَجه الْحق فِي ذَلِك فَهُوَ مُخطئ مَعْذُور مأجور مرّة وَاحِدَة كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر وكل مُعْتَقد أَو قَائِل أَو عَامل فَهُوَ حَاكم فِي ذَلِك الشَّيْء وَإِن خَالفه بِعَمَلِهِ معانداً للحق مُعْتَقدًا بِخِلَاف مَا عمل بِهِ فَهُوَ مُؤمن فَاسق وَإِن خَالفه معانداً بقوله أَو قلبه فَهُوَ كَافِر مُشْرك سَوَاء ذَلِك فِي المعتقدات والفتيا للنصوص الَّتِي أوردنا وَهُوَ قَول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَغَيره وَبِه نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي تعبد الْمَلَائِكَة
وَتعبد الْحور الْعين والخلق المستأنف وَهل يَعْصِي ملك أَو لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد نَص الله عز وَجل على أَن الْمَلَائِكَة متعبدون قَالَ تَعَالَى {ويفعلون مَا يؤمرون} وَنَصّ تَعَالَى على أَنه أَمرهم بِالسُّجُود لآدَم وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} إِلَى قَوْله {وَمن يقل مِنْهُم أَنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين} وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص الله تَعَالَى على أَنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرمون موعودون بإيصال الْكَرَامَة أبدا مصرفون فِي كتاب الْأَعْمَال وَقبض الْأَرْوَاح وأدار الرسَالَة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والتوكل بِمَا فِي الْعَالم الْأَعْلَى والأدنى وَغير ذَلِك كَمَا خالقهم عز وَجل بِهِ عليم وَقَوله تَعَالَى {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فَأخْبر عز وَجل أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مُطَاع فِي السَّمَاوَات وَأمين هُنَالك فصح أَن هُنَالك أوَامِر وتدبير(3/144)
وأمانات وَطَاعَة ومراتب وَنَصّ تَعَالَى على أَنهم كلهم معصومون بقوله عز وَجل {عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} وَبِقَوْلِهِ {وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} وَبِقَوْلِهِ {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} فنص تَعَالَى على أَنهم كلهم لَا يسأمون من الْعِبَادَة وَلَا يفترون من التَّسْبِيح وَالطَّاعَة لَا سَاعَة وَلَا وقتا وَلَا يستحسرون من ذَلِك وَهَذَا خبر عَن التأييد لَا يَسْتَحِيل أبدا وَوَجَب أَنهم متنعمون بذلك مكرمون بِهِ مفضلون بِتِلْكَ الْحَال وبالتذاذهم بذلك وَنَصّ تَعَالَى على أَنهم كلهم معصومون قد حقت لَهُم ولَايَة رَبهم عز وَجل ابدا إِلَّا بُد بِلَا نهابة فَقَالَ تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} فَكفر تَعَالَى من عادى أحدا مِنْهُم فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ لَا يعصون وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمن يقل مِنْهُم أَنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم} قُلْنَا نعم هم متوعدون على الْمعاصِي لما توعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول لَهُ ربه عز وَجل {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك ولتكونن من الخاسرين} وَقد علم عز وَجل أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يُشْرك أبدا وَأَن الْمَلَائِكَة لَا يَقُول أحد مِنْهُم أبدا إِنِّي إِلَه من دون الله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} وَهُوَ تَعَالَى قد برأهن وَعلم أَنه لَا يَأْتِي أحد مِنْهُنَّ بِفَاحِشَة أبدا بقوله تَعَالَى {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أُولَئِكَ مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} لَكِن الله تَعَالَى يَقُول مَا شَاءَ ويشرع مَا شَاءَ وَيفْعل مَا يَشَاء وَلَا معقب لحكمه وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَأخْبر عز وَجل بِحكم هَذِه الْأُمُور لَو كَانَت وَقد علم أَنَّهَا لَا تكون كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين} وكما قَالَ {لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء} وكما قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} وكما قَالَ تَعَالَى {قل لَو كَانَ فِي الأَرْض مَلَائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنين لنزلنا عَلَيْهِم من السَّمَاء ملكا رَسُولا} وكل هَذَا قد علم الله تَعَالَى أَنه لَا يكون أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْمَلَائِكَة مأمورون لَا منهيون قُلْنَا هَذَا بَاطِل لِأَن كل مَأْمُور بِشَيْء فَهُوَ مَنْهِيّ عَن تَركه وَقَوله تَعَالَى {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} يدل على أَنهم منهيون عَن أَشْيَاء يخَافُونَ من فعلهَا وَقَالَ عز وَجل {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذا منظرين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مُبْطل ظن من ظن أَن هاروت وماروت كَانَا ملكَيْنِ فعصيا بِشرب الْخمر وَالزِّنَا وَالْقَتْل وَقد أعاذ الله عز وَجل الْمَلَائِكَة من مثل هَذِه الصّفة بِمَا ذكرنَا آنِفا أَنهم لَا يعصون الله ويفعلون مَا يؤمرون وبإخباره تَعَالَى أَنهم لَا يسأمون وَلَا يفترون وَلَا يستحسرون عَن طَاعَته عز وَجل فَوَجَبَ يَقِينا أَنه لَيْسَ فِي الْمَلَائِكَة الْبَتَّةَ عَاص لَا بعمد وَلَا بخطأ وَلَا بنسيان وَقَالَ عز وَجل {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} فَكل الْمَلَائِكَة رسل الله عز وَجل بِنَصّ الْقُرْآن وَالرسل معصومون فصح أَن هاروت وماروت الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن لَا يَخْلُو أَمرهمَا من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أما أَن يَكُونَا جَنِين من أَحيَاء الْجِنّ كَمَا روينَا عَن خَالِد بن أبي عمرَان وَغَيره وموضعهما حِينَئِذٍ فِي الجو بدل من الشَّيَاطِين كَأَنَّهُ قَالَ وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا هاروت وماروت وَيكون الْوُقُوف على قَوْله مَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل وَيتم الْكَلَام هُنَا وَأما أَن يَكُونَا ملكَيْنِ أنزل الله عز وَجل عَلَيْهِمَا شَرِيعَة حق ثمَّ مسخها فَصَارَت كفرا كَمَا فعل بشريعة مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام فتمادى الشَّيَاطِين على تعليمهما(3/145)
وَهِي بعد كفر كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت} ثمَّ ذكر عز وَجل مَا كَانَ يَفْعَله ذَلِك الْملكَانِ فَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقَوْل الْملكَيْنِ إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر قَول صَحِيح وَنهي عَن الْمُنكر وَأما الْفِتْنَة فقد تكون ضلالا وَتَكون هدى قَالَ الله عز وَجل حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لرَبه {أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا أَن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} فَصدق الله عز وَجل قَوْله وَصَحَّ أَن يهدي بالفتنة من يَشَاء ويضل بهَا من يَشَاء وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} وَلَيْسَ كل أحد يضل بِمَالِه وَولده فقد كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْلَاد وَمَال وَكَذَلِكَ لكثير من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقاً لنفتنهم فِيهِ} فَهَذِهِ سقيا المَاء الَّتِي هِيَ جَزَاء على الاسْتقَامَة قد سَمَّاهَا تَعَالَى فتْنَة فصح أَن من الْفِتْنَة خير أَو هدى وَمنا إضلالا وَكفرا والملكان الْمَذْكُورَات كَذَلِك كَانَا فتْنَة يَهْتَدِي من اتبع أَمرهمَا فِي أَن لَا يكفر ويضل من عصاهما فِي ذَلِك وَقَوله تَعَالَى {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه} حق لِأَن اتِّبَاع رسل الله عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام هَذِه صفتهمْ يُؤمن الزَّوْج فَيُفَرق إيمَانه بَينه وين امْرَأَته الَّتِي لم تؤمن وتؤمن هِيَ فَيُفَرق إيمَانهَا بَينهَا وَبَين زَوجهَا الَّذِي لم يُؤمن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَفِي الْولَايَة ثمَّ رَجَعَ تَعَالَى إِلَى الْخَبَر عَن الشَّيَاطِين فَقَالَ عز وَجل {وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله} وَهَذَا حق لِأَن الشَّيَاطِين فِي تعليمهم مَا قد نسخه الله عز وَجل وأبطله ضارون من إِذن الله تَعَالَى باستضراره بِهِ وَهَكَذَا إِلَى آخر الْآيَة وَمَا قَالَ عز وَجل قطّ أَن هاروت وماروت علما سحرًا وَلَا كفرا وَلَا أَنَّهُمَا عصيا وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك فِي خرافة مَوْضُوعَة لَا نصح من طَرِيق الْإِسْنَاد أصلا وَلَا هِيَ أَيْضا مَعَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَة على من قَالَ من دونه عَلَيْهِ السَّلَام فَسقط التَّعَلُّق بهَا وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَذَا التَّفْسِير الْأَخير هُوَ نَص الْآيَة دون تكلّف تَأْوِيل وَلَا تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير وَلَا زِيَادَة فِي الْآيَة وَلَا نقص مِنْهَا بل هُوَ ظَاهرهَا وَالْحق الْمَقْطُوع بِهِ عِنْد الله تَعَالَى يَقِينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قيل كَيفَ تصح هَذِه التَّرْجَمَة أَو الْأُخْرَى وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الْمَلَائِكَة لَا يُمكن أَن يراهم إِلَّا نَبِي وَكَذَلِكَ الشَّيَاطِين وَلَا فرق فَكيف تعلم الْمَلَائِكَة النَّاس أَو كَيفَ تعلم الْجِنّ النَّاس قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما الْمَلَائِكَة فيعلمون من أرْسلُوا إِلَيْهِ من الْأَنْبِيَاء خَاصَّة وينهونهم عَن الْكفْر كَمَا نهى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْكفْر فِي نَص الْقُرْآن وَأما الشَّيَاطِين فتعلم النَّاس بالوسوسة فِي الصُّدُور وتزيين الْبَاطِل أَو يتَمَثَّل فِي صُورَة إِنْسَان كَمَا تمثل يَوْم بدر فِي صُورَة سراقَة بن مَالك بن جعثم قَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَأَنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله} وَأما الْحور الْعين فنسو أَن مكرمات مخلوقات فِي الْجنَّة لأولياء الله عز وَجل عافلات مميزات مطيعات لله تَعَالَى فِي النَّعيم خُلِقْنَ فِيهِ ويخلدن بِلَا نِهَايَة لَا يعصين الْبَتَّةَ وَالْجنَّة إِذْ دَخلهَا أَهلهَا المخلدون فَلَيْسَتْ دَار(3/146)
مَعْصِيّة وَكَذَلِكَ أهل الْجنَّة لَا يعصون فِيهَا أصلا بل هم فِي نعيم وَحمد لله تَعَالَى وَذكر لَهُ والتذاذ بِأَكْل وَشرب ولباس وَوَطْء لَا يخْتَلف فِي ذَلِك من أهل الْإِسْلَام اثْنَان وَبِذَلِك جَاءَ الْقُرْآن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما الْولدَان المخلدون فهم أَوْلَاد النَّاس الَّذين مَاتُوا قبل الْبلُوغ كَمَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى يخلق خلقا يمْلَأ الْجنَّة بهم فَنحْن نقر بِهَذَا وَلَا نَدْرِي أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون فِي الْجنَّة وَالله تَعَالَى يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة وَأما الْجِنّ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَيْهِم بدين الْإِسْلَام هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد من الْأمة فكافرهم فِي النَّار مَعَ كافرنا وَأما مؤمنهم فقد اخْتلف النَّاس فيهم فَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا ثَوَاب لَهُم وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف وَجُمْهُور النَّاس إِنَّهُم وَالْجنَّة وَبِهَذَا نقُول لقَوْل الله عز وَجل {أعدت لِلْمُتقين} وَلقَوْله تَعَالَى حاكياً عَنْهُم ومصدقاً لمن قَالَ ذَلِك مِنْهُم {وَإِنَّا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ} وَقَوله تَعَالَى حاكياً عَنْهُم {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ} وَقَوله تَعَالَى {أَن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} 6 إِلَى آخر السُّورَة وَهَذِه صفة تعم الْجِنّ وَالْإِنْس عُمُوما لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يخص مِنْهَا أحد النَّوْعَيْنِ فَيكون فَاعل ذَلِك قَائِلا على الله مَا لَا يعلم وَهَذَا حرَام وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الله تَعَالَى يخبرنا بِخَبَر عَام وَهُوَ لَا يُرِيد إِلَّا بعض مَا أخبرنَا بِهِ ثمَّ لَا يبين ذَلِك لنا هَذَا هُوَ ضد الْبَيَان الَّذِي ضمنه عز وَجل لنا فَكيف وَقد نَص عز وَجل على أَنهم آمنُوا فَوَجَبَ أَنهم من جملَة الْمُؤمنِينَ الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا بُد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا الْجِنّ متعبدون فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضلت على الْأَنْبِيَاء بست فَذكر فِيهَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَكَانَ من قبله من الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا يبْعَث إِلَى قومه خَاصَّة وَقد نَص عَلَيْهِ السَّلَام على أَنه بعث إِلَى الْجِنّ وَقَالَ عز وَجل {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا} وَإِذا الْأَمر كَمَا ذكرنَا فَلم يبْعَث إِلَى الْجِنّ نَبِي من الْإِنْس الْبَتَّةَ قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجِنّ من قوم أنسي وباليقين نَدْرِي أَنهم قد أنذروا فصح أَنهم جَاءَهُم أَنْبيَاء مِنْهُم قَالَ تَعَالَى {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
1 - تمّ الْجُزْء الثَّالِث ويليه الْجُزْء الرَّابِع أَوله هَل تعصى الْأَنْبِيَاء(3/147)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَل تعصى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي هَل تعصى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أم لَا فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن رسل الله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم يعصون الله فِي جَمِيع الْكَبَائِر والصغائر عمدا حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط وَهَذَا قَول الكرامية من المرجئة وَقَول ابْن الطّيب الباقلاني من الأشعرية وَمن اتبعهُ وَهُوَ قَول الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسمعت من يَحْكِي عَن بعض الكرامية أَنهم يجرزون على الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ أَيْضا وَأما هَذَا الباقلاني فانا رَأينَا فِي كتاب صَاحبه أبي جَعْفَر السمناني قَاضِي الْموصل أَنه كَانَ يَقُول إِن كل ذَنْب دق أوجل فَإِنَّهُ جَائِز على الرُّسُل حاشى الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ فَقَط قَالَ وَجَائِز عَلَيْهِم أَن يكفروا قَالَ وَإِذا نهى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن شَيْء ثمَّ فعله فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَن ذَلِك النَّهْي قد نسخ لِأَنَّهُ قد يَفْعَله عَاصِيا لله عز وَجل قَالَ وَلَيْسَ لأَصْحَابه أَن ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ وَجوز أَن يكون فِي أمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ أفضل من مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مذ بعث إِلَى أَن مَاتَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله كفر مُجَرّد وسرك مَحْض وردة عَن الْإِسْلَام قَاطِعَة للولاية مبيحة دم من دَان بهَا وَمَاله مُوجبَة للبراءة مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الْإِشْهَاد وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز عَلَيْهِم كَبِيرَة من الْكَبَائِر أصلا وجوزوا عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد وَهُوَ قَول ابْن فورك الْأَشْعَرِيّ وَذَهَبت جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أهل السّنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إِلَى أَنه لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقع من نَبِي أصلا مَعْصِيّة بعمد لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَهُوَ قَول ابْن مُجَاهِد الْأَشْعَرِيّ شيخ ابْن فورك والباقلاني الْمَذْكُورين قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل الَّذِي ندين الله تَعَالَى بِهِ وَلَا يحل لأحد أَن يدين بسواه ونقول أَنه يَقع من الْأَنْبِيَاء السَّهْو عَن غير قصد وَيَقَع مِنْهُم أَيْضا قصد الشَّيْء يُرِيدُونَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى والتقرب مِنْهُ فيوافق خلاف مُرَاد الله تَعَالَى إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يقرهم على شَيْء من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أصلا بل ينبههم على ذَلِك وَلَا يداثر وُقُوعه مِنْهُم وَيظْهر عز وَجل ذَلِك لِعِبَادِهِ وَيبين لَهُم كَمَا فعل نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَلامَة من إثنتين وقيامه من اثْنَتَيْنِ وَرُبمَا عَاتَبَهُمْ على ذَلِك بالْكلَام كَمَا فعل نبيه عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَمر زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ وَطَلَاق زيد لَهَا رَضِي الله عَنْهُمَا(4/2)
عَنْهُمَا وَفِي قصَّة إِبْنِ مكنوم رَضِي الله عَنهُ وَرُبمَا يبغض الْمَكْرُوه فِي الدُّنْيَا كَالَّذي أصَاب آدم وَيُونُس عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام بخلافنا فِي هَذَا فإننا غير مؤآخذين بِمَا سهونا فِيهِ وَلَا بِمَا قصدنا بِهِ وَجه الله عز وَجل فَلم يُصَادف مُرَاده تَعَالَى بل نَحن مأجورون على هَذَا الْوَجْه أجرا وَاحِدًا وَقد أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى قرن بِكُل أحد شَيْطَانا وَأَن الله تَعَالَى أَعَانَهُ على شَيْطَانه فَاسْلَمْ فَلَا يَأْمُرهُ إِلَّا بِخَير وَأما الْمَلَائِكَة فبرآء من كل هَذَا لأَنهم خلقُوا من نور مَحْض لَا شوب فِيهِ والنور خير كُله لَا كدر فِيهِ حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف حَدثنَا أَحْمد بن فتح حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ حَدثنَا مُسلم بن الْحجَّاج عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلقت الْمَلَائِكَة من نور وَخلق الجان من مارج من نَار وَخلق آدم مِمَّا وصف
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واحتجت الطَّائِفَة الأولى بآيَات من الْقُرْآن وأخبار وَردت وَنحن إِن شَاءَ الله عز وَجل نذكرها ونبين غلطهم فِيهَا بالبراهين الْوَاضِحَة الضرورية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فمما احْتَجُّوا بِهِ قَول الله عز وَجل {وَعصى آدم ربه فغوى} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} قَالُوا فقر بهَا آدم فَكَانَ من الظَّالِمين وَقد عصى وغوى وَقَالَ تَعَالَى {فَتَابَ عَلَيْهِ} والمتاب لَا يكون إِلَّا من ذَنْب وَقَالَ تَعَالَى {فازلهما الشَّيْطَان} وإزلال الشَّيْطَان مَعْصِيّة وَذكروا قَول الله تَعَالَى {فَلَمَّا آتاهما صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} هَذَا كل مَا ذكرُوا فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله بِخِلَاف مَا ظنُّوا أما قَوْله تَعَالَى وَعصى آدم ربه فغوى فقد علمنَا أَن كل خلاف لأمر آمُر فصورته صُورَة الْمعْصِيَة فيسمى مَعْصِيّة لذَلِك وغواية إِلَّا أَنه مِنْهُ مَا يكون عَن عَن عمد وَذكر فَهَذِهِ مَعْصِيّة على الْحَقِيقَة لِأَن فاعلها قَاصد إِلَى الْمعْصِيَة وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا مَعْصِيّة وَهَذَا هُوَ الَّذِي نزهها عَنهُ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمِنْه مَا يكون عَن قصد إِلَى خلاف ماأمر بِهِ وَهُوَ يتاول فِي ذَلِك الْخَيْر وَلَا يدْرِي أَنه عَاص بذلك بل يظنّ أَنه مُطِيع لله تَعَالَى أَو أَن ذَلِك مُبَاح لَهُ لِأَنَّهُ يتاول أَن الْأَمر الْوَارِد عَلَيْهِ لَيْسَ على معنى الْإِيجَاب وَلَا على التَّحْرِيم لَكِن أما على النّدب أَن كَانَ بِلَفْظ الْأَمر أَو الْكَرَاهِيَة إِن كَانَ بِلَفْظ النَّهْي وَهَذَا شَيْء يَقع فِيهِ الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء الأفاضل كثيرا وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقع من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ويؤاخذون بِهِ إِذا وَقع مِنْهُم وعَلى هَذَا السَّبِيل أكل آدم من الشَّجَرَة وَمعنى قَوْله تَعَالَى {فتكونا من الظَّالِمين} أَي ظالمين لأنفسكما وَالظُّلم فِي اللُّغَة وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه فَمن وضع الْأَمر أَو النَّهْي فِي مَوضِع النّدب أَو الْكَرَاهِيَة فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَهَذَا الظُّلم من هَذَا النَّوْع من الظُّلم الَّذِي يَقع بِغَيْر قصد وَلَيْسَ مَعْصِيّة لَا الظُّلم الَّذِي هُوَ الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وَهُوَ يدْرِي أَنَّهَا مَعْصِيّة وبرهان هَذَا مَا قد نَصه الله تَعَالَى من أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لم يَأْكُل من الشَّجَرَة إِلَّا بعد أَن أقسم لَهُ إِبْلِيس أَن نهى الله عز وَجل لَهما عَن أكل الشَّجَرَة لَيْسَ على التَّحْرِيم وإنهما لَا يستحقان بذلك عُقُوبَة أصلا بل يستحقان بذلك الْجَزَاء الْحسن وَفَوْز الْأَبَد قَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْلِيس أَنه
{وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين وقاسمهما أَنِّي لَكمَا لمن الناصحين فدلاهما بغرور}(4/3)
وَقد قَالَ عز وَجل {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي وَلم نجد لَهُ عزما}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَمَا نسي آدم عَلَيْهِ السَّلَام عهد الله إِلَيْهِ فِي أَن إِبْلِيس عَدو لَهُ أحسن الظَّن بِيَمِينِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا سَلامَة وَلَا بَرَاءَة من الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وَلَا أبعد من الجراءة على الذُّنُوب أعظم من حَال من ظن أَن أحدا لَا يحلف حانثاً وَهَكَذَا فعل آدم عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ إِنَّمَا أكل من الشَّجَرَة الَّتِي نَهَاهُ الله عَنْهَا نَاسِيا بِنَصّ الْقُرْآن ومتأولا وقاصداً إِلَى الْخَيْر لِأَنَّهُ قدر أَنه يزْدَاد خظوة عِنْد الله تَعَالَى فَيكون ملكا مقرباً أَو خَالِدا فِيمَا هُوَ فِيهِ أبدا فأداه ذَلِك إِلَى خلاف مَا أمره الله عز وَجل بِهِ وَكَانَ الْوَاجِب أَن يحمل أَمر ربه عز وَجل على ظَاهره لَكِن تَأَول وَأَرَادَ الْخَيْر فَلم يصبهُ وَلَو فعل هَذَا عَالم من عُلَمَاء الْمُسلمين لَكَانَ مأجورا وَلَكِن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما فعله وَوجد بِهِ إِخْرَاجه عَن الْجنَّة إِلَى نكد الدُّنْيَا كَانَ بذلك ظَالِما لنَفسِهِ وَقد سمى الله عز وَجل قَاتل الْخَطَأ قَاتلا كَمَا سمى الْعَامِد والمخطئ لم يتَعَمَّد مَعْصِيّة وَجعل فِي الْخَطَأ فِي ذَلِك كَفَّارَة عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لمن عجز عَن الرَّقَبَة وَهُوَ لم يتَعَمَّد ذَنبا وَأما قَوْله عز وَجل {لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهما صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} فَهَذَا تَكْفِير لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام وَمن نسب لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام الشّرك وَالْكفْر كفرا مُجَردا بِلَا خلاف من أحد من الْأمة وَنحن ننكر على من كفر الْمُسلمين العصاة العشارين القتالين وَالشّرط الْفَاسِقين فَكيف من كفر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا الَّذِي نسبوه إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام من أَنه سمى ابْنه عبد الْحَارِث خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة من تأليف من لَا دين لَهُ وَلَا حَيَاء لم يَصح سندها قطّ وَإِنَّمَا نزلت فِي الْمُشْركين على ظَاهرهَا وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا نزلت فِي آدم وَهَذَا لَا يَصح أصلا لما كَانَت فِيهِ للمخالف حجَّة لِأَنَّهُ كَانَ يكون الشّرك أَو الشُّرَكَاء المذكورون فِي الْآيَة حِينَئِذٍ على غير الشّرك الَّذِي هُوَ الْكفْر لَكِن يمعنى أَنَّهُمَا جعلا مَعَ توكلهما شركَة من حفظه وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام {يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَمَا أُغني عَنْكُم من الله من شَيْء إِن الحكم إِلَّا لله عَلَيْهِ توكلت وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا وَأَنه لذُو علم لما علمناه وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} فَأخْبرنَا عز وَجل أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم أَن يدخلُوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة إشفاقاً عَلَيْهِم أما من إِصَابَة الْعين وَإِمَّا من تعرض عَدو أَو مستريب باجماعهم أَو بِبَعْض مَا يخوفه عَلَيْهِم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام معترف أَن فعله ذَلِك وَأمره إيَّاهُم بِمَا أَمرهم بِهِ من ذَلِك لَا يُغني عَنْهُم من الله شَيْئا يُريدهُ عز وَجل بهم وَلَكِن لما كَانَت طبيعة الْبشر جَارِيَة فِي يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا قَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الرُّسُل أَنهم قَالُوا {إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ} حملهمْ ذَلِك على بعض النّظر المخفف لحَاجَة النَّفس ونزاعها وتوقها إِلَى سَلامَة من يجب وَإِن كَانَ ذَلِك لَا يُغني شَيْئا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يحب الفال الْحسن فَكَانَ يكون على هَذَا معنى الشّرك والشركاء أَن يكون عوذة أَو تَمِيمَة أَو نَحْو هَذَا فَكيف وَلم تنزل الْآيَة قطّ إِلَّا فِي الْكفَّار لَا فِي آدم عَلَيْهِ السَّلَام
الْكَلَام فِي نوح عَلَيْهِ السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذكرُوا قَول الله عز وَجل لنوح {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين}(4/4)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام تاول وعد الله تَعَالَى أَن يخلصه وَأَهله فَظن أَن ابْنه من أَهله على ظَاهر الْقَرَابَة وَهَذَا لَو فعله أحد لَكَانَ مأجوراً وَلم يسْأَل نوح تَخْلِيص من أَيقَن أَنه لَيْسَ من أَهله فتفرع على ذَلِك نهى عَن أَن يكون من الْجَاهِلين فتندم عَلَيْهِ السَّلَام من ذَلِك وَنزع وَلَيْسَ هَا هُنَا عمد للمعصية الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكرُوا مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كذب ثَلَاث كذبات وَأَنه قَالَ إِذْ نظر فِي النُّجُوم أَنِّي سقيم وَبِقَوْلِهِ فِي الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَهَذَا رَبِّي بقوله فِي سارة هَذِه أُخْتِي وَبِقَوْلِهِ فِي الْأَصْنَام إِذْ كسرهَا بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا وبطلبه إِذْ طلب رُؤْيَة إحْيَاء الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله لَيْسَ على مَا ظنوه بل هوحجة لنا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما الحَدِيث أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كذب ثَلَاث كذبات فَلَيْسَ كل كذب مَعْصِيّة بل مِنْهُ مَا يكون طَاعَة لله عز وَجل وفرضاً وَاجِبا يعْصى من تَركه صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا وَقد أَبَاحَ عَلَيْهِ السَّلَام كذب الرجل لامْرَأَته فِيمَا يستجلب بِهِ مودتها وَكَذَلِكَ الْكَذِب فِي الْحَرْب وَقد أجمع أهل الْإِسْلَام على أَن إنْسَانا لَو سمع مَظْلُوما قد ظلمه سُلْطَان وَطَلَبه ليَقْتُلهُ بِغَيْر حق وَيَأْخُذ مَاله غصبا فاستتر عِنْده وسَمعه يَدْعُو على من ظلمه قَاصِدا بذلك السُّلْطَان بذلك السَّامع عَمَّا سَمعه مِنْهُ وَعَن مَوْضِعه فَإِنَّهُ إِن كتم مَا سمع وَأنكر أَن يكون سَمعه أَو أَنه يعرف مَوْضِعه أَو مَوضِع مَاله فَإِنَّهُ محسن مأجور مُطِيع لله عز وَجل وَأَنه أَن صدقه فَأخْبرهُ بِمَا سَمعه مِنْهُ وبموضعه وَمَوْضِع مَاله كَانَ فَاسِقًا عَاصِيا لله عز وَجل فَاعل كَبِيرَة مذموما تَمامًا وَقد ابيح الْكَذِب فِي إِظْهَار الْكفْر فِي التقية وكل مَا روى عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي تِلْكَ الكذبات فَهُوَ دَاخل فِي الصّفة المحمودة لَا فِي الْكَذِب الَّذِي نهى عَنهُ وَأما عَن قَوْله عَن سارة هِيَ أُخْتِي فَصدق هِيَ أُخْته من وَجْهَيْن قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يخْطب أحدكُم على خطْبَة أَخِيه وَالْوَجْه الثَّانِي الْقَرَابَة وَإِنَّهَا من قومه وَمن مستجيبيه قَالَ عز وَجل وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً فَمن عد هَذَا كذبا مذموماً من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فليسعده كذبا من ربه عز وَجل وَهَذَا كفر مُجَرّد فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَادِق فِي قَوْله سارة أُخْته وَأما قَوْله فَنظر نظرة فِي النُّجُوم فَقَالَ إِنِّي سقيم فَلَيْسَ هَذَا كذبا ولسنا ننكر أَن تكون النُّجُوم دَلَائِل على الصِّحَّة وَالْمَرَض وَبَعض مَا يحدث فِي الْعَالم كدلالة الْبَرْق على نعول الْبَحْر وكدلالة الرَّعْد على تولد الكمأة وكتولد الْمَدّ والجزر على طُلُوع الْقَمَر وغروبه وأعذار وارتفاعه وامتلائه ونقصه وَإِنَّمَا الْمُنكر قَول من قَالَ أَن الْكَوَاكِب هِيَ الفاعلة الْمُدبرَة لذَلِك دون الله تَعَالَى أَو مُشْتَركَة مَعَه فَهَذَا كفر من قَائِله وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ تقريع لَهُم وتوبيخ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مهان ذليل معذب فِي النَّار فكلا الْقَوْلَيْنِ توبيخ لمن قيلا لَهُ على ظنهم أَن الْأَصْنَام تفعل الْخَيْر وَالشَّر وعَلى ظن المعذب فِي نَفسه فِي الدُّنْيَا إِنَّه عَزِيز كريم وَلم يقل إِبْرَاهِيم هَذَا على أَنه مُحَقّق لِأَن كَبِيرهمْ فعله إِذا كذب إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَار عَن الشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ قصد إِلَى تَحْقِيق ذَلِك وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ رأى الشَّمْس وَالْقَمَر هَذَا رَبِّي فَقَالَ قوم إِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام(4/5)
قَالَ ذَلِك محققاً أول خُرُوجه من الْغَار وَهَذَا خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة ظَاهِرَة الافتعال وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يبلغ أحد حد التميز وَالْكَلَام بِمثل هَذَا وَهُوَ لم ير قطّ شمساً وَلَا قمراً وَلَا كوكباً وَقد أكذب الله هَذَا الظَّن الْكَاذِب بقوله الصَّادِق وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل وَكُنَّا بِهِ عَالمين فمحال أَن يكون من اتاه الله رشده من قبل يدْخل فِي عقله أَن الْكَوَاكِب ربه أَو أَن الشَّمْس ربه من أجل أَنَّهَا أكبر قرصاً من الْقَمَر هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ إِلَّا مَجْنُون الْعقل وَالصَّحِيح من ذَلِك أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ ذَلِك موبخاً لِقَوْمِهِ كَمَا قَالَ لَهُم نَحْو ذَلِك فِي الْكَبِير من الْأَصْنَام وَلَا فرق لأَنهم كَانُوا على دبن الصابئين يعْبدُونَ الْكَوَاكِب ويصورون الْأَصْنَام على صورها وأسمائها فِي هياكلهم ويعيدون لَهَا الأعياد ويذبحون لعا الذَّبَائِح ويقربون لَهَا الْقرب والقرابين والدخن وَيَقُولُونَ أَنَّهَا تعقل وتدبر وتضر وَتَنْفَع ويقيمون لكل كَوْكَب مِنْهَا شَرِيعَة محدودة فوبخهم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام على ذَلِك وسخر مِنْهُم وَجعل يُرِيهم تَعْظِيم الشَّمْس لكبر جرمها كَمَا قَالَ تَعَالَى {فاليوم الَّذين آمنُوا من الْكفَّار يَضْحَكُونَ} فاراهم ضعف عُقُولهمْ فِي تعظيمهم لهَذِهِ الأجرام المسخرة الجمادية وَبَين لهمأنهم مخطئون وَأَنَّهَا مُدبرَة تنْتَقل فِي الْأَمَاكِن ومعاذ الله أَن يكون الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أشرك قطّ بربه أَو شكّ فِي أَن الْفلك بِكُل مَا فِيهِ مَخْلُوق وبرهان قَوْلنَا هَذَا إِن الله تَعَالَى لم يعاتبه على شَيْء مِمَّا ذكر وَلَا عنفه على ذَلِك بل صدقه تَعَالَى بقوله {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء} فصح هَذَا بِخِلَاف مَا وَقع لآدَم وَغَيره بل وَافق مُرَاد الله عز وَجل بِمَا قَالَ من ذَلِك وَبِمَا فعل وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن ليطوئن قلبِي فَلم يقرره رَبنَا عز وَجل وَهُوَ يشك فِي إِيمَان إِبْرَاهِيم عَبده وخليله وَرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَلَكِن تَقْرِير الْإِيمَان فِي قلبه وَإِن لم ير كَيْفيَّة إحْيَاء الْمَوْتَى فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام عَن نَفسه أَنه مُؤمن مُصدق وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يرى الْكَيْفِيَّة فَقَط وَيعْتَبر بذلك وَمَا شكّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَن الله تَعَالَى يحيي الْمَوْتَى وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يرى الْهَيْئَة كَمَا أننا لَا نشك فِي صِحَة وجود الْفِيل والتمساح والكسوف وَزِيَادَة النَّهر والخليفة ثمَّ يرغب من لم ير لَك منافي أَن يرى كل ذَلِك وَلَا يشك فِي أَنه حق لَكِن ليرى الْعجب الَّذِي يتمثله وَلم تقع عَلَيْهِ حاسة بَصَره فَقَط وَأما مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم فَمن ظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكّ قطّ فِي قدرَة ربه عز وَجل على إحْيَاء الْمَوْتَى فقد كفر وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لنا على نفي الشَّك عَن إِبْرَاهِيم أَي لَو كَانَ الْكَلَام من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام شكا لَكَانَ من لم يُشَاهد من الْقُدْرَة مَا شَاهد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَحَق بِالشَّكِّ فَإِذا كَانَ من لم يُشَاهد من الْقُدْرَة مَا شَاهد إِبْرَاهِيم غير شَاك فإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام أبعد من الشَّك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن نسب هَا هُنَا إِلَى الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام الشَّك فقد نسب إِلَيْهِ الْكفْر وَمن كفر نَبيا فقد كفر وَأَيْضًا فَإِن كَانَ ذَلِك شكا من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَكُنَّا نَحن أَحَق بِالشَّكِّ مِنْهُ فَنحْن إِذا شكاك جاحدون كفار وَهَذَا كَلَام نعلم وَالْحَمْد لله بُطْلَانه من أَنْفُسنَا بل نَحن وَللَّه الْحَمد مُؤمنُونَ مصدقون بِاللَّه تَعَالَى وَقدرته على كل شَيْء يسْأَل عَنهُ السَّائِل وَذكروا قَول إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِيهِ واستغفاره لَهُ وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ لم يكن نهى عَن ذَلِك قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ} فائنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ بذلك فصح أَن اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِنَّمَا كَانَ مُدَّة حَيَاته راجياً إيمَانه فَلَمَّا مَاتَ كَافِرًا تَبرأ مِنْهُ وَلم يسْتَغْفر لَهُ بعْدهَا تمّ الْكَلَام فِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام(4/6)
الْكَلَام فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذكروا قَول الله تَعَالَى فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ
لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو أرى إِلَى ركن شَدِيد
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله لوطاً لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد فظنوا أَن هَذَا القَوْل مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام إِنْكَار على لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا
هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد فَلَيْسَ مُخَالفا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله لوطاً لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد بل كلا الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَام حق مُتَّفق عَلَيْهِ لِأَن لوطاً عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ مَنْعَة عاجلة يمْنَع بهَا قومه مِمَّا هم عَلَيْهِ من الْفَوَاحِش من قرَابَة وأو عشيرة أَو اتِّبَاع مُؤمنين وَمَا جهل قطّ لوط عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يأوي من ربه تَعَالَى إِلَى أمنع قُوَّة وَأَشد ركن وَلَا جنَاح على لوط عَلَيْهِ السَّلَام فِي طلب قُوَّة من النَّاس فقد قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} فَهَذَا الَّذِي طلب لوط عَلَيْهِ السَّلَام وَقد طلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار والمهاجرين مَنْعَة حَتَّى يبلغ كَلَام ربه تَعَالَى فَكيف يُنكر على لوط أمرا هُوَ فعله عَلَيْهِ السَّلَام تالله مَا أنكر ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن لوطاً كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد يَعْنِي من نصر الله لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ وَلم يكن لوط علم بذلك وَمن اعْتقد أَن لوطاً كَانَ يعْتَقد أَنه لَيْسَ لَهُ من الله ركن شَدِيد فقد كفر إِذْ نسب إِلَى نَبِي من الْأَنْبِيَاء هَذَا الْكفْر وَهَذَا أَيْضا ظن سيخف إِذْ من الْمُمْتَنع أَن يظنّ بِرَبّ أرَاهُ المعجزات وَهُوَ دائباً يَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا الظَّن وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن فَإِنَّمَا أَرَادَ الترويج وَالْوَطْء فِي الْمَكَان الْمُبَاح فصح مَا قُلْنَا إِذْ من الْمحَال أَن يَدعُوهُم إِلَى مُنكر وَهُوَ ينهاهم عَن الْمُنكر انْقَضى الْكَلَام فِي لوط عَلَيْهِ السَّلَام
الْكَلَام فِي أخوة يُوسُف عَلَيْهِم السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاحْتَجُّوا بِفعل أخوة يُوسُف وبيعهم أَخَاهُم وكذبهم لأبيهم وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن أخوة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وَلَا جَاءَ قطّ فِي أَنهم أَنْبيَاء نَص لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قَول أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَإِمَّا يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَسُول الله بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ عز وَجل {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ} إِلَى قَوْله {من بعده رَسُولا} وَأما أخوته فأفعالهم تشهد أَنهم لم يَكُونُوا متورعين عَن العظائم فَكيف أَن يَكُونُوا أَنْبيَاء وَلَكِن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفرا لَهُم وأسقطا التثريب عَنْهُم وبرهان مَا ذكرنَا من كذب من يزْعم أَنهم كَانُوا أَنْبيَاء قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن الرَّسُول أخيهم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَهُم {أَنْتُم شَرّ مَكَانا} وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقُوله نَبِي من الْأَنْبِيَاء نعم وَلَا لقوم صالحين إِذْ توقير الْأَنْبِيَاء فرض على جَمِيع النَّاس لِأَن الصَّالِحين لَيْسُوا شرا مَكَانا وَقد عق ابْن نوح أَبَاهُ أَكثر مِمَّا عق بِهِ أخوة يُوسُف أباهم إِلَّا أَن أخوة يُوسُف لم يكفروا وَلَا يحل لمُسلم أَن يدْخل فِي الْأَنْبِيَاء من لم يَأْتِ نَص وَلَا إِجْمَاع أَو نقل كَافَّة بِصِحَّة نبوته وَلَا فرق بَين التَّصْدِيق بنبوة من لَيْسَ نَبيا وَبَين التَّكْذِيب بنبوة من صحت نبوته مِنْهُم فَإِن ذكرُوا فِي ذَلِك ماروى عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ زيد بن أَرقم انمامات إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَا نَبِي بعد رَسُول الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَوْلَاد الْأَنْبِيَاء أَنْبيَاء فَهَذِهِ(4/7)
غَفلَة شَدِيدَة وزلة عَالم من وُجُوه أَولهَا أَنه دَعْوَى لَا دَلِيل على صِحَّتهَا وَثَانِيها أَنه لَو كَانَ مَا ذكر لأمكن أَن ينبأ إِبْرَاهِيم فِي المهد كَمَا نبىء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وكما اوتي يحي الحكم صَبيا فعلى هَذَا القَوْل لَعَلَّ إِبْرَاهِيم كَانَ نبياوقد عَاشَ عَاميْنِ غير شَهْرَيْن وحاشا لله من هَذَا وَثَالِثهَا أَن ولد نوح كَانَ كافرابنص الْقُرْآن عمل عملا غير صَالح فَلَو كَانَ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء أَنْبيَاء لَكَانَ هَذَا الْكَافِر المسخوط عَلَيْهِ نَبيا وحاشا لله من هَذَا وَرَابِعهَا لَو كَانَ ذَلِك لوَجَبَ ولابد أَن تكون الْيَهُود كلهم أَنْبيَاء إِلَى الْيَوْم بل جَمِيع أهل الأَرْض أَنْبيَاء لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون الْكل من ولد آدم لصلبه انبياءلان اباهم نَبِي واولاده أَنْبيَاء أَيْضا لِأَن آبَاءَهُم أَنْبيَاء وهم أَوْلَاد أَنْبيَاء وَهَكَذَا أبدا حَتَّى يبلغ الْأَمر إِلَيْنَا وَفِي هَذَا من الْكفْر لمن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة وَثَبت عَلَيْهِ مَالا خَفَاء بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَعَلَّ من جهل مرَّتَيْنِ يَقُول عَنَّا هَذَا يُنكر نبوة أخوة يُوسُف وَيثبت نبوة نَبِي الْمَجُوس ونبوة أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق عَلَيْهِم السَّلَام فَنحْن نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نعتصم لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عز وَجل بنبوته وَلم ينص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نبوته وَلَا نقلت الكواف عَن أَمْثَالهَا نقلا مُتَّصِلا مِنْهُ إِلَيْنَا معجزات النُّبُوَّة عَنهُ مِمَّن كَانَ قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل ندفع نبوة من قَامَ الْبُرْهَان على بطلَان نبوته لِأَن تَصْدِيق نبوة من هَذِه صفته افتراء على الله تَعَالَى لَا يقدم عَلَيْهِ مُسلم وَلَا ندفع نبوة من جَاءَ الْقُرْآن بِأَن الله تَعَالَى نبأه فَأَما أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق فالقرآن قد جَاءَ بمخاطبة الْمَلَائِكَة لبعضهن بِالْوَحْي وَإِلَى بعض مِنْهُنَّ عَن الله عز وَجل بالأنباء بِمَا يكون قبل أَن يكون وَهَذِه النُّبُوَّة نَفسهَا الَّتِي لَا نبوة غَيرهَا فَصحت نبوتهن بِنَصّ الْقُرْآن وَأما نَبِي الْمَجُوس فقد صَحَّ أَنهم أهل كتاب يَأْخُذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة مِنْهُم وَلم يبح الله تَعَالَى لَهُ أَخذ الْجِزْيَة إِلَّا من أهل الْكتاب فَقَط فَمن نسب إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَخذ الْجِزْيَة من غير أهل الْكتاب فقد نسب إِلَيْهِ أَنه خَالف ربه تَعَالَى وأقدم على عَظِيمَة تقشعر مِنْهَا جُلُود الْمُؤمنِينَ فَإذْ نَحن على يَقِين من أَنهم أهل كتاب فَلَا سَبِيل الْبَتَّةَ إِلَى نزُول كتاب من عِنْد الله تَعَالَى على غير نَبِي مُرْسل بتبليغ ذَلِك الْكتاب فقد صَحَّ بالبرهان الضَّرُورِيّ أَنهم قد كَانَ لَهُم نَبِي مُرْسل يَقِينا بِلَا شكّ وَمَعَ هَذَا فقد نقلت عَنهُ كواف عَظِيمَة معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وكل مَا نقلته كَافَّة على شَرط عدم التواطئ فَوَاجِب قبُوله وَلَا فرق بَين مَا نقلته كواف الْكَافرين أَو كواف الْمُسلمين فِيمَا شاهدته حواسهم وَمن قَالَ لَا أصدق إِلَّا مَا نقلته كواف الْمُسلمين فَإنَّا نَسْأَلهُ بِأَيّ شَيْء يَصح عِنْده موت مُلُوك الرّوم وَلم يحضرهم مُسلم أصلا وَإِنَّمَا نقلته إِلَيْنَا يهود عَن نَصَارَى وَمثل هَذَا كثير فَإِن كذب هَذَا غالط نَفسه وعقله وكابر حسه وَأَيْضًا فَإِن الْمُسلمين إِنَّمَا علمنَا أَنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصِحَّة مَا بِأَيْدِيهِم فبنقل الكافة علمنَا هدى الْمُسلمين وَلَا تعلم بِالْإِسْلَامِ صِحَة نقل الكافة بل هُوَ مَعْلُوم بِالْبَيِّنَةِ وضرورة الْعقل وَقد أخبر تَعَالَى أَن الْأَوَّلين زبر وَقَالَ تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} وَفِي هَذَا كِفَايَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام
وَذكروا أَيْضا أَخذ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَخَاهُ وايحاشه أَبَاهُ عَلَيْهِ اسلام مِنْهُ وَأَنه أَقَامَ مُدَّة يقدر فِيهَا على أَن يعرف أَبَاهُ خَبره وَهُوَ يعلم مَا يقاسى بِهِ من الوجد عَلَيْهِ فَلم بِفعل وَلَيْسَ بَينه(4/8)
بَينه وَبَينه إِلَّا عشر لَيَال وبإدخاله صواع الْملك فِي وعَاء أَخِيه وَلم يعلم بذلك سائراخوته ثمَّ أَمر من هتف أيتها العير أَنكُمْ لسارقون وهم لم يسرقوا شَيْئا وَبقول الله تَعَالَى وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه وبخدمته لفرعون وَبِقَوْلِهِ للَّذي كَانَ مَعَه فِي السجْن اذْكُرْنِي عِنْد رَبك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ وَنحن نبين ذَلِك بحول الله تَعَالَى وقوته فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أما أَخذه أَخَاهُ وايحاشه أَبَاهُ مِنْهُ فَلَا شكّ فِي أَن ذَلِك ليرفق بأَخيه وليعود أخوته إِلَيْهِ ولعلهم لَو مضوا بأَخيه لم يعودوا إِلَيْهِ وهم فِي مملكة أُخْرَى وَحَيْثُ لَا طَاعَة ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا لملك مصر هُنَالك وليكون ذَلِك سَببا لاجتماعه وَجمع شَمل جَمِيعهم وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أُوتى الْعلم والمعرفة بالتأويل إِلَّا أحسن الْوُجُوه وَلَيْسَ مَعَ من خَالَفنَا نَص بِخِلَاف مَا ذكرنَا وَلَا يحل أَن يظنّ بِمُسلم فَاضل عقوق أَبِيه فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما ظنهم أَنه أَقَامَ مُدَّة يقدر فِيهَا عَليّ ويتعف أَبِيه خَبره وَلم يفعل فَهَذَا جهل شَدِيد مِمَّن ظن هَذَا لِأَن يَعْقُوب فِي أَرض كنعان من عمل فلسطين فِي قوم رحالين خصاصين فِي لِسَان آخر وَطَاعَة أُخْرَى وَدين آخر وَأمة أُخْرَى كَالَّذي بَيْننَا الْيَوْم وَبَين من يضافينا من بِلَاد النَّصَارَى كفاليش وَغَيرهَا أَو كصحراء البربر فَلم يكن عِنْد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام علم بعد فِرَاقه أَبَاهُ بِمَا فعل وَلَا حَيّ هُوَ أَو ميت أَكثر من وعد الله تَعَالَى بِأَن ينبئهم بفعلهم بِهِ وَلَا وجد أحدا يَثِق بِهِ فَيُرْسل إِلَيْهِ للِاخْتِلَاف الَّذِي ذكرنَا وَإِنَّمَا يستسهل هَذَا الْيَوْم من يرى أَرض الشَّام ومصر لأمير وَاحِد وملة وَاحِدَة وَلِسَانًا وَاحِدًا وَأمة وَاحِدَة وَالطَّرِيق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة وَالْبرد ناهضة وراجعة فَظن كل بَيْضَاء شحمة وَلم يكن الْأَمر حِينَئِذٍ كَذَلِك وَلَكِن كَمَا قدمنَا دَلِيل ذَلِك أَنه حِين أمكنه لم يُؤَخِّرهُ واستجلب أَبَاهُ وَأَهله أَجْمَعِينَ عِنْد ضَرُورَة النَّاس إِلَيْهِ انقيادهم لَهُ للجوع الَّذِي كَانَ عَم الأَرْض وامتيازهم من عِنْده فانتظر وعد ربه تَعَالَى الَّذِي وعده حِين ألقوه فِي الْجب فَأتوهُ ضارعين راغبين كَمَا وعده تَعَالَى فِي رُؤْيَاهُ قبل أَن يأتوه وَرب رَئِيس جليل شاهدنا من أَبنَاء البشاكس والافرنج لَو قدر على أَن يستجلب أَبَوَيْهِ لَكَانَ أَشد النَّاس بداراً إِلَى ذَلِك وَلَكِن الْأَمر تعذر عَلَيْهِم تعذراً أخرجه عَن الْإِمْكَان إِلَى الِامْتِنَاع فَهَذَا كَانَ أَمر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا قَول يُوسُف لأخوته أَنكُمْ لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هُوَ الَّذِي كَانَ قد أدخلهُ فِي وعَاء أَخِيه دونهم فقد صدق عَلَيْهِ السَّلَام لأَنهم سَرقُوهُ من أَبِيه وباعوه وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنكُمْ سرقتم الصواع وَإِنَّمَا قَالَ تفقد صواع الْملك وَهُوَ فِي ذَلِك صَادِق لِأَنَّهُ كَانَ غير وَاجِد لَهُ فَكَانَ فَاقِد لَهُ بِلَا شكّ وَأما خدمته عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون فَإِنَّمَا خدمه تقية وَفِي حق لاستنقاذ الله تَعَالَى بِحسن تَدْبيره وَلَعَلَّ الْملك أَو بعض خواصه قد آمن بِهِ إِلَّا أَن خدمته لَهُ على كل حَال حَسَنَة وَفعل خير وتوصل إِلَى الِاجْتِمَاع بِأَبِيهِ وَإِلَى الْعدْل وَإِلَى حَيَاة النُّفُوس إِذْ لم يقدر على المغالبة وَلَا أمكنه غير ذَلِك وَلَا مرية فِي أَن ذَلِك كَانَ مُبَاحا فِي شَرِيعَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بِخِلَاف شريعتنا قَالَ الله تَعَالَى {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} وَأما سُجُود أَبَوَيْهِ فَلم يكن مَحْظُورًا فِي شريعتهما بل كَانَ فعلا حسنا وَتَحْقِيق رُؤْيَاهُ الصَّادِق من الله تَعَالَى وَلَعَلَّ ذَلِك السُّجُود كَانَ تَحِيَّة كسجود الْمَلَائِكَة لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَن الَّذِي(4/9)
لَا شكّ فِيهِ أَنه لم يكن سُجُود عبَادَة وَلَا تذلل وَإِنَّمَا كَانَ سُجُود كَرَامَة فَقَط بِلَا شكّ وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للَّذي كَانَ مَعَه فِي السجْن اذْكُرْنِي عِنْد رَبك فَمَا علمنَا الرَّغْبَة فِي الانطلاق من السجْن محظورة على أحد وَلَيْسَ فِي قَوْله ذَلِك دَلِيل على أَنه أغفل الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل لكنه رغب هَذَا الَّذِي كَانَ مَعَه فِي السجْن فِي فعل الْخَيْر وحضه عَلَيْهِ وَهَذَا فرض من وَجْهَيْن أَحدهمَا وجوب السَّعْي فِي كف الظُّلم عَنهُ وَالثَّانِي دعاؤه إِلَى الْخَيْر والحسنات وَأما قَوْله تَعَالَى {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه} فَالضَّمِير الَّذِي فِي أنساه وَهُوَ الْهَاء رَاجع إِلَى الْفَتى الَّذِي كَانَ مَعَه فِي السجْن أَي أَن الشَّيْطَان أنساه أَن يذكر ربه أَمر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون أنساه الشَّيْطَان ذكر الله تَعَالَى وَلَو ذكر الله عز وَجل لذكر حَاجَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وبرهان ذَلِك قَول الله عز وَجل {وادكر بعد أمة} فصح يَقِينا أَن الْمَذْكُور بعد أمة هُوَ الَّذِي أنساه الشَّيْطَان ذكر ربه حَتَّى تذكر وَحَتَّى لَو صَحَّ أَن الضَّمِير من أنساه رَاجع إِلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لما كَانَ فِي ذَلِك نقص وَلَا ذَنْب إِذْ مَا كَانَ بِالنِّسْيَانِ فَلَا يبعد عَن الْأَنْبِيَاء وَأما قَوْله هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه فَلَيْسَ كَمَا ظن من لم يمعن النّظر حَتَّى قَالَ من الْمُتَأَخِّرين من قَالَ أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من الْمَرْأَة ومعاذ الله من هَذَا أَن يظنّ بِرَجُل من صالحي الْمُسلمين أَو مستوريهم فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط فَإِن قيل أَن هَذَا قد روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من طَرِيق جَيِّدَة الْإِسْنَاد قُلْنَا نعم وَلَا حجَّة فِي قَول أحد إِلَّا فِيمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَالوهم فِي تِلْكَ الرِّوَايَة إِنَّمَا هِيَ بِلَا شكّ عَمَّن دون ابْن عَبَّاس أَو لَعَلَّ ابْن عَبَّاس لم يقطع بذلك إِذْ إِنَّمَا أَخذه عَمَّن لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا شكّ فِي أَنه شَيْء سَمعه فَذكره لِأَنَّهُ رَضِي الله عَنهُ لم يحضر ذَلِك وَلَا ذكره عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحال أَن يقطع ابْن عَبَّاس بِمَا لَا علم لَهُ بِهِ لَكِن معنى الْآيَة لَا يعدو أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَنه هم بالايقاع بهَا وضربها كَمَا قَالَ تَعَالَى وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وكما يَقُول الْقَائِل لقد هَمت بك لكنه عَلَيْهِ السَّلَام امْتنع من ذَلِك ببرهان أرَاهُ الله إِيَّاه اسْتغنى بِهِ عَن ضربهَا وَعلم أَن الْفِرَار أجدى عَلَيْهِ وَأظْهر لبراءته على مَا ظهر بعد ذَلِك من حكم الشَّاهِد بِأَمْر الْقد من الْقَمِيص وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْكَلَام تمّ عِنْد قَوْله وَلَقَد هَمت بِهِ ثمَّ ابْتَدَأَ تَعَالَى خَبرا آخر فَقَالَ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه وَهَذَا ظَاهر الْآيَة بِلَا تكلّف تَأْوِيل وَبِهَذَا نقُول حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الطلمنكي حَدثنَا ابْن عون الله أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم ابْن أَحْمد بن فراس حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم النَّيْسَابُورِي أَنا اسحق بن رَاهْوَيْةِ أَنا المؤمل ابْن إِسْمَاعِيل الْحِمْيَرِي حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ هَذِه الْآيَة ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَهَا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ جِبْرِيل يَا يُوسُف اذكر همك(4/10)
فَقَالَ يُوسُف وَمَا ابرئ نَفسِي أَن النَّفس لأمارة بالسوء فَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث على معنى من الْمعَانِي تَحْقِيق الْهم بالفاحشة وَلكنه فِيهِ أَنه بأمرها وَهَذَا حق كَمَا قُلْنَا فَسقط هَذَا الِاعْتِرَاض وَصَحَّ الْوَجْه الأول وَالثَّانِي مَعًا إِلَّا أَن الْهم بالفاحشة بَاطِل مَقْطُوع على كل حَال وَصَحَّ أَن ذَلِك الْهم ضرب سيدته وَهِي خِيَانَة لسَيِّده إِذْ هم بِضَرْب امْرَأَته وبرهان ربه هَا هُنَا هُوَ النُّبُوَّة وعصمة الله عز وَجل إِيَّاه وَلَوْلَا الْبُرْهَان لَكَانَ يهم بالفاحشة وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ وَلَعَلَّ من ينْسب هَذَا إِلَى النَّبِي الْمُقَدّس يُوسُف ينزه نَفسه الرذلة عَن مثل الْمقَام فَيهْلك وَقد خشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَلَاك على من ظن بِهِ ذَلِك الظَّن إِذْ قَالَ للأنصاريين حِين لقيهمَا هذذه صَفِيَّة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن يظنّ ظان أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام هم بِالزِّنَا وَهُوَ يسمع قَول الله تَعَالَى كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء فنسأل من خَالَفنَا عَن الْهم بِالزِّنَا بِسوء هُوَ أم غير سوء فَلَا بُد أَنه سوء وَلَو قَالَ إِنَّه لَيْسَ بِسوء لعاند الْإِجْمَاع فَإذْ هُوَ سوء وَقد صرف عَنهُ السوء فقد صرف عَنهُ الْهم بِيَقِين وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا وَأنكر هُوَ ذَلِك فَشهد الصَّادِق الْمُصدق إِن كَانَ قمصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين فصح أَنَّهَا كذبت بِنَصّ الْقُرْآن وَإِذا كذبت بِنَصّ الْقُرْآن فَمَا أَرَادَ بهَا سوء فَمَا هم بِالزِّنَا قطّ وَلَو أَرَادَ بهَا الزِّنَا لكَانَتْ من الصَّادِقين وَهَذَا بَين جدا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى عَنهُ انه قَالَ وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن فصح عَنهُ أَنه قطّ لم يصب إِلَيْهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق تمّ الْكَلَام فِي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام
الْكَلَام فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأمه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} فَمَعْنَاه فَارغًا من الْهم بمُوسَى جملَة لِأَن الله عز وَجل قد وعدها برده إِلَيْهَا إِذْ قَالَ لَهَا تَعَالَى {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} فَمن الْبَاطِل الْمَحْض أَن يكون اله تَعَالَى ضمن لَهَا رده إِلَيْهَا ثمَّ يصبح قَلبهَا مَشْغُولًا بالهم بأَمْره هَذَا مَالا يظنّ بِذِي عقل أصلا وَإِنَّمَا معنى قَوْله تَعَالَى إِن كَادَت لتبدي بِهِ أَي سُرُورًا بِمَا أَتَاهُ الله عز وَجل من الْفضل وَقَوْلها لأخته قصيه إِنَّمَا هُوَ لترى أُخْته كَيْفيَّة قدرَة الله تَعَالَى فِي تخليصه من يَدي فِرْعَوْن عدوه بعد وُقُوعه فيهمَا وليتم بهَا مَا وعدها الله تَعَالَى من رده إِلَيْهَا فَبعثت أُخْته لترده بِالْوَحْي ذكرُوا قَول الله تَعَالَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ بِرَأْس أَخِيه يجره إِلَيْهِ {قَالَ يَا ابْن أم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} قَالُوا وَهَذِه مَعْصِيّة أَن يَأْخُذ بلحية أَخِيه وشعره(4/11)
وَهُوَ نَبِي مثله وأسن مِنْهُ وَلَا ذَنْب لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَيْسَ كَمَا طنوا وَهُوَ خَارج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن أَخذه بِرَأْس أَخِيه ليقبل بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيسمع عتابه لَهُ إِذْ تَأَخّر عَن اتِّبَاعه إِذْ رَآهُمْ ضلوا وَلم يَأْخُذ بِشعر أَخِيه قطّ إِذْ لَيْسَ ذَلِك فِي الْآيَة أصلا وَمن زَاد ذَلِك فِيهَا فقد كذب على الله تَعَالَى لَكِن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام خشيى بادرة من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وسطوة إِذْ رَآهُ قد اشْتَدَّ غَضَبه فَأَرَادَ توقيفه بِهَذَا الْكَلَام عَمَّا تخوفه مِنْهُ وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة مَا يُوجب غير مَا قُلْنَاهُ وَلَا أَنه مد يَده إِلَى أَخِيه أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالثَّانِي أَن يكون هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام قد يكون اسْتحق فِي نظر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام النكير لتأخيره عَن لحاقه إِذْ رَآهُمْ ضلوا فَأخذ بِرَأْسِهِ مُنْكرا عَلَيْهِ وَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ إِنَّمَا فعله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام غَضبا لرَبه عز وَجل وقاصداً بذلك رِضَاء الله تَعَالَى ولسنا نبعد هَذَا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا نبعد الْقَصْد إِلَى الْمعْصِيَة وهم يعلمُونَ أَنَّهَا مَعْصِيّة وَهَذَا هُوَ معنى مَا ذكره الله تَعَالَى عَن إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} وَقَول الله تَعَالَى لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} إِنَّمَا الْخَطِيئَة الْمَذْكُورَة والذنُوب المغفورة مَا وَقع بنسيان أَو بِقصد إِلَى الله تَعَالَى إِرَادَة الْخَيْر فَلم يُوَافق رضَا الله عز وَجل بذلك فَقَط وَذكروا قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام للخضر عَلَيْهِ السَّلَام أقتلت نفسا زكية بِغَيْر نفس فَأنْكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الشَّيْء وَهُوَ لَا يُعلمهُ وَقد كَانَ أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد أَن لَا يسْأَله عَن شَيْء حَتَّى يحدث لَهُ مِنْهُ ذكرا فَهَذَا أَيْضا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن ذَلِك كَانَ على سَبِيل النسْيَان وَقد بَين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بقوله لَا تؤاخذني بِمَا نسيت وَلَا ترهقني من أَمْرِي عسراً فَرغب إِلَيْهِ أَنه لَا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الْخضر لَهُ بِالنِّسْيَانِ دَلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا من أَنهم عَلَيْهِم السَّلَام مؤاخذون بِالنِّسْيَانِ وَبِمَا قصدُوا بِهِ الله عز وَجل فَلم يصادفوا بذلك مُرَاد الله عز وَجل وَتكلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على ظَاهر الْأَمر وَقدر أَن الْغُلَام زكي إِذْ لم يعلم لَهُ ذَنبا وَكَانَ عِنْد الْخضر الْعلم الجلى بِكفْر ذَلِك الْغُلَام واستحقاقه الْقَتْل فقصد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بكلامة فِي ذَلِك وَجه الله تَعَالَى وَالرَّحْمَة وإنكار مَا لم يعلم وَجهه وَذكروا قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فعلتها إِذا وانا من الضَّالّين فَقَوْل صَحِيح وَهُوَ حَاله قبل النُّبُوَّة فَإِنَّهُ كَانَ ضَالًّا عَمَّا اهْتَدَى لَهُ بعد النُّبُوَّة وضلال الْغَيْب عَن الْعلم كَمَا تَقول أضللت بَعِيري لَا ضلال الْقَصْد إِلَى الْإِثْم وَهَكَذَا قَول الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووجدك ضَالًّا فهدى أَي ضَالًّا عَن الْمعرفَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذكروا قَول الله عز وَجل عَن بني إِسْرَائِيل فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا ارنا الله جهرة فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم قَالُوا ومُوسَى قد سَأَلَ ربه مثل ذَلِك فَقَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك قَالَ(4/12)
لن تراني قَالُوا فقد سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمرا عُوقِبَ سائلوه قبله.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ خَارج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ ذَلِك قبل سُؤال بني إِسْرَائِيل رُؤْيَة الله تَعَالَى وَقبل أَن يعلم أَن سُؤال ذَلِك لَا يجوز فَهَذَا لَا مَكْرُوه فِيهِ لِأَنَّهُ سَأَلَ فَضِيلَة عَظِيمَة أَرَادَ بهَا علو الْمنزلَة عِنْد ربه تَعَالَى وَالثَّانِي أَن بني إِسْرَائِيل سَأَلُوا ذَلِك متعنتين وشكاكا فِي الله عز وَجل ومُوسَى سَأَلَ ذَلِك على الْوَجْه الْحسن الَّذِي ذكرنَا آنِفا.
الْكَلَام على يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا أَمر يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَقَول الله تَعَالَى عَنهُ {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضباً فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ أَنِّي كنت من الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَوله لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {فأصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم} وَقَوله تَعَالَى {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} قَالُوا وَلَا ذَنْب أعظم من المغاضبة لله عز وَجل وَمن أكبر ذَنبا مِمَّن ظن أَن الله لَا يقدر عَلَيْهِ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَنه اسْتحق الذَّم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة الله عز وَجل وَأَنه اسْتحق الْمَلَامَة وَأَنه أقرّ على نَفسه أَنه كَانَ من الظَّالِمين وَنهى الله تَعَالَى نبيه أَن يكون مثله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كُله لَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ حجَّة لنا على صِحَة قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما أَخْبَار الله تَعَالَى أَن يُونُس ذهب مغاضباً فَلم يغاضب ربه قطّ وَلَا قَالَ الله تَعَالَى أَنه غاضب ربه فَمن زَاد هَذِه الزِّيَادَة كَانَ قَائِلا على الله الْكَذِب وزائداً فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ هَذَا لَا يحل وَلَا يجوز أَن يظنّ بِمن لَهُ أدنى مسكة من عقل أَنه يغاضب ربه تَعَالَى فَكيف أَن يفعل ذَلِك نَبِي من الْأَنْبِيَاء فَعلمنَا يَقِينا أَنه إِنَّمَا غاضب قومه وَلم يُوَافق ذَلِك مُرَاد الله عز وَجل فَعُوقِبَ بذلك وَأَن كَانَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام لم يقْصد بذلك إِلَّا رضَا الله عز وَجل وَأما قَوْله تَعَالَى {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} فَلَيْسَ على مَا ظنوه من الظَّن السخيف الَّذِي لَا يجوز أَن يظنّ بضعيفة من النِّسَاء أَو بضعيف من الرِّجَال إِلَّا أَن يكون قد بلغ الْغَايَة من الْجَهْل فَكيف بِنَبِي مفصل على النَّاس فِي الْعلم وَمن الْمحَال الْمُتَيَقن أَن يكون نَبِي يظنّ أَن الله تَعَالَى الَّذِي أرْسلهُ بِدِينِهِ لَا يقدر عَلَيْهِ وَهُوَ يرى أَن آدَمِيًّا مثله يقدر عَلَيْهِ وَلَا شكّ فِي أَن من نسب هَذَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَاضِل فَإِنَّهُ يشْتَد غَضَبه لَو نسب ذَلِك إِلَيْهِ أَو إِلَى ابْنه فَكيف إِلَى يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يَقُول فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تفضلُونِي على يُونُس بن مَتى فقد بَطل ظنهم بِلَا شكّ وَصَحَّ أَن معنى قَوْله {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ}(4/13)
أَي لن نضيق عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} أَي ضيق عَلَيْهِ فَظن يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى لَا يضيق عَلَيْهِ فِي مغاضبته لِقَوْمِهِ إِذْ ظن أَنه محسن فِي فعله ذَلِك وَإِنَّمَا نهى الله عز وَجل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَن يكون كصاحب الْحُوت فَنعم نَهَاهُ الله عز وَجل عَن مغاضبته قومه وَأمره بِالصبرِ على أذاهم وبالمطاولة لَهُم وَأما قَول الله تَعَالَى أَنه اسْتحق الذَّم والملامة لَوْلَا النِّعْمَة الَّتِي تَدَارُكه بهَا للبث معاقباً فِي بطن الْحُوت فَهَذَا نفس مَا قُلْنَاهُ من ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام يؤاخذون فِي الدُّنْيَا على مَا فَعَلُوهُ مِمَّا يَظُنُّونَهُ خيرا وقربة إِلَى الله عز وَجل إِذا لم يُوَافق مُرَاد رَبهم وعَلى هَذَا الْوَجْه أقرّ على نَفسه بِأَنَّهُ كَانَ من الظَّالِمين وَالظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه فَلَمَّا وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المغاضبة فِي غير موضعهَا اعْترف فِي ذَلِك بالظلم لَا على أَنه قَصده وَهُوَ يدْرِي أَنه ظلم انْقَضى الْكَلَام فِي يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
الْكَلَام فِي دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
وَذكروا أَيْضا قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب إِذْ دخلُوا على دَاوُد فَفَزعَ مِنْهُم قَالُوا لَا تخف خصمان} إِلَى قَوْله {فغفرنا لَهُ ذَلِك} قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول صَادِق صَحِيح لَا يدل على شَيْء مِمَّا قَالَه المستهزئون الْكَاذِبُونَ المتعلقون بخرافات وَلَدهَا الْيَهُود وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك الْخصم قوما من بني آدم بِلَا شكّ مختصمين فِي نعاج من الْغنم على الْحَقِيقَة بَينهم بغى أَحدهمَا على الآخر على نَص الْآيَة وَمن قَالَ أَنهم كَانُوا مَلَائِكَة معرضين بِأَمْر النِّسَاء فقد كذب على الله عز وَجل وَقَوله مَا لم يقل وَزَاد فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ وَكذب الله عز وَجل وَأقر على نَفسه الخبيثة أَنه كذب الْمَلَائِكَة لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم} فَقَالَ هُوَ لم يَكُونُوا قطّ خصمين وَلَا بغي بَعضهم على بعض وَلَا كَانَ قطّ لأَحَدهمَا تسع وَتسْعُونَ نعجة وَلَا كَانَ للْآخر نعجة وَاحِدَة وَلَا قَالَ لَهُ أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فِيهِ أهل الْبَاطِل أنفسهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ كل ذَلِك بِلَا دَلِيل بل الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَة وتالله أَن كل أمرئ منا ليصون نَفسه وجاره المستور عَن أَن يتعشق امْرَأَة جَاره ثمَّ يعرض زَوجهَا للْقَتْل عمدا ليتزوجها وَعَن أَن يتْرك صلَاته لطائر يرَاهُ هَذِه أَفعَال السُّفَهَاء المتهوكين الْفُسَّاق المتمردين لَا أَفعَال أهل الْبر وَالتَّقوى فَكيف برَسُول الله دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أُوحِي إِلَيْهِ كِتَابه وأجرى على لِسَانه كَلَامه لقد نزهه الله عز وَجل عَن أَن يمر مثل هَذَا الْفُحْش بِبَالِهِ فَكيف أَن يستضيف إِلَى أَفعاله وَأما استغفاره وخروره سَاجِدا ومغفرة الله تَعَالَى لَهُ فالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أولى النَّاس بِهَذِهِ الْأَفْعَال الْكَرِيمَة وَالِاسْتِغْفَار فعل خير لَا يُنكر من ملك وَلَا من(4/14)
نَبِي وَلَا من مذنب وَلَا من غير مذنب فالنبي يسْتَغْفر الله لمذنبي أهل الأَرْض وَالْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَأغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم عَذَاب الْجَحِيم} وَأما قَوْله تَعَالَى عَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام {وَظن دَاوُد إِنَّمَا فتناه} وَقَوله تَعَالَى {فغفرنا لَهُ ذَلِك} فقد ظن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَن يكون مَا أَتَاهُ الله عز وَجل من سَعَة الْملك الْعَظِيم فتْنَة فقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو فِي أَن يثبت الله قلبه على دينه فأستغفر الله تَعَالَى من هَذَا الظَّن فغفر الله تَعَالَى لَهُ هَذَا الظَّن إِذْ لم يكن مَا أَتَاهُ الله تَعَالَى من ذَلِك فتْنَة.
الْكَلَام فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام
وَذكروا قَول الله عز وَجل عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه جسداً ثمَّ أناب} .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا إِذْ معنى قَوْله تَعَالَى فتنا سُلَيْمَان أَي أتيناه من الْملك مَا أختبرنا بِهِ طَاعَته كَمَا قَالَ تَعَالَى مُصدقا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} إِن من الْفِتْنَة من يهدي الله من يَشَاء وَقَالَ تَعَالَى {ألم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين} فَهَذِهِ الْفِتْنَة هِيَ الاختبار حَتَّى يظْهر الْمُهْتَدي من الضال فَهَذِهِ فتْنَة الله تَعَالَى لِسُلَيْمَان إِنَّمَا هِيَ اختباره حَتَّى ظهر فَضله فَقَط وَمَا عدا هَذَا فخرافات وَلَدهَا زنادقة الْيَهُود وأشباههم وَأما الْجَسَد الْملقى على كرسيه فقد أصَاب الله تَعَالَى بِهِ مَا أَرَادَ نؤمن بِهَذَا كَمَا هُوَ ونقول صدق الله عز وَجل كل من عِنْد الله رَبنَا وَلَو جَاءَ نَص صَحِيح فِي الْقُرْآن أَو عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتفسير هَذَا الْجَسَد مَا هُوَ لقلنا بِهِ فَإِذا لم يَأْتِ بتفسيره مَا هُوَ نَص وَلَا خبر صَحِيح فَلَا يحل لأحد القَوْل بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أكذب الحَدِيث فِي ذَلِك فَيكون كَاذِبًا على الله عز وَجل إِلَّا أننا لَا نشك الْبَتَّةَ فِي بطلَان قَول من قَالَ أَنه كَانَ جنيا تصور بصورته بل نقطع على أَنه كذب وَالله تَعَالَى لَا يهتك ستر رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الهتك وَكَذَلِكَ نبعد قَول من قَالَ أَنه كَانَ ولدا لَهُ أرْسلهُ إِلَى السَّحَاب ليربيه فسليمان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أعلم من أَن يُربي ابْنه بِغَيْر مَا طبع الله عز وَجل بنية الْبشر عَلَيْهِ من اللَّبن وَالطَّعَام وَهَذِه كلهَا خرافات مَوْضُوعَة مكذوبة لم يَصح اسنادها قطّ وَذكروا أَيْضا قَول الله عز وَجل عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب ردوهَا على فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} وتأولوا ذَلِك على مَا قد نزه الله عَنهُ من لَهُ أدنى مسكة من عقل(4/15)
من أهل زَمَاننَا وَغَيره فَكيف بِنَبِي مَعْصُوم مفضل فِي أَنه قتل الْخَيل اذا اشْتغل بهَا عَن الصَّلَاة قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه خرافة مَوْضُوعَة مكذوبة سخيفة بَارِدَة قد جمعت أفانين من القَوْل وَالظَّاهِر أَنَّهَا من اختراع زنديق بِلَا شكّ لِأَن فِيهَا معاقبة خيل لَا ذَنْب لَهَا والتمثيل بهَا واتلاف مَال منتفع بِهِ بِلَا معنى وَنسبَة تَضْييع الصَّلَاة إِلَى نَبِي مُرْسل ثمَّ يُعَاقب الْخَيل على ذَنبه لَا على ذنبها وَهَذَا أَمر لَا يستجيزه صبي ابْن سبع سِنِين فَكيف بِنَبِي مُرْسل وَمعنى هَذِه الْآيَة ظَاهر بَين وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أخبر أَنه أحب حب الْخَيْر من أجل ذكر ربه حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب أَو حَتَّى تَوَارَتْ تِلْكَ الصافنات الْجِيَاد بحجابها ثمَّ أَمر بردهَا فَطَفِقَ مسحا بسوقها وأعناقها بِيَدِهِ برا بهَا وإكراماً لَهَا هَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَة الَّذِي لَا يحْتَمل غَيره وَلَيْسَ فِيهَا إِشَارَة أصلا إِلَى مَا ذَكرُوهُ من قتل الْخَيل وتعطيل الصَّلَاة وكل هَذَا قد قَالَه ثِقَات الْمُسلمين فَكيف وَلَا حجَّة فِي قَول أحد دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكروا أَيْضا الحَدِيث الثَّابِت من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لاطوفن اللَّيْلَة على كَذَا وَكَذَا امْرَأَة كل امْرَأَة مِنْهُنَّ تَلد فَارِسًا يُقَاتل فِي سَبِيل الله وَلم يقل إِن شَاءَ الله.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَإِن من قصد تَكْثِير الْمُؤمنِينَ الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله عز وَجل فقد أحسن وَلَا يجوز أَن يظنّ بِهِ أَنه يجهل أَن ذَلِك لَا يكون إِلَّا أَن يَشَاء الله عز وَجل وَقد جَاءَ فِي نَص الحَدِيث الْمَذْكُور أَنه إِنَّمَا ترك إِن شَاءَ الله نِسْيَانا فأوخذ بِالنِّسْيَانِ فِي ذَلِك وَقد قصد الْخَيْر وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين تمّ الْكَلَام فِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
فصل وَذكروا قَوْله تَعَالَى {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي أتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين} .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَص الْآيَة وَلَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذَا الْمَذْكُور كَانَ نَبيا وَقد يكون أنباء الله تَعَالَى لهَذَا الْمَذْكُور آيَاته أَنه أرسل إِلَيْهِ رَسُولا بآياته كَمَا فعل بفرعون وَغَيره فأنسلخ مِنْهَا بالتكذيب فَكَانَ من الغاوين وَإِذا صَحَّ أَن نَبيا لَا يعْصى الله عز وَجل تعمداً فَمن الْمحَال أَن يُعَاقِبهُ الله تَعَالَى على مَا لَا يفعل وَلَا عُقُوبَة أعظم من الْحَط عَن النُّبُوَّة وَلَا يجوز أَن يُعَاقب بذلك نَبِي الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَا يكون مِنْهُ مَا يسْتَحق بِهِ هَذَا الْعقَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصح يَقِينا أَن هَذَا المنسلخ لم يكن قطّ نَبيا وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مَا من أحد إِلَّا من ألم بذنب أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا صَحِيح وَلَيْسَ خلافًا لقولنا إِذْ قد بَينا ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام(4/16)
يَقع مِنْهُم النسْيَان وَقصد الشَّيْء يَظُنُّونَهُ قربَة إِلَى الله تَعَالَى فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم ينج من هَذَا أحد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام فَيَقُول من هَذَا أَن يحيى لم ينس شَيْئا وَاجِبا عَلَيْهِ قطّ وَلَا فعل إِلَّا مَا وَافق فِيهِ مُرَاد ربه عز وَجل (الْكَلَام فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا قَول الله تَعَالَى لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم وَقَوله تَعَالَى {عبس وَتَوَلَّى إِن جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى أَو يذكر فتنفعه الذكرى أما من اسْتغنى فَأَنت لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْك إِلَّا يزكّى وَأما من جَاءَك يسْعَى وَهُوَ يخْشَى فَأَنت عَنهُ تلهى} وَبِالْحَدِيثِ الْكَاذِب الَّذِي لم يَصح قطّ فِي قِرَاءَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي {والنجم إِذا هوى} وَذكروا تِلْكَ الزِّيَادَة المفتراة الَّتِي تشبه من وَضعهَا من قَوْلهم وَإِنَّهَا لهي الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجي وَذكروا قَول الله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَإِن الْوَحْي امتسك عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام لتَركه الِاسْتِثْنَاء إِذْ سَأَلَهُ الْيَهُود عَن الرّوح وَعَن ذِي القرنين وَأَصْحَاب الْكَهْف وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وتخفى فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه} وَبِمَا روى من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لقد عرض على عذابكم أدنى من هَذِه الشَّجَرَة إِذْ قبل الْفِدَاء وَترك قتل الأسرى ببدر وَبِمَا روى من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَو نزل عَذَاب مَا نجى مِنْهُ إِلَّا عمر لِأَن عمر أَشَارَ بِقَتْلِهِم وَذكروا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَال إِلَى رَأْي أبي بكر فِي الفدا والاستبقاء وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالُوا فَإِن لم يكن لَهُ ذَنْب فَمَاذَا غفر لَهُ وَبِأَيِّ شَيْء أمتن الله عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو دعيت إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ يُوسُف لَأَجَبْت فَإِنَّمَا هَذَا إِذْ دعِي إِلَى الْخُرُوج من السجْن فَلم يجب إِلَى الْخُرُوج حَتَّى قَالَ للرسول ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْديهم إِن رَبِّي بكيدهن عليم فَأمْسك عَن الْخُرُوج من السجْن وَقد دعِي إِلَى الْخُرُوج عَنهُ حَتَّى اعْترف النسْوَة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك مَا كَانَ شكّ فِيهِ فَأخْبر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو دعِي إِلَى الْخُرُوج من السجْن لأجاب وَهَذَا التَّفْسِير مَنْصُوص فِي الحَدِيث نَفسه كَمَا ذكرنَا من كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَو لَبِثت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ دعيت لَأَجَبْت الدَّاعِي أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَأما قَول الله عز وَجل {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فقد بَينا أَن ذنُوب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيست إِلَّا مَا وَقع بنسيان أَو بِقصد إِلَى مَا يظنون خيرا مِمَّا لَا يوافقون مُرَاد الله تَعَالَى مِنْهُم فهذان لوجهان هما اللَّذَان غفر الله عز وَجل لَهُ وَأما قَوْله {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} فَإِنَّمَا الْخطاب فِي ذَلِك للْمُسلمين لَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك إِذْ تنازعوا فِي غَنَائِم بدر فَكَانُوا هم المذنبين المتشتنين عَلَيْهِ يبين ذَلِك(4/17)
قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} وَقَوله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة نَفسهَا النَّازِلَة فِي هَذَا الْمَعْنى {يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ} وَقَوله تَعَالَى قبل ذكره الْوَعيد بِالْعَذَابِ الَّذِي احْتج بِهِ من خَالَفنَا {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة} فَهَذَا نَص الْقُرْآن وَقد رد الله عز وَجل الْأَمر فِي الْأَنْفَال الْمَأْخُوذَة يَوْمئِذٍ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْخَبَر الْمَذْكُور الَّذِي فِيهِ لقد عرض على عذابكم أدنى من هَذِه الشَّجَرَة وَلَو نزل عَذَاب مَا نجى مِنْهُ إِلَّا عمر فَهَذَا خبر لَا يَصح لِأَن الْمُنْفَرد بروايته عِكْرِمَة بن عمار اليمامي وَهُوَ مِمَّن قد صَحَّ عَلَيْهِ وضع الحَدِيث أَو سوء الْحِفْظ أَو الْخَطَأ الَّذِي لَا يجوز مَعَهُمَا الرِّوَايَة عَنهُ ثمَّ لَو صَحَّ لَكَانَ القَوْل فِيهِ كَمَا قُلْنَا من انه قصد الْخَيْر بذلك وَأما قَوْله {عبس وَتَوَلَّى} الْآيَات فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد جلس إِلَيْهِ عَظِيم من عُظَمَاء قُرَيْش وَرَجا إِسْلَامه وَعلم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَو أسلم لأسلم بِإِسْلَامِهِ نَاس كثير وَأظْهر الدّين وَعلم أَن هَذَا الْأَعْمَى الَّذِي يسْأَله عَن أَشْيَاء من أُمُور الدّين لَا يفوتهُ وَهُوَ حَاضر مَعَه فاشتغل عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا خَافَ فَوته من عَظِيم الْخَيْر عَمَّا لَا يخَاف فَوته وَهَذَا غَايَة النّظر للدّين وَالِاجْتِهَاد فِي نصْرَة الْقُرْآن فِي ظَاهر الْأَمر وَنِهَايَة التَّقَرُّب إِلَى الله الَّذِي لَو فعله الْيَوْم منا فَاعل لأجر فَعَاتَبَهُ الله عز وَجل على ذَلِك إِذْ كَانَ الأولى عِنْد الله تَعَالَى أَن يقبل على ذَلِك الْأَعْمَى الْفَاضِل الْبر التقي وَهَذَا نفس مَا قُلْنَاهُ وكما سهى عَلَيْهِ السَّلَام من اثْنَتَيْنِ وَمن ثَلَاث وَقَامَ من اثْنَتَيْنِ وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يفعل من ذَلِك شَيْئا تعمداً أصلا نعم وَلَا يفعل ذَلِك تعمدا إِنْسَان منا فِيهِ خير وَأما الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وأنهن الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى فكذب بحت مَوْضُوع لِأَنَّهُ لم يَصح قطّ من طَرِيق النَّقْل وَلَا معنى للاشتغال بِهِ إِذْ وضع الْكَذِب لَا يعجز عَنهُ أحد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان الْآيَة فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن الْأَمَانِي الْوَاقِعَة فِي النَّفس لَا معنى لَهَا وَقد تمنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِسْلَام عَمه أبي طَالب وَلم يرد الله عز وَجل كَون ذَلِك فَهَذِهِ الْأَمَانِي الَّتِي ذكرهَا الله عز وَجل لَا سواهَا وحاشا لله أَن يتَمَنَّى نَبِي مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة دون مزِيد تكلّف وَلَا يحل خلاف الظَّاهِر إِلَّا بِظَاهِر آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْله {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} فقد كفى الله عز وَجل الْكَلَام فِي ذَلِك ببيانه فِي أخر الْآيَة أَن ذَلِك كَانَ نِسْيَانا فعوتب عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك وَأما قَوْله تَعَالَى {وتخفى فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه} فقد انفنا من ذَلِك إِذْ لم يكن فِيهِ مَعْصِيّة أصلا وَلَا خلاف فِيمَا أمره الله تَعَالَى بِهِ وَإِنَّمَا كَانَ اراد زواج مُبَاح لَهُ فعله ومباح لَهُ تَركه ومباح لَهُ طيه ومباح لَهُ إِظْهَاره وَإِنَّمَا(4/18)
خشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس فِي ذَلِك خوف أَن يَقُولُوا قولا ويظنوا ظنا فيهلكوا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِلَانْصَارِ بَين إِنَّهَا صَفِيَّة فاستعظما ذَلِك فَأَخْبرهُمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه إِنَّمَا أخْشَى أَن يلقِي الشَّيْطَان فِي قلوبهما شَيْئا وَهَذَا الَّذِي خشيه عَلَيْهِ السَّلَام على النَّاس من هَلَاك أديانهم بِظَنّ يَظُنُّونَهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الَّذِي يحققه هَؤُلَاءِ المخذولون المخالفون لنا فِي هَذَا الْبَاب من نسبتهم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعمد الْمعاصِي فَهَلَكت أديانهم وَضَلُّوا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَكَانَ مُرَاد الله عز وَجل أَن يُبْدِي مَا فِي نَفسه لما كَانَ سلف فِي علمه من السَّعَادَة لأمنا زَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تحتجون كثيرا بقول الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَبِقَوْلِهِ {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا} وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لأتقاكم لله وَأعْلمكُمْ بِمَا آتِي وآذر وتقولن من أجل هَذِه النُّصُوص إِن كل قَول قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام فبوحي من الله قَالَه وكل عمل عمله فبإذن من الله تَعَالَى وَرَضي مِنْهُ عمله فأخبرونا عَن سَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَكْعَتَيْنِ وَمن ثَلَاث وقيامه من اثْنَتَيْنِ وَصلَاته الظّهْر خمْسا وإخباره بِأَنَّهُ يحكم بِالْحَقِّ فِي الظَّاهِر لمن لَا يحل لَهُ أَخذه مِمَّن يعلم أَنه فِي بَاطِن الْأَمر بِخِلَاف مَا حكم لَهُ بِهِ من ذَلِك أبوحي من الله تَعَالَى وبرضاه فعل كل ذَلِك أم كَيفَ تَقولُونَ وَهل يلْزم الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم لَهُ الرِّضَا بِحكمِهِ ذَلِك وهما يعلمَانِ أَن الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك أم لَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كل مَا ذكر هَا هُنَا فبوحي من الله تَعَالَى فعله وكل من قدر وَلم يشك فِي أَنه قد أتم صلَاته فَالله تَعَالَى أمره بِأَن يسلم فَإِذا علم بعد ذَلِك أَنه سهى فقد لَزِمته شَرِيعَة الاتمام وَسُجُود السَّهْو برهَان ذَلِك أَنه لَو تَمَادى وَلم يسلم قَاصِدا إِلَى الزِّيَادَة فِي صلَاته على تَقْدِير أَنه قد أتمهَا لبطلت صلَاته كلهَا بِلَا شكّ بَاطِنا وظاهراً ولاستحق اسْم الْفسق وَالْمَعْصِيَة وَكَذَلِكَ من قدر أَنه لم يصل إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة وَأَنه لم يتم صلَاته فَإِن الله أمره بِالزِّيَادَةِ فِي صلَاته يَقِينا حَتَّى لَا يشك فِي الْإِتْمَام وَبِأَن يقوم إِلَى ثَانِيَة عِنْده فَمَتَى علم بِأَن الْأَمر كَانَ بِخِلَاف ذَلِك فَصلَاته تَامَّة وَلَزِمتهُ حِينَئِذٍ شَرِيعَة سُجُود السَّهْو وبرهان ذَلِك أَنه لَو قعد من وَاحِدَة عِنْده مُتَعَمدا مستهزئاً أَو سلم من ثَلَاث عِنْده مُعْتَمدًا لبطلت صلَاته جملَة ولاستحق اسْم الْفسق وَالْمَعْصِيَة لِأَنَّهُ فعل خلاف مَا أمره الله تَعَالَى بِهِ وَكَذَلِكَ أمره الله وأمرنا بالحكم بِالْبَيِّنَةِ العدلة عندنَا وباليمين من الْمُنكر وباقرار الْمقر وَإِن كَانَت الْبَيِّنَة عامدة للكذب فِي غير علمنَا وَكَانَت الْيَمين وَالْإِقْرَار كاذبين فِي الْبَاطِن وافترض الله علينا بذلك سفك الدِّمَاء الَّتِي لَو علمنَا الْبَاطِن لحرمت علينا وَهَكَذَا(4/19)
فِي الْفروج وَالْأَمْوَال برهَان ذَلِك إِن حَاكما لَو شهد عِنْده بَيِّنَة عدل عِنْده فَلم يقْض بهَا وَقضى بِالْيَمِينِ على الْمُنكر الَّذِي لَا بَيِّنَة عَلَيْهِ فَحلف ثمَّ قضى عَلَيْهِ لَكَانَ القَاضِي فَاسِقًا بِلَا خلاف عَاصِيا لله عز وَجل لخلافه مَا أمره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَإِن وَافق حَقًا لم يكن علم بِهِ وَفرض على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والمحكوم لَهُ أَن يرضيا بالحكم بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين وَأَن يصيرا فِي أَنفسهمَا إِلَى حَقِيقَة علمهما فِي أَخذ الْحق وإعطائه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا قَول الله تَعَالَى {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا جَاءَهُم نصرنَا} بتَخْفِيف الذَّال وَلَيْسَ هَذَا على مَا ظَنّه الْجُهَّال وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام ظنُّوا بِمن وعدهم النَّصْر من قَومهمْ أَنهم كذبُوا فِيمَا وعدوهم من نَصرهم وَمن الْمحَال الْبَين أَن يدْخل فِي عقل من لَهُ أدنى رَمق أَن الله تَعَالَى يكذب فَكيف بصفوة الله تَعَالَى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بِاللَّه عز وَجل وَمن نسب هَذَا إِلَى نَبِي فقد نسب إِلَيْهِ الْكفْر وَمن أجَاز إِلَى نَبِي الْكفْر فَهُوَ الْكَافِر الْمُرْتَد بِلَا شكّ وَالَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة وَلَيْسَ فِيهَا أَن الله تَعَالَى كذبهمْ حاشا لله من هَذَا وَذكروا أَيْضا قَول الله تَعَالَى {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسأل الَّذين يقرؤون الْكتاب من قبلك لقد جآءك الْحق من رَبك} قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا عهدنا هَذَا الِاعْتِرَاض من أهل الْكتاب وَغَيرهم وَأما من يدعى أَنه مُسلم فَلَا وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون مُسلم يظنّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ شاكا فِي صِحَة الْوَحْي إِلَيْهِ وَلنَا فِي هَذِه الْآيَة رِسَالَة مَشْهُورَة وَجُمْلَة حل هَذَا الشَّك أَن أَن فِي هَذِه الْآيَة الْمَذْكُورَة بِمَعْنى مَا الَّتِي للجحد بِمَعْنى وَمَا كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك ثمَّ أمره أَن يسْأَل أهل الْكتاب تقريراً لَهُم على أَنهم يعلمُونَ أَنه نَبِي مُرْسل مَذْكُور عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا هُوَ بِهِ قد تقصيناه وبيناه وأرينا أَنه مُوَافق لقولنا وَلَا يشْهد شَيْء مِنْهُ لقَوْل مخالفنا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَنحن الْآن نَأْخُذ بحول الله وقوته فِي الْإِتْيَان بالبراهين الضرورية الْوَاضِحَة على صِحَة قَوْلنَا وَبطلَان قَول مخالفنا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل وَمن يغلل يَأْتِ بِمَا غل يَوْم الْقِيَامَة} وَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عباداً لي من دون الله} فَوَجَدنَا الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين قد نفى عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْغلُول وَالْكفْر والتجبر وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن حكم الْغلُول كَحكم سَائِر الذُّنُوب قد صَحَّ الْإِجْمَاع بذلك وَأَن من جوز على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْئا من تعمدا لذنوب جوز عَلَيْهِم الْغلُول وَمن نفى عَنْهُم الْغلُول نفى عَنْهُم سَائِر الذُّنُوب وَقد صَحَّ نفي الْغلُول عَنْهُم بِكَلَام الله تَعَالَى فَوَجَبَ انْتِفَاء تعمد الذُّنُوب عَنْهُم بِصِحَّة الْإِجْمَاع على أَنَّهَا سَوَاء الْغلُول وَقَالَ عز وَجل(4/20)
{أم حسب الَّذين اجترحوا السيئآت أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَا يخلوا مخالفنا الَّذِي يُجِيز أَن يكون الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قد اجترحوا السيئآت من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يَقُول إِن فِي سَائِر النَّاس من لم يعْص وَلَا اجترح سَيِّئَة قيل لَهُ فَمن هَؤُلَاءِ الَّذين نفي الله عَنْهُم أَن يكون الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات مثلهم إِذا كَانُوا غير موجودين فِي الْعَالم فَلَا بُد من ان يَجْعَل كَلَام الله عز وَجل هَذَا فَارغًا لَا معنى لَهُ وَهَذَا كفر من قَائِله أَو يَقُول هم الْمَلَائِكَة فَإِن قَالَ ذَلِك رد قَوْله هَذَا قَول الله تَعَالَى فِي الْآيَة نَفسهَا {سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون} وَلَا نَص وَلَا إِجْمَاع على أَن الْمَلَائِكَة تَمُوت وَلَو جَاءَ بذلك نَص لقلنا بِهِ بل الْبُرْهَان مُوجب أَن لَا يموتوا لِأَن الْجنَّة دَار لَا موت فِيهَا وَالْمَلَائِكَة سكان الْجنان فِيهَا خلقُوا وفيهَا يخلدُونَ أبدا وَكَذَلِكَ الْحور الْعين وَأَيْضًا فَإِن الْمَوْت إِنَّمَا هُوَ فِرَاق النَّفس للجسد الْمركب وَقد نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْمَلَائِكَة خلقُوا من نور فَلَيْسَ فيهم شَيْء يُفَارق شَيْئا فيسمى موتا فَإِن اعْترض معترض بقوله {كل نفس ذائقة الْمَوْت} لزمَه أَن حمل هَذِه الْآيَة على عمومها أَن الْحور الْعين يمتن فَيجْعَل الْجنَّة دَار موت وَقد أبعدها الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ} فَعلمنَا بِهَذَا النَّص أَن قَوْله تَعَالَى {كل نفس ذائقة الْمَوْت} إِنَّمَا عَنى بِهِ من كَانَ فِي غير الْجنَّة من الْجِنّ وَالْإِنْس وَسَائِر الْحَيَوَان الْمركب الَّذِي يُفَارق روحه جسده وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيرد أَيْضا قَوْله أَن قَالَ بِهَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من أحد إِلَّا وَقد ألم أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا أَو يَقُول أَن فِي النَّاس من لم يجترح سَيِّئَة قطّ وَإِن من اجترح السَّيِّئَات لَا يساويهم كَمَا قَالَ عز وَجل فَإِن قَالَ ذَلِك فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام عِنْده يجترجون السَّيِّئَات وَفِي سَائِر النَّاس من لَا يجترحها فَوَجَبَ أَن يكون فِي النَّاس من هُوَ أفضل من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا كفر وَمَا قَدرنَا أَن أحدا مِمَّن ينتمي إِلَى أهل الْإِسْلَام وَلَا إِلَى أهل الْكتاب ينْطَلق لِسَانه بِهَذَا حَتَّى رَأينَا الْمَعْرُوف بِابْن الباقلاني فِيمَا ذكر عَنهُ صَاحبه أَبُو جَعْفَر السمناني قَاضِي الْموصل أَنه قد يكون فِي النَّاس بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُوَ أفضل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ يبْعَث إِلَى حِين يَمُوت فاستعظمنا ذَلِك وَهَذَا شرك مُجَرّد وقدح فِي النُّبُوَّة لاخفاء بِهِ وَقد كُنَّا نسْمع عَن قوم من الصُّوفِيَّة أَنهم يَقُولُونَ أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي وَكُنَّا لَا نحقق هَذَا على أحد يدين بدين الْإِسْلَام إِلَى أَن وجدنَا هَذَا الْكَلَام كَمَا أوردنا فنعوذ بِاللَّه من الارتداد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن هَذَا الضال المضل يدْرِي مَا معنى لَفْظَة أفضل ويدري فَضِيلَة النُّبُوَّة لما انْطلق لِسَانه بِهَذَا الْكفْر وَهَذَا التَّكْذِيب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول أَنِّي لأتقاكم(4/21)
لله وَإِنِّي لست كهيئتكم وَإِنِّي لست مثلكُمْ فَإذْ قد صَحَّ بِالنَّصِّ أَن فِي النَّاس من لم يجترح السَّيئَة وَإِن من اجترح السيآت لَا يساويهم عِنْد الله عز وَجل فالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أَحَق بِهَذِهِ الدرجَة وَبِكُل فَضِيلَة بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام بقول الله عز وَجل {الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} فَأخْبر تَعَالَى أَن الرُّسُل صفوته من خلقه وَقد اعْترض علينا بعض الْمُخَالفين بِأَن قَالَ فَمَا تَقول فِيمَن بلغ فَآمن وَذكر الله مَرَّات وَمَات إِثْر ذَلِك أَو فِي كَافِر أسلم وَقَاتل مُجَاهدًا وَقتل فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقُول أما من كَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم فقد اجترح من السيئآت بِكُفْرِهِ مَا هُوَ أعظم من السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَإِن كَانَ قد غفر لَهُ بإيمانه وَلَكِن قد حصل بِلَا شكّ من جملَة من قد اجترح السيئآت وَأما من بلغ فَآمن وَذكر الله تَعَالَى ثمَّ مَاتَ فقد كَانَ هَذَا مُمكنا فِي طبيعة الْعَالم وَفِي بنيته لَوْلَا قَول الله عز وَجل {أم حسب الَّذين اجترحوا السيئآت أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سآء مَا يحكمون} فَإِن الله تَعَالَى قطع قطعا لَا يردهُ إِلَّا كَافِر بِأَنَّهُ لَا يَجْعَل من اجترح السَّيِّئَات كمن لم يجترحها وَنحن نوقن أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وهم أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَقد اجترح سَيِّئَة فَكَانَ يلْزم على هَذَا أَن يكون من أسلم أثر بُلُوغه وَمَات أفضل من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا خلاف قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو كَانَ لِأَحَدِنَا مثل أحد ذَهَبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه فَإِذا هَذَا كَمَا قُلْنَا فَقَوْل الله عز وَجل وَقَول رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق بالتصديق لَا سِيمَا مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام مَا من أحد إِلَّا ألم بذنب أَو كَاد إِلَّا يحيى بن زَكَرِيَّا فَنحْن نقطع قطعا بِمَا ذكرنَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يبلغ أحد حد التَّكْلِيف إِلَّا وَلَا بُد لَهُ من أَن يجترح سيئآت الله أعلم بهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبُرْهَان على أَنه لم يكن الْبَتَّةَ أَن يَعْصِي نَبِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين لما قَالَ لَهُ الْأنْصَارِيّ هلا أَوْمَأت إِلَى فِي قصَّة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفي عَلَيْهِ السَّلَام عَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَن تكون لَهُم خَائِنَة الْأَعْين وَهُوَ أخف مَا يكون من الذُّنُوب وَمن خلاف الْبَاطِن للظَّاهِر فَدخل فِي هَذَا جَمِيع الْمعاصِي صغيرها أَو كبيرها سرها وجهرها.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فإننا مندوبون إِلَى الإقتداء بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَى الإيتساء بهم فِي أفعالهم كلهَا قَالَ الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} فصح يَقِينا أَنه لَو جَازَ أَن يَقع من أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ذَنْب تعمدا صَغِيرا وكبيراً كَانَ الله عز وَجل قد حضنا على الْمعاصِي وندبنا إِلَى الذُّنُوب وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه فقد صَحَّ يَقِينا ان جَمِيع أَفعَال الْأَنْبِيَاء الَّتِي يقصدونها خير وَحقّ.(4/22)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَظِيم إِنْكَاره على ذِي الْخوَيْصِرَة لَعنه الله وَلعن أَمْثَاله إِذْ قَالَ الْكَافِر اعْدِلْ يَا مُحَمَّد ان هَذَا لقسمة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحك من يعدل إِذا أَنا لم أعدل يأمنني الله وَلَا تأمنوني وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ إِذْ سَأَلته عَن الَّذِي قبل امْرَأَته فِي رَمَضَان إِلَّا أخْبرتهَا أَنِّي فعلت ذَلِك وَغَضب عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ قَالَ لَهُ لست مثلنَا قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر فَأنْكر عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ جعل لَهُ ذَنبا بعمد وَإِن صغر وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي وَالله لأعلمكم بِاللَّه واتقاكم الله أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فَإِن قَالَ قَائِل فَهَلا نفيتم عَنْهُم عَلَيْهِم السَّلَام السَّهْو بِدَلِيل النّدب إِلَى الايتساء بهم عَلَيْهِم السَّلَام قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنْكَار مَا ثَبت كإجازة مَا لم يثبت سَوَاء وَلَا فرق والسهو مِنْهُم قد ثَبت بِيَقِين وَأَيْضًا فَإِن ندب الله تَعَالَى لنا إِلَى الايتساء بهم عَلَيْهِم السَّلَام لَا يمْنَع من وُقُوع السَّهْو مِنْهُم لِأَن الايتساء بالسهو لَا يُمكن إِلَّا بسهو منا وَمن الْمحَال أَن نندب إِلَى السَّهْو أَو نكلف لسهو لأننا لَو قصدنا إِلَيْهِ لم يكن حِينَئِذٍ سَهوا وَلَا يجوز أَيْضا أَن ننهي عَن السَّهْو لِأَن الِانْتِهَاء عَن السَّهْو لَيْسَ فِي بنيتنا وَلَا فِي وسعنا وَقد قَالَ تَعَالَى لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا ونقول أَيْضا إننا مأمورون إِذا سهونا أَن نَفْعل كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سَهَا وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى لَا يقر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على السَّهْو بل ينبههم فِي الْوَقْت وَلم يفعل ذَلِك تَعَالَى لَكَانَ لم يبين لنا مُرَاده منا فِي الدّين وَهَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول تَعَالَى تبياناً لكل شَيْء وَإِذ يَقُول الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَقَوله تَعَالَى وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَسقط قَول من نسب إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْئا من الذُّنُوب بالعمد صغيرها وكبيرها إِذا لم يبْق لَهُم شُبْهَة يموهون بهَا أصلا وَإِذ قد قَامَت الْبَرَاهِين على بُطْلَانهَا وَلَحِقُوا بِذِي الْخوَيْصِرَة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو كَانَ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَيْء من الْمعاصِي وَقد ندبنا إِلَى الايتساء بهم وبأفعالهم لَكنا قد أبيحت لنا الْمعاصِي وَكُنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّ جَمِيع ديننَا ضلال وَكفر وَلَعَلَّ كل مَا عمله عَلَيْهِ السَّلَام معاص وَلَقَد قلت يَوْمًا لبَعْضهِم مِمَّن كَانَ يُجِيز عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد أَلَيْسَ من الصَّغَائِر تَقْبِيل الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة وقرصها فَقَالَ نعم قلت تجوز أَنه يظنّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يقبل امْرَأَة غَيره مُتَعَمدا فَقَالَ معَاذ الله من هَذَا وَرجع إِلَى الْحق من حِينه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك ويهديك صراطاً مُسْتَقِيمًا}(4/23)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبَاطِل الْمحَال أَن يتم الله نعْمَته على عبد ويعصى الله بِمَا كبر وَمَا صغر إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما كَانَت نعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ تَامَّة بل نَاقِصَة إِذْ خذله فِيمَا عصى فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه} وَقَالَ الله تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا وقر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد بلغ الْغَايَة القصوى فِي الِاسْتِهْزَاء برسل الله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم من جوز أَن يَكُونُوا سراقا زناة ولاطة وبغائين وَوَاللَّه مَا نعلم كفرا أعظم من هَذَا وَلَا استهزاء بِاللَّه تَعَالَى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هَذِه الْمقَالة وليت شعري مَا الَّذِي أَمنهم من كذبهمْ فِي التَّبْلِيغ لأَنا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُم بلغُوا إِلَيْنَا الْكَذِب عَن الله تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول لَهُم وَلَعَلَّ أَفعاله الَّتِي نأتسي بهَا تَبْدِيل للدّين ومعاص لله عز وَجل وَلَا فرق قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا نعلم أهل قَرْيَة أَشد سعياً فِي إِفْسَاد الْإِسْلَام وكيده من الرافضة وَأهل هَذِه الْمقَالة فَإِن كلتا الطَّائِفَتَيْنِ الملعونتين أجازتا تَبْدِيل الدّين وتحريفه وصرحت هَذِه الفئة مَعَ مَا أطلقت على الْأَنْبِيَاء من الْمعاصِي بِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا تعبدنا فِي دينه بغالب ظنوننا وَأَنه لَا حكم لله إِلَّا مَا غلب عَلَيْهِ ظن الْمَرْء منا وَإِن كَانَ مُخْتَلفا متناقضاً وَمَا نمتري فِي أَنهم ساعون فِي إِفْسَاد أغمار الْمُسلمين الْمُحْسِنِينَ بهم الظَّن نَعُوذ بِاللَّه من الضلال.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مؤاخذون بِمَا أَتَوا على سَبِيل السَّهْو وَالْقَصْد إِلَى الْخَيْر إِذا لم يُوَافق مُرَاد الله تَعَالَى فَهَلا أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَهْوه فِي الصَّلَاة قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَهَذِه فَضِيلَة مِمَّا فضل بِهِ على جَمِيع النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام وَهَكَذَا نَص عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة ومصير النَّاس من نَبِي إِلَى نَبِي فَكل ذكر خَطِيئَة أَو سكت فَلَمَّا ذكرُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَائِلهمْ عبد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر فَبَطل أَن يُؤَاخذ بِمَا غفره الله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل أَيجوزُ أَن يكون نَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام يَأْتِي مَعْصِيّة قبل أَن يتنبأ قُلْنَا لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون متعبداً بشريعة نَبِي أَتَى قبله كَمَا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا أَن يكون قد نَشأ فِي قوم قد درست شريعتهم ودثرت ونسيت كَمَا فِي بعثة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قوم قد نسوا شَرِيعَة إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ تَعَالَى {ووجدك ضَالًّا فهدى} وَقَالَ تَعَالَى {لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم} فَإِن(4/24)
كَانَ النَّبِي متعبداً بشريعة مَا فقد أبطلنا آنِفا أَن يكون نَبِي يعْصى ربه أصلا وَإِن كَانَ نَشأ فِي قوم دثرت شريعتهم فَهُوَ غير متعبد وَلَا ماءمور بِمَا لم يَأْته أَمر الله تَعَالَى بِهِ بعد فَلَيْسَ عَاصِيا لله تَعَالَى فِي شئ يَفْعَله أَو يتْركهُ إِلَّا أننا نَدْرِي أَن الله عز وَجل قد طهر أَنْبيَاء وصانهم من كل مَا يعابون بِهِ لِأَن الْعَيْب أَذَى وَقد حرم الله عز وَجل أَن يُؤْذى رَسُوله قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فبيقين نَدْرِي أَن الله تَعَالَى صان أنبياءه عَن أَن يَكُونُوا لبغية أَو من أَوْلَاد بغى أَو من بَغَايَا بل بَعثهمْ الله تَعَالَى فِي حسب قَومهمْ فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا فبيقين نَدْرِي أَن اله تَعَالَى عصمهم قبل النُّبُوَّة من كل مَا يُؤْذونَ بِهِ بعد النُّبُوَّة فَدخل فِي ذَلِك السّرقَة والعدوان وَالْقَسْوَة وَالزِّنَا واللياطة وَالْبَغي وأذى النَّاس فِي حريمهم وَأَمْوَالهمْ وأنفسهم وكل مَا يعاب بِهِ الْمَرْء ويتشكى مِنْهُ ويؤذى بِذكرِهِ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا مَا حدّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي أَنا ابْن فرج أَنا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد فراس أَنبأَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سَالم النَّيْسَابُورِي أَنا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه انا وهب بن جرير بن حَازِم انا أبي أَنبأَنَا محمدبن إِسْحَاق حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن قيس بن مخرمَة عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا هَمَمْت بقبيح مِمَّا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يهمون بِهِ إِلَّا مرَّتَيْنِ من الدَّهْر كلتاهما يعصمني الله مِنْهَا قلت لفتى كَانَ معي من قُرَيْش بِأَعْلَى مَكَّة فِي أَغْنَام لَهَا ترعى أبْصر لي غنمي حَتَّى أسمر هَذِه اللَّيْلَة بِمَكَّة كَمَا يسمر الفتيان قَالَ نعم فَلَمَّا خرجت فَجئْت أدني دَار من دور مَكَّة سَمِعت غناء وَصَوت دفوف وزمير فَقلت مَا هَذَا قَالُوا فلَان تزوج فُلَانَة لرجل من قُرَيْش فلهوث بذلك الْغناء وَبِذَلِك الصَّوْت حَتَّى غلبتني عَيْني فَمَا أيقظني ألامس الشَّمْس فَرَجَعت إِلَى صاحبى فَقَالَ لي مَا فعلت فَأَخْبَرته ثمَّ قلت لَهُ لَيْلَة أُخْرَى مثل ذَلِك فَفعل فَخرجت فَسمِعت مثل ذَلِك فَقيل لي مثل مَا قيل لي فلهوت بِمَا سَمِعت حَتَّى غلبتني عَيْني فَمَا أيقظني إِلَّا مس الشَّمْس فَرَجَعت إِلَى صَاحِبي فَقَالَ لي مَا فعلت قلت مَا فعلت شَيْئا فوَاللَّه مَا هَمَمْت بعْدهَا بِسوء مِمَّا يعْمل أهل الْجَاهِلِيَّة حَتَّى أكرمني الله بنبوته
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعْص قطّ بكبيرة وَلَا بصغيرة لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا وَلَا هم قطّ بِمَعْصِيَة صغرت أَو كَبرت لَا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا إِلَّا مرَّتَيْنِ بالسمر حَيْثُ رُبمَا كَانَ بعض مَا لم يكن نهى عَنهُ بعد والهم حِينَئِذٍ بالسمر لَيْسَ هما بزنا وَلكنه بِمَا يحذو إِلَيْهِ طبع الْبَريَّة من اسْتِحْسَان منظر حسن فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق تمّ الْكَلَام فِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
الْكَلَام فِي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد ذكرنَا قبل أَمر هاروت وماروت ونزيدها هُنَا بَيَانا فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن قوما نسبوا إِلَى الله تَعَالَى مَا لم يَأْتِ بِهِ قطّ أثر يجب أَن يشْتَغل بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ(4/25)
كذب مفترى من أَنه تَعَالَى أنزل إِلَى الأَرْض ملكَيْنِ وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تَعَالَى وشربا الْخمر وَحكما بالزور وقتلا النَّفس وزنيا وعلما زَانِيَة اسْم الله الْأَعْظَم فطارت بِهِ إِلَى السَّمَاء فمسخت كوكباً وَهِي الزهرة وأنهما عذبا فِي غَار بِبَابِل وأنهما يعلمَانِ النَّاس السحر وحجتهم على مَا فِي هَذَا الْبَاب خبر روينَاهُ من طَرِيق عُمَيْر بن سعيد وَهُوَ مَجْهُول مرّة يُقَال لَهُ النخعى وَمرَّة يُقَال لَهُ الْحَنَفِيّ مَا نعلم لَهُ رِوَايَة إِلَّا هَذِه الكذبة وَلَيْسَ أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه أوقفها عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكذبة أُخْرَى فِي أَن حد الْخمر لَيْسَ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فَعَلُوهُ وحاشا لَهُم رَضِي الله عَنْهُم من هَذَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبُرْهَان على بطلَان هَذَا كُله قَول الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذا منظرين} فَقطع الله عز وَجل أَن الْمَلَائِكَة لَا تنزل إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَيْسَ شرب الْخمر وَلَا الزِّنَا وَلَا قتل النَّفس الْمُحرمَة وَلَا تَعْلِيم العواهر أسماءه عز وَجل الَّتِي يرْتَفع بهَا إِلَى السَّمَاء وَلَا السحر من الْحق بل كل ذَلِك من الْبَاطِل وَنحن نشْهد أَن الْمَلَائِكَة مَا نزلت قطّ بِشَيْء من هَذِه الْفَوَاحِش وَالْبَاطِل وَإِذا لم تنزل بِهِ فقد بَطل أَن تَفْعَلهُ لِأَنَّهَا لَو فعلته فِي الأَرْض لنزلت بِهِ وَهَذَا بَاطِل وَشهد عز وَجل أَنه لَو أنزل علينا الْمَلَائِكَة لما نَظرنَا فصح أَنه لم ينزل قطّ ملك ظَاهر إِلَّا للنَّبِي بِالْوَحْي فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا} فَأبْطل عز وَجل أَنه يُمكن ظُهُور ملك إِلَى النَّاس وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر ثمَّ لَا ينظرُونَ} فكذب الله عز وَجل كل من قَالَ أَن ملكا نزل قطّ من السَّمَاء ظَاهرا إِلَّا إِلَى الْأَنْبِيَاء بِالْحَقِّ من عِنْد الله عز وَجل فَقَط وَقَالَ عز وَجل {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} الْآيَة فَرفع الله تَعَالَى الأشكال بِهَذَا النَّص فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقرن عز وَجل نزُول الْمَلَائِكَة فِي الدُّنْيَا بِرُؤْيَتِهِ عز وَجل فِيهَا فصح ضَرُورَة أَن نزولهم فِي الدُّنْيَا إِلَى غير الْأَنْبِيَاء مُمْتَنع الْبَتَّةَ لَا يجوز وَأَن من قَالَ ذَلِك فقد قَالَ حجرا مَحْجُورا أَي مُمْتَنعا وَظهر بهَا كذب من ادّعى أَن ملكَيْنِ نزلا إِلَى النَّاس فعلماهم السحر وَقد استعظم الله عز وَجل ذَلِك من رَغْبَة من رغب نزُول الْمَلَائِكَة إِلَى النَّاس وسمى هَذَا الْفِعْل استكباراً وعتواً وَأخْبر عز وَجل أننا لَا نرى الْمَلَائِكَة أبدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقَط وَأَنه لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا كُله فقد علمنَا ضَرُورَة أَنه لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما كَمَا قدمنَا قبل إِمَّا أَن هاروت وماروت لم يَكُونَا ملكَيْنِ وَأَن مَا فِي قَوْله وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ نفى لِأَن(4/26)
ينزل على الْملكَيْنِ وَيكون هاروت وماروت حيئذ بَدَلا من الشَّيَاطِين كَأَنَّهُ قَالَ وَلَكِن الشَّيَاطِين هاروت وماروت وَيكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الْجِنّ كَانَتَا يعلمَانِ النَّاس السحر وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن خَالِد ابْن أبي عمرَان وَغَيره وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ على الْملكَيْنِ بِكَسْر اللَّام وَكَانَ يَقُول أَن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إِلَّا أَن الَّذِي لَا شكّ فِيهِ على هَذَا القَوْل أَنَّهُمَا لم يَكُونَا ملكَيْنِ وَقد اعْترض بعض الْجُهَّال فَقَالَ لي أبلغ من رفق الشَّيْطَان أَن يَقُول للَّذي يتَعَلَّم السحر لَا تكفر فَقلت لَهُ هَذَا الِاعْتِرَاض يبطل من ثَلَاث جِهَات أَحدهمَا أَن نقُول لَك وَمَا الْمَانِع من أَن يَقُول الشَّيْطَان ذَلِك أما سخرياً وَأما لما شَاءَ الله فَلَا سَبِيل لَك إِلَى دَلِيل مَانع من هَذَا وَالثَّانِي أَنه قد نَص الله عز وَجل على أَن الشَّيْطَان قَالَ أَنِّي أَخَاف الله فَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم} إِلَى قَوْله تَعَالَى {أَنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب} وَقَالَ تَعَالَى {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر فَلَمَّا كفر قَالَ أَنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} فقد أَمر الشَّيْطَان الْإِنْسَان بالْكفْر ثمَّ تَبرأ مِنْهُ وَأخْبرهُ أَنه يخلف الله وغر الْكفَّار ثمَّ تَبرأ مِنْهُم وَقَالَ أَنِّي أَخَاف الله بَين أَن يَقُول الشَّيْطَان للْإنْسَان اكفر ويغره ثمَّ يتبرأ مِنْهُ وَيَقُول أَنِّي أَخَاف اله وَبَين أَن يُعلمهُ السحر وَيَقُول لَهُ لَا تكفر وَالثَّالِث أَن معلم السحر بِنَصّ الْآيَة قد قَالَ للَّذي يتَعَلَّم مِنْهُ لَا تكفر فَسَوَاء كَانَ ملكا أَو شَيْطَانا قد علمه على قَوْلك مَا لَا يحل وَقَالَ لَهُ لَا تكفر فَلم تنكر هَذَا من الشَّيْطَان وَلَا تنكره بزعمك من الْملك وَأَنت تنْسب إِلَيْهِ أَن يعلم السحر الَّذِي عنْدك ضلال وَكفر وَإِمَّا أَن يكون هاروت وماروت ملكَيْنِ نزلا بشريعة حق بِعلم مَا على أَنْبيَاء فعلماهم الدّين وَقَالا لَهُم لَا تكفرُوا نهيا عَن الْكفْر بِحَق وأخبراهم أَنهم فتْنَة يضل الله تَعَالَى بهما وَبِمَا أَتَيَا بِهِ من كفر بِهِ وَيهْدِي بهما من آمن بِهِ قَالَ تَعَالَى عَن مُوسَى أَنه قَالَ لَهُ {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء} وكما قَالَ تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون} ثمَّ نسخ ذَلِك الَّذِي أنزل على الْملكَيْنِ فَصَارَ كفرا بعد أَن كَانَ إِيمَانًا كَمَا نسخ تَعَالَى شرائع التَّوْرَاة والانجيل فتمادت الْجِنّ على تعلم ذَلِك الْمَنْسُوخ وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا فِي الْآيَة من نَص وَلَا دَلِيل على أَن الْملكَيْنِ علما السحر وَإِنَّمَا هُوَ إقحام أقحم بِالْآيَةِ بِالْكَذِبِ والافك بل وفيهَا بَيَان أَنه لم يكن سحرًا بقوله تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل} وَلَا يجوز أَن يَجْعَل الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا إِلَّا ببرهان من نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة وَإِلَّا فَلَا أصلا وَأَيْضًا فَإِن بابل هِيَ الْكُوفَة وَهِي بلد مَعْرُوف بقربها محدودة مَعْلُومَة لَيْسَ فِيهَا غَار فِيهِ ملك فصح أَنه خرافة مَوْضُوعَة إِذْ لَو كَانَ لَك لما خفى مكانهما على أهل الْكُوفَة فَبَطل التَّعَلُّق بهاروت وماروت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(4/27)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد ادّعى قوم أَن إِبْلِيس كَانَ ملكا فعصى وحاشا لله من هَذَا لِأَن الله تَعَالَى قد كذب هَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} وَبِقَوْلِهِ {افتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني} وَلَا ذُرِّيَّة للْمَلَائكَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} وبإخباره أَنه خلق إِبْلِيس من نَار السمُوم وَصَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خلقت الْمَلَائِكَة من نور والنور غير النَّار بِلَا شكّ فصح أَن الْجِنّ غير الْمَلَائِكَة وَالْمَلَائِكَة كلهم خِيَار مكرمون بِنَصّ الْقُرْآن وَالْجِنّ والأنس فيهمَا مَذْمُوم ومحمود فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله عز وَجل ذكر أَنهم قَالُوا {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك} وَهَذَا تَزْكِيَة لأَنْفُسِهِمْ وَقد قَالَ تَعَالَى وَلَا تزكوا أَنفسكُم قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مدح الْمَرْء نَفسه يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا قصد بِهِ الْمَرْء افتخاراً بغياً وانتقاصاً لغيره فَهَذِهِ هِيَ التَّزْكِيَة وَهُوَ مَذْمُوم جدا وَالْآخر مَا خرج مخرج الْإِخْبَار بِالْحَقِّ كَقَوْل رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وفضلت على الْأَنْبِيَاء وكقول يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض إِنِّي حفيظ عليم وَلَا يُسمى هَذَا تَزْكِيَة وَمن هَذَا الْبَاب قَول الْمَلَائِكَة هَهُنَا برهَان هَذَا أَنه لَو كَانَ قَوْلهم مذموماً لأنكره الله عز وَجل عَلَيْهِم فَإِذا لم يُنكره الله تَعَالَى فَهُوَ صدق وَمن هَذَا الْبَاب قَوْلنَا نَحن السلمون وَنحن خير أمة أخرجت للنَّاس وكقول الحواريين نَحن أنصار الله فَكل هَذَا إِذا قصد بِهِ الحض على الْخَيْر لَا الْفَخر فَهُوَ خير فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله تَعَالَى قَالَ لَهُم {إِنِّي أعلم مَا لَا تعلمُونَ} قُلْنَا نعم وَمَا شكّ الْمَلَائِكَة قطّ أَن الله تَعَالَى يعلم مَا لَا يعلمُونَ وَلَيْسَ هَذَا إنكاراً وَأما الْجِنّ فقد قُلْنَا أَنهم متعبدون بِملَّة الْإِسْلَام وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الروث وَالْعِظَام طَعَام إِخْوَاننَا من الْجِنّ وَهَذَا بِخِلَاف حكمنَا فقد يخصهم الله عز وَجل بأوامر خلاف أوامرنا كَمَا للنِّسَاء شرائع لَيست للرِّجَال من الْحيض وَقطع الصَّلَاة وَغير ذَلِك وكما لقريش الْإِمَامَة وَلَيْسَت لغَيرهم وكل ذَلِك دين الْإِسْلَام وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
هَل يكون مُؤمنا من اعْتقد الْإِسْلَام دون اسْتِدْلَال
أم لَا يكون مُؤمنا مُسلما الإمن اسْتدلَّ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والأشعرية كلهَا حاشا السمناني إِلَى أَنه لَا يكون مُسلما إِلَّا من اسْتدلَّ وَإِلَّا فَلَيْسَ مُسلما وَقَالَ الطَّبَرِيّ من بلغ الِاحْتِلَام أَو الاشعار من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَو بلغ الْمَحِيض من النِّسَاء وَلم يعرف الله عز وَجل بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته من الطَّرِيق الِاسْتِدْلَال فَهُوَ كَافِر حَلَال الدَّم وَالْمَال وَقَالَ أَنه بلغ الْغُلَام أَو الْجَارِيَة سبع سِنِين وَجب تعليمها وتدريبهما على الِاسْتِدْلَال على ذَلِك وَقَالَت الأشعرية لَا يلْزمهَا الِاسْتِدْلَال على ذَلِك إِلَّا بعد الْبلُوغ(4/28)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام كل من اعْتقد بِقَلْبِه إعتقاد الا يشك فِيهِ وَقَالَ بِلِسَانِهِ لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله وَإِن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَبرئ من كل دين سوى دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مُسلم مُؤمن لَيْسَ عَلَيْهِ غير ذَلِك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَاحْتَجت الطَّائِفَة الأولى بِأَن قَالَت قد اتّفق الْجَمِيع على أَن التَّقْلِيد مَذْمُوم وَمَا لم يكن يعرف باستدلال فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد لَا وَاسِطَة بَينهمَا وَذكروا قَول الله عز وَجل {أَنا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} وَقَالَ تَعَالَى {قَالَ أولو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم} {يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة وَمَا هُوَ بمزحزحه} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لَو كَانَ أباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبنَا انا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وَقَالُوا فذم الله تَعَالَى اتِّبَاع الْآبَاء والرؤساء قَالُوا وبيقين نَدْرِي أَنه لَا يعلم أحد أَي الْأَمريْنِ أهْدى وَلَا هَل يعلم الْآبَاء شيأ أَو لايعلمون الإ بِالدَّلِيلِ وَقَالُوا كل مَا لم يكن يَصح بِدَلِيل فَهُوَ دعوي وَلَا فرق بَين الصَّادِق والكاذب بِنَفس قَوْلهمَا لَكِن بِالدَّلِيلِ قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} قَالُوا فَمن لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ صَادِقا فِي قَوْله وَقَالُوا مَا لم يكن علما فَهُوَ شكّ وَظن وَالْعلم هُوَ إعتقاد الشئ على مَا هُوَ بِهِ عَن ضَرُورَة أَو إستدلال قَالُوا والديانات لَا يعرف صِحَة الصَّحِيح مِنْهَا من بطلَان الْبَاطِل مِنْهَا بالحواس أصلا فصح أَنه لَا يعلم ذَلِك إِلَّا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فَإِذا لم يكن الِاسْتِدْلَال فَلَيْسَ الْمَرْء عَالما بِمَا لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن عَالما فَهُوَ شَاك ضال وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْأَلَة الْملك فِي الْقَبْر مَا تَقول فِي هَا الرجل فَأَما الْمُؤمن أَو الموقن فَإِنَّهُ يَقُول هُوَ مُحَمَّد رَسُول الله قَالَ وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب فَإِنَّهُ يَقُول لَا أَدْرِي سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته قَالُوا وَقد ذكر الله عز وَجل الِاسْتِدْلَال على الربوبية والنبوة فِي غير مَوضِع من كثابه وَأمر بِهِ وَأوجب الْعلم بِهِ وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن دَلِيل كَمَا قُلْنَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كلما موهوا بِهِ قد تقصيناه لَهُم غَايَة التَّقَصِّي وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِي شئ مِنْهُ على مَا نبين بحول الله وقوته إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا إِلَه إِلَّا هُوَ بعد أَن نقُول قولا تصححه الْمُشَاهدَة إِن جُمْهُور هَذِه الْفرْقَة أبعد من كل من يتَمَنَّى إِلَى الْبَحْث وَالِاسْتِدْلَال عَن الْمعرفَة بِصِحَّة الدَّلَائِل فَأُعْجِبُوا لهَذَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما قَوْلهم قد أجمع الْجَمِيع على أَن التَّقْلِيد مَذْمُوم وَأَن مَا لَا يعرف باستدلال فَإِنَّمَا هُوَ أَخذ تَقْلِيد إِذْ لَا وَاسِطَة بَينهمَا فَإِنَّهُم شغبوا فِي هَذَا الْإِمْكَان وولبوا فتركوا التَّقْسِيم الصَّحِيح وَنعم أَن التَّقْلِيد لَا يحل الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا التَّقْلِيد أَخذ الْمَرْء قَول من دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن لم يَأْمُرنَا الله عز وَجل باتباعه قطّ وَلَا يَأْخُذ قَوْله بل حرم علينا ذَلِك ونهانا عَنهُ وَأما أَخذ الْمَرْء قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي افْترض علينا طَاعَته وألزمنا اتِّبَاعه وتصديقه وحذرنا عَن مُخَالفَة أمره وتوعدنا على ذَلِك أَشد الْوَعيد فَلَيْسَ تقليداً بل هُوَ إِيمَان(4/29)
وتصديق وَاتِّبَاع للحق وَطَاعَة لله عز وَجل وَأَدَاء للمفترض فموه هَؤُلَاءِ الْقَوْم بِأَن أطْلقُوا على الْحق الَّذِي هُوَ اتِّبَاع الْحق اسْم التَّقْلِيد الَّذِي هُوَ بَاطِل وبرهان مَا ذكرنَا أَن أمرءا لَو اتبع أحدا دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول قَالَه لِأَن فلَانا قَالَه فَقَط واعتقد أَنه لَو لم يقل ذَلِك الفلان ذَلِك القَوْل لم يقل بِهِ هُوَ أَيْضا فَإِن فَاعل هَذَا القَوْل مقلد مخطى عَاص لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ ظَالِم آثم سَوَاء كَانَ قد وَافق قَوْله ذَلِك الْحق الذى قَالَه الله وَرَسُوله أَو خَالفه وَإِنَّمَا فسق لِأَنَّهُ اتبع من لم يُؤمر باتباعه وَفعل غير مَا أمره الله عز وَجل أَن يَفْعَله وَلَو أَن امْرَءًا اتبع قَول الله عزوجل وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ مُطيعًا محسنا مأجوراً غير مقلد وَسَوَاء وَافق الْحق أَو وهم فَأَخْطَأَ وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا لنبين أَن الَّذِي أمرنَا بِهِ وافترض علينا هُوَ اتِّبَاع مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَأَن الَّذِي حرم علينا هُوَ اتِّبَاع من دونه أَو اختراع قَول لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فَقَط وَقد صَحَّ أَن التَّقْلِيد بَاطِل لَا يحل فَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع أَن يكون الْحق بَاطِلا مَعًا والمحسن مسيئاً من وَجه وَاحِد مَعًا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فمتبع من أَمر الله تَعَالَى باتباعه لَيْسَ مُقَلدًا وَلَا فعله تقليداً وَإِنَّمَا الْمُقَلّد من اتبع من لم يَأْمُرهُ الله تَعَالَى فَسقط تمويههم بذم التَّقْلِيد وَصَحَّ أَنهم وضعوه فِي غير مَوْضِعه وأوقعوا اسْم التَّقْلِيد على مَا لَيْسَ تقليداً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بذم الله إتباع الأباء ة الكبراء فَهُوَ مِمَّا قُلْنَا آنِفا سَوَاء بِسوء لِأَن اتِّبَاع الأباء والكبراء وكل من دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ من التَّقْلِيد الْمحرم المذموم فَاعله فَقَط قَالَ الله عز وَجل {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وَللَّه الْحَمد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما احتجاجهم أَنه لَا يعرف أَي الْأَمريْنِ أهْدى وَلَا هَل يعلم الأباء شَيْئا أم لَا إِلَّا بالدلايل وَإِن كل مَا لم يَصح بِهِ دَلِيل فَهُوَ دعوي وَلَا فرق بَين الصَّادِق والكاذب بِنَفس قَوْلهمَا وَذكرهمْ قَول الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَإِن هَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ فَمن كَانَ من النَّاس تنازعه نَفسه إِلَى الْبُرْهَان وَلَا تَسْتَقِر نَفسه إِلَى تَصْدِيق مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يسمع الدلايل فَهَذَا فرض عَلَيْهِ طلب الدلايل لِأَنَّهُ إِن مَاتَ شاكا أَو جاحداً قبل أَن يسمع من الْبُرْهَان مَا يثلج صَدره فقد مَاتَ كَافِرًا وَهُوَ مخلد فِي النَّار وَهُوَ بِمَنْزِلَة من لم يُؤمن مِمَّن شَاهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رأى المعجزات فَهَذَا أَيْضا لَو مَاتَ مَاتَ كَافِرًا بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام وَإِنَّمَا أَوجَبْنَا على من هَذِه صفته طلب الْبُرْهَان لِأَن فرضا عَلَيْهِ طلب مَا فِيهِ نجاته من الْكفْر قَالَ الله عز وَجل {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} فقد افْترض الله عز وَجل على كل أحد أَن يقي نَفسه النَّار فَهَؤُلَاءِ قسم وهم الْأَقَل من النَّاس وَالْقسم الثَّانِي من اسْتَقَرَّتْ نَفسه إِلَى تَصْدِيق مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسكن قلبه إِلَى الْإِيمَان وَلم تنازعه نَفسه إِلَى طلب(4/30)
دَلِيل تَوْفِيقًا من الله عز وَجل لَهُ وتيسيراً لما خلق لَهُ من الْخَيْر وَالْحُسْنَى فَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى برهَان وَلَا تَكْلِيف اسْتِدْلَال وَهَؤُلَاء هم جُمْهُور النَّاس من الْعَامَّة وَالنِّسَاء والتجار والصناع والاكرة والعباد وَأَصْحَاب الحَدِيث الأيمة الَّذين يذمون الْكَلَام والجدل والمرآء فِي الدّين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هم الَّذين قَالَ لَهُم الله فيهم {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد سمى الله عز وَجل راشدين الْقَوْم الَّذين زين الْإِيمَان فِي قُلُوبهم وحببه إِلَيْهِم وَكره إِلَيْهِم الْكفْر والمعاصي فضلا مِنْهُ ونعمة وَهَذَا هُوَ خلق الله تَعَالَى للْإيمَان فِي قُلُوبهم إبتداه وعَلى ألسنتهم وَلم يذكر الله تَعَالَى فِي ذَلِك اسْتِدْلَالا أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مقلدين لابائهم ولالكبرائهم لِأَن هَؤُلَاءِ مقرون بألسنتهم محققون فِي قُلُوبهم إِن أباءهم ورؤساءهم لَو كفرُوا لما كفرُوا هم بل كَانُوا يسْتَحلُّونَ قتل أبائهم وَرُؤَسَائِهِمْ والبرأة مِنْهُم ويحسون من أنفسهم النفار الْعَظِيم عَن كل مَا سمعُوا مِنْهُ مَا يُخَالف الشَّرِيعَة ويرون أَن حرقهم بالنَّار أخف عَلَيْهِم من مُخَالفَة الْإِسْلَام وَهَذَا أَمر قد عَرفْنَاهُ من أَنْفُسنَا حسا وشاهدناه فِي ذواتنا يَقِينا فَلَقَد بَقينَا سِنِين كَثِيرَة وَلَا نَعْرِف الِاسْتِدْلَال وَلَا وجوهه وَنحن وَللَّه الْحَمد فِي غَايَة الْيَقِين بدين الْإِسْلَام وكل مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجد أَنْفُسنَا فِي غَايَة السّكُون إِلَيْهِ وَفِي غَايَة النفار عَن كل مَا يعْتَرض فِيهِ بشك وَلَقَد كَانَت تخطر فِي قُلُوبنَا خطرات سوء فِي خلال ذَلِك ينبذها الشَّيْطَان فنكاد لشدَّة نفارنا عَنْهَا أَن نسْمع خفقان قُلُوبنَا استبشاعاً لَهما كَمَا أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالُوا لَهُ أَن أَحَدنَا ليحدث نَفسه بالشئ مَا أَنه يقدم فَتضْرب عُنُقه أحب إِلَيْهِ أَن يتَكَلَّم بِهِ فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك مَحْض الْإِيمَان وَأخْبر أَنه من وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك بِمَا أَمر بِهِ من التَّعَوُّذ وَالْقِرَاءَة والتفل عَن الْيَسَار ثمَّ تعلمنا طرق الِاسْتِدْلَال وأحكمناها وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فَمَا زادنا يَقِينا على مَا كُنَّا بل عرفنَا أننا كُنَّا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وَقد أَيقَن بِأَن الْفِيل مَوْجُود سماعهَا وَلم يره ثمَّ رَآهُ فَلم يَزْدَدْ يَقِينا بِصِحَّة نِيَّته أصلا لَكِن أرانا صَحِيح الِاسْتِدْلَال رفض بعض الآراء الْفَاسِدَة الَّتِي نشأنا عَلَيْهَا فَقَط كالقول فِي الدّين بِالْقِيَاسِ وَعلمنَا أَنا كُنَّا مقتدين بالْخَطَأ فِي ذَلِك وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَأَن الْمُخَالفين لنا ليعرفون من أنفسهم مَا ذكرنَا إِلَّا أَنهم يلْزمهُم أَن يشْهدُوا على أنفسهم بالْكفْر قبل استدلالهم وَلَا بُد فصح بِمَا قُلْنَا إِن كل من امحض اعْتِقَاد الْحق بِقَلْبِه وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ فهم مُؤمنُونَ محققون وَلَيْسوا مقلدين أصلا وَإِنَّمَا كَانُوا مقلدين لَو أَنهم قَالُوا وإعتقدوا أننا إِنَّمَا نتبع فِي الدّين آبَاءَنَا وكبرآءنا فَقَط وَلَو أَن(4/31)
اباءنا وكبرآءنا تركُوا دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتركناه فَلَو قَالُوا هَذَا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفَّارًا غير مُؤمنين لأَنهم إِنَّمَا إتبعوا آبَائِهِم وكبراءهم الذذين نهوا عَن اتباعهم وَلم يتبعوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أمروا باتباعه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَإِنَّمَا كلف الله تَعَالَى الاتيان بالبرهان إِن كَانُوا صَادِقين يَعْنِي الْكفَّار الْمُخَالفين لما جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَص لآيَة وَلم يُكَلف قطّ الْمُسلمين الاتيان بالبراهين والأسقط اتباعهم حَتَّى يَأْتُوا بالبرهان أَو الْفرق بَين الْأَمريْنِ وَاضح وَهُوَ أَن كل من خَالف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا برهَان لَهُ أصلا فكلف المجئ بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إِن كَانُوا صَادِقين وَلَيْسوا صَادِقين بِلَا برهَان لَهُم وَأما من اتبع مَا جَاءَهُم بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد اتبع الْحق الَّذِي قَامَت الْبَرَاهِين بِصِحَّتِهِ ودان بِالصّدقِ الَّذِي قَامَت الْحجَّة الْبَالِغَة بِوُجُوبِهِ فَسَوَاء علم هُوَ بذلك الْبُرْهَان أَو لم يعلم حَسبه أَنه على الْحق الَّذِي صَحَّ بالبرهان وَلَا برهَان على مَا سواهُ فَهُوَ محق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم مَا لم يكن علما فَهُوَ شكّ وَظن وَالْعلم هُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ عَن ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَال قَالُوا والديانات لَا تعرف صِحَّتهَا إِلَّا بالاستدلال فَإِن لم يسْتَدلّ الْمَرْء فَلَيْسَ عَالما وَإِذا لم يكن عَالما فَهُوَ جَاهِل شَاك أَو ظان وَإِذا كَانَ لَا يعلم الدّين فَهُوَ كَافِر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا لَيْسَ كَمَا قَالُوا لأَنهم قضوا قَضِيَّة بَاطِلَة فَاسِدَة بنوا عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِدْلَال وَهِي إقحامهم فِي حد الْعلم قَوْلهم عَن ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَال فَهَذِهِ زِيَادَة فَاسِدَة لَا نوافقهم هعليها وَلَا جَاءَ بِصِحَّتِهَا قُرْآن وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا لُغَة وَلَا طبيعة وَلَا قَول صَاحب وحد الْعلم على الْحَقِيقَة أَنه اعْتِقَاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ فَقَط وكل من اعْتقد شَيْئا على مَا هُوَ بِهِ وَلم يتخالجه شكّ فِيهِ فَهُوَ عَالم بِهِ وَسَوَاء كَانَ عَن ضَرُورَة حس أَو عَن بديهة عقل أَو عَن برهَان اسْتِدْلَال أَو عَن تيسير الله عز وَجل لَهُ وخلقه لذَلِك المعتقد فِي قلبه وَلَا مزِيد وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يكون مُحَقّق فِي اعْتِقَاد شَيْء كَمَا هُوَ ذَلِك الشَّيْء وَهُوَ غير عَالم بِهِ وَهَذَا تنَاقض وَفَسَاد وتعارض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْأَلَة الْملك فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِم كَمَا هُوَ لمجرده لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ فِيهِ فَأَما الْمُؤمن أَو الموقن فَيَقُول هُوَ رَسُول الله وَلم يقل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَما الْمُسْتَدلّ فحسبنا فوز الْمُؤمن المؤقن الموقن كَيفَ كَانَ أبمانه ويقينه وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب وَلم يقل غير الْمُسْتَدلّ فَيَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته فَنعم هَذَا قَوْلنَا لِأَن الْمُنَافِق والمرتاب ليسَا موقنين وَلَا مُؤمنين وَهَذَا صفة مِنْهُ مقلد للنَّاس لَا مُحَقّق فَظهر أَن هَذَا الْخَبَر حجَّة عَلَيْهِم كَافِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم إِن الله عز وَجل قد ذكر الِاسْتِدْلَال فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَأمر بِهِ وواجب الْعلم بِهِ وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن اسْتِدْلَال فهذذه أَيْضا زِيَادَة أقحموها وَهِي قَوْلهم وَأمر بِهِ فَهَذَا لَا يجدونه أبدا وَلَكِن الله تَعَالَى ذكر(4/32)
الِاسْتِدْلَال وحض عَلَيْهِ وَنحن لَا ننكر الِاسْتِدْلَال بل هُوَ فعل حسن مَنْدُوب إِلَيْهِ محضوض عَلَيْهِ كل من اطاقه لِأَنَّهُ تزَود من الْخَيْر وَهُوَ فرض على كل من لم تسكن نَفسه إِلَى التَّصْدِيق نَعُوذ بِاللَّه عز وَجل من البلا وَإِنَّمَا ننكر كَونه فرضا على كل أحد لَا يَصح إِسْلَام أحد دونه هَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمَحْض وَأما قَوْلهم أَن الله تَعَالَى أوجب الْعلم بِهِ فَنعم وَأما قَوْلهم وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن اسْتِدْلَال فَهَذَا هِيَ الدَّعْوَى الكاذبة الَّتِي أبطلناها آنِفا وَأول بُطْلَانهَا أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى الْعَزِيز الحكيو نتأيد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كلما شنعوا بِهِ قد نقضناه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَسقط قَوْلهم إِذْ تعرى من الْبُرْهَان وَكَانَ دَعْوَى مِنْهُم مفتراة لم يَأْتِ بهَا نَص قطّ وَلَا إِجْمَاع وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَنحن الْآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده الْبَرَاهِين على بطلَان قَوْلهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) يُقَال لمن قَالَ لَا يكون مُسلما إِلَّا من اسْتدلَّ أخبرنَا مَتى يجب عَلَيْهِ فرض الِاسْتِدْلَال أقبل الْبلُوغ أم بعده وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ فإمَّا الطَّبَرِيّ فَإِنَّهُ أجَاب بِأَن ذَلِك وَاجِب قبل الْبلُوغ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ لِأَن من لم يبلغ لَيْسَ مُكَلّفا وَلَا مُخَاطبا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة فَذكر الصَّغِير حَتَّى يَحْتَلِم فَبَطل جَوَاب الطَّبَرِيّ رَحمَه الله وَأما الأشعرية فَإِنَّهُم أَتَوا بِمَا يمْلَأ الْفَم وتقشعر مِنْهَا جُلُود أهل الْإِسْلَام وتصطك مِنْهَا المسامع وَيقطع مَا بَين قَائِلهَا وَمَا بَين الله عز وَجل وَهِي انهم قَالُوا لَا يلْزم طلب الْأَدِلَّة إِلَّا بعد الْبلُوغ وَلم يقنعوا بِهَذِهِ الْجُمْلَة حَتَّى كفونا الْمُؤْنَة وصرحوا بِمَا كُنَّا نُرِيد أَن نلزمهم فَقَالُوا غير مساترين لَا يَصح إِسْلَام أحد حَتَّى يكون بعد بُلُوغه شاكما غير مُصدق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا سمعنَا قطّ فِي الْكفْر والانسلاخ من الْإِسْلَام بأشنع من قَول هَؤُلَاءِ(4/33)
الْقَوْم أَنه لَا يكون أحد مُسلما حَتَّى يشك فِي الله عز وَجل وَفِي صِحَة النُّبُوَّة وَفِي هَل رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق أم كَاذِب وَلَا سمع قطّ سامع فِي الهوس والمناقضة وَالِاسْتِخْفَاف بالحقائق فاقبح من قَول هَؤُلَاءِ أَنه لَا يَصح الْإِيمَان إِلَّا بالْكفْر وَلَا يَصح التَّصْدِيق إِلَّا بالجحد وَلَا يُوصل إِلَى رِضَاء الله عز وَجل إِلَّا بِالشَّكِّ فِيهِ وَأَن من اعْتقد موقناً بِقَلْبِه وَلسَانه أَن الله تَعَالَى ربه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن دين الْإِسْلَام دين إِلَى الَّذِي لَا دين غَيره فَإِنَّهُ كَافِر مُشْرك اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من الخذلان فو الله لَوْلَا خذلان الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ غَالب على امْرَهْ مَا انْطلق لِسَان ذِي مسكة بِهَذِهِ الْعَظِيمَة وَهَذَا يَكْفِي من تكلّف النَّقْص لهَذِهِ الْمقَالة الملعونة وَمن بلغ هَذَا الْمبلغ حسن السُّكُوت عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من الضلال ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن هَذَا الَّذِي أوجبتم عَلَيْهِ الشَّك فِي فرض أَو الشَّك فِي صِحَة النُّبُوَّة والرسالة كم تكون هَذِه الْمدَّة الَّتِي أوجبتم عَلَيْهِ فِيهِ الْبَقَاء شاكا مستدلا طَالبا للدلائل وَكَيف أَن لم يجد فِي قريته أَو مدينته وَلَا فِي اقليمه محسناً للدلائل فَرَحل طَالبا للدلائل فَاعْتَرَضتهُ أهوال ومخاوف وَتعذر من بَحر أَو مرض فاتصل لَهُ ذَلِك سَاعَات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين مَا قَوْلكُم فِي ذَلِك فَإِن حدوا فِي الْمدَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَو أَكثر من ذَلِك كَانُوا متحكمين بِلَا دَلِيل وقائلين بِلَا هدى من الله تَعَالَى وَلم يعجز أحد عَن أَن يَقُول فِي تَحْدِيد تِلْكَ الْمدَّة بِزِيَادَة أَو نُقْصَان وَمن بلغ هَا هُنَا فقد ظهر فَسَاد قَوْله وَأَن قَالُوا لَا نحد فِي ذَلِك حدا قُلْنَا لَهُم فَإِن امْتَدَّ كَذَلِك حَتَّى فنى عمره وَمَات فِي مُدَّة استدلاله الَّتِي حددتم لَهُ وَهُوَ شَاك فِي الله تَعَالَى وَفِي النُّبُوَّة أيموت مُؤمنا وَيُحب لَهُ الْجنَّة أم يَمُوت كَافِرًا وَتجب لَهُ النَّار فَإِن قَالُوا يَمُوت مُؤمنا تجب لَهُ الْجنَّة أَتَوْ بأعظم الطو أم وَجعلُوا الشكاك فِي الله الَّذين هم عِنْدهم شكاك مُؤمنين من أهل الْجنَّة وَهَذَا كفر مَحْض وتناقض لاخفاء بِهِ وَكَانُوا مَعَ ذَلِك قد سمعُوا فِي أَن يبْقى الْمَرْء دهره كُله شاكا فِي الله عز وَجل وَفِي النُّبُوَّة والرسالة فَإِن قَالُوا بل يَمُوت كَافِرًا تجب لَهُ النَّار قُلْنَا لَهُم لقد أَمر تموه بِمَا فِيهِ هَلَاكه وأوجبتم عَلَيْهِ مَا فِيهِ دماره وَمَا يفعل الشَّيْطَان الإهذا فِي أمره بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الخلود فِي النَّار بل هُوَ فِي حكم أهل الفترة قُلْنَا لَهُم هَذَا بَاطِل لِأَن أهل الفترة لم تأتهم النذارة وَلَا بَلغهُمْ خبر النُّبُوَّة وَالنَّص إِنَّمَا جَاءَ فِي أهل الفترة وَمن زَاد فِي الْخَبَر مَا لَيْسَ فِيهِ فقد كذب على الله عز وَجل ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَا حد الِاسْتِدْلَال الْمُوجب لاسم الْإِيمَان عنْدكُمْ وَقد يسمع دَلِيلا عَلَيْهِ اعْتِرَاض أيجزيه ذَلِك لدَلِيل أم لَا فَإِن قَالُوا يجْزِيه قلنالهم وَمن أَيْن وَجب أَن يجْزِيه وَهُوَ دَلِيل معترض فِيهِ وَلَيْسَ هَذِه الصّفة من الدَّلَائِل المخرجة عَن الْجَهْل إِلَى الْعلم بل هِيَ مؤدية إِلَى الْجَهْل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ(4/34)
قبل الِاسْتِدْلَال فَإِن قَالُوا بل لَا يجْزِيه إِلَّا حَتَّى يُوقن أَنه قد وَقع على دَلِيل لَا يُمكن الِاعْتِرَاض فِيهِ تكلفوا مَا لَيْسَ فِي وسع أَكْثَرهم وَمَا لَا يبلغهُ إِلَّا قَلِيل من النَّاس فِي طَوِيل من الدَّهْر وَكثير من الْبَحْث وَلَقَد درى الله تَعَالَى أَنهم أصفار من الْعلم بذلك يَعْنِي أهل هَذِه الْمقَالة الملعونة الخبيثة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن الْبُرْهَان الموضح لبُطْلَان هَذِه الْمقَالة الخبيثة أَنه لَا يشك أحد مِمَّن يدْرِي شَيْئا من السّير من الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والمانية والدهرية فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مذ بعث لم يزل يَدْعُو النَّاس الْجَمَّاء الْغَفِير إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَبِمَا أَنِّي بِهِ وَيُقَاتل من أهل الأَرْض من يقاتله مِمَّن عِنْد ويستحل سفك دِمَائِهِمْ وَسبي نِسَائِهِم وَأَوْلَادهمْ وَأخذ أَمْوَالهم متقرباً إِلَى الله تَعَالَى بذلك وَأخذ الْجِزْيَة وأصغاره وَيقبل مِمَّن آمن بِهِ وَيحرم مَاله وَدَمه وَأَهله وَولده وَيحكم لَهُ بِحكم الْإِسْلَام وَفِيهِمْ الْمَرْأَة البدوية والراعي الراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبيء والزمجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الْجَاهِل والضعيف فِي فهمه فَمَا مِنْهُم أحد وَلَا من غَيرهم قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي لَا أقبل إسلامك وَلَا يَصح لَك دين إِلَّا حَتَّى تستدل على صِحَة مَا أَدْعُوك إِلَيْهِ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لسنا نقُول أَنه لم يبلغنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ذَلِك لأحد بل نقطع نَحن وَجَمِيع أهل الأَرْض قطعا كقطعنا على مَا شهدناه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل قطّ هَذَا لأحد وَلَا رد إِسْلَام أحد حَتَّى يسْتَدلّ ثمَّ جرى على هَذِه الطَّرِيقَة جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَلَا يخْتَلف أحد فِي هَذَا الْأَمر ثمَّ جَمِيع أهل الأَرْض إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع عِنْد أهل الْإِسْلَام أَن يكون عَلَيْهِ السَّلَام يغْفل أَن يبين النَّاس مَا لَا يَصح لأحد الْإِسْلَام إِلَّا بِهِ ثمَّ يتَّفق على إغفال ذَلِك أَو تعمد عدم ذكره جَمِيع أهل الأسلام ويبينه لَهُم هَؤُلَاءِ الأشقياء وَمن ظن أَنه وَقع من الدّين على مَا لَا يَقع عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر بِلَا خلاف فصح أَن هَذِه الْمقَالة خلاف للاجماع وَخلاف لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أهل الْإِسْلَام قاطبة فَإِن قَالُوا فَمَا كَانَت حَاجَة النَّاس إِلَى الْآيَات المعجزات وَإِلَى احتجاج الله عز وَجل عَلَيْهِم بِالْقُرْآنِ واعجازه بِهِ وبدعاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وَدُعَاء النَّصَارَى إِلَى المباهلة وشق الْقَمَر قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن النَّاس قِسْمَانِ قسم لم تسكن قُلُوبهم إِلَى الْإِسْلَام وَلَا دَخلهَا التَّصْدِيق فطلبوا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام الْبَرَاهِين فَأَرَاهُم المعجزات فانقسموا قسمَيْنِ طَائِفَة آمَنت وَطَائِفَة عندت وجاهرت فكفرت وَأهل هَذِه الصّفة الْيَوْم هم الَّذين يلْزمهُم طلب الِاسْتِدْلَال فرضا وَلَا بُد كَمَا قُلْنَا وَقسم آخر وفقهم الله تَعَالَى لتصديقه عَلَيْهِ السَّلَام وَخلق(4/35)
عز وَجل فِي نُفُوسهم الْإِيمَان كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} فَهَؤُلَاءِ آمنُوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام بِلَا تَكْلِيف
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيلْزم أهل هَذِه الْمقَالة أَن جَمِيع أهل الأَرْض كفار لَا ألأقل وَقد قَالَ بَعضهم أَنهم مستدلون
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة هُوَ يدْرِي أَنه فِيهَا كَاذِب وكل من سَمعه يدْرِي أَنه فِيهَا كَاذِب لِأَن أَكثر الْعَامَّة من حَاضِرَة وبادية لَا يدْرِي مَا معنى الِاسْتِدْلَال فَكيف أَن يَسْتَعْمِلهُ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيلْزم من قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة أَن لَا يَأْكُل من اللَّحْم إِلَّا مَا ذبحه هُوَ أَو من يدْرِي أَنه مستدل وَأَن لَا يطَأ إِلَّا زَوْجَة يدْرِي أَنَّهَا مستدلة وَيلْزم أَن يشْهد على نَفسه بالْكفْر ضَرُورَة قبل استدلاله وَمُدَّة استدلاله وَأَن يُفَارق امْرَأَته الَّتِي تزوج فِي تِلْكَ الْمدَّة وَأَن لَا يَرث أَخَاهُ وَلَا أَبَاهُ وَلَا أمه إِلَّا أَن يَكُونُوا مستدلين وَأَن يعْمل عمل الْخَوَارِج الَّذين يقتلُون غيلَة وَعمل المغيرية المنصورة فِي ذبح كل من أمكنهم وَقَتله وَأَن يستحلوا أَمْوَال أهل الأَرْض بل لَا يحل لَهُم الْكَفّ عَن شَيْء من هَذَا كُله لِأَن جِهَاد الْكفَّار فرض وَهَذَا كُله أَن التزموا طرد أصولهم وَكَفرُوا أنفسهم وَأَن لم يَقُولُوا بذلك تناقضوا وفصح أَن كل من اعْتقد الْإِسْلَام بِقَلْبِه ونطق بِهِ لِسَانه فَهُوَ مُؤمن عِنْد الله عز وَجل وَمن أهل الْجنَّة سَوَاء كَانَ ذَلِك عَن قبُول أَو نشأة أَو عَن اسْتِدْلَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَنَقُول لَهُم هَل اسْتدلَّ من مخالفيكم فِي أقوالكم الَّتِي تدينون بهَا أحد أم لم يسْتَدلّ قطّ أحد غَيْركُمْ فَلَا بُد من إقرارهم بِأَن مخالفيهم أَيْضا قد استدلوا وهم عنْدكُمْ مخطئون كمن لم يسْتَدلّ وَأَنْتُم عِنْدهم أَيْضا مخطئون فَإِن قَالُوا إِن الْأَدِلَّة امنتنا من أَن نَكُون مخطئين قُلْنَا لَهُم وَهَذَا نَفسه هُوَ قَول خصومكم فَإِنَّهُم يدعونَ أَن أدلتهم على صَوَاب قَوْلهم وَخطأ قَوْلكُم وَلَا فرق مَا زَالُوا على هَذِه الدَّعْوَى مذ كَانُوا إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَمَا نَرَاكُمْ حصلتم من استدلا لكم إِلَّا على مَا حصل عَلَيْهِ من لم يسْتَدلّ سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق فَإِن قَالُوا لنا فعلى قَوْلكُم هَذَا يبطل الِاسْتِدْلَال جملَة وَيبْطل الدَّلِيل كَافَّة قُلْنَا معَاذ الله من هَذَا لَكِن أريناك أَنه قد يسْتَدلّ من يُخطئ وَقد يسْتَدلّ من يُصِيب بِتَوْفِيق الله تَعَالَى فَقَط وَقد لَا يسْتَدلّ من يُخطئ وَقد لَا يسْتَدلّ من يُصِيب بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وكل ميسر لما خلق لَهُ والبرهان والدلائل الصِّحَاح غير المموهة فَمن وَافق الْحق الَّذِي قَامَت عِنْد غَيره الْبَرَاهِين الصِّحَاح بِصِحَّتِهِ فَهُوَ مُصِيب محق مُؤمن اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ وَمن يسر للباطن الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان عِنْد غَيره بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ مُبْطل مُخطئ أَو كَافِر سَوَاء اسْتدلَّ أَو لم يسْتَدلّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْوَعْد والوعيد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي الْوَعْد والوعيد فَذَهَبت كل طَائِفَة لقَوْل مِنْهُم من قَالَ(4/36)
أَن صَاحب الْكَبِيرَة لَيْسَ مُؤمنا وَلَا كَافِرًا وَلكنه فَاسق (1) وَإِن كل من مَاتَ مصرا على كَبِيرَة من الْكَبَائِر فَلم يمت مُسلما وَإِذا لم يمت مُسلما فَهُوَ مخلد فِي النَّار أبدا وَإِن من مَاتَ وَلَا كَبِيرَة لَهُ أَو تَابَ عَن كبائره قبل مَوته فَإِنَّهُ مُؤمن من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار أصلا وَمِنْهُم من قَالَ بِأَن كل ذَنْب صَغِير أَو كَبِير فَهُوَ مخرج عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فَإِن مَاتَ عَلَيْهِ فَهُوَ غير مُسلم وَغير الْمُسلم مخلد فِي النَّار وَهَذِه مقالات الْخَوَارِج والمعتزلة إِلَّا أَن ابْن بكر أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد قَالَ فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَافِرَانِ من أهل الْجنَّة لِأَنَّهُمَا من أهل بدر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى قَالَ لأهل بدر اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم قَالَ فَأهل بدران كفرُوا فمغفور لَهُم لأَنهم بِخِلَاف غَيرهم وَقَالَ بعض المرجئة (2) لَا تضر مَعَ الْإِسْلَام سَيِّئَة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر حَسَنَة قَالُوا فَكل مُسلم وَلَو بلغ على مَعْصِيّة فَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يرى نَارا وَإِنَّمَا النَّار للْكفَّار وكلتا هَاتين الطائفيتين تقربان أحد أَلا يدْخل النَّار ثمَّ يخرج عَنْهَا بل من دخل النَّار فَهُوَ مخلد فِيهَا أبدا وَمن كَانَ من أهل الْجنَّة فَهُوَ لَا يدْخل النَّار(4/37)
وَقَالَ أهل السّنة وَالْحُسَيْن النجار وَأَصْحَابه وَبشر ابْن غياث المريسي وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن كيسَان الْأَصَم الْبَصْرِيّ وغيلان ابْن مَرْوَان الدِّمَشْقِي القدري وَمُحَمّد بن شبيب وَيُونُس بن عمرَان وَأَبُو الْعَبَّاس الناشي والأشعري وَأَصْحَابه وَمُحَمّد بن كرام وَأَصْحَابه أَن الْكفَّار مخلدون فِي النَّار وَأَن الْمُؤمنِينَ كلهم فِي الْجنَّة وَإِن كَانُوا أَصْحَاب كَبَائِر مَاتُوا مصرين عَلَيْهَا وَأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ طَائِفَة يدْخلُونَ النَّار ثمَّ يخرجُون مِنْهَا أَي من النَّار إِلَى الْجنَّة وَطَائِفَة لَا تدخل النَّار إِلَّا أَن كل من ذكرنَا قَالُوا لله عز وَجل أَن يعذب من شَاءَ من الْمُؤمنِينَ أَصْحَاب الْكَبَائِر بالنَّار ثمَّ يدخلهم الْجنَّة وَله أَن يغْفر لَهُم ويدخلهم الْجنَّة بِدُونِ أَن يعذبهم ثمَّ افْتَرَقُوا فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم وَهُوَ مُحَمَّد بن شبيب وَيُونُس والناشي إِن عذب الله تَعَالَى وَاحِدًا من أَصْحَاب الْكَبَائِر عذب جَمِيعهم وَلَا بُد ثمَّ أدخلهم الْجنَّة وَإِن عفر لوَاحِد مِنْهُم غفر لجميعهم وَلَا بُد وَقَالَت طَائِفَة بل يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَإِن كَانَت ذنوبهم كَثِيرَة مستوية وَقد يغْفر لمن هُوَ أعظم جرما ويعذب من هُوَ أقل جرما وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم يغْفر لمن يَشَاء من أَصْحَاب الْكَبَائِر ويعذب من يَشَاء مِنْهُم إِلَّا الْقَاتِل عندا فَإِنَّهُ مخلد فِي النَّار أبدا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم من لقى الله عز وَجل مُسلما نَائِبا من كل كَبِيرَة أَو لم يكن عمل كَبِيرَة قطّ فسيئآته كلهَا مغفورة وَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار وَلَو بلغت سيئآته مَا شَاءَ الله أَن تبلغ وَمن لقى الله عز وَجل وَله كَبِيرَة لم يتب مِنْهَا فَأكْثر فَالْحكم فِي ذَلِك الموازنة فَمن فَمن رجحت حَسَنَاته على كبائره وسيئآته فَإِن كبائره كلهَا تسْقط وَهُوَ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار وَإِن اسْتَوَت حَسَنَاته مَعَ كبائره وسيئآته فَهَؤُلَاءِ أهل الْأَعْرَاف وَلَهُم وَقْفَة وَلَا يدْخلُونَ النَّار ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة وَمن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فَهَؤُلَاءِ مجازون بِقدر مَا رجح لَهُم من الذُّنُوب فَمن لفحة وَاحِدَة إِلَى بَقَاء خمسين ألف سنة فِي النَّار ثمَّ يخرجُون مِنْهَا إِلَى الْجنَّة بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرحمة الله تَعَالَى وكل من ذكرنَا يجازون فِي الْجنَّة بعد بِمَا فضل لَهُم من الْحَسَنَات وَأما من يفضل لَهُ حَسَنَة من أهل الْأَعْرَاف فَمن دونهم وكل من خرج النَّار بالشفاعة وبرحمة الله تَعَالَى فهم كلهم سَوَاء فِي الْجنَّة مِمَّن رجحت لَهُ حَسَنَة فَصَاعِدا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما من قَالَ صَاحب الْكَبِيرَة يخلد وَصَاحب الذَّنب كَذَلِك فَإِن حجتهم قَول الله عز وَجل
{أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ}
وَقَوله تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا وهم من فزع يَوْمئِذٍ آمنون وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وترهقهم ذلة مَا لَهُم من الله من عَاصِم كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلماً أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما}(4/38)
وَقَوله {وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق اثاماً يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهاناً إِلَّا من تَابَ وآمن} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا وسيصلون سعيراً} وَقَوله تَعَالَى {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفاً لقِتَال أَو متحيزاً إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} وَقَوله {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} وَقَوله تَعَالَى {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا} الْآيَة وَذكروا أَحَادِيث صحت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَعِيد شَارِب الْخمر وَقَاتل الْهِرَّة وَمن قتل نَفسه بِسم أَو حَدِيد أَو تردى من جبل فَإِنَّهُ يفعل ذَلِك بِهِ فِي جَهَنَّم خَالِدا وَمن قتل نَفسه حرَام الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار وَذكروا أَن الْكَبِيرَة تزيل اسْم الْإِيمَان فبعضهم قَالَ إِلَى شرك وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى كفر نعْمَة وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى نفاق وَبَعْضهمْ قَالَ إِلَى فسق قَالُوا فَإِذا لَيْسَ مُؤمنا فَلَا يدْخل الْجنَّة لِأَنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤمنِينَ هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ مَا نعلم لَهُم حجَّة أصلا غير مَا ذكرنَا وَأما من خص الْقَاتِل بالتخليد فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} فَقَط وَأما من قطع باسقاط الْوَعيد عَن كل مُسلم فاحتجوا بقول الله تَعَالَى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} قَالُوا وَهَذِه الْآيَة مثبتة أَن كل من توعده الله عز وَجل على قتل أوزنا أَو رَبًّا أَو غير ذَلِك فَإِنَّمَا هم: الْكفَّار خَاصَّة لَا غَيرهم وَاحْتَجُّوا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه دخل الْجنَّة وَإِن سرق وَإِن شرب الْخمر على رغم أَنفه أبي ذَر وَقَول الله عز وَجل
{إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ}
قَالُوا وَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فقد أحسن فَهُوَ محسن فرحمة الله قريب مِنْهُ وَمن رَحمَه الله فَلَا يعذب وَقَالُوا كَمَا أَن الْكفْر محبط لكل حَسَنَة فَإِن الْإِيمَان يكفر كل سَيِّئَة وَالرَّحْمَة وَالْعَفو أولى بِاللَّه عز وَجل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ مَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَذَا أصلا أَو يدْخل فِيمَا ذكرنَا وَلَا يخرج عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من قَالَ أَن الله تَعَالَى يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَقد يعذب من هُوَ أقل ذنوباً مِمَّن يغْفر لَهُ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقول الله عز وَجل {إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وبعموم قَوْله تَعَالَى {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس صلوَات كتبهن الله على العَبْد من جَاءَ بِهن لم ينقص من حدودهن شَيْئا كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة وَمن لم يَأْتِ بِهن لم يكن لَهُ عِنْد الله عهد إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ غفر لَهُ وَجعلُوا الآيتيتن اللَّتَيْنِ ذكرنَا(4/39)
قاضيتين على جَمِيع الْآيَات الَّتِي تعلّقت بهَا سَائِر الطوائف وَقَالُوا لله الْأَمر كُله لَا معقب لحكمه فَهُوَ يفعل مَا يَشَاء مَا نعلم لَهُم حجَّة غير مَا ذكرنَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من قَالَ بِمثل هَذَا إِلَّا أَنه قَالَ الله تَعَالَى إِن عذب وَاحِدًا مِنْهُم عذب الْجَمِيع وَإِن عفر لوَاحِد مِنْهُم غفر للْجَمِيع فَإِنَّهُم قدرية جنحوا بِهَذَا القَوْل نَحْو الْعدْل وَرَأَوا أَن الْمَغْفِرَة لوَاحِد وتعذيب من لَهُ ذنُوبه جور ومحاباة وَلَا يُوصف الله عز وَجل بذلك وَأما من قَالَ بالموازنة فَإِنَّهُم احْتَجُّوا فَقَالُوا إِن آيَات الْوَعيد وأخبار الْوَعيد الَّتِي احْتج بهَا من ذهب مَذْهَب الْمُعْتَزلَة والخوارج فَإِنَّهَا لَا يجوزان أَن تخص بِالتَّعْلِيقِ بهَا دون آيَات الْعَفو وَأَحَادِيث الْعَفو الَّتِي احْتج بهَا من أسقط فِي الْوَعيد وَهِي لَا يجوز التَّعَلُّق بهَا دون الْآيَات الَّتِي حتج بهَا من أثبت الْوَعيد بل الْوَاجِب جمع جَمِيع تِلْكَ الْآيَات وَتلك الْأَخْبَار وَكلهَا حق وَكلهَا من عِنْد الله وَكلهَا مُجمل تَفْسِيرهَا بآيَات الموازنة وَأَحَادِيث الشَّفَاعَة الَّتِي هِيَ بَيَان لعُمُوم تِلْكَ إِلَّا آيَات وَتلك الْأَخْبَار وَكلهَا من عِنْد الله قَالُوا وَوجدنَا الله عز وَجل قد قَالَ {يَا ويلتنا مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها ووجدوا مَا عمِلُوا حَاضرا وَلَا يظلم رَبك أحدا} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا} الْآيَة أَو قَالَ تَعَالَى {ليجزي الله كل نفس مَا كسبت إِن الله سريع الْحساب} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {لتجزى كل نفس بِمَا تسعي} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} إِلَى قَوْله {الْجَزَاء الأوفى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك} وَقَالَ تَعَالَى {ليجزي الَّذين أساؤوا بِمَا عمِلُوا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن كلا لما ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَفْعَلُوا من خير فَلَنْ يكفروه} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَقَالَ تَعَالَى {فإمَّا من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه} إِلَى آخر السُّورَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} وَقَالَ تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا}(4/40)
وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم الْيَوْم} هَذَا نَص كَلَامه يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ القَاضِي على كل مُجمل قَالُوا فنص الله عز وَجل أَنه يضع الموازين الْقسْط وَأَنه لَا يظلم أحدا شَيْئا ولامثقال حَبَّة خَرْدَل وَلَا مِثْقَال ذرة من خير وَمن شَرّ فصح أَن السَّيئَة لَا تحبط الْحَسَنَة وَأَن الْإِيمَان لَا يسْقط الْكَبَائِر وَنَصّ الله تَعَالَى أَنه تجزى كل نفس بِمَا كسبت وَمَا عملت وَمَا سعت وَأَنه لَيْسَ لأحد الاما سعى وَأَنه سيجري بذلك من أَسَاءَ بِمَا عمل وَمن أحسن بِالْحُسْنَى وَأَنه تَعَالَى يُوفي النَّاس أَعْمَالهم فَدخل فِي ذَلِك الْخَيْر وَالشَّر وَأَنه تَعَالَى يجازي بِكُل خير وَبِكُل سوء وَعمل وَهَذَا كُله يبطل قَول من قَالَ بالتخليد ضَرُورَة وَقَول من قَالَ باسقاط الْوَعيد جملَة لِأَن الْمُعْتَزلَة تَقول أَن الْإِيمَان يضيع ويحبط وَهَذَا خلاف قَول الله تَعَالَى أَنه لَا يضيع ليماتناولا عمل عَامل منا وَقَالُوا هم أَن الْخَيْر سَاقِط بسيئة وَاحِدَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت} فَقَالُوا هم ان السيآت يذهن الْحَسَنَات وَقد نَص تَعَالَى أَن الْأَعْمَال لَا يحبطها إِلَّا الشّرك وَالْمَوْت عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} فَلَو كَانَت كل سَيِّئَة أَو كَبِيرَة توجب الخلود فِي جَهَنَّم ويحبط الْأَعْمَال الْحَسَنَة لكَانَتْ كل سَيِّئَة أَو كل كَبِيرَة كفرا ولتساوت السيئآت كلهَا وَهَذَا خلاف النُّصُوص وَعلمنَا بِمَا ذكرنَا أَن الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} هم الَّذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فَسقط كل سَيِّئَة قدموها وَصَحَّ أَن قَوْله تَعَالَى {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} هُوَ فِيمَن رجحت كبائرهم حسناتهم وَإِن السَّيئَة الْمُوجبَة هى للخلود وهى الْكفْر لِأَن النُّصُوص جَاءَت بتقسيم السيئآت فَقَالَ تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} فَهَذِهِ سيئآت مغفورة باجتناب الْكَبَائِر وَقَالَ تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فَأخْبر تَعَالَى أَن من السَّيِّئَات المجازى لَهَا مَا هُوَ مقدارذرة وَمِنْهَا مَا هُوَ أكبر وَلَا شكّ أَن الْكفْر أكبر السيئآت فَلَو كَانَت كل كَبِيرَة جزاءها الخلود لكَانَتْ كلهَا ولكانت كلهَا سَوَاء وَلَيْسَت كَذَلِك بِالنَّصِّ وَأما وَعِيد الله بالخلود فِي الْقَاتِل وَغَيره فَلَو لم يَأْتِ إِلَّا هَذِه النُّصُوص لوَجَبَ الْوُقُوف عِنْدهَا لكنه قد قَالَ تَعَالَى {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَكَلَامه تَعَالَى لَا يخْتَلف وَلَا يتناقض وَقد صَحَّ أَن الْقَاتِل لَيْسَ كَافِرًا وَإِن الزَّانِي لَيْسَ كَافِرًا وَأَن أَصْحَاب تِلْكَ الذُّنُوب المتوعد عَلَيْهَا لَيْسُوا كفَّارًا بِمَا ذكرنَا قبل من أَنهم مُبَاح لَهُم نِكَاح المسلمات إِنَّهُم مأمورون بالصلات وَأَن زَكَاة أَمْوَالهم مَقْبُوضَة وَأَنَّهُمْ لَا يقتلُون وَأَنه إِن عفى عَن الْقَاتِل فَقتله مُسلم فَإِنَّهُ يقتل بِهِ وَأَنه يَرث وَيُورث وتؤكل ذَبِيحَته فَإذْ لَيْسَ كَافِرًا فبيقين يدرى أَن خلوده إِنَّمَا هُوَ مقَام مُدَّة مَا وَإِن الصلا (1) الى نَمَاء الله تَعَالَى عَن كل من لم يكذب وَلَا تولى إِنَّمَا هُوَ صلى الخلود لَا يجوز البته غير هذذا وَبِهَذَا تتألف(4/41)
النُّصُوص وتتفق وَمن الْمَعْهُود فِي المخاطبة أَن وَفد من بلد إِلَى بلد محبس فِيهِ لأمر أوجب احتباسه فِيهِ مُدَّة مَا فَإِنَّهُ لَيْسَ من أهل ذَلِك الْبَلَد الَّذِي حبس فِيهِ فَمن دخل فِي النَّار ثمَّ أخرج مِنْهَا فقد انْقَطع عَنهُ صليها فَلَيْسَ من أَهلهَا وَأهل صليها على الْإِطْلَاق وَالْجُمْلَة هم الْكفَّار المخلدون فِيهَا أبدا فَهَكَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح فقد ذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ من يدْخل النَّار بذنوبه ثمَّ يخرج مِنْهَا ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما أهل النَّار الَّذين هم أَهلهَا يَعْنِي الْكفَّار المخلدين فِيهَا وَقد قَالَ عز وَجل {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثياً} فقد بَين عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بقوله فِي الْخَبَر الصَّحِيح ثمَّ يضْرب الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم فبالقرآن وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحَّ أَن ممر النَّاس من مَحْشَرهمْ إِلَى الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ بخوضهم وسط جَهَنَّم وينجي الله أَوْلِيَاء من حرهَا وهم الَّذين لَا كَبَائِر لَهُم أَو لَهُم كَبَائِر تَابُوا عَنْهَا ورجحب حسناوتهم بكبائرهم أَو تَسَاوَت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وَأَنه تَعَالَى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته ثمَّ يخرجهم عَنْهَا إِلَى الْجنَّة بإيمَانهمْ ويمحق الْكفَّار بتخليدهم فِي النَّار كَمَا قَالَ تَعَالَى {وليمحص الله الَّذين آمنُوا ويمحق الْكَافرين} وَأَيْضًا فَإِن كل آيَة وَعِيد وَخبر وَعِيد تعلق بِهِ من قَالَ بتخليد المذذنبين فَإِن المحتجين بِتِلْكَ النُّصُوص هم أول مُخَالف لَهَا لأَنهم يَقُولُونَ أَن من يأتى بِتِلْكَ الْكَبَائِر ثمَّ تَابَ سقط عَنهُ الْوَعيد فقد تركُوا ظَاهر تِلْكَ النُّصُوص فَإِن قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا بنصوص أخر أَو جبت ذَلِك قيل لَهُم نعم وَكَذَلِكَ فعلنَا بنصوص أخر وَهِي آيَات الموازنة وَأَنه تَعَالَى لَا يضيع عمل عَامل من خير أَو شَرّ وَلَا فرق وَيُقَال لمن أسقط آيَات الْوَعيد جملَة وَقَالَ أَنَّهَا كلهَا إِنَّمَا جَاءَت فِي الْكفَّار أَن هَذَا بَاطِل لِأَن نَص الْقُرْآن بالوعيد على الفار من الزَّحْف لَيْسَ إِلَّا على الْمُؤمن بِيَقِين بِنَصّ الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} وَلَا يُمكن أَن يكون هَذَا فِي كَافِر أصلا فَسقط قَول من قَالَ بالتخليد وَقَول من قَالَ باسقاط الْوَعيد وَلم يبْق الإ فول من أجمل جَوَاز الْمَغْفِرَة وَجوز الْعقَاب
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَوَجَدنَا هَذَا القَوْل مُجملا قد فسرته آيَات الموازنة وَقَوله تَعَالَى الَّذِي تعلقوا بِهِ {أَن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} حق على ظَاهرهَا وعَلى عمومها وَقد فسرتها بإقرارهم آيَات أخر لِأَنَّهُ لَا يخْتَلف فِي أَن الله تَعَالَى يغْفر أَن يُشْرك بِهِ لمن تَابَ من الشّرك بِلَا شكّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء فهذاكله حق إِلَّا أَنه قد بَين من هم الَّذين شَاءَ أَن يغْفر لَهُم فَإِن صرتم إِلَى بَيَان الله تَعَالَى فَهُوَ الْحق وَأَن أَبَيْتُم إِلَّا الثَّبَات على الأجمال فأخبرونا عَن قَول الله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} وَقَوله تَعَالَى {بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} أَتَرَوْنَ أَن هَذَا الْعُمُوم تَقولُونَ بِهِ فتجيزون أَنه يغْفر الْكفْر لِأَنَّهُ(4/42)
ذَنْب من الذُّنُوب أم لَا وأخبرونا عَن قَول الله عز وَجل حاكياً عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يَقُول لَهُ تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} إِلَى قَوْله {وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} إِلَى قَوْله {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَيَدْخُلُ النَّصَارَى الَّذين اتَّخذُوا عِيسَى وَأمه إِلَهَيْنِ من دون الله تَعَالَى فِي جَوَاز الْمَغْفِرَة لَهُم لصدق قَول الله تَعَالَى فِي هَذَا القَوْل من التَّخْيِير بَين الْمَغْفِرَة لَهُم أَو تعذينهم وأخبرونا عَن قَوْله تَعَالَى {قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} فَمن قَوْلهم أَن الْمَغْفِرَة لَا تكون الْبَتَّةَ لمن كفر وَمَات كَافِرًا وَأَنَّهُمْ خارجون من هَذَا الْعُمُوم وَمن هَذِه الْجُمْلَة بقوله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} قيل لَهُم وَلم خصصتم هَذِه الْجُمْلَة بِهَذَا النَّص وَلم تخصوا قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} بقوله {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَهَذَا خبر لَا نسخ فِيهِ فَإِن قَالُوا نعم إِلَّا أَن يَشَاء أَن يغْفر لَهُم قيل لَهُم قد أخبر الله تَعَالَى أَنه لَا يَشَاء ذَلِك بإخباره تَعَالَى أَنه فِي ذَلِك الْيَوْم يَجْزِي كل نفس مَا كسبت وَلَا فرق
(قَالَ أَبُو) مُحَمَّد وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الرجل يأتى يَوْم الْقِيَامَة وَله صَدَقَة وَصِيَام وَصَلَاة فيوجد قد سفك دم هَذَا وَشتم هَذَا فتؤخذ حَسَنَاته كلهَا فيقتص لَهُم مِنْهَا فَإِذا لم يبْق لَهُ حَسَنَة قذف من سيآتهم عَلَيْهِ وَرمى فِي النَّار وَهَكَذَا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام فِي قوم يخرجُون من النَّار حَتَّى إِذا نقوا وهذبوا أدخلُوا الْجنَّة وَقد بَين عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك بِأَنَّهُ يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من شعير من خير ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال برة من خير ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل ثمَّ من فِي قلبه مِثْقَال ذرة إِلَى أدنى أدنى أدنى من ذَلِك ثمَّ من لم يعْمل خيرا قطّ لال شَهَادَة السَّلَام فَوَجَبَ الْوُقُوف عِنْد هَذِه النُّصُوص كلهَا المفسرة للنَّص الْمُجْمل ثمَّ يُقَال أخبرونا عَمَّن لم يعْمل شرا قطّ إِلَّا اللمم وَمن هم بِالشَّرِّ فَلم يَفْعَله فَمن قَول أهل الْحق أَنه مغْفُور لَهُ جملَة بقوله تَعَالَى {إِلَّا اللمم} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تجَاوز لَا مَتى عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تخرجه بقول أَو عمل
(قَالَ أبومحمد) وَهَذَا يَنْقَسِم أقساماً أَحدهَا من هم بسيئة اى شئ كَانَت من السيئآت ثمَّ تَركهَا مُخْتَار الله تَعَالَى فَهَذَا تكْتب لَهُ حَسَنَة فَإِن تَركهَا مَغْلُوبًا لَا مُخْتَارًا لم تكْتب لَهُ حَسَنَة وَلَا سَيِّئَة تفضلاً من الله عز وَجل وَلَو عَملهَا كتبت لَهُ سَيِّئَة وَاحِدَة وَلَو هم بحسنة وَلَو يعملها كتبت لَهُ حَسَنَة وَاحِدَة وَإِن عَملهَا كتبت لَهُ عشر حَسَنَات وَهَذَا كُله نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ناظرت بعض المنكرين لهَذَا فَذهب إِلَى أَن الْهم بِالسَّيِّئَةِ إِصْرَار عَلَيْهَا فَقلت لَهُ(4/43)
هَذَا خطأ لِأَن الْإِصْرَار لَا يكون إِلَّا على مَا قد فعله الْمَرْء بعد تماد عَلَيْهِ أَن يَفْعَله وَأما من هم بِمَا لم يفعل بعد فَلَيْسَ إصراراً قَالَ الله تَعَالَى {وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} ثمَّ نسألهم عَمَّن عمل بالسيئات حاشا الْكَبَائِر عددا عَظِيما وَلم يَأْتِ كَبِيرَة قطّ وَمَات على ذَلِك أيجزون أَن يعذبه الله تَعَالَى على مَا عمل من السَّيِّئَات أم يَقُولُونَ أَنَّهَا مغفورة لَهُ وَلَا بُد فَإِن قَالُوا أَنَّهَا مغفورة ولابد صدقُوا وَكَانُوا قد خصوا قَوْله تَعَالَى وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَتركُوا حمل هَذِه الْآيَة على عمومها فَلَا ينكروا ذَلِك على من خصها أَيْضا بِنَصّ آخر وَإِن قَالُوا بل جَائِز أَن يعبهم الله تَعَالَى على ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى بقوله {أَن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} ونعوذ بِاللَّه من تَكْذِيب اله عز وَجل ثمَّ نسألهم عَمَّن عمل من الْكَبَائِر وَمَات عَلَيْهَا وَعمل حَسَنَات رجحت بكبائره عِنْد الموازنة أَيجوزُ أَن يعذبه الله تَعَالَى بِمَا عمل من تِلْكَ الْكَبَائِر أم مغفورة لَهُ سَاقِطَة عَنهُ فَإِن قَالُوا بل هِيَ مغفورة وساقطة عَنهُ صدقُوا أَو كَانُوا قد خصوا عُمُوم قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَجعلُوا هَؤُلَاءِ مِمَّن شَاءَ وَلَا بُد أَن يغْفر لَهُم وَإِن قَالُوا بل جايز أَن يعذبهم أكذبهم الله تَعَالَى بقوله {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} وَبِقَوْلِهِ {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ القَوْل فِيمَن تَسَاوَت حَسَنَاته وكبائره وهم أهل الْأَعْرَاف فَلَا يُعَذبُونَ أصلا فقد صَحَّ يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ الطَّبَقَات الْأَرْبَع هم الَّذين شَاءَ الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم بِلَا شكّ فَبَقيَ الَّذين لم يَشَاء الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم وَلم يبْق من الطَّبَقَات أحد إِلَّا من رجحت كبائره فِي الموازنة على حَسَنَاته فهم الَّذين يجاوزون بِقدر ذنوبهم ثمَّ يخرجُون من النَّار بالشفاعة وبرحمة الله عز وَجل فَقَالُوا من هَؤُلَاءِ من يغْفر الله تَعَالَى وَمِنْهُم من يعذبه قُلْنَا لَهُم أعندكم بِهَذَا الْبَيَان نَص وهم لَا يجدونه أبدا فَظهر تحكمهم بِلَا برهَان وخلافهم لجَمِيع الْآيَات الَّتِي تعلقوا بهَا فَإِنَّهُم مقرون على أَنَّهَا لَيست على عمومها بل هِيَ مَخْصُوصَة لِأَن الله تَعَالَى قَالَ إِن الله لَا يغْفر إِن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَلَا خلاف فِي أَنه تَعَالَى يغْفر الشّرك لمن آمن فصح أَنَّهَا مجملة تفسرها سَائِر الْآيَات وَالْأَخْبَار وَكَذَلِكَ حَدِيث عبَادَة خمس صلوَات كتبهن الله تَعَالَى على الْعباد من جَاءَ بِهن لم ينقص من حدودهن شَيْئا كَانَ لَهُ الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة وَمن لم يَأْتِ بِهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن شَاءَ غفر لَهُ وَإِن شَاءَ عذبه فَإِنَّهُم متفقون على أَن من جَاءَ بِهن لم ينتقص من حدودهن شَيْئا إِلَّا أَنه قتل وزنى وسرق فَإِنَّهُ قد يعذب وَيَقُولُونَ إِن لم يَأْتِ بِهن فَإِنَّهُ لَا يعذب على التَّأْبِيد بل يعذب ثمَّ يخرج عَن النَّار
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا ترك مِنْهُم أَيْضا لظَاهِر هَذَا الْخَبَر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا فرق بَين قَول الله تَعَالَى {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} وَبَين قَوْله {وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} كِلَاهُمَا خبر أَن جازإبطال أَحدهمَا جَازَ إبِْطَال ت الْأَرْبَع هم الَّذين شَاءَ الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم بِلَا شكّ فَبَقيَ الَّذين لم يَشَاء الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُم(4/44)
الآخر ومعاذ الله من هَذَا القَوْل وكذذلك قد منع الله تَعَالَى من هَذَا القَوْل بقوله تَعَالَى {لَا تختصموا لدي وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد مَا يُبدل القَوْل لدي وَمَا أَنا بظلام للعبيد} وَنحن نقُول أَن الله تَعَالَى يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَأَنه تَعَالَى يغْفر مَا دون الشّرك لمن يَشَاء وَأَن كل أحد فَهُوَ فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى إِلَّا أننا نقُول أَنه تَعَالَى قد بَين من يغْفر لَهُ وَمن يعذب وَإِن الموازين حق الموازنة حق الشَّفَاعَة حق وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان حَدثنَا أَحْمد بن عيد النصير حَدثنَا قَاسم بن أصبغ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الختنى حَدثنَا كحمد بن الْمثنى حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن خَالِد الْحذاء عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَول الله تَعَالَى {وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص} قَالَ مَا وعدوا فِيهِ من خير وَشر وَهَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا وَقد ادّعى قوم أَن خلاف الْوَعيد حسن عِنْد الْعَرَب وأنشدوا ... وَإِنِّي وَإِن واعدته وأوعدته
لمخلف ميعادي ومنجزه موعدي ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا شَيْء قد جعل فَخر صبي أَحمَق كَافِر حجَّة على الله تَعَالَى وَالْعرب تَفْخَر بالظلم قَالَ الراجز ... أَحْيَا أَبَاهُ هَاشم بن حر مله ... ترى الْمُلُوك حوله مغر لَهُ ... يقتل ذَا الذَّنب وَمن لَا ذَنْب لَهُ وَقد جعلت الْعَرَب مخلف الْوَعْد كَاذِبًا قَالَ الشَّاعِر أنْشدهُ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى ... أتوعدني وَرَاء بني رَبَاح ... كذبت لتقصرن يداك دوني ...
فَإِن قَالُوا خصوا وَعِيد الشّرك بالموازنة قُلْنَا لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى منع ذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأهل النَّار متناضلون فِي عَذَاب النَّار فأقلهم عذَابا أبوطالب فَإِنَّهُ تُوضَع جمرتان من نَار فِي أخمصيه إِلَى أَن يبلغ الْأَمر إللى قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} وَقَوله تَعَالَى {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَلَا يكون الأشد إِلَّا إِلَى جنب إِلَّا دون وَقَالَ تَعَالَى {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالْكفَّار معذذبون على الْمعاصِي الَّتِي عمِلُوا من غير الْكفْر برهَان ذَلِك قَول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} فنص تَعَالَى على أَن الْكفَّار يُعَذبُونَ على ترك الصَّلَاة وعَلى ترك الطَّعَام للمسكين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما من عمل مِنْهُم الْعتْق وَالصَّدَََقَة أَو نَحْو ذَلِك من أَعمال الْبر فحابط كل ذَلِك لِأَن الله عز وَجل قَالَ أَنه من مَاتَ وَهُوَ كَافِر حَبط عمله لَكِن لَا يعذب الله أحدا إِلَّا على مَا عمل لَا على مَا لم يعْمل قَالَ الله تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَلَمَّا كَانَ من لَا يطعم الْمِسْكِين من الْكفَّار يعذب على ذَلِك عذَابا زَائِدا فَالَّذِي أطْعم الْمِسْكِين مَعَ كفره لَا(4/45)
يعذب ذَلِك الْعَذَاب الزَّائِد فَهُوَ أقل عذَابا لِأَنَّهُ لم يعْمل من الشَّرّ مَا عمل من هُوَ أَشد عذَابا أَنه عمل خيرا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل كَافِر عمل خيرا وشراً ثمَّ أسلم فَإِن كل مَا عمل من خير مَكْتُوب مجازى بِهِ فِي الْجنَّة وَأما مَا عمل من شَرّ فَإِن تَابَ عَنهُ مَعَ تَوْبَته من الْكفْر سقط عَنهُ وَإِن تَمَادى عَلَيْهِ أَخذ بِمَا عمل فِي كفره وَبِمَا عمل فِي إِسْلَامه برهَان ذَلِك حَدِيث حكم بن حزَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يَا رَسُول الله أَشْيَاء كنت أتحنث بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة من عتق وَصدقَة وصلَة رحم فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسلمت على مَا سلف لَك من خير فَأخْبر أَنه خير وَأَنه لَهُ إِذا أسلم وَقَالَت لَهُ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا يَا رَسُول الله أَرَأَيْت ابْن جدعَان فَإِنَّهُ كَانَ يصل الرَّحِم ويقرى الضَّيْف أينفع ذَلِك قَالَ لَا لِأَنَّهُ لم يقل يَوْمًا رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم ينْتَفع بذلك لِأَنَّهُ لم يسلم فاتفقت الْأَخْبَار كلهَا على أَنه لَو أسلم لنفعه ذَلِك وَأما مؤاخذته بِمَا عمل فَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِنَصّ مَا قُلْنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قُلْنَاهُ فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} قُلْنَا إِنَّمَا هَذَا لمن مَاتَ مشر كافقط برهَان ذَلِك إِن الله تَعَالَى قَالَ {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَمن أسلم فَلَيْسَ من الخاسرين وَقد بَين ذَلِك بقوله {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} وَإِن اعْترضُوا فِيمَا قُلْنَا من الْمُؤَاخَذَة بِمَا عمل فِي الْكفْر بقوله تَعَالَى {قل للَّذين كفرُوا أَن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} قُلْنَا لَهُم هَذَا حجَّة لنا لِأَن من انْتهى عَن الْكفْر غفر لَهُ وَإِن انْتهى عَن الزِّنَا غفر لَهُ وَإِن لم ينْتَه عَن الزِّنَا لم يغْفر لَهُ فَإِنَّمَا يغْفر لَهُ عَمَّا انْتهى عَنهُ وَلم يغْفر لَهُ مَا لم ينْتَه عَنهُ وَلم يقل تَعَالَى أَن ينْتَهوا عَن الْكفْر يغْفر لَهُم سَائِر ذنوبهم وَالزِّيَادَة على الْآيَة كذب الله تَعَالَى وَهِي أَعمال مُتَغَايِرَة كَمَا ترى لَيست التَّوْبَة عَن بَعْضهَا تَوْبَة عَن سائرها فَلِكُل وَاحِد مِنْهَا حكم فَإِن ذكرُوا حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام يجب مَا قبله فقد قُلْنَا أَن الْإِسْلَام اسْم لجَمِيع الطَّاعَات فَمن أصر على الْمعْصِيَة فَلَيْسَ فعله فِي الْمعْصِيَة الَّتِي يتمادى عَلَيْهَا إسلاماً وَلَا إِيمَانًا كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن فصح أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان هُوَ جَمِيع الطَّاعَات فَإِذا أسلم من الْكفْر وَتَابَ من جَمِيع مَعَاصيه فَهُوَ الْإِسْلَام الَّذِي يجب مَا قبله وَإِذا لم يتب من مَعَاصيه فَلم يحسن فِي الْإِسْلَام فَهُوَ مَأْخُوذ بألاول والاآخر كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا تتفق الْأَحَادِيث وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَالْهجْرَة تجب مَا قبلهَا فقد صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن المُهَاجر من هجر مَا نَهَاهُ الله عَنهُ فَمن تَابَ من جَمِيع الْمعاصِي الَّتِي سلفت مِنْهُ فقد هجر مَا نَهَاهُ الله عَنهُ فَهَذِهِ هِيَ الْحُجْرَة الَّتِي تجب مَا قبلهَا وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَالْحج يجب مَا قبله فقد جَاءَ أَن الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا(4/46)
الْجنَّة فَهَذَا على الموازنة الَّتِي رَبنَا عز وَجل عَالم بمراتبها ومقاديرها وَإِنَّمَا تقف حَيْثُ وقفنا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واستدركنا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَاتل نَفسه حرم عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار مَعَ قَوْله من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه حرم عَلَيْهِ النَّار وَأوجب لَهُ الْجنَّة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فصح أَن كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُله وَحي من عِنْد الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح أَن مَا قَالَه رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن عِنْد الله تَعَالَى وَأَنه لَا اخْتِلَاف فِي شئ مِنْهُ وَأَنه كُله مُتَّفق عَلَيْهِ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب ضم هَذِه الْأَخْبَار بَعْضهَا إِلَى بعض فيلوح الْحق حِينَئِذٍ بحول الله وقوته فَمَعْنَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَاتِل حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار مَبْنِيّ على الموازنة فَإِن رجحت كَبِيرَة قَتله نَفسه على حَسَنَاته حرم الله عيله الْجنَّة حَتَّى يقْتَصّ مِنْهُ بالنَّار الَّتِي أوجبهَا الله تَعَالَى جَزَاء على فعله وبرهان هَذَا الحَدِيث الَّذِي أسلم وَهَاجَر مَعَ عَمْرو بن الحممة الدوسي ثمَّ قتل نَفسه لجراح جرح بِهِ فتألم بِهِ فَقطع عروق يَده فنزف حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال حَسَنَة الا يَده وذكرا قيل لَهُ لن يصلح مِنْك مَا افسدت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ وليديه فَاغْفِر وَمعنى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عَلَيْهِ النَّار وَأوجب لَهُ الْجنَّة فَهَذَا لَا يخْتَلف فِيهِ مسلمان أَنه لَيْسَ على ظَاهره مُنْفَردا لَكِن يضمه إِلَى غَيره من الْإِيمَان لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والبراءة من كل دين حاشا دين الْإِسْلَام وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَن الله عز وَجل أوجب لَهُ الْجنَّة وَلَا بُد إِمَّا بعد الاقتصاص وَإِمَّا دون الاقتصاص على مَا توجبه الموازنة وَحرم الله عَلَيْهِ أَن يخلد فِيهَا وَيكون من أَهلهَا القاطنين فِيهَا على مَا بَيْننَا قبل من قَوْله تَعَالَى {لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} {وَمَا تَفعلُوا من خير فَلَنْ تكفرُوا} وَقَوله تَعَالَى {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فنص الْآيَة أَنَّهَا فِي الْكفَّار هَكَذَا فِي نَص الْآيَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْكَفَّارَة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {أَن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْمحَال أَن يحرم الله تَعَالَى علينا أمرا وَيفرق بَين أَحْكَامه وَيجْعَل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً بِهِ إِن لم يجْتَنب الْبَعْض الآخر ثمَّ لَا يبين لنا المهلكات من غيرعا فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا قوما يَقُولُونَ أَن كل ذَنْب فَهُوَ كَبِيرَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ لِأَن نَص الْقُرْآن مفرق كَمَا قُلْنَا بَين الْكَبَائِر وَغَيرهَا وبالضرورة(4/47)
نَدْرِي أَنه لَا يُقَال كَبِيرَة إِلَّا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهَا والكبائر أَيْضا تتفاضل فالشرك أكبر مِمَّا دونه وَالْقَتْل أكبر من غَيره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا لَا يعذبان وَمَا يعذبان فِي كَبِير وَأَنه لكبير أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا يستبرئ من بَوْله وَأما الآخر فَكَانَ يمشي بالنميمة فَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُمَا كَبِير وَمَا هما بكبير وَهَذَا بَين لِأَنَّهُمَا كبيران بِالْإِضَافَة إِلَى الصفائر المغفورة باجتناب الْكَبَائِر ولبسا بكبيرين بِالْإِضَافَة إِلَى الْكفْر وَالْقَتْل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَبَطل القَوْل الْمَذْكُور فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا معرفَة الْكَبِير من الذُّنُوب مِمَّا لَيْسَ بكبير مِنْهَا لَا يعلم الْبَتَّةَ إِلَّا بِنَصّ وَأَرَادَ فِيهَا إِذْ هَذَا من أَحْكَام الله تَعَالَى الَّتِي لَا تعرف إِلَّا من عِنْده تَعَالَى فبحثنا عَن ذَلِك فَوَجَدنَا الله تَعَالَى قد نَص بالوعيد على ذنُوب فِي الْقُرْآن وعَلى لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجدنَا ذنوباً أخر لم ينص عَلَيْهَا بوعيد فَعلمنَا يَقِينا أَن كل مَا توعد الله تَعَالَى عَلَيْهِ بالنَّار أَو توعد عَلَيْهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّار فَهُوَ كَبِير وكل مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باستعظامه فَهُوَ كَبِير كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام اتَّقوا السَّبع الموبقات الشّرك وَالسحر وَالْقَتْل وَالزِّنَا وَذكر الحَدِيث وَكَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام عقوق الْوَالِدين من الْكَبَائِر وكل مَا لم يَأْتِ نَص باستعظامه وَلَا جَاءَ فِيهِ وَعِيد بالنَّار فَلَيْسَ بكبير وَلَا يُمكن أَن يكون الْوَعيد بالنَّار على الصَّغَائِر على انفرادها لِأَنَّهَا مغمورة باجتناب الْكَبَائِر فصح مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الموافاة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف المتكلمون فِي معنى عبروا عَنهُ بِلَفْظ الموافاة وهم أَنهم قَالُوا فِي إِنْسَان مُؤمن صَالح مُجْتَهد فِي الْعِبَادَة ثمَّ مَاتَ مُرْتَدا كَافِرًا وَآخر كَافِر متمردا وفاسق ثمَّ مَاتَ مُسلما نَائِبا كَيفَ كَانَ حكم كل وَاحِد مِنْهُمَا قبل أَن ينْتَقل إِلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عِنْد الله تَعَالَى فَذهب هِشَام ابْن عَمْرو والفوطي وَجَمِيع الأشعرية إِلَى أَن الله عز وَجل لم يزل رَاضِيا عَن الَّذِي مَاتَ مُسلما تَائِبًا وَلم يزل ساخط على الَّذِي مَاتَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر علمه وَلَا يرضى مَا سخط وَلَا يسْخط مَا رَضِي وَقَالَت الأشعرية الرِّضَا من الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر مِنْهُ تَعَالَى صِفَات الذَّات لَا يزولان وَلَا يتغيران وَذهب سَائِر الْمُسلمين إِلَى أَن الله عز وَجل كَانَ ساخطاً على الْكَافِر وَالْفَاسِق ثمَّ رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا أسلم الْكَافِر وَتَابَ الْفَاسِق وَأَنه كَانَ تَعَالَى رَاضِيا عَن الْمُسلم وَعَن الصَّالح ثمَّ سخط عَلَيْهِمَا إِذا كفر الْمُسلم وَفسق الصَّالح
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احتجاج الْأَشْعر بِهِ هَاهُنَا هُوَ احتجاج الْيَهُود فِي إبِْطَال النّسخ وَلَا فرق وَنحن نبين بطلَان احتجاجهم وَبطلَان قَوْلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد أما قَوْلهم عَن علم الله عز وَجل لَا يتَغَيَّر فَصَحِيح وَلَكِن معلوماته تَتَغَيَّر وَلم نقل أَن علمه يتَغَيَّر ومعاذ الله من هَذَا وَلم يزل علمه تَعَالَى وَاحِدًا يعلم كل شَيْء على تصرفه فِي جَمِيع حالاته فَلم(4/48)
يزل يعلم أَن زيدا سَيكون صَغِيرا ثمَّ شَابًّا ثمَّ كهلاً ثمَّ شَيخا ثمَّ مَيتا ثمَّ مَبْعُوثًا ثمَّ فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار وَلم يزل يعلم أَنه سيؤمن ثمَّ يكفر أَو أَنه يكفر ثمَّ يُؤمن أَو أَنه يكفر وَلَا يُؤمن أَو أَنه يُؤمن وَلَا يكفر وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْفسق وَالصَّلَاح ومعلوماته تَعَالَى فِي ذَلِك متغيرة مُخْتَلفَة وَمن كَابر هَذَا فقد كَابر العيان والمشاهدات وَأما قَوْلهم أَن الله تَعَالَى لَا يسْخط مَا رَضِي وَلَا يرضى مَا سخط فَبَاطِل وَكذب بل قد أَمر الله تَعَالَى الْيَهُود بصيانة السبت وَتَحْرِيم الشحوم وَرَضي لَهُم ذَلِك وَسخط مِنْهُم خِلَافه وَكَذَلِكَ أحل لنا الْخمر وَلم يلْزمنَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم بُرْهَة من زمن الْإِسْلَام وَرَضي لنا شرب الْخمر وَأكل رَمَضَان والبقاء بِلَا صَلَاة وَسخط تَعَالَى بِلَا شكّ الْمُبَادرَة بِتَحْرِيم ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} ثمَّ فرض علينا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَحرم علينا الْخمر فسخط لنا ترك الصَّلَاة وَأكل رَمَضَان وَشرب الْخمر وَرَضي لنا خلاف ذَلِك وَهَذَا لَا يُنكره مُسلم وَلم يزل الله تَعَالَى عليماً أَنه سيحل مَا كَانَ أحل من ذَلِك مُدَّة كَذَا وَأَنه سيرضى مِنْهُ ثمَّ أَنه سيحرمه ويسخطه وَأَنه سيحرم مَا حرم من ذَلِك ويسخطه مُدَّة ثمَّ أَنه يحله ويرضاه كَمَا علم عز وَجل أَنه سيحي من أَحْيَاهُ مُدَّة كَذَا وَأَنه يعز من أعزه مُدَّة ثمَّ يذله وَهَكَذَا جَمِيع مَا فِي الْعَالم من آثَار صَنعته عز وَجل لَا يخفى ذَلِك على من لَهُ أدنى حس وَهَكَذَا الْمُؤمن يَمُوت مُرْتَدا وَالْكَافِر يَمُوت مُسلما فَإِن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَنه سيسخطه فعل الْكَافِر مَا دَامَ كَافِرًا ثمَّ أَنه يرضى عَنهُ إِذا أسلم وَأَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَنه يرضى عَن أَفعَال الْمُسلم وأفعال الْبر ثمَّ أَنه يسْخط أَفعاله إِذا ارْتَدَّ أَو فسق وَنَصّ الْقُرْآن يشْهد بذلك قَالَ تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَأَن تشكروا يرضه لكم} فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى يرضى الشُّكْر مِمَّن شكره فِيمَا شكره وَلَا يرضى الْكفْر مِمَّن كفر إِذا كفر مَتى كفر كَيفَ كَانَ انْتِقَال هَذِه الْأَحْوَال من الْإِنْسَان الْوَاحِد وَقَوله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} فالبضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن لَا يُمكن أَن يحبط عمل إِلَّا وَقد كَانَ غير حابط وَمن الْمحَال أَن يحبط عمل لم يكن محسوباً قطّ فصح أَن عمل الْمُؤمن الَّذِي ارْتَدَّ ثمَّ مَاتَ كَافِر أَنه كَانَ محسوباً ثمَّ حَبط إِذا ارْتَدَّ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} فصح أَنه لَا يمحو إِلَّا مَا كَانَ قد كتبه وَمن الْمحَال أَن يمحى مَا لم يكن مَكْتُوبًا وَهَذَا بطلَان قَوْلهم يَقِينا وَللَّه الْحَمد وَكَذَلِكَ نَص قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} فَهَذَا نَص قَوْلنَا وَبطلَان قَوْلهم لِأَن الله تَعَالَى سمى أفعالهم الْمَاضِيَة سيئات والسيئات مذمومة عِنْده تَعَالَى بِلَا شكّ ثمَّ أخبر تَعَالَى أَنه أحالها وبدلها حَسَنَات مرضية فَمن أنكر هَذَا فَهُوَ مكذب لله تَعَالَى وَالله تَعَالَى مكذب لَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى أَنه سخط أكل آدم من الشَّجَرَة وَذَهَاب يُونُس مغاضباً ثمَّ أخبر عز وَجل أَنه تَابَ عَلَيْهِمَا واجتبى يُونُس بعد أَن لامه وَلَا يشك كل ذِي عقل أَن اللائمة غير الاجتباء(4/49)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نقُول لَهُم أَفِي الْكَافِر كفر إِذا كَانَ كَافِر قبل أَن يُؤمن وَفِي الْفَاسِق فسق قبل أَن يَتُوب وَفِي الْمُؤمن إِيمَان قبل أَن يرْتَد أم لَا فَإِن قَالُوا لَا كابروا وأحالوا وَإِن قَالُوا نعم قُلْنَا لَهُم فَهَل يسْخط الله الْكفْر وَالْفِسْق أَو يرضى عَنْهُمَا فَإِن قَالُوا بل يسخطهما تركُوا قَوْلهم وَإِن قَالُوا بل يرضى عَن الْكفْر وَالْفِسْق كفرُوا ونسألهم عَن قتل وحشى حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ إرضاء كَانَ لله تَعَالَى فَإِن قَالُوا نعم كفرُوا وَإِن قَالُوا بل مَا كَانَ إِلَّا سخطا سألناهم يؤاخذه الله تَعَالَى بِهِ إِذا أسلم فَمن قَوْلهم لَا وَهَكَذَا فِي كل حَسَنَة وسيئة فَظهر فَسَاد قَوْلهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم
الْكَلَام فِي من لم تبلغه الدعْوَة وَمن تَابَ عَن ذَنْب أَو كفر ثمَّ رَجَعَ فِيمَا تَابَ عَنهُ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ الله عز وَجل {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فنص تَعَالَى ذَلِك على أَن النذارة لَا تلْزم إِلَّا من بلغته لَا من تبلغه وَأَنه تَعَالَى لَا يعذب أحدا حَتَّى يَأْتِيهِ رَسُول من عِنْد الله عز وَجل فصح بذلك أَن من يبلغهُ الْإِسْلَام أصلا فَإِنَّهُ لَا عَذَاب عَلَيْهِ وَهَكَذَا جَاءَ النَّص عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالشيخ الخرف والأصلح الْأَصَم وَمن كَانَ فِي الفترة وَالْمَجْنُون فَيَقُول الْمَجْنُون يَا رب أَتَانِي الْإِسْلَام وَأَنا لَا أَعقل وَيَقُول الخرف والأصم وَالَّذِي فِي الفترة أَشْيَاء ذكرهَا فيوقد لَهُم نَارا وَيُقَال لَهُم ادخلوها فَمن دَخلهَا وجدهَا بردا وَسلَامًا وَكَذَلِكَ من لم يبلغهُ الْبَاب من وَاجِبَات الدّين فَإِنَّهُ مَعْذُور لَا ملامة عَلَيْهِ وَقد كَانَ جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم بِأَرْض الْحَبَشَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ وَالْقُرْآن ينزل والشرائع تشرع فَلَا يبلغ إِلَى جَعْفَر وَأَصْحَابه أصلا لإنقطاع الطَّرِيق جملَة من الْمَدِينَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَبِقَوْلِهِ كَذَلِك سِتّ سِنِين فَمَا ضرهم ذَلِك فِي ديتهم شَيْئا إِذْ عمِلُوا بالمحرم وَتركُوا الْمَفْرُوض
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَرَأَيْت قوما يذهبون إِلَى أَن الشَّرَائِع لَا تلْزم من كَانَ جَاهِلا بهَا وَلَا من لم تبلغه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا بَاطِل بل هِيَ لَازِمَة لَهُ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى الْإِنْس كلهم وَإِلَى الْجِنّ كلهم وَإِلَى كل من يُولد إِذْ بلغ بعد الْولادَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالَ تَعَالَى آمرا نبيه أَن يَقُول {إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} وَهَذَا عُمُوم لَا يجوز أَن يخص مِنْهُ أحد وَقَالَ تَعَالَى {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} فَأبْطل سُبْحَانَهُ أَن يكون أحد سدى والسدى هُوَ المهمل الَّذِي لَا يُؤمر وَلَا يُنْهِي فَأبْطل عز وَجل هَذَا الْأَمر وَلكنه مَعْذُور بجهله ومغيبه عَن الْمعرفَة فَقَط وَأَن من بلغه ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ مَا كَانَ من أقاصي الأَرْض فَفرض عَلَيْهِ الْبَحْث عَنهُ فَإِذا بلغته عَنهُ نذارته فَفرض عَلَيْهِ التَّصْدِيق بِهِ وَأَتْبَاعه وَطلب الدّين اللَّازِم لَهُ وَالْخُرُوج عَن وَطنه لذَلِك وَإِلَّا فقد اسْتحق الْكفْر وَالْخُلُود فِي النَّار وَالْعَذَاب بِنَصّ وَالْقُرْآن وكل مَا ذكرنَا يبطل قَول من قَالَ من الْخَوَارِج أَن فِي حِين بعث النَّبِي(4/50)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْزم من فِي أقاصي الأَرْض الْإِيمَان بِهِ وَمَعْرِفَة شرائعه فَإِن مَاتُوا فِي ذَلِك الْحَال مَاتُوا كفَّارًا إِلَى النَّار وَيبْطل هَذَا قَول الله عز وَجل {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَلَيْسَ فِي وسع أحد علم الْغَيْب فَإِن قَالُوا فَهَذِهِ حجَّة الطَّائِفَة القائلة أَنه لَا يلْزم أحد شَيْء من الشَّرَائِع حَتَّى تبلغه قُلْنَا لَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن كل مَا كلف النَّاس فَهُوَ فِي وسعهم وَاحْتِمَال بنيتهم إِلَّا أَنهم معذورون بمغيب ذَلِك عَنْهُم وَلم يكلفوا ذَلِك تكليفاً يُعَذبُونَ بِهِ إِن لم يفعلوه وَإِنَّمَا كلفوه تَكْلِيف من لَا يُعَذبُونَ حَتَّى يبلغهم وَمن بلغه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ أمرا من الحكم مُجملا وَلم يبلغهُ نَصه فَفرض عَلَيْهِ اجْتِهَاد نَفسه فِي طلب ذَلِك الْأَمر وَإِلَّا فَهُوَ عَاص لله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} وَأما من تَابَ عَن ذَنْب أَو كفر ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَا تَابَ عَنهُ فَإِنَّهُ إِن كَانَ تَوْبَته تِلْكَ وَهُوَ مُعْتَقد للعودة فَهُوَ عابث مستهزئ مخادع لله تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم} إِلَى قَوْله {عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون} وَأما من كَانَت تَوْبَته نصُوحًا ثَابت الْعَزِيمَة فِي أَن لَا يعود فَهِيَ تَوْبَة صَحِيحَة مَقْبُولَة بِلَا شكّ مسقطة لكل من تَابَ عَنهُ بِالنَّصِّ قَالَ عز وَجل {وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا} فَإِن عَاد بعد ذَلِك إِلَى الذَّنب الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَلَا يعود عَلَيْهِ ذَنْب قد عفره الله أبدا فَإِن ارْتَدَّ وَمَات كَافِرًا فقد سقط عمله وَالتَّوْبَة عمل فقد حبطت فَهَذَا يعود عَلَيْهِ مَا عمل خَاصَّة وَأما من رَاجع الْإِسْلَام وَمَات عَلَيْهِ فقد سقط عَنهُ الْكفْر وَغَيره
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا تكون التَّوْبَة إِلَّا بالندم وَالِاسْتِغْفَار وَترك المعاودة والعزيمة على ذَلِك وَالْخُرُوج من مظْلمَة إِن تَابَ عَنْهَا إِلَى صَاحبهَا بتحلل أَو إنصاف وَرَأَيْت لأبي بكر أَحْمد بن عَليّ بن يفجور الْمَعْرُوف بِابْن الأخشيد وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُعْتَزلَة وَكَانَ أَبوهُ من أَبنَاء مُلُوك فرغانة من الأتراك وَولى أَبوهُ الثغور وَكَانَ هَذَا أَبُو بكر ابْنه يتفقه للشَّافِعِيّ فَرَأَيْت لَهُ فِي بعض كتبه بقول أَن التَّوْبَة هِيَ النَّدَم فَقَط وَإِن لم ينْو مَعَ ذَلِك ترك الْمُرَاجَعَة لتِلْك الْكَبِيرَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا أشنع مَا يكون من قَول الْمُرَاجَعَة لِأَن كل مُعْتَقد لِلْإِسْلَامِ فبلا شكّ نَدْرِي أَنه نادم على كل ذَنْب يعمله عَالما بِأَنَّهُ مسيء فِيهِ مستفر مِنْهُ وَمن كَانَ بِخِلَاف هَذِه الصّفة وَكَانَ مستحسناً لما فعل غير نادم عَلَيْهِ فَلَيْسَ مُسلما فَكل صَاحب كَبِيرَة فَهُوَ على قَول ابْن الأخشيد غير مؤاخذ بهَا لِأَنَّهُ تائب مِنْهَا وَهَذَا خلاف الْوَعيد فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّكُم تقطعون على قبُول إِيمَان الْمُؤمن أفتقطعون على قبُول تَوْبَة التائب وَعمل الْعَامِل للخير أَن كل ذَلِك مَقْبُول وَهل تقطعون على المكثر من السَّيِّئَات أَنه فِي النَّار قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْأَعْمَال لَهَا شُرُوط من تَوْفِيَة النِّيَّة حَقّهَا وتوفية الْعَمَل حَقه فَلَو أيقنا أَن الْعَمَل وَقع كَامِلا كَمَا أَمر الله(4/51)
تَعَالَى لقطعنا قبُول الله عز وَجل لَهُ وَأما التَّوْبَة فَإِذا وَقعت نصُوحًا فَنحْن نقطع بقبولها وَأما الْقطع على مظهر الْخَيْر بِأَنَّهُ فِي الْجنَّة وعَلى مظهر الشَّرّ والمعاصي بِأَنَّهُ فِي النَّار فَهَذَا خطأ لأننا لَا نعلم مَا فِي التفوس وَلَعَلَّ الْمظهر لخير مبطن للكفر أَو مبطن على كَبَائِر لَا نعلمها فَوَاجِب أَن لَا نقطع من أجل ذَلِك عَلَيْهِ بِشَيْء وَكَذَلِكَ الْمُعْلن بالكبائر فَإِنَّهُ يُمكن أَن يبطن الْكفْر فِي بَاطِن أمره فَإِذا قرب من الْمَوْت آمن فَاسْتحقَّ الْجنَّة أَو لَعَلَّ لَهُ حَسَنَات فِي بَاطِن أمره تفيء على سيئاته فَيكون من أهل الْجنَّة فَلهَذَا وَجب أَن لَا نقطع على أحد بِعَيْنِه بجنة وَلَا نَار حاشا من جَاءَ النَّص فِيهِ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِأَنَّهُم فِي الْجنَّة وَبِأَن الله علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَأهل بدر وَأهل السوابق فَإنَّا نقطع على هَؤُلَاءِ بِالْجنَّةِ لِأَن الله تَعَالَى أخبرنَا بذلك على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا من مَاتَ مُعْلنا للكفر فَإنَّا نقطع عَلَيْهِ بالنَّار ونقف فِيمَن عدا هَؤُلَاءِ إِلَّا أننا نقطع على الصِّفَات فَنَقُول من مَاتَ مُعْلنا الْكفْر أَو مبطناً لَهُ فَهُوَ فِي النَّار خادلا فِيهَا وَمن لَقِي الله تَعَالَى رَاجِح الْحَسَنَات على السَّيِّئَات والكبائر أَو متساويهما فَهُوَ فِي الْجنَّة لَا يعذب بالنَّار وَمن لقى الله تَعَالَى رَاجِح الْكَبَائِر على الْحَسَنَات فَفِي النَّار وَيخرج مِنْهَا بالشفاعة إِلَى الْجنَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَأَيْت بعض أَصْحَابنَا يذهب إِلَى شَيْء يُسَمِّيه شَاهد الْحَال وَهُوَ أَن من كَانَ مظهر الشَّيْء من الديانَات متحملاً للأذى فِيهِ غير مستجلب بِمَا يلقِي من ذَلِك حَالا فَإِنَّهُ مَقْطُوع على بَاطِنه وَظَاهره قطعا لَا شكّ فِيهِ كعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين وَمن جرى مجراهم مِمَّن قبلهم أَو مَعَهم أَو بعدهمْ فَإِن هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم رفضوا من الدُّنْيَا مَا لَو استعملوه لما حط من وجاهتهم شَيْئا وَاحْتَملُوا من المضض مَا لَو خففوه عَن أنفسهم لم يقْدَح ذَلِك فيهم عِنْد أحد فَهَؤُلَاءِ مَقْطُوع على إسْلَامهمْ عِنْد الله عز وَجل وعَلى خَيرهمْ وفضلهم وَكَذَلِكَ نقطع على أَن عمر بن عبيد كَانَ يدين بأبطال الْقدر بِلَا شكّ فِي بَاطِن أمره وَأَن أَبَا حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا فِي بَاطِن أَمرهمَا يدينان لله تَعَالَى بِالْقِيَاسِ وَأَن دَاوُد بن عَليّ كَانَ فِي بَاطِن الْأَمر يدين الله تَعَالَى بِإِبْطَال الْقيَاس بِلَا شكّ وَإِن أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي اله عَنهُ كَانَ يدين الله تَعَالَى بالتدين بِالْحَدِيثِ فِي بَاطِن أمره بِلَا شكّ بِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق بِلَا شكّ وَهَكَذَا كل من تناصرت أَحْوَاله وَظهر جده فِي مُعْتَقد وَترك الْمُسَامحَة فِيهِ وَاحْتمل الْأَذَى والمضض من أَجله
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا قَول صَحِيح لَا شكّ فِيهِ إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي بنية الطبائع أَن يحْتَمل أحد أَذَى ومشقة لغير فَائِدَة يتعجلها أَو يتأجلها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَا بُد لكل ذِي عقد من أَن يتَبَيَّن عَلَيْهِ شَاهد عقده بِمَا يَبْدُو مِنْهُ من مُسَامَحَة فِيهِ أَو صَبر عَلَيْهِ وَأما من كَانَ بِغَيْر الصّفة فَلَا نقطع عقده وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق(4/52)
الْكَلَام فِي الشَّفَاعَة وَالْمِيزَان والحوض وَعَذَاب الْقَبْر والكتبة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي الشَّفَاعَة فأنكرها قوم وَهُوَ الْمُعْتَزلَة والخوارج وكل من تبع أَن لَا يخرج أحد من النَّار بعد دُخُوله فِيهَا وَذهب أهل السّنة والأشعرية والكرامية وَبَعض الرافضة إِلَى القَوْل بالشفاعة وَاحْتج المانعون بقول الله عز وَجل {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضراً وَلَا رشدا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لنا من شافعين وَلَا صديق حميم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَول من يُؤمن بالشفاعة أَنه لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعض الْقُرْآن دون بعض وَلَا على بعض السّنَن دون بعض وَلَا على الْقُرْآن دون بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قَالَ لَهُ ربه عز وَجل {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد نَص الله تَعَالَى على صِحَة الشَّفَاعَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ تَعَالَى {لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} فَأوجب عز وَجل الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْده عهدا بالشفاعة وَصحت بذلك الْأَخْبَار المتواترة المتناصرة بِنَقْل الكواف لَهَا قَالَ تَعَالَى {يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ} فنص تَعَالَى على أَن الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة تَنْفَع عِنْده عز وَجل مِمَّن أذن لَهُ فِيهَا وَرَضي قَوْله وَلَا أحد من النَّاس أولى بذلك من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أفضل ولد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ تَعَالَى {من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ} {وَكم من ملك فِي السَّمَاوَات لَا تغنى شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه} فقد صحت الشَّفَاعَة بِنَصّ الْقُرْآن الَّذِي يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه فصح يَقِينا أَن الشَّفَاعَة الَّتِي أبطلها الله عز وَجل هِيَ غير الشَّفَاعَة الَّتِي أثبتها عز وَجل وَإِذ لَا شكّ فِي ذَلِك فالشفاعة الَّتِي أبطل عز وَجل هِيَ الشَّفَاعَة للْكفَّار الَّذين هم مخلدون فِي النَّار قَالَ تَعَالَى لَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا وَلَا يقْضِي عَلَيْهِم فيموتوا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا فَإذْ لَا شكّ فِيهِ فقد صَحَّ يَقِينا أَن الشَّفَاعَة الَّتِي أوجب الله عز وَجل لمن أذن لَهُ واتخذه عِنْده عهدا وَرَضي قَوْله فَإِنَّمَا هِيَ لمذنبي أهل الْإِسْلَام وَهَكَذَا جَاءَ الْخَبَر الثَّابِت
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وهما شفاعتان أَحدهمَا الْموقف وَهُوَ الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي جَاءَ النَّص فِي الْقُرْآن بِهِ فِي قَوْله {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} وَهَكَذَا جَاءَ الْخَبَر الثَّابِت نصا(4/53)
والشفاعة الثَّانِيَة فِي إِخْرَاج أهل الْكَبَائِر من النَّار طبقَة طبقية على مَا صَحَّ فِي ذَلِك الْخَبَر وَأما قَول الله تَعَالَى {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضراً وَلَا رشدا} {لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا} فَمَا خالفناهم فِي هَذَا أصلا وَلَيْسَ هَذَا من الشَّفَاعَة فِي شَيْء فَنعم لَا يملك لأحد نفعا وَلَا ضراً وَلَا رشدا وَلَا هدى وَإِنَّمَا الشَّفَاعَة رَغْبَة إِلَى الله تَعَالَى وضراعة وَدُعَاء وَقَالَ بعض منكري الشَّفَاعَة أَن الشَّفَاعَة لَيْسَ إِلَّا فِي الْمُحْسِنِينَ فَقَط وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن من أذن الله فِي إِخْرَاجه من النَّار وَأدْخلهُ الْجنَّة وَأذن للشافع فِي الشَّفَاعَة لَهُ فِي ذَلِك فقد ارْتَضَاهُ وَهَذَا حق وَفضل لله تَعَالَى على من قد غفر لَهُ ذنُوبه بِأَن رجحت حَسَنَاته على كبائره أَو بِأَن لم تكن لَهُ كَبِيرَة أَو بِأَن تَابَ عَنْهَا فَهُوَ مغن لَهُ عَن شَفَاعَة كل شَافِع فقد حصلت لَهُ الرَّحْمَة والفوز من الله تَعَالَى وَأمر بِهِ إِلَى الْجنَّة ففيماذا يشفع لَهُ وَإِنَّمَا الْفَقِير إِلَى الشَّفَاعَة من غلبت كبائره حَسَنَاته فَأدْخل النَّار وَلم يَأْذَن تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا إِلَّا بالشفاعة وَكَذَلِكَ الْخلق فِي كَونهم فِي الْموقف هم أَيْضا فِي مقَام شنيع فهم أَيْضا محتاجون إِلَى الشَّفَاعَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِمَا صحت الْأَخْبَار من ذَلِك نقُول
وَأما الْمِيزَان فقد أنكروه قوم فخالفوا كَلَام الله تَعَالَى جرْأَة وإقداماً وتنطع آخَرُونَ فَقَالُوا هُوَ ميزَان بكفتين من ذهب وَهَذَا إقدام آخر لَا يحل قَالَ الله عز وَجل {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأُمُور الْآخِرَة لَا تعلم إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن أَو بِمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَأْتِ عَنهُ عَلَيْهِ وَالسَّلَام شَيْء يَصح فِي صفة الْمِيزَان وَلَو صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك شَيْء لقلناه بِهِ فَإذْ لَا يَصح عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك شَيْء فَلَا يحل لأحد أَن يَقُول على الله عز وَجل مَا لم يخبرنا بِهِ لَكِن نقُول كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} إِلَى قَوْله {وَكفى بِنَا حاسبين} وَقَالَ تَعَالَى {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية وَأما من خفت مَوَازِينه فأمه هاوية} فنقطع على الموازين أَن تُوضَع يَوْم الْقِيَامَة لوزن أَعمال الْعباد قَالَ تَعَالَى عَن الْكفَّار {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} وَلَيْسَ هَذَا على أَن لَا توزن أَعْمَالهم بل توزن لَكِن أَعْمَالهم شَائِلَة وموازينهم خفاف قد نَص الله تَعَالَى على ذَلِك إِ يَقُول {وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} إِلَى قَوْله {فكنتم بهَا تكذبون} فَأخْبر عز وَجل أَن هَؤُلَاءِ المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيَات الله عز وَجل كفار بِلَا شكّ ونقطع على أَن تِلْكَ الموازين أَشْيَاء يبين الله عز وَجل بهَا لِعِبَادِهِ مقادير أَعْمَالهم من خير أَو شَرّ من مِقْدَار الذّرة الَّتِي لَا تحس وَزنهَا فِي موازيننا أصلا فَمَا زَاد وَلَا نَدْرِي كَيفَ تِلْكَ الموازين إِلَّا أننا نَدْرِي أَنَّهَا بِخِلَاف مَوَازِين الدُّنْيَا وَأَن ميزَان من تصدق بِدِينَار أَو بلؤلؤة أثقل مِمَّن تصدق بكذآنة(4/54)
وَلَيْسَ هَذَا وزنا وندري أَن إِثْم الْقَاتِل أعظم من إِثْم اللاطم وَأَن ميزَان مصلي الْفَرِيضَة أعظم من ميزَان مصلي التَّطَوُّع بل بعض الْفَرَائِض أعظم من بعض فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة كمن قَامَ لَيْلَة وَمن صلى الْعَتَمَة فِي جمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نصف لَيْلَة وَكِلَاهُمَا فرض وَهَكَذَا جَمِيع الْأَعْمَال فَإِنَّمَا يُوزن عمل العَبْد خَيره مَعَ شَره وَلَو نصح الْمُعْتَزلَة أنفسهم لعلموا أَن هَذَا عين الْعدْل وَأما من قَالَ بِمَا لَا يدْرِي أَن ذَلِك الْمِيزَان ذُو كفتين فَإِنَّمَا قَالَه قِيَاسا على مَوَازِين الدُّنْيَا وَقد أَخطَأ فِي قِيَاسه إِذْ فِي مَوَازِين الدُّنْيَا مَالا كفة لَهُ كالقرسطون وَأما نَحن فَإِنَّمَا اتَّبعنَا النُّصُوص الْوَارِدَة فِي ذَلِك فَقَط وَلَا نقُول إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا ننكر إِلَّا مَا لم يَأْتِ فيهمَا وَلَا نكذب إِلَّا بِمَا فيهمَا إِبْطَاله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما الْحَوْض فقد صحت الْآثَار فِيهِ وَهُوَ كَرَامَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن ورد عَلَيْهِ من أمته وَلَا نَدْرِي لمن أنكرهُ مُتَعَلقا وَلَا يجوز مُخَالفَة مَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا وَغَيره وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما الصِّرَاط فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب الأول الَّذِي قبل هَذَا وَأَنه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يوضع الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم ويمر عَلَيْهِ النَّاس فمخدوش وناج ومكردس فِي نَار جَهَنَّم وَأَن النَّاس يَمرونَ عَلَيْهِ على قدر أَعْمَالهم كمر الطّرف فَمَا دون لَك إِلَى من يَقع فِي النَّار وَهُوَ طَرِيق أهل الْجنَّة إِلَيْهَا من الْمَحْشَر فِي الأَرْض إِلَى السَّمَاء وَهُوَ معنى قَول الله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها كَانَ على رَبك حتما مقضيا ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثياً} وَأما كتاب الْمَلَائِكَة لأعمالنا فَحق قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن عَلَيْكُم لحافظين كراماً كاتبين} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتابا يلقاه منشوراً اقْرَأ كتابك} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام إِلَّا أَنه لَا يعلم أحد من النَّاس كَيْفيَّة ذَلِك الْكتاب
عَذَاب الْقَبْر قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب ضرار بن عَمْرو الْغَطَفَانِي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة إِلَى إِنْكَار(4/55)
عَذَاب الْقَبْر وَهُوَ قَول من لَقينَا من الْخَوَارِج وَذهب أهل السّنة وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجبائي وَسَائِر الْمُعْتَزلَة إِلَى القَوْل بِهِ وَبِه نقُول لصِحَّة الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد احْتج من أنكرهُ بقول الله تَعَالَى {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم} الْآيَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا حق لَا يدْفع عَذَاب الْقَبْر لِأَن فتْنَة الْقَبْر وعذابه وَالْمَسْأَلَة إِنَّمَا هِيَ للروح فَقَط بعد فِرَاقه للجسد إِثْر ذَلِك قبر أَو لم يقبر برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم} الْآيَة وَهَذَا قبل الْقِيَامَة بِلَا شكّ وَأثر الْمَوْت وَهَذَا عَذَاب الْقَبْر وَقَالَ {وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة} وَقَالَ الله تَعَالَى فِي آل فِرْعَوْن {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدواً وعشياً وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} فَهَذَا الْعرض المكور هُوَ عَذَاب الْقَبْر وَإِنَّمَا قيل عَذَاب الْقَبْر فأضيف إِلَى الْقَبْر لِأَن الْمَعْهُود فِي أَكثر الْمَوْتَى أَنهم يقبرون وَقد علمنَا أَن فيهم أكيل السَّبع والغريق تَأْكُله دَوَاب الْبَحْر والمحرق والمصلوب وَالْمُعَلّق فَلَو كَانَ على مَا يقدر من يظنّ أَنه لاعذاب إِلَّا فِي الْقَبْر الْمَعْهُود لما كَانَ هَؤُلَاءِ فتْنَة وَلَا عَذَاب قبر وَلَا مَسْأَلَة ونعوذ بِاللَّه من هَذَا بل كل ميت فَلَا بُد من فتْنَة وسؤال وَبعد ذَلِك سرُور أَو نكد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَيُوَفَّوْنَ حِينَئِذٍ أُجُورهم وينقلبون إِلَى الْجنَّة أَو النَّار وَأَيْضًا فَإِن جَسَد كل إِنْسَان فَلَا بُد من الْعود إِلَى التُّرَاب يَوْمًا مَا كَمَا قَالَ اله تَعَالَى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى} فَكل من ذكرنَا من مصلوب أَو مُعَلّق أَو محرق أَو أكيل سبع أَو دَابَّة فَإِنَّهُ يعود رَمَادا أَو رجيعا أَو يتقطع فَيَعُود إِلَى الأَرْض وَلَا بُد وكل مَكَان اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النَّفس أثر خُرُوجهَا من الْجَسَد فَهُوَ قبر لَهَا إِلَى يَوْم اليقيامة وَأما من ظن أَن الْمَيِّت يحيى فِي قَبره فخطأ لِأَن الْآيَات الَّتِي ذكرنَا تمنع من ذَلِك وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ تَعَالَى قد أماتنا ثَلَاثًا وَأَحْيَانا ثَلَاثًا وَهَذَا بَاطِل وَخلاف الْقُرْآن إِلَّا من أَحْيَاهُ الله تَعَالَى آيَة لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء {الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم} {كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على عروشها قَالَ إِنِّي يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه} وَكَذَلِكَ الله قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} إِلَى قَوْله {إِلَى أجل مُسَمّى} فصح بِنَصّ الْقُرْآن أَن روح من مَاتَ لَا يرجع إِلَى جسده إِلَّا إِلَى أجل مُسَمّى وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْأَرْوَاح لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا عَن يَمِين آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَرْوَاح أهل السَّعَادَة وَعَن شِمَاله أَرْوَاح أهل الشَّقَاء وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر إِذْ خَاطب الْقَتْلَى وَأخْبر أَنهم وجدوا مَا توعدهم بِهِ حَقًا قبل أَن يكون لَهُم قُبُور فَقَالَ الْمُسلمُونَ يَا رَسُول الله أتخاطب قوما قد جيفوا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم فَلم يُنكر عَلَيْهِ السَّلَام على الْمُسلمين قَوْلهم أَنهم قد جيفوا وأعلمهم أَنهم سامعون فصح أَن ذَلِك لأرواحهم فَقَط بِلَا شكّ وَأما الْجَسَد فَلَا حس لَهُ(4/56)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلم يَأْتِ قطّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر يَصح أَن أَرْوَاح الْمَوْتَى ترد إِلَى أَجْسَادهم عِنْد الْمَسْأَلَة وَلَو صَحَّ ذَلِك عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام لقلنا بِهِ فَإذْ لَا يَصح فَلَا يحل لأحد أَن يَقُوله وَإِنَّمَا انْفَرد بِهَذِهِ الزِّيَادَة من رد الْأَرْوَاح الْمنْهَال بن عَمْرو وَحده وَلَيْسَ بالقوى تَركه شُعْبَة وَغَيره وَسَائِر الْأَخْبَار الثَّابِتَة على خلاف ذَلِك وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ الَّذِي صَحَّ أَيْضا عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يَصح عَن أحد مِنْهُم غير مَا قُلْنَا كَمَا حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق حَدثنَا عِيسَى بن حبيب حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن جده مُحَمَّد بن عبد الله عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة عَن أمه صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت دخل ابْن عمر الْمَسْجِد فأبصر ابْن الزبير مرطوحا قبل أَن يصلب فَقيل لَهُ هَذِه أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق فَمَال إِلَيْهَا فعزاها وَقَالَ أَن هَذِه الجثث لَيست بِشَيْء وَأَن الْأَرْوَاح عِنْد الله فَقَالَت أَسمَاء وَمَا يَمْنعنِي وَقد أهْدى رَأس يحيى بن زَكَرِيَّا إِلَى بغي من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل وَحدثنَا مُحَمَّد بن بَيَان ثَنَا أَحْمد بن عون الله حَدثنَا قَاسم بن أصبغ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْحُسَيْنِي ثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن المثني الزَّمن ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود فِي قَول الله عز وَجل {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} قَالَ ابْن مَسْعُود هِيَ الَّتِي فِي الْبَقَرَة {وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فَهَذَا ابْن مَسْعُود وَأَسْمَاء بنت أبي بكر الصّديق وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَلَا مُخَالف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تقطع أَسمَاء وَابْن عمر على أَن الْأَرْوَاح بَاقِيَة عِنْد الله وَأَن الجثث لَيست بِشَيْء وَيقطع ابْن مَسْعُود بِأَن الْحَيَاة مَرَّتَانِ والوفاة كَذَلِك وَهَذَا قَوْلنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَائِما فِي قَبره يُصَلِّي لَيْلَة الْإِسْرَاء وَأخْبر أَنه رَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة أَو السَّابِعَة وَبلا شكّ إِنَّمَا رأى روحه وَأما جسده فتوارى بِالتُّرَابِ بِلَا شكّ فعلى هَذَا أَن مَوضِع كل روح يُسمى قبراً فتعذب الْأَرْوَاح حِينَئِذٍ وَلَا تسْأَل حَيْثُ كَانَت وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
مُسْتَقر الْأَرْوَاح (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح وَقد ذكرنَا بطلَان قَول أَصْحَاب التناسخ فِي صدر كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَذهب قوم من الروافض إِلَى أَن أَرْوَاح الْكفَّار ببرهوت وَهُوَ بِئْر بحضرموت وَأَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بِموضع آخر أَظُنهُ الْجَابِيَة وَهَذَا قَول فَاسد لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ أصلا وَمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ سَاقِط وَلَا يعجز أحد عَن أَن يَدعِي للأرواح مَكَانا آخر غير مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يدين بِهِ إِلَّا مخذول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَذهب عوام أَصْحَاب الحَدِيث إِلَى أَن الْأَرْوَاح على أفنية قبورها وَهَذَا قَول لَا حجَّة لَهُ أصلا تصححه إِلَّا خبر ضَعِيف لَا يحْتَج بِمثلِهِ لِأَنَّهُ فِي غَايَة السُّقُوط لَا يشْتَغل بِهِ أحد من عُلَمَاء الحَدِيث وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط أَيْضا وَذهب أَبُو الْهُذيْل العلاف والأشعرية(4/57)
إِلَى أَن الْأَرْوَاح أَعْرَاض تفنى وَلَا تبقى وَقْتَيْنِ فَإِذا مَاتَ الْمَيِّت فَلَا روح هُنَالك أصلا وَمن عجائب أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة الْفَاسِدَة قَوْلهم أَن روح الْإِنْسَان الْآن غير روحه قبل ذَلِك وَأَنه لَا يَنْفَكّ تحدث لَهُ روح ثمَّ تفنى ثمَّ روح ثمَّ تفني وَهَكَذَا أبدا وَإِن الْإِنْسَان يُبدل ألف ألف روح وَأكْثر فِي مِقْدَار أقل من سَاعَة زمانية وَهَذَا يشبه تَخْلِيط من هاج بِهِ البرسام وَزَاد بَعضهم فَقَالَ إِن صحت الْآثَار فِي عَذَاب الْأَرْوَاح فَإِن الْحَيَاة ترد إِلَى أقل جُزْء لَا يتَجَزَّأ من الْجِسْم فَهُوَ يعذب وَهَذَا أَيْضا حمق آخر ودعاوي فِي غَايَة الْفساد وَبَلغنِي عَن بَعضهم انه يزْعم أَن الْحَيَاة ترد إِلَى عجب الذَّنب فَهُوَ يعذب أَو ينعم وَتعلق بِالْحَدِيثِ الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب مِنْهُ خلق وَفِيه يركب
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا الْخَبَر صَحِيح إِلَّا أَنه لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَن عجب الذَّنب يحيا وَلَا أَنه يركب فِيهِ حَيَاة وَلَا أَنه يعذب وَلَا ينْتَقم وَهَذَا كُله مفحم فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث أَن عجب الذَّنب خَاصَّة لَا يَأْكُلهُ التُّرَاب فَلَا يحول تُرَابا وَأَنه مِنْهُ ابْتِدَاء خلق الْمَرْء وَمِنْه يبتدأ إنشاؤه ثَانِيَة فَقَط وَهَذَا خَارج أحسن خُرُوج على ظَاهره وَأَن عجب الذَّنب خَاصَّة تتبدد أجزاؤه وَهِي عِظَام تحسها لَا تحول تُرَابا وَأَن الله تَعَالَى بيتدىء الْإِنْشَاء الثَّانِي يجمعها ثمَّ يركب تَمام الْخلق للْإنْسَان عَلَيْهِ وَأَنه أول مَا خلق من جسم الْإِنْسَان ثمَّ ركب عَلَيْهِ سائره وَإِذ هَذَا مُمكن لَو لم يَأْتِ بِهِ نَص فخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق بالتصديق من كل خبر لِأَنَّهُ عَن الله عز وَجل قَالَ تَعَالَى {هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم} وَقَالَ تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} وَقَالَ أَبُو بكر بن كيسَان الْأَصَم لَا أَدْرِي مَا الرّوح وَلم يثبت شَيْء غير الْجَسَد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وسنبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَسَاد هَاتين المقالتين فِي بَاب الْكَلَام فِي الرّوح وَالنَّفس من كتَابنَا هَذَا بحول الله وقوته وَالَّذِي نقُول بِهِ فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح هُوَ مَا قَالَه تَعَالَى وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتعداه فَهُوَ الْبُرْهَان الْوَاضِح وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا} فصح أَن الله عز وَجل خلق الْأَرْوَاح جملَة وَهِي الْأَنْفس وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهِي الْعَاقِلَة الحساسة وَأخذ عز وَجل عهدها وشهادتها وَهِي مخلوقة مصورة عَاقِلَة قبل أَن يَأْمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم على جَمِيعهم السَّلَام وَقبل أَن يدخلهَا فِي الأجساد والأجساد يَوْمئِذٍ تُرَاب وَمَاء ثمَّ أقرها تَعَالَى حَيْثُ شَاءَ لِأَن الله تَعَالَى ذكر ذَلِك بِلَفْظَة ثمَّ الَّتِي توجب التعقيب والمهلة ثمَّ أقرها عز وَجل حَيْثُ شَاءَ وَهُوَ البرزخ الَّذِي ترجع إِلَيْهِ عِنْد(4/58)
الْمَوْت لَا تزَال يبْعَث منهاجملة بعد الْجُمْلَة فينفخها فِي الأجساد المتولدة من الْمَنِيّ المتحدر من أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {الم يَك نُطْفَة من مني يمنى ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى} وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاماً} الْآيَة وَكَذَلِكَ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجمع خلق ابْن آدم فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله فيبلوهم الله عز وَجل فِي الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ ثمَّ يتوفاها فترجع إِلَى البرزخ الَّذِي رَآهَا فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرى بِهِ عِنْد سَمَاء الدُّنْيَا أَرْوَاح أهل السَّعَادَة عَن يَمِين آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وأرواح أهل الشقاوة وَعَن يسَاره عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ عِنْد مُنْقَطع العناصر وتعجل أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأرواح الشُّهَدَاء إِلَى الْجنَّة وَقد ذكر مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه ذكر هَذَا القَوْل الَّذِي قُلْنَاهُ بِعَيْنِه وَقَالَ على هَذَا أجمع أهل الْعلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهُوَ قَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام حَتَّى خَالف من ذكرنَا وَهَذَا هُوَ قَول الله عز وَجل {فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم} وَقَوله تَعَالَى {وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم وتصلية جحيم إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} وَلَا تزَال الْأَرْوَاح هُنَالك حَتَّى يتم عدد الْأَرْوَاح كلهَا بنفخها فِي أجسادها ثمَّ برجوعها إِلَى البرزخ الْمَذْكُور فتقوم السَّاعَة وَيُعِيد عز وَجل الْأَرْوَاح ثَانِيَة إِلَى الأجساد وَهِي الْحَيَاة الثَّانِيَة وَيُحَاسب الْخلق فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير مخلدين أبدا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَول بعض الأشعرية معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَهْد الْمَأْخُوذ فِي قَول الله عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم} إِن إِذْ هَاهُنَا بِمَعْنى إِذا فَقَوْل فِي غَايَة السُّقُوط لوُجُوده خَمْسَة أَولهَا أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَالثَّانيَِة أَن إِذا بِمَعْنى إِذا لَا يعرف فِي اللُّغَة وَثَالِثهَا أَنه لَو صَحَّ لَهُ تَأْوِيله هَذَا الْفَاسِد وَهُوَ لَا يَصح لَكَانَ كلَاما لَا يعقل وَلَا يفهم وَإِنَّمَا أوردهُ عز وَجل حجَّة علينا وَلَا يحْتَج الله عز وَجل إِلَّا بِمَا يفهم لَا بِمَا لَا يفهم لِأَن الله تَعَالَى قد تطول علينا بِإِسْقَاط الأصر عَنَّا وَلَا إصر أعظم من تكليفنا فهم مَا لَيْسَ فِي بنيتنا فهمه وَرَابِعهَا أَنه لَو كَانَ كَمَا ادّعى لما كَانَ على ظهر الأَرْض إِلَّا مُؤمن والعيان يبطل هَذَا لأننا نشاهد كثيرا من النَّاس لم يَقُولُوا قطّ رَبنَا الله مِمَّن نَشأ على الْكفْر وَولدت عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتَ وَمِمَّنْ يَقُول بِأَن الْعَالم لم يزل وَلَا مُحدث لَهُ من الْأَوَائِل والمتأخرين وخامسها أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أخبر بِهَذِهِ الْآيَة عَمَّا فعل ودلنا على أَن الذّكر يعود بعد فِرَاق الرّوح للجسد كَمَا كَانَ قبل حُلُوله فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبرنَا أَنه أَقَامَ علينا الْحجَّة بذلك الْإِشْهَاد(4/59)
دَلِيلا كَرَاهِيَة أَن نقُول يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين أَي عَن ذَلِك الْإِشْهَاد الْمَذْكُور فصح أَن ذَلِك الْإِشْهَاد قبل هَذِه الدَّار الَّتِي نَحن فِيهَا الَّتِي أخبرنَا الله عز وَجل فِيهَا بذلك الْخَبَر وَقبل يَوْم الْقِيَامَة أَيْضا فَبَطل بذلك قَول بعض الأشعرية وَغَيرهَا وَصَحَّ أَن قَوْلنَا هُوَ نَص الْآيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا أَتَى المخالفون مِنْهُم أَنهم عقدوا على أَقْوَال ثمَّ راموا رد كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الَّذِي لَا يحل وَنحن وَللَّه الْحَمد إِنَّمَا أَتَيْنَا إِلَى مَا قَالَه الله عز وَجل وَمَا صَحَّ عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا بِهِ وَلم نحكم فِي ذَلِك بطراً وَلَا هوى وَلَا رددنا هما إِلَى قَول أحد بل رددنا جَمِيع الْأَقْوَال إِلَى نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل تعديه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فهم الَّذين ذكر الله تَعَالَى أَنهم المقربون فِي جنَّات النَّعيم وَأَنَّهُمْ غير أَصْحَاب الْيَمين وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِم السَّلَام أَنه رَآهُمْ فِي السَّمَوَات لَيْلَة أسرى بِهِ فِي سَمَاء سَمَاء وَكَذَلِكَ الشُّهَدَاء أَيْضا هم فِي الْجنَّة لقَوْل الله عز وَجل {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} وَهَذَا الرزق للأرواح بِلَا شكّ وَلَا يكون إِلَّا فِي الْجنَّة وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق من ثمار الْجنَّة ثمَّ تأوى إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش وروينا هَذَا الحَدِيث مُبينًا من طَرِيق ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَأَنَّهُمْ الشُّهَدَاء وَبِهَذَا تتألف الْأَحَادِيث والآيات وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ تخرج الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَالشُّهَدَاء من الْجنَّة إِلَى حُضُور الْموقف يَوْم الْقِيَامَة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لسنا ننكر شَهَادَة الْقُرْآن والْحَدِيث الصَّحِيح بِدُخُول الْجنَّة وَالْخُرُوج عَنْهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة فقد خلق الله عز وَجل فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام وحواء ثمَّ أخرجهُمَا مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَة فِي الْجنَّة وَيخرجُونَ مِنْهَا برسالات رب الْعَالمين إِلَى الرُّسُل والأنبياء إِلَى الدُّنْيَا وكل مَا جَاءَ بِهِ نَص قُرْآن أَو سنة فَلَا يُنكره الأجاهل أَو مُغفل أَو رَدِيء الدّين وَأما الَّذِي يُنكر وَلَا يجوز أَن يكون الْبَتَّةَ فخروج روح من دخل الْجنَّة إِلَى النَّار فالمنع من هَذَا إِجْمَاع من جَمِيع الْأمة من مَقْطُوع بِهِ وَكَذَلِكَ من دَخلهَا يَوْم الْقِيَامَة جَزَاء وتفضلا من الله عز وَجل فَلَا سَبِيل إِلَى خُرُوجه مِنْهَا أبدا بِالنَّصِّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام على من مَاتَ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين قبل الْبلُوغ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي حكم من مَاتَ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين ذكورهم وإناثهم فَقَالَت الْأزَارِقَة من الخووارج أما أَطْفَال الْمُشْركين فَفِي النَّار وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه يُوقد لَهُم يَوْم الْقِيَامَة نَار ويؤمرون باقتحامها فَمن دَخلهَا مِنْهُم دخل الْجنَّة وَمن لم يدخلهَا مِنْهُم أَدخل النَّار وَذهب آخَرُونَ إِلَى الْوُقُوف فيهم وَذهب النَّاس إِلَى أَنهم فِي الْجنَّة وَبِه نقُول(4/60)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما الْأزَارِقَة فاحتجوا بقول الله تَعَالَى حاكياً عَن نوع نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا أَنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} وَيَقُول رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا قَالَت يَا رَسُول الله أَيْن أطفالي مِنْك قَالَ فِي الْجنَّة قَالَت فأطفالي من غَيْرك قَالَ فِي النَّار فأعادت عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا إِن شِئْت أسمعتك تضاغيهم وَبِحَدِيث آخر فِيهِ الوائدة والموؤدة فِي النَّار وَقَالُوا إِن كَانُوا عنْدكُمْ فِي الْجنَّة فهم مُؤمنين لِأَنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة فَإِن كَانُوا مُؤمنين فيلزمكم أَن تدفنوا أَطْفَال الْمُشْركين مَعَ الْمُسلمين وَأَن لَا تتركوه يلْتَزم إِذا بلغ دين أَبِيه فَتكون ردة وخروجاً عَن الْإِسْلَام وَالْكفْر وَيَنْبَغِي لكم أَن ترثوه وتورثوه من أَقَاربه من الْمُسلمين (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كل مَا احتجرا بِهِ مَا يعلم لَهُم حجَّة غير هَذَا أصلا وَكله لَا حجَّة لَهُم فِيهِ الْبَتَّةَ أما قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَلم يقل ذَلِك على كفار قومه خَاصَّة لِأَن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} فأيقن نوح عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذَا الْوَحْي أَنه لَا يحدث فيهم مُؤمن أبدا وَإِن كل من ولدوه إِن ولدوه لم يكن إِلَّا كَافِرًا وَلَا بُد وَهَذَا هُوَ نَص الْآيَة لِأَنَّهُ تَعَالَى حُكيَ أَنه قَالَ {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} وَإِنَّمَا أَرَادَ كفار وقته الَّذين كَانُوا على الأَرْض حِينَئِذٍ فَقَط وَلَو كَانَ للأزارقة أدنى علم وَفقه لعلموا أَن هَذَا من كَلَام نوح عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ على كل كَافِر لَكِن على قوم نوح خَاصَّة لِأَن إِبْرَاهِيم ومحمداً صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم كَانَ أبواهما كَافِرين مُشْرِكين وَقد ولدا خير الْإِنْس وَالْجِنّ قد من الْمُؤمنِينَ وأكمل النَّاس إِيمَانًا وَلَكِن الْأزَارِقَة كَانُوا أعراباً جُهَّالًا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا وَهَكَذَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق الْأسود بن سريع التَّمِيمِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَو لَيْسَ خياركم أَوْلَاد الْمُشْركين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهل كَانَ أفاضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين يتولاهم الْأزَارِقَة كَابْن أبي قُحَافَة وَعمر بن الْخطاب وَخَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا أَوْلَاد الْكفَّار فَهَل ولد آباؤهم كفَّارًا أَو هَل ولدُوا إِلَّا أهل الْإِيمَان الصَّرِيح ثمَّ آبَاء الْأزَارِقَة أنفسهم كوالد نَافِع ابْن الْأَزْرَق وَغَيرهم من شيوخهم هَل كَانُوا إِلَّا أَوْلَاد الْمُشْركين وَلَكِن من يضل الله فَلَا هادي لَهُ وَأما حَدِيث خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا فساقط مطرح لم يروه قطّ من فِيهِ خير وَأما حَدِيث الوائدة فَإِنَّهُ جَاءَ كَمَا نذكرهُ حَدثنَا يُوسُف بن عبد الْبر أَنا عبد الْوَارِث بن سُفْيَان حَدثنَا قَاسم بن اصبغ حَدثنَا بكر بن حَمَّاد حَدثنَا مُسَدّد عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان التَّمِيمِي قَالَ سَمِعت دَاوُد بن أبي هِنْد يحدث عَن عَامر الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة ابْن قيس عَن سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ قَالَ(4/61)
أتيت أَنا وَأخي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا لَهُ أَن أمنا مَاتَت فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَت تقرى الضَّيْف وَتصل الرَّحِم فَهَل ينفعها من عَملهَا ذَلِك شَيْء قَالَ لَا قُلْنَا فَإِن أمنا وَأَدت أُخْتا لنا فِي الْجَاهِلِيَّة لم تبلغ الْحِنْث فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المؤودة والوائدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الوائدة الْإِسْلَام فتسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه اللَّفْظَة يَعْنِي لم تبلغ الْحِنْث لَيْسَ بِلَا شكّ من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنهَا من كَلَام سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ وأخيه فَلَمَّا أخبر عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن تِلْكَ المؤودة فِي النَّار كَانَ ذَلِك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أَنَّهَا تبلغ الْحِنْث وتصحيحها لِأَنَّهَا قد كَانَت بلغت الْحِنْث بِخِلَاف ظَنّهَا لَا يجوز إِلَّا هَذَا القَوْل لِأَن كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يتناقض وَلَا يتكاذب وَلَا يُخَالف كَلَام ربه عز وَجل بل كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام يصدق بعضه بَعْضًا ويوافق لما أخبر بِهِ عز وَجل ومعاذ الله من غير ذَلِك وَقد صَحَّ أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أَطْفَال الْمُشْركين فِي الْجنَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا الموؤودة سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} فنص تَعَالَى على أَنه لَا ذَنْب للموؤدة فَكَانَ هَذَا مُبين لِأَن أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن تِلْكَ المؤودة فِي النَّار أَخْبَار عَن أَنَّهَا قد كَانَت بلغت الْحِنْث بِخِلَاف ظن أخويها وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن دَاوُد بن أبي هِنْد مُحَمَّد بن عدي وَلَيْسَ هُوَ دون الْمُعْتَمِر وَلم يذكر فِيهِ لم تبلغ الْحِنْث وَرَوَاهُ أَيْضا عَن دَاوُد بن أبي عُبَيْدَة بن حميد فَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي ذكرهَا الْمُعْتَمِر فَأَما حَدِيث عُبَيْدَة فَحَدَّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الجسور قَالَ أَنا وهب بن ميسرَة قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن وضاح حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عُبَيْدَة ابْن حميد عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن سَلمَة بن يزِيد قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا وَأخي فَقُلْنَا يَا رَسُول الله إِن أمنا كَانَت تقرى الضَّيْف وَتصل الرَّحِم فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ينفعها ذَلِك الشَّيْء قَالَ لَا قَالَ فَإِنَّهَا وَأَدت أُخْتا لنا فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ينفع ذَلِك أُخْتنَا شَيْئا قَالَ لَا الوائدة والموؤدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الْإِسْلَام فيعفوا الله عَنْهَا وَأما حَدِيث بن أبي عدي فَحَدَّثنَاهُ أَحْمد ابْن عمر بن أنس العذري حَدثنَا أَبُو بدر عبد بن أَحْمد الْهَرَوِيّ الْأنْصَارِيّ حَدثنَا أَبُو سعيد الْخَلِيل بن أَحْمد السجسْتانِي حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي عدي عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن العشبي عَن عَلْقَمَة عَن سَلمَة بن يزِيد الْجعْفِيّ قَالَ انْطَلَقت أَنا وَأخي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا يَا رَسُول الله إِن مليكَة كَانَت تصل الرَّحِم وتقرى الضَّيْف وَتفعل وَتفعل هَلَكت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ذَلِك نافعها شَيْئا قَالَ لَا قَالَ فَإِنَّهَا وَأَدت أُخْتا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّة فَهَل ذَلِك ينفع أُخْتهَا قَالَ لَا الوائدة والموؤدة فِي النَّار إِلَّا أَن تدْرك الوائدة الْإِسْلَام فيعفوا الله عَنْهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَكَذَا روينَاهُ لَهَا بِالْهَاءِ على أَنَّهَا أُخْت الوائد(4/62)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا حَدِيث قد روينَاهُ مُخْتَصرا كَمَا حَدَّثَاهُ عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي حَدثنَا عمر ابْن عبد الْملك الْخَولَانِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر الْوراق الْبَصْرِيّ حَدثنَا أَبُو دَاوُد السجسْتانِي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حَدثنَا يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة حَدثنِي أبي عَن عَامر الشّعبِيّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوائدة والمؤودة فِي النَّار قَالَ بن زَكَرِيَّا ياابن أبي زَائِدَة قَالَ أبي فَحَدثني أَبُو إِسْحَاق بن عَامر حَدثهُ بذلك عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا مُخْتَصر وَهُوَ على مَا ذكرنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني بذلك الَّتِي بلغت لَا يجوز غير هَذَا لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما احتجاجهم بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم من آبَائِهِم فَإِنَّمَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الحكم لَا فِي الدّين وَللَّه تَعَالَى أَن يفرق بَين أَحْكَام عباده وَيفْعل مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وَأَيْضًا فَلَا مُتَعَلق لَهُم بِهَذَا اللَّفْظ أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ أَنهم من آبَائِهِم وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ أَنهم تَوَالَدُوا من آبَائِهِم وَلم يقل عَلَيْهِ السَّلَام أَنهم على دين آبَائِهِم وَأما قَوْلهم يَنْبَغِي أَن تصلوا على أَطْفَال الْمُشْركين وتورثوهم وترثوهم وَأَن لَا تتركوهم يلتزموا دين آبَائِهِم إِذا بلغُوا فَإِنَّهَا ردة فَلَيْسَ لَهُم أَن يعترضوا على الله تَعَالَى فَلَيْسَ تركنَا لصَلَاة عَلَيْهِم يُوجب أَنهم لَيْسُوا مُؤمنين فَهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاء وهم أفاضل الْمُؤمنِينَ لَا يصلى عَلَيْهِم وَأما انْقِطَاع الْمَوَارِيث بَيْننَا وَبينهمْ فَلَا حجَّة فِي ذَلِك على أَنهم لَيْسُوا مُؤمنين فَإِن العَبْد مُؤمن فَاضل وَلَا يُورث وَقد يَأْخُذ الْمُسلم مَال عَبده الْكَافِر إِذا مَاتَ وَكثير من الْفُقَهَاء يورثون الْكَافِر مَال العَبْد من عبيده يسلم ثمَّ يَمُوت قبل أَن يُبَاع عَلَيْهِ وَكثير من الْفُقَهَاء يورثون الْمُسلمين مَال الْمُرْتَد إِذا مَاتَ كَافِرًا مُرْتَدا أَو قتل على الرِّدَّة وَهَذَا معَاذ بن جبل وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان ومسرق بن الأجدع وَغَيرهم من الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم يورثون الْمُسلمين من أقاربهم الْكفَّار إِذا مَاتُوا وَللَّه تَعَالَى أَن يفرق بَين أَحْكَام من شَاءَ من عباده وَإِنَّمَا نقف حَيْثُ أوقفنا النَّص وَلَا مزِيد وَكَذَلِكَ دفنهم فِي مَقَابِر آبَائِهِم أَيْضا وَكَذَلِكَ تَركهم يخرجُون إِلَى أَدْيَان آبَائِهِم إِذا بلغُوا فَإِن الله تَعَالَى أوجب علينا أَن نتركهم وَذَلِكَ وَلَا نعترض على أَحْكَام الله عز وَجل وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مَوْلُود يُولد على الْملَّة حَتَّى يكون أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه ويشركانه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَبَطل أَن يكون لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا مُتَعَلق وَإِنَّمَا هُوَ تشغيب موهوا بِهِ لِأَن كل مَا ذكرنَا فَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَام مُجَرّدَة فَقَط وَلَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الاستدلالات تنص على أَن أَطْفَال الْمُشْركين كفار وَلَا على أَنهم غير كفار وَهَذِه النكتتان هما اللَّتَان قصدنا بالْكلَام فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما من قَالَ فيهم بِالْوَقْفِ فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن الْأَطْفَال يموتون فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بِمَا كَانُوا عاملين وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا إِذا مَاتَ صبي من أَبنَاء الْأَنْصَار فَقَالَت(4/63)
عُصْفُور من عصافير الْجنَّة فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا يدْريك يَا عَائِشَة أَن الله خلق خلقا للنار وهم فِي أصلاب آبَائِهِم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَانِ الخبران لَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّهُمَا إِنَّمَا قالهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ أَنهم فِي الْجنَّة وَقد قَالَ تَعَالَى آمراً لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم قبل أَن يُخبرهُ الله عز وَجل بِأَنَّهُ قد غفر لَهُ الله مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وكما قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي الله عَنهُ وَمَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُخبرهُ الله عز وَجل بِأَنَّهُ لَا يدْخل النَّار من شهد بَدْرًا وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْوَحْي كَمَا أَمر الله عز وَجل أَن يَقُول {إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} فَحكم كل شَيْء من الدّين لم يَأْتِ بِهِ الْوَحْي أَن يتَوَقَّف فِيهِ الْمَرْء فَإِذا جَاءَ للْبَيَان فَلَا يحل التَّوَقُّف عَن القَوْل بِمَا جَاءَ بِهِ النَّص وَقد صَحَّ الْإِجْمَاع على أَن مَا عملت الْأَطْفَال قبل بُلُوغهَا من قتل أَو وطئ أَجْنَبِيَّة أَو شرب خمر أَو قذف أَو تَعْطِيل صَلَاة أَو صَوْم فَإِنَّهُم غير مؤاخذين فِي الْآخِرَة بِشَيْء من ذَلِك مَا لم يبلغُوا وَكَذَلِكَ لَا خلاف فِي أَنه لَا يُؤَاخذ الله عز وَجل أخذا بِمَا لم يَفْعَله بل قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من هم بسيئة فَلم يعملها لم تكْتب عَلَيْهِ فَمن الْمحَال الْمَنْفِيّ أَن يكون الله عز وَجل يُؤَاخذ الْأَطْفَال بِمَا لم يعملوا مِمَّا لَو عاشوا بعده لعملوه وهم لَا يؤاخذهم بِمَا عمِلُوا وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن إنْسَانا بالغامات وَلَو عَاشَ لزنا أَنه لَا يُؤَاخذ بِالزِّنَا الَّذِي لم يعمله وَقد كذب الله عز وَجل من ظن هَذَا بقوله الصَّادِق {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فصح أَنه لَا يَجْزِي أحد بِمَا لم يعْمل وَلَا مِمَّا لم يسن فصح أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم بِمَا كَانُوا عاملين لَيْسَ فِيهِ أَنهم كفار وَلَا أَنهم فِي النَّار وَلَا أَنهم مؤاخذين بِمَا لَو عاشوا لكانوا عاملين بِهِ مِمَّا لم يعملوه بعد وَفِي هَذَا اخْتَلَفْنَا لَا فِيمَا عداهُ وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الله تَعَالَى يعلم مَا لم يكن وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون فَقَط وَنعم هَذَا حق لَا يشك فِيهِ مُسلم فَبَطل أَن يكون لأهل التَّوَقُّف حجَّة فِي شَيْء من هذَيْن الْخَبَرَيْنِ إِذْ لم يَصح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بَيَان وَأما من قَالَ أَنهم يُعَذبُونَ بِعَذَاب آبَائِهِم فَبَاطِل لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَأما من قَالَ أَنهم توقد لَهُم نَار فَبَاطِل لِأَن الْأَثر الَّذِي فِيهِ هَذِه الْقِصَّة إِنَّمَا جَاءَ فِي المجانين وفيمن لَا يبلغهُ ذكر الْإِسْلَام من الْبَالِغين على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلَمَّا بطلت هَذِه الْأَقَاوِيل كلهَا أوجب النّظر فِيمَا صَحَّ من النُّصُوص من حكم هَذِه الْمَسْأَلَة فَفَعَلْنَا فَوَجَدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَقَالَ عز وَجل {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط}(4/64)
إِلَى قَوْله {لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} إِلَى قَوْله {صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة وَنحن لَهُ عَابِدُونَ} فنص عز وَجل على أَن فطر النَّاس على الْإِيمَان وَأَن الْإِيمَان هُوَ صبغة الله تَعَالَى وَقَالَ عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} فصح يَقِينا أَن كل نفس خلقهَا الله تَعَالَى من بني آدم وَمن الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة فمؤمنون كلهم عقلا مميزون فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد استحقوا كلهم الْجنَّة بإيمَانهمْ حاشا من بدل هَذَا الْعَهْد وَهَذِه الْفطْرَة وَهَذِه الصبغة وَخرج عَنْهَا إِلَى غَيرهَا وَمَات على التبديل وبيقين نَدْرِي أَن الْأَطْفَال لم يُغيرُوا شَيْئا من ذَلِك فهم من أهل الْجنَّة وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ على الْملَّة فأباه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه ويشركانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة يهيمه جمعا وَهل يجدونفيها من جَدْعَاء حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُم الَّذِي تجدعونها وَهَذَا تَفْسِير الْآيَات الْمَذْكُورَات حَدثنَا عبد الله بن ربيع حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق السكن حَدثنَا أَبُو سعيد بن الْأَعرَابِي حَدثنَا أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث حَدثنَا الْحسن بن عَليّ حَدثنَا الْحجَّاج بن الْمنْهَال قَالَ سَمِعت حَمَّاد بن سَلمَة يُفَسر حَدِيث كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَقَالَ هَذَا عندنَا حَيْثُ أَخذ الله الْعَهْد عَلَيْهِم فِي أصلاب آبَائِهِم حَيْثُ قَالَ {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَقد صَحَّ أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طَرِيق عِيَاض بن حمَار الْمُجَاشِعِي قَالَ عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ خلقت عبَادي حنفَاء كلهم فاجتالهم الشَّيَاطِين عَن دينهم فصح يَقِينا انه كل من مَاتَ قبل أَن تجتاله الشَّيَاطِين عَن دينه فقد مَاتَ حَنِيفا وَهَذَا حَدِيث تدخل فِيهِ الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس عباد لَهُ عز وَجل مخلوقين وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل أخبر بقول إِبْلِيس لَهُ تَعَالَى أَن يغوي النَّاس فَقَالَ تَعَالَى {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} فصح يَقِينا أَن الغواية دَاخِلَة على الْإِيمَان وَأَن الأَصْل من كل وَاحِد فَهُوَ الْإِيمَان وكل مُؤمن فَفِي الْجنَّة وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فأنذرتكم نَارا تلظى لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} وَلَيْسَت هَذِه صفة الصّبيان فصح أَنهم لَا يدْخلُونَ النَّار وَلَا دَار إِلَّا الْجنَّة أَو النَّار فَإِذا لم يدخلُوا النَّار فهم بِلَا شكّ فِي الْجنَّة وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرُّؤْيَا الْكَبِيرَة الَّتِي رَآهَا أَنه رأى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَوْضَة خضراء مفتخر وفيهَا من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وَأَكْثَرهم فَسَأَلَ عَلَيْهِ السَّلَام عَنْهُم فَأخْبر أَنهم من مَاتَ من أَوْلَاد النَّاس قبل أَن يبلغُوا فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين قَالَ وَأَوْلَاد الْمُشْركين فارتفع الْإِشْكَال وَصَحَّ بالثابت من السّنَن وصحيحها أَن جَمِيع من لم يبلغ من أَطْفَال الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فَفِي الْجنَّة وَلَا يحل لأحد تعدى مَا صَحَّ بِالْقُرْآنِ وَالسّنَن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِذا قُلْتُمْ أَن النَّار دَار جَزَاء فالجنة كَذَلِك وَلَا جَزَاء للصبيان قُلْنَا(4/65)
وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّمَا نقف عِنْدَمَا جَاءَت بِهِ النُّصُوص فِي الشَّرِيعَة قد جَاءَ النَّص بِأَن النَّار دَار جَزَاء فَقَط وَأَن الْجنَّة دَار جَزَاء وتفضل فَهِيَ لأَصْحَاب الْأَعْمَال دَار جَزَاء بِقدر أَعْمَالهم وَلمن لَا عمل لَهُ دَار تفضل من الله تَعَالَى مُجَرّد وَقد قَالَ قوم إِن الصّبيان هم خدم أهل الْجنَّة وَقد ذكر الله تَعَالَى الْوَالِدَان المخلدين فِي غير مَوضِع من كِتَابه وَأَنَّهُمْ خدم أهل الْجنَّة فلعلهم هَؤُلَاءِ وَالله أعلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما المجانين الَّذين لَا يعْقلُونَ حَتَّى يموتوا فَإِنَّهُم كَمَا ذكرنَا يولدون على الْملَّة حنفَاء مُؤمنين وَلم يُغيرُوا وَلَا بدلُوا فماتوا مُؤمنين فهم فِي الْجنَّة حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي بالثغري قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى بن المفرج القَاضِي حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب السموط البرقي أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْخَالِق الْبَزَّاز حَدثنَا مُحَمَّد بن المئني أَبُو مُوسَى الزَّمن حَدثنَا معَاذ بن هِشَام الدستواي حَدثنَا أبي عَن قَتَادَة عَن الْأسود بن سريع التَّيْمِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يعرض على الله الْأَصَم الَّذِي لَا يسمع شَيْئا والأحمق والهرم وَرجل مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق والهرم وَرجل مَاتَ فِي الفترة فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَيَقُول الَّذِي مَاتَ فِي الفترة مَا أَتَانَا لَك من رَسُول قَالَ الْبَزَّاز وَذهب عني مَا قَالَ الرَّابِع قَالَ فَيَأْخُذ مواثيقهم ليطعنه فَيُرْسل الله إِلَيْهِم ادخُلُوا النَّار فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا
الْكَلَام فِي الْقِيَامَة وتغيير الأجساد
اتّفق جَمِيع أهل الْقبْلَة على تنابذ فرقهم على القَوْل بِالْبَعْثِ فِي الْقيمَة وعَلى تَكْفِير من أنكر ذَلِك وَمعنى هَذَا القَوْل أَن لمكث النَّاس فِي دَار الإبتلاء الَّتِي هِيَ الدُّنْيَا أمداً يُعلمهُ الله تَعَالَى فَإِذا انْتهى ذَلِك الأمد مَاتَ كل من فِي الأَرْض ثمَّ يحيى الله عز وَجل كل من مَاتَ مذ خلق الله عز وَجل الْحَيَوَان إِلَى انْقِضَاء الْأَجَل الْمَذْكُور ورد أَرْوَاحهم الَّتِي كَانَت بِأَعْيَانِهَا وجمعهم فِي موقف وَاحِد وحاسبهم عَن جَمِيع أَعْمَالهم ووفاهم جزاءهم ففريق من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير وَبِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وَالسّنَن قَالَ تَعَالَى {من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَقَالَ تَعَالَى عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أَو لم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم} وَقَالَ تَعَالَى {فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام} إِلَى قَوْله {وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام {واحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون الْأَحْيَاء الْمَذْكُور فِي جَمِيع هَذِه الْآيَات(4/66)
إِلَّا رد الرّوح إِلَى الْجَسَد وَرُجُوع الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية الَّتِي بعد عدمهَا مِنْهُ لم يكن غير هَذِه الْبَتَّةَ إِلَّا أَن أَبَا الْعَاصِ حكم بن الْمُنْذر بن سعيد القَاضِي أَخْبرنِي عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله الرعيني أَنه كَانَ يُنكر بعث الأجساد وَيَقُول أَن النَّفس حَال فراقها الْجَسَد تصير إِلَى معادها فِي الْجنَّة أَو النَّار ووقفت على هَذَا وَيَقُول أَن النَّفس حَال فراقها الْجَسَد تصير إِلَى معادها فِي الْجنَّة أَو النَّار ووقفت على هَذَا القَوْل بعض العارفين بِإِسْمَاعِيل فَذكر لي ثقاة مِنْهُم أَنهم سَمِعُوهُ يَقُول أَن الله تَعَالَى يَأْخُذ من الأجساد جُزْء الْحَيَاة مِنْهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا تلبيس من القَوْل لم يخرج بِهِ عَمَّا حُكيَ لي عَنهُ حكم بن الْمُنْذر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الأجساد جُزْء الْحَيَاة إِلَّا النَّفس وَحدهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلم ألق إِسْمَاعِيل الرعيني قطّ على أَنِّي قد أَدْرَكته وَكَانَ سَاكِنا معي فِي مَدِينَة من مداين الأندلس تسمى نجاية مُدَّة وَلكنه كَانَ مختفياً وَكَانَ لَهُ اجْتِهَاد عَظِيم ونسك وَعبادَة وَصَلَاة وَصِيَام وَالله أعلم وَحكم بن الْمُنْذر ثِقَة فِي قَوْله بعيد من الْكَذِب وتبرأ مِنْهُ حكم بن الْمُنْذر وَكَانَ قبل ذَلِك يجمعهما مَذْهَب بن مَسَرَّة فِي الْقدر وتبرأ مِنْهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم بن سهل الأريواني وَكَانَ من رُؤُوس المرية وتبرأ مِنْهُ أَيْضا صهره أَحْمد الطَّبِيب وَجَمَاعَة من المرية وتولته جمَاعَة مِنْهُم وَبَلغنِي عَنهُ أَنه كَانَ يحْتَج لقَوْله هَذَا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وقف على ميت فَقَالَ أما هَذَا فقد قَامَت قِيَامَته وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت الْأَعْرَاب تسأله عَن السَّاعَة ... فَينْظر إِلَى أَصْغَرهم فيخبرهم أَنه استوفى عَن يمت حَتَّى تقوم قيامتهم أَو ساعتهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الْقيام الْمَوْت فَقَط بعد ذَلِك إِلَى يَوْم الْبَعْث كَمَا قَالَ عز وَجل {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} فنص تَعَالَى على أَن الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة بعد الْمَوْت بِلَفْظَة ثمَّ الَّتِي هِيَ للمهلة وَهَكَذَا أخبر عز وَجل عَن قَوْلهم يَوْم الْقِيَامَة {يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا} وَأَنه يَوْم مِقْدَاره خَمْسُونَ ألف سنة وَأَنه يحيي الْعِظَام وَيبْعَث من فِي الْقُبُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن وبرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن الْجنَّة وَالنَّار موضعان ومكانان وكل مَوضِع وَمَكَان ومساحة متناهية بِحُدُودِهِ وبالبرهان الَّذِي قدمْنَاهُ على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل مَا لَهُ عدد وَيَقُول الله تَعَالَى {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَلَو لم يكن لتولد الْخلق نِهَايَة لكانوا أبدا يحدثُونَ بِلَا آخر وَقد علمنَا أَن مصيرهم الْجنَّة أَو النَّار ومحال مُمْتَنع غير مُمكن أَن يسع مَا لَا نِهَايَة لَهُ فيماله نِهَايَة من الماكن فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن لِلْخلقِ نِهَايَة فَإِذا ذَلِك وَاجِب فقد وَجب تناهى عَالم الذَّر والتناسل ضَرُورَة وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ من يُؤمن بِالْقُرْآنِ وبنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَادّعى الْإِسْلَام وَأما من أنكر الْإِسْلَام فكلامنا مَعَه على مَا رتبناه فِي ديواننا هَذَا من النَّقْض على أهل الْإِلْحَاد حَتَّى تثبت نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة مَا جَاءَ بِهِ فنرجع إِلَيْهِ بعد التَّنَازُع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن الْعِظَام يُعِيدهَا ويحيها كَمَا كَانَت أول مرّة وَأما اللَّحْم فَإِنَّمَا هُوَ كسْوَة كَمَا قَالَ {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين}(4/67)
إِلَى قَوْله {فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَأخْبر عز وَجل أَن عنصر الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ الْعِظَام الَّذِي انْتَقَلت عَن السلالة الَّتِي من طين إِلَى النُّطْفَة إِلَى الْعلقَة إِلَى المضغة إِلَى الْعِظَام وَأَن اللَّحْم كسْوَة الْعِظَام وَهَذَا أَمر مشَاهد لِأَن اللَّحْم يذهب بِالْمرضِ حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ مَا لَا قدر لَهُ ثمَّ يكثر عَلَيْهِ لحم آخر إِذا خصب الْجِسْم وَكَذَلِكَ أخبرنَا عز وَجل أَنه يُبدل الْخلق فِي الْآخِرَة فَقَالَ {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب} وَفِي الْآثَار الثَّابِتَة أَن جُلُود الْكفَّار تغلظ حَتَّى تكون نيفاً وَسبعين ذِرَاعا وَأَن ضرسه فِي النَّار كَأحد وَكَذَلِكَ نجد اللَّحْم الَّذِي فِي جَسَد الْإِنْسَان يتغذى بِهِ حَيَوَان آخر فيستحيل لَحْمًا لذَلِك الْحَيَوَان إِذْ يَنْقَلِب دوداً فصح بِنَصّ الْقُرْآن الْعِظَام هِيَ الَّتِي تحيى يَوْم الْقِيَامَة وَمن أنكر مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن فَلَا حَظّ لَهُ فِي الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
الْكَلَام فِي خلق الْجنَّة وَالنَّار
ذهبت طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة والخوارج إِلَى أَن الْجنَّة وَالنَّار لم يخلقا بعد وَذهب جُمْهُور الْمُسلمين إِلَى أَنَّهُمَا قد خلقتا وَمَا نعلم لمن قَالَ أَنَّهُمَا لم يخلقا بعد حجَّة أصلا أَكثر من أَن بَعضهم قَالَ قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَذكر أَشْيَاء من أَعمال الْبر من عَملهَا غرس لَهُ فِي الْجنَّة كَذَا وَكَذَا شَجَرَة وَبقول الله تَعَالَى حاكياً عَن امْرَأَة فِرْعَوْن أَنَّهَا قَالَت {رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} قَالُوا وَلَو كَانَت مخلوقة لم يكن فِي الدُّعَاء فِي اسْتِئْنَاف الْبناء وَالْغَرْس معنى
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُمَا مخلوقتان على الْجُمْلَة كَمَا أَن الأَرْض مخلوقة ثمَّ يحدث الله تَعَالَى فِيهَا مَا يَشَاء من الْبُنيان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والبرهان على أَنَّهُمَا مخلوقتان بعد أَخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْجنَّة لَيْلَة الْإِسْرَاء وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى سِدْرَة الْمُنْتَهى فِي السَّمَاء السَّادِسَة وَقَالَ تَعَالَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى {عِنْدهَا جنَّة المأوى} فصح أَن جنَّة المأوى هِيَ السَّمَاء السَّادِسَة وَقد أخبر الله عز وَجل أَنَّهَا الْجنَّة الَّتِي يدخلهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {فَلهم جنَّات المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} فَلَيْسَ لأحد بعد هَذَا أَن يَقُول أَنَّهَا جنَّة غير جنَّة الْخلد وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء وَلَا شكّ فِي أَن أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْجنَّة فصح أَن الجنات هِيَ السَّمَوَات وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الفردوس الْأَعْلَى من الْجنَّة الَّتِي أمرنَا الله تَعَالَى أَن نَسْأَلهُ إِيَّاهَا فَوْقهَا عرش الرَّحْمَن وَالْعرش مَخْلُوق بعد الْجنَّة فالجنة مخلوقة وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن النَّار اشتكت إِلَى رَبهَا فَأذن لَهَا بنفسين وَإِن ذَلِك أَشد مَا نجده من الْحر وَالْبرد وَكَانَ القَاضِي مُنْذر بن سعيد يذهب إِلَى أَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان إِلَّا أَنه كَانَ يَقُول أَنَّهَا لَيست الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَامْرَأَته وَاحْتج فِي ذَلِك(4/68)
بأَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَو كَانَت جنَّة الْخلد لما أكل من الشَّجَرَة رَجَاء أَن يكون من الخالدين وَاحْتج أَيْضا بِأَن جنَّة الْخلد لَا كذب فِيهَا وَقد كذب فِيهَا إِبْلِيس وَقَالَ من دخل الْجنَّة لم يخرج مِنْهَا وآدَم وَامْرَأَته عَلَيْهِمَا السَّلَام قد خرجا مِنْهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كل هَذَا لَا دَلِيل لَهُ فِيهِ أما قَوْله أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام أكل من الشَّجَرَة رَجَاء أَن يكون من الخالدين فقد علمنَا أَن أكله من الشَّجَرَة لم يكن ظَنّه فِيهِ صَوَابا وَلَا أكله لَهَا صَوَابا وَإِنَّمَا ظنا وَلَا حجَّة فِيمَا كَانَ هَذِه صفته وَالله عز وَجل لم يُخبرهُ بِأَنَّهُ مخلد فِي الْجنَّة بل قد كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنه سيخرجه مِنْهَا فَأكل عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّجَرَة رَجَاء الْخلد الَّذِي لم يضمن وَلَا تَيَقّن بِهِ لنَفسِهِ وَأما قَوْله أَن الْجنَّة لَا كذب فِيهَا وَأَن من دَخلهَا لم يخرج مِنْهَا آدم وَامْرَأَته فَهَذَا لَا حجَّة لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا تكون كَذَلِك إِذا كَانَت جَزَاء لأَهْلهَا كَمَا أخبر عز وَجل عَنْهَا حَيْثُ يَقُول {لَا تسمع فِيهَا لاغية} فَإِنَّمَا هَذَا على المستأنف لَا على مَا سلف وَلَا نَص مَعَه على مَا ادّعى وَلَا إِجْمَاع وَاحْتج أَيْضا بقول الله عز وَجل لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام {أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} قَالَ وَقد عرى فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة فِيهَا بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِ لِأَن الله عز وَجل وصف الْجنَّة الَّتِي أسكن فِيهَا آدم بِأَنَّهَا لَا يجاع فِيهَا وَلَا يعرى وَلَا يظمأ فِيهَا وَلَا يضحى وَهَذِه صفة الْجنَّة بِلَا شكّ وَلَيْسَ فِي شَيْء ممادون السَّمَاء مَكَان هَذِه صفته بِلَا شكّ بل كل مَوضِع دون السَّمَاء فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يجاع فِيهِ ويعرى ويظمأ ويضحى وَلَا بُد من ذَلِك ضَرُورَة فصح أَنه إِنَّمَا سكن الْمَكَان الَّذِي هَذِه صفته وَلَيْسَ هَذَا غير الْجنَّة الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا عرى آدم حِين أكل من الشَّجَرَة فاهبط عُقُوبَة وَقَالَ الله عز وَجل {لَا يرَوْنَ فِيهَا شمساً وَلَا زمهريراً} وَأخْبر آدم أَنه لَا يضحى
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا أعظم حجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ شمس لَا ضحى فِيهِ وَلَا بُد فصح أَن الْجنَّة الَّتِي أسكن فِيهَا آدم كَانَت لَا شمس فِيهَا فَهِيَ جنَّة الْخلد بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَإِن قَوْله عز وَجل {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} إِشَارَة بِالْألف وَاللَّام وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا على مَعْهُود وَلَا تَنْطَلِق الْجنَّة هَكَذَا إِلَّا على جنَّة الْخلد وَلَا ينْطَلق هَذَا الِاسْم على غَيرهَا إِلَّا بِالْإِضَافَة وَأَيْضًا فَلَو أسكن آدم عَلَيْهِ السَّلَام جنَّة فِي الأَرْض لما كَانَ فِي إِخْرَاجه مِنْهَا إِلَى غَيرهَا من الأَرْض عُقُوبَة بل قد بَين تَعَالَى أَنَّهَا لَيست فِي الأَرْض بقوله تَعَالَى {اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو} {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} فصح يَقِينا بِالنَّصِّ أَنه قد أهبط من الْجنَّة إِلَى الأَرْض فصح أَنَّهَا لم تكن فِي الأَرْض الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي بَقَاء أهل الْجنَّة وَالنَّار أبدا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اتّفقت فرق الْأمة كلهَا على أَنه لَا فنَاء للجنة وَلَا لنعيمها وَلَا للنار وَلَا لعذابها(4/69)
الأجهم بن صَفْوَان وَأَبا الْهُذيْل العلاف وقوماً من الروافض فَأَما جهم فَقَالَ أَن الْجنَّة وَالنَّار بفنيان ويفنى أهلهما وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل أَن الْجنَّة وَالنَّار لَا يفنيان وَلَا يفنى أَهلهَا إِلَّا أَن رحكاتهم تفنى ويبقون بِمَنْزِلَة الجماد لَا يتحركون وهم فِي ذَلِك أَحيَاء متلذذون أَو معذبون وَقَالَت تِلْكَ الطَّائِفَة من الروافض أَن أهل الْجنَّة يخرجُون من الْجنَّة وَكَذَا أهل النَّار من النَّار إِلَى حَيْثُ شَاءَ الله
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما هَذِه الْمقَالة فَفِي غَايَة الغثاثة والتعري من شَيْء يشغب بِهِ فَكيف من إقناع أَو برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط وَأما قَول أبي الْهُذيْل فَإِنَّهُ لَا حجَّة لَهُ إِلَّا أَنه قَالَ كلما أَحْصَاهُ الْعدَد فَهُوَ ذُو نِهَايَة وَلَا بُد والحركات ذَات عدد فَهِيَ متناهية
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَظن أَبُو الْهُذيْل لجهله بحدود الْكَلَام وطبائع الموجودات أَن مَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِ الْعدَد وَهَذَا خطأ فَاحش لِأَن مَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَلَيْسَ شَيْئا وَلَا يجوز أَن يَقع الْعدَد إِلَّا على شَيْء وَإِنَّمَا يَقع الْعدَد على مَا خرج إِلَى الْفِعْل من حركات أهل النَّار وَالْجنَّة مَتى مَا خرج فَهُوَ مَحْدُود متناه وَهَكَذَا أبدا وَقد أحكمنا هَذَا الْمَعْنى فِي أول هَذَا الْكتاب فِي بَاب إِيجَاب حُدُوث الْعَالم وتناهي الموجودات فأغنى عَن إِعَادَته وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل مَا موه بِهِ أَبُو الْهُذيْل وَللَّه الْحَمد ثمَّ نقُول أَن قَوْله هَذَا خلاف للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَأَيْضًا فَإِن الَّذِي فر مِنْهُ فِي الحركات فَإِنَّهُ لَازم لَهُ فِي مدد سكونهم وتنعمهم وتأملهم لِأَنَّهُ مقرّ بِأَنَّهُم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بِالْعَذَابِ وبالضرورة نَدْرِي أَن للسكون وَالنَّعِيم وَالْعَذَاب مدَدا يعد كل ذَلِك كَمَا تعد الْحَرَكَة ومددها وَلَا فرق وَأَيْضًا فَلَو كَانَ مَا قَالَه أَبُو الْهُذيْل صَحِيحا لَكَانَ أهل الْجنَّة فِي عَذَاب واصب وَفِي صفة المخدور والمفلوج وَمن أَخذه الكابوس وَمن سقى البنج وَهَذَا فِي غَايَة النكد والشقاء ونعوذ بِاللَّه من هَذَا الْحَال وَأما جهم بن صَفْوَان فَإِنَّهُ احْتج بقول الله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} وَقَالَ كَمَا لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء لم يزل غير الله تَعَالَى فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء لَا يزَال غير الله تَعَالَى
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا نعلم لَهُ حجَّة غير هَذَا أصلا وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُ فِيهِ أما قَوْله تَعَالَى {كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} فَإِنَّمَا عَنى تَعَالَى الاستحالة من شَيْء إِلَى شَيْء وَمن حَال إِلَى حَال وَهَذَا عَام لجَمِيع الْمَخْلُوقَات دون الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ مدد النَّعيم فِي الْجنَّة وَالْعَذَاب فِي النَّار كلما فنيت مُدَّة أحدث الله عز وَجل أُخْرَى وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَا آخر يدل على هَذَا مَا نذكرهُ بعد أَن شَاءَ الله تَعَالَى من الدَّلَائِل على خُلُود الْجنَّة وَالنَّار وَأَهْلهَا وَأما قَوْله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} فَإِن اسْم الشَّيْء لَا يَقع إِلَّا على مَوْجُود والإحصاء لَا يَقع على مَا ذكرنَا لَا على مَا خرج إِلَى الْفِعْل وَوجد بعد وَإِذا لم يخرج من الْفِعْل فَهُوَ لَا شَيْء بعد وَلَا يجوز أَن يعد لَا شَيْء وكل مَا خرج إِلَى الْفِعْل من مُدَّة بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار وأهلهما فمحصي بِلَا شكّ ثمَّ يحدث الله تَعَالَى لَهُم مدَدا آخر وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَا آخر وَقَالُوا هَل أحَاط الله تَعَالَى علما بِجَمِيعِ مُدَّة الْجنَّة وَالنَّار أم لَا فَإِن قُلْتُمْ لَا جهلتم الله وَإِن قُلْتُمْ نعم جعلتم مدَّتهَا محاطاً بهَا وَهَذَا هُوَ التناهي نَفسه(4/70)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يعلم بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ لِأَن من علم الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَاهِل بِهِ مُخطئ فِي اعْتِقَاده ظان للباطل وَلَيْسَ علما وَلَا حَقًا وَلَا عَالم بِهِ وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَعلم الله عز وَجل هُوَ الْحق الْيَقِين على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَكل مَا كَانَ ذَا نِهَايَة فَهُوَ فِي علم الله تَعَالَى ذُو نِهَايَة وَلَا سَبِيل إِلَى غير هَذَا الْبَتَّةَ وَلَيْسَ للجنة وَالنَّار مدد غير متناهية محاط بهَا وَإِنَّمَا لَهما مدد كل مَا خرج مِنْهَا إِلَى الْفِعْل فَهُوَ محصي محاط بعدده وَمَا لم يخرج إِلَى الْفِعْل فَلَيْسَ بمحصي لَكِن علم الله تَعَالَى أحَاط أَنه لَا نِهَايَة لَهما وَأما قَوْله كَمَا لَا يجوز أَن يُوجد شَيْء غير الله تَعَالَى لَا نِهَايَة لَهُ لم يزل فَإِن هَذِه الْقَضِيَّة فَاسِدَة وَقِيَاس فَاسد لَا يَصح وَالْفرق بَينهمَا أَن أَشْيَاء ذَوَات عدد لَا أول لَهَا وَلم تزل لَا يُمكن أَن نتوهم الْبَتَّةَ وَلَا يشكك بل هِيَ محَال فِي الْوُجُود كَمَا ذكرنَا فِي الرَّد على من قَالَ بِأَن الْعَالم لم يزل فأغنى عَن إِعَادَته وَلَيْسَ كَذَلِك قَوْلنَا لَا يزَال لِأَن إِحْدَاث الله تَعَالَى بعد شَيْء أبدا بِلَا غَايَة متوهم مُمكن لَا حِوَالَة فِيهِ فَقِيَاس الْمُمكن المتوهم على الْمُمْتَنع المستحيل الَّذِي لَا يتَوَهَّم بَاطِل عِنْد الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ فَكيف عِنْد من لَا يَقُول بِهِ فَإِن قَالَ قَائِل إِن كل مَا لَهُ أول فَلهُ آخر هَذِه قَضِيَّة فَاسِدَة وَدَعوى مُجَرّدَة وَمَا وَجب هَذَا قطّ لَا بقضية عقل وَلَا بِخَبَر لِأَن كَون الموجودات لَهَا أَوَائِل مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ لِأَن مَا وجد بعد فقد حصره عدد زمَان وجوده وكل مَا حصره عدد فَلذَلِك الْعدَد أول ضَرُورَة وَهُوَ قَوْلنَا وَاحِد ثمَّ يتمادى الْعدَد أبدا فَيمكن الزِّيَادَة بِلَا نِهَايَة وتمادي الْمَوْجُود بِخِلَاف المبدأ لِأَنَّهُ إِذا أبقى وقتا جَازَ أَن يبْقى وَقْتَيْنِ وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة وكل مَا خرج من مدد الْبَقَاء إِلَى حد الْفِعْل فذو نِهَايَة بِلَا شكّ كَذَلِك من الْعدَد أَيْضا وَلم نقل أَن بَقَاء النَّاس فِي هَذِه الدُّنْيَا لَهُ نِهَايَة إِلَّا من طَرِيق النَّص وَلَو أخبر الله تَعَالَى بذلك لأمكن وَجَاز أَن تبقى الدُّنْيَا أبدا بِلَا نِهَايَة وَلَكِن الله تَعَالَى قَادِرًا على ذَلِك وَلَكِن النَّص لَا يحل خِلَافه وَكَذَلِكَ لَوْلَا أَخْبَار الله تَعَالَى لحل احتارمها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والبرهان على بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار بِلَا نِهَايَة قَول الله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ} وَقَوله تَعَالَى فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {خَالِدين فِيهَا أبدا} وَقَوله تَعَالَى {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} مَعَ صِحَة الْإِجْمَاع بذلك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وروينا عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ لَو أَقَامَ أهل النَّار فِي النَّار مَا شَاءَ الله أَن يبقوا لَكَانَ لَهُم على ذَلِك يَوْم يخرجُون فِيهِ مِنْهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي أهل الْإِسْلَام الداخلين فِي النَّار بكبائرهم ثمَّ يخرجُون مِنْهُم بالشفاعة وَيبقى ذَلِك الْمَكَان خَالِيا وَلَا يحل لأحد أَن يظنّ فِي الصَّالِحين الفاضلين خلاف الْقُرْآن وحاشا لَهما من ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ كتاب الْإِيمَان والوعيد وتوابعه بِحَمْد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم(4/71)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لَا إِلَه إِلَّا الله عدَّة للقائه
الْكَلَام فِي الْإِمَامَة والمفاضلة بِي الصَّحَابَة
قَالَ الْفَقِيه الإِمَام الأوحد أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ اتّفق جَمِيع أهل السّنة وَجَمِيع المرجئة وَجَمِيع الشِّيعَة وَجَمِيع الْخَوَارِج على وجوب الْإِمَامَة وَأَن الْأمة وَاجِب عَلَيْهَا الانقياد لإِمَام عَادل يُقيم فيهم أَحْكَام الله ويسوسهم بِأَحْكَام الشَّرِيعَة الَّتِي أَتَى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا النجدات من الْخَوَارِج فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يلْزم النَّاس فرض الْإِمَامَة وَإِنَّمَا عَلَيْهِم أَن يشاطوا الْحق بَينهم وَهَذِه فرقة مَا نرى بَقِي مِنْهُم أحد وهم المنسوبون إِلَى نجدة بن عُمَيْر الْحَنَفِيّ الْقَائِم بِالْيَمَامَةِ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَول هَذِه الْفرْقَة سَاقِط يَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِ وإبطاله إِجْمَاع كل من ذكرنَا على بُطْلَانه وَالْقُرْآن وَالسّنة قد ورد بِإِيجَاب الإِمَام من ذَلِك قَول الله تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} مَعَ أَحَادِيث كَثِيرَة صِحَاح فِي طَاعَة الْأَئِمَّة وَإِيجَاب الْإِمَامَة وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَوَجَبَ الْيَقِين بِأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف النَّاس مَا لَيْسَ فِي بنيتهم واحتمالهم وَقد علمنَا بضرورة الْعقل وبديهته أَن قيام النَّاس بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من الْأَحْكَام عَلَيْهِم فِي الْأَمْوَال والجنايات والدماء وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَسَائِر الْأَحْكَام كلهَا وَمنع الظَّالِم وإنصاف الْمَظْلُوم وَأَخ الْقصاص على تبَاعد أقطارهم وشواغلهم وَاخْتِلَاف آرائهم وَامْتِنَاع من تحرى فِي كل ذَلِك مُمْتَنع غير مُمكن إِذْ قد يُرِيد وَاحِد أَو جمَاعَة أَن يحكم عَلَيْهِم إِنْسَان وَيُرِيد آخر أَو جمَاعَة أُخْرَى أَن لَا يحكم عَلَيْهِم إِمَّا لِأَنَّهَا ترى فِي اجتهادها خلاف مَا رأى هَؤُلَاءِ وَإِمَّا خلافًا مُجَردا عَلَيْهِم وَهَذَا الَّذِي لَا بُد مِنْهُ ضَرُورَة وَهَذَا مشَاهد فِي الْبِلَاد الَّتِي لَا رَئِيس لَهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَام هُنَاكَ حكم حق وَلَا حد حَتَّى قد ذهب الدّين فِي أَكْثَرهَا فَلَا تصح إِقَامَة الدّين إِلَّا بِالْإِسْنَادِ إِلَى وَاحِد أَو إِلَى أَكثر من وَاحِد فَإذْ لَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَإِن الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا بَينهمَا مَا ذكرنَا فَلَا يتم أَمر الْبَتَّةَ فَلم يبْق وَجه تتمّ بِهِ الْأُمُور إِلَّا لإسناد إِلَى وَاحِد فَاضل عَالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إِلَّا أَنه وَإِن كَانَ بِخِلَاف مَا ذكرنَا فالظلم والإهمال مَعَه أقل مِنْهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَفرض لَازم لكل النَّاس أَن يكفوا من الظُّلم مَا أمكنهم إِن قدرُوا على كف كُله لَزِمَهُم ذَلِك(4/72)
وَإِلَّا فَكف مَا قدرُوا على كَفه مِنْهُ وَلَو قَضِيَّة وَاحِدَة لَا يجوز غير ذَلِك ثمَّ اتّفق من ذكرنَا مِمَّن يرى فرض الْإِمَامَة على أَنه لَا يجوز كَون إمامين فِي وَقت وَاحِد فِي الْعَالم وَلَا يجوز إِلَّا إِمَام وَاحِد إِلَّا مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَبا الصَّباح السَّمرقَنْدِي وأصحابهما فَإِنَّهُم أَجَازُوا كَون إمامين فِي وَقت وَأكْثر فِي وَقت وَاحِد وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقول الْأَنْصَار وَمن قَالَ مِنْهُم يَوْم السَّقِيفَة للمهاجرين منا أَمِير ومنكم أَمِير وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَمْر عَليّ وَالْحسن مَعَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم مَا ذكرنَا لم يكن صَوَابا بل كَانَ خطأ إِذْ اداهم إِلَيْهَا الِاجْتِهَاد وَخَالفهُم فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَلَا بُد إِذْ اخْتلف القائلان على قَوْلَيْنِ متنافين من أَن يكون أَحدهمَا حَقًا وَالْآخر خطأ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى مَا افْترض الله عز وَجل الرَّد إِلَيْهِ عِنْد التَّنَازُع إِذْ يَقُول الله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ إِذا بُويِعَ لإمامين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم} فَحرم الله عز وَجل التَّفَرُّق والتنازع وَإِذا كَانَ إمامان فقد حصل التَّفَرُّق الْمحرم فَوجدَ التَّنَازُع وَوَقعت الْمعْصِيَة لله تَعَالَى وَقُلْنَا مَا لَا يحل لنا وَأما من طَرِيق النّظر والمصلحة فَلَو جَازَ أَن يكون فِي الْعَالم إمامان لجَاز أَن يكون فِيهِ ثَلَاثَة وَأَرْبَعَة وَأكْثر فَإِن منع من ذَلِك مَانع كَانَ متحكماً بِلَا برهَان ومدعياً بِلَا دَلِيل وَهَذَا الْبَاطِل الَّذِي لَا يعجز عَنهُ أحد وَإِن جَازَ ذَلِك زَاد الْأَمر حَتَّى يكون فِي الْعَالم إِمَام أَو فِي كل مَدِينَة إِمَام أَو فِي كل قَرْيَة إِمَام أَو يكون كل أحد وَخَلِيفَة فِي منزله وَهَذَا هُوَ الْفساد الْمَحْض وهلاك الدّين وَالدُّنْيَا فصح أَن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم وهلة وخطار رجعُوا عَنهُ إِلَى الْحق وعصمهم الله تَعَالَى من التَّمَادِي عَلَيْهِ وَأما أَمر عَليّ وَالْحسن وَمُعَاوِيَة فقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من أمة يَقْتُلهَا أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَكَانَ قَاتل تِلْكَ الطَّائِفَة عَليّ رَضِي الله عَنْهُم فَهُوَ صَاحب الْحق بِلَا شكّ وَكَذَلِكَ أنذر عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق وَكَانَ عَليّ السَّابِق إِلَى الْإِمَامَة فصح بعد أَن صَاحبهَا وَأَن من نازعه فِيهَا فمخطئ فمعاوية رَحمَه الله مُخطئ مأجور مرّة لِأَنَّهُ مُجْتَهد وَلَا حجَّة فِي خطأ الْمُخطئ فَبَطل قَول هَذِه الطَّائِفَة وَأَيْضًا فَإِن قَول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم منا أَمِير ومنكم أَمِير يخرج على أَنهم إِنَّمَا أَرَادوا أَن يَلِي وَال مِنْهُم فَإِذا مَاتَ ولي من الْمُهَاجِرين آخر وَهَكَذَا أبدالا على أَن يكون إمامان فِي وَقت وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر من كَلَامهم وَأما عَليّ ومعوية رَضِي الله عَنْهُمَا فَمَا سلم قطّ أَحدهمَا للْآخر بل كل وَاحِد مِنْهُمَا يزْعم أَنه المحق وَكَذَلِكَ كَانَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن(4/73)
أسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة فَإِذا هَذَا كَذَلِك فقد صَحَّ الْإِجْمَاع على بطلَان قَول ابْن كرام وَأبي الصَّباح وَبَطل أَن يكون لَهُم تعلق فِي شَيْء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِوُجُوب الْإِمَامَة على قُرَيْش فَذهب أهل السّنة وَجَمِيع أهل الشِّيعَة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَجُمْهُور المرجئة إِلَى أَن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا فِي قُرَيْش خَاصَّة من كَانَ من ولد فهر بن مَالك وَأَنَّهَا لَا تجوز فِيمَن كَانَ أَبوهُ من غير بني فهر بن مَالك وَإِن كَانَت أمه من قُرَيْش وَلَا فِي حَلِيف وَلَا فِي مولى وهبت الْخَوَارِج كلهَا وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة إِلَى أَنَّهَا جَائِزَة فِي كل من قَامَ بِالْكتاب وَالسّنة قرشياً كَانَ أَو عَرَبيا أَو ابْن عبد وَقَالَ ضرار بن عَمْرو الْغَطَفَانِي إِذا اجْتمع حبشِي وقرشي كِلَاهُمَا قَائِم بِالْكتاب وَالسّنة قَالُوا وَجب أَن يقدم الحبشي لِأَنَّهُ أسهل لِخَلْعِهِ إِذا حاد عَن الطَّرِيقَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وبوجوب الْإِمَامَة فِي ولد فهر ابْن مَالك خَاصَّة نقُول بِنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْأَئِمَّة من قُرَيْش وعَلى أَن الْإِمَامَة فِي قُرَيْش وَهَذِه رِوَايَة جَاءَت مَجِيء التَّوَاتُر وَرَوَاهَا أنس بن مَالك وَعبد الله ابْن عمر بن الْخطاب ومعوية وَرُوِيَ جَابر بن عبد الله وَجَابِر بن سَمُرَة وَعبادَة بن الصَّامِت مَعْنَاهَا وَمِمَّا يدل على صِحَة ذَلِك إذعان الْأَنْصَار رَضِي الله عنم يَوْم السَّقِيفَة وهم أهل الدَّار والمنعة وَالْعدَد والسابقة فِي الْإِسْلَام رَضِي الله عَنْهُم وَمن الْمحَال أَن يتْركُوا اجتهادهم لاجتهاد غَيرهم لَوْلَا قيام الْحجَّة عَلَيْهِم بِنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن الْحق لغَيرهم فِي ذَلِك فَإِن قَالَ قَائِل أَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَئِمَّة من قُرَيْش يدْخل فِي لَك الحليف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مولي الْقَوْم مِنْهُم وَمن أنفسهم وَابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْإِجْمَاع قد تَيَقّن وَصَحَّ على أَن حكم الحليف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت كَحكم من لَيْسَ لَهُ حَلِيف وَلَا مولى وَلَا ابْن أُخْت فَمن أجَاز الْإِمَامَة فِي غير هَؤُلَاءِ جوزها فِي هَؤُلَاءِ وَمن منعهَا من غير قُرَيْش منعهَا من الحيف وَالْمولى وَابْن الْأُخْت فَإِذا صَحَّ الْبُرْهَان بِأَن لَا يكون إِلَّا فِي قُرَيْش لَا فِيمَن لَيْسَ قرشياً صَحَّ بِالْإِجْمَاع أَن حَلِيف قُرَيْش مَوْلَاهُم وَابْن أختهم كَحكم من لَيْسَ قرشياً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ قوم أَن اسْم الْإِمَامَة قد يَقع على الْفَقِيه الْعَالم وعَلى مُتَوَلِّي الصَّلَاة بِأَهْل مَسْجِد مَا قُلْنَا نعم لَا يَقع على هَؤُلَاءِ إِلَّا بِالْإِضَافَة لَا بِالْإِطْلَاقِ فَيُقَال فلَان إِمَام فِي الدّين وَإِمَام بني فلَان فَلَا يُطلق لأَحَدهم اسْم الْإِمَامَة بِلَا خلاف من أحد من الْأمة إِلَّا على الْمُتَوَلِي لأمور أهل الْإِسْلَام فَإِن قَالَ قَائِل بِأَن اسْم الْإِمَارَة وَاقع بِلَا خلاف على من ولي جِهَة من جِهَات الْمُسلمين وَقد سمي بالأمارة كل من ولاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِهَة من الْجِهَات أَو سَرِيَّة أَو جَيْشًا وولاه مُؤمنُونَ فَمَا الْمَانِع من أَن يُوقع على كل وَاحِد اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْكَذِب محرم بِلَا خلاف وكل مَا ذكرنَا قَائِما فَهُوَ أَمِير لبَعض(4/74)
الْمُؤمنِينَ لَا لكلهم فَلَو سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ لَكَانَ مسميه بذلك كَاذِبًا لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي عُمُوم جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ أَمِير بعض الْمُؤمنِينَ فصح أَنه لَيْسَ بحوز الْبَتَّةَ أَن يُوقع اسْم الْإِمَامَة مُطلقًا وَلَا اسْم أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَّا على الْقرشِي الْمُتَوَلِي لجَمِيع أُمُور الْمُؤمنِينَ كلهم أَو الْوَاجِب لَهُ ذَلِك وَإِن عَصَاهُ كثير من الْمُؤمنِينَ وَخَرجُوا عَن الْوَاجِب عَلَيْهِم من طَاعَته والمفترض عَلَيْهِم من بيعَته فَكَانُوا بذلك فِئَة باغية حَلَالا قِتَالهمْ وحربهم وَكَذَلِكَ اسْم الْخلَافَة بِإِطْلَاق لَا يجوز أَيْضا إِلَّا لمن هَذِه صفته وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة لَا تجوز إِلَّا فِي صلبة قُرَيْش فَقَالَت طَائِفَة هِيَ جَائِزَة فِي جَمِيع ولد فهر بن مَالك فَقَط وَهَذَا قَول أهل السّنة وَجُمْهُور المرجئة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي ولد الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهُوَ قَول الرلوندية وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي ولد عَليّ ابْن أبي طَالب ثمَّ قصروها على عبد الله بن مُعَاوِيَة بن جَعْفَر بن أبي طَالب وبلغنا عَن بعض بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب أَنه كَانَ يَقُول لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي بني عبد الْمطلب خَاصَّة ويراها فِي جَمِيع ولد عبد الْمطلب وهم أَبُو طَالب وَأَبُو لَهب والْحَارث وَالْعَبَّاس وبلغنا عَن رجل كَانَ بالأردن يَقُول لَا تجوز الْخلَافَة إِلَّا فِي بني أُميَّة بن عبد شمس وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِك تأليف مَجْمُوع وروبنا كتابا مؤلفا الرجل من ولد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يحْتَج فِيهِ بِأَن الْخلَافَة لَا تجوز إِلَّا لولد أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَما هَذِه الْفرق الأرع فَمَا وجدنَا لَهُم شُبْهَة يسْتَحق أَن يشْتَغل بهَا إِلَّا دعاوي كَاذِبَة لَا وَجه لَهَا وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَ الَّذين يرَوْنَ الْأَمر لولد الْعَبَّاس أَو لولد عَليّ فَقَط لِكَثْرَة عَددهمْ قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج من ذهب إِلَى أَن الْخلَافَة لَا تجوز إِلَّا فِي ولد الْعَبَّاس فَقَط على أَن الْخُلَفَاء من وَلَده وكل من لَهُ حَظّ من علم من غير الْخُلَفَاء مِنْهُم لَا يرضون بِهَذَا وَلَا يَقُولُونَ بِهِ لَكِن تِلْكَ الطَّائِفَة قَالَت كَانَ الْعَبَّاس عصب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووارثه فَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فقد ورث مَكَانَهُ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن مِيرَاث الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَو وَجب لَهُ لَكَانَ ذَلِك فِي المَال خَاصَّة وَأما الْمرتبَة فَمَا جَاءَ قطّ فِي الديانَات أَنَّهَا تورث فَبَطل هَذَا التمويه جملَة وَللَّه الْحَمد وَلَو جَازَ أَن تورث الْمَرَاتِب لَكَانَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَانا مَا إِذا مَاتَ وَجب أَن يَرث تِلْكَ الْولَايَة عاصبه ووارثه وَهَذَا مَالا يَقُولُونَهُ فَكيف وَقد صَحَّ بِإِجْمَاع جَمِيع أهل الْقبْلَة حاشا الروافض أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى(4/75)
حاكياً عَن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا حجَّة فِيهِ لِأَن الروَاة حَملَة الْأَخْبَار وَجَمِيع التواريخ الْقَدِيمَة كلهَا وكواف بني إِسْرَائِيل ينقلون بِلَا خلاف نقلا يُوجب الْعلم أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ بنُون غير سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فصح أَنه ورث النُّبُوَّة وبرهان ذَلِك أَنهم كلهم مجمعون على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام ولي مَكَان أَبِيه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا اثْنَتَيْ عشرَة سنة ولداود أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ابْنا كبارًا وصغاراً وَهَكَذَا القَوْل فِي مِيرَاث يحي بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام وبرهان ذَلِك من نَص الْآيَة نَفسهَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب وهم مئوا أُلُوف يَرث عَنهُ النُّبُوَّة فَقَط وَأَيْضًا فَمن الْمحَال أَن يرغب زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فِي ولد يحجب عصبته عَم مِيرَاث فَإِنَّمَا يرغب فِي هَذِه الخطة ذُو الْحِرْص على الدُّنْيَا وحطامها وَقد نزه الله عز وَجل مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام الَّتِي كَانَت فِي كفَالَته من المعجزات قَالَ تَعَالَى {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} إِلَى قَوْله {إِنَّك سميع الدُّعَاء} وعَلى هَذَا الْمَعْنى دَعَا فَقَالَ {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا} وَأما من اغْترَّ بقوله تَعَالَى حاكياً عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي} قيل لَهُ بطلَان هَذَا الظَّن أَن الله تَعَالَى لم يُعْطه ولدا يكون لَهُ عقب فيتصل الْمِيرَاث لَهُم بل أعطَاهُ ولدا حصورا لَا يقرب النِّسَاء قَالَ تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} فصح ضَرُورَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا طلب ولدا نَبيا لَا ولد يَرث المَال وَأَيْضًا فَلم يكن الْعَبَّاس محيطاً بميراث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ يكون لَهُ ثَلَاثَة أثمانه فَقَط وَأما مِيرَاث المكانة فقد كَانَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حَيا قَائِما إِذْ مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا ادعِي الْعَبَّاس لنَفسِهِ فَقَط فِي ذَلِك حَقًا لَا حِينَئِذٍ وَلَا بعد ذَلِك وَجَاءَت الشورى فَمَا ذكر فِيهَا وَلَا أنكر هُوَ وَلَا غَيره ترك ذكره فِيهَا فصح أَنه رأى مُحدث فَاسد لَا وَجه لَهُ للاشتغال بِهِ وَالْخُلَفَاء من وَلَده والأفاضل مِنْهُم من غير الْخُلَفَاء لَا يرَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ بِهَذِهِ الدعْوَة ترفعاً عَن سُقُوطهَا ووهيها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة لَا تكون إِلَّا فِي ولد عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُم انقسموا قسمَيْنِ فطائفة قَالَت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على عَليّ بن أبي طَالب أَنه الْخَلِيفَة وَأَن الصَّحَابَة بعده عَلَيْهِ السَّلَام اتَّفقُوا على ظلمه وعَلى كتمان نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَؤُلَاء الْمُسلمُونَ الروافض وَطَائِفَة قَالَت لم ينص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَليّ لكنه كَانَ أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحقهم بِالْأَمر وَهَؤُلَاء هم الزيدية نسبوا إِلَى زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب ثمَّ اخْتلف الزيدية فرقا فَقَالَت طَائِفَة إِن الصَّحَابَة ظلموه وَكَفرُوا من خَالفه(4/76)
من الصَّحَابَة وهم الجارودية وَقَالَت أُخْرَى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يظلموه لكنه طربت نَفسه بِتَسْلِيم حَقه إِلَى أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَنه إِمَامًا وَهدى ووقف بَعضهم فِي عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وتولاه بَعضهم وَذكر طَائِفَة أَن هَذَا مَذْهَب الْفَقِيه الْحسن بن صَالح بن حَيّ الْهَمدَانِي
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خطأ وَقد رَأَيْت الهشام ابْن الحكم الرافضي الْكُوفِي فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالميزان وَقد ذكر الْحسن ابْن حَيّ وَأَن مذْهبه كَانَ أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع ولد فهر ابْن مَالك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا الَّذِي لَا يَلِيق بالْحسنِ بن حَيّ غَيره فَإِنَّهُ كَانَ أحد أَئِمَّة الدّين وَهِشَام ابْن الحكم أعلم بِهِ مِمَّن نسب إِلَيْهِ غير ذَلِك لِأَن هشاماً كَانَ جَاره بِالْكُوفَةِ وَأعرف النَّاس بِهِ وأدركه وَشَاهده وَالْحسن بن حَيّ رَحمَه الله يحْتَج بِمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم وبابن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذَا مَشْهُور عَنهُ فِي كتبه ورواياته من رُوِيَ عَنهُ وَجَمِيع الزيدية لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع ولد عَليّ بن أبي طَالب من خرج مِنْهُم يَدْعُو إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَجب سل السَّيْف مَعَه وَقَالَت الروافض الْإِمَامَة فِي عَليّ وَحده بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ثمَّ فِي الْحسن ثمَّ فِي الْحُسَيْن وَادعوا نصا آخر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِمَا بعد أَبِيهِمَا ثمَّ عَليّ ابْن الْحُسَيْن لقَوْل الله عز وَجل {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} قَالُوا فولد الْحُسَيْن أَحَق من أَخِيه ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن ثمَّ جَعْفَر بن عَليّ ابْن الْحُسَيْن وَهَذَا مَذْهَب جَمِيع متكلميهم كهشام بن الحكم وَهِشَام الجواليقي وَدَاوُد الْحوَاري وَدَاوُد الرقي وَعلي بن مَنْصُور وَعلي بن هَيْثَم وَأبي عَليّ السكاك تلميذ هِشَام بن الحكم وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن النُّعْمَان شَيْطَان الطاق وَأبي ملك الْحَضْرَمِيّ وَغَيرهم ثمَّ افْتَرَقت الرافضة بعد موت هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وَمَوْت جَعْفَر بن مُحَمَّد فَقَالَت طَائِفَة بإمامة بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَقَالَت طَائِفَة ابْنه مُحَمَّد بن جَعْفَر وهم قَلِيل وَقَالَت طَائِفَة جَعْفَر حَيّ لم يمت وَقَالَ جُمْهُور الرافضة بإمامة ابْنه مُوسَى بن جَعْفَر ثمَّ عَليّ ابْن مُوسَى ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى ثمَّ عَليّ بن مُحَمَّد بن مُوسَى ثمَّ الْحسن بن عَليّ ثمَّ مَاتَ الْحسن غير معقب فافترقوا فرقا وَثَبت جمهورهم على أَنه ولد لِلْحسنِ بن عَليّ ولد فأخفاه وَقيل بل ولد لَهُ بعد مَوته من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا صقيل وَهُوَ الْأَشْهر وَقَالَ بَعضهم بل من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا نرجس وَقَالَ بَعضهم من جَارِيَة لَهُ اسْمهَا سوسن وَالْأَظْهَر أَن اسْمهَا صقيل هَذِه ادَّعَت الْحمل بعد الْحسن بن عَليّ سَيِّدهَا فَوقف مِيرَاثه لذَلِك سبع سِنِين ونازعهل فِي لَك أَخُوهُ جَعْفَر ابْن عَليّ وتعصب لَهَا جمَاعَة من أَرْبَاب الدولة وتعصب لجَعْفَر آخَرُونَ ثمَّ انفش ذَلِك الْحمل وَبَطل أَخذ الْمِيرَاث جَعْفَر أَخُوهُ وَكَانَ موت الْحسن هَذَا سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وزادت فتْنَة الروافض بصقيل هَذِه ودعواها إِلَى أَن حَبسهَا المعتضد بعد نَيف وَعشْرين سنة من موت سَيِّدهَا وَقد عير بهَا أَنَّهَا فِي منزل الْحسن بن جَعْفَر النوبختي(4/77)
الْكَاتِب فَوجدت فِيهِ وحملت إِلَى قصر المعتضد فَبَقيت هُنَالك إِلَى أَن مَاتَت فِي الْقصر فِي أَيَّام المقتدر فهم إِلَى الْيَوْم ينتظرون ضَالَّة من مائَة عَام وَثَمَانِينَ عَاما وَكَانَت طَائِفَة قديمَة قد بادت كَانَ رئيسهم الْمُخْتَار بن عبيد وكيسان أَبَا عمْرَة وَغَيرهمَا يذهبون إِلَى أَن الإِمَام بعد الْحُسَيْن مُحَمَّد أَخُوهُ الْمَعْرُوف بِابْن الحنيفة وَمن هَذِه الطَّائِفَة كَانَ السَّيِّد الْحِمْيَرِي وَكثير عزة الشَّاعِر أَن وَكَانُوا يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا بن الْحَنَفِيَّة حَيّ بجبل رضوي وَلَهُم من التَّخْلِيط مَا تضيق عَنهُ الصُّحُف
(وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد) وعمدة هَذِه الطوائف كلهَا فِي الِاحْتِجَاج أَحَادِيث مَوْضُوعَة مكذوبة لَا يعجز عَن توليد مثلهَا من لَا دين لَهُ وَلَا حَيَاء
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا معنى لاحتجاجنا عَلَيْهِم برواياتنا فهم لَا يصدقونا وَلَا معنى لاحتجاجهم علينا بروياتهم فَنحْن لَا نصدقها وَإِنَّمَا يجب أَن يحْتَج الْخُصُوم بَعضهم على بعض بِمَا يصدقهُ الَّذِي تُقَام عَلَيْهِ الْحجَّة بِهِ سَوَاء صدقه المحتج أَو لم يصدقهُ لِأَن من صدق بِشَيْء ملزمه القَوْل بِهِ أَو بِمَا يُوجِبهُ الْعلم الضَّرُورِيّ فَيصير الْخصم يَوْمئِذٍ مكابراً مُنْقَطِعًا أَن ثَبت على مَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن بعض مَا يشغبون بِهِ أَحَادِيث صِحَاح نوافقهم على صِحَّتهَا مِنْهَا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا يُوجب لَهُ فضلا على من سواهُ وَلَا اسْتِحْقَاق الْإِمَامَة بعده عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن هَارُون لم يل أَمر نَبِي إِسْرَائِيل بعد مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَإِنَّمَا ولي الْأَمر بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يُوشَع بن نون فَتى مُوسَى وَصَاحبه الي سَافر مَعَه فِي طلب الْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام كَمَا ولي الْأَمر بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاحبه فِي الْغَار الَّذِي سَافر مَعَه إِلَى الْمَدِينَة وَإِذا لم يكن عَليّ نَبيا كَمَا كَانَ هَارُون نَبيا نَبيا وَلَا كَانَ هَارُون خَليفَة بعد موت مُوسَى على بني إِسْرَائِيل فقد صَحَّ أَن كَونه رَضِي الله عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَرَابَة فَقَط وَأَيْضًا فَإِنَّمَا قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل إِذا اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة فِي غَزْوَة تَبُوك فَقَالَ المُنَافِقُونَ استقله فخلفه فلحق عَليّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشكى ذَلِك إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى يُرِيد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة مُخْتَارًا استخلافه كَمَا اسْتخْلف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا مُخْتَار الإستخلافة ثمَّ قد اسْتخْلف عَلَيْهِ السَّلَام قبل تَبُوك وَبعد تَبُوك على الْمَدِينَة فِي أَسْفَاره رجَالًا سوى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فصح أَن هَذَا الِاسْتِخْلَاف لَا يُوجب لعَلي فضلا على غَيره وَلَا ولَايَة الْأَمر بعده كَمَا لم يُوجب ذَلِك لغيره من المستخلفين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وعمدة مَا احتجت بِهِ الإمامية أَن قَالُوا لَا بُد من ان يكون إِمَام مَعْصُوم عِنْده جَمِيع علم الشَّرِيعَة ترجع النَّاس إِلَيْهِ فِي أَحْكَام الدّين ليكونوا مِمَّا تعبدوا بِهِ على يَقِين(4/78)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا لَا شكّ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْرُوف ببراهينه الْوَاضِحَة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْنَا تبيان دينه الَّذِي ألزمنا إِيَّاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ كَلَامه وعهوده وَمَا بلغ من كَلَام الله تَعَالَى حجَّة نَافِذَة معصومة من كل آفَة أَتَى بِحَضْرَتِهِ وَإِلَى من كَانَ فِي حَيَاته غَائِبا عَن حَضرته وَإِلَى كل من يَأْتِي بعد مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من جن وإنس قَالَ عز وَجل {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا اتِّبَاع أحد دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى فرض الْإِمَامَة لتنفيذ الإِمَام عهود الله تَعَالَى الْوَارِدَة إِلَيْنَا على من عِنْده فَقَط لَا لِأَن يَأْتِي النَّاس مَا لَا يشاؤنه فِي مَعْرفَته من الدّين الَّذِي أَتَاهُم بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ إِذْ دعِي إِلَى التحاكم إِلَى الْقُرْآن أجَاب وَأخْبر أَن التحاكم إِلَى الْقُرْآن حق فَإِن كَانَ عَليّ صَوَاب فِي لَك فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن كَانَ أجَاب وَأخْبر أَن التحاكم إِلَى الْقُرْآن فَإِن كَانَ عَليّ أصَاب فِي ذَلِك فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن كَانَ أجَاب إِلَى الْبَاطِل فَهَذِهِ غير صفته رَضِي الله عَنهُ وَلَو كَانَ التحاكم إِلَى الْقُرْآن لَا يجوز بِحَضْرَة الإِمَام لقَالَ عَليّ حِينَئِذٍ كَيفَ تطلبون تحكيم الْقُرْآن وَأَنا الإِمَام الْمبلغ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قَالُوا إِذْ مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا بُد من إِمَام يبلغ الدّين قُلْنَا هَذَا بَاطِل وَدَعوى بِلَا برهَان وَقَول لَا دَلِيل على صِحَّته وَإِنَّمَا الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ أهل الأَرْض من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببيانه وتبليغه فَقَط سَوَاء فِي ذَلِك من كَانَ بِحَضْرَتِهِ وَمن غَابَ عَنهُ وَمن جَاءَ بعده إِذْ لَيْسَ فِي شخصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم يتَكَلَّم بَيَان عَن شَيْء من الدّين فَالْمُرَاد مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام بَاقٍ أبدا مبلغ إِلَى كل من فِي الأَرْض وَأَيْضًا فلوا كَانَ مَا قَالَ أَمن الْحَاجة إِلَى إِمَام مَوْجُودا بدا لَا ننقض ذَلِك عَلَيْهِم بِمن كَانَ غَائِبا عَن حَضْرَة الإِمَام فِي أقطار الأَرْض إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يُشَاهد الإِمَام جَمِيع أهل الأَرْض الَّذين فِي الْمشرق وَالْمغْرب من فَقير وَضَعِيف وَامْرَأَة ومرسض ومشغول بمعاشه الَّذِي يضيع إِن أغفله فَلَا بُد من التَّبْلِيغ عَن الإِمَام فالتبيلغ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى بالاتباع من التَّبْلِيغ عَمَّن هُوَ دونه وَهَذَا مَا لَا انفكاك لَهُم مِنْهُ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا سِيمَا وَجَمِيع أئمتهم الَّذين يدعونَ بعد عَليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم مَا أمروا قطّ فِي غير منَازِل سكناهم وَمَا حكمُوا على قَرْيَة فَمَا فَوْقهَا بِحكم فَمَا الْحَاجة إِلَيْهِم لَا سِيمَا مذ مائَة عَام وَثَمَانِينَ عَاما فَإِنَّهُم يدعونَ إِمَامًا ضَالًّا لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان وَدَعوى كَاذِبَة لم يعجز عَن مثلهَا أحد وَأَيْضًا فَإِن الإِمَام الْمَعْصُوم لَا يعرف أَنه مَعْصُوم إِلَّا بمعجزة ظَاهِرَة عَلَيْهِ أَو بِنَصّ تنقله الْعلمَاء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل إِمَام بِعَيْنِه واسْمه وَنسبه وَإِلَّا فَهِيَ دَعْوَى لَا يعجز عَن مثلهَا أحد لنَفسِهِ أَو لمن شَاءَ وَلَقَد يلْزم كل ذِي عقل سليم أَن يرغب بِنَفسِهِ عَن اعْتِقَاد هَذَا الْجَهْل الغث الْبَارِد السخيف الَّذِي ترْتَفع عقول الصّبيان عَنهُ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وبرهان آخر ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن رَسُول الله(4/79)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ وَجُمْهُور الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حاشا من كَانَ مِنْهُم فِي النواحي يعلم النَّاس الدّين فَمَا مِنْهُم أحد أَشَارَ إِلَى عَليّ بِكَلِمَة يذكر فِيهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص عَلَيْهِ وَلَا ادّعى ذَلِك عَليّ قطّ لَا فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَلَا إدعاء لَهُ أحد فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَلَا ادَّعَاهُ لَهُ أحد فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا بعده وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يُمكن الْبَتَّةَ وَلَا يجوز اتِّفَاق أَكثر من عشْرين ألف إِنْسَان متْنا بِذِي الهمم والنيات والأنساب أَكْثَرهم موتور فِي صَاحبه فِي الدِّمَاء من الْجَاهِلِيَّة على طي على عهد عاهده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم وَمَا وجدنَا قطّ رِوَايَة عَن أحد بِهَذَا النَّص الْمُدعى إِلَّا رِوَايَة وَاحِدَة واهية عَن مجهولين إِلَى مَجْهُول يكنى بالحمراء لَا يعرف من هُوَ فِي الْخلق وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ تَأَخّر عَن الْبيعَة سِتَّة أشهر فَمَا أكرهه أَبُو بكر على الْبيعَة حَتَّى بَايع طَائِعا مراجعاً غير مكره فَكيف حل لعي رَضِي الله عَنهُ عِنْد هَؤُلَاءِ النوكي أَن يُبَايع طَائِعا رجلا إِمَّا كَافِرًا وَإِمَّا فَاسِقًا جاحداً لنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويعينه على أمره ويجالسه فِي مجالسه ويواليه إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ يُبَايع بعده عمر بن الْخطاب مبادراً غير متاردد سَاعَة فَمَا فَوْقهَا غير مركه بل طَائِعا وَصَحبه وأعانه على أمره وانكحه من ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ قبل ادخاله فِي الشورى أحد سِتَّة رجال فَكيف حل لعَلي عِنْد هَؤُلَاءِ الْجُهَّال أَن يُشَارك بِنَفسِهِ فِي شُورَى ضَالَّة وَكفر ويغر الْأمة هَذَا الْغرُور وَهَذَا الْأَمر أدّى أَبَا كَامِل إِلَى تَكْفِير عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ فِي زَعمه أعَان الْكفَّار على كفرهم وأيدهم على كتمان الدّيانَة وعَلى مَا لَا يتم الدّين إِلَّا بِهِ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا يجوز أَن يظنّ بعلي رَضِي الله عَنهُ انه أمسك عَن ذكر النَّص عَلَيْهِ خوف الْمَوْت وَهُوَ الْأسد شجاعة قد عرض نَفسه للْمَوْت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّات ثمَّ يَوْم الْجمل وصفين فَمَا الَّذِي جبنه بَين هَاتين الْحَالَتَيْنِ وَمَا الَّذِي ألف بَين بصائر النَّاس على كتمان حق عَليّ وَمنعه مَا هُوَ أَحَق بِهِ مذ مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ثمَّ مَا الَّذِي جلى بصائرهم فِي عونه إِذْ دَعَا إِلَى نَفسه فَقَامَتْ مَعَه طوائف من الْمُسلمين عَظِيمَة وبذلوا دِمَاءَهُمْ دونه ورأوه حِينَئِذٍ صَاحب الْأَمر وَالْأولَى بِالْحَقِّ مِمَّن نازعه فَمَا الَّذِي مَنعه ومنعهم من الْكَلَام وَإِظْهَار النَّص الَّذِي يَدعِيهِ الكذابون إِذْ مَاتَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَبَقِي النَّاس بِلَا رَأس ثَلَاثَة أَيَّام أَو يَوْم السَّقِيفَة وأظرف من هَذَا بَقَاؤُهُ ممسكاً عَن بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ سِتَّة أشهر فَمَا سَأَلَهَا وَلَا أجبر عَلَيْهَا وَلَا كلفها وَهُوَ يتَصَرَّف بَينهم فِي أُمُوره فلولا أَنه رأى أَحَق فِيهَا واستدرك أمره فَبَايع طَالبا حفظه نَفسه فِي دينه رَاجعا إِلَى الْحق لما بَايع فَإِن قَالَت الروافض أَنه بعد سِتَّة أشهر رأى الرُّجُوع إِلَى الْبَاطِل فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل حَقًا لَا مَا فعل عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ ولى عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَمَا غير حكما من أَحْكَام أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَلَا أبطل عهدا من عهودهم وَلَو كَانَ ذَلِك عِنْده بَاطِلا لما كَانَ فِي(4/80)
سَعَة من أَن يمْضِي الْبَاطِل وينفذه وَقد ارْتَفَعت التقية عَنهُ وَأَيْضًا فقد نَازع الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ ودعوا إِلَى بيعَة سعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُم ودعا الْمُهَاجِرُونَ إِلَى بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَن جَمِيعهم وَقعد عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي بَيته لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ لَيْسَ مَعَه أحد غير الزبير بن الْعَوام ثمَّ استبان الْحق للزبير رَضِي الله عَنهُ فَبَايع سَرِيعا وَبَقِي عَليّ وَحده لَا يرقب عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع من لِقَاء النَّاس وَلَا يمْنَع من لِقَائِه فَلَا يَخْلُو رُجُوع الْأَنْصَار كلهم إِلَى بيعَة أبي بكر من أَن يكون عَن غَلَبَة أَو عَن ظُهُور حَقه إِلَيْهِم فَأوجب ذَلِك الانقياد لبيعته أَو فعلوا ذَلِك مطارفة لغير معنى وَلَا سَبِيل إِلَى قسم رَابِع بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن قَالُوا بَايعُوهُ بِغَلَبَة كذبُوا لِأَنَّهُ لم يكن هُنَالك قتال لَا تضارب وَلَا سباب وَلَا تهديد وَلَا وَقت طَوِيل يَنْفَسِخ للوعيد وَلَا سلَاح مَأْخُوذ ومحال أَن يتْرك أَزِيد من ألفي فَارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة وَاحِدَة قد ظهر من شجاعتهم مَا لَا مرمى وَرَاءه وَهُوَ أَنهم بقو ثَمَانِيَة أَعْوَام مُتَّصِلَة محاربين لجَمِيع الْعَرَب فِي أقطار بِلَادهمْ موطنين على الْمَوْت متعرضين مَعَ ذَلِك للحرب مَعَ قَيْصر وَالروم بمؤنة وَغَيرهَا ولكسرى وَالْفرس ببصرى من يخاطبهم يَدعُوهُ إِلَى اتِّبَاعه وَأَن يكون كَأحد من بَين يَدَيْهِ هَذِه صفة الْأَنْصَار الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا رقيع مجاهر بِالْكَذِبِ فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يرهبوا أَبَا بكر وَرجلَيْنِ أَتَيَا مَعَه فَقَط لَا يرجع إِلَى عشيرة كَثِيرَة وَلَا إِلَى موَالٍ وَلَا إِلَى عصبَة وَلَا مَال فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْدهم مُبْطل وَبَايَعُوهُ بِلَا تردد وَلَا تَطْوِيل وَكَذَلِكَ يبطل أَن يرجِعوا عَن قَوْلهم وَمَا كَانُوا قد رَأَوْهُ من أَن الْحق حَقهم وَعَن بيعَة ابْن عمهم مطارفة بِلَا خوف وَلَا ظُهُور الْحق إِلَيْهِم فَمن الْمحَال اتِّفَاق أهواء هَذَا الْعدَد الْعَظِيم على مَا يعْرفُونَ أَنه بَاطِل دون خوف يضطرهم إِلَى ذَلِك وَدون طمع يتعجلونه من مَال أَو جاه بل فِيمَا فِيهِ ترك الْعِزّ وَالدُّنْيَا والرياسة وَتَسْلِيم كل ذَلِك إِلَى رجل لَا عشيرة لَهُ وَلَا مَنْعَة وَلَا حَاجِب وَلَا حرس على بَابه وَلَا قصر مُمْتَنع فِيهِ وَلَا موَالِي وَلَا مَال فَأَيْنَ كَانَ عَليّ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي الشجَاعَة وَمَعَهُ جمَاعَة من بني هَاشم وَبني الْمطلب من قتل هَذَا الشَّيْخ الَّذِي لَا دَافع دونه لَو كَانَ عِنْده ظَالِما وَعَن مَنعه وزجره بل قد علم وَالله عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ على الْحق وَإِن من خَالفه على الْبَاطِل فَإذْ عَن للحق بعد أَن عرضت لَهُ فِيهِ كبوة كَذَلِك الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم وَإِذ قد بَطل كل هَذَا فَلم يبْق إِلَّا أَن عليا وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم إِنَّمَا رجعُوا إِلَى بيعَة أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم لبرهان حق صَحَّ عِنْدهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا لاجتهاد كاجتهادهم وَلَا لظن كظنونهم فَإذْ قد بَطل أَن يكون الْأَمر فِي الْأَنْصَار وزالت الرياسة عَنْهُم فَمَا الَّذِي حملهمْ كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم على أَن يتفقوا على جحد نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أماة عَليّ وَمن الْمحَال أَن تتفق آرائهم كلهم على مَعُونَة من ظلمهم وغصبهم حَقهم إِلَّا أَن تَدعِي الروافض أَنهم كلهم اتّفق لَهُم نيسان فَهَذِهِ أعجوبة من الْمحَال غير مُمكنَة ثمَّ لَو أمكنت لجَاز لكل أحد أَن يَدعِي فِيمَا شَاءَ من الْمحَال إِنَّه قد كَانَ وَإِن النَّاس كفهم نسوه وَفِي هَذَا ابطال الْحَقَائِق كلهم وَأَيْضًا فَإِن كَانَ جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّفقُوا على جحد ذَلِك النَّص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فَمن أَيْن وَقع الروافض أمره وَمن بلغه إِلَيْهِم وكل هَذَا عَن هوس ومحال فَبَطل أَمر النَّص على عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ كَانَ قد قتل الْأَقَارِب بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتولد لَهُ بذلك حقد فِي قُلُوب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلذَلِك انحرفوا عَنهُ قيل لَهُ هَذَا تمويه(4/81)
ضَعِيف كَاذِب لِأَنَّهُ إِن سَاغَ لكم ذَلِك فِي بني عبد شمس وَبني مَخْزُوم وَبني عبد الدَّار وَبني عَامر لِأَنَّهُ قتل من كل قَبيلَة من هَذِه الْقَبَائِل رجلا أَو رجَالًا فَقتل من بني عَامر بن لؤَي رجلا وَاحِدًا وَهُوَ عَمْرو بن ود وَقتل من بني مَخْزُوم وَبني عبد الدَّار رجَالًا وَقتل من بني عبد شمس الْوَلِيد بن عقبَة وَالْعَاص بن سهل بن الْعَاصِ بِلَا شكّ وشارك فِي قتل عتبَة بن ربيعَة وَقيل قتل عقبَة بن أبي معيط وَقيل قَتله غَيره وَهُوَ عَاصِم بن ثَابت الْأنْصَارِيّ وَلَا مزِيد فقد علم كل من لَهُ أقل من علم بالأخبار أَنه لم يكن لهَذِهِ الْقَبَائِل وَلَا لأحد مِنْهَا يَوْم السَّقِيفَة حل وَلَا عقد وَلَا رَأْي وَلَا أَمر اللَّهُمَّ إِلَّا أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة كَانَ ماثلا إِلَى عَليّ فِي ذَلِك الْوَقْت عصبية لِلْقَرَابَةِ لَا تديناً وَكَانَ ابْنه يزِيد وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ والْحَارث بن هِشَام ابْن الْمُغيرَة المَخْزُومِي مائلين إِلَى الْأَنْصَار تديناً وَالْأَنْصَار قتلوا أَبَا جهل بن هِشَام أَخَاهُ وَقد كَانَ مُحَمَّد بن أبي حُذَيْفَة بن عتبَة بن ربيعَة شَدِيد الْميل إِلَى عَليّ حِين قصَّة عُثْمَان وَبعدهَا حَتَّى قبله مُعَاوِيَة على ذَلِك فعرفونا من قتل عَليّ من بني تيم بن مرّة أَو من عدي بن كَعْب حَتَّى يظنّ أهل القحة أَنَّهُمَا حقدا عَلَيْهِ ثمَّ أخبرونا من قتل من الْأَنْصَار أَو من جرح مِنْهُم أَو من أَذَى مِنْهُم ألم يَكُونُوا مَعَه فِي تِلْكَ الْمشَاهد كلهَا بَعضهم مُتَقَدم وَبَعْضهمْ مسَاوٍ لَهُ وَبَعْضهمْ مُتَأَخّر عَنهُ فَأَي حقد كَانَ لَهُ فِي قُلُوب الْأَنْصَار حَتَّى يتفقوا كلهم على جحد النَّص عَلَيْهِ وعَلى إبِْطَال حَقه وعَلى ترك كرّ اسْمه جملَة واينار سعد بن عبَادَة عَلَيْهِ ثمَّ على إِيثَار أبي بكر وَعمر عَلَيْهِ والمسارعة إِلَى بيعَته بالخلافة دونه وَهُوَ مَعَهم وَبَين أظهرهم يورنه غدواً وعشياً لَا يحول بَينهم وَبَينه أحد ثمَّ أخبرونا من قتل عَليّ من أقَارِب أَولا الْمُهَاجِرين من الْعَرَب من مُضر وَرَبِيعَة وَالْيَمِين وقضاعة حَتَّى يصفقوا (1) كلهم على كَرَاهِيَة وَلَا يته ويتفقوا كلهم على جحد النَّص عَلَيْهِ إِن هَذِه لعجائب لَا يُمكن اتِّفَاق مثلهَا فِي الْعَالم أصلا وَلَقَد كَانَ لطلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص من الْقَتْل فِي الْمُشْركين كَالَّذي كَانَ لعَلي فَمَا الَّذِي خصّه باعتقاد الأحقاد لَهُ دونهم لَو كَانَ للروافض حَيَاء أَو عقل وَلَقَد كَانَ لأبي بكر رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ فِي مضادة قُرَيْش فِي الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام مَا لم يكن لعَلي فَمَا مَنعهم ذَلِك من بيعَته وَهُوَ أَسْوَأ النَّاس أثرا عِنْد كفارهم وَلَقَد كَانَ لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي مغالبة كفار قُرَيْش وإعلانه الْإِسْلَام على زعمهم مَا لم يكن لعَلي رَضِي الله عَنهُ فليت شعري مَا الَّذِي أوجب أَن ينسى آثارها هَؤُلَاءِ كلهم ويعادوا عليا من بَينهم كلهم لَوْلَا قلَّة حَيَاء الروافض وَصِفَاته وجهودهم حَتَّى بلغ الْأَمر بهم إِلَى أَن عدوا على سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَأُسَامَة بن زيد مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَافِع بن خديج الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ وَزيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ وَأبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء وَجَمَاعَة غير هَؤُلَاءِ من الْمُهَاجِرين لم يبايعوا عليا إِذْ ولي الْخلَافَة ثمَّ بَايعُوا مُعَاوِيَة وَيزِيد ابْنه من أدْركهُ وَادعوا أَن تِلْكَ الأحقاد حملنهم على ذَلِك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) حمق الرافضة وَشدَّة ظلمَة جهلهم وَقلة حياتهم هورهم فِي الدمار والبوار والعار وَالنَّار وَقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أَي حماسة وَأي كلمة حَسَنَة كَانَت بَين عَليّ وَبَين هَؤُلَاءِ أَو أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا كَانَ هَؤُلَاءِ وَمن جرى مجراهم لَا يرَوْنَ بيعَة فِي فرقة فَلَمَّا اتّفق الْمُسلمُونَ على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ كَائِنا من كَانَ دخلُوا فِي الْجَمَاعَة وَهَكَذَا فعل من أدْرك من هَؤُلَاءِ ابْن الزبير رَضِي الله عَنهُ ومروان فَإِنَّهُم قعدوا عَنْهُمَا فَلَمَّا انْفَرد عبد الْملك بن(4/82)
مَرْوَان بَايعه من أدْركهُ مِنْهُم لأرضا عَنهُ وَلَا عَدَاوَة لإبن زبير وَلَا تَفْصِيلًا لعبد الْملك عَليّ ابْن الزبير لَكِن لما ذكرنَا وَهَكَذَا كَانَ أَمرهم فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة فلاحت لوكة هَؤُلَاءِ المجانين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا زيد بن حَارِثَة قتل يَوْم بدر حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان وَهَذَا الزبير الْعَوام قتل يَوْم بَدْرًا أَيْضا عُبَيْدَة بن سعيد بن الْعَاصِ وَهَذَا عمر بن الْخطاب قتل يَوْمئِذٍ الْعَاصِ بن هِشَام بن الْمُغيرَة فَهَلا عاداهم أهل هَؤُلَاءِ المقتولين وَمَا إِلَى خص عليا أَوْلِيَاء من قتل دون سَائِر من قُلْنَا لَوْلَا جُنُون الرافضة وَعدم الْحيَاء من وُجُوههم ثمَّ لَو كَانَ على مَا ذَكرُوهُ حَقًا فَمَا الَّذِي كَانَ دَعَا عمر إِلَى إِدْخَاله فِي الشورى مَعَ من أدخلهُ فِيهَا وَلَو أخرجه مِنْهَا كَمَا أخرج سعيد بن زيد أَو قصد إِلَى رجل غَيره فولاه مَا اعْترض عَلَيْهِ أحد فِي ذَلِك بِكَلِمَة فصح ضَرُورَة بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْقَوْم أنزلوه مَنْزِلَته غير عالين وَلَا مقصرين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَأَنَّهُمْ قدمُوا الأحق فَالْحق وَالْأَفْضَل فَالْأَفْضَل وساوه بنظرائه مِنْهُم ثمَّ أوضح برهَان وَأبين بَيَان فِي بطلَان أكاذيب الرافضة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ لما ادعِي إِلَى نَفسه بعد قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ سارعت طوائف الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار إِلَى بيعَته فَهَل كرّ أحد من النَّاس أَنْت أحدا مِنْهُم اعتذر إِلَيْهِ مِمَّا سلف من بيعتهم لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان أَو هَل تَابَ أحد مِنْهُم من جَحده للنَّص على إِمَامَته أَو قَالَ أحد مِنْهُم لقد ذكرت هَذَا النَّص الَّذِي كنت أنسيته فِي أَمر هَذَا الرجل أَن عقولاً خَفِي عَلَيْهَا هَذَا الظَّاهِر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أَن يهديها ثمَّ مَاتَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَترك الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة من الصَّحَابَة عَليّ أحدهم وَلم يكن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة سُلْطَان يخَاف وَلَا رَئِيس يتوقى وَلَا مَخَافَة من أحد وَلَا جند معد للتغلب أفترى لَو كَانَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ حق ظَاهر يخْتَص بِهِ وَمن نَص عَلَيْهِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من فضل بَائِن على من مَعَه ينْفَرد بِهِ عَنْهُم أما كَانَ الْوَاجِب على عَليّ أَن يَقُول أَيهَا النَّاس كم هَذَا الظُّلم لي وَكم هَذَا الكتمان بحقي وَكم هَذَا الْجحْد لنَصّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكم هَذَا الْإِعْرَاض عَن فضلي الْبَائِن على هَؤُلَاءِ المقرونين بِي فَإِذا لم يفعل لَا يدْرِي لماذا أما كَانَ فِي بني هَاشم أحد لَهُ دين يَقُول هَذَا الْكَلَام أما الْعَبَّاس عَمه وَجَمِيع الْعَالمين على توقيره وتعظيمه حَتَّى أَن عمر نوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى بِحَضْرَة النَّاس فِي الاسْتِسْقَاء وَأما أحد بنيه وَأما عقيل أَخُوهُ وَأما أحد بني جَعْفَر أَخِيه أَو غَيرهم فَإِذا لم يكن فِي بني هَاشم أحد يَتَّقِي الله عز وَجل وَلَا يَأْخُذهُ فِي قَول الْحق مداهنة أما كَانَ فِي جَمِيع أهل الْإِسْلَام من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَغَيرهم وَاحِد يَقُول يَا معشر الْمُسلمين قد زَالَت الرَّقَبَة وَهَذَا عَليّ لَهُ حق وَاجِب بِالنَّصِّ وَله فضل بَائِن ظَاهر لَا يمترى فِيهِ فَبَايعُوهُ فَأمر وَبَين أَن اتِّفَاق جَمِيع الْأمة أَولهَا عَن آخرهَا من برقة إِلَى أول خُرَاسَان وَمن الجزيرة إِلَى أقْصَى الْيَمين إِذْ بَلغهُمْ الْخَبَر على السُّكُوت عَن حق هَذَا الرجل واتفاقهم على ظلمه وَمنعه من حَقه وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء يخافونه لإحدى عجائب الْمحَال الْمُمْتَنع وَفِيهِمْ إِلَى بَايعُوهُ بعد ذَلِك إِذْ صَار الْحق حَقه وَقتلُوا أنفسهم دونه فَأَيْنَ كَانُوا عَن إِظْهَار مَا تنبهت لَهُ الروافض الأنذال ثمَّ الْعجب إِذْ كَانَ غيظهم عَلَيْهِ هَذَا الغيظ واتفاقهم على جَحده حَقه هَذَا الِاتِّفَاق كَيفَ تورعوا عَن قَتله ليستريحوا مِنْهُ أم كَيفَ أكرموه وبروه وأدخلوه فِي الشورى وقا لهشام بن الحكم كَيفَ يحسن الظَّن بالصحابة أَن لَا يكتموا النَّص على عَليّ وهم قد اقْتَتَلُوا وَقتل بَعضهم بَعْضًا فَهَل يحسن بهم الظَّن فِي هَذَا(4/83)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَو علم الْفَاسِق أَن هَذَا القَوْل أعظم حجَّة عَلَيْهِ لم ينْطق بِهَذَا السخف لِأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أول من قَاتل حِين افترق النَّاس فَكل مَا لحق المقتتلين مِنْهُم من حسن الظَّن بهم أَو من سوء الظَّن بهم فَهُوَ لَا حق لعَلي فِي قِتَاله وَلَا فرق بَينه وَبَين سَائِر الصَّحَابَة فِي لَك كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن خصّه متحكم كَانَ كمن خصّه غَيره مِنْهُم متحكماً وَلَا فرق وَأَيْضًا فَإِن اقتتالهم رَضِي الله عَنْهُم أَو كد برهَان على أَنهم لم يغاروا على مَا رَأَوْهُ بَاطِلا بل قَاتل كل فريق مِنْهُم على مَا رَأَوْهُ حَقًا وَرَضي بِالْمَوْتِ دون الصَّبْر على خلاف مَا عِنْده وَطَائِفَة مِنْهُم قعدت إِذْ لم تَرَ الْحق فِي الْقِتَال فَدلَّ عَليّ بِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْدهم نَص على عَليّ أَو عِنْد وَاحِد مِنْهُم لأظهروه أَو لأظهره كَمَا أظهرُوا مَا رَأَوْا أَن يبدلوا أنفسهم لِلْقِتَالِ وَالْمَوْت دونه فَإِن قَالُوا قد أقررتم أَنه لَا بُد من إِمَام فَبِأَي شَيْء يعرف الإِمَام لَا سِيمَا وَأَنْتُم خَاصَّة معشر أهل الظَّاهِر لَا تأخذون إِلَّا بِنَصّ قُرْآن أَو خبر صَحِيح وَهَذَا أَيْضا مِمَّا سَأَلنَا عَنهُ أَصْحَاب الْقيَاس والرأي
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على وجوب الْإِمَامَة وَأَنه لَا يحل بَقَاء لَيْلَة دون بيعَة وافترض علينا بِنَصّ قَوْله الطَّاعَة للقرشي إِمَامًا وَاحِد أَلا يُنَازع إِذا قادنا بِكِتَاب الله عز وَجل فصح من هَذِه النُّصُوص النَّص على صفة الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته كَمَا صَحَّ النَّص على صفة الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته كَمَا صَحَّ النَّص على صفة الشُّهُود فِي الْأَحْكَام وَصفَة الْمَسَاكِين والفقراء الْوَاجِب لَهُم الزَّكَاة وَصفَة من يؤم فِي الصَّلَاة وَصفَة من يجوز نِكَاحهَا من النِّسَاء وَكَذَلِكَ سَائِر الشَّرِيعَة كلهَا وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الْأَسْمَاء إِذْ لم يكلفنا الله عز وَجل ذَلِك فَكل قرشي بَالغ عَاقل بَادر إِثْر موت الإِمَام الَّذِي لم يعْهَد إِلَى أحد فَبَايعهُ وَاحِد فَصَاعِدا فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِب طَاعَته مِمَّا قادنا بِكِتَاب الله تَعَالَى وبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي أَمر الْكتاب باتباعها فَإِن زاغ عَن شَيْء مِنْهُمَا منع من ذَلِك وأقيم الْحَد وَالْحق فَإِن لم يُؤثر أَذَاهُ إِلَّا بخلعه خلع وَولي غَيره وَمِنْهُم فَإِن قَالُوا قد اخْتلف النَّاس فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالسّنة وَمنع من تأويلهما بِغَيْر نَص آخر قُلْنَا أَن التَّأْوِيل الَّذِي لم يقم عَلَيْهِ برهَان تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه وَقد جَاءَ النَّص بِالْمَنْعِ من ذَلِك وَلَيْسَ الِاخْتِلَاف حجَّة وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي نَص الْقُرْآن وَالسّنَن وَمَا اقْتَضَاهُ لَفْظهمَا الْعَرَبِيّ الَّذِي خوطبنا بِهِ وَبِه ألزمتنا الشَّرِيعَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نسألهم فَنَقُول لَهُم أَن عُمْدَة احتجاجكم فِي إِيجَاب إمامتكم الَّتِي تدعيها جَمِيع فرقكم إِنَّمَا هِيَ وَجْهَان فَقَط أَحدهمَا النَّص الَّذِي عَلَيْهِ باسمه وَالثَّانِي شدَّة الْفَاقَة إِلَيْهِ فِي بَيَان الشَّرِيعَة إِذْ علمهَا عِنْده لَا عِنْد غَيره وَلَا مزِيد فَأَخْبرُونِي بِأَيّ شَيْء صَار مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن أولى بِالْإِمَامَةِ من أخوته زيد وَعَمْرو وَعبد الله وَعلي وَالْحُسَيْن فَإِن ادعوا نصا من أَبِيه عَلَيْهِ أَو من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه الباقر لم يكن ذَلِك ببدع من كذبهمْ وَلم يَكُونُوا أولى بِتِلْكَ الدَّعْوَى من الكيسانية فِي دَعوَاهُم النَّص على ابْن حنيفَة وَإِن ادعوا أَنه كَانَ أفضل من اخوته كَانَت أَيْضا دَعْوَى بِلَا برهَان وَالْفضل لَا يقطع على مَا عِنْد الله عز وَجل فِيهِ بِمَا يَبْدُو من الْإِنْسَان فقد يكون بَاطِنه خلاف ظَاهر وَكَذَلِكَ يسْأَلُون أَيْضا مَا الَّذِي جعل مُوسَى بن جَعْفَر أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه مُحَمَّد وَإِسْحَاق أَو عَليّ فَلَا يَجدونَ إِلَى غير الدَّعْوَى سَبِيلا وَكَذَلِكَ أَيْضا يسْأَلُون مَا إِلَى خص عَليّ بن مُوسَى بِالْإِمَامَةِ دون اخوته وهم سَبْعَة عشر ذكرا فَلَا يَجدونَ شَيْئا غير الدَّعْوَى وَكَذَلِكَ يسْأَلُون مَا الَّذِي جعل مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه عَليّ بن عَليّ وَمَا إِلَى جعل عَليّ بن مُحَمَّد أولى بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه مُوسَى بن مُحَمَّد وَمَا(4/84)
الَّذِي جعل الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى أَحَق بِالْإِمَامَةِ من أَخِيه جَعْفَر بن عَليّ فَهَل هَا هُنَا شَيْء غير الدَّعْوَى الكاذبة الَّتِي لَا حَيَاء لصَاحِبهَا وَالَّتِي لَو ادّعى مثلهَا مُدع لِلْحسنِ ابْن الْحسن ولعَبْد الله بن الْحسن أَو لِأَخِيهِ الْحسن بن الْحسن أَو لإبن عَليّ بن الْحسن أَو لمُحَمد بن عبد الله الْقَائِم بِالْمَدِينَةِ أَو لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيم أَو لرجل من ولد الْعَبَّاس أَو من بني أُميَّة أَو من أَي قوم من النَّاس كَانَ لساواهم فِي الحماقة وَمثل هَذَا لَا يشْتَغل بِهِ من لَهُ مسكة من عقل أَو منحة من دين وَلَو قلت أَو رقْعَة من الْحيَاء فَبَطل وَجه النَّص وَأما وَجه الْحَاجة إِلَيْهِ فِي بَيَان الشَّرِيعَة فَمَا ظهر قطّ من أَكثر أئمتهم بَيَان لشَيْء مِمَّا اخْتلف فِيهِ النَّاس وَمَا بأيدهم من ذَلِك شَيْء إِلَّا دعاوي مفتعلة قد اخْتلفُوا أَيْضا فِيهَا كَمَا اخْتلف غَيرهم من الْفرق بِسَوَاء سَوَاء إِلَّا أَنهم أَسْوَأ حَالا من غَيرهم لِأَن كل من قلد إنْسَانا كأصحاب أبي حنيفَة لأبي حنيفَة وَأَصْحَاب مَالك لمَالِك وَأَصْحَاب الشَّافِعِي للشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب أَحْمد لِأَحْمَد فَإِن لهَؤُلَاء الْمَذْكُورين أصحاباً مشاهير نقلت عَنْهُم أَقْوَال صَاحبهمْ ونقلوها هم عَنهُ وَلَا سَبِيل إِلَى اتِّصَال خبر عِنْدهم ظَاهر مَكْشُوف يضْطَر الْخصم إِلَى أَن هَذَا قَول مُوسَى بن جَعْفَر وَلَا أَنه قَول عَليّ بن مُوسَى وَلَا أَنه قَول مُحَمَّد بن مُوسَى وَلَا أَنه قَول عَليّ بن مُحَمَّد وَأَنه قَول الْحسن بن عَليّ وَأما من بعد الْحسن بن عَليّ فَعدم بِالْكُلِّيَّةِ وحماقة ظَاهِرَة وَأما من قبل مُوسَى ابْن جَعْفَر فَلَو جمع كل مَا روى فِي الْفِقْه عَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا لما أبلغ أوراق فَمَا ترى الْمصلحَة الَّتِي يدعونها فِي إمَامهمْ ظَهرت وَلَا نفع الله تَعَالَى بهَا قطّ فِي علم وَلَا عمل لَا عِنْدهم وَلَا عِنْد غَيرهم وَلَا ظهر مِنْهُم بعد الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ من هَؤُلَاءِ الَّذين سموا وَاحِدًا وَلَا أَمر مِنْهُم أحد قطّ بِمَعْرُوف معلن وَقد قَرَأنَا صفة هَؤُلَاءِ المخالين المنتمين إِلَى الإمامية الْقَائِلين بِأَن الدّين عِنْد أئمتهم فَمَا رَأينَا إِلَّا دعاوي بَارِدَة وآراء فَاسِدَة كأسخف مَا يكون من الْأَقْوَال وَلَا يَخْلُو هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الَّذين يذكرُونَ من أَن يَكُونُوا مأمورين بِالسُّكُوتِ أَو مفسوحاً لَهُم فِيهِ فَإِن يَكُونَا مأمورين بِالسُّكُوتِ فقد أُبِيح للنَّاس الْبَقَاء فِي الضلال وَسَقَطت الْحجَّة فِي الدّيانَة عَن جَمِيع النَّاس وَبَطل الدّين وَلم يلْزم فرض الْإِسْلَام وَهَذَا كفر مُجَرّد وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا أَو يَكُونُوا مأمورين بالْكلَام وَالْبَيَان فقد عصوا الله إِذْ سكتوا وَبَطلَت إمامتهم وَقد لَجأ بَعضهم إِذْ سئلوا عَن صِحَة دَعوَاهُم فِي الْأَئِمَّة إِلَى أَن ادعوا الإلهام فِي ذَلِك فَإذْ قد صَارُوا إِلَى هَذَا الشغب فَإِنَّهُ لَا يضيق عَن أحد من النَّاس وَلَا يعجز خصومهم عَن أَن سدعوا أَنهم ألهموا بطلَان دَعوَاهُم قَالَ هِشَام بن الحكم لَا بُد أَن يكون فِي أخوة افمام آفَات يبين بهَا أَنهم لَا يسْتَحقُّونَ الْإِمَامَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه دَعْوَى مَرْدُودَة تزيد فِي الحماقة وَلَا نَدْرِي فِي زيد وَعَمْرو وَعبد الله وَالْحسن وَعلي بن عَليّ بن الْحُسَيْن آفَات تمنع إِلَّا أَن الْحسن أَخا زيد وَمُحَمّد كَانَ أعرج وَمَا علمنَا أَن العرج عيب يمْنَع من الْإِمَامَة إِنَّمَا هُوَ عيب فِي العبيد المتخين للمشي وَمَا يعجز خصومهم أَن يدعوا فِي مُحَمَّد بن عَليّ وَفِي جَعْفَر بن مُحَمَّد وَفِي سَائِر أئمتهم تِلْكَ الْآفَات الَّتِي ادَّعَاهَا هِشَام لأخوتهم ثمَّ أَن بعض أئمتهم الْمَذْكُورين مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين فنسألهم من أَيْن علم هَذَا الصَّغِير جمع علم الشَّرِيعَة وَقد عدم تَوْقِيف أَبِيه لَهُ عَلَيْهَا لصغره فَلم يبْق إِلَّا أَن يدعوا لَهُ الْوَحْي فَهَذِهِ نبوة وَكفر صَرِيح وهم لَا يبلغون إِلَى أَن يدعوا لَهُ النُّبُوَّة وَأَن يدعوا لَهُ معْجزَة تصحح قَوْله فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة مَا ظهر مِنْهَا فِي شَيْء أَو يدعوا لَهُ الإلهام فَمَا يعجز أحد عَن هَذِه الدَّعْوَى(4/85)
لكل أمة عَملهَا إِلَّا وجود من يعْتَقد هَذَا الْأَقْوَال السخيفة لَكَانَ أقوى حجَّة وأوضح برهَان وَإِلَّا فَمَا خلق الله عقلا يسع فِيهِ مثل هَذِه الحماقات وَالْحَمْد لله على عَظِيم مِنْهُ علينا وَهُوَ المسؤول مِنْهُ دوامها بمنه آمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْأَمر فِي الْإِمَامَة على مَا يَقُول هَؤُلَاءِ السخفاء لما كَانَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي سَعَة من أَن يُسَلِّمهَا لمعاوية رَضِي الله عَنهُ فيعينه على الضلال وعَلى إبِْطَال الْحق وَهدم الدّين فَيكون شَرِيكه فِي كل مظْلمَة وَيبْطل عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُوَافِقهُ على ذَلِك الْحُسَيْن أَخُوهُ رَضِي الله عَنْهُمَا فَمَا نقض قطّ بيعَة مُعَاوِيَة إِلَى أَن مَاتَ فَكيف اسْتحلَّ الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا إبِْطَال عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِمَا طائعين غير مكرهين فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَة قَامَ الْحُسَيْن يطْلب حَقه إِذْ رأى أَنَّهَا بيعَة ضَلَالَة فلولا أَنه رأى بيعَة مُعَاوِيَة حَقًا لما سلمهَا لَهُ ولفعل كَمَا فعل بِيَزِيد إِذْ ولي يزِيد هَذَا مَا لَا يمتري فِيهِ ذُو إنصاف هَذَا وَمَعَ الْحسن أَزِيد من مائَة ألف عنان يموتون دون فتالله لَوْلَا أَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ علم أَنه فِي سَعَة من إسْلَامهَا إِلَى مُعَاوِيَة وَفِي سَعَة من أَن لَا يُسَلِّمهَا لما جمع بَين الْأَمريْنِ فَأَمْسكهَا سِتَّة أشهر لنَفسِهِ وَهِي حَقه وَسلمهَا بعد ذَلِك لغير ضَرُورَة وَذَلِكَ لَهُ مُبَاح بل هُوَ الْأَفْضَل بِلَا شكّ لِأَن جده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خطب بذلك على الْمِنْبَر بِحَضْرَة الْمُسلمين وأراهم الْحسن مَعَه على الْمِنْبَر وَقَالَ أَن ابْني هَذَا لسَيِّد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين طائفتين عظيمتين من الْمُسلمين روينَاهُ من طَرِيق البُخَارِيّ حَدثنَا صَدَقَة أَنبأَنَا ابْن عُيَيْنَة أَنا مُوسَى أَنا الْحسن سمع أَبَا بكرَة يَقُول أَنه سمع ذَلِك وشهده من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا من أَعْلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنذاره بالغيوب الَّتِي لَا تعلم الْبَتَّةَ إِلَّا بِالْوَحْي وَلَقَد امْتنع زِيَاد وَهُوَ فقعة (1) القاع لَا عشيرة وَلَا نسب وَلَا سَابِقَة وَلَا قدم فَمَا أطاقه مُعَاوِيَة إِلَّا بالمداراة حَتَّى أرضاه وولاه فَإِن ادعوا أَنه قد كَانَ فِي ذَلِك عِنْد الْحسن عهد فقد كفرُوا لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَأْمر أحدا بالعيون على إطفاء نور الْإِسْلَام بالْكفْر وعَلى نقض عهود الله تَعَالَى بِالْبَاطِلِ عَن غير ضَرُورَة وَلَا إِكْرَاه وَهَذِه صفة الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد الروافض وَاحْتج بعض الإمامية وَجَمِيع الزيدية بِأَن عليا كَانَ أَحَق النَّاس بِالْإِمَامَةِ لبينونة فَضله على جَمِيعهم ولكثرة فضائله دونهم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا يَقع الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْكَلَام فِي المفاضلة بَين أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن الْكَلَام هَاهُنَا فِي الْإِمَامَة فَقَط فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هبكم أَنكُمْ وجدْتُم لعَلي رَضِي الله عَنهُ فَضَائِل مَعْلُومَة كالسبق إِلَى الْإِسْلَام وَالْجهَاد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسعة الْعلم والزهد فَهَل وجدْتُم مثل ذَلِك لِلْحسنِ وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا حَتَّى أوجبتهم لَهما بذلك فضلا فِي شَيْء مِمَّا ذكرنَا على سعد بن أبي وَقاص وَسيد بن زيد(4/86)
وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن الْعَبَّاس هَذَا مَا لَا يقدر أحد على أَن يَدعِي لَهما فِيهِ كلمة فَمَا فَوْقهَا يَعْنِي مِمَّا يكونَانِ بِهِ فَوق من قد ذكرنَا فِي شَيْء من هَذِه الْفَضَائِل فَلم يبْق إِلَّا دَعْوَى النَّص عَلَيْهِمَا وَهَذَا مَالا يعجز عَن مثله أحد لَو استجازت الْخَوَارِج التوقح بِالْكَذِبِ فِي دَعْوَى النَّص على عبد الله بن وهب الراسي لما كَانُوا الأمثل الرافضة فِي ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء وَلَو استحلت الأموية أَن تجاهر بِالْكَذِبِ فِي دَعْوَى النَّص على مُعَاوِيَة لَكَانَ أَمرهم فِي ذَلِك أقوى من أَمر الرافضة لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا فَلَا يسرف فِي الْقَتْل أَنه كَانَ منصوراً} وَلَكِن كل أمة مَا عدا الرافضة وَالنَّصَارَى فَإِنَّهَا تَسْتَحي وتصون أَنْفسهَا عَمَّا لَا تصون النَّصَارَى وَالرَّوَافِض أنفسهم عَنهُ من الْكَذِب الفاضح الْبَارِد وَقلة الْحيَاء فِيمَا يأْتونَ بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لعَلي بن الْحُسَيْن بسوقا فِي علم وَلَا فِي عمل على سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله بن عَمْرو وَعُرْوَة بن الزبير وَلَا على أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام وَلَا على ابْن عَمه الْحسن بن الْحسن وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لمُحَمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بسوقا فِي علم وَلَا فِي عمل وَلَا ورع على عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَلَا عَليّ مُحَمَّد بن عَمْرو وبن أبي بكر بن الْمُنْكَدر وَلَا على أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَلَا على أَخِيه زيد بن عَليّ وَلَا على عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ وَلَا على عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَذَلِكَ لَا يَجدونَ لحعفر بن مُحَمَّد بسوقا فِي علم وَلَا فِي دين وَلَا فِي عمل على مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَلَا على ابْن أبي ذُؤَيْب وَلَا على عبد الله بن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر وَلَا على عبيد الله بن عمر وبن حَفْص بن عَاصِم بن عمر وَلَا على ابْني عَمه مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن وعَلى بن الْحسن بن الْحسن بن الْحسن بل كل مَا ذكرنَا فَوْقه فِي الْعلم والزهد وَكلهمْ أرفع محلا فِي الْفتيا والْحَدِيث لَا يمْنَع أحد مِنْهُم من شَيْء من ذَلِك وَهَذَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قد جمع فقهه فِي عشْرين كتابا ويبلغ حَدِيثه نَحْو ذَلِك إِذا تقصى وَلَا تبلغ فتيا الْحسن وَالْحُسَيْن ورقتين ويبلغ حَدِيثهمَا ورقة أَو روقتين وَكَذَلِكَ على بن الْحُسَيْن إِلَّا أَن مُحَمَّد بن عَليّ يبلغ حَدِيثه وفيتاه جزأ صَغِيرا وَكَذَلِكَ جَعْفَر بن مُحَمَّد وهم يَقُولُونَ أَن الإِمَام عِنْده جَمِيع علم الشَّرِيعَة فَمَا بَال من ذكرنَا أظهرُوا بعض ذَلِك وَهُوَ الْأَقَل إِلَّا نقص وكتموا سائره وَهُوَ الْأَكْثَر الْأَعْظَم فَإِن كَانَ فرضهم الكتمان فقد خالفوا الْحق إِذْ أعْلنُوا مَا أعْلنُوا وَإِن كَانَ فرضهم الْبَيَان فقد خالفوا الْحق إِذْ كتموا مَا كتموا وَأما من بعده جَعْفَر بن مُحَمَّد مِمَّا عرفنَا لَهُم علما أصلا لَا من رِوَايَة وَلَا من فتيا على قرب عَهدهم منا وَلَو كَانَ عِنْدهم من ذَلِك شَيْء لعرف كَمَا عرف عَن مُحَمَّد بن عَليّ وَابْنه جَعْفَر وَعَن غَيره مِنْهُم مِمَّن حدث النَّاس عَنهُ فبطلت دَعوَاهُم الظَّاهِرَة الكاذبة اللائحة السخيفة الَّتِي هِيَ من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فَإِن رجعُوا إِلَى ادِّعَاء المعجزات لَهُم قُلْنَا لَهُم إِن المعجزات لَا تثبت إِلَّا بِنَقْل التَّوَاتُر لَا بِنَقْل الأحاد الثِّقَات فَكيف بِولد الوقحاء الْكَذَّابين الَّذين لَا يدْرِي من هم وَقد وجدنَا من يروي لبشر الحافي وشيبان الرَّاعِي ورابعة العدوية أَضْعَاف مَا يَدعُونَهُ من الْكَذِب لأئمتهم وَأظْهر وَأفْشى وكل لَك حَمَاقَة لَا يشْتَغل ذُو دين لَا ذُو عقل بهَا وَنَحْمَد الله على السَّلامَة فَإِذا قد بَطل كل مَا يَدعُونَهُ وَللَّه تَعَالَى الْحَمد فلنقل على الْإِمَامَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبرهان وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا فَقَالَت طَائِفَة إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَخْلف أحدا ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم لَكِن لما اسْتخْلف أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ على الصَّلَاة كَانَ ذَلِك(4/87)
دَلِيلا على أَنه ألاوهم بِالْإِمَامَةِ والخلافة على الْأُمُور وَقَالَ بَعضهم لَا وَلَكِن كَانَ ابينهم فضلا فقدموه لذَلِك وَقَالَت طَائِفَة بل نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على اسْتِخْلَاف أبي بكر بعده على أُمُور النَّاس نصا جلياً
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا نقُول لبراهين أَحدهَا أطباق النَّاس كلهم وهم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} فقد أصفق هَؤُلَاءِ الَّذين شهد الله لَهُم بِالصّدقِ وَجَمِيع إخْوَانهمْ من الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم على أَن سموهُ خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمعنى الْخَلِيفَة فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي يستخلفه لَا الَّذِي يخلفه دون أَن يستخلفه هُوَ لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ فِي اللُّغَة بِلَا خلاف تَقول اسْتخْلف فلَان فلَانا يستخلفه فَهُوَ خَلِيفَته ومستخلفه فَإِن قَامَ مَكَانَهُ دون أَن يستخلفه هُوَ لم يقل إِلَّا خلف فلَان فلَانا يخلفه فَهُوَ خَالف ومحال أَن يعنوا بذلك الِاسْتِخْلَاف على الصَّلَاة لوَجْهَيْنِ ضرورين أَحدهمَا أَنه لَا يسْتَحق أَبُو بكر هَذَا الِاسْم على الْإِطْلَاق فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حِينَئِذٍ خَلِيفَته على الصَّلَاة فصح يَقِينا أَن خِلَافَته الْمُسَمّى هُوَ بهَا هِيَ غير خِلَافَته على الصَّلَاة وَالثَّانِي أَن كل من اسْتَخْلَفَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته كعلي فِي غَزْوَة تَبُوك وَابْن أم مَكْتُوم فِي غَزْوَة الخَنْدَق وَعُثْمَان بن عَفَّان فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَسَائِر من اسْتَخْلَفَهُ على الْبِلَاد بِالْيمن والبحرين والطائف وَغَيرهَا لم يسْتَحق أحد مِنْهُم قطّ بِلَا خلاف من أحد من الْأمة أَن يُسمى خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِطْلَاق فصح يَقِينا بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا محيد عَنْهَا أَنَّهَا للخلافة بعده على أمته وَمن الْمُمْتَنع أَن يجمعوا على ذَلِك وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لم يستخلفه نصا وَلَو لم يكن هَا هُنَا إِلَّا استخلافه إِيَّاه على الصَّلَاة مَا كَانَ أَبُو بكر أولى بِهَذِهِ التَّسْمِيَة من غَيره مِمَّن ذكرنَا وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ نعارض بِهِ جَمِيع الْخُصُوم وَأَيْضًا فَإِن الرِّوَايَة قد صحت بِأَن امْرَأَة قَالَت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت أَن رجعت وَلم أجدك كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْت قَالَ فأت أَبَا بكر وَهَذَا نَص جلي على اسْتِخْلَاف أبي بكر وَأَيْضًا فَإِن الْخَبَر قد جَاءَ من الطّرق الثَّابِتَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَام لقد هَمَمْت أَن أبْعث إِلَى أَبِيك وأخيك فَاكْتُبْ كتابا وأعهد عهدا لكيلا يَقُول قَائِل أَنا أَحَق أَو يتَمَنَّى متمن ويأبى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر وَرُوِيَ أَيْضا ويأبي الله والببون إِلَّا أَبَا بكر فَهَذَا نَص جلي على استخلافه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَبَا بكر على ولَايَة الْأمة بعده
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَو أننا نستجيز التَّدْلِيس وَالْأَمر الَّذِي لَو ظفر بِهِ خصومنا طاروا بِهِ فَرحا أَو ابلسوا أسفا لاحتججنا بِمَا روى افْتَدَوْا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلكنه لم يَصح ويعيذنا الله من الِاحْتِجَاج بِمَا لَا يَصح
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاحْتج من قَالَ لم يسْتَخْلف رَسُول الله صلى الله علبه وَسلم بالْخبر الْمَأْثُور عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه أَنه قَالَ أَن اسْتخْلف فقد اسْتخْلف من هُوَ خير مني يَعْنِي أَبَا بكر وَأَن لَا اسْتخْلف فَلم يسْتَخْلف من هُوَ خير مني يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِمَا روى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَمن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستخلفاً لَو اسْتخْلف فَمن الْمحَال أَن يُعَارض الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة الَّذِي ذكرنَا والأثران الصحيحان المسندان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَفظه بِمثل هذَيْن الأثرين الموقوفين على عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا(4/88)
مِمَّا لَا يقوم بِهِ حجَّة ممالة وَجه ظَاهر من أَن هَذَا الْأَثر خَفِي على عمر رَضِي الله عَنهُ كَمَا خَفِي عَلَيْهِ كثير من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالاستئذان وَغَيره أَو أَنه أَرَادَ استخلافاً بعد مَكْتُوب وَنحن نقر أَن اسْتِخْلَاف أبي بكر لم يكن بِكِتَاب مَكْتُوب وَأما الْخَبَر فِي ذَلِك عَن عَائِشَة فَكَذَلِك نصا وَقد يخرج كَلَامهَا على سُؤال سَائل وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي رِوَايَتهَا لَا فِي قَوْلهَا وَأما من ادّعى أَنه إِنَّمَا قدم قِيَاسا على تَقْدِيمه إِلَى الصالة فَبَاطِل بِيَقِين لِأَنَّهُ لَيْسَ كل من اسْتحق الْإِمَامَة فِي الصالة يسْتَحق الْإِمَامَة فِي الْخلَافَة إِذْ يسْتَحق الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة اقْرَأ الْقَوْم وَإِن كَانَ أعجمياً أَو عَرَبيا وَلَا يسْتَحق الْخلَافَة إِلَّا فرشى فَكيف وَالْقِيَاس كُله بَاطِل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فِي نَص الْقُرْآن دَلِيل على صِحَة خلَافَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم وعَلى وجوب الطَّاعَة لَهُم وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ مُخَاطبا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَعْرَاب {فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} وَكَانَ نزُول سُورَة بَرَاءَة الَّتِي فِيهَا هَذَا الحكم بعد غَزْوَة تَبُوك بِلَا شكّ الَّتِي لَا تخلف فِيهَا الثَّلَاثَة المعذورون الَّذين تَابَ الله عَلَيْهِم فِي سُورَة بَرَاءَة وَلم يغز عَلَيْهِ السَّلَام بعد غَزْوَة تَبُوك إِلَى أَن مَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ تَعَالَى أَيْضا {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل} فَبين أَن الْعَرَب لَا يغزون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد تَبُوك لهَذَا ثمَّ عطف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِم أثر مَنعه إيَّاهُم من الْغَزْو مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغلق بَاب التَّوْبَة فَقَالَ تَعَالَى {قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد تقاتلونهم أَو يسلمُونَ فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} فَأخْبر تَعَالَى أَنهم سيدعوهم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قوم يقاتلونهم أَو يسلمُونَ وَوَعدهمْ على طَاعَة من دعاهم إِلَى ذَلِك بجزيل الْأجر الْعَظِيم وتوعدهم على عصيان الدَّاعِي لَهُم إِلَى ذَلِك الْعَذَاب الْأَلِيم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا دَعَا أُولَئِكَ الْأَعْرَاب أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قوم يقاتلونهم أَو يسلمُونَ إِلَّا أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم فَإِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ دعاهم إِلَى قتال مرتدي الْعَرَب بني حنيفَة وَأَصْحَاب الْأسود وسجاع وطليحة وَالروم وَالْفرس وَغَيرهم ودعاهم عمر إِلَى قتال الرّوم وَالْفرس وَعُثْمَان دعاهم إِلَى قتال الرّوم وَالْفرس وَالتّرْك فَوَجَبَ طَاعَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم بِنَصّ الْقُرْآن الَّذِي لَا يحْتَمل تَأْوِيلا وَإِذ قد وَجَبت طاعتهم فرضا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رَضِي الله عَنْهُم وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجب تقليدهم فِي غير مَا أَمر الله تَعَالَى بطاعتهم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر بذلك إِلَّا فِي دُعَائِهِمْ إِلَى قتال هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَفِيمَا يجب الطَّاعَة فِيهِ للأئمة جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما مَا أفتوا بِهِ باجتهادهم فَمَا أوجبوهم قطّ اتِّبَاع أَقْوَالهم فِيهِ فَكيف أَن يُوجب ذَلِك غَيرهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن هَذَا إِجْمَاع الْأَئِمَّة كلهَا إِذْ لَيْسَ أحد من أهل الْعلم إِلَّا وَقد خَالف بعض فتاوي هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة رَضِي الله عَنْهُم فصح مَا ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَجَمِيع فرق أهل الْقبْلَة لَيْسَ مِنْهُم أحد يُجِيز إِمَامَة امْرَأَة وَلَا إِمَامَة صبي لم يبلغ إِلَّا الرافضة فَإِنَّهَا تجيز إِمَامَة الصَّغِير الَّذِي لم يبلغ وَالْحمل فِي بطن أمه وَهَذَا خطأ لِأَن من لم يبلغ فَهُوَ غير مُخَاطب وَالْإِمَام مُخَاطب بِإِقَامَة الدّين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ الباقلاني وَاجِب أَن يكون الإِمَام أفضل الْأمة(4/89)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا هُوَ خطأ مُتَيَقن لبرهانين أَحدهمَا أَنه لَا يُمكن أَن يعرف الْأَفْضَل إِلَّا بِالظَّنِّ فِي ظَاهر أمره وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَالثَّانِي أَن قُريْشًا قد كثرت وطبقت الأَرْض من أقْصَى الْمشرق إِلَى أقْصَى الْمغرب وَمن الْجنُوب إِلَى الشمَال وَلَا سَبِيل أَن يعرف الْأَفْضَل من قوم هَذَا مبلغ عَددهمْ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يُمكن ذَلِك أصلا ثمَّ يَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل إِجْمَاع الْأمة على بُطْلَانه فَإِن جَمِيع من أدْرك من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ من جَمِيع الْمُسلمين فِي ذَلِك الْعَصْر قد أَجمعُوا على صِحَة إِمَامَة الْحسن أَو مُعَاوِيَة وَقد كَانَ فِي النَّاس أفضل مِنْهُم بِلَا شكّ كسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد وَابْن عَمْرو وَغَيرهم فَلَو كَانَ مَا قَالَه الباقلاني حَقًا لكَانَتْ إِمَامَة الْحسن وَمُعَاوِيَة بَاطِلَة وحاشا لله عز وَجل من ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن هَذَا القَوْل الَّذِي قَالَه هَذَا الْمَذْكُور دعوي فَاسِدَة وَلَا على صِحَّتهَا دَلِيل لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من قَول صَاحب وَلَا من قِيَاس وَالْعجب كُله أَن يَقُول أَنه جَائِز أَن يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ لَا يُجِيز أَن يكون أحد أفضل من الإِمَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا القَوْل مِنْهُ فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفر مُجَرّد وَلَا خَفَاء بِهِ وَفِيه خلاف لأهل الْإِسْلَام وَإِنَّمَا يجب أَن يكون الإِمَام قرشياً بَالغا ذكرا مُمَيّزا بَرِيئًا من الْمعاصِي الظَّاهِرَة حَاكما بِالْقُرْآنِ وَالسّنة فَقَط وَلَا يجوز خلعه مَا دَامَ يُمكن مَنعه من الظُّلم فَإِن لم يُمكن إِلَّا بإزالته فَفرض أَن يُقَام كل مَا يُوصل بِهِ إِلَى دفع الظُّلم لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي وُجُوه الْفضل والمفاضلة بَين الصَّحَابَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيمَن هُوَ أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَذهب بعض أهل السّنة وَبَعض أهل الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة وَجَمِيع الشِّيعَة إِلَى أَن أفضل الْأمة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَقد روينَا هَذَا القَوْل نصا عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين وَالْفُقَهَاء وَذَهَبت الْخَوَارِج كلهَا وَبَعض أهل السّنة وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَبَعض المرجئة إِلَى أَن أفضل الصَّحَابَة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر وَعمر وروينا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَعْفَر بن أبي طَالب وَبِهَذَا قَالَ عَاصِم النَّبِيل وَهُوَ الضَّحَّاك بن مخلد وَعِيسَى بن حَاضر قَالَ عِيسَى وَبعد جَعْفَر حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وروينا عَن نَحْو عشْرين من الصَّحَابَة أَن أكْرم النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وروينا عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثَلَاث رجال لَا يعد أحد عَلَيْهِم بِفضل سعد بن معَاذ وَأسيد بن حضير وَعباد بن بشر وروينا عَن أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا تذكرت الْفضل وَمن هُوَ خير فَقَالَت وَمن هُوَ خير من أبي سَلمَة أول بَيت هَاجر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروينا عَن مَسْرُوق بن الأجدع أَو تَمِيم بن حذلم وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيرهم أنأفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن مَسْعُود قَالَ تَمِيم وَهُوَ من كبار التَّابِعين رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر فَلَمَّا رَأَيْت مثل عبد الله بن مَسْعُود وروينا عَن بعض من أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب وَأَنه أفضل من أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَبَلغنِي عَن مُحَمَّد بن(4/90)
عبد الله الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي أَنه كَانَ يذهب إِلَى هَذَا القَوْل قَالَ دَاوُد بن عَليّ الْفَقِيه رَضِي الله عَنهُ أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأفضل الصَّحَابَة الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين ثمَّ الْأَولونَ من الْأَنْصَار ثمَّ من بعدهمْ مِنْهُم وَلَا نقطع على إِنْسَان مِنْهُم بِعَيْنِه أَنه أفضل من آخر من طبقته وَلَقَد رَأينَا من مُتَقَدِّمي أهل الْعلم مِمَّن يذهب إِلَى هَذَا القَوْل وَقَالَ لي يُوسُف بن عبد الله بن عبد الْبر النميري غير مَا مرّة أَن هَذَا هُوَ قَوْله ومعتقده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وندين الله تَعَالَى عَلَيْهِ ونقطع على أَنه الْحق عِنْد الله عز وَجل أَن أفضل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَبُو بكر وَلَا خلاف بَين أحد من الْمُسلمين فِي أَن أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْأُمَم لقَوْل الله عز وَجل {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَإِن هَذِه قاضية على قَوْله تَعَالَى لبني إِسْرَائِيل {وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَإِنَّهَا مبينَة لِأَن مُرَاد الله تَعَالَى من ذَلِك عَالم الْأُمَم حاشا هَذِه الْأمة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْكَلَام المهمل دون تَحْقِيق الْمَعْنى المارد بذلك الْكَلَام فَإِنَّهُ طمس للمعاني وَصد عَن إِدْرَاك الصَّوَاب وتعريج عَن الْحق وإبعاد عَن الْفَهم وتخليط عمي فلنبدأ بعون الله تَعَالَى وتأييد بتقسيم وُجُوه الْفضل الَّتِي بهَا يسْتَحق التَّفَاضُل فَإِذا استبان معنى الْفضل وعَلى مَاذَا تقع هَذِه اللَّفْظَة فبالضرورة نعلم حِينَئِذٍ أَن من وجدت فِيهِ هَذِه الصِّفَات أَكثر فَهُوَ بِلَا شكّ فَنَقُول وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم أَن الْفضل يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ لَا ثَالِث لَهما فضل اخْتِصَاص من الله عز وَجل بِلَا عمل وَفضل مجازاة من الله تَعَالَى بِعَمَل فَأَما فضل الِاخْتِصَاص دون عمل فَإِنَّهُ يشْتَرك فِيهِ جَمِيع المخلوقين من الْحَيَوَان النَّاطِق وَالْحَيَوَان غير النَّاطِق والجمادات كفضل الْمَلَائِكَة فِي ابْتِدَاء خلقهمْ على سَائِر الْخلق وكفضل الْأَنْبِيَاء على سَائِر الْجِنّ والأنس وكفضل إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَائِر الْأَطْفَال وكفضل نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر النوق وكفضل ذَبِيحَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر الذَّبَائِح وكفضل مَكَّة على سَائِر الْبِلَاد وكفضل الْمَدِينَة بعد مَكَّة على غَيرهَا من الْبِلَاد وكفضل الْمَسَاجِد على سَائِر الْبِقَاع وكفضل الْحجر الْأسود على سَائِر الْحِجَارَة وكفضل شهر رَمَضَان على سَائِر الشُّهُور وكفضل يَوْم الْجُمُعَة عَرَفَة وعاشوراء وَالْعشر على سَائِر الْأَيَّام وكفضل لَيْلَة الْقدر على سَائِر اللَّيَالِي وكفضل صَلَاة الْفَرْض على النَّافِلَة وكفضل صَلَاة الْعَصْر وَصَلَاة الصُّبْح على سَائِر الصَّلَوَات وكفضل السُّجُود على الْقعُود وكفضل بعض الذّكر على بعض فَهَذَا فضل الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد بِلَا عمل فَأَما فضل المجازاة بِالْعَمَلِ فَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا للحي النَّاطِق من الْمَلَائِكَة والأنس وَالْجِنّ فَقَط وَهَذَا هُوَ الْقسم الَّذِي تنَازع فِيهِ فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي نتكلم فِيهِ الْآن من أَحَق بِهِ فَوَجَبَ أَن نَنْظُر أَيْضا فِي أَقسَام هَذَا الْقسم الَّتِي بهَا يسْتَحق الْفضل فِيهِ والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثمَّ نَنْظُر حينئذٍ من هُوَ أَحَق بِهِ وأسعد بالبسوق فِيهِ فَيكون بِلَا شكّ أفضل مِمَّن هُوَ أقل حظاً فِيهَا بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين إِن الْعَامِل فِي عمله بسبعة أوجه لَا ثامن لَهَا وَهِي المائية وَهِي عين الْعَمَل وذاته والكمية وَهِي الْعرض فِي الْعَمَل والكيفية والكم وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَالْإِضَافَة فَأَما المائية فَهِيَ أَن تكون الْفُرُوض من أَعمال أَحدهمَا موفاة كلهَا وَيكون الآخر يضيع بعض فروضه وَله نوافل أَو يكون كِلَاهُمَا وَفِي جَمِيع فَرْضه ويعملان نوافل زَائِدَة إِلَّا أَن نوافل أَحدهمَا أفضل من نوافل(4/91)
الآخر كَأَن يكون أَحدهمَا يكثر الذّكر فِي الصَّلَاة وَالْآخر يكثر الذّكر فِي حَال جُلُوسه وَمَا أشبه هَذَا وكإنسانين قَاتل أَحدهمَا فِي المعركة والموضع الْمخوف وَقَاتل الآخر فِي الرِّدَّة أَو جَاهد أَحدهمَا واشتغل الآخر بصيام وَصَلَاة تطوع أَو يجتهدان فيصادف أَحدهمَا ويحرمه الآخر فيفضل أَحدهمَا الآخر فِي هَذِه الْوُجُوه بِنَفس عمله أَو بَان ذَات عمله أفضل من ذَات عمل الآخر فَهَذَا هُوَ التَّفَاضُل فِي المائية من الْعَمَل وَأما الكمية وَهِي الْعرض فَإِن يكون أَحدهمَا يقْصد بِعَمَلِهِ وَجه الله تَعَالَى لَا يمزج بِهِ شَيْئا الْبَتَّةَ وَيكون الآخر يُسَاوِيه فِي جَمِيع عمله إِلَّا أَنه رُبمَا مزج بِعَمَلِهِ شَيْئا من حب الْبر فِي الدُّنْيَا وَأَن يستدفع بذلك الْأَذَى عَن نَفسه وَرُبمَا مزجه بِشَيْء من الرِّيَاء ففضله الأول بعرضه فِي عمله وَأما الْكَيْفِيَّة فَإِن يكون أَحدهمَا يُوفي عمله جَمِيع حُقُوقه ورتبه لَا منتقصاً وَلَا متزيداً وَيكون الآخر رُبمَا انْتقصَ بعض رتب ذَلِك الْعَمَل وسنته وَإِن لم يعطل مِنْهُ فرضا أَو يكون أَحدهمَا يصفى يصفى عمله من الْكَبَائِر وَرُبمَا بِمَا أُتِي الآخر بِبَعْض الْكَبَائِر ففضله الآخر بكيفية عمله وَأما لكم فَإِن يستوا فِي أَدَاء الْفَرْض وَيكون أَحدهمَا أَكثر نوافل ففضله هَذَا بِكَثْرَة عدد نوافله كَمَا رُوِيَ فِي رجلَيْنِ أسلما وهاجرا أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ اسْتشْهد أَحدهمَا وعاش الآخر بعده سنة ثمَّ مَاتَ على فرَاشه فَرَأى بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحدهمَا فِي النّوم وَهُوَ آخرهما موتا فِي أفضل من حَال الشَّهِيد فَسَأَلَ عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام مَعْنَاهُ فَأَيْنَ صلَاته وصيامه بعده ففضل أَحدهمَا الآخر بِالزِّيَادَةِ الَّتِي زَادهَا عَلَيْهِ فِي عدد أَعماله وَأما الزَّمَان فكمن عمل فِي صدر الْإِسْلَام أَو فِي عَام المجاعة أَو فِي وَقت نازلة بِالْمُسْلِمين وَعمل غَيره بعد قُوَّة الْإِسْلَام وَفِي زمن رخاء وَأمن فَإِن الْكَلِمَة فِي أول الْإِسْلَام وَالتَّمْرَة وَالصَّبْر حِينَئِذٍ وركعة فِي لَك الْوَقْت تعدل اجْتِهَاد الْأَزْمَان الطوَال وجهادها وبذل الْأَمْوَال الجسام بعد ذَلِك وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا إِلَيّ أَصْحَابِي فَلَو كَانَ لأحدكم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نيصفه فَكَانَ نصف مد شَعِيرًا وتمر فِي ذَلِك الْوَقْت أفضل من جبل أحد ذَهَبا ننفقه نَحن فِي سَبِيل الله عز وَجل بعد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا فِي الصَّحَابَة فِيمَا بَينهم فَكيف بِمن بعدهمْ مَعَهم رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا يكذب قَول أبي هَاشم مُحَمَّد بن عَليّ الجبائي وَقَول مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني فَإِن الجبائي قَالَ جَائِز أَن طَال عمر امْرِئ يعْمل مَا يوازي عمل نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَقَالَ الباقلاني جَائِز أَن يكون فِي النَّاس من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث بِالنُّبُوَّةِ إِلَى أَن مَاتَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر مُجَرّد وردة وَخُرُوج عَن دين الْإِسْلَام بِلَا مرية وَتَكْذيب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إخْبَاره أَنا لَا ندرك أحد من أَصْحَابه وَفِي إخْبَاره عَلَيْهِ السَّلَام عَن أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم بِأَنَّهُ لَيْسَ مثلهم وَأَنه اتقاهم لله وأعلمهم بِمَا يَأْتِي وَمَا يذر وَكَذَلِكَ قَالَت الْخَوَارِج والشيعة فَإِن الشِّيعَة يفضلون أنفسهم وهم شَرّ خلق الله عز وَجل على أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَجَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حاشا عليا وَالْحسن وَالْحُسَيْن وعمار بن يَاسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شَرّ خلق الله تَعَالَى وكلاب النَّار على عُثْمَان(4/92)
وعَلى طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَلَقَد خَابَ من خَالف كَلَام الله تَعَالَى وَقَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ الْقَلِيل من الْجِهَاد وَالصَّدَََقَة فِي زمَان الشدائد أفضل من كثيرهما فِي وَقت الْقُوَّة وَالسعَة وَكَذَلِكَ صَدَقَة الْمَرْء بدرهم فِي زمَان فقر وَصِحَّته يَرْجُو الْحَيَاة وَيخَاف الْفقر أفضل من الْكَبِير يتَصَدَّق بِهِ فِي عرض غناهُ وَفِيه وَصيته بعد مَوته وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبق دِرْهَم مائَة ألف وَهُوَ إِنْسَان كَانَ لَهُ دِرْهَمَانِ تصدق بِأَحَدِهِمَا وَالْآخر عمد إِلَى عرض مَاله تصدق مِنْهُ بِمِائَة ألف وكلك صَبر الْمَرْء على أَدَاء الْفَرَائِض فِي حَال خَوفه ومرضه وَقَلِيل تنفله فِي زمَان مَرضه وخوفه أفضل من عمله وَكثير تنفله فِي زمَان صِحَّته وأمنه ففضل من ذكرنَا غَيرهم بِزَمَان عَمَلهم وَكَذَلِكَ من وفْق لعمل الْخَيْر فِي زمَان آخر أَجله هُوَ أفضل مِمَّن خلط فِي زمَان آخر أحله وَأما الْمَكَان فكصلاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَو مَسْجِد الْمَدِينَة فهما أفضل من ألف صَلَاة فِيمَا عداهما وتفضل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام على الصَّلَاة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِائَة دَرَجَة وكصيام فِي بلد الْعَدو أَو فِي الْجِهَاد على صِيَام فِي غير الْجِهَاد ففضل من عمل فِي الْمَكَان الْفَاضِل غَيره مِمَّن عمل فِي غير ذَلِك الْمَكَان بمَكَان عمله وَإِن تساوى العملان وَأما الْإِضَافَة فركعة من نَبِي أَو رَكْعَة مَعَ نَبِي أَو صَدَقَة من نَبِي أَو صَدَقَة مَعَه أَو ذكر مِنْهُ أَو ذكر مَعَه وَسَائِر أَعمال الْبر مِنْهُ أَو مَعَه فقليل من ذَلِك أفضل من كثير الْأَعْمَال بعده وَيبين ذَلِك مَا قد ذكرنَا آنِفا من قَول الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل} وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَن أَحَدنَا لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ نصف مد من أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا قَطعنَا على أَن كل عمل عملوه بِأَنْفسِهِم بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يوازي شَيْئا من الْبر عمله ذَلِك الصاحب بِنَفسِهِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مَا عمله غير ذَلِك الصاحب بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو كَانَ غير مَا نقُول لجَاز أَن يكون أنس وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ وَعبد الله بن أبي أوفى وَعبد الله بن بسر وَعبد الله بن الْحَارِث بن حزم وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِي الله عَنْهُم أفضل من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَأبي عُبَيْدَة وَزيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَعبد الله بن جحش وَسعد بن معَاذ وَعُثْمَان بن مَظْعُون وَسَائِر السَّابِقين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الْمُتَقَدِّمين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ لِأَن بعض أُولَئِكَ عبدُوا الله عز وَجل بعد موت أُولَئِكَ بَعضهم بعد موت بعض بتسعين عَاما فَمَا بَين ذَلِك إِلَى خمسين عَاما وَهَذَا مَالا يَقُوله أحد يعْتد بِهِ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَبِهَذَا قَطعنَا على أَن من كَانَ من الصَّحَابَة حِين موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من آخر مِنْهُم فَإِن ذَلِك الْمَفْضُول لَا يلْحق دَرَجَة الْفَاضِل لَهُ حِينَئِذٍ أبدا وَإِن طَال عمر الْمَفْضُول وتعجل موت الْفَاضِل وَبِهَذَا أَيْضا لم نقطع على فضل أحد مِنْهُم رَضِي الله عَنْهُم حاشا من ورد فِيهِ النَّص من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن مَاتَ مِنْهُم فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل نقف فِي هَؤُلَاءِ على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذِهِ وُجُوه الْفَضَائِل بِالْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يفضل ذُو عمل ذَا عمل فِيمَا سواهَا الْبَتَّةَ ثمَّ نتيجة هَذِه الْوُجُوه كلهَا وثمرتها ونتيجة فضل الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد دون عمل أَيْضا لَا ثَالِث لَهما الْبَتَّةَ أَحدهمَا إِيجَاب لاله تَعَالَى تَعْظِيم الْفَاضِل فِي الدُّنْيَا على الْمَفْضُول فَهَذَا الْوَجْه يشْتَرك فِيهِ كل فَاضل بِعَمَل أَو اخْتِصَاص مُجَرّد بِلَا عمل من عرض أَو جماد أَو حَيّ نَاطِق أَو غير نَاطِق(4/93)
وَقد أمرنَا الله تَعَالَى بتعظيم الْكَعْبَة والمساجد وَيَوْم الْجُمُعَة والشهر الحارم وَشهر رَمَضَان وناقة صَالح وَإِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الله وَالْمَلَائِكَة والنبيين على جَمِيعهم صلوَات الله وَسَلَامه وَالصَّحَابَة أَكثر من تعظيمنا وتوقيرنا غير مَا ذكرنَا وَمن ذكرنَا من الْمَوَاضِع وَالْأَيَّام والنوق والأطفال وَالْكَلَام وَالنَّاس هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَهَذَا خَاصَّة كل فَاضل لَا يَخْلُو مِنْهَا فَاضل أصلا وَلَا يكون الْبَتَّةَ إِلَّا الْفَاضِل وَالْوَجْه الثَّانِي هُوَ إِيجَاب الله تَعَالَى لفاضل دَرَجَة فِي الْجنَّة أَعلَى من دَرَجَة الْمَفْضُول إِذْ لَا يجوز عِنْد أحد من خلق الله تَعَالَى أَن يَأْمر بإجلال الْمَفْضُول أَكثر من إجلال الْفَاضِل وَلَا أَن يكون الْمَفْضُول إِلَى دَرَجَة فِي الْجنَّة من الْفَاضِل وَلَو جَازَ ذَلِك لبطل معنى الْفضل جملَة ولكان لفظا لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا معنى تَحِيَّة وَهَذَا الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي هُوَ علو الدرجَة فِي الْجنَّة هُوَ خَاصَّة لكل فَاضل يعْمل فَقَط من الْمَلَائِكَة والأنس وَالْجِنّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكل مَا هُوَ مَأْمُور بتعظيمه فَاضل وكل فَاضل فمأمور بتعظيمه وَلَيْسَ الْإِحْسَان وَالْبر والتوقير والتذلل المفترض فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافرين من التَّعْظِيم فِي شَيْء فقد يحسن الْمَرْء إِلَى من لَا يعظم وَلَا يهبن كإحسان الْمَرْء إِلَى جَاره وَغُلَامه وأجيره وَلَا يكون ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يبر الْإِنْسَان جَاره وَالشَّيْخ من أكرته (1) وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يوفر الْإِنْسَان من يخَاف ضره وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَقد يتذذلل الْإِنْسَان للمتسلط الظَّالِم وَلَا يُسمى ذَلِك تَعْظِيمًا وَفرض على كل مُسلم الْبَرَاءَة من أَبَوَيْهِ الْكَافرين وعداوتهما فِي الله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} وَقَالَ عز وَجل {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برَاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} فقد صَحَّ بِيَقِين أَن مَا وَجب لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافرين من بر وإحسان وتذلل لَيْسَ هُوَ التَّعْظِيم الْوَاجِب لمن فَضله الله عز وَجل لِأَن التَّعْظِيم الْوَاجِب لمن فَضله الله عز وَجل هُوَ مَوَدَّة فِي الله ومحبة فِيهِ وَولَايَة لَهُ وَأما الْبر الْوَاجِب لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافرين والتذلل لَهما وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمَا فَكل ذَلِك مُرْتَبِط بالعداوة وَللَّه تَعَالَى وللبراءة مِنْهُ وَإِسْقَاط الْمَوَدَّة كَمَا قَالَه تَعَالَى فِي نَص الْقُرْآن وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد يكون دُخُول الْجنَّة اخْتِصَاص مُجَردا دون عمل وَذَلِكَ للأطفال كَمَا ذكرنَا قبل فَإذْ قد صَحَّ مَا ذكرنَا قبل يَقِينا بِلَا خلاف من أحد فِي شَيْء مِنْهُ فبيقين نَدْرِي أَنه لَا تَعْظِيم يسْتَحقّهُ أحد من النَّاس فِي الدُّنْيَا بِإِيجَاب الله تَعَالَى علينا بعد التَّعْظِيم الْوَاجِب علينا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أوجب وَلَا أوكد مِمَّا ألزمناه الله تَعَالَى من التَّعْظِيم الْوَاجِب علينا لِنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول الله تَعَالَى {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} فَأوجب الله لَهُنَّ حكم الأمومة على كل مُسلم هَذَا سوى حق إعظامهن بالصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَهُنَّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن مَعَ ذَلِك حق الصُّحْبَة لَهُ كَسَائِر الصَّحَابَة إِلَّا أَن لَهُنَّ من الِاخْتِصَاص فِي الصُّحْبَة ووكيد الْمُلَازمَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام ولطيف الْمنزلَة عِنْده عَلَيْهِ السَّلَام والقرب مِنْهُ والحظوة لَدَيْهِ مَا لَيْسَ لأحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن أَعلَى(4/94)
دَرَجَة فِي الصُّحْبَة من جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ فضلهن سَائِر الصَّحَابَة بِحَق زَائِد وَهُوَ حق الأمومة الْوَاجِب لَهُنَّ كُلهنَّ بِنَصّ الْقُرْآن لَهُنَّ كُلهنَّ بِنَصّ الْقُرْآن فَوَجَدنَا الْحق الَّذِي بِهِ اسْتحق الصَّحَابَة الْفضل قد شاركنهم فِيهِ وفضلهم فِيهِ أَيْضا ثمَّ فضلنهم بِحَق زَائِد وَهُوَ حق الأمومة ثمَّ وجدناهن لَا عمل من الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة وَالصِّيَام وَالْحج وَحُضُور الْجِهَاد يسْبق فِيهِ صَاحب من الصَّحَابَة إِلَّا كَانَ فِيهِنَّ فقد كن يجهدن أَنْفسهنَّ فِي ضيق عيشهن على الكد فِي الْعَمَل بِالصَّدَقَةِ وَالْعِتْق ويشهدن الْجِهَاد مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي هَذَا كِفَايَة بَيِّنَة فِي أَنَّهُنَّ أفضل من كل صَاحب ثمَّ لَا شكّ عِنْد كل مُسلم وبشهادة نَص الْقُرْآن إِذْ لَا خَيره الله عز وَجل بَين الدُّنْيَا وَبَين الدَّار الْآخِرَة وَالله وَرَسُوله فاخترن الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّار الْآخِرَة فهن أَزوَاجه فِي الْآخِرَة بِيَقِين فَإِذا هن كَذَلِك مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا شكّ فِي دَرَجَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة فِي قصوره وعَلى سرره إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يُحَال بَينه وبينهن فِي الْجنَّة وَلَا أَن ينحط عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى دَرَجَة يسفل فِيهَا عَن أحد من الصَّحَابَة هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ مُسلم فَإِذا لَا شكّ فِي حصولهن على هَذِه الْمنزلَة فالبعض وَالْإِجْمَاع علمنَا أَنَّهُنَّ لم يؤتين ذَلِك اختصاصاً مُجَردا دون عمل بل باستحقاقهن لذَلِك باختيارهن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة إِذْ أمره الله عز وَجل أَن يُخَيِّرهُنَّ فاخترن الله عز وَجل وَنبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أفضل النَّاس ثمَّ قد حصل لَهُنَّ أفضل الْأَعْمَال فِي جَمِيع الْوُجُوه السَّبْعَة الَّتِي قدمنَا آنِفا أَنه لَا يكون التَّفَاضُل إِلَّا بهَا فِي الْأَعْمَال خَاصَّة ثمَّ قد حصل لَهُنَّ على ذَلِك أوكد التَّعْظِيم فِي الدُّنْيَا ثمَّ قد حصل لَهُنَّ أرفع الدَّرَجَات فِي الْآخِرَة فَلَا وَجه من وُجُوه الْفضل إِلَّا ولهن فِيهِ أَعلَى الحظوظ كلهَا بِلَا شكّ ومارية أم إِبْرَاهِيم دَاخِلَة مَعَهُنَّ فِي ذَلِك لِأَنَّهَا مَعَه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة وَمَعَ ابْنهَا مِنْهُ بِلَا شكّ فَإذْ قد ثَبت كل ذَلِك على رغم الأبي فقد وَجب ضَرُورَة أَن يشْهد لَهُنَّ كُلهنَّ بأنهن أفضل من جَمِيع الْحلق كُلهنَّ بعد الْمَلَائِكَة والنبيين عَلَيْهِم السَّلَام وَكَيف ومعنا نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله الطلمنكي ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مفرج ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب الرقى الصموت ثَنَا أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الزار ثَنَا أَحْمد بن عمر وَحدثنَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان التَّمِيمِي ثَنَا حميد الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك قَالَ قيل يَا رَسُول الله من أحب النَّاس إِلَيْك قَالَ عَائِشَة قَالَ من الرِّجَال قَالَ فأبوها حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف بن نامي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن فتح حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن قيس حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَشْقَر حَدثنَا أَحْمد بن عَليّ القلانسي ثَنَا مُسلم بن الْحجَّاج ثَنَا يحيى بن يحيى بن خَالِد بن عبد الله هُوَ الطلحان عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرو بن الْعَاصِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه إِلَى جَيش ذَات السلَاسِل قَالَ فَأَتَيْته فَقلت أَي النَّاس أحب إِلَيْك فَقَالَ عَائِشَة قلت من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا قلت ثمَّ من قَالَ عمر فعد رجَالًا فهذان عَدْلَانِ أنس وَعمر ويشهدان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ أَبوهَا وَقد قَالَ عز وَجل عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فصح أَن كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام أحب النَّاس إِلَيْهِ وَحي أوحاه الله تَعَالَى إِلَيْهِ ليَكُون كَذَلِك ويخبر بذلك لَا عَن هوى لَهُ وَمن ظن ذَلِك فقد كذب الله تَعَالَى لَكِن لاستحقاقها لذَلِك الْفضل فِي الدّين والتقديم فِيهِ على جَمِيع النَّاس الْمُوجب لِأَن يُحِبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من محبته لجَمِيع النَّاس فقد فَضلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَبِيهَا وعَلى عَمْرو وعَلى عَليّ وعَلى فَاطِمَة تَفْضِيلًا ظَاهرا بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل فَقل إِن إِبْرَاهِيم ابْن(4/95)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم لكَونه مَعَ أَبِيه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة فِي دَرَجَة وَاحِدَة قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا اسْتحق تِلْكَ الْمنزلَة بِعَمَل كَانَ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِصَاص مُجَرّد وَإِنَّمَا تقع المفاضلة بَين الفاضلين إِذا كَانَ فضلهما وَاحِدًا من وَجه وَاحِد فتفاضلا فِيهِ وَأما إِن كَانَ الْفضل من المفاضلة بَين الفاضلين إِذا كَانَ فضلهما وَاحِدًا من وَجه وَاحِد فتفاضلا فِيهِ وَأما إِن كَانَ الْفضل من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ فَلَا سَبِيل إِلَى المفاضلة بَينهمَا لِأَن معنى قَول الْقَائِل أَي هذَيْن أفضل إِنَّمَا هُوَ أَي هذَيْن أَكثر أوصافاً فِي الْبَاب الَّذِي اشْتَركَا فِيهِ أَلا ترى أَنه لَا يُقَال أَيهمَا أفضل رَمَضَان أَو نَاقَة صَالح وَلَا أَيهمَا أفضل الْكَعْبَة أَو الصَّلَاة بل نقُول أَيهمَا أفضل مَكَّة أَو الْمَدِينَة وَأيهمَا أفضل رَمَضَان أَو ذُو الْحجَّة وَأيهمَا أفضل الزَّكَاة أم الصَّلَاة وَأيهمَا أفضل نَاقَة صَالح أَو نَاقَة غَيره من الْأَنْبِيَاء فقد صَحَّ أَن التَّفَاضُل إِنَّمَا يكون فِي وَجه اشْتِرَاك فِيهِ المسؤل عَنْهُمَا فَسبق أَحدهمَا فِيهِ فَاسْتحقَّ أَن يكون أفضل وَفضل إِبْرَاهِيم لَيْسَ على عمل أصلا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِصَاص مُجَرّد وإكرام لِأَبِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما نساؤه عَلَيْهِ السَّلَام فكونهن وَكَون سَائِر أَصْحَابه عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ جَزَاء لَهُنَّ وَلَهُم على أعمالهن وأعمالهم قَالَ الله بعد ذكر الصحا رَضِي الله عَنْهُم {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} وَقَالَ بعد ذكر الصَّحَابَة {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى مُخَاطبا لنسائه عَلَيْهِ السَّلَام {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَللَّه الْحَمد وَقَالَ تَعَالَى {وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى} فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف تَقولُونَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يدْخل الْجنَّة أحد بِعَمَلِهِ قيل وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل قُلْنَا نعم هَذَا حق مُوَافق للآيات الْمَذْكُورَة وَهَكَذَا نقُول أَنه لَو عمل الْإِنْسَان دهره كُله مَا اسْتحق على الله تَعَالَى شَيْئا لِأَنَّهُ لَا يجب على الله تَعَالَى شَيْء إِذْ لَا مُوجب للأشياء الْوَاجِبَة غَيره تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئ لكل مَا فِي الْعَالم والخالق لَهُ فلولا أَن الله تَعَالَى رحم عباده فَحكم بِأَن طاعتهم لَهُ يعطيهم بهَا الْجنَّة لما وَجب ذَلِك عَلَيْهِ فصح أَنه لَا يدْخل أحد الْجنَّة بِعَمَلِهِ مُجَردا دون رَحْمَة الله تَعَالَى لَكِن يدخلهَا برحمة لله تَعَالَى الَّتِي جعل بهَا الْجنَّة جَزَاء على أَعْمَالهم الَّتِي أطاعوه بهَا مَا اتّفقت الْآيَات مَعَ هَذَا الحَدِيث وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا كُله فقد امْتنع يَقِينا أَن يجازى بالأفضل من كَانَ أنقص فضلا وَأَن يجارى بالأنقص من كَانَ أتم فضلا وَصَحَّ ضَرُورَة أَنه لَا يجزى أحد من أهل الْأَعْمَال فِي الْجنَّة إِلَّا بِمَ اسْتَحَقَّه برحمة الله تَعَالَى جَزَاء على عمله وَللَّه تَعَالَى أَن يتفضل على من شَاءَ بِمَا شَاءَ وَجَائِز أَن يقدم على ذَوي الْأَعْمَال الرفيعة قَالَ تَعَالَى {يخْتَص برحمته من يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} فَلَا يجوز خلاف هَذِه النُّصُوص لأحد لِأَن من خالفها كذب الْقُرْآن وَلَوْلَا هَذِه النُّصُوص لما أبعدنا أَن يعذب الله تَعَالَى على الطَّاعَة لَهُ وَأَن ينعم على مَعْصِيَته وَأَن يجازي الْأَفْضَل بالأنقص والأنقص بالأفضل لِأَن كل شَيْء ملكه وخلقه لَا مَالك لشَيْء سواهُ وَلَا معقب لحكمه وَلَا حق لأحد عَلَيْهِ لَكِن قد أمنا ذَلِك كُله بأخبار الله تَعَالَى أَنه لَا يجازي ذَا عمل إِلَّا بِعَمَلِهِ وَأَنه يتفضل على من يَشَاء فَلَزِمَ الْإِقْرَار بِكُل ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَلَو قَالَ قَائِل إِنَّمَا فضل فِي الْجنَّة وَأَعْلَى قدرا مَكَان إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول(4/96)
الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مَكَان أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم قُلْنَا مَكَان إِبْرَاهِيم أَعلَى بِلَا شكّ وَلَكِن ذَلِك الْمَكَان اخْتِصَاص مُجَرّد لإِبْرَاهِيم الْمَذْكُور لم يسْتَحقّهُ بِعَمَل وَلَا اسْتحق أَيْضا أَن يقصر بِهِ عَنهُ ومواضيع هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين جَزَاء لَهُم على قدر فَضلهمْ وسوابقهم وَكَذَلِكَ نساؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكانهم جَزَاء لَهُنَّ على قدر فضلهن وسوابقهن فَلَا يُقَال إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من أبي بكر أَو عمر وَلَا يُقَال أَيْضا أَن أَبَا بكر وَعمر أفضل من إِبْرَاهِيم والمفاضلة وَاقعَة بَين الصَّحَابَة وَبَين نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن أَعْمَالهم وسوابقهم لَهَا مَرَاتِب متناسبة بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل أَنَّهُنَّ لَوْلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حصلن تِلْكَ الدرجَة وَإِنَّمَا تِلْكَ الدرجَة لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق نعم وَلَا شكّ أَيْضا فِي أَن جَمِيع الصَّحَابَة لَوْلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حصلوا على الدرج الَّتِي لَهُم فِيهَا فَإِنَّمَا هِيَ إِذْ على قَوْلكُم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قُلْتُمْ وَلَا فرق وَبَقِي الْفضل والتقدم لَهُنَّ كَمَا كَانَ فِي كل ذَلِك وَلَا فرق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما فضلهن على بَنَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبين بِنَصّ الْقُرْآن لَا شكّ فِيهِ قَالَ الله عز وَجل {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء أَن اتقيتن فَلَا تخضعن بالْقَوْل} فَهَذَا بَيَان قَاطع لَا يسع أحدا جَهله فَإِن عَارَضنَا معَارض يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير نسائها فَاطِمَة بنت مُحَمَّد قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان جلي لما قُلْنَا وَهُوَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يقل خير النِّسَاء فَاطِمَة وَإِنَّمَا قَالَ خير نسائها فَخص وَلم يعم وتفضيل الله عز وَجل النِّسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النِّسَاء على عُمُوم وَلَا خُصُوص لَا يجوز أَن يَسْتَثْنِي مِنْهُ أحدا من اسْتثِْنَاء نَص آخر فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا فضل فَاطِمَة على نسَاء الْمُؤمنِينَ بعد نِسَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتفقت الْآيَة مَعَ الحَدِيث وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام فَهَذَا أَيْضا عُمُوم موفق الْآيَة وَوَجَب أَن يَسْتَثْنِي مَا خصّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله نسائها من هَذَا الْعُمُوم فصح أَن نِسَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَا خصّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله نسائها من هَذَا الْعُمُوم فصح أَن نِسَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَام افضل النِّسَاء جملَة حاشا اللواتي خصهن الله تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ كَأُمّ إِسْحَاق وَأم مُوسَى وَأم عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام وَقد نَص الله تَعَالَى على هَذَا بقوله الصَّادِق {يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسَاء الْعَالمين} وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء كل نَبِي مِنْهُم أفضل مِمَّن لَيْسَ نَبِي من سَائِر النَّاس وَمن خَالف هَذَا فقد كفر وَكَذَلِكَ أخبر عَلَيْهِ السَّلَام فَاطِمَة أَنَّهَا سيدة نسَاء الْمُؤمنِينَ وَلم يدْخل نَفسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْجُمْلَة بل أخبر عَمَّن سواهُ وبرهان آخر وَهُوَ قَول الله تَعَالَى مُخَاطبا لَهُنَّ {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا فضل ظَاهر وَبَيَان لائح فِي أَنَّهُنَّ أفضل من جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وبهذه الْآيَة صِحَة متيقنة لَا يمتري فِيهَا مُسلم فَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَفَاطِمَة وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِذا عمل الْوَاحِد مِنْهُم عملا يسْتَحق عَلَيْهِ مِقْدَارًا مَا من الْأجر وعملت امْرَأَة من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل ذَلِك الْعَمَل بِعَيْنِه كَانَ لَهَا مثل ذَلِك الْمِقْدَار من الْأجر فَإِذا كَانَ نصيف الصحابى وَفَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُم بفي بِأَكْثَرَ من مثل جبل أحد ذَهَبا مِمَّن بعده كَانَ للْمَرْأَة من نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي نصيفها أَكثر من مَلِيء جبلين اثْنَيْنِ مثل جبل أحد ذَهَبا وَهَذِه فَضِيلَة لَيست لأحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا هن وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى(4/97)
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يوعك كوعك رجلَيْنِ من أَصْحَابه لِأَن لَهُ (1) على ذَلِك كفاين من الْأجر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَيْسَ بعد هَذَا بَيَان فِي فضلهن على كل أحد من الصَّحَابَة إِلَّا من أعمى الله قلبه من الْحق ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد اعْترض علينا بعض أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْمَكَان بقول الله تَعَالَى عَن أهل الْكتاب إِذا آمنُوا {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} قَالَ فَيلْزم أَنهم أفضل منا فَقلت لَهُ أَن هَذِه الْآيَة وَالْخَبَر الَّذِي فِيهِ ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ فَذكر مُؤمن أهل الْكتاب وَالْعَبْد الناصح مُعتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا فيهمَا بَيَان الْوَجْه الَّذِي أجروا بِهِ مرَّتَيْنِ وَهُوَ الْإِيمَان بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالنبي الأول الْمَبْعُوث بِالْكتاب الأول وَنحن نؤمن بِهَذَا كُله كَمَا آمنُوا فَنحْن شُرَكَاء ذَلِك الْمُؤمن مِنْهُم فِي ذَيْنك الإيمانين وَكَذَلِكَ العَبْد الناصح يُؤجر لطاعة سَيّده أجرا ولطاعة الله أجرا وَكَذَلِكَ مُعتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا يُؤجر على عتقه أجرا ثمَّ يَتَزَوَّجهَا يُؤجر على عُنُقه أجرا ثمَّ على نِكَاحه إِذا أَرَادَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى أجرا ثَانِيًا فصح يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ فِي خَاص من أَعْمَالهم لَا فِي جَمِيع أَعْمَالهم وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يمْنَع من أَن يُؤجر غَيرهم فِي غير هَذِه الْأَعْمَال أَكثر من أُجُورهم وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يُضَاعف لهَؤُلَاء على مَا عمله أهل طبقتهم وَلَيْسَت المضاعفة لأجور نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَّتَيْنِ من هَذَا فِي ورد وَلَا صدر لِأَن المضاعفة لَهُنَّ إِنَّمَا هِيَ فِي كل عمل عملته بِنَصّ الْقُرْآن إِذْ يَقُول الْقُرْآن يَقُول الله تَعَالَى {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} فَكل عمل عمله صَاحب من الصَّحَابَة لَهُ فِيهِ أجر فَلِكُل امْرَأَة مِنْهُنَّ فِي مثل ذَلِك الْعَمَل أَجْرَانِ والمضاعفة لَهُنَّ إِنَّمَا تكون على مَا عمله طبقتهن من الصَّحَابَة وَقد علمنَا أَن بَين الصاحب وَعمل غير أعظم مِمَّا بَين أحد ذَهَبا وَنصف مد شعير فَيَقَع لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ مثلا ذَلِك مرَّتَيْنِ وَهَذَا لَا يخفى على ذِي حس سليم فبطأت الْمُعَارضَة الَّتِي ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا أَيْضا بعض النَّاس فِي الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ وَمن الرِّجَال أَبوهَا بِأَن قَالَ قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لأسامة بن زيد أَن أَبَاهُ كَانَ أحب النَّاس إِلَيّ وَأَن هَذَا أحب النَّاس إِلَيّ بعده وَصَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للْأَنْصَار أَنكُمْ أحب النَّاس إِلَيّ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما هَذَا اللَّفْظ الَّذِي فِي حَدِيث أُسَامَة بن زيد أَنه أحب النَّاس إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فقد رُوِيَ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه وَأما الَّذِي فِيهِ ذكر أُسَامَة وَزيد رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّمَا رَوَاهُ عمر بن حَمْزَة عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه وَعمر وَحَمْزَة هَذَا ضَعِيف وَالصَّحِيح من هَذَا الْخَبَر هُوَ مَا رَوَاهُ عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَاد لَا مغمز فِيهِ فَذكر فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِعني ليزِيد بن حَارِثَة وأيم الله إِن كَانَ لخليق بالإمارة وَإِن كَانَ لمن أحب النَّاس إِلَيّ وَأَن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده وَهَذَا يقْضِي على حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه لِأَنَّهُ مُخْتَصر من حَدِيث عبد الله بن دِينَار وَبِهَذَا يَنْتَفِي التَّعَارُض بَين الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عمر وَعَن أنس وَعمر وَإِلَّا فَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَأما حَدِيث الْأَنْصَار فَرَوَوْه كَمَا ذكره هِشَام بن زيد عَن أنس وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ(4/98)
وَسلم أَنه قَالَ أَنْتُم من أحب النَّاس إِلَيّ وَهُوَ حَدِيث وَاحِد وَزِيَادَة الْعدْل مَقْبُولَة فصح بِزِيَادَة من فِي الحَدِيث من طَرِيق الْعُدُول أَن الْأَنْصَار وزيدا وَأُسَامَة رَضِي الله عَنْهُم من جملَة قوم هم أحب النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا حق لَا يشك فِيهِ لأَنهم من أَصْحَابه وَأَصْحَابه أحب النَّاس إِلَيْهِ بِلَا شكّ وَلَيْسَ هَكَذَا جَوَابه فِي عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِذْ سُئِلَ فِي أحب النَّاس إِلَيْك فَقَالَ عَائِشَة فَقيل من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا لِأَن هَذَا قطع على بَيَان مَا سَأَلَ عَنهُ السَّائِل من معرفَة من الْمُنْفَرد الْبَائِن عَن النَّاس بمحبته عَلَيْهِ السَّلَام وَاعْترض علينا بعض الأشعرية بِأَن قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} فصح أَن محبته عَلَيْهِ السَّلَام لمن أحب لَيْسَ فضولا لِأَنَّهُ قد أحب عَمه وَهُوَ كَافِر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَقُلْنَا أَن هَذِه الْآيَة لَيست على مَا ظن وَإِنَّمَا مُرَاد الله تَعَالَى {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَي أَحييت هداه برهَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي من يَشَاء هداه وَفرض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلينا أَن نحب الْهدى لكل كَافِر لَا أَن نحب الْكَافِر وَأَيْضًا فَلَو صَحَّ أَن معنى الْآيَة من أَحْبَبْت كَمَا ظن هَذَا الْمُعْتَرض لما كَانَ علينا بذلك حجَّة لِأَن هَذِه آيَة مَكِّيَّة نزلت فِي أبي طَالب ثمَّ أنزل الله تَعَالَى فِي الْمَدِينَة لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وباليوم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم وَأنزل الله تَعَالَى فِي الْمَدِينَة {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا برَاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده} وَإِن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب أَبَا طَالب فقد حرم الله تَعَالَى عَلَيْهِ بعد ذَلِك وَنَهَاهُ عَن محبته وافترض عَلَيْهِ عداوته وبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس سليم أَن الْعَدَاوَة والمحبة لَا يَجْتَمِعَانِ أصلا والمودة هِيَ الْمحبَّة فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِلَا خلاف من أحد من أهل اللُّغَة فقد بَطل أَن يحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا غير مُؤمن وَمن قد صحت النُّصُوص وَالْإِجْمَاع على أَن محبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن أحب فَضِيلَة وَذَلِكَ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لعَلي لَأُعْطيَن الرابة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله فَإذْ لَا شكّ وَلَا خلاف فِي أَن محبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا قَالَ أهل الْجَهْل وَالْكذب فقد صَحَّ يَقِينا أَن كَانَ أتم حظاً فِي الْفَضِيلَة فَهُوَ فضل مِمَّن هُوَ أقل حظاً فِي تِلْكَ الْفَضِيلَة هَذَا شَيْء يعلم ضَرُورَة فَإِذا كَانَت عَائِشَة أتم حظاً فِي الْمحبَّة الَّتِي هِيَ أتم فَضِيلَة فَهِيَ أفضل مِمَّن حَظه فِي ذَلِك أقل من حظها وَلذَلِك لما قيل لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام من الرِّجَال قَالَ أَبوهَا ثمَّ عمر فَكَانَ ذَلِك مُوجبا لفضل أبي بكر ثمَّ عمر على سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَالْحكم بِالْبَاطِلِ لَا يجوز فِي أَن يكون يقدم أَبُو بكر ثمَّ عمر فِي الْفضل من أجل تقدمها فِي الْمحبَّة عَلَيْهِمَا وَمَا نعلم نصا فِي وجوب القَوْل بِتَقْدِيم أبي بكر ثمَّ عمر على سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا هَذَا الْخَبَر وَحده
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا ينْكح لَهُ من النِّسَاء فَذكر الْحسب وَالْمَال وَالْجمال وَالدّين وَنهي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كل ذَلِك بقوله فَعَلَيْك بِذَات الدّين تربت يداك فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون يحض على نِكَاح النِّسَاء واختيارهن للدّين فَقَط ثمَّ يكون هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام يُخَالف ذَلِك فيحب عَائِشَة لغير الدّين وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام لَا يحل لمُسلم أَن يظنّ فِي ذَلِك شَيْئا غير الْفضل عِنْد الله تَعَالَى فِي الدّين فوصف الرجل امْرَأَته للرِّجَال لَا يرضى بِهِ إِلَّا خسيس نذل سَاقِط وَلَا(4/99)
يحل لمن لَهُ أدنى مسكة من عقل أَن يمر هَذَا فِي باله عَن فَاضل من النَّاس فَكيف عَن الْمُقَدّس المطهر الْبَائِن فَضله على جَمِيع النَّاس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَوْلَا أَنه بلغنَا عَن بعض من تصدر لنشر الْعلم من زَمَاننَا وَهُوَ الْمُهلب بن أبي صفرَة التَّمِيمِي صَاحب عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْأَصِيل أَنه أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى الْقَبِيح وَصرح بِهِ مَا انْطلق لنا بِالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ لِسَان وَلَكِن الْمُنكر إِذا ظهر وَجب على الْمُسلمين تَغْيِيره فرضا على حسب طاقتهم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَكَذَلِكَ عرض الْملك لَهَا رَضِي الله عَنهُ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل وِلَادَتهَا فِي سرعَة من حَرِير يَقُول لَهُ هَذِه زَوجتك فَيَقُول عَلَيْهِ السَّلَام إِن يكن من عِنْد الله يمضيه فَهَل بعد هَذَا فِي الْفضل غَايَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا مكي بن أبي طَالب الْمقري بِأَن قَالَ يلْزم على هَذَا أَن تكون امْرَأَة أبي بكر أفضل من عَليّ لِأَن امْرَأَة أبي بكر مَعَ أبي بكر فِي الْجنَّة فِي دَرَجَة وَاحِدَة وَهِي أَعلَى من دَرَجَة عَليّ فمنزلة امْرَأَة أبي برك أَعلَى من منزلَة عَليّ فَهِيَ أفضل من عَليّ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فأجبناه بِأَن قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن هَذَا الِاعْتِرَاض لَيْسَ بِشَيْء لوجوه أَحدهَا أَن مَا بَين دَرَجَة أبي بكر ودرجة عَليّ فِي الْفضل الْمُوجب لعلو دَرَجَته فِي الْجنَّة لعلو دَرَجَته فِي الْجنَّة على دَرَجَة عَليّ لَيست من التباين بِحَيْثُ مَا هُوَ بَين دَرَجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين دَرَجَة أبي بكر فِي الْفضل الْمُوجب لعلو دَرَجَته عَلَيْهِ السَّلَام على دَرَجَات سَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بل قد أيقنا أَن دَرَجَة أقل رجل منا فِي الْفضل أقرب نِسْبَة من أَعلَى دَرَجَة لأعلى رجل من الصَّحَابَة من نِسْبَة دَرَجَة أفضل الصَّحَابَة إِلَى دَرَجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَيْضًا فَلَيْسَ بَين أبي بكر وَعلي فِي المباينة فِي الْفضل مَا يُوجب أَن تكون امْرَأَة أبي بكر التابعة لَهُ أفضل من عَليّ بل منَازِل الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين الَّذين أوذوا فِي سَبِيل الله عز وَجل مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ كَذَلِك أهل السوابق مشهداً مشهداً درجهم فِي الْفضل مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ منَازِل الْأَنْصَار الْأَوَّلين مُتَقَارِبَة وَإِن تفاضلت ثمَّ كَذَلِك أهل السَّابِق بعد الْهِجْرَة مشهداً مشهداً درجهم مُتَقَارِبَة فِي الْفضل ثمَّ كَذَلِك من أسلم بعد الْفَتْح أَيْضا ويزداد الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْمُشْركين فِي الْمشَاهد جَزَاء على على ذَلِك فَنَقُول أَن امْرَأَة أبي برك الْمُسْتَحقَّة بعملها الْكَوْن مَعَه فِي دَرَجَته مثل أم رُومَان لسنا نَدْرِي أَهِي أفضل أم عَليّ لأَنا لَا نَص مَعنا فِي ذَلِك والتفضيل لَا يعرف إِلَّا بِنَصّ وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حيركم الْقرن الَّذِي بعثت فِيهِ قُم الَّذين يَلُونَهُمْ أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فجعلهم طَبَقَات فِي الْخَيْر وَالْفضل فَلَا شكّ هم كَذَلِك فِي الْجَزَاء فِي الْجنَّة وَإِلَّا فَكَانَ يكون الْفضل لَا معنى لَهُ وَقَالَ عز وَجل {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَأَيْضًا فلسنا نشك أَن الْمُهَاجِرَات الأوليات من نسَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يشاركن الصَّحَابَة فِي الْفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيرا من الرِّجَال وَفِي الرِّجَال من يفل كثيرا مِنْهُنَّ وَمَا ذكر الله تَعَالَى منزلَة من الْفضل إِلَّا وَقرن النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِيهَا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْمُسلمين والمسلمأت} الْآيَة حاشا الْجِهَاد فَإِنَّهُ فرض على الرِّجَال دون ولسنا ننكر أَن يكون لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ قُصُور ومنازل مُقَدّمَة على جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ يكون لمن لم تستأهل من نِسَائِهِ تِلْكَ الْمنزلَة فِي الْجنَّة دون منَازِل من هُوَ أفضل مِنْهُنَّ من الصَّحَابَة فقد نكح الصَّحَابَة رَضِي الله(4/100)
عَنْهُم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فَتكون تِلْكَ الْمنَازل زَائِدَة فِي فضل أَزوَاجهنَّ من الصَّحَابَة فينزلون إلَيْهِنَّ ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى منازلهن الْعَالِيَة بل قد صَحَّ هَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه قَالَ كلَاما مَعْنَاهُ وَأكْثر نَصه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام زعيم بَيت فِي ربض الْجنَّة فِي وسط الْجنَّة وَفِي أَعلَى الْجنَّة لمن فعل كَذَا أمرا وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصح نَص مَا قُلْنَا من أَن لمن دونه عَلَيْهِ السَّلَام منَازِل عالية وَآخر مسفلة عَن تِلْكَ الْمنَازل ينزلون إِلَيْهَا ثمَّ يصعدون إِلَى الأعالي وَهَذَا مبعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن جَمِيع نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لَهُنَّ حق الصُّحْبَة الَّتِي يشتركن فِيهَا جَمِيع الصَّحَابَة ويفضلنهم فِيهَا بِقرب الْخَاصَّة فَلَيْسَ فِي نِسَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا وَاحِدَة يفضلها بالصحبة الَّتِي هِيَ فضيلتهم الَّتِي بهَا بانوا عَمَّن سواهُم فَقَط وَقد كفينا الْبَاب وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تَأَخّر بعض الصَّحَابَة عَن بَعضهم فِي بعض الْأَمَاكِن مَوْجُودَة وَإِن كَانَ ذَلِك الْمُتَأَخر فِي بعض الْأَمَاكِن مُتَقَدما فِي مَكَان آخر فقد علمنَا أَن بِلَالًا عذب فِي الله عز وَجل مَا لم يعذب عَليّ وَأَن عليا قَاتل مَا لم يُقَاتل بِلَال وَأَن عُثْمَان أنْفق مَا لم ينْفق بِلَال وَلَا عَليّ فَيكون الْمَفْضُول مِنْهُم فِي الْجُمْلَة مُتَقَدما للَّذي فَضله فِي بعض فضائله وَلَا سَبِيل أَن يُوجد هَذَا فِيمَا بَينهم وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يجوز أَن يتقدمه أحد من ولد آدم فِي شَيْء من الْفَضَائِل أَولهَا عَن آخرهَا وَلَا إِلَى أَن يلْحقهُ لَاحق فِي شَيْء من الْفَضَائِل من بني آدم فَلَا سَبِيل إِلَى ينسفل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى دَرَجَة يوازيها فِيهَا صَاحب من الصَّحَابَة فَكيف أَن يَعْلُو عَلَيْهِ الصاحب هَذَا أَمر تقشعر مِنْهُ جُلُود الْمُؤمنِينَ وَقد استعظم أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ أَن يسكن فِي غرفَة على بَيت يسكنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يظنّ بِأَن هَذَا يكون فِي دَار الْجَزَاء فَإِذا كَانَ العالي من الصَّحَابَة فِي أَكثر مَنَازِله ينسفل أَيْضا فِي بَعْضهَا عَن صَاحب آخر قد علاهُ فِي منَازِل أخر على قدر تفاضلهم فِي أَعْمَالهم كَمَا ذكرنَا آنِفا فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الصائمين يدعونَ من بَاب الريان وَأَن الْمُجَاهدين يدعونَ من بَاب الْجِهَاد وَأَن المتصدقين يدعونَ من بَاب الصَّدَقَة وَأَن أَبَا بكر يَرْجُو لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَدعِي من جَمِيع تِلْكَ الْأَبْوَاب وَقد يجوز أَن يفضل أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ غَيره من الصَّحَابَة فِي بعض تِلْكَ الْوُجُوه مِمَّا انْفَرد بِبَاب مِنْهَا وَلَا يجوز أَن يفضل أحد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء من أَبْوَاب الْبر فَبَطل هَذَا الِاعْتِرَاض جملَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَاعْترض أَيْضا علينا مكي بن أبي طَالب بِأَن قَالَ إِذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمن كل وَاحِد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَعلَى دَرَجَة فِي الْجنَّة من جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَكَانَ نساؤه عَلَيْهِ السَّلَام مَعَه فِي دَرَجَته فِي الْجنَّة فدرجتهن فِيهَا أَعلَى من دَرَجَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمن درج سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فهن على هَذَا الحكم أفضل من مُوسَى وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فأجبناه بِأَن هَذَا الِاعْتِرَاض أَيْضا لَا يلْزمنَا وَللَّه الْحَمد لِأَن الْجنَّة دَار ملك وَطَاعَة وعلو منزلَة ورياسة وَاتِّبَاع من التَّابِع للمتبوع كَمَا قَالَ عز وَجل {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيماً وملكاً كَبِيرا} وَقَالَ تَعَالَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {وَكَانَ عِنْد الله وجيهاً} وَأخْبر عز وَجل عَن جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فقد علمنَا أَن ملك الدُّنْيَا غرور وَأَن ملك الْآخِرَة والحقيقة وَقد أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَعَ اتباعهم فالنبي مَعَه الْوَاحِد والاثنان وَالثَّلَاثَة والنفر وَالْجَمَاعَة فَأخْبر عز وَجل(4/101)
أَن هُنَالك الْملك الْكَبِير وَالطَّاعَة والوجاهة والإتباع والإستثمار وَإِنَّمَا عرض الله تَعَالَى علينا فِي الدُّنْيَا من الْملك طرفا لنعلم بِهِ مِقْدَار الْملك الَّذِي فِي دَار الْجَزَاء كَمَا عرض علينا من اللَّذَّات وَالْحَرِير والديباج وَالْخمر وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والمسك والجواري والحلي وَأَعْلَمنَا أَن هَذَا كُله خَالِصَة لنا هُنَالك وكما صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر من يدْخل الْجنَّة يزكو على أعظم ملك عرفه فِي الدُّنْيَا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تَعَالَى مثل الدُّنْيَا عشر مَرَّات
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلَمَّا صَحَّ مَا ذكرنَا وَكَانَت الْمَلَائِكَة طبقَة وَاحِدَة إِلَّا أَنهم يتعاضلون فِيهَا وَكَانَت طبقَة الْمُرْسلين النَّبِيين طبقَة وَاحِدَة لنهما أَيْضا يتفاضلون فِيهَا وكل الصَّحَابَة طبقَة وَاحِدَة إِلَّا أَنهم يتفاضلون فِيهَا فَوَجَبَ بِلَا شكّ أَن لَا يكون اتِّبَاع الرُّسُل من النِّسَاء وَالْأَصْحَاب كالمتبوعين الَّذين هم الرُّسُل لِأَن بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن تَابع الْأَعْلَى لَيْسَ لاحقاً نَظِير متبوعه فَكيف أَن يكون أَعلَى مِنْهُ كَمَا أَن التابعيات من نسَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يلحقن نظراء أَزوَاجهنَّ من الصَّحَابَة إِذْ لَيْسَ هن مَعَهم فِي طبقَة وَإِنَّمَا ينظر بَين أهل كل طبقَة وَمن هُوَ فِي طبقته وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طبقَة وَاحِدَة مَعَ الصَّحَابَة فصح التَّفَاضُل بَينهم وَلَيْسَ وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَلَا مِنْهُم مَعَ الْأَنْبِيَاء فِي طبقَة فَلم يجز أَن ينظر بَينهم وَقد أخبر عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى لَيْلَة الْإِسْرَاء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء وبالضرورة نعلم أَن منزلَة النَّبِي الَّذِي هُوَ متبوع فِي سَمَاء الدُّنْيَا أمره هُنَاكَ مُطَاع أَعلَى من منزلَة التَّابِع فِي السَّمَاء السَّابِعَة للنَّبِي الَّذِي هُنَالك وَإِذ قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن كل نَبِي يَأْتِي مَعَ أمته فَنحْن مَعَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كل مَا ألزمناه مكي لَازِما لنا فَيلْزمهُ مثل ذَلِك فِينَا أَيْضا أَن نَكُون أفضل من الْأَنْبِيَاء وَهَذَا غير لَازم لما ذكرنَا من أَنه لَا ينظر فِي الْفضل إِلَّا بَين من كَانَ من أهل طبقَة وَاحِدَة فَمن كَانَ مِنْهُم أَعلَى منزلَة من الآخر كَانَ أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ وَلَيْسَ ذَلِك فِي الطباق الْمُخْتَلفَة أَلا ترى أَن كَون مَالك خَازِن النَّار فِي مَكَان غير مَكَان خَازِن الْجنَّة وَغير مَكَان جِبْرَائِيل لَا تحط دَرَجَته عَن دَرَجَة من فِي الْجنَّة من النَّاس الَّذين الْمَلَائِكَة جملَة أفضل مِنْهُم لِأَن مَالِكًا متبوع للنار ومقدم مُطَاع مفضل بذلك على التَّابِعين والخدمة فِي الْجنَّة بِلَا شكّ فَبَطل هَذَا الشّعب وَيجمع هَذَا الْجَواب بِاخْتِصَار وَهُوَ أَن الرؤساء والمتبوعين فِي كل طبقَة فِي الْجنَّة أَعلَى من التَّابِعين لَهُم وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه كلهم أَتبَاع لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء متبوعون فَإِنَّمَا ينظر بَين المتبوعين أَيهمْ أفضل وَينظر بَين الأتباع أَيهمْ أفضل وَيعلم الْفضل بعلو دَرَجَة كل فَاضل من دونه فِي الْفضل وَلَا يجوز أَن ينظر بَين الأتباع والمتبوعين لِأَن المتبوعين لَا يكونُونَ الْبَتَّةَ أحط دَرَجَة من التَّابِعين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَكيف يَقُولُونَ فِي الْحور الْعين أهن أفضل من النَّاس وَمن الْأَنْبِيَاء كَمَا قُلْتُمْ فِي الْمَلَائِكَة فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْفضل لَا يعرف إِلَّا ببرهان مسموع من الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن أَو من كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم نجد الله تَعَالَى نَص على فضل الْحور الْعين كَمَا نَص على فضل الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا نَص على أَنَّهُنَّ مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أَزوَاجهنَّ فِي اللَّذَّات كلهَا وأنهن خُلِقْنَ ليلتذ بِهن الْمُؤْمِنُونَ فَإِذا الْأَمر هَكَذَا فَإِنَّمَا مَحل الْحور الْعين مَحل من هن لَهُ فَقَط إِن ذَلِك اخْتِصَاص لَهُنَّ بِلَا عمل وتكليف فهن خلاف الْمَلَائِكَة فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ الله تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمِمَّا يُؤَكد قَوْلنَا قَول الله تَعَالَى {أَن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون هم وأزواجهم فِي ظلال على الأرائك متكئون} وَهَذَا النَّص إِذْ قد صَحَّ فقد وَجب الْإِقْرَار بِهِ(4/102)
فَلَو عجزنا عَن تَفْضِيل بعض أَقسَام هَذِه الاعتراضات لما ألزمنا فِي ذَلِك نقصا إِذْ لَا يجوز الِاعْتِرَاض على هَذَا النَّص وَكلما صَحَّ بِيَقِين فَلَا يجوز أَن يُعَارض بِيَقِين آخر والبرهان لَا يُبطلهُ برهَان وَقد أوضحنا أَن الْجنَّة دَار جَزَاء على أَعمال الْمُكَلّفين فأعلاهم دَرَجَة أعلاهم فضلا وَنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلا دَرَجَة فِي الْجنَّة من جَمِيع الصَّحَابَة فهن أفضل مِنْهُنَّ فَمن أبي هَذَا فليخبرنا مَا معنى الْفضل عِنْده إِذْ لَا بُد أَن يكون لهَذِهِ الْكَلِمَة معنى فَإِن قَالَ لَا معنى لَهَا فقد كفانا مُؤْنَته وَإِن قَالَ لَهَا معنى سألناه مَا هُوَ فَإِنَّهُ لَا يجد غير مَا قُلْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَكيف وَقد أَتَيْنَا بتأييد الله عز وَجل لنا على كل مَا اعْترض علينا بِهِ فِي هَذَا الْبَاب ولاح وَجه فِي ذَلِك بَيْننَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) واستدركنا بَيَانا زَائِدَة فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن فَاطِمَة سيدة نسَاء الْمُؤمنِينَ أَو نسَاء هَذِه الْأمة فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْوَاجِب مُرَاعَاة أَلْفَاظ الحَدِيث وإ نما ذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِي هَذَا الحَدِيث السِّيَادَة وَلم يذكر الْفضل وَذكر عَلَيْهِ السَّلَام فِي حَدِيث عَائِشَة الْفضل نصا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) والسيادة غير الْفضل وَلَا شكّ أَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا سيدة نسَاء الْعَالمين بِوِلَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا فالسيادة من بَاب الشّرف لَا من بَاب الْفضل فَلَا تعَارض بَين الحَدِيث الْبَتَّةَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا هُوَ حجَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة كَانَ أَبُو بكر خير وَأفضل من مُعَاوِيَة وَكَانَ مُعَاوِيَة أسود من أبي بكر فَفرق ابْن عمر كَمَا ترى بَين السَّادة وَبَين الْفضل وَالْخَيْر وَقد علمنَا أَن الْفضل هُوَ الْخَيْر نَفسه لِأَن الشَّيْء إِذا كَانَ خيرا من شَيْء آخر فَهُوَ أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقد قَالَ قَائِل مِمَّن يخالفنا فِي هَذَا قَالَ الله عز وَجل {وَلَيْسَ الذّكر كالانثى} فَقُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَأَنت إِذا عِنْد نَفسك أفضل من مَرْيَم وَعَائِشَة وَفَاطِمَة لِأَنَّك ذكر وَهَؤُلَاء أناث فَإِن قَالَ هَذَا الْحق بالنوكي وَكفر بِأَن سُئِلَ عَن معنى الْآيَة قيل لَهُ الْآيَة على ظَاهرهَا وَلَا شكّ فِي أَن الذّكر لَيْسَ كالأنثى لِأَنَّهُ لَو كَانَ كالأنثى وَالْأُنْثَى أَيْضا لَيست كالذكر لِأَن هَذِه أُنْثَى وَهَذَا ذكر وَلَيْسَ هَذَا من الْفضل فِي شَيْء الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ الْحمرَة غير الخضرة والخضرة لَيست كالحمرة وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الْفضل فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} قيل لَهُ إِنَّمَا هَذَا فِي حُقُوق الْأزْوَاج على الزَّوْجَات وَمن أَرَادَ حمل هَذِه الْآيَة على ظَاهرهَا لزمَه أَن يكون كل يَهُودِيّ وكل مَجُوسِيّ وكل فَاسق من الرِّجَال أفضل من أم مُوسَى وَأم عِيسَى وَأم إِسْحَاق عَلَيْهِم السَّلَام وَمن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبنَاته وهذ 1 كفر مِمَّن قَالَه بِإِجْمَاع الْأمة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} إِنَّمَا لَك فِي تقصيرهن فِي الْأَغْلَب عَن المحاجة لقلَّة ذريتهن وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يحط من الْفضل عَن ذَوَات الْفضل مِنْهُنَّ فَإِن اعْترض معترض فَقَالَ الَّذِي أمرنَا بطاعتهم من خلفاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أفضل من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذَا خطأ من جِهَات إِحْدَاهَا أَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جملَة أولي الْأَمر منا الَّذين أمرنَا بطاعتهم فِيمَا بلغن إِلَيْنَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالأئمة من الصَّحَابَة سَوَاء(4/103)
وَلَا فرق وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْخلَافَة لَيست من قبل فضل الْوَاحِد فِي دينه فَقَط وَجَبت لمن وَجَبت لَهُ وَكَذَلِكَ الْإِمَارَة لِأَن الْإِمَارَة قد تجوز لمن غَيره أفضل مِنْهُ وَقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ مَأْمُور بِطَاعَة عَمْرو بن الْعَاصِ إِذْ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل فَبَطل أَن تكون الطَّاعَة إِنَّمَا تجب للأفضل فَالْأَفْضَل وَقد أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمْرو بن الْعَاصِ وخَالِد بن الْوَلِيد كثيرا وَلم يَأْمر أَبَا ذَر أفضل وَأَبُو ذَر أفضل خيرا مِنْهُمَا بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا وَجَبت طَاعَة الْخُلَفَاء من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي أموامر هم مذ ولوا لَا قبل ذَلِك وَلَا خلاف فِي أَن الْولَايَة لم تزدهم فضلا على مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا زادهم فضلا عدلهم فِي الْولَايَة لَا الْولَايَة نَفسهَا وعدلهم دَاخل فِي جملَة أَعْمَالهم الَّتِي يسْتَحقُّونَ وَالْفضل بهَا أَلا ترى أَن مُعَاوِيَة وَالْحسن إِذْ وليا كَانَت طاعتهما وَاجِبَة على سعد بن أبي وَقاص وَسعد أفضل مِنْهُمَا ببون بعيد جدا وَهِي حَيّ مَعَهُمَا مَأْمُور بطاعتهما وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جَابر وَأنس بن مَالك وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي وجوب طَاعَة عبد الْملك بن مَرْوَان وَالَّذِي بَين جَابر وَأنس وَابْن عَمْرو بَين عبد الْملك فِي الْفضل كَالَّذي بَين النُّور والظلمة فَلَيْسَ فِي وجوب طَاعَة الْوُلَاة مَا يُوجب فضلا فِي الْجنَّة فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {وَالَّذين أمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ وَمَا التناهم من عَمَلهم من شَيْء كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} فبيان اعتراضه ظَاهر فِي آخر الْآيَة وَهُوَ أَن إِلْحَاق الذُّرِّيَّة بالأباء لَا يَقْتَضِي كَونهم مَعَهم فِي دَرَجَة وَلَا هَذَا مَفْهُوم من نَص الْآيَة بل إِنَّمَا فِيهَا إلحاقهم بهم فِيمَا ساورهم فِيهِ بِنَصّ الْآيَة ثمَّ بَين تَعَالَى ذَلِك وَلم يدعنا فِي شكّ بقوله {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} فصح أَن كل وَاحِد من الأباء وَالْأَبْنَاء يجازى حسب مَا كسب فَقَط وَلَيْسَ حكم الْأزْوَاج كَذَلِك بل أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فِي قصوره وعَلى سرره ملتذ بِهن ومعهن جَزَاء لَهُنَّ بِمَا عملن من الْخَبَر وبصبرهن واختبار الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّار الْآخِرَة وَهَذِه منزلَة لَا يحلهَا أحد بعد النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فهن أفضل من كل وَاحِد دون الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن شغب مشغب بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن حملت هَذَا الحَدِيث على ظَاهره فيلزمك أَن تَقول أَنَّك أتم عقلا وديناً من مَرْيَم وَأم مُوسَى وَأم إِسْحَاق وَمن عَائِشَة وَفَاطِمَة فَإِن تَمَادى على هَذَا سقط الْكَلَام مَعَه وَلم يبعد عَن الْكفْر وَإِن قَالَ لَا سقط اعتراضه وَاعْترض بِأَن من الرِّجَال من هُوَ أنقص دينا وعلاقلا من كثير من النِّسَاء فَإِن سَأَلَ عَن معنى هَذَا الحَدِيث قيل لَهُ قد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجه لَك النَّقْص وَهُوَ كَون شَهَادَة على الْمَرْأَة على النّصْف من شَهَادَة الرجل وَكَونهَا إِذا حَاضَت لَا تصلي وَلَا تَصُوم وَلَيْسَ هَذَا بِمُوجب نُقْصَان الْفضل وَلَا نُقْصَان الدّين وَالْعقل فِي غير هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَقَط إِذْ بِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَن فِي النِّسَاء من هن أفضل من كثير من الرِّجَال وَأتم دينا وعقلاً غير الْوُجُوه الَّتِي ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا حَقًا فصح يَقِينا أَنه إِنَّمَا عبر عَلَيْهِ السَّلَام مَا قد بَينه فِي الحَدِيث نَفسه من الشَّهَادَة وَالْحيض فَقَط وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا ينقص الْفضل فقد علمنَا أَن أَبَا بكر وعلياً لَو شهدُوا فِي زنا لم يحكم بِشَهَادَتِهِم وَلَو شهد بِهِ أَرْبَعَة منا عدُول فِي الظَّاهِر حكم بِشَهَادَتِهِم وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب أننا أفضل من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وَكَذَلِكَ القَوْل فِي شَهَادَة النِّسَاء فَلَيْسَتْ الشَّهَادَة(4/104)
من بَاب التَّفَاضُل فِي ورد وَلَا صدر لَكِن نقف فِيهَا عِنْدَمَا حَده النَّص فَقَط وَلَا شكّ عِنْد كل مُسلم فِي أَن صواحبه من نِسَائِهِ وَبنَاته عَلَيْهِم السَّلَام كخديجة وَعَائِشَة وَفَاطِمَة وَأم سَلمَة أفضل دينا ومنزلة عِنْد الله تَعَالَى من كل تَابع أَتَى بعدهن وَمن كل رجل يَأْتِي فِي هَذِه الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَبَطل الِاعْتِرَاض بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَصَحَّ أَنه على مَا فسرناه وبيناه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فَقَوْل الله تَعَالَى {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} مخرج لَهُنَّ عَن سَائِر النِّسَاء فِي كل مَا اعْترض بِهِ معترض مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَشبهه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن اعْترض معترض بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وَامْرَأَة فِرْعَوْن فَإِن هَذَا الْكَمَال إِنَّمَا هُوَ الرسَالَة والبوة الَّتِي انْفَرد بهَا الرِّجَال وشاركهم بعض النِّسَاء فِي النُّبُوَّة وَقد يتفاضلون أَيْضا فِيهَا فَيكون بعض الْأَنْبِيَاء أكمل بعض وَيكون بعض الرُّسُل أكمل من بعض قَالَ الله عز وَجل {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} فَإِنَّمَا ذكر فِي هَذَا الْخَبَر من بلغ غَايَة الْكَمَال فِي طبقته وَلم يتقدمه مِنْهُم أحد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن اعْترض معترض بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يفلح قوم أسندوا أَمرهم إِلَى امْرَأَة فَلَا حَاجَة لَهُ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ امْتنَاع الْولَايَة فِيهِنَّ بِمُوجب لَهُنَّ نقص الْفضل فقد علمنَا أَن ابْن مَسْعُود وبلالا وَزيد ابْن حَارِثَة رَضِي الله عَنْهُم لم يكن لَهُم حَظّ فِي الْخلَافَة وَلَيْسَ بِمُوجب أَن يكون الْحسن وَابْن الزبير وَمُعَاوِيَة أفضل مِنْهُم والخلافة جَائِزَة لهَؤُلَاء غير جَائِزَة لأولئك وَمِنْهُم فِي الْفضل مَا لَا يجهله الْمُسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما أفضل نِسَائِهِ فعائشة وَخَدِيجَة رَضِي الله عَنْهُمَا لعظم فضائلهما وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَن عَائِشَة أحب النَّاس إِلَيْهِ وَأَن فَضلهَا على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام وَقد ذكر عَلَيْهِ السَّلَام خَدِيجَة بنت خويلد فَقَالَ أفضل نسائهما مَرْيَم بنت عمرَان وَأفضل نسائها خَدِيجَة بنت خويلد مَعَ سَابِقَة خَدِيجَة فِي الْإِسْلَام وثباتها رَضِي الله عَنْهَا ولأم سَلمَة وَسَوْدَة وَزَيْنَب بنت جحش وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة وَحَفْصَة سوابق فِي الْإِسْلَام عَظِيمَة وأحمال للمشقات فِي الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْهجْرَة والغربة عَن الوطن وَالدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام وَالْبَلَاء فِي الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولكهن بعد ذَلِك الْفضل الْمُبين رضوَان الله عَلَيْهِنَّ أَجْمَعِينَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مَسْأَلَة نقطع فِيهَا أننا الْمُحَقِّقُونَ عِنْد الله عز وَجل وَأَن من خَالَفنَا فِيهَا مخطيء عِنْد الله عز وَجل بِلَا شكّ وَلَيْسَت مِمَّا يسع الشَّك فِيهِ أصلا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن قَالَ قَائِل هَل قَالَ هَذَا أحكم قبلكُمْ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهل قَالَ غير هَذَا أحد قبل من يخالفنا الْآن وَقد علمنَا ضَرُورَة أَن لِنسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزلَة من الْفضل بِلَا شكّ فَلَا بُد من الْبَحْث عَنْهَا فَلْيقل مخالفنا فِي أَي منزلَة نضعهن أبعد جَمِيع الصَّحَابَة كلهم فَهَذَا مَالا يَقُوله أحد أم بعد طَائِفَة مِنْهُم فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَى وجوده وَإِذ قد بَطل هَذَانِ الْقَوْلَانِ أَحدهمَا بِالْإِجْمَاع على أَنه بَاطِل وَالثَّانِي لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا برهَان فَلم يبْق إِلَّا قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين الْمُوفق للصَّوَاب بفضله ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين قد صَحَّ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ خطب النَّاس حِين ولي بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَيهَا النَّاس إِنِّي وليتكُمْ وَلست بِخَيْرِكُمْ فقد صَحَّ(4/105)
عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه أعلن بِحَضْرَة جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنه لَيْسَ بخيرهم وَلم يُنكر هَذَا القَوْل مِنْهُم أحد فَدلَّ على متابعتهم لَهُ وَلَا خلاف أَنه لَيْسَ فِي أحد من الْحَاضِرين لخطبته إِنْسَان يَقُول فِيهِ أحد من النَّاس أَنه خير من أبي بكر إِلَّا عَليّ وَابْن مَسْعُود وَعمر وَأما جُمْهُور الْحَاضِرين من مخالفينا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أهل السّنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فَإِنَّهُم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن أَبَا بكر أفضل من عَليّ وَعمر وَابْن مَسْعُود وَخير مِنْهُم فصح أَنه لم يبْق إِلَّا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا قَالَ أَبُو بكر هَذَا تواضعاً قُلْنَا لَهُ هَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمُتَيَقن لِأَن الصّديق الَّذِي سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الِاسْم لَا يجوز أَن يكذب وحاشا لَهُ من ذَلِك وَلَا يَقُول إِلَّا الْحق والصدق فصح أَن الصَّحَابَة متفقون فِي الْأَغْلَب على تَصْدِيقه فِي ذَلِك فَإذْ ذَلِك كَذَلِك وَسقط بالبرهان الْوَاضِح أَن يكون أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خيرا من أبي بكر وَلم يبْق إِلَّا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونساؤه ووضح أننا لَو قُلْنَا إِنَّه إِجْمَاع من جُمْهُور الصَّحَابَة لم يبعد من الصدْق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأَيْضًا فَإِن يُوسُف ابْن عبد الله النمري حَدثنَا قَالَ حَدثنَا خلف بن قَاسم ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْكِنْدِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الْبَغْدَادِيّ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ ثَنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن دَاوُد الشاذ كوني قَالَ كَانَ عمار بن يَاسر وَالْحسن ابْن عَليّ يفضلان عَليّ بن أبي طَالب على أبي بكر الصّديق وَعمر حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الخوزي ثَنَا أَحْمد بن الْفضل الدينَوَرِي ثَنَا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن عَليّ بن أبي طَالب بعث عمار بن يَاسر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى الْكُوفَة إِذْ خرجت أم الْمُؤمنِينَ إِلَى الْبَصْرَة فَلَمَّا أتياها اجْتمع إِلَيْهِمَا النَّاس فِي الْمَسْجِد فخطبهم عمار وَذكر لَهُم خُرُوج عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ قَالَ لَهُم إِنِّي لملول لكم وَالله إِنِّي لَا أعلم أَنَّهَا زَوْجَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجنَّة كَمَا هِيَ زَوجته فِي الدُّنْيَا وَلَكِن الله ابتلاكم بهَا لتطيعوها أَو لتطيعوه فَقَالَ لَهُ مَسْرُوق أَو أَبُو الْأسود يَا أَبَا الْيَقظَان فَنحْن مَعَ من شهِدت لَهُ بِالْجنَّةِ دون من لم تشهد لَهُ فَسكت عمار وَقَالَ لَهُ الْحسن اعن نَفسك عَنَّا فَهَذَا عمار وَالْحسن وكل من حضر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ والكوفة يَوْمئِذٍ مملؤة مِنْهُم يسمعُونَ تَفْضِيل عَائِشَة على عَليّ وَهُوَ عِنْد عمار وَالْحسن أفضل من أبي بكر وَعمر فَلَا يُنكرُونَ ذَلِك وَلَا يعترضونه أحْوج مَا كَانُوا إِلَى إِنْكَاره فصح أَنهم متفقون على أَنَّهَا وأزواجه عَلَيْهِ السَّلَام أفضل من كل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمِمَّا يبين أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يقل وليتكُمْ وَلست بِخَيْرِكُمْ إِلَّا محقاً صَادِقا لَا تواضعاً يَقُول فِيهِ الْبَاطِل وحاشا لَهُ من ذَلِك مَا حدّثنَاهُ أَحْمد بن مُحَمَّد الطلمنكي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مفرج ثَنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب الصموت الرفي أَنا أَحْمد بن عمر بن عبد الْخَالِق الْبر أَن ثَنَا عبد الْملك بن سعد ثَنَا عقبَة بن خَالِد ثَنَا شُعْبَة بن الْحجَّاج ثَنَا الحريري عَن أبي بصرة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَلَسْت أَحَق النَّاس بهَا أَو لست أول من أسلم أَلَسْت صَاحب كداء
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يذكر فَضَائِل نَفسه إِذا كَانَ صَادِقا فِيهَا فَلَو كَانَ أفضلهم لصرح بِهِ وَمَا كتمه وَقد نزهه الله تَعَالَى عَن الْكَذِب فصح قَوْلنَا نصا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ثمَّ وَجب القَوْل فِيمَن هُوَ أفضل الصَّحَابَة بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/106)
فَلم نجد لمن فضل ابْن مَسْعُود أَو عمر أَو جَعْفَر بن أبي طَالب أَو أَبَا سَلمَة وَالثَّلَاثَة الأسهليين على جَمِيع الصَّحَابَة حجَّة يعْتَمد عَلَيْهَا وَوجدنَا من يُوقف لم يزدْ على أَنه لم يلح لَهُ الْبُرْهَان أَنهم أفضل وَلَو لَاحَ لَهُ لقَالَ بِهِ وَوجدنَا الْعدَد والمعارضة فِي الْقَائِلين بِأَن عليا أفضل أَكثر فَوَجَبَ أَن أَتَى بِمَا شغبوا بِهِ ليلوح الْحق فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وجدناهم يحتجون بِأَن عليا كَانَ أَكثر الصَّحَابَة جهاداً وطعناً فِي الْكفَّار وَضَربا وَالْجهَاد افضل الْأَعْمَال
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا خطأ لِأَن الْجِهَاد يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة أَحدهَا الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل بِاللِّسَانِ وَالثَّانِي الْجِهَاد عِنْد الْحَرْب بِالرَّأْيِ وَالتَّدْبِير وَالثَّالِث الْجِهَاد بِالْيَدِ فِي الطعْن وَالضَّرْب فَوَجَدنَا الْجِهَاد فِي اللِّسَان لَا يلْحق فِيهِ أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر وَعمر أما أَبُو بكر فَإِن أكَابِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَسْلمُوا على يَدَيْهِ فَهَذَا أفضل عمل وَلَيْسَ لعَلي من هَذَا كثير حَظّ وَأما عمر فَإِنَّهُ من يَوْم أسلم عز الْإِسْلَام وَعبد الله تَعَالَى بِمَكَّة جَهرا وجاهد الْمُشْركين بِمَكَّة بيدَيْهِ فَضرب وَضرب حَتَّى ملوه فَتَرَكُوهُ فعبد الله تَعَالَى عَلَانيَة وَهَذَا أعظم الْجِهَاد فقد انْفَرد هَذَانِ الرّجلَانِ بِهَذَيْنِ الجهادين الَّذين لَا نَظِير لَهما ولاحظ لعَلي فِي هَذَا أصلا وَبَقِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الرَّأْي والمشورة فوجدناه خَالِصا لأبي بكر ثمَّ لعَمْرو بَقِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فوجدناه أقل من مَرَاتِب الْجِهَاد ببرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا شكّ عِنْد كل مُسلم أَنه الْمَخْصُوص بِكُل فَضِيلَة فَوَجَدنَا جهاده عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ فِي أَكثر أَعماله وأحواله الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين من الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل وَالتَّدْبِير والإرادة وَكَانَ أقل عمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة لَا عَن جبن بل كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشْجَع أهل الأَرْض قاطبة نفسا ويداً وأتمهم نجدة وَلكنه كَانَ يُؤثر الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْأَفْعَال فَيقدمهُ عَلَيْهِ السَّلَام ويشتغل بِهِ ووجدناه عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر وَغَيره وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثاراً من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بذلك واستظهاراً بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنساً بمكانه ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضا وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة ثمَّ نَظرنَا مَعَ ذَلِك فِي هَذَا الْقسم من الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فَوَجَدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ لم ينْفَرد بالبسوق فِيهِ بل قد شَاركهُ فِي ذَلِك غَيره شركَة الْعَنَان كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد وَمِمَّنْ قتل فِي صدر الْإِسْلَام كحمزة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَمن الْأَنْصَار سعد بن معَاذ وَسماك بن خرسة وَغَيرهمَا وَوجدنَا أَبَا بكر وَعمر قد شاركاه فِي ذَلِك بحظ حسن وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموازنة فِي حِين الْحَرْب وَقد بعثهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليا وَقد بعث أَبَا بكر إِلَى بني فَزَارَة وَغَيرهم وَبعث عمر إِلَى بني فلَان وَمَا نعلم لعَلي بعثاً إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه وَقد بعث قبله أَبَا بكر وَعمر فَلم يفتحاه فَحصل أَربع أَنْوَاع الْجِهَاد لأبي بكر وَعمر وَقد شاركا عليا فِي أقل أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ جمَاعَة غَيرهم قل عمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة لَا عَن جبن بل كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشْجَع أهل الأَرْض قاطبة نفسا ويداً وأتمهم نجدة وَلكنه كَانَ يُؤثر الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْأَفْعَال فَيقدمهُ عَلَيْهِ السَّلَام ويشتغل بِهِ ووجدناه عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر وَغَيره وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنْهَا مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثاراً من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بذلك واستظهاراً بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنساً بمكانه ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضا وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة ثمَّ نَظرنَا مَعَ ذَلِك فِي هَذَا الْقسم من الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة فَوَجَدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ لم ينْفَرد بالبسوق فِيهِ بل قد شَاركهُ فِي لَك غَيره شركَة الْعَنَان كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد وَمِمَّنْ قتل فِي صدر الْإِسْلَام كحمزة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَمن الْأَنْصَار سعد بن معَاذ وَسماك بن خرسة وَغَيرهمَا وَوجدنَا أَبَا برك وَعمر قد شاركاه فِي لَك بحظ حسن وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموازنة فِي حِين الْحَرْب وَقد بعثهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليا وَقد بعث أَبَا بكر إِلَى بني فَزَارَة وَغَيرهم وَبعث عمر إِلَى بني فلَان وَمَا نعلم لعَلي بعثاً إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه وَقد بعث قبله أَبَا بكر وَعمر فَلم يفتحاه فَحصل أَربع أَنْوَاع الْجِهَاد لأبي بكر وَعمر وَقد شاركا عليا فِي أقل أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ جمَاعَة غَيرهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أَيْضا من قَالَ بِأَن عليا كَانَ أَكْثَرهم علما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كذب هَذَا الْقَائِل وَإِنَّمَا يعرف علم الصَّحَابِيّ لأحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أَحدهمَا كَثْرَة رِوَايَته وفتاويه وَالثَّانِي كَثْرَة اسْتِعْمَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فَمن الْمحَال(4/107)
الْبَاطِل أَن يسْتَعْمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَا علم لَهُ وَهَذِه أكبر شَهَادَات على الْعلم وسعته فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ولي أَبَا بكر الصَّلَاة بِحَضْرَتِهِ طول علته وَجَمِيع أكَابِر الصَّحَابَة حُضُور كعلي وَعمر وَابْن مَسْعُود وَأبي وَغَيرهم فآثره بذلك على جَمِيعهم وَهَذَا خلاف استخلافه عَلَيْهِ السَّلَام إِذا غزا لِأَن الْمُسْتَخْلف فِي الْغَزْوَة لم يتسخلف إِلَّا على النِّسَاء وَذَوي الْأَعْذَار فَقَط فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن نعلم أَن أَبَا بكر أعلم النَّاس بِالصَّلَاةِ وشرائعهما وَأعلم الْمَذْكُورين بهَا وَهِي عَمُود الدّين ووجدناه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَعْملهُ على الصَّدقَات فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن عِنْده من علم الصَّدقَات كَالَّذي عِنْد غَيره من عُلَمَاء الصَّحَابَة لَا أقل وَرُبمَا كَانَ أَكثر إِذْ قد اسْتعْمل عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا عَلَيْهَا غَيره وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يسْتَعْمل إِلَّا عَالما بِمَا اسْتَعْملهُ عَلَيْهِ وَالزَّكَاة ركن من أَرْكَان الدّين بعد الصَّلَاة وبرهان مَا قُلْنَا من تَمام علم أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بالصدقات أَن الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الزَّكَاة أَصَحهَا وَالَّذِي يلْزم الْعلم بِهِ وَلَا يجوز خِلَافه فَهُوَ حَدِيث أبي بكر ثمَّ الَّذِي من طَرِيق عمر وَأما من طَرِيق عَليّ فمضطرب وَفِيه مَا قد تَركه الْفُقَهَاء جملَة وَهُوَ أَن فِي خمس وَعشْرين من الْإِبِل خمس شِيَاه وَوجدنَا عَلَيْهِ السَّلَام قد اسْتعْمل أَبَا بكر على الْحَج فصح ضَرُورَة أَنه أعلم من جَمِيع الصَّحَابَة بِالْحَجِّ وَهَذِه دعائم الْإِسْلَام ثمَّ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد اسْتَعْملهُ على الْبعُوث فصح أَن عِنْده من أَحْكَام الْجِهَاد مثل مَا عِنْد سَائِر من اسْتَعْملهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبعُوث فِي الْجِهَاد إِذْ لَا يسْتَعْمل عَلَيْهِ السَّلَام على الْعَمَل إِلَّا عَالما بِهِ فَعِنْدَ أبي بكر من الْجِهَاد من الْعلم بِهِ كَالَّذي عِنْد عَليّ وَسَائِر أُمَرَاء الْبعُوث لَا أَكثر وَلَا أقل فَإذْ قد صَحَّ التَّقَدُّم لأبي بكر على عَليّ وَغَيره فِي علم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وساواه فِي علم الْجِهَاد فَهَذِهِ عُمْدَة الْعلم ثمَّ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد ألزم نَفسه فِي جُلُوسه ومرآته وظعنه وإقامته أَبَا بكر مشَاهد أَحْكَامه عَلَيْهِ السَّلَام وفتاويه أَكثر من مُشَاهدَة عَليّ لَهَا فصح ضَرُورَة أَنه أعلم بهَا فَهَل بقيت من الْعلم بَقِيَّة إِلَّا وَأَبُو بكر الْمُتَقَدّم فِيهَا الَّذِي لَا يلْحق أَو المشارك الَّذِي لَا يسْبق فبطلت دَعوَاهُم فِي الْعلم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما الرِّوَايَة وَالْفَتْوَى فَإِن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لم يَعش بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا سنتَيْن وَسِتَّة أشهر وَلم يُفَارق الْمَدِينَة إِلَّا حَاجا أَو مُعْتَمِرًا وَلم يحْتَج النَّاس إِلَى مَا عِنْده من الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن كل من حواليه أدركوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى ذَلِك كُله فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا مستندة وَلم يرو عَن عَليّ إِلَّا خمس مائَة وست وَثَمَانُونَ حَدِيثا مُسندَة يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين وَقد عَاشَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزِيد من ثَلَاثِينَ سنة وَكثر لِقَاء النَّاس إِيَّاه وحاجتهم إِلَى مَا عِنْده لذهاب جُمْهُور الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَكثر سَماع أهل الأفاق مِنْهُ مرّة بصفين وأعواماً بِالْكُوفَةِ وَمرَّة بِالْبَصْرَةِ وَالْمَدينَة فَإِذا نسبنا مُدَّة أبي بكر من حَيَاته وأضفنا تقري (1) على الْبِلَاد بَلَدا بَلَدا وَكَثْرَة سَماع النَّاس مِنْهُ إِلَى لُزُوم أبي بكر موطنه وَأَنه لم تكْثر حَاجَة من حواليه إِلَى الرِّوَايَة عَنهُ ثمَّ نسبنا عدد حَدِيث من عدد حَدِيث وفتاوي من فتاوي علم كل ذِي حَظّ من الْعلم إِن الَّذِي كَانَ عِنْد أبي بكر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ مِنْهُ وبرهان على ذَلِك أَن من عمر من(4/108)
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمرا قَلِيلا قل النَّقْل عَنْهُم وَمن طَال عمره مِنْهُم كثر النَّقْل عَنْهُم إِلَّا الْيَسِير من اكتفا بنيابة غَيره عَنهُ فِي تَعْلِيم النَّاس وَقد عَاشَ عَليّ بعد عمر بن الْخطاب سَبْعَة عشر عَاما غير أشهر ومسند عمر خَمْسمِائَة حَدِيث وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين كَالَّذي عَن عَليّ سَوَاء بِسَوَاء فَكل مَا زَاد حَدِيث عَليّ على حَدِيث عمر تِسْعَة وَأَرْبَعين حَدِيثا فِي هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة وَلم يزدْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيح إِلَّا حَدِيثا أَو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي عَليّ فِي أَبْوَاب الْفِقْه فَإِذا نسبنا مُدَّة من مُدَّة وضربنا فِي الْبِلَاد من ضرب فِيهَا وأضفنا حَدِيث إِلَى حَدِيث وفتاوي إِلَى فتاوي علم كل ذِي حس علما ضَرُورِيًّا أَن الَّذِي كَانَ عِنْد عمر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ من الْعلم ثمَّ وجدنَا الْأَمر كل مَا أَطَالَ كثرت الْحَاجة إِلَى الصَّحَابَة فِيمَا عِنْدهم من الْعلم فَوَجَدنَا حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ألفي مُسْند ومائتي مُسْند وَعشرَة مسانيد وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة خَمْسَة آلَاف مُسْند وثلاثمائة مُسْند وَأَرْبع وَسبعين مُسْندًا وَوجدنَا مُسْند ابْن عمر وَأنس قَرِيبا من مُسْند عَائِشَة لكل وَاحِد مِنْهُمَا وَوجدنَا مُسْند جَابر ابْن عبد الله وَعبد الله بَان عَبَّاس لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة وَوجدنَا لِابْنِ مَسْعُود ثَمَان ماية مُسْند ونيف وَلكُل من ذكرنَا حاشا أَبَا هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك من الفتاوي أَكثر من فتاوي عَليّ أَو نَحْوهَا فَبَطل قَول هَذِه الطَّائِفَة الوقاح الْجُهَّال فَإِن عاندنا معاند فِي هَذَا الْبَاب جَاهِل أَو قَلِيل الْحيَاء لَاحَ كذبه وجهله فَإنَّا غير مهتمين على حط أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم عَن مرتبته وَلَا على رفعته فَوق مرتبته لأننا لَو انحرفنا عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من ذَلِك لذهبنا فِيهِ مَذْهَب الْخَوَارِج وَقد نزهنا الله عز وَجل عَن هَذَا الضلال فِي التعصب وَلَو غلونا فِيهِ لذهبنا فِيهِ مَذْهَب الشِّيعَة وَقد أعاذنا الله تَعَالَى من هَذَا الْإِفْك فِي التعصب فَصَارَ غَيرنَا من المنحرفين عَنهُ أَو الغالبين فِيهِ هم المتهمون فِيهِ إِمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ وَبعد هَذَا كُله لَيْسَ يقدر من ينتمي إِلَى الْإِسْلَام أَن يعاند فِي الِاسْتِدْلَال على كَثْرَة الْعلم بِاسْتِعْمَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمن اسْتَعْملهُ مِنْهُم على مَا اسْتَعْملهُ عَلَيْهِ من أُمُور الدّين فَإِن قَالُوا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتعْمل عليا على الْأَخْمَاس وعَلى القضاءء بِالْيَمِينِ قُلْنَا لَهُم نعم وَلَكِن مُشَاهدَة أبي بكر لَا قَضِيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقوى فِي الْعلم وَأثبت مِمَّا عِنْده على وَهُوَ بِالْيَمِينِ وَقد اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر على بعوث فِيهَا الْأَخْمَاس فقد سَاوَى علمه علم عَليّ فِي حكمهَا بِلَا شكّ إِذْ لَا يسْتَعْمل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا عَالما بِمَا يَسْتَعْمِلهُ عَلَيْهِ وَقد صَحَّ أَن أَبَا بكر وَعمر كَانَا يفتيان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام يعلم ذَلِك ومحال ذَلِك أَن يُبِيح لَهما ذَلِك إِلَّا وهما أعلم مِمَّن دونهمَا وَقد اسْتعْمل عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا على الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ عَليّ معَاذًا بن جبل وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فلعلي فِي هَذَا شُرَكَاء كثير مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر ثمَّ قد انْفَرد أَبُو بكر بالجمهور الْأَغْلَب من الْعلم على مَا كرنا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَن عليا كَانَ إقرا الصَّحَابَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه الْقِصَّة المتجردة والبهتان لوجوه أَولهَا أَنه رد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يؤم الْقَوْم أقرؤهم فَإِن اسْتَووا فاقههم فَإِن اسْتَووا فأقدمهم هِجْرَة ثمَّ وجدنَا عَلَيْهِ السَّلَام قد قدم أَبَا بكر على الصَّلَاة مُدَّة الْأَيَّام الَّتِي مرض فِيهَا وَعلي بالحضرة يرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غدْوَة وَعَشِيَّة فَمَا رأى لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام أحد أَحَق من أبي بكر بهَا فصح أَنه كَانَ أقرأهم وافقههم وأقدمهم هِجْرَة وَقد يكون من لم يجمع حفظ(4/109)
الْقُرْآن كُله على ظهر قلب أقرأن مِمَّن جمعه كُله عَن ظهر قلب فَيكون ألفظ بِهِ وَأَحْسَنهمْ ترتيلاً هَذَا على أَن أَبَا بكر وَعمر وَعلي لم يستكمل أحد مِنْهُم حَظّ سور الْقُرْآن كُله ظَاهرا إِلَّا أَنه قد وَجب يَقِينا بِتَقْدِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر على الصَّلَاة وَعلي حَاضر إِن أَبَا بكر أَقرَأ من عَليّ وَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقدم إِلَى الْإِمَامَة الْأَقَل علما بِالْقِرَاءَةِ على الأقرأ أَو الْأَقَل فقهاً على الأفقه فَبَطل أَيْضا شغبهم فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ قَائِلهمْ أَن عليا كَانَ أَتْقَاهُم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كذب هَذَا الأفاك وَلَقَد كَانَ على رَضِي الله عَنهُ تقيا إِلَّا أَن الْفَضَائِل يتفاضل فِيهَا أَهلهَا وَمَا كَانَ أَتْقَاهُم لله إِلَّا أَبُو بكر والبرهان على ذَلِك أَنه لم يسوء قطّ أَبُو بكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كلمة وَلَا خَالف إِرَادَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي شَيْء قطّ وَلَا تَأَخّر عَن تَصْدِيقه وَلَا تردد عَن الإتمار لَهُ يَوْم الْحُدَيْبِيَة إِذْ تردد من تردد وَقد تظلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر إِذْ أَرَادَ نِكَاح ابْنة أبي جهل بِمَا قد عرف وَمَا وجدنَا قطّ لأبي بكر توقفاً عَن شَيْء أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مرّة وَاحِدَة عذره فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَجَازَ لَهُ فعله وَهِي إِذا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبا فَوَجَدَهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر تَأَخّر فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أقِم مَكَانك فَحَمدَ الله تَعَالَى أَبُو بكر على ذَلِك ثمَّ تَأَخّر فَصَارَ فِي الصَّفّ وَتقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بِالنَّاسِ فَلَمَّا سلم قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مَنعك أَن تثبت حِين أَمرتك فَقَالَ أَبُو بكر مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يتَقَدَّم بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا غَايَة التَّعْظِيم وَالطَّاعَة والخضوع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أنكر عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِك عَلَيْهِ وَإِذ قد صَحَّ بالبرهان الضَّرُورِيّ الَّذِي ذكرنَا أَن أَبَا بكر أعلم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد وَجب أَنه أخشاهم لله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} والتقي هُوَ الخشية لله عز وَجل وَقَالَ قَائِلُونَ عَليّ كَانَ أزهدهم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كذب هُوَ الْجَاهِل وبرهان ذَلِك أَن الزَّاهِد إِنَّمَا هُوَ عزوب (1) النَّفس عَن حب الصَّوْت وَعَن المَال وَعَن اللَّذَّات وَعَن الْميل إِلَى الْوَلَد والحاشية لَيْسَ الزَّاهِد معنى يَقع عَلَيْهِ اسْم الزّهْد إِلَّا هَذَا الْمَعْنى فَأَما عزوب النَّفس عَن المَال فقد علم كل من لَهُ أدنى بصر بِشَيْء من الْأَخْبَار الخالية أَن أَبَا بكر أسلم وَله مَال عَظِيم قيل أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم فأنفقها كلهَا فِي ذَات الله تَعَالَى وَأعْتق الْمُسْتَضْعَفِينَ من العبيد الْمُؤمنِينَ الْمُعَذَّبين فِي ذَات الله عز وَجل وَلم يعْتق عبيدا جلدا يمنعونه (2) لَكِن كل معذب ومعذبة فِي الله عز وَجل حَتَّى هَاجر مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق لأبي بكر من جَمِيع مَا لَهُ إِلَّا سِتَّة ألف دِرْهَم حملهَا كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق لِبَنِيهِ مِنْهَا دِرْهَم ثمَّ أنفقها كلهَا فِي سَبِيل الله عز وَجل حَتَّى لم يبْق لَهُ شَيْء سوى عباءة لَهُ قد خللها بِعُود إِذا نزل افترشها وَإِذا ركب لبسهَا إِذْ تمول غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَن جَمِيعهم واقتنوا الرباع (3) الواسعة والضياع الْعَظِيمَة من حلهَا وحقها إِلَّا أَن من آثر بذلك(4/110)
سَبِيل الله عز وَجل أزهد مِمَّن أنفقت وَأمْسك ثمَّ ولي الْخلَافَة فَمَا اتخذ جَارِيَة وَلَا توسع فِي مَال وعد عِنْد مَوته وَمَا أنْفق على نَفسه وَولده من مَال الله عز وَجل الَّذِي لم يسْتَوْف مِنْهُ إِلَّا بعض حَقه وَأمر بصرفه إِلَى بَيت المَال من صلب مَاله الَّذِي حصله من شهامة الْمَغَازِي والمقاسم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا هُوَ الزّهْد فِي اللَّذَّات وَالْمَال الَّذِي لَا يدانيه فِيهِ أحد من الصَّحَابَة لَا عَليّ وَلَا غَيره إِلَّا أَن يكون أَبَا ذَر وَأَبا عُبَيْدَة من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فَإِنَّهُمَا جَريا على هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي فارقا عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتوسع من سواهُم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْمُبَاح الَّذِي أحله الله عز وَجل لَهُم إِلَّا من آثر سَبِيل الله على نَفسه أفضل وَلَوْلَا أَن أَبَا ذَر لم يكن لَهُ سَابِقَة غَيره لما تقدمه إِلَّا من كَانَ مثله فَهَذَا هُوَ الزّهْد فِي المَال وَاللَّذَّات وَلَقَد تَلا أَبَا بكر عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي هَذَا الزّهْد فَكَانَ فَوق عَليّ فِي ذَلِك يَعْنِي فِي إعراضه عَن المَال وَاللَّذَّات وَأما عَليّ رَضِي الله عَنهُ فتوسع فِي هَذَا الْبَاب من حلّه وَمَات عَن أَربع زَوْجَات وتسع عشرَة أم ولد سوى الخدم وَالْعَبِيد وَتُوفِّي عَن أَرْبَعَة وَعشْرين ولدا من ذكر وَأُنْثَى وَترك لَهُم من الْعقار والضياع هما مَا كَانُوا بِهِ من أَغْنِيَاء قَومهمْ ومياسيرهم هَذَا أَمر مَشْهُور لَا يقدر على إِنْكَاره من لَهُ أقل علم بالأخبار والْآثَار وَمن جملَة عقاره الَّتِي تصدق بهَا ضبعة كَانَت تغل ألف وسق تمر أسوى زَرعهَا فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا وَأما حب الْوَلَد والميل إِلَيْهِم وَإِلَى الْحَاشِيَة فَالْأَمْر فِي هَذَا أبين من أَن يخفى على أحد لَهُ أقل علم بالأخبار فقد كَانَ لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ من الْقَرَابَة وَالْولد مثل طَلْحَة بن عبيد الله من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين والسابقين من ذَوي الْفَضَائِل الْعَظِيمَة فِي كل بَاب من أَبْوَاب الْفضل فِي الْإِسْلَام وَمثل ابْنه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَله مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُحْبَة قديمَة وهجرة سَابِقَة وَفضل ظَاهر فَمَا اسْتعْمل أَبُو بكر رَضِي الله مِنْهُم أحدا على شَيْء من الْجِهَات وَهِي بِلَاد الْيمن كلهَا على سعتها وَكَثْرَة اسْتِعْمَالهَا وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطائف وَمَكَّة وخيبر وَسَائِر أَعمال الْحجاز وَلَو استعملهم لكانوا لذَلِك أَهلا وَلَكِن خشيء الْمُحَابَاة وتوقع أَن يميله إِلَيْهِم شَيْء من الْهوى ثمَّ جرى عمر على مجْرَاه فِي ذَلِك فَلم يسْتَعْمل من بني عدي بن كَعْب أحدا على سَعَة الْبِلَاد وَكَثْرَتهَا وَقد فتح الشَّام ومصر وَجَمِيع مملكة الْفرس إِلَى خُرَاسَان إِلَّا النُّعْمَان بن عدي وَحده على ميسَان ثمَّ أسْرع إِلَى عَزله وَفِيهِمْ من الْهِجْرَة مَا لَيْسَ فِي شَيْء من اتِّخَاذ قُرَيْش لِأَن بني عدي لم يبْق أحد مِنْهُم بِمَكَّة إِلَّا هَاجر وَكَانَ فيهم مثل سعيد بن زيد أحد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين ذَوي السوابق وَأبي الجهم ابْن حُذَيْفَة وخارجة بن حذافة وَمعمر بن عبد الله وَابْنه عبد الله بن عمر ثمَّ لم يسْتَخْلف أَبُو بكر ابْنه عبد الرَّحْمَن وَهُوَ صَاحب من الصَّحَابَة وَلَا اسْتعْمل عمر ابْنه عبد الله على الْخلَافَة وَهُوَ من فضلاء الصَّحَابَة وخيارهم وَقد رَضِي بِهِ النَّاس وَكَانَ لذَلِك أَهلا وَلَو اسْتَخْلَفَهُ لما اخْتلف عَلَيْهِ أحد فَمَا فعل وَوجدنَا عليا رَضِي الله عَنهُ إِذا ولي قد اسْتعْمل أَقَاربه عبد الْملك بن عَبَّاس على الْبَصْرَة وَعبد الله بن عَبَّاس على الْيمن وخثعم ومعبدا ابْني الْعَبَّاس على مَكَّة وَالْمَدينَة وجعدة بن نميرة وَهُوَ ابْن أُخْته أم هَانِيء بنت أبي طَالب على خُرَاسَان وَمُحَمّد بن أبي بكر وَهُوَ ابْن امْرَأَة وأخو وَلَده على مصر وَرَضي ببيعة النَّاس الْحسن ابْنه بالخلافة ولسنا ننكر اسْتِحْقَاق الْحسن للخلافة وَلَا اسْتِحْقَاق عبد الله بن الْعَبَّاس للخلافة فَكيف أَمارَة الْبَصْرَة لَكنا نقُول أَن من زهد فِي الْخلَافَة لولد مثل عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَالنَّاس متفقون عَلَيْهِ وَفِي تأمير مثل طَلْحَة بن عبد الله وَسَعِيد بن زيد فَلَا شكّ فِي أَنه أتم زهدا وأعرب (1) عَن جَمِيع(4/111)
مَعَاني الدُّنْيَا نفسا مِمَّن أَخذ مِنْهَا مَا أُبِيح لَهُ أَخذه فصح بالبرهان الضَّرُورِيّ أَن أَبَا بكر أوهد من جَمِيع الصَّحَابَة ثمَّ عمر بن الْخطاب بعده وَقَالَ هَذَا الْقَائِل وَكَانَ عَليّ أَكْثَرهم صَدَقَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة بِالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ لم يحفظ لعَلي مُشَاركَة ظَاهِرَة بِالْمَالِ وَأما أَمر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي إِنْفَاق مَاله فِي سَبِيل الله عز وَجل فأشهر من أَن تخفى على الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَكيف على الْمُسلمين ثمَّ لعُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْمَعْنى من تجهيز جَيش الْعسرَة مَا لَيْسَ لغيره فصح أَن أَبَا بكر أعظم صَدَقَة وَأكْثر مُشَاركَة وغناء (2) فِي الْإِسْلَام بِمَالِه من عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقَالُوا عَليّ هُوَ السَّابِق إِلَى الْإِسْلَام وَلم يعبد قطّ وثنا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما السَّابِقَة فَلم يقل قطّ أحد يعْتد بِهِ أَن عليا مَاتَ وَله أَكثر من ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة وَمَات بِلَا شكّ سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة فصح أَنه كَانَ حِين هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة وَكَانَت مُدَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة فِي النُّبُوَّة ثَلَاث عشرَة سنة فَبعث عَلَيْهِ السَّلَام ولعلي عشرَة أَعْوَام فإسلام ابْن عشرَة أَعْوَام ودعاؤه إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ كتدريب الْمَرْء وَلَده الصَّغِير على الدّين لَا أَن عِنْده غناء وَلَا أَن عَلَيْهِ إِثْمًا إِن أَبى فَإِن أَخذ الْأَمر على قَول من قَالَ أَن عليا مَاتَ وَله ثَمَان وَخَمْسُونَ سنة فَإِنَّهُ كَانَ إِذْ بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن خَمْسَة أَعْوَام وَكَانَ إِسْلَام ابي بكر بن ثَمَان وَثَلَاثِينَ سنة وَهُوَ الْإِسْلَام الْمَأْمُور بِهِ من عِنْد الله عز وَجل وَأما من لم يبلغ الْحلم فَغير مُكَلّف وَلَا مُخَاطب فسابقة أبي بكر وَعمر بِلَا شكّ أسبق من سَابِقَة عَليّ وَأما عمر فَإِنَّهُ كَانَ إِسْلَامه تَأَخّر بعد الْبَعْث بِسِتَّة أَعْوَام فَإِن غنآءه كَانَ أَكثر من غنآء أَكثر من أسلم قبله وَلم يبلغ على حد التَّكْلِيف إِلَّا بعد أَعْوَام من مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد أَن أسلم كثير من الصَّحَابَة رجال وَنسَاء بعد أَن عذبُوا فِي الله تَعَالَى ولقوا فِيهِ الألاقي (3) وَأما كَونه لم يعبد وثناً فَنحْن وكل مَوْلُود فِي لإسلام لم يعبد قطّ وثناً وعمار والمقداد وسلمان وَأَبُو ذَر وَحَمْزَة وجعفر رَضِي الله عَنْهُم قد عبدُوا الْأَوْثَان أفترانا أفضل مِنْهُم من أجل ذَلِك معَاذ الله من هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَقُوله مُسلم فَبَطل أَن يكون هَذَا يُوجب لعَلي فضلا زَائِدا وَإِلَّا لكَانَتْ عَائِشَة سَابِقَة لعَلي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي هَذَا الْفضل لِأَنَّهَا كَانَت إِذْ هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنت ثَمَانِي سِنِين وَأشهر وَلم تولد إِلَّا بعد إِسْلَام أَبِيهَا بسنين وَعلي ولد وَأَبوهُ عَابِد وثن قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسنين وَعبد الله بن عمر أَيْضا أسلم أَبوهُ وَله أَربع سِنِين وَلم يعبد قطّ وثناً فَهُوَ شريك لعَلي فِي هَذِه الْفَضِيلَة وَقَالَ بَعضهم عَليّ كَانَ أسوسهم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا بَاطِل لَا خَفَاء بِهِ على مُؤمن وَلَا كَافِر فقد دري الْقَرِيب والبعيد والعالم وَالْجَاهِل وَالْمُؤمن وَالْكَافِر من سَائِر الْإِسْلَام إِذْ كفر من كفر من أهل الأَرْض بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذ عَن الْجَمِيع للبقية وَقبُول مَا دعت إِلَيْهِ الْعَرَب حاشا أَبَا بكر فَهَل ثَبت أحد ثبات أبي بكر على كلب الْعَدو وَشدَّة الْخَوْف حَتَّى دخلُوا فِي الْإِسْلَام أَفْوَاجًا كَمَا خَرجُوا مِنْهُ أَفْوَاجًا وأعطوا الزَّكَاة طائعين وكارهين وَلم تهله جموعهم وَلَا تضافرهم وَلَا قلَّة أهل الْإِسْلَام حَتَّى أنار الله الْإِسْلَام وأظهره ثمَّ هَل ناطح كسْرَى وَقَيْصَر على أسرة(4/112)
ملكهَا حَتَّى أخضع حُدُود فَارس وَالروم وصرع جنودهم ونكس راياتهم وَظهر الْإِسْلَام فِي أقطار الأَرْض وذل الْكفْر وَأَهله وشبع جَائِع الْمُسلمين وَعز ذليلهم وَاسْتغْنى فقيرهم وصاروا إخْوَة لَا اخْتِلَاف بَينهم وقرؤا الْقُرْآن وتفقهوا فِي الدّين إِلَّا أَبُو بكر ثمَّ ثنى عمر ثمَّ ثنى عمر ثمَّ ثلث عُثْمَان ثمَّ لاقدر أَي النَّاس خلاف ذَلِك كُله وافتراق كلمة الْمُؤمنِينَ وَضرب الْمُسلمين بَعضهم وُجُوه بعض بِالسُّيُوفِ وَشَكتْ بَعضهم قُلُوب بعض بِالرِّمَاحِ وَقتل بَعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عَن أَن يفتح من بِلَاد الْكفْر قَرْيَة أَو يذعر لَهُم سرب أَو يُجَاهد مِنْهُم أحد حَتَّى ارتجع أهل الْكفْر كثيرا مِمَّا صَار بأيدي الْمُسلمين من بِلَادهمْ فَلم يجْتَمع الْمُسلمُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَأَيْنَ سياسة من سياسة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد بَطل كل مَا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال وَلم يحصلوا إِلَى على دعاوي ظَاهِرَة الْكَذِب لَا دَلِيل على صِحَة شَيْء مِنْهَا وَصَحَّ بالبرهان كَمَا أوردنا أَن أَبَا بكر هُوَ الَّذِي فَازَ بالقدح الْمُعَلَّى والمسبق المبرز والحظ الْأَسْنَى فِي الْعلم وَالْقُرْآن وَالْجهَاد والزهد وَالتَّقوى والخشية وَالصَّدَََقَة وَالْعِتْق والمشاركة وَالطَّاعَة والسياسة فَهَذِهِ وُجُوه الْفضل كلهَا فَهُوَ بِلَا شكّ أفضل من جَمِيع الصَّحَابَة كلهم بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلم يحْتَج عَلَيْهِم بالأحاديث لأَنهم لَا يصدقون أحاديثنا وَلَا نصدق أَحَادِيثهم إِنَّمَا اقتصرنا على الْبَرَاهِين الضرورية بِنَقْل الكواف فَإِن كَانَت الْإِمَامَة تسْتَحقّ بالتقدم فِي الْفضل فَأَبُو بكر أَحَق النَّاس بهَا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقِينا فَكيف وَالنَّص على خِلَافَته صَحِيح وَإِذ قد صحت إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فطاعته فرض فِي استخلافه عمر رَضِي الله عَنهُ فَوَجَبت إِمَامَة عمر فرضا بِمَا ذكرنَا وبإجماع أهل الْإِسْلَام عَلَيْهِمَا دون خلاف من أحد قطعا ثمَّ أَجمعت الْأمة كلهَا أَيْضا بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم على صِحَة إِمَامَة عُثْمَان والدينونة بهَا وَأما خلَافَة عَليّ فَحق لَا بِنَصّ وَلَا بِإِجْمَاع لَكِن ببرهان سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله فِي الْكَلَام فِي حروبه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمن فَضَائِل أَبَا بكر الْمَشْهُورَة قَوْله عز وَجل {إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} فَهَذِهِ فَضِيلَة منقولة بِنَقْل الكافة لَا خلاف بَين أحد فِي أَنه أَبُو بكر فَأوجب الله تَعَالَى لَهُ فَضِيلَة الْمُشَاركَة فِي إِخْرَاجه مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَنه خصّه باسم الصُّحْبَة لَهُ وَبِأَنَّهُ ثَانِيه فِي الْغَار وَأعظم من ذَلِك كُله أَن الله مَعَهُمَا وَهَذَا مَا لَا يلْحقهُ فِيهِ أحد
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَاعْترضَ فِي هَذَا بعض أهل القحة فَقَالَ قد قَالَ الله عز وَجل {فَقَالَ لصَاحبه وَهُوَ يحاوره أَنا أَكثر مِنْك مَالا} قَالَ وَقد حزن أَبُو بكر فَنَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَلَو كَانَ حزنه رضَا لله عز وَجل لما نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه مجاهرة بِالْبَاطِلِ أما قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة لصَاحبه وَهُوَ يحاوره قد أخبر الله تَعَالَى بِأَن أَحدهمَا مُؤمن وَالْآخر كَافِر وبأنهما مُخْتَلِفَانِ فَإِنَّمَا سَمَّاهُ صَاحبه فِي المحاورة والمجالسة فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً} فَلم يَجعله أَخَاهُم فِي الدّين لَكِن فِي الدَّار وَالنّسب فَلَيْسَ هَكَذَا قَوْله تَعَالَى {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} بل جعله صَاحبه فِي الدّين وَالْهجْرَة وَفِي الْإِخْرَاج وَفِي الْغَار وَفِي نصْرَة الله لَهما أخافة الْكفَّار لَهما وَفِي كَونه تَعَالَى مَعَهُمَا فَهَذِهِ الصُّحْبَة غَايَة الْفضل وَتلك الْأُخْرَى غَايَة النَّقْص بِنَصّ الْقُرْآن وَأما حزن أبي(4/113)
بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قبل أَن ينهاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ غَايَة الرِّضَا لله لِأَنَّهُ كَانَ إشفاقاً على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك كَانَ الله مَعَه وَهُوَ تَعَالَى لَا يكون مَعَ العصاة بل عَلَيْهِم وَمَا حزن أَبُو بكر قطّ بعد أَن نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحزن ولكان ذَلِك على مُحَمَّد ومُوسَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَؤُلَاء الأرذال حَيَاء أَو علم لم يَأْتُوا بِمثل هَذَا إِذْ لَو كَانَ حزن أبي بكر عَيْبا عَلَيْهِ لَكَانَ عَيْبا لِأَن الله عز وَجل قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون} ثمَّ قَالَ تَعَالَى عَن السَّحَرَة أَنهم قَالُوا لمُوسَى {إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى قَالَ بل ألقوا فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى قُلْنَا لَا تخف أَنَّك أَنْت الْأَعْلَى} فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكليمه قد كَانَ أخبرهُ الله عز وَجل بِأَن فِرْعَوْن وملأه لَا يصلونَ إِلَيْهِ وَأَن مُوسَى وَمن اتبعهُ هُوَ الْغَالِب ثمَّ أوجس فِي نَفسه خيفة بعد ذَلِك إِذْ رأى أَمر السَّحَرَة حَتَّى أوحى الله عز وَجل إِلَيْهِ لَا تخف فَهَذَا أَمر أَشد من أَمر أبي بكر وَإِذا لزم مَا يَقُول هَؤُلَاءِ الْفُسَّاق أَبَا بكر وحاشا لله أَن يلْزمه من أَن حزنه لَو كَانَ لما نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزم أَشد مِنْهُ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن إيجاسه الخيفة فِي نَفسه لَو كَانَ رضَا لله تَعَالَى مَا نَهَاهُ الله تَعَالَى عَنهُ ومعاذ الله من هَذَا بل إيجاس مُوسَى الخيفة فِي نَفسه لم يكن إِلَّا نِسْيَان الْوَعْد الْمُتَقَدّم وحزن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ رضَا لله تَعَالَى قبل أَن ينْهَى عَنهُ وَلم يكن تقدم إِلَيْهِ نهي عَن الْحزن وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله عز وَجل قَالَ {وَمن كفر فَلَا يحزنك كفره} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تَكُ فِي ضيق} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يحزنك قَوْلهم أَن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات} وَقَالَ تَعَالَى {فلعلك باخع نَفسك على آثَارهم إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث أسفا} ووجدناه عز وَجل قد قَالَ {قد نعلم أَنه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ} وَقَالَ أَيْضا فِي الْأَنْعَام فَهَذَا الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه يعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحزنهُ الَّذِي يَقُولُونَ وَنَهَاهُ الله عز وَجل عَن ذَلِك نصا فيلزمهم فِي حزن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نَهَاهُ الله تَعَالَى عَنهُ كَالَّذي أَرَادَ فِي حزن أبي بكر سَوَاء بِسَوَاء وَنعم إِن حزن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا كَانُوا يَقُولَن من الْكفْر كَانَ طَاعَة لله تَعَالَى قبل أَن ينهاه الله عز وَجل وَمَا حزن عَلَيْهِ السَّلَام بعد أَن نَهَاهُ ربه تَعَالَى عَن الْحزن كَمَا كَانَ حزن أبي بكر طَاعَة لله عز وَجل قبل أَن ينهاه الله عز وَجل عَن الْحزن وَمَا حزن أَبُو بكر قطّ بعد أَن نَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْحزن فَكيف وَقد يُمكن أَن يكون أَبُو بكر لم يحزن يَوْمئِذٍ لَكِن نَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَن أَن يكون مِنْهُ حزن كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفوراً} فَنَهَاهُ عَن أَن يطيعهم وَلم تكن مِنْهُ طَاعَة لَهُم وَهَذَا إِنَّمَا يعْتَرض بِهِ أهل الْجَهْل والسخافة ونعوذ بِاللَّه من الضلال
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاعْترض علينا بعض الْجُهَّال ببعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب خلف أبي بكر رَضِي الله عَنهُ عَنْهُمَا فِي الْحجَّة الَّتِي حَجهَا أَبُو بكر وَأخذ برآءة من أبي بكر وَتَوَلَّى عَليّ تبليغها إِلَى أهل الْمَوْسِم وقرائتها عَلَيْهِم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا من أعظم فَضَائِل أبي بكر لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرا على عَليّ بن أبي طَالب وَغَيره من أهل الْمَوْسِم لَا يدْفَعُونَ إِلَّا بِدَفْعِهِ وَلَا يقفون إِلَّا بوقوفه وَلَا يصلونَ إِلَّا بِصَلَاتِهِ(4/114)
وينصتون إِذا خطب وَعلي فِي الْجُمْلَة كَذَلِك وَسورَة برآءة وَقع فِيهَا فضل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَذكره فِي أَمر الْغَار وَخُرُوجه مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَون الله تَعَالَى مَعهَا فقراءة عَليّ لَهَا أبلغ فِي إعلان فضل أبي بكر على عَليّ وعَلى وسواه وَحجَّة لأبي بكر قَاطِعَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) إِلَّا أَن ترجع الروافض إِلَى إِنْكَار الْقُرْآن وَالنَّقْص مِنْهُ وَالزِّيَادَة فِيهِ فَهَذَا أَمر يظْهر فِيهِ قحتهم وجهلهم وسخفهم إِلَى كل عَالم وجاهل فَإِنَّهُ لَا يمتري كَافِر وَلَا مُؤمن فِي أَن هَذَا الَّذِي بَين اللَّوْحَيْنِ من الْكتاب هُوَ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرنَا بِأَنَّهُ أوحاه لله تَعَالَى إِلَيْهِ فَمن تعرض هَذَا فقد أقرّ بِعَين عدوه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا يعْتَرض إِمَامَة أبي بكر إِلَّا زار (1) عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم راد لأَمره فِي تَقْدِيمه أَبَا بكر إِلَى الصَّلَاة بِأَهْل الْإِسْلَام مُرِيد لإزالته عَن مقَام أَقَامَهُ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ولسنا من كذبهمْ فِي تأويلهم {ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا ويتيماً وأسيراً} وَإِن المُرَاد بذلك عَليّ رَضِي الله عَنهُ بل هَذَا لَا يَصح لِأَن الْآيَة على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فصح بِمَا ذكرنَا فضل أبي بكر على جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبراهين الْمَذْكُورَة وَأما الْأَحَادِيث فِي ذَلِك فكثيرة كَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أبي بكر دعوا لي صَاحِبي فَإِن النَّاس قَالُوا كذبت وَقَالَ أَبُو بكر صدقت وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كنت متخذاً خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن أخي وصاحبي وَهَذَا الَّذِي لَا يَصح غَيره وَأما أخوة عَليّ فَلَا تصح إِلَّا مَعَ سهل بن حنيف وَمِنْهَا أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسد كل بَاب وخوخة فِي الْمَسْجِد حاشا خوخة أبي بكر وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَصح غَيره وَمِنْهَا غَضَبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على من خَارج أَبَا بكر وعَلى من أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْر أبي بكر للصَّلَاة وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَمن النَّاس عَليّ عَليّ فِي مَاله أَبُو بكر وعمدتنا فِي تَفْضِيل أبي بكر ثمَّ عمر على جَمِيع الصَّحَابَة بعد نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سُئِلَ من أحب النَّاس إِلَيْك يَا رَسُول الله قَالَ عَائِشَة قيل فَمن الرِّجَال قَالَ أَبوهَا قيل ثمَّ من يَا رَسُول الله قَالَ عمر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فقطعنا بِهَذَا ثمَّ وقفنا وَلَو زادنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا لزدنا لَكنا لَا نقُول فِي شَيْء من الدّين إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّص
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَاخْتلف النَّاس فِيمَن أفضل أعثمان أم عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالَّذِي يَقع فِي نفوسنا دون أَن نقطع بِهِ وَلَا نخطيء من خَالَفنَا فِي ذَلِك فَهُوَ أَن عُثْمَان أفضل من عَليّ وَالله أعلم لِأَن فضائلهما تتقاوم فِي الْأَكْثَر فَكَانَ عُثْمَان أَقرَأ وَكَانَ عَليّ أَكثر فتيا وَرِوَايَة ولعلي أَيْضا حَظّ قوي فِي الْقِرَاءَة ولعثمان أَيْضا حَظّ قوي فِي الْفتيا وَالرِّوَايَة ولعلي مقامات عَظِيمَة فِي الْجِهَاد بِنَفسِهِ ولعثمان مثل ذَلِك بِمَالِه ثمَّ انْفَرد عُثْمَان بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَايع ليساره المقدسة عَن يَمِين عُثْمَان فِي بيعَة الرضْوَان وَله هجرتان وسابقة قديمَة وصهر مكرم مَحْمُود وَلم يحضر بَدْرًا فألحقه الله عز وَجل فِيهِ بأجره التَّام وسهمه فألحقه(4/115)
بِمن حضرها فَهُوَ مَعْدُود فيهم ثمَّ كَانَت لَهُ فتوحات فِي الْإِسْلَام عَظِيمَة لم تكن لعَلي وسيرة فِي الْإِسْلَام هادية وَلم يتسبب بسفك دم مُسلم وَجَاءَت فِيهِ آثَار صِحَاح وَأَن الْمَلَائِكَة تَسْتَحي مِنْهُ وَأَنه وَمن أتبعه على الْحق وَالَّذِي صَحَّ من فَضَائِل عَليّ فَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله وَهَذِه صفة وَاجِبَة لكل مُؤمن وفاضل وَعَهده عَليّ السَّلَام أَن عليا لَا يُحِبهُ إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضه إِلَّا مُنَافِق وَقد صَحَّ مثل هَذِه فِي الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم أَنه لَا يبغضهم من مُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر وَأما من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فَلَا يَصح من طَرِيق الثِّقَات أصلا وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي تتَعَلَّق بهَا الرافضة فموضوعة يعرف ذَلِك من لَهُ أدنى علم بالأخبار ونقلتها
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ونقول بِفضل الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين بعد عمر بن الْخطاب قطعا إِلَّا أننا لَا نقطع بِفضل أحد مِنْهُم على صَاحبه كعثمان بن عَفَّان وَعُثْمَان بن مظغون وَعلي وجعفر وَحَمْزَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمصْعَب بن عُمَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الله بن مَسْعُود وَسعد وَزيد بن حَارِثَة وَأبي عُبَيْدَة وبلال وَسَعِيد بن زيد وعمار بن يَاسر وَأبي سَلمَة وَعبد الله بن جحش وَغَيرهم من نظرائهم ثمَّ بعد هَؤُلَاءِ أهل الْعقبَة ثمَّ أهل بدر ثمَّ أهل الْمشَاهد كلهَا مشهداً مشهداً فَأهل كل مشْهد أفضل من أهل المشهد الَّذِي بعده حَتَّى بلغ الْأَمر إِلَى الْحُدَيْبِيَة فَكل من تقدم ذكره من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم إِلَى تَمام بيعَة الرضْوَان فإننا نقطع على غيب قُلُوبهم وَأَنَّهُمْ كلهم مُؤمنُونَ صَالِحُونَ مَاتُوا على الْإِيمَان وَالْهدى وَالْبر كلهم من أهل الْجنَّة لَا يلج أحد مِنْهُم النَّار الْبَتَّةَ لقَوْل الله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم} وَكَقَوْلِه عز وَجل {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَمن أخبرنَا الله عز وَجل أَنه علم مَا فِي قُلُوبهم رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل السكينَة عَلَيْهِم فَلَا يحل لأحد التَّوَقُّف فِي أَمرهم وَلَا الشَّك فيهم الْبَتَّةَ وَلقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل النَّار أحد بَايع تَحت الشَّجَرَة إِلَّا صَاحب الْجمل الْأَحْمَر ولإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَا يدْخل النَّار أحد شهد بَدْرًا ثمَّ تقطع على أَن كل من صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنية صَادِقَة وَلَو سَاعَة فَإِنَّهُ من أهل الْجنَّة لَا يدْخل النَّار لتعذيب إِلَّا أَنهم لَا يلحقون بِمن أسلم قبل الْفَتْح وَذَلِكَ لقَوْل الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} وَقَالَ تَعَالَى {وعد الله لَا يخلف الله وعده} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا وهم فِي مَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر وتتلقاهم الْمَلَائِكَة هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون} فصح بِالضَّرُورَةِ أَن كل اتّفق قبل الْفَتْح وَقَاتل فَهُوَ مَقْطُوع على غيبه لتفضيل الله تَعَالَى إيَّاهُم وَالله تَعَالَى لَا يفضل إِلَّا مُؤمنا فَاضلا وَأما من أتفق بعد الْفَتْح وَقَاتل فقد كَانَ فيهم مُنَافِقُونَ لم يعلمهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف نَحن قَالَ تَعَالَى {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلهَذَا لم نقطع على كل امريء مِنْهُم بِعَيْنِه لَكِن نقُول كل من لم يكن منههم(4/116)
من الْمُنَافِقين فَهُوَ من أهل الْجنَّة يَقِينا لِأَنَّهُ قد وعدهم الله تَعَالَى الْحسنى كلهم وَأخْبر أَنه لَا يخلف وعده وَإِن من سبقت لَهُ الْحسنى فَهُوَ مبعد من النَّار لَا يسمع حَسِيسهَا وَلَا يحزنهُ الْفَزع الْأَكْبَر وَهُوَ فِيمَا اشْتهى خَالِد وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لقد خَابَ وخسر من رد قَول ربه عز وَجل أَنه رَضِي عَن الْمُبَايِعين تَحت الشَّجَرَة وَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَقد علم كل أحد لَهُ أدنى علم أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وعمار والمغيرة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنْهُم من أهل هَذِه الصّفة والخوارج وَالرَّوَافِض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البريئة مِنْهُم خلافًا لله عز وَجل وعناداً لَهُ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَذَا قَوْلنَا فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَأَما التابعون وَمن بعدهمْ فَلَا نقطع على غيبهم وَاحِدًا وَاحِدًا الْأَمر بَان مِنْهُ احْتِمَال الْمَشَقَّة فِي الصَّبْر للدّين ورفض الدُّنْيَا لغير غَرَض استعجله إِلَّا أننا لَا نَدْرِي على مَاذَا مَاتَ وَإِن بلغنَا الْغَايَة فِي تعظيمهم وتوقيرهم وَالدُّعَاء بالمغفرة وَالرَّحْمَة والرضوان لَهُم لَكِن نتولاهم جملَة قطعا ونتولى كل إِنْسَان مِنْهُم بِظَاهِرِهِ وَلَا نقطع على أحد مِنْهُم بجنة وَلَا نَار لَكِن نرجو لَهُم ونخاف عَلَيْهِم إِذْ لَا نَص فِي إِنْسَان مِنْهُم بِعَيْنِه وَلَا يحل الْإِخْبَار عَن الله عز وَجل إِلَّا بِنَصّ من عِنْده لَكِن نقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيركُمْ الْقرن الَّذِي بعثت فيهم ثمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذِي يَلُونَهُمْ وَمعنى هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ كل قرن من هَذِه الْقُرُون الَّتِي ذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر فضلا بِالْجُمْلَةِ من الْقرن الَّذِي بعده لَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ وبرهان ذَلِك أَن قد كَانَ فِي عصر التَّابِعين من هُوَ أفسق الْفَاسِقين كمسلم بن عقبَة المري وحبيش بن دلحة القبني وَالْحجاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ وقتلة عُثْمَان وقتلة ابْن الزبير وقتلة الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَلعن قَتلتهمْ وَمن بَعثهمْ فَمن خَالف قَوْلنَا فِي هَذَا الْخَبَر لزمَه أَن يَقُول أَن هَؤُلَاءِ الْفُسَّاق الأخابث أفضل من كل فَاضل فِي الْقرن الثَّالِث وَمن بعده كسفيان الثَّوْريّ والفضيل بن عِيَاض ومسعر بن كدام وَشعْبَة وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وسُفْيَان بن عُيَيْنَة ووكيع وَابْن مبارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَدَاوُد بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا مَا لَا يَقُوله أحد وَمَا يبعد أَن يكون فِي زَمَاننَا وفيمن يَأْتِي بَعدنَا من هُوَ أفضل رجل من التَّابِعين عِنْد الله عز وَجل إِذْ لم يَأْتِ فِي الْمَنْع من ذَلِك نَص وَلَا دَلِيل أصلا والْحَدِيث الْمَأْثُور فِي أويس الفرني لَا يَصح لِأَن مَدَاره على اسيد بن جَابر وَلَيْسَ بالقوى وَقد ذكر شُعْبَة أَنه سَأَلَ عَمْرو بن مرّة وَهُوَ كُوفِي قَرْني مرادي من أشرف مرَادا وأعلمهم عَن اويس الْقَرنِي فَلم يعرفهُ فِي قومه وَأما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فبخلاف هَذَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يلْحق أقلهم دَرَجَة أحد من أهل الأَرْض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذهب بعض الروافض إِلَى أَن لِذَوي قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فضلا بِالْقَرَابَةِ فَقَط وَاحْتج بقوله تَعَالَى {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض} وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وأبعث فيهم رَسُولا مِنْهُم}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كُله لَا حجَّة فِيهِ أما إخْبَاره تَعَالَى بِأَنَّهُ اصْطفى آل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يَعْنِي كل مُؤمن فقد قَالَ ذَلِك بعض الْعلمَاء أَو يَعْنِي مُؤمن أهل بَيت إِبْرَاهِيم وَعمر أَن لَا يجوز غير هَذَا لِأَن آزر وَالِد إِبْرَاهِيم(4/117)
عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ كَافِرًا عَدو الله لم يصطفه الله تَعَالَى إِلَّا لدُخُول النَّار فَإِن أَرَادَ الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا لم نمانعه وَلَا تنازعه فِي أَن مُوسَى وَهَارُون من آل عمرَان وَآل إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق ويوسف وَيَعْقُوب من آل إِبْرَاهِيم مصطفون على الْعَالمين فَأَي حجَّة هَا هُنَا لبني هَاشم فَإِن ذكرُوا الدُّعَاء الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وَبَارك على مُحَمَّد وعَلى مُحَمَّد فَالْقَوْل فِي هَذَا كَمَا قُلْنَا وَلَا فرق وَهَذَا دُعَاء لكل مُؤمن وَقد قَالَ تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ صلي على آل أبي أوفي فَهَذَا هُوَ الدُّعَاء لَهُم بِالصَّلَاةِ على كل مُؤمن ومؤمنة بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ الدُّعَاء فِي التَّشَهُّد المفترض فِي كل صَلَاة من قَول الْمُصْطَفى السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين فَهَذَا السَّلَام على كل مُؤمن ومؤمنة فَاسْتَوَى بَنو هَاشم وَغَيرهم فِي اطلاق الدُّعَاء بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِم وبالسلام عَلَيْهِم وَلَا فرق وَقَالَ تَعَالَى {وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون} فَوَجَبت صلوَات الله تَعَالَى على كل مُؤمن صابر فَاسْتَوَى كُله بَنو هَاشم وقريش وَالْعرب والعجم وَمن كَانَ جَمِيعهم بِهَذِهِ الصّفة وَأَيْضًا فَيلْزم من احْتج بقوله تَعَالَى {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} أَن يَقُول إِن من أسلم من الهارونيين من الْيَهُود أفضل من بني هَاشم وأشرف وَأولى بالتقديم لِأَنَّهُ من آل عمرَان وَمن آل إِبْرَاهِيم وَفِيهِمْ ورد النَّص
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فصح يَقِينا أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَقَط وَبَين هَذَا بَيَان جلياً قَول الله عز وَجل حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {وَمن ذريتي قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الظَّالِمين من ذُرِّيَّة غَيره وَقَالَ عز وَجل أَن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي وَالَّذين آمنُوا فَخص الله تَعَالَى بِولَايَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام من اتبع إِبْرَاهِيم كَائِنا من كَانَ فَدخل فِي هَذَا كل مُؤمن ومؤمنة وَلَا فضل وَأما قَول الله عز وَجل {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} فَهَذَا حق على ظَاهره وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام من قُرَيْش أَن يودوه لِقَرَابَتِهِ مِنْهُم وَلَا يخْتَلف أحد من الْأمة فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يرد قطّ من الْمُسلمين أَن يودوا أَبَا لَهب وَهُوَ عَمه وَلَا شكّ فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ من الْمُسلمين مَوَدَّة بِلَال وعمار وصهيب وَسليمَان وَسَالم مولي أبي حُذَيْفَة وَأما قَوْله عز وَجل عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {وأبعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} فقد قَالَ عز وَجل {وَأَن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} فاستوت الْأُمَم كلهَا فِي هَذِه الدعْوَة بِأَن يبْعَث فيهم رَسُولا مِنْهُم مِمَّن هم قومه فَإِن احْتج مُحْتَج بِالْحَدِيثِ الثَّابِت الَّذِي فِيهِ أَن الله اصْطفى كنَانَة من ولد إِسْمَاعِيل وَاصْطفى قُريْشًا من كنَانَة وَاصْطفى من قُرَيْش بني هَاشم وَاصْطَفَانِي من بَين هَاشم فَمَعْنَاه ظَاهر وَهُوَ أَنه تَعَالَى اخْتَار كَونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من بني هَاشم وَكَون بني هَاشم من قُرَيْش وَكَون قُرَيْش من كنَانَة وَكَون كنَانَة من بني إِسْمَاعِيل كَمَا اصْطفى أَن يكون مُوسَى من بني لاوي وَأَن يكون بَنو لاوي من بني إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام وكل نَبِي من عشيرته الَّتِي هُوَ مِنْهَا وَلَا يجوز غير هَذَا الْبَتَّةَ ونسأل من أَرَادَ حمل هَا الحَدِيث على غير هَذَا لِمَعْنى أَيَدْخُلُ أحد من بني هَاشم أَو من قُرَيْش أَو من كنَانَة أَو من إِسْمَاعِيل النَّار أم لَا فَإِن أَنْكَرُوا هَذَا(4/118)
كفرُوا وخالفوا الْإِجْمَاع وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أبي وَأَبُوك فِي النَّار وَإِن أَبَا طَالب فِي النَّار وَجَاء الْقُرْآن بِأَن أَبَا لَهب فِي النَّار وَسَائِر كفار قُرَيْش فِي النَّار كلك قَالَ الله تَعَالَى {تبت يدا أبي لَهب وَتب مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب سيصلى نَارا ذَات لَهب} فَإِذا أقرّ بِأَنَّهُ قد يدْخل الار مِنْهُم من يسْتَحق أَن يدخلهَا صحت الْمُسَاوَاة بَينهم وَبَين سَائِر النَّاس
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ويكذب الظَّن الْفَاسِد قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا بني عبد الْمطلب لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا وَأبين من هَذَا كُله قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} وَقَوله تَعَالَى {لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} وَقَوله تَعَالَى {واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا} وَقَالَ تَعَالَى {?} وَذكر عَاد وثموداً وَقوم نوح وَقوم لوط ثمَّ قَالَ {اكفاركم خير من أولئكم أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر} فصح ضَرُورَة أَنه لَا ينْتَفع أحد بقرابته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام وَلَو أَن النَّبِي ابْنه أَو أَبوهُ وَأمه نبية وَقد نَص الله تَعَالَى فِي ابْن نوح ووالد إِبْرَاهِيم وَعم مُحَمَّد على رسل الله الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا فِيهِ الْكِفَايَة وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا فصح ضَرُورَة أَن بِلَالًا وصهيبا والمقداد وَعمَّارًا وسالماً وسلمان أفضل من الْعَبَّاس وبنيه عبد الله وَالْفضل وَقثم وَعبيد الله وَعقيل بن أبي طَالب وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَن جَمِيعهم بِشَهَادَة الله تَعَالَى فَإذْ هَذَا لَا شكّ فِيهِ وَلَا جَزَاء فِي الْآخِرَة إِلَّا على عمل وَلَا ينْتَفع عِنْد الله تَعَالَى بالأرحام وَلَا بالولادات وَلَيْسَت الدُّنْيَا دَار جَزَاء فَلَا فرق بَين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وَحبشِي وَابْن زنجية وَالْكَرم والفوز لمن اتَّقى الله عز وَجل حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بَيَان أَنبأَنَا أَحْمد بن عبد الله الْبَصِير حَدثنَا قَاسم بن اصبع حَدثنَا عبد السَّلَام بن الخثن حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن حسان بن قايد الْعَبْسِي قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه وَإِن كَانَ فارسياً أَو نبطياً
الْكَلَام فِي حَرْب عَليّ من حاربه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اخْتلف النَّاس فِي تِلْكَ الْحَرْب على ثَلَاث فرق فَقَالَ جَمِيع الشِّيعَة وَبَعض المرجئة وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض أهل السّنة أَن عليا كَانَ الْمُصِيب فِي حربه وكل من خَالفه على خطأ وَقَالَ وَاصل بن عَطاء وَعَمْرو بن عبيد وَأَبُو الْهُذيْل وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة أَن عليا مصيبا فِي قِتَاله مَعَ مُعَاوِيَة وَأهل النَّهر ووقفوا فِي قِتَاله مَعَ أهل الْجمل وَقَالُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مخطئة وَلَا نَعْرِف أَيهمَا هِيَ وَقَالَت الْخَوَارِج عَليّ الْمُصِيب فِي قِتَاله أهل الْجمل وَأهل صفّين وَهُوَ مخطيء فِي قِتَاله أهل النَّهر وَذهب سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر وَجُمْهُور الصَّحَابَة إِلَى الْوُقُوف فِي عَليّ وَأهل الْجمل وَأهل صفّين وَبِه يَقُول جُمْهُور أهل السّنة وَأَبُو بكر بن كيسَان وَذهب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَخيَار التَّابِعين وَطَوَائِف مِمَّن بعدهمْ إِلَى تصويب محاربي عَليّ من أَصْحَاب الْجمل وَأَصْحَاب صفّين وهم الْحَاضِرُونَ لقتاله فِي الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورين وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا أَيْضا أَبُو بكر بن كيسَان(4/119)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما الْخَوَارِج فقد أوضحنا خطأهم وَخطأ أسلافهم فِيمَا سلف من كتَابنَا هَذَا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم عَليّ الْحكمَيْنِ فسنتكلم فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَمَا تكلمنا فِي سَائِر أحكامهم وَالْحَمْد لَهُ رب الْعَالمين وَأما من وقف فَلَا حجَّة لَهُ أَكثر من أَنه لم يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَمن لم يتَبَيَّن لَهُ الْحق فَلَا سَبِيل إِلَى مناطرته بِأَكْثَرَ من أَن نبين لَهُ وَجه الْحق حَتَّى يرَاهُ وَذكروا أَيْضا أَحَادِيث فِي ترك الْقِتَال فِي الِاخْتِلَاف سنذكر لكم جُمْلَتهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَلم يبْق إِلَّا الطَّائِفَة المصوبة لعَلي فِي جَمِيع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الْجمل وَأهل صفّين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احْتج من ذهب إِلَى تصويب محاربي عَليّ يَوْم الْجمل وَيَوْم صفّين بِأَن قَالَ إِن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قتل مَظْلُوما فالطلب بِأخذ الْقود من قاتليه فرض قَالَ عز وَجل {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} وَقَالَ تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} قَالُوا وَمن آوى الظَّالِمين فَهُوَ إِمَّا مشارك لَهُم وَإِمَّا ضَعِيف عَن أَخذ الْحق مِنْهُم قَالُوا وكلا الْأَمريْنِ حجَّة فِي إِسْقَاط إِمَامَته على من فعل ذَلِك وَوُجُوب حربه قَالُوا وَمَا أَنْكَرُوا على عُثْمَان إِلَّا أقل من هَذَا من جَوَاز إِنْفَاذ أَشْيَاء بِغَيْر علمه فقد ينفذ مثلهَا سر أَو لَا يعلمهَا أحد إِلَّا بعد ظُهُورهَا قَالُوا وَحَتَّى لَو أَن كل مَا أنكر على عُثْمَان أَن يَصح مَا حل بذلك قَتله بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام لأَنهم إِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ استئثار بِشَيْء يسير من فضلات الْأَمْوَال لم يجب لأحد بِعَيْنِه فَمنعهَا وتولية أَقَاربه فَلَمَّا شكوا إِلَيْهِ عزلهم وَأقَام الْحَد على من اسْتَحَقَّه وَأَنه صرف الحكم بن أبي الْعَاصِ إِلَى الْمَدِينَة وَنفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْحكم لم يكن حدا وَاجِبا وَلَا شَرِيعَة على التأييد وَإِنَّمَا كَانَ عُقُوبَة على ذَنْب اسْتحق بِهِ النَّفْي وَالتَّوْبَة مبسوطة فَإِذا تَابَ سَقَطت عَنهُ تِلْكَ الْعقُوبَة بِلَا خلاف من أحد من أهل الْإِسْلَام وَصَارَت الأَرْض كلهَا مُبَاحَة وَأَنه ضرب عمارا خَمْسَة أسواط وَنفي أَبَا ذَر إِلَى الربذَة وَهَذَا كُله لَا يُبِيح الدَّم قَالُوا وايوآء على الْمُحدثين أعظم الْأَحْدَاث من سفك الدَّم الْحَرَام فِي حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سِيمَا دم الإِمَام وَصَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم وَالْمَنْع من إِنْفَاذ الْحق عَلَيْهِم أَشد من كل مَا ذكرنَا بِلَا شكّ قَالُوا وَامْتِنَاع مُعَاوِيَة من بيعَة عَليّ كامتناع عَليّ من بيعَة أبي بكر فَمَا حاربه أَبُو بكر وَلَا أكرهه وَأَبُو بكر أقدر على عَليّ من عَليّ على مُعَاوِيَة وَمُعَاوِيَة فِي تَأْخِيره عَن بيعَة عَليّ أعذر وأفسح مقَالا من عَليّ فِي تَأْخِيره عَن بيعَة أبي بكر لِأَن عليا لم يمْتَنع من بيعَة أبي بكر أحد من الْمُسلمين غَيره بعد أَن بَايعه الْأَنْصَار وَالزُّبَيْر وَأما بيعَة عَليّ فَإِن جُمْهُور الصَّحَابَة تَأَخَّرُوا عَنْهَا إِمَّا عَلَيْهِ وَإِمَّا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَمَا تَابعه فيهم إِلَّا الْأَقَل سوى أَزِيد من مائَة ألف مُسلم بِالشَّام وَالْعراق ومصر والحجاز كلهم امْتنع من بيعَته فَهَل مُعَاوِيَة إِلَّا كواحد من هَؤُلَاءِ فِي ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن بيعَة عَليّ لم تكن على عهد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا كَانَت بيعَة أبي بكر وَلَا عَن إِجْمَاع من الْأمة كَمَا كَانَت بيعَة عُثْمَان وَلَا عَن عهد من خَليفَة وَاجِب الطَّاعَة كَمَا كَانَت بيعَة عمر وَلَا بسوق بَائِن (1) فِي الْفضل على غَيره لَا يخْتَلف فِيهِ أحد وَلَا عَن شُورَى فالقا عدون عَنْهَا بِلَا شكّ وَمُعَاوِيَة من جُمْلَتهمْ أعذر من عَليّ فِي قعوده عَن بيعَة أبي بكر سِتَّة أشهر حَتَّى رآى البصيرة وراجع الْحق عَلَيْهِ فِي ذَلِك قَالُوا فَإِن قُلْتُمْ خَفِي على عَليّ نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي بكر قُلْنَا لكم لم يخف عَلَيْهِ بِلَا شكّ تَقْدِيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر إِلَى الصَّلَاة وَأمره عليا بِأَن يُصَلِّي وَرَاءه فِي جمَاعَة الْمُسلمين فَتَأَخر عَن بيعَة(4/120)
أبي بكر سعي مِنْهُ فِي حطه عَن مَكَان جعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا لأبي بكر وسعي مِنْهُ فِي فسخ نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تَقْدِيمه إِلَى الصَّلَاة وَهَذَا أَشد من رد إِنْسَان نَفَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذنب ثمَّ تَابَ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِن عليا قد تَابَ واعترف بالْخَطَأ لِأَنَّهُ إِذا بَايع أَبَا بكر بعد سِتَّة أشهر تَأَخّر فِيهَا عَن بيعَته لَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون مصيباً فِي تَأَخره فقد أَخطَأ إِذْ بَايع أَو يكون مصيباً فِي بيعَته فقد أَخطَأ إِذا تَأَخّر عَنْهَا قَالُوا والممتنعون من بيعَة عَليّ لم يعترفوا قطّ بالْخَطَأ على أنفسهم فِي تأخرهم عَن بيعَته قَالُوا فَإِن كَانَ فعلهم خطأ فَهُوَ أخف من الْخَطَأ فِي تَأَخّر عَليّ عَن بيعَة أبي بكر وَإِن كَانَ فعلهم صَوَابا فقد برئوا من الْخَطَأ جملَة قَالُوا والبون بَين طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعلي خَفِي جدا فقد كَانُوا فِي الشورى مَعَه لَا يَبْدُو لَهُ فضل تفوق عَلَيْهِم وَلَا على وَاحِد مِنْهُم واما البون بَين عَليّ وَأبي بكر فأبين وَأظْهر فهم من امتناعهم عَن بيعَته أعذر لخفاء التَّفَاضُل قَالُوا وهلا فعل عَليّ فِي قتلة عُثْمَان كَمَا فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الأرث فَإِن الْقصَّتَيْنِ اسْتَويَا فِي التَّحْرِيم فالمصيبة فِي قتل عُثْمَان فِي الْإِسْلَام وَعند الله عز وَجل وعَلى الْمُسلمين أعظم جرما وأوسع خرقاً وأشنع إِثْمًا وأهول فسقا من الْمُصِيبَة فِي قتل عبد الله بن خباب قَالُوا وَفعله فِي طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجَّة من تَأَول على عَليّ أَنه يُمكن أَن يكون لَا يرى قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كل مَا يُمكن أَن تحتج بِهِ هَذِه الطَّائِفَة قد تقصيناه وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى متكلمون على مَا ذهبت إِلَيْهِ كل طَائِفَة من هَذِه الطوائف حَتَّى يلوح الْحق فِي ذَلِك بعون الله تَعَالَى وتأييده
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) نبدأ بعون الله عز وَجل بإنكار الْخَوَارِج للتحكيم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) قَالُوا حكم على الرِّجَال فِي دين الله تَعَالَى وَالله عز وَجل قد حرم ذَلِك بقوله {إِن الحكم إِلَّا لله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا حكم عَليّ رَضِي الله عَنهُ قطّ رجلا فِي دين الله وحاشاه من ذَلِك وَإِنَّمَا حكم كَلَام الله عز وَجل كَمَا افْترض الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اتّفق الْقَوْم كلهم إِذا رفعت الْمَصَاحِف على الرماح وتداعوا إِلَى مَا فِيهَا على الحكم بِمَا أنزل الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَهَذَا وَهُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل لأحد غَيره لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَإِنَّمَا حكم عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَبَا مُوسَى وَعَمْرو رَضِي الله عَنْهُمَا ليَكُون كل وَاحِد مِنْهُمَا مدلياً بِحجَّة من قدمه وليكونا متخاصمين عَن الطَّائِفَتَيْنِ ثمَّ حاكمين لمن أوجب الْقُرْآن الحكم لَهُ وَإِذ من الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يُمكن الَّذِي لَا يفهم لغط العسكرين أَو أَن يتَكَلَّم جَمِيع أهل الْعَسْكَر بحجتهم فصح يَقِينا لَا محيد عَنهُ صَوَاب عَليّ فِي تحكيم الْحكمَيْنِ وَالرُّجُوع إِلَى مَا أوجبه الْقُرْآن وَهَذَا الَّذِي لَا يجوز غَيره وَلَكِن أسلاف الْخَوَارِج كَانُوا أعراباً قرؤا الْقُرْآن قبل أَن يتفقهوا فِي السّنَن الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فيهم أحد من الْفُقَهَاء لَا من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود وَلَا أَصْحَاب عَمْرو وَلَا أَصْحَاب عَليّ وَلَا أَصْحَاب عَائِشَة وَلَا أَصْحَاب أبي مُوسَى وَلَا أَصْحَاب معَاذ بن جبل وَلَا أَصْحَاب أبي الدَّرْدَاء وَلَا أَصْحَاب سلمَان وَلَا أَصْحَاب زيد وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَلِهَذَا تجدهم يكفر بَعضهم بَعْضًا عِنْد اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الْفتيا وصغارها فَظهر ضعف الْقَوْم وَقُوَّة جهلهم وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا(4/121)
مَا قَامَ الْبُرْهَان الَّذِي أوردنا بِأَنَّهُ حق وَلَو لم يكن من جهلهم لأَقْرَب عَهدهم بِخَبَر الْأَنْصَار يَوْم السَّقِيفَة وإذعانهم رَضِي الله عَنْهُم من جَمِيع الْمُهَاجِرين لوَجَبَ الْأَمر فِي قُرَيْش دون الْأَنْصَار وَغَيرهم وَأَن عَهدهم بذلك قريب مُنْذُ خَمْسَة وَعشْرين عَاما وَأشهر وجمهورهم أدْرك ذَلِك بِسنة وَثَبت عِنْد جَمِيعهم كثبات أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا فرق لِأَن الَّذين نقلوا إِلَيْهِم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونقلوا إِلَيْهِم الْقُرْآن والشرائع فدانوا بِكُل ذَلِك هم بأعيانهم لَا زِيَادَة فيهم وَلَا نقص نقلوا اليهم خبر السَّقِيفَة وَرُجُوع الْأَنْصَار إِلَى أَن الْأَمر لَا يكون إِلَّا فِي قُرَيْش وهم يقرؤن قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} وَقَوله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا} ثمَّ أعماهم الشَّيْطَان وأضلهم الله تَعَالَى على علم فحلوا بَينه مثل عَليّ واعرضوا عَن مثل سعيد بن زيد وَسعد وَابْن عمر وَغَيرهم مِمَّن أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل واعرضوا عَن سَائِر الصَّحَابَة الَّذين أَنْفقُوا بعد الْفَتْح وقاتلوا وَوَعدهمْ الله الْحسنى وَتركُوا من يقرونَ بِأَن الله تَعَالَى عز وَجل علم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وَرَضي عَنْهُم وَبَايَعُوا الله وَتركُوا جَمِيع الصَّحَابَة وهم الْأَشِدَّاء على الْكفَّار الرُّحَمَاء بَينهم الركع السجد المبتغون فضلا من الله ورضواناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود المثني عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من عِنْد الله عز وَجل الَّذين غظ الله بهم الْكفَّار الْمَقْطُوع على أَن باطنهم فِي الْخَيْر كظاهرهم لِأَن الله عز وَجل شهد بذلك فَلم يبايعوا أحدا مِنْهُم وَبَايَعُوا شِيث بن ربعي مُؤذن سجَاح أَيَّام ادَّعَت النُّبُوَّة بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تَدَارُكه الله عز وَجل فر عَنْهُم وَتبين لَهُم ضلالتهم فَلم يَقع اختيارهم إِلَّا على عبد الله بن وهب الرَّاسِبِي أَعْرَابِي وَآل عَليّ عقيبة لَا سَابِقَة لاه وَلَا صُحْبَة وَلَا فقه وَلَا شهد الله لَهُ بِخَير قطّ فَمن أضلّ مِمَّن هَذِه سيرته واختياره وَلَكِن حق لمن كَانَ أحدا يَمِينه ذُو خو يصره الَّذِي بلغه ضعف عقله وَقلة دينه إِلَى تجويره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حكمه والإستدارك وَرَأى نَفسه أورع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا وَهُوَ يقر أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ وَبِه اهْتَدَى وَبِه عرف الدّين ولولاه لَكَانَ حمارا أَو أضلّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأما الطَّائِفَة المصوبة للقاعدين فَإِن من لم يلح لَهُ الْحق مِنْهُم فَإِنَّمَا يكلم حَتَّى يبين لَهُ الْحق فَيلْزمهُ الْمصير الذيه فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه قد صَحَّ وَوَجَب فرض الْإِمَامَة بِمَا ذكرنَا قبل فِي إِيجَاب الْإِمَامَة وَإِذ هِيَ فرض فَلَا يجوز تَضْييع الْفَرْض وَإِذ ذَلِك كلك فالمبادرة إِلَى تَقْدِيم إِمَام عِنْد موت الإِمَام فرض وَاجِب وَقد ذكرنَا وجوب الإئتمام بِالْإِمَامِ فَإذْ هَذَا كُله كَمَا كرنا فَإذْ مَاتَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الإِمَام فَفرض إِقَامَة إِمَام ياتم بِهِ النَّاس لِئَلَّا يبقوا بِلَا إِمَام فَإِذا فَإذْ بَادر عَليّ فَبَايعهُ وَاحِد من الْمُسلمين فَصَاعِدا فَهُوَ إِمَام قَائِم فَفرض طَاعَته لَا سِيمَا وَلم يتَقَدَّم ببيعته بيعَة وَلم ينازعه الْإِمَامَة أحد فَهَذَا أوضح وواجب فِي وجوب إِمَامَته وَصِحَّة بيعَته وَلُزُوم أَمرته للْمُؤْمِنين فَهُوَ الإِمَام بِحقِّهِ وَمَا ظهر مِنْهُ قطّ إِلَى أَن مَاتَ رَضِي الله عَنهُ شَيْء يُوجب نقض بيعَته وَمَا ظهر مِنْهُ قطّ إِلَّا الْعدْل وَالْجد وَالْبر وَالتَّقوى كَمَا لَو سبقت بيعَة طَلْحَة أَو الزبير أَو سعد أَو سعيدا أَو من يسْتَحق الْإِمَامَة لكَانَتْ أَيْضا بيعَة حق لَازِمَة لعَلي وَلغيره وَلَا فرق فعلي مُصِيب فِي الدُّعَاء إِلَى نَفسه وَإِلَى(4/122)
الدُّخُول تَحت أمامته وَهَذَا برهَان لَا محيد عَنهُ وَأما أم الْمُؤمنِينَ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن كَانَ مَعَهم فَمَا أبطلوا قطّ إِمَامَة عَليّ وَلَا طعنوا فِيهَا وَلَا ذكرُوا فِيهِ جرحة تحطه عَن الْإِمَامَة وَلَا أَحْدَثُوا إِمَامَة أُخْرَى وَلَا جددوا بيعَة لغيره هَذَا مَا لَا يقدر أَن يَدعِيهِ أحد بِوَجْه من الْوُجُوه بل يقطع كل ذِي علم على أَن كل لَك لم يكن فَإذْ لَا شكّ فِي كل هَذَا فقد صَحَّ صِحَة ضَرُورِيَّة لَا إِشْكَال فِيهَا أَنهم لم يمضوا إِلَى الْبَصْرَة لِحَرْب عَليّ وَلَا خلافًا عَلَيْهِ وَلَا نقضا لبيعته وَلَو أَرَادوا ذَلِك لأحدثوا بيعَة غير بيعَته هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ أحد وَلَا يُنكره أحد فصح أَنهم إِنَّمَا نهضوا إِلَى الْبَصْرَة لسد الفتق الْحَادِث فِي الْإِسْلَام من قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ظلما وبرهان ذَلِك أَنهم اجْتَمعُوا وَلم يقتتلوا وَلَا تَحَارَبُوا فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل عرف قتلة عُثْمَان إِلَّا أَن الاراغة وَالتَّدْبِير عَلَيْهِم فبينوا عَسْكَر طَلْحَة وَالزُّبَيْر وبذلوا السَّيْف فيهم فَدفع الْقَوْم عَن أنفسهم فِي دَعْوَى حَتَّى خالطوا عَسْكَر عَليّ فَدفع أَهله عَن أنفسهم وكل طَائِفَة تظن وَلَا شكّ أَن الْأُخْرَى بَدَأَ بهَا بِالْقِتَالِ وَاخْتَلَطَ الْأَمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أَكثر من الدفاع عَن نَفسه والفسقة من قتلة عُثْمَان لَا يغترون من شن الْحَرْب وأضر أمه فكلتا الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيبَة فِي غرضها ومقصدها مدافعة عَن نَفسهَا وَرجع الزبير وَترك الْحَرْب بِحَالِهَا وأتى طَلْحَة سهم غاير وَهُوَ قَائِم لَا يدْرِي حَقِيقَة ذَلِك الِاخْتِلَاط فصادف جرحا فِي سَاقه كَانَ أَصَابَهُ يَوْم أحد بَين يدْرِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْصَرف وَمَات من وقته رَضِي الله عَنهُ وَقتل الزبير رَضِي الله عَنهُ بوادي السبَاع على أقل من يَوْم من الْبَصْرَة فَهَكَذَا كَانَ الْأَمر وَكَذَلِكَ كَانَ قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا حاصره المصريون وَمن لف لفهم يديرونه على إِسْلَام مَرْوَان إِلَيْهِم وَهُوَ رَضِي الله عَنهُ يَأْبَى من ذَلِك وَيعلم أَنه إِن أسلمه قتل دون تثبت فَهُوَ على ذَلِك وجماعات من الصَّحَابَة فيهم الْحسن وَالْحُسَيْن ابْنا عَليّ وَعبد الله بن الزبير وَمُحَمّد بن طَلْحَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن عمر وَغَيرهم فِي نَحْو سَبْعمِائة من الصَّحَابَة وَغَيرهم مَعَه فِي الدَّار يحمونه وينفلتون إِلَى الْقِتَال فيردعهم تشتا إِلَى أَن تسوروا عَلَيْهِ من خوخة فِي دَار ابْن حزم النَّصَارَى جَاره غيلَة فَقَتَلُوهُ وَلَا خبر من ذَلِك عِنْد أحد لعن الله من قَتله والراضين بقتْله فَمَا رَضِي أحد مِنْهُم قطّ بقتْله وَلَا علمُوا أَنه يُرَاد قَتله لِأَنَّهُ لم يَأْتِ مِنْهُ شَيْء يُبِيح الدَّم الْحَرَام وَأما قَوْله من قَالَ أَنه رَضِي الله عَنهُ أَقَامَ مطروحاً على مزبلة ثَلَاثَة أَيَّام فكذب بحت وأفك مَوْضُوع وتوليد من لَا حَيَاء فِي وَجهه بل قتل عَشِيَّة وَدفن من ليلته رَضِي الله عَنهُ شهد دَفنه طَائِفَة من الصَّحَابَة وهم جُبَير بن مطعم وَأَبُو الجهم بن حيفة وَعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وَجَمَاعَة غَيرهم هَذَا مِمَّا لَا يتمادى فِيهِ أحد مِمَّن لَهُ علم بالأخبار وَلَقَد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي أجساد قَتْلَى الْكفَّار من قُرَيْش يَوْم بدر فِي القليب وَألقى التُّرَاب عَلَيْهِم وهم شَرّ خلق الله تَعَالَى وَأمر عَلَيْهِ السَّلَام أَن يحْفر أخاديد لقتلى يهود قُرَيْظَة وهم شَرّ من وارته الأَرْض فمواراة الْمُؤمن وَالْكَافِر فرض على الْمُسلمين فَكيف يجوز لذَلِك حَيَاء فِي وَجهه أَن ينْسب إِلَى عَليّ وَهُوَ الإِمَام وَمن بِالْمَدِينَةِ من الصَّحَابَة أَنهم تركُوا رجلا مَيتا ملقى بَين أظهرهم على مزبلة لَا يوارونه وَلَا نبالي مُؤمنا كَانَ أَو كَافِرًا وَلَكِن الله يَأْبَى إِلَّا أَن يفضح الْكَذَّابين بألسنتهم وَلَو فعل هَذَا عَليّ لكَانَتْ جرحة لِأَنَّهُ لَا يخلوا إِن يكون عُثْمَان كَافِرًا أَو فَاسِقًا أَو مُؤمنا فَإِن كَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا عِنْده فقد كَانَ فرضا على عَليّ أَن يفْسخ أَحْكَامه فِي الْمُسلمين فَإِذا لم يفعل فقد صَحَّ أَنه كَانَ مُؤمنا عِنْده فَكيف يجوز أَن ينْسب ذُو حَيَاء إِلَى عَليّ أَنه ترك مُؤمنا مطروحا مَيتا على مزبلة لَا يَأْمر بموارته(4/123)
أم كَيفَ يجوز أَن يَظُنّهُ بِهِ أَنه أنفذ أَحْكَام كَافِر أَو فَاسق على أهل الْإِسْلَام مَا أحد أَسْوَأ ثَنَاء على عَليّ من هَؤُلَاءِ الكذبة الفجرة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبُرْهَان على صِحَة مَا قُلْنَاهُ أَن من الْجَهْل الفاضح أَن يظنّ ظان أَن عليا رَضِي الله عَنهُ بلغ من التَّنَاقُض فِي أَحْكَامه وإتباع الْهوى فِي دينه وَالْجهل أَن يتْرك سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر وَأُسَامَة بن زيد وَزيد بن ثَابت بن حسان وَرَافِع بن خديج وَمُحَمّد بن مسلمة وَكَعب بن مَالك وَسَائِر الصَّحَابَة الَّذين لم يبايعوه فَلَا يجهزهم عليا وهم مَعَه فِي الْمَدِينَة وَغَيرهَا نعم والخوارج وَهُوَ يصيحون فِي نواحي الْمَسْجِد بِأَعْلَى أَصْوَاتهم بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ على الْمِنْبَر فِي مَسْجِد الْكُوفَة لَا حكم إِلَّا الله لَا حكم إِلَّا الله فَيَقُول لَهُم رَضِي الله عَنهُ لكم علينا ثَلَاث لَا نمنعكم الْمَسَاجِد وَلَا نمنعكم حقكم من الْفَيْء وَلَا نبدوكم بِقِتَال أَو لم يبْدَأ بِحَرب حَتَّى قتلوا عبد الله بن خباب ثمَّ لم يقاتلهم بعد ذَلِك حَتَّى دعاهم إِلَى أَن يسلمُوا الذيه قتلة عبد الله بن خباب فَلَمَّا قَالُوا كلنا قَتله قَاتلهم حِينَئِذٍ ثمَّ يظنّ بِهِ مَعَ هَذَا كُله أَنه يُقَاتل أهل الْجَهْل لامتناعهم من بيعَته هَذَا إفْك وجنون مختلق بحت بِلَا شكّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما أَمر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فبخلاف ذَلِك وَلم يقاتله عَليّ رَضِي الله عَنهُ لامتناعه من بيعَته لِأَنَّهُ كَانَ يَسعهُ فِي ذَلِك مَا وسع ابْن عمر وَغَيره لَكِن قَاتله لامتناعه من إِنْفَاذ أوامره فِي جَمِيع أَرض الشَّام وَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته فعلي الْمُصِيب فِي هَذَا وَلم يُنكر مُعَاوِيَة قطّ فضل عَليّ واستحقاقه الْخلَافَة لَكِن اجْتِهَاده اداه إِلَى أَن رأى تَقْدِيم أَخذ الْقود من قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ على الْبيعَة وَرَأى نَفسه أَحَق بِطَلَب دم عُثْمَان وَالْكَلَام فِيهِ عَن ولد عُثْمَان وَولد الحكم ابْن أبي الْعَاصِ لسنه ولقوته على الطّلب بذلك كَمَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعبد الرَّحْمَن بن سهل أَخا عبد الله بن سهل الْمَقْتُول بِخَيْبَر بِالسُّكُوتِ وَهُوَ أَخُو الْمَقْتُول وَقَالَ لَهُ كبر كبر وروى الْكبر الْكبر فَسكت عبد الرَّحْمَن وَتكلم محيصة وحويصة أَبنَاء مَسْعُود وهما ابْنا عَم الْمَقْتُول لِأَنَّهُمَا كَانَا أسن من أَخِيه فَلم يطْلب مُعَاوِيَة من ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ لَهُ من الْحق أَن يَطْلُبهُ وَأصَاب فِي ذَلِك الْأَثر الَّذِي ذكرنَا وَإِنَّمَا أَخطَأ فِي تَقْدِيمه ذَلِك على الْبيعَة فَقَط فَلهُ أجر الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك وَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِيمَا حرم من الْإِصَابَة كَسَائِر المخطئين فِي اجتهادهم الَّذين أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُم أجرا وَاحِدًا وللمصيب أَجْرَيْنِ وَلَا عجب أعجب مِمَّن يُجِيز الِاجْتِهَاد فِي الدِّمَاء وَفِي الْفروج والأنساب وَالْأَمْوَال والشرائع الَّتِي يدان الله بهَا من تَحْرِيم وَإِيجَاب ويعذر المخطئين فِي ذَلِك وَيرى لَك مُبَاحا لليث والبتي أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَدَاوُد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَغَيرهم كزفر وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَالْحسن بن زِيَاد وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَابْن الْمَاجشون والمزني وَغَيرهم فواحد من هَؤُلَاءِ يُبِيح دم هَذَا الْإِنْسَان وَآخر مِنْهُم يحرمه كمن حَارب وَلم يقتل أَو عمل عمل قوم لوط وَغير هَذَا كثير وَوَاحِد مِنْهُم يُبِيح هَذَا الْفرج وَآخر مِنْهُم يحرمه كبكرا نَكَحَهَا أَبوهَا وَهِي بَالِغَة عَاقِلَة بِغَيْر إِذْنهَا وَلَا رِضَاهَا وَغير هَذَا كثير وَكَذَلِكَ فِي الشَّرَائِع والأوامر والأنساب وَهَكَذَا فعلت الْمُعْتَزلَة بشيوخهم كواصل وَعَمْرو وَسَائِر شيوخهم وفقهائهم وَهَكَذَا فعلت الْخَوَارِج بفقهائهم ومفتيهم ثمَّ يضيقون ذَلِك على من لَهُ الصُّحْبَة وَالْفضل وَالْعلم والتقدم وَالِاجْتِهَاد كمعاوية وعمروا وَمن مَعَهُمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ وَإِنَّمَا اجْتهد فِي مسَائِل دِمَاء كَالَّتِي اجْتهد فِيهَا الْمفْتُون وَفِي الْمُفْتِينَ من يرى قتل السَّاحر وَفِيهِمْ من لَا يرَاهُ وَفِيهِمْ من يرى(4/124)
قتل الْحر بِالْعَبدِ وَفِيهِمْ من يرى قتل الْمُؤمن بالكافر وَفِيهِمْ من لَا يرَاهُ فَأَي فرق بَين هَذِه الاجتهادات واجتهاد مُعَاوِيَة وَعَمْرو وَغَيرهمَا لَوْلَا الْجَهْل والعمى والتخليط بِغَيْر علم وَقد علمنَا أَن من لزمَه حق وَاجِب وَامْتنع من أَدَائِهِ وَقَاتل دونه فَإِنَّهُ يجب على الإِمَام أَن يقاتله وَإِن كَانَ منا وَلَيْسَ ذَلِك بمؤثر فِي عَدَالَته وفضله وَلَا بمحب لَهُ فبالمقابل هُوَ مأجور لإجهاده وَنِيَّته فِي طلب الْخَيْر فَبِهَذَا قَطعنَا على صَوَاب عَليّ رَضِي الله عه وَصِحَّة أَمَانَته وَأَنه صَاحب الْحق وَإِن لَهُ أَجْرَيْنِ أجر الِاجْتِهَاد وَأجر الْإِصَابَة وقطعنا أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَمن مَعَه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا وَاحِدًا وَأَيْضًا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر عَن مارقة تمرق بَين طائفتين من أمته يَقْتُلهَا أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فمرقت تِلْكَ المارقة وهم الْخَوَارِج من أَصْحَاب عَليّ وَأَصْحَاب مُعَاوِيَة فَقَتلهُمْ عَليّ وَأَصْحَابه فصح أَنهم أولي الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَأَيْضًا الْخَبَر الصَّحِيح من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقتل عمارا الفئة الباغية
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) الْمُجْتَهد الْمُخطئ إِذا قَاتل على مَا يرى أَنه الْحق قَاصِدا إِلَى الله تَعَالَى نِيَّته غير عَالم بِأَنَّهُ مُخطئ فَهُوَ باعثه وان كَانَ مأجور أَو لَا حد عَلَيْهِ إِذا ترك الْقَاتِل وَلَا قَود وَأما إِذا قَاتل وَهُوَ يدْرِي أَنه مُخطئ فَهَذَا الْمُحَارب تلْزمهُ الْمُحَاربَة والقود وَهَذَا يفسق وَيخرج لَا الْمُجْتَهد الْمُخطئ وَبَيَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة فأصلحوا بَين أخويكم} فَهَذَا نَص قَوْلنَا دون تكلّف تَأْوِيل وَلَا زَوَال عَن مُوجب ظَاهر الْآيَة وَقد سماهم الله عز وَجل مُؤمنين باغين بَعضهم أخوة بعض فِي حِين تقَاتلهمْ وَأهل الْعدْل المبغي عَلَيْهِم والمأمورين بالإصلاح بَينهم وَبينهمْ وَلم يصفهم عز وَجل بفسق من أجل ذَلِك التقاتل وَلَا ينقص إِيمَان وَإِنَّمَا هم مخطئون باغون وَلَا يُرِيد وَاحِدًا مِنْهُم قتل آخر وَعمر رَضِي الله عَنهُ قَتله أَبُو العادية يسَار ابْن سبع السّلمِيّ شهد بيعَة الرضْوَان فَهُوَ من شُهَدَاء الله لَهُ بِأَنَّهُ علم مَا فِي قلبه وَأنزل السكينَة عَلَيْهِ وَرَضي عَنهُ فَأَبُو العادية رَضِي الله عَنهُ متأول مُجْتَهد مُخطئ فِيهِ بَاغ عَلَيْهِ مأجور آجرا وَاحِدًا وَلَيْسَ هَذَا كقتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لأَنهم لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِي قَتله لِأَنَّهُ لم يقتل أحدا وَلَا حَارب وَلَا قَاتل وَلَا دَافع وَلَا زنى بعد إِحْسَان وَلَا ارْتَدَّ فيسوغ الْمُحَاربَة تَأْوِيل بل هم فساق محاربون سافكون دَمًا حَرَامًا عمدا بِلَا تَأْوِيل على سَبِيل الظُّلم والعدوان فهم فساق مَلْعُون
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإذْ قد بَطل هَذَا الْأَمر وَصَحَّ أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق فالأحاديث الَّتِي فِيهَا الْتِزَام الْبيُوت وَترك الْقِتَال إِنَّمَا هُوَ بِلَا شكّ فِيمَن لم يلح لَهُ يَقِين الْحق أَيْن هُوَ وَهَكَذَا نقُول فَإِذا تبين الْحق فقتال الفئة الباغية فرض بِنَصّ الْقُرْآن وَكَذَلِكَ ان كَانَتَا مَعًا باغيتين فقتالهما وَاجِب لِأَن كَلَام الله عز وَجل لَا يُعَارض كَلَام نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كُله من عِنْد الله عز وَجل قَالَ الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ عز وَجل {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح يَقِينا أَن كل مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَحي من عِنْد الله عز وَجل وَإِذ هُوَ كَذَلِك فَلَيْسَ شئ مِمَّا عِنْد الله تَعَالَى مُخْتَلفا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَلم يبْق إِلَّا الْكَلَام على الْوُجُوه الَّتِي اعْترض بهَا من رأى قتال عَليّ رَضِي الله عَنهُ(4/125)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أما قَوْلهم إِن أَخذ الْقود وَاجِب من قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ المحار بَين لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الساعين فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ والهاتكين حُرْمَة الْإِسْلَام وَالْحرم وَالْأَمَانَة وَالْهجْرَة والخلافة والصحبة والسابقة فَنعم وَمَا خالفهم قطّ عَليّ فِي ذَلِك وَلَا فِي البرآءة مِنْهُم وَلَكنهُمْ كَانُوا عددا ضخما جمالا طَاقَة لَهُ عَلَيْهِم فقد سقط عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَالا يَسْتَطِيع عَلَيْهِ كَمَا سقط عَنهُ وَعَن كل مُسلم مَا عجز عَنهُ من قيام بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج وَلَا فرق قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِشَيْء فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَلَو أَن مُعَاوِيَة بَايع عليا لقوي بِهِ على احذ الْحق من قتلة عُثْمَان فصح أَن الِاخْتِلَاف هُوَ الَّذِي أَضْعَف يَد عَليّ عَن إنقاذ الْحق عَلَيْهِم وَلَوْلَا ذَلِك لأنقذ الْحق عَلَيْهِم كَمَا أنقذه على قتلة عبد الله بن خباب إِذْ قدر على مُطَالبَة قتلته وَأما تأسي مُعَاوِيَة فِي امْتِنَاعه من بيعَة عَليّ بتأخر عَليّ عَن بيعَة أبي بكر فَلَيْسَ فِي الْخَطَأ أُسْوَة وَعلي استقال وَرجع وَبَايع بعد يسير فَلَو فعل مُعَاوِيَة مثل ذَلِك لأصاب ولبايع حِينَئِذٍ بِلَا شكّ كل من امْتنع من الصَّحَابَة من الْبيعَة من أجل الْفرْقَة وَأما تقَارب مَا بَين عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد فَنعم وَلَكِن من سبقت بيعَته وَهُوَ من أهل الِاسْتِحْقَاق والخلافة فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته فِيمَا أَمر بِهِ من طَاعَة الله عز وَجل سوآء كَانَ هُنَالك من هُوَ مثله أَو أفضل كَمَا سبقت بيعَة عُثْمَان فَوَجَبت طَاعَته وإمامته على غَيره وَلَو بُويِعَ هُنَالك حِينَئِذٍ وَقت الشورى عَليّ أَو طَلْحَة أَو الزبير أَو عبد الرَّحْمَن أَو سعد لَكَانَ الإِمَام وللزمت عُثْمَان طَاعَته وَلَا فرق فصح أَن عليا هُوَ صَاحب الْحق وَالْإِمَام المفترضة طَاعَته وَمُعَاوِيَة مُخطئ مأجور مُجْتَهد وَقد يخفى الصَّوَاب على الصاحب الْعَالم فِيمَا هُوَ أبين وأوضح من هَذَا الْأَمر من أَحْكَام الدّين فَرُبمَا رَجَعَ إِذْ استبان لَهُ وَرُبمَا لم يستبن لَهُ حق يَمُوت عَلَيْهِ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه عز وَجل وَهُوَ الْمَسْئُول الْعِصْمَة وَالْهِدَايَة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) نطلب على حَقه نُقَاتِل عَلَيْهِ وَقد كَانَ تَركه ليجمع كلمة الْمُسلمين كَمَا فعل الْحسن ابْنه رَضِي الله عَنْهُمَا فَكَانَ لَهُ بذلك فضل عَظِيم قد تقدم بِهِ إنذار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ ابْني هَذَا سيد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ طائفتين عظيمتين من أمتِي فغبطه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَمن ترك حَقه رَغْبَة فِي حقن دِمَاء الْمُسلمين فقد أَتَى من الْفضل بِمَا لَا وَرَاء وَلَا لوم عَلَيْهِ بل هُوَ مُصِيب فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي إِمَامَة الْمَفْضُول
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهبت طوائف من الْخَوَارِج وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من المرجئة مِنْهُم مُحَمَّد بن الطّيب ألبا فلاني وَمن اتبعهُ وَجَمِيع الرافضة من الشِّيعَة إِلَى أَنه لَا يجوز إِمَامَة من يُوجد فِي النَّاس أفضل مِنْهُ وَذَهَبت طَائِفَة من الْخَوَارِج وَطَائِفَة من الممتزلة وَطَائِفَة من المرجئة وَجَمِيع الزيدية من الشِّيعَة وَجَمِيع أهل السّنة إِلَى أَن الْإِمَامَة جَائِزَة لمن غَيره أفضل مِنْهُ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَأما الرافضة فَقَالُوا أَن الإِمَام وَاجِد مَعْرُوف بِعَيْنِه فِي الْعَالم على مَا ذكرنَا من أَقْوَالهم الَّذِي قد تقدم إفسادنا لَهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَمَا نعلم لمن قَالَ أَن الإِمَام لَا تجوز إِلَّا لأَفْضَل من يُوجد حجَّة أصلا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من صِحَة عقل وَلَا من قِيَاس وَلَا قَول صَاحب وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ أَحَق قَول بالاطراح وَقد قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يَوْم السَّقِيفَة قد رضيت لكم أحدا هذَيْن الرجلَيْن يَعْنِي أَبَا عُبَيْدَة وَعمر وَأَبُو(4/126)
بكر أفضل مِنْهُمَا بِلَا شكّ فَمَا قَالَ أحد من الْمُسلمين أَنه قَالَ من ذَلِك بِمَا لَا يحل فِي الدّين ودعت الْأَنْصَار إِلَى بيعَة سعد بن عبَادَة وَفِي الْمُسلمين عدد كثير كلهم أفضل مِنْهُ بِلَا شكّ فصح بِمَا ذكرنَا إِجْمَاع جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول ثمَّ عبدهم عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى سِتَّة رجال وَلَا بُد أَن لبَعْضهِم على بعض فضلا وَقد أجمع أهل الْإِسْلَام حِينَئِذٍ على أَنه إِن بُويِعَ أحدهم فَهُوَ الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته وَفِي هَذَا إطباق مِنْهُم على جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول ثمَّ مَاتَ على رَضِي الله عَنهُ فَهُوَ فبويع الْحسن ثمَّ سلم الْأَمر إِلَى معوية وَفِي بقايا الصَّحَابَة من هُوَ أفضل مِنْهُمَا بِلَا خلاف مِمَّن أنْفق قبل الْفَتْح وَقَاتل فكلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم بَايع مُعَاوِيَة وَرَأى إِمَامَته وَهَذَا إِجْمَاع مُتَيَقن بعد إِجْمَاع على جَوَاز إِمَامَة من غَيره أفضل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ إِلَى أَن حدث من لَا وزن لَهُ عِنْد الله تَعَالَى فخرقوا الْإِجْمَاع بآرائهم الْفَاسِدَة بِلَا دَلِيل ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَالْعجب كُله كَيفَ يجْتَمع قَول الباقلاني أَنه لَا تجوز الْإِمَامَة لمن غَيره من النَّاس أفضل مِنْهُ وَهُوَ قد جوز النُّبُوَّة والرسالة لمن غَيره من النَّاس أفضل مِنْهُ فَإِنَّهُ صرح فِيمَا ذكره عَنهُ صَاحبه أَبُو جَعْفَر السمناني الْأَعْمَى قَاضِي الْموصل بِأَنَّهُ جَائِز أَن يكون فِي الْإِمَامَة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ بعث إِلَى أَن مَاتَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا فِي خذلان الله عز وَجل أَحَق من هَاتين القضيتين لَا سِيمَا إِذا اقترننا وَالْحَمْد لله على الْإِسْلَام فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ يحتجون هُنَا بقول الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم فِي دُعَائِهِمْ إِلَى سعد بن عبَادَة وَهُوَ عنْدكُمْ خطأ وَخلاف للنَّص مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيف تحتجون فِي هَذَا أَيْضا بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذَيْن وَخِلَافَة أبي بكر عنْدكُمْ نَص من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن أَيْن لَهُ أَن يتْرك مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن فعل الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم انتظم حكمين أَحدهمَا تَقْدِيم من لَيْسَ قرشياً وَهَذَا خطأ وَقد خالفهم فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ فَسَقَطت هَذِه الْقَضِيَّة وَالثَّانِي جَوَاز تَقْدِيم من غَيره أفضل مِنْهُ وَهَذَا صَوَاب وافقهم عَلَيْهِ أَبُو بكر وَغَيره فصاروا جماعا فَقَامَتْ بِهِ الْحجَّة وَلَيْسَ خطأ من أَخطَأ وَخَالفهُ فِي قَول وَخَالفهُ فِيهِ من أصَاب الْحق بِمُوجب أَن لَا يحْتَج بصوابه الَّذِي وَافقه فِيهِ أهل الْحق وَهَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما أَمر أبي بكر فَإِن الْحق كَانَ لَهُ بِالنَّصِّ وللمرء أَن يتْرك حَقه إِذا رأى فِي تَركه إصْلَاح ذَات بَين الْمُسلمين وَلَا فرق بَين عَطِيَّة أَعْطَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين منزلَة صبرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإِنْسَان فَكَانَ لَهُ أَن يتحافى عَنْهَا لغيره إِذْ لم يمنعهُ من ذَلِك نَص وَلَا إِجْمَاع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وبرهان صِحَة قَول من قَالَ بِأَن الْإِمَامَة جَائِزَة لمن غَيره أفضل مِنْهُ وَبطلَان قَول من خَالف ذَلِك أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يعرف الْأَفْضَل إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو معْجزَة تظهر فالمعجزة ممتنعة هَاهُنَا بِلَا خلاف وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ النَّص وبرهان آخر وَهُوَ أَن الَّذِي كلفوا بِهِ من معرفَة الْأَفْضَل مُمْتَنع حَال لن قُريْشًا مفترقون فِي الْبِلَاد من أقْصَى السَّنَد إِلَى أقْصَى الأندلس إِلَى أقْصَى الْيمن وصحاري البربر إِلَى أقْصَى أرمينية وأذربيجان وخراسان فَمَا بَين ذَلِك من الْبِلَاد فمعرفة أسمائهم مُمْتَنع فَكيف معرفَة أَحْوَالهم فَكيف معرفَة أفضلهم وبرهان آخر وَهُوَ أَنا بالحس والمشاهدة نَدْرِي أَنه لَا يدْرِي أحد فضل إِنْسَان على غَيره مِمَّن(4/127)
بعد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا بِالظَّنِّ وَالْحكم بِالظَّنِّ لَا يحل قَالَ الله تَعَالَى ذاماً لقوم {إِن نظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن بمستيقنين} وَقَالَ تَعَالَى {مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} وَقَالَ تَعَالَى {قتل الخراصون} وَقَالَ تَعَالَى {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى أم للْإنْسَان مَا تمنى} وَقَالَ تَعَالَى {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وَأَيْضًا فإننا وجدنَا النَّاس يتباينون فِي الْفَضَائِل فَيكون الْوَاحِد أزهد وَيكون الْوَاحِد أورع وَيكون الآخر أسوس وَيكون الرَّابِع أَشْجَع وَيكون الْخَامِس أعلم وَقد يكونُونَ متقاربين فِي التَّفَاضُل لَا يبين التَّفَاوُت بَينهم فَبَطل معرفَة الْأَفْضَل وَصَحَّ أَن هَذَا القَوْل فَاسد وتكليف مَا لَا يُطَاق وإلزام مَا لَا يُسْتَطَاع وَهَذَا بَاطِل لَا يحل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ قد وجدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قلد النواحي وَصرف تَنْفِيذ جَمِيع الْأَحْكَام الَّتِي تنفذها الْأَئِمَّة إِلَى قوم كَانَ غَيرهم بِلَا شكّ أفضل مِنْهُم فَاسْتعْمل على أَعمال الْيمن معَاذ بن جبل وَأَبا مُوسَى وخَالِد بن الْوَلِيد وَعلي عمان عَمْرو بن الْعَاصِ وعَلى نَجْرَان أَبَا سُفْيَان وعَلى مَكَّة عتاب ابْن أسيد وعَلى الطَّائِف عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وعَلى الْبَحْرين الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَلَا خلاف فِي أَن أَبَا بكر وَعَمْرو وَعُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر بن عمار بن يَاسر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأَبا عُبَيْدَة وَابْن مَسْعُود وبلال وَأَبا ذَر أفضل مِمَّن ذكرنَا فصح يَقِينا أَن الصِّفَات الَّتِي يسْتَحق بهَا الْإِمَامَة والخلافة لَيْسَ مِنْهَا التَّقَدُّم فِي الْفضل وَأَيْضًا فَإِن الْفَضَائِل كَثِيرَة جدا مِنْهَا الْوَرع والزهد وَالْعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة وَالصَّبْر والصرامة وَغير ذَلِك وَلَا يُوجد أحد يبين فِي جَمِيعهَا بل يكون بَائِنا فِي بَعْضهَا ومتأخراً فِي بَعْضهَا فَفِي أَيهَا يُرَاعِي الْفضل من لَا يُجِيز إِمَامَة الْمَفْضُول فَإِن اقْتصر على بَعْضهَا كَانَ مُدعيًا بِلَا دَلِيل وَإِن عَم جَمِيعهَا كلف من لَا سَبِيل إِلَى وجوده أبدا فِي أحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ القَوْل فِي إِمَامَة الْمَفْضُول وَبَطل قَول من قَالَ غير ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَذكر الباقلاني فِي شُرُوط الْإِمَامَة أَنَّهَا أحد عشر شرطا وَهَذَا أَيْضا دَعْوَى بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل فَوَجَبَ أَن ينظر فِي شُرُوط الْإِمَامَة الَّتِي لَا تجوز الْإِمَامَة لغير من هن فِيهِ فَوَجَدْنَاهَا أَن يكون صليبة من قُرَيْش لإخبار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْإِمَامَة فيهم وَأَن يكون بَالغا مُمَيّزا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث فَذكر الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم وَالْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَأَن يكون رجلا لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفلح قوم أسندوا أَمرهم إِلَى امْرَأَة وَأَن يكون مُسلما لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} والخلافة أعظم السَّبِيل ولأمره تَعَالَى باصغار أهل الْكتاب وَأَخذهم بأَدَاء الْجِزْيَة وَقتل من لم يكن من أهل الْكتاب حَتَّى يسلمُوا وَأَن يكون مُتَقَدما لأَمره عَالما بِمَا يلْزمه من فَرَائض الدّين متقياً لله تَعَالَى بِالْجُمْلَةِ غير معلن بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} لِأَن من قدم من لَا يَتَّقِي الله عز وَجل وَلَا فِي شَيْء من الْأَشْيَاء مُعْلنا بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض غير مَأْمُون أَو من لَا ينفذ أمرا من لَا يدْرِي شَيْئا من دينه فقد أعَان على الْإِثْم والعدوان وَلم يعن على الْبر وَالتَّقوى وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ ورد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَا أَبَا ذَر إِنَّك ضَعِيف لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين مَال يَتِيم وَقَالَ تَعَالَى(4/128)
{فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا} الْآيَة فصح أَن السَّفِيه والضعيف وَمن لَا يقدر على شَيْء فَلَا بُد لَهُ من ولي وَمن لَا بُد لَهُ من ولي فَلَا يجوز أَن يكون وليا للْمُسلمين فصح أَن ولَايَة من لم يستكمل هَذِه الشُّرُوط الثَّمَانِية بَاطِل لَا يجوز وَلَا ينْعَقد أصلا ثمَّ يسْتَحبّ أَن يكون عَالما بِمَا يَخُصُّهُ أُمُور الدّين من الْعِبَادَات والسياسة وَالْأَحْكَام مُؤديا لفرائض كلهَا لَا يخل بِشَيْء مِنْهَا مجتنباً لجَمِيع الْكَبَائِر سرا وجهراً مستتراً بالصغائر إِن كَانَت مِنْهُ فَهَذِهِ أَربع صِفَات يكره الْمَرْء أَن يَلِي الْأمة من لم ينتظمها فَإِن ولي فولايته صَحِيحَة ونكرهها وطاعته فِيمَا أطَاع الله فِيهِ وَاجِبَة وَمنعه مِمَّا لم يطع الله فِيهِ وَاجِب والغاية المأهولة فِيهِ أَن يكون رَفِيقًا بِالنَّاسِ فِي غير ضعف شَدِيدا فِي إِنْكَار الْمُنكر من غير عف وَلَا تجَاوز للْوَاجِب مستيقظاً غير غافل شُجَاع النَّفس غير مَانع لِلْمَالِ فِي حَقه وَلَا مبذر لبه فِي غير حَقه وَيجمع هَذَا كُله أَن يكون الإِمَام قَائِما بِأَحْكَام الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا يجمع كل فَضِيلَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا يضر الإِمَام أَن يكون فِي خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم وَالَّذِي لَا يدان لَهُ وَلَا رجلَانِ وَمن بلغ الْهَرم مَا دَامَ يعقل وَلَو أَنه ابْن مائَة عَام وَمن يعرض لَهُ الصرع ثمَّ يفِيق وَمن بُويِعَ أثر بُلُوغه الْحلم وَهُوَ مستوف لشروط الْإِمَامَة فَكل هَؤُلَاءِ إمامتهم جَائِزَة إِذْ لم يمْنَع مِنْهَا نَص قُرْآن وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا نظر وَلَا دَلِيل أصلا بل قَالَ تَعَالَى {كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ} فَمن قَامَ بِالْقِسْطِ فقد ادى مَا أَمر بِهِ وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنه لَا يجوز التَّوَارُث فِيهَا وَلَا فِي أَنَّهَا لَا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فَإِنَّهُم أَجَازُوا كلا الْأَمريْنِ وَلَا خلاف بَين أحد فِي أَنَّهَا لَا تجوز لامْرَأَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
الْكَلَام فِي عقد الْإِمَامَة بِمَاذَا تصح
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهب قوم إِلَى أَن الْإِمَامَة لَا تصح إِلَّا بِإِجْمَاع فضلاء الْأمة فِي أقطار الْبِلَاد وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْإِمَامَة إِنَّمَا تصح بِعقد أهل حَضْرَة الإِمَام والموضع الَّذِي فِيهِ قَرَار الْأَئِمَّة وَذهب أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي إِلَى أَن الإِمَام لَا تصح بِأَقَلّ من عقد خمس رجال وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن عقد الْإِمَامَة تصح بِعَهْد من الإِمَام الْمَيِّت إِذا قصد فِيهِ حسن الِاخْتِيَار للْأمة عِنْد مَوته وَلم يقْصد بذلك هوي وَقد ذكر فِي فَسَاد قَول الروافض وَقَول الكيسانية وَمن ادّعى إِمَامَة رجل بِعَيْنِه وأنبأ أَن كل ذَلِك دَعَا وَلَا يعجز عَنْهَا ذُو لِسَان إِذا لم يتق الله وَلَا استحياء من النَّاس إِذْ لَا دَلِيل على شَيْء مِنْهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) أما من قَالَ أَن الْإِمَامَة لَا تصح إِلَّا بِعقد فضلاء الْأمة فِي أقطار الْبِلَاد فَبَاطِل لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَمَا لَيْسَ فِي الوسع وَمَا هُوَ أعظم الْحَرج وَالله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسا وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَلَا حرج وَلَا تعجيز أَكثر من تعرف إِجْمَاع فضلاء من فِي المولتان والمنصورة إِلَى بِلَاد مهرَة إِلَى عدن إِلَى أقاصي المصامدة بل طنجة إِلَى الأشبونة إِلَى جزائر الْبَحْر إِلَى سواحل الشَّام إِلَى أرمينية وجبل القبج إِلَى اسينجاب وفرغانة واسروسنه إِلَى أقاصي خُرَاسَان إِلَى الْجَوْز جَان إِلَى كابل المولتان فَمَا بَين ذَلِك من المدن والقرى وَلَا بُد من ضيَاع أُمُور الْمُسلمين قبل أَن يجمع جُزْء من مائَة جُزْء من فضلاء أهل هَذِه الْبِلَاد فَبَطل هَذَا القَوْل الْفَاسِد مَعَ أَنه لَو كَانَ مُمكنا لما لزم لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} و {كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ}(4/129)
فهذان الْأَمْرَانِ متوجهان أَحدهمَا إِلَى كل إِنْسَان فِي ذَاته وَلَا يسْقط عَنهُ وجوب الْقيام بِالْقِسْطِ انْتِظَار غَيره فِي ذَلِك وَأما التعاون على الْبر وَالتَّقوى فمتوجه إِلَى كل اثْنَيْنِ فصعدا لِأَن التعاون فعل من فاعلين وَلَيْسَ فعل وَاحِد وَلَا يسْقط عَن الِاثْنَيْنِ فرض تعاونهما على الْبر وَالتَّقوى انْتِظَار ثَالِث إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما لزم أحدا قيام بقسط وَلَا تعاون على بر وتقوى إِذْ لَا سَبِيل إِلَى اجْتِمَاع أهل الأَرْض على ذَلِك أبدا لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عَن ذَلِك لعذر أَو على وَجه الْمعْصِيَة وَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ أَمر الله تَعَالَى بِالْقيامِ بِالْقِسْطِ وبالتعاون على الْبر وَالتَّقوى بَاطِلا فَارغًا وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام فَسقط القَوْل الْمَذْكُور وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَول من قَالَ أَن عقد الْإِمَامَة لَا يَصح إِلَّا بِعقد أهل حَضْرَة الإِمَام وَأهل الْموضع الَّذِي فِيهِ قَرَار الْأَئِمَّة فَإِن أهل الشَّام كَانُوا قد دعوا ذَلِك لأَنْفُسِهِمْ حَتَّى حملهمْ ذَلِك على بيعَة مَرْوَان وَابْنه عبد الْملك وَاسْتَحَلُّوا بذلك دِمَاء أهل الْإِسْلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهُوَ قَول فَاسد لَا حجَّة لأَهله وكل قَول فِي الدّين عرى عَن ذَلِك من الْقُرْآن أَو من سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من إِجْمَاع الْأمة الْمُتَيَقن فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين قَالَ الله تَعَالَى {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة قَوْله فَلَيْسَ صَادِقا فِيهِ فَسقط هَذَا القَوْل أَيْضا وَأما القَوْل الجبائي فَإِنَّهُ تعلق فِيهِ بِفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الشورى إِذْ قلدها سِتَّة رجال وَأمرهمْ أَن يختاروا وَاحِدًا مِنْهُم فَصَارَ الِاخْتِيَار مِنْهُم بِخَمْسَة فَقَط
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لوجوه أَولهَا أَن عمر لم يقل أَن تَقْلِيد الِاخْتِيَار أقل من خَمْسَة لَا يجوز بل قد جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن مَال ثَلَاثَة مِنْهُم إِلَى وَاحِد وَثَلَاثَة إِلَى وَاحِد فاتبعوا الثَّلَاثَة الَّذين فيهم عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف فقد أجَاز عقد ثَلَاثَة وَوجه ثَان وَهُوَ أَن فعل عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يلْزم الْأمة حَتَّى يُوَافق نَص قُرْآن أَو سنة وَعمر كَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يجوز أَن يَخُصُّهُ بِوُجُوب اتِّبَاعه دون غَيره من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالثَّالِث أَن أُولَئِكَ الْخَمْسَة رَضِي الله عَنْهُم قد تبرؤا من الِاخْتِيَار وجعلوه إِلَى وَاحِد مِنْهُم يخْتَار لَهُم وللمسلمين من رَآهُ أَهلا للْإِمَامَة وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمَا أنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة الْحَاضِرين وَلَا الغائبين إِذْ بَلغهُمْ ذَلِك فقد صَحَّ إِجْمَاعهم على أَن الْإِمَامَة تَنْعَقِد بِوَاحِد فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن خَمْسَة من فضلاء الْمُسلمين قلدوه قيل لَهُ إِن كَانَ هَذَا عنْدك اعتراضاً فالتزم مثله سَوَاء بِسَوَاء مِمَّن قَالَ لَك إِنَّمَا صَحَّ عقد أُولَئِكَ الْخَمْسَة لِأَن الإِمَام الْمَيِّت قلدهم ذَلِك وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز عقدهم وبرهان ذَلِك أَنه إِنَّمَا عقد لَهُم الِاخْتِيَار مِنْهُم لَا من غَيرهم لما لزم الانقياد لَهُم فَلَا يجوز عقد خَمْسَة أَو أَكثر إِلَّا إِذا قلدهم الإِمَام ذَلِك أَو مِمَّن قَالَ لَك إِنَّمَا صَحَّ عقد أُولَئِكَ الْخَمْسَة لإِجْمَاع فضلاء أهل ذَلِك الْعَصْر على الرِّضَا بِمن اختاروه وَلَو لم يجمعوا على الرِّضَا بِهِ لما جَازَ عقدهم وَهَذَا مِمَّا لَا مخلص مِنْهُ أصلا فَبَطل هَذَا القَوْل بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإذْ قد بطلت هَذِه الْأَقْوَال كلهَا قَالُوا أجب النّظر فِي ذَلِك على مَا أجبه الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَإِجْمَاع الْمُسلمين كَمَا افْترض علينا عز وَجل إِذْ يَقُول {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَوَجَدنَا عقد الْإِمَامَة يَصح بِوُجُوه أَولهَا وأفضلها وأصحها أَن يعْهَد الإِمَام الْمَيِّت إِلَى إِنْسَان يختاره أما بعد مَوته(4/130)
وساء فعل ذَلِك فِي صِحَّته أَو فِي مَرضه وَعند مَوته إِذْ لَا نَص وَلَا إِجْمَاع على الْمَنْع من أحد هَذِه الْوُجُوه كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي بكر وكما فعل أَبُو بكر بعمر وكما فعل سُلَيْمَان بن عبد الْملك بعمر بن عبد الْعَزِيز وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي نختاره ونكره غَيره لما فِي هَذَا الْوَجْه من اتِّصَال الْإِمَامَة وانتظام أَمر الْإِسْلَام وَأَهله وَرفع مَا يتخوف من الِاخْتِلَاف والشغب مِمَّا يتَوَقَّع فِي غَيره من بَقَاء الْأمة فوضى وَمن انتشار الْأَمر وارتفاع النُّفُوس وحدوث الأطماع
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) إِنَّمَا أنكر من أنكر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن التَّابِعين بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة والوليد وَسليمَان لأَنهم كَانُوا غير مرضيين لَا لِأَن الإِمَام عهد إِلَيْهِم فِي حَيَاته وَالْوَجْه الثَّانِي إِن مَاتَ الإِمَام وَلم يعْهَد إِلَى أحد أَن يُبَادر رجل مُسْتَحقّ للْإِمَامَة فيدعو إِلَى نَفسه وَلَا مُنَازع لَهُ فَفرض أَتْبَاعه والانقياد لبيعته والتزام إِمَامَته وطاعته كَمَا فعل عَليّ إِذْ قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا وكما فعل ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد فعل خَالِد بن الْوَلِيد إِذْ قتل الْأُمَرَاء زيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب وَعبد الله بن رَوَاحَة فَأخذ خَالِد الرَّايَة عَن غَيره أمره وَصوب ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بلغه فعله وساعد خَالِدا جَمِيع الْمُسلمين رَضِي الله عَنْهُم وَأَن يقوم كَذَلِك عِنْد ظُهُور مُنكر يرَاهُ فتلزم معاونته على الْبر وَالتَّقوى وَلَا يجوز التَّأَخُّر عَنهُ لِأَن ذَلِك معاونة على الْإِثْم والعدوان وَقد قَالَ عز وَجل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} كَمَا فعل يزِيد بن الْوَلِيد وَمُحَمّد بن هَارُون الْمهْدي رَحِمهم الله وَالْوَجْه الثَّالِث أَن يصير الإِمَام عِنْد وَفَاته اخْتِيَار خَليفَة الْمُسلمين إِلَى رجل ثِقَة أَو إِلَى أَكثر من وَاحِد كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ عِنْد مَوته وَلَيْسَ عندنَا فِي هَذَا الْوَجْه إِلَّا التَّسْلِيم لما أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ حِينَئِذٍ وَلَا يجوز التَّرَدُّد فِي الِاخْتِيَار أَكثر من ثَلَاث لَيَال للثابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله من بَات لَيْلَة لَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة وَلِأَن الْمُسلمين لم يجتمعوا على ذَلِك أَكثر من ذَلِك وَالزِّيَادَة على ذَلِك بَاطِل لَا يحل على أَن الْمُسلمين يَوْمئِذٍ من حِين موت عمر رَضِي الله عَنهُ قد اعتقدوا بيعَة لَازِمَة فِي أَعْنَاقهم لَازِمَة لأحد أُولَئِكَ السِّتَّة بِلَا شكّ فهم وَإِن لم يعرفوه بِعَيْنِه فَهُوَ بِلَا شكّ وَاحِد من أُولَئِكَ السِّتَّة فبأحد هَذِه الْوُجُوه تصح الْإِمَامَة وَلَا تصح بِغَيْر هَذِه الْوُجُوه الْبَتَّةَ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَإِن مَاتَ الإِمَام وَلم يعْهَد إِلَى إِنْسَان بِعَيْنِه فَوَثَبَ رجل يصلح للْإِمَامَة فَبَايعهُ وَاحِد فَأكْثر ثمَّ قَامَ آخر ينازعه وَلَو بطرفة عين بعده فَالْحق حق حق الأول وَسَوَاء كَانَ الثَّانِي أفضل مِنْهُ أَو مثله أَو دونه لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قوا بيعَة الأول فَالْأول من جَاءَ ينازعه فاضربوا عُنُقه كَائِنا من كَانَ فَلَو قَامَ اثْنَان فَصَاعِدا مَعًا فِي وَقت وَاحِد ويئس من معرفَة أَيهمَا بيعَته نظر أفضلهما وأسوسهما فَالْحق لَهُ وَوَجَب نزع الآخر لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَمن الْبر تَقْلِيد الاسوس وَلَيْسَ هَذَا بيعَة مُتَقَدّمَة يجب الْوَفَاء بهَا ومحاربة من نَازع صَاحبهَا فَإِن اسْتَويَا فِي الْفضل قدم الأسوس نعم وَإِن كَانَ أقل فضلا إِذا كَانَ مُؤديا للفرائض وَالسّنَن مجتنباً للكبائر ومستترا بالصغائر لِأَن الْغَرَض من الْإِمَامَة حسن السياسة وَالْقُوَّة على الْقيام بالأمور فَإِن اسْتَويَا فِي الْفضل والسياسة اقرع بَينهمَا أَو نظر فِي غَيرهمَا وَالله عز وَجل لَا يضيق على عباده هَذَا الضّيق وَلَا يوقفهم على هَذَا الْحَرج لقَوْله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَهَذَا أعظم الْحَرج وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق(4/131)
الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) اتّفقت الْأمة كلهَا على وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم لقَوْل الله تَعَالَى {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر} ثمَّ اخْتلفُوا فِي كيفيته فَذهب بعض أهل السّنة من القدماء من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمن بعدهمْ وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره وَهُوَ قَول سعد بن أبي وَقاص وَأُسَامَة ابْن زيد وَابْن عمر وَمُحَمّد بن مسلمة وَغَيرهم إِلَى أَن الْغَرَض من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ فَقَط وَلَا بَدَأَ وباللسان إِن قدر على ذَلِك وَلَا يكون بِالْيَدِ وَلَا بسل السيوف وَوضع السِّلَاح أصلا وَهُوَ قَول ابي بكر ابْن كيسَان الْأَصَم وَبِه قَالَت الروافض كلهم وَلَو قتلوا كلهم إِلَّا أَنَّهَا لم تَرَ ذَلِك إِلَّا مَا لم يخرج النَّاطِق فَإِذا خرج وَجب سل السيوف حِينَئِذٍ مَعَه وَإِلَّا فَلَا واقتدى أهل السّنة فِي هَذَا بعثمان رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّنْ ذكرنَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وبمن رأى الْقعُود مِنْهُم إِلَّا أَن جَمِيع الْقَائِلين بِهَذِهِ الْمقَالة من أهل السّنة إِنَّمَا رَأَوْا ذَلِك مَا لم يكن عدلا فَإِن كَانَ عدلا وَقَامَ عَلَيْهِ فَاسق وَجب عِنْدهم بِلَا خلاف سل السيوف مَعَ الإِمَام الْعدْل وَقد روينَا عَن ابْن عمرانة قَالَ لَا أَدْرِي من هِيَ الفئة الباغية وَلَو علمنَا مَا سبقتني أَنْت وَلَا غَيْرك إِلَى قتالها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الَّذِي لَا يظنّ بأولئك الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم غَيره وَذَهَبت طوائف من أهل السّنة وَجَمِيع الْمُعْتَزلَة وَجَمِيع الْخَوَارِج والزيدية إِلَى أَن سل السيوف فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَاجِب إِذا لم يُمكن دفع الْمُنكر إِلَّا بذلك قَالُوا فَإِذا كَانَ أهل الْحق فِي عِصَابَة يُمكنهُم الدّفع وَلَا ييئسون من الظفر فَفرض عَلَيْهِم ذَلِك وَإِن كَانُوا فِي عدد لَا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كَانُوا فِي سَعَة من ترك التَّغْيِير بِالْيَدِ وَهَذَا قَول عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وكل من مَعَه من الصَّحَابَة وَقَول أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وكل من كَانَ مَعَهم من الصَّحَابَة وَقَول مُعَاوِيَة وَعَمْرو والنعمان بن بشير وَغَيرهم مِمَّن مَعَهم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَهُوَ قَول عبد الله بن الزبير وَمُحَمّد وَالْحسن بن عَليّ وَبَقِيَّة الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والقائمين يَوْم الْحرَّة رَضِي الله عَن جَمِيعهم أَجْمَعِينَ وَقَول كل من أَقَامَ على الْفَاسِق الْحجَّاج وَمن وَالَاهُ من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم جَمِيعهم كأنس بن مَالك وكل من كَانَ مِمَّن ذكرنَا من أفاضل التَّابِعين كَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن البحتري الطَّائِي وَعَطَاء السّلمِيّ الْأَزْدِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك بن دِينَار وَمُسلم بن بشار وَأبي الْحَوْرَاء وَالشعْبِيّ وَعبد الله بن غَالب وَعقبَة بن عبد الغافر وَعقبَة بن صهْبَان وماهان والمطرف بن الْمُغيرَة ابْن شُعْبَة وَأبي الْمعد وحَنْظَلَة بن عبد الله وَأبي سح الْهنائِي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابْن السخير والنصر بن أنس وَعَطَاء بن السَّائِب وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد التَّيْمِيّ وَأبي الحوسا وجبلة بن زحر وَغَيرهم ثمَّ من بعد هَؤُلَاءِ من تَابِعِيّ التَّابِعين وَمن بعدهمْ كَعبد الله بن عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن عجلَان وَمن خرج مَعَ مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن وهَاشِم بن بشر ومطر وَمن أخرج مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله وَهُوَ الَّذِي تدل عَلَيْهِ أَقْوَال الْفُقَهَاء كَأبي حنيفَة وَالْحسن بن حييّ وَشريك وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد وأصحابهم فَإِن كل من ذكرنَا من قديم وَحَدِيث إِمَّا نَاطِق بذلك فِي فتواه وَإِمَّا الْفَاعِل لذَلِك بسل سَيْفه فِي إِنْكَار مَا رَآهُ مُنْكرا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) احتجت الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة أَولا بِأَحَادِيث فِيهَا انقاتلهم يَا رَسُول الله قَالَ لَا مَا وصلوا وَفِي بَعْضهَا إِلَّا أَن نر كفرا بواحاً عنْدكُمْ فِيهِ من الله برهَان وَفِي بَعْضهَا وجوب(4/132)
الضَّرْب وَإِن ضرب ظهر أَحَدنَا وَأخذ مَاله وَفِي بَعْضهَا فَإِن خشيت أَن يسهرك شُعَاع السَّيْف فاطرح ثَوْبك على وَجهك وَقل إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَفِي بَعْضهَا كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قرباناً فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من الآخر} الْآيَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لما قد تقصيناه غَايَة التَّقَصِّي خَبرا خَبرا بأسانيدها ومعانيها فِي كتَابنَا الموسوم بالاتصال إِلَى فهم معرفَة الْخِصَال وَنَذْكُر مِنْهُ إِن شَاءَ الله هَاهُنَا جملا كَافِيَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على أَخذ المَال وَضرب الظّهْر فَإِنَّمَا ذَلِك بِلَا شكّ إِذا تولى الإِمَام ذَلِك بِحَق وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ أَنه فرض علينا الصَّبْر لَهُ وَإِن امْتنع من ذَلِك بل من ضرب رقبته إِن وَجب عَلَيْهِ فَهُوَ فَاسق عَاص لله تَعَالَى وَإِمَّا إِن كَانَ ذَلِك بباطل فمعاذ الله أَن يَأْمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على ذَلِك برهَان هَذَا قَول الله عز وَجل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَقد علمنَا أَن كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُخَالف كَلَام ربه تَعَالَى قَالَ الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى أَن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح أَن كل مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَحي من عِنْد الله عز وَجل وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ وَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض فَإِذا كَانَ هَذَا كَذَلِك فيقين لَا شكّ فِيهِ يدْرِي كل مُسلم أَن أَخذ مَال مُسلم أَو ذمِّي بِغَيْر حق وَضرب ظَهره بِغَيْر حق إِثْم وعدوان وَحرَام قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ حرَام عَلَيْكُم فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا وَلَا اخْتِلَاف من أحد من الْمُسلمين فالمسلم مَاله للأخذ ظلما وظهره للضرب ظلما وَهُوَ يقدر على الِامْتِنَاع من ذَلِك بِأَيّ وَجه أمكنه معاون لظالمه على الْإِثْم والعدوان وَهَذَا حرَام بِنَصّ الْقُرْآن وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرنَا وقصة ابْني آدم فَلَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا أما قصَّة ابْني آدم فَتلك شَرِيعَة أُخْرَى غير شريعتنا قَالَ الله عز وَجل {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً} وَأما الْأَحَادِيث فقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ إِن اسْتَطَاعَ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان لَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الْإِيمَان شَيْء وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَاعَة فِي مَعْصِيّة إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الطَّاعَة وعَلى أحدكُم السّمع وَالطَّاعَة مَا لم يُؤمر بِمَعْصِيَة فَإِن أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد والمقتول دون دينه شَهِيد والمقتول دون مظْلمَة شَهِيد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليعمنكم الله بِعَذَاب من عِنْده فَكَانَ ظَاهر هَذِه الْأَخْبَار مُعَارضا للْآخر فصح أَن إِحْدَى هَاتين الجملتين ناسخة لِلْأُخْرَى لَا يُمكن غير ذَلِك فَوَجَبَ النّظر فِي أَيهمَا هُوَ النَّاسِخ فَوَجَدنَا تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي مِنْهَا النَّهْي عَن الْقِتَال مُوَافقَة لمعهود الأَصْل وَلما كَانَت الْحَال فِيهِ فِي أول الْإِسْلَام بِلَا شكّ وَكَانَت هَذِه الْأَحَادِيث الْأُخَر وَارِدَة بشريعة زَائِدَة وَهِي الْقِتَال هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فقد صَحَّ نسخ معتن تِلْكَ الحاديث وَرفع حكمهَا حِين نطقه عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذِهِ الْأُخَر بِلَا شكّ فَمن الْمحَال الْمحرم أَن يُؤْخَذ بالمنسوخ وَيتْرك النَّاسِخ وَأَن يُؤْخَذ الشَّك وَيتْرك الْيَقِين وَمن ادّعى أَن هَذِه الْأَخْبَار بعد أَن كَانَت هِيَ الناسخة فَعَادَت مَنْسُوخَة فقد ادّعى الْبَاطِل وَقفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ فَقَالَ على الله مَا لم يعلم وَهَذَا(4/133)
لَا يحل وَلَو كَانَ هَذَا لما أخلا الله عز وَجل هَذَا الحكم عَن دَلِيل وبرهان يبين بِهِ رُجُوع الْمَنْسُوخ نَاسِخا لقَوْله تَعَالَى فِي الْقُرْآن تبياناً لكل شَيْء وبرهان آخر وَهُوَ أَن الله عز وَجل قَالَ {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء} لم يخْتَلف مسلمان فِي أَن هَذِه الْآيَة الَّتِي فِيهَا فرض قتال الفئة الباغية محكمَة غير مَنْسُوخَة فصح أَنَّهَا الحاكمة فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث فَمَا كَانَ مُوَافقا لهَذِهِ الْآيَة فَهُوَ النَّاسِخ الثَّابِت وَمَا كَانَ مُخَالفا لَهَا فَهُوَ الْمَنْسُوخ الْمَرْفُوع وَقد ادّعى قوم أَن هَذِه الْآيَة وَهَذِه الْأَحَادِيث فِي اللُّصُوص دون السُّلْطَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل مُتَيَقن لِأَنَّهُ قَول بِلَا برهَان وَمَا يعجز مُدع أَن يَدعِي فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث أَنَّهَا فِي قوم دون قوم وَفِي زمَان دون زمَان وَالدَّعْوَى دون برهَان لَا تصح وَتَخْصِيص النُّصُوص بِالدَّعْوَى لَا يجوز لِأَنَّهُ قَول على الله تَعَالَى بِلَا علم وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن سَائِلًا سَأَلَهُ عَن من طلب مَاله بِغَيْر حق فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا تعطه قَالَ فَإِن قاتلني قَالَ قَاتله فَإِن قَتله قَالَ إِلَى النَّار قَالَ فَإِن قتلني قَالَ فَأَنت فِي الْجنَّة أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَصَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يسلبه وَلَا يَظْلمه وَقد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي الزَّكَاة من سَأَلَهَا على وَجههَا فليعطها وَمن سَأَلَهَا على غير وَجههَا فَلَا يُعْطهَا وَهَذَا خبر ثَابت روينَاهُ من طَرِيق الثِّقَات عَن أنس بن مَالك عَن أبي بكر الصّديق عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا يبطل تَأْوِيل من تَأْوِيل أَحَادِيث الْقِتَال عَن المَال على اللُّصُوص لَا يطْلبُونَ الزَّكَاة وَإِنَّمَا يَطْلُبهُ السُّلْطَان فاقتصر عَلَيْهِ السَّلَام مَعهَا إِذا سَأَلَهَا على غير مَا أَمر بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو اجْتمع أهل الْحق مَا قاواهم أهل الْبَاطِل نسْأَل الله المعونة والتوفيق
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَمَا اعْترضُوا بِهِ من فعل عُثْمَان فَمَا علم قطّ أَنه يقتل وَإِنَّمَا كَانَ يراهم يحاصرون فَقَط وَهُوَ لَا يرَوْنَ هَذَا الْيَوْم للْإِمَام الْعدْل بل يرَوْنَ الْقِتَال مَعَه ودونه فرضا فَلَا حجَّة لَهُم فِي أَمر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بَعضهم إِن فِي الْقيام إِبَاحَة الْحَرِيم وَسَفك الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال وهتك الأستار وانتشار الْأَمر فَقَالَ لَهُم الْآخرُونَ كلا لِأَنَّهُ لَا يحل لمن أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر أَن يهتك حريماً وَلَا أَن يَأْخُذ مَالا بِغَيْر حق وَلَا أَن يتَعَرَّض لمن لَا يقاتله فَإِن فعل شَيْئا من هَذَا فَهُوَ الَّذِي فعل مَا يَنْبَغِي أَن يُغير عَلَيْهِ وَأما قَتله أهل الْمُنكر قَالُوا أَو كَثُرُوا فَهَذَا فرض عَلَيْهِ وَأما قتل أهل الْمُنكر النَّاس وَأَخذهم أَمْوَالهم وهتكهم حريمهم كُله من الْمُنكر الَّذِي يلْزم النَّاس تَغْيِيره وَأَيْضًا فَلَو كَانَ خوف مَا ذكرُوا مَانِعا من تَغْيِير الْمُنكر وَمن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَكَانَ هَذَا بِعَيْنِه مَانِعا من جِهَاد أهل الْحَرْب وَهَذَا مَالا يَقُوله مُسلم وَإِن ادّعى ذَلِك إِلَى سبي النَّصَارَى نسَاء الْمُؤمنِينَ وَأَوْلَادهمْ وَأخذ أَمْوَالهم وَسَفك دِمَائِهِمْ وهتك حريمهم وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن الْجِهَاد وَاجِب مَعَ وجود هَذَا كُله وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ وكل ذَلِك جِهَاد وَدُعَاء إِلَى الْقُرْآن وَالسّنة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيُقَال لَهُم مَا تَقولُونَ فِي سُلْطَان جعل الْيَهُود أَصْحَاب أمره وَالنَّصَارَى جنده وألزم الْمُسلمين الْجِزْيَة وَحمل السَّيْف على أَطْفَال الْمُسلمين وأباح المسلمات للزِّنَا وَحمل السَّيْف على كل من وجد من الْمُسلمين وَملك نِسَاءَهُمْ وأطفالهم وأعلن الْعَبَث بهم وَهُوَ فِي كل ذَلِك مقرّ بِالْإِسْلَامِ مُعْلنا بِهِ لَا يدع الصَّلَاة فَإِن قَالُوا لَا يجوز الْقيام عَلَيْهِ بل قيل لَهُم أَنه لَا يدع مُسلما إِلَّا قَتله جملَة وَهَذَا أَن ترك أوجب ضَرُورَة أَلا يبْقى إِلَّا هُوَ وَحده وَأهل الْكفْر مَعَه فَإِن أَجَازُوا الصَّبْر(4/134)
على هَذَا خالفوا الْإِسْلَام جملَة وانسلخوا مِنْهُ وَإِن قَالُوا بل يُقَام عَلَيْهِ وَيُقَاتل وَهُوَ قَوْلهم قُلْنَا لَهُم فَإِن قتل تِسْعَة أعشار الْمُسلمين أَو جَمِيعهم إِلَّا وَاحِد مِنْهُم وَسبي من نِسَائِهِم كَذَلِك وَأخذ من أَمْوَالهم كَذَلِك فَإِن منعُوا من الْقيام عَلَيْهِ تناقضوا وَإِن أوجبوا سألناهم عَن أقل من ذَلِك وَلَا نزال نحيطهم إِلَى أَن نقف بهم على قتل مُسلم وَاحِدًا أَو على امْرَأَة وَاحِدَة أَو على أَخذ مَال أَو على انتهاك بشرة بظُلْم فَإِن فرقوا بَين شَيْء من ذَلِك تناقضوا وتحكموا بِلَا دَلِيل وَهَذَا مَالا يجوز وَإِن أوجبوا إِنْكَار كل ذَلِك رجعُوا إِلَى الْحق ونسألهم عَمَّن غصب سُلْطَانه الجائر الْفَاجِر زَوجته وَابْنَته وَابْنه ليفسق بهم أَو ليفسق بِهِ بِنَفسِهِ أهوَ فِي سَعَة من إِسْلَام نَفسه وَامْرَأَته وَولده وَابْنَته للفاحشة أم فرض عَلَيْهِ أَن يدْفع من أَرَادَ ذَلِك مِنْهُم فَإِن قَالُوا فرض عَلَيْهِ إِسْلَام نَفسه وَأَهله أَتَوا بعظيمة لَا يَقُولهَا مُسلم وَإِن قَالُوا بل فرض عَلَيْهِ أَن يمْتَنع من ذَلِك وَيُقَاتل رجعُوا إِلَى الْحق وَلزِمَ ذَلِك كل مُسلم فِي كل مُسلم وَفِي المَال كَذَلِك.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْوَاجِب أَن وَقع شَيْء من الْجور وَإِن قل أَن يكلم الإِمَام فِي ذَلِك وَيمْنَع مِنْهُ فَإِن امْتنع وراجع الْحق وأذعن للقود من الْبشرَة أَو من الْأَعْضَاء ولإقامة حد الزِّنَا وَالْقَذْف وَالْخمر عَلَيْهِ فَلَا سَبِيل إِلَى خلعه وَهُوَ إِمَام كَمَا كَانَ لَا يحل خلعه فَإِن امْتنع من إِنْفَاذ شَيْء من هَذِه الْوَاجِبَات عَلَيْهِ وَلم يُرَاجع وَجب خلعه وَإِقَامَة غَيره مِمَّن يقوم بِالْحَقِّ لقَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَلَا يجوز تَضْييع شَيْء من وَاجِبَات الشَّرَائِع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
الْكَلَام فِي الصَّلَاة خلف الْفَاسِق
وَالْجهَاد مَعَه وَالْحج وَدفع الزَّكَاة إِلَيْهِ ونفاذ أَحْكَامه من الْأَقْضِيَة وَالْحُدُود وَغير ذَلِك قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت طَائِفَة إِلَى أَنه لَا يجوز الصَّلَاة إِلَّا خلف الْفَاضِل وَهُوَ قَول الْخَوَارِج والزيدية وَالرَّوَافِض وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض أهل السّنة وَقَالَ آخَرُونَ إِلَّا الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ وَهُوَ قَول بعض أهل السّنة وَذهب طَائِفَة الصَّحَابَة كلهم دون خلاف من أحد مِنْهُم وَجَمِيع فُقَهَاء التَّابِعين كلهم دون خلاف من أحد مِنْهُم وَأكْثر من بعدهمْ وَجُمْهُور اصحاب الحَدِيث وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَدَاوُد وَغَيرهم إِلَى جَوَاز الصَّلَاة خلف الْفَاسِق الْجُمُعَة وَغَيرهَا وَبِهَذَا نقُول وَخلاف هَذَا القَوْل بِدعَة محدثة فَمَا تَأَخّر قطّ أحد من الصَّحَابَة الَّذين أدركوا الْمُخْتَار بن عبيد وَالْحجاج وَعبيد الله بن زِيَاد وحبيش بن دلجة وَغَيرهم عَن الصَّلَاة خَلفهم وَهَؤُلَاء أفسق الْفُسَّاق وَأما الْمُخْتَار فَكَانَ مُتَّهمًا فِي دينه مظنوناً بِهِ الْكفْر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج من يَقُول بِمَنْع الصَّلَاة خَلفهم بقول الله تَعَالَى {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَيُقَال لَهُم كل فَاسق إِذا نوى بِصَلَاتِهِ رَحمَه الله تَعَالَى فَهُوَ فِي ذَلِك من الْمُتَّقِينَ فَصلَاته متقبلة وَلَو لم يكن من الْمُتَيَقن إِلَّا من لَا ذَنْب لَهُ ماستحق أحد هَذَا الِاسْم بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عز وَجل {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة} ولايجوز الْقطع على الْفَاسِق بِأَنَّهُ لم يرد بِصَلَاتِهِ وَجه الله تَعَالَى وَمن قطع بِهَذَا فقد قفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَقَالَ مَالا يعلم وَهَذَا حرَام وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ عز وَجل {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} وَقَالَ بَعضهم إِن صَلَاة الْمَأْمُوم مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا غَايَة الْفساد لِأَنَّهُ قَول بِلَا دَلِيل بل الْبُرْهَان يُبطلهُ لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا}(4/135)
وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَدَعوى الارتباط هَاهُنَا قَول بِلَا برهَان لامن قُرْآن وَلَا من سنة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من مَعْقُول وهم قد أَجمعُوا على أَن طَهَارَة الإِمَام لَا تنوب عَن طَهَارَة الْمَأْمُوم وَلَا قِيَامه وَلَا قعوده عَن قعوده وَلَا سُجُوده عَن سُجُوده وَلَا رُكُوعه عَن رُكُوعه وَلَا نِيَّته عَن نِيَّته فَمَا معنى هَذَا الارتباط الَّذِي تَدعُونَهُ إِذا وَأَيْضًا فَإِن الْقطع عَن سريرة الَّذِي ظَاهره الْفضل لَا يجوز وَإِنَّمَا هُوَ ظن فَاسْتَوَى الْأَمر فِي ذَلِك فِي الْفَاضِل وَالْفَاسِق وَصَحَّ أَنه لَا يُصَلِّي أحد عَن أحد وَإِن كَانَ أحد يُصَلِّي عَن نَفسه وَقَالَ تَعَالَى {أجِيبُوا دَاعِي الله} فَوَجَبَ بذلك ضَرُورَة أَن كل دَاع دَعَا إِلَى خير من صَلَاة أَو حج أَو جِهَاد أَو تعاون على بر وتقوى فَفرض إجَابَته وَعمل ذَلِك الْخَيْر مَعَه لقَوْل الله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} وَإِن كل دَاع دعى إِلَى شَرّ فَلَا يجوز إجَابَته بل فرض دفاعه وَمنعه وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن الْفسق منزلَة نقص عَمَّن هُوَ أفضل مِنْهُ وَالَّذِي لَا شكّ فِيهِ أَن النِّسْبَة بَين أفجر فَاجر من الْمُسلمين وَبَين أفضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أقرب من النِّسْبَة بَين أفضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا عرى أحد من تعمد ذَنْب وتقصير بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا تفاضل الْمُسلمُونَ فِي كَثْرَة الذُّنُوب وقلتها وَفِي اجْتِنَاب الْكَبَائِر ومواقعتها وَأما الصَّغَائِر فَمَا نجاأحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَقد صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلف أبي بكر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَبِهَذَا صَحَّ أَن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله فَإِن اسْتَووا فأفقههم ندب لَا فرض فَلَيْسَ لفاضل بعد هَذَا أَن يمْتَنع من الصَّلَاة خلف من هُوَ دونه فِي القصوى من الغايات.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما دفع الزَّكَاة إِلَى الإِمَام فَإِن كَانَ الإِمَام الْقرشِي الْفَاضِل أَو الْفَاسِق لم ينازعه فَاضل فَهِيَ جَارِيَة لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارضوا مصدقيكم وَلَا يكون مُصدقا كل من سمى نَفسه مُصدقا لَكِن من قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ مُصدق بإرسال الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته لَهُ وَإِمَّا من سَأَلَهَا من هُوَ غير الإِمَام الْمَذْكُور أَو غير مصدقه فَهُوَ عَابِر سَبِيل لَا حق فِي قبضهَا فَلَا يَجْزِي دَفعهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ دَفعهَا إِلَى غير من أَمر بدفعها إِلَيْهِ وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد وَهَكَذَا القَوْل فِي الْأَحْكَام كلهَا من الْحُدُود وَغَيرهَا إِن أَقَامَهَا الإِمَام الْوَاجِبَة طَاعَته وَالَّذِي لَا بُد مِنْهُ فَإِن وَافَقت الْقُرْآن وَالسّنة نفذت وَإِلَّا فَهِيَ مَرْدُودَة لما ذكرنَا وَإِن أَقَامَهَا غير الامام أوواليه فَهِيَ كلهَا مَرْدُودَة وَلَا يحْتَسب بهَا لِأَنَّهُ أَقَامَهَا من لم يُؤمر بإقامتها فَإِن لم يقدر عَلَيْهَا الإِمَام فَكل من قَامَ بِشَيْء من الْحق حِينَئِذٍ نفذ لأمر الله تَعَالَى لنا بِأَن نَكُون قوامين بِالْقِسْطِ وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة اذا كَانَ الإِمَام حَاضرا مُتَمَكنًا أَو أميره أَو واليه فَإِن من بَادر إِلَى تَنْفِيذ حكم هُوَ إِلَى الإِمَام فَإِنَّهُ إِمَّا مظْلمَة ترد وَإِمَّا عزل لَا ينفذ على هَذَا جرى عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيع عماله فِي الْبِلَاد بِنَقْل جَمِيع الْمُسلمين عصراً بعد عصر ثمَّ عمل جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَأما الْجِهَاد فَهُوَ وَاجِب مَعَ كل إِمَام وكل متغلب وكل بَاغ وكل محَارب من الْمُسلمين لِأَنَّهُ تعاون على الْبر وَالتَّقوى وَفرض على كل أحد دَعَا إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى دين الْإِسْلَام وَمنع الْمُسلمين مِمَّن أَرَادَهُم قَالَ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد}(4/136)
الْآيَة فَهَذَا عُمُوم لكل مُسلم بِنَصّ الْآيَة فِي كل مَكَان وكل زمَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ كتاب الْإِمَامَة والمفاضلة بِحَمْد الله تَعَالَى وشكره
ذكر العظائم المخرجة إِلَى الْكفْر
والمحال من أَقْوَال أهل الْبدع الْمُعْتَزلَة والخوارج والمرجئة والشيع.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد كتبنَا فِي ديواننا هَذَا من فضائح الْملَل الْمُخَالفَة لدين الْإِسْلَام الَّذِي فِي كتبهمْ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مَالا بَقِيَّة لَهُم بعْدهَا وَلَا يمتري أحد وقف عَلَيْهَا إِنَّهُم فِي ضلال وباطل ونكتب إِن شَاءَ الله تَعَالَى على هَذِه الْفرق الْأَرْبَع من فواحش أَقْوَالهم مَا لَا يخفى على أحد قراه إِنَّهُم فِي ضلال وباطل ليَكُون ذَلِك زاجراً لمن أَرَادَ الله توفيقه عَن مضامتهم واما التَّمَادِي فيهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وليعلم من قَرَأَ كتَابنَا هَذَا أننا لَا نستحل مَا يستحله من لَا خير فِيهِ من تقويل أحد مالم يقلهُ نصا وَإِن آل قَوْله إِلَيْهِ إِذْ قد لَا يلْزم مَا ينتجه قَوْله فيتناقض فاعلموا أَن تقويل الْقَائِل كَافِرًا كَانَ أَو مبتدعاً أَو مخطئاً مَالا يَقُوله نصا كذب عَلَيْهِ وَلَا يحل الْكَذِب على أحد لَكِن رُبمَا دلسوا الْمَعْنى الْفَاحِش بِلَفْظ ملتبس ليسهلوه على أهل الْجَهْل وَيحسن النّظر بهم من أتباعهم وليبعد فهم تِلْكَ الْعَظِيمَة على الْعَامَّة من مخالفتهم كَقَوْل طوائف من أهل الْبِدْعَة والضلالة لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال وَلَا على الظُّلم وَلَا على الْكَذِب ولاعلى غير مَا علم أَنه يكون فأخفوا أعظم الْكفْر فِي هَذِه الْقَضِيَّة لما ذكرنَا من تأنيس الأغمار من أتباعهم وتسكين الدهماء من مخالفيهم فِرَارًا عَن كشف معتقدهم صراحاً الَّذِي هُوَ أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الظُّلم وَلَا لَهُ قُوَّة على الْكَذِب وَلَا بِهِ طَاقَة على الْمحَال وَلَا بُد لنا من إِيضَاح مَا موهوه هَكَذَا وإيراده بأظهر عباراته كشفا لتمويهم تقربا إِلَى الله تَعَالَى بهتك أستارهم كشف أسرارهم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
ذكر شنع الشِّيعَة
قَالَ أَب وَمُحَمّد أهل الشنع من هَذِه الْفرْقَة ثَلَاث طوائف أَولهَا الجارودية من الزيدية ثمَّ الإمامية من الرافضة ثمَّ الغالية فَأَما الجارودية فَإِن طَائِفَة مِنْهُم قَالَت أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن ابْن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بِالْمَدِينَةِ على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَوجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَقتل مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن رَحمَه الله فَقَالَت هَذِه الطَّائِفَة أَن مُحَمَّد الْمَذْكُور حَيّ لم يقتل وَلَا مَاتَ وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم أَنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الْحُسَيْن بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بِالْكُوفَةِ أَيَّام المستعين فَوجه إِلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر ابْن الْحُسَيْن بِأَمْر المستعين ابْن عَمه الْحسن بن إِسْمَاعِيل ابْن الْحُسَيْن وَهُوَ ابْن أخي طَاهِر بن الْحُسَيْن فَقتل يحيى بن عمر رَحمَه الله فَقَالَت الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة أَن يحيى بن عمر هَذَا حَيّ لم يقتل وَلَا مَاتَ وَلَا يَمُوت حَتَّى يملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عَليّ بن عمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقَائِم بالطالقان أَيَّام المعتصم حَيّ لم يمت وَلَا قتل وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت الكيسانية وهم أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد وهم عندنَا شيعَة من الزيدية فِي سبيلهم أَن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب وَهُوَ ابْن الْحَنَفِيَّة حَيّ بجبال رضوي عَن يَمِينه أَسد وَعَن يسَاره نمر تحدثه الْمَلَائِكَة يَأْتِيهِ رزقه غدواً وعشياً لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ(4/137)
الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَ بعض الروافض الإمامية وَهِي الْفرْقَة الَّتِي تَدعِي الممطورة أَن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب حَيّ لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جورا وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم وهم الناووسية أَصْحَاب ناوس الْمصْرِيّ مثل ذَلِك فِي أَبِيه جَعْفَر بن مُحَمَّد وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم مثل ذَلِك فِي أَخِيه إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَقَالَت السباية أَصْحَاب عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي الْيَهُودِيّ مثل ذَلِك فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَزَادُوا أَنه فِي السَّحَاب فليت شعري فِي أَي سَحَابَة هُوَ من السَّحَاب والسحاب كثير فِي أقطار الْهَوَاء مسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَقَالَ عبد الله ابْن سبا إِذْ بلغه قتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو أتيتمونا بدماغه سبعين مرّة مَا صدقنا مَوته وَلَا يَمُوت حَتَّى يمْلَأ الأَرْض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَقَالَ بعض الكيسانية بِأَن أَبَا مُسلم السراج حَيّ لم يمت وسيظهر وَلَا بُد وَقَالَ بعض الكيسانية بِأَنَّهُ عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب حَيّ بجبال أَصْبَهَان إِلَى الْيَوْم وَلَا بُد لَهُ من أَن يظْهر وَعبد الله هَذَا هُوَ الْقَائِم بِفَارِس أَيَّام مَرْوَان بن مُحَمَّد وَقَتله أَبُو مُسلم بعد أَن سجنه دهراً وَكَانَ عبد الله هَذَا ردي الدّين معطلاً مستصحباً للدهرية
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَصَارَ هؤلاءفي سَبِيل الْيَهُود الْقَائِلين بِأَن ملكصيدق بن عَامر بن ارفخشد بن سَام ابْن نوح وَالْعَبْد الَّذِي وَجهه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ عَليّ إِسْحَاق ابْنه عَلَيْهِ السَّلَام والياس عَلَيْهِ السَّلَام وفنحاس بن العازار بن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَحيَاء إِلَى الْيَوْم وسلك هَذَا السَّبِيل بعض تركي الصُّوفِيَّة فزعموا أَن الْخضر والياس عَلَيْهِمَا السَّلَام حَيَّان إِلَى الْيَوْم وَادّعى بَعضهم أَنه يلقِي الياس فِي الفلوات وَالْخضر فِي المروج والرياض وَأَنه مَتى ذكر حضر على ذكرَاهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن ذكر فِي شَرق الأَرْض وغربها وشمالها وجنوبها وَفِي ألف مَوضِع فِي دقيقة وَاحِدَة كَيفَ يصنع وَلَقَد لَقينَا من يذهب إِلَى هَذَا خلقا وكلمناهم مِنْهُم الْمَعْرُوف بِابْن شقّ اللَّيْل الْمُحدث بطلبيره وَهُوَ مَعَ ذَلِك من أهل الْعِنَايَة وسعة الرِّوَايَة وَمِنْهُم مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب وَأَخْبرنِي أَنه جَالس الْخضر وَكَلمه مرَارًا اَوْ غَيره كثير هَذَا مَعَ سماعهم قَول الله تَعَالَى {وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَبِي بعدِي فَكيف يستجيزه مُسلم أَن يثبت بعده عَلَيْهِ السَّلَام نَبيا فِي الأَرْض حاشا مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْآثَار المسندة الثَّابِتَة فِي نزُول عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فِي آخر الزَّمَان وكفار برغواطه إِلَى الْيَوْم ينتظرون صَالح بن طريف الَّذِي شرع لَهُم دينهم وَقَالَت القطيعية من الإمامية الرافضة كلهم وهم جُمْهُور الشِّيعَة وَمِنْهُم المتكلمون والنظارون وَالْعدَد الْعَظِيم بِأَن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ ابْن مُوسَى بن جَعْفَر بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب حَيّ لم يمت وَلَا يَمُوت حَتَّى يخرج فيملأالأرض عدلا كَمَا ملئت جوراً وَهُوَ عِنْدهم الْمهْدي المنتظر وَبقول طَائِفَة مِنْهُم أَن مولد هَذَا الَّذِي لم يخلق قطّ فِي سنة سنتَيْن وَمِائَتَيْنِ سنة موت أَبِيه وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل بعد موت أَبِيه بِمدَّة وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل فِي حَيَاة أَبِيه وَرووا ذَلِك عَن حكيمة بنت مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى وَأَنَّهَا شهِدت وِلَادَته وسمعته يتَكَلَّم حِين سقط من بطن أمه يقرأالقرآن وَأَن أمه نرجس وَأَنَّهَا كَانَت هِيَ الْقَابِلَة وَقَالَ جُمْهُور بل أمه صقيل وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل أمه سوسن وكل هَذَا هوس وَلم يعقب الْحسن الْمَذْكُور لَا ذكرا(4/138)
وَلَا أُنْثَى فَهَذَا أول نوك الشِّيعَة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وَإِن كَانَت مهلكة ثمَّ قَالُوا كلهم إِذْ سئلوا عَن الْحجَّة فِيمَا يَقُولُونَ حجتنا الإلهام وَأَن من خَالَفنَا لَيْسَ لرشده فَكَانَ هَذَا طريفا جدا لَيْت شعري مَا الْفرق بَينهم وَبَين عيار مثلهم يَدعِي فِي إبِْطَال قَوْلهم الإلهام وَأَن الشِّيعَة لَيْسُوا لرشدة أَو أَنهم نوكة أَو أَنهم جملَة ذَوُو شُعْبَة من جُنُون فِي رُؤْسهمْ وَمَا قَوْلهم فِيمَن كَانَ مِنْهُم ثمَّ صَار فِي غَيرهم أَو من كَانَ فِي غَيرهم فَصَارَ فيهم أتراه ينْتَقل من ولادَة الغية إِلَى ولادَة الرشدة وَمن ولادَة الرشدة إِلَى ولادَة الغية فان قَالُوا حكمه لما يَمُوت عَلَيْهِ قيل لَهُم فلعلكم أَوْلَاد غية إِذْ لَا يُؤمن رُجُوع الْوَاحِد فالواحد مِنْكُم إِلَى خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم وَالْقَوْم بِالْجُمْلَةِ ذَوُو أَدْيَان فَاسِدَة وعقول مدخولة وعديمو حَيَاء ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَذكر عَمْرو ابْن خَوْلَة الجاحظ وَهُوَ وَإِن كَانَ أحد المجان وَمن غلب عَلَيْهِ الْهزْل وَأحد الضلال المضلين فإننا مَا رَأينَا لَهُ فِي كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لَهَا وَإِن كَانَ كثيرا لَا يُرَاد كذب غَيره قَالَ أَخْبرنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم النظام وَبشر بن خَالِد انهما قَالَا لمُحَمد بن جَعْفَر الرافضي الْمَعْرُوف بِشَيْطَان الطاق وَيحك اما استحييت من الله أَن تَقول فِي كتابك فِي الْإِمَامَة أَن الله تَعَالَى لم يقل قطّ فِي الْقُرْآن {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} قَالَا فَضَحِك وَالله شَيْطَان الطاق ضحكاً طَويلا حَتَّى كَانَا نَحن الَّذين أَذْنَبْنَا قَالَ النظام وَكُنَّا نُكَلِّم عَليّ ابْن ميتم الصَّابُونِي وكل من شُيُوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سَماع عَن الْأَئِمَّة فينكران يَقُوله بِرَأْي فتخبره بقوله فِيهَا قبل ذَلِك قَالَ فوَاللَّه مَا رَأَيْته خجل من ذَلِك وَلَا استحيا لفعله هَذَا قطّ وَمن قَول الإمامية كلهَا قَدِيما وحديثاً أَن الْقُرْآن مبدل زيد فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَنقص مِنْهُ كثير وَبدل مِنْهُ كثير حاشا عَليّ ابْن الْحسن ابْن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن ابْن عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ إمامياً يظاهر بالاعتزال مَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يُنكر هَذَا القَوْل وَيكفر من قَالَه وَكَذَلِكَ صَاحِبَاه أَبُو يعلي مِيلَاد الطوسي وأبوالقاسم الرَّازِيّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد القَوْل بِأَن بَين اللَّوْحَيْنِ تبديلاً كفر صَحِيح وَتَكْذيب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت طَائِفَة من الكيسانية بتناسخ الْأَرْوَاح وَبِهَذَا يَقُول السَّيِّد الْحِمْيَرِي الشَّاعِر لَعنه الله ويبلغ الْأَمر بِمن يذهب إِلَى هَذَا إِلَى أَن يَأْخُذ أحدهم الْبَغْل أَو الْحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أَن روح أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِيهِ فاعجبوا لهَذَا الْحمق الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَمَا الَّذِي خص هَذَا الْبَغْل الشقي أَو الْحمار الْمِسْكِين بنقله الرّوح اليه سَائِر البغال وَالْحمير وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بالعنز على أَن روح أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا فِيهَا وَجُمْهُور متكلميهم كهشام ابْن الحكم الْكُوفِي وتلميذه أبي عَليّ الصكاك وَغَيرهمَا يَقُول أَن علم الله تَعَالَى مُحدث وَأَنه لم يكن يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما وَهَذَا كفر صَحِيح وَقد قَالَ هِشَام هَذَا فِي حِين مناظرته لأبي الْهُذيْل العلاف أَن ربه سَبْعَة أشبار بشبر نَفسه وَهَذَا كفر صَحِيح وَكَانَ دَاوُد الجوازي من كبار متكلميهم يزْعم أَن ربه لحم وَدم على صُورَة الْإِنْسَان وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي إِن الشَّمْس ردَّتْ على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ أفيكون فِي صفاقة الْوَجْه وصلابة الخد وَعدم الْحيَاء والجرأة على الْكَذِب أَكثر من هَذَا على قرب الْعَهْد وَكَثْرَة الْخلق وَطَائِفَة مِنْهُم تَقول أَن الله تَعَالَى يُرِيد الشَّيْء ويعزم عَلَيْهِ ثمَّ يبدوا لَهُ فَلَا يَفْعَله وَهَذَا مَشْهُور للكيسانية وَمن الإمامية من يُجِيز نِكَاح تسع نسْوَة وَمِنْهُم من يحرم الكرنب لِأَنَّهُ إِنَّمَا نبت على دم الْحُسَيْن وَلم يكن قبل ذَلِك وَهَذَا فِي قلَّة الْحيَاء قريب مِمَّا قبله وكما يزْعم كثير مِنْهُم أَن عليا لم يكن لَهُ سمى قبله(4/139)
وَهَذَا جهل عَظِيم بل كَانَ فِي الْعَرَب كثير يسمون هَذَا الِاسْم كعلي بن بكر بن وَائِل إِلَيْهِ يرجع كل بكري فِي الْعَالم فِي نسبه وَفِي الأزد عَليّ وَفِي بجيله على وَغَيرهَا كل ذَلِك فِي الْجَاهِلِيَّة مَشْهُور وَأقرب من ذَلِك عَامر بن الطُّفَيْل يكني أَبَا عَليّ ومجاهراتهم أَكثر مِمَّا ذكرنَا وَمِنْهُم طَائِفَة تَقول بِفنَاء الْجنَّة وَالنَّار وَفِي الكيسانية من يَقُول أَن الدُّنْيَا لَا تفنى أبدا وَمِنْهُم طَائِفَة تسمى النحلية نسبوا إِلَى الْحسن بن عَليّ بن ورصند النحلي كَانَ من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور أفريقية ثمَّ نَهَضَ هَذَا الْكَافِر إِلَى السوس فِي أقاصي بِلَاد المصامدة فأضلهم وأضل أَمِير السوس أَحْمد بن إِدْرِيس بن يحيى ابْن عبد الله بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب فهم هُنَالك كثير سكان فِي ربض مَدِينَة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صَلَاة الْمُسلمين لَا يَأْكُلُون شَيْئا من الثِّمَار زبل أَصله وَيَقُولُونَ أَن الْإِمَامَة فِي ولد الْحسن دون ولد الْحُسَيْن وَمِنْهُم أَصْحَاب أبي كَامِل وَمن قَوْلهم أَن جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كفرُوا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جَحَدُوا إِمَامَة عَليّ وَأَن عليا كفر إِذا سلم الْأَمر إِلَى أبي بكر ثمَّ عمر بن عُثْمَان ثمَّ قَالَ جمهورهم أَن عليا وَمن اتبعهُ رجعُوا إِلَى الْإِسْلَام إِذْ دعِي إِلَى نَفسه بعد قتل عُثْمَان وَإِذ كشف وَجهه وسل سَيْفه وَأَنه وإياهم كَانُوا قبل ذَلِك مرتدين عَن الْإِسْلَام كفَّارًا مُشْرِكين وَمِنْهُم من يرد الذَّنب فِي ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لم يبين الْأَمر بَيَانا رَافعا للأشكال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا كفر صَرِيح لَا خَفَاء بِهِ فَهَذِهِ مَذَاهِب الإمامية وَهِي المتوسطة فِي الغلو من فرق الشِّيعَة واما الْغَالِبَة من الشِّيعَة فهم قِسْمَانِ قسم أوجبت النُّبُوَّة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغيره وَالْقسم الثَّانِي أوجبوا الإلهية لغير الله عز وَجل فَلَحقُوا بالنصارى وَالْيَهُود وَكَفرُوا أشنع الْكفْر فالطائفة الَّتِي أوجبت النُّبُوَّة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق فَمنهمْ الغرابة وَقَوْلهمْ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أشبه بعلي من الْغُرَاب بالغراب وَأَن الله عز وَجل بعث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْوَحْي إِلَى عَليّ فغلط جِبْرِيل بِمُحَمد وَلَا لوم على جِبْرِيل فِي ذَلِك لِأَنَّهُ غلط وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بل تعمد ذَلِك جِبْرِيل وكفروه ولعنوه لعنهم الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع بأضعف عقولاً وَأتم رقاعة من قوم يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشبه عَليّ بن أبي طَالب فياللناس أَيْن يَقع شبه ابْن أَرْبَعِينَ سنة من صبي ابْن إِحْدَى عشرَة سنة حَتَّى يغلط بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام فَوق الربعة إِلَى الطول قويم الْقَنَاة كث اللِّحْيَة ادعج الْعَينَيْنِ ممتلئ السَّاقَيْن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَلِيل شعر الْجَسَد أفرع وَعلي دون الربعة إِلَى الْقصر منْكب شَدِيد الانكباب كَأَنَّهُ كسر ثمَّ جبر عَظِيم اللِّحْيَة قد ملئت صَدره من منْكب إِلَى منْكب إِذْ التحي ثقيل الْعَينَيْنِ دَقِيق السَّاقَيْن أصلع عَظِيم الصلع لَيْسَ فِي رَأسه شعر إِلَّا فِي مؤخره يسير شعر اللِّحْيَة فَأُعْجِبُوا لحمق هَذِه الطَّبَقَة ثمَّ لَو جَازَ أَن يغلط جِبْرِيل وحاشا للروح الْقُدس الْأمين كَيفَ غفل الله عز وَجل عَن تقويمه وتنبيهه وَتَركه على غلطه ثَلَاثًا وَعشْرين سنة ثمَّ أظرف من هَذَا كُله من أخْبرهُم بِهَذَا الْخَبَر وَمن خرفهم بِهَذِهِ الخرافة وَهَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا من شَاهد أَمر الله تَعَالَى لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ شَاهد خِلَافه فعلى هَؤُلَاءِ لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة النَّاس أَجْمَعِينَ مَا دَامَ لله فِي علامه خلق
وَفرْقَة قَالَت بنبوة عَليّ وَفرْقَة قَالَت بِأَن عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم وَعلي بن الْحُسَيْن وَمُحَمّد ابْن عَليّ وجعفر بن مُحَمَّد ومُوسَى بن جَعْفَر وَعلي بن(4/140)
مُوسَى وَمُحَمّد بن عَليّ وَالْحسن بن مُحَمَّد والمنتظر ابْن الْحسن أَنْبيَاء كلهم وَفرْقَة قَالَت بنبوة مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر فَقَط وهم طَائِفَة من القرامطة وَفرْقَة قَالَت بنبوة عَليّ وبنيه الثَّلَاثَة الْحسن وَالْحُسَيْن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة فَقَط وهم طَائِفَة من الكيسانية وَقد حام الْمُخْتَار حول أَن يَدعِي النُّبُوَّة لنَفسِهِ وسجع اسجاعاً وانذر بالعيوب عَن الله وَأتبعهُ على ذَلِك طوائف من الشِّيعَة الملعونة وَقَالَ بإمامة مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَفرْقَة قَالَت بنبوة الْمُغيرَة بن سعيد مولى بجيلة بِالْكُوفَةِ وَهُوَ الَّذِي أحرقه خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بالنَّار وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن معبوده صُورَة رجل على رَأسه تَاج وان أعضاؤه على عدد حرف الهجا الْألف للساقين وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا ينْطق لِسَان ذِي شيعَة من دين بِهِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الْكَافِرُونَ علوا كَبِيرا وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن معبوده لما أَرَادَ أَن يخلق الْخلق تكلم باسمه الْأَكْبَر فَوَقع على تاجه ثمَّ كتب بإصبعه أَعمال الْعباد من الْمعاصِي والطاعات فَلَمَّا رأى الْمعاصِي أرفض بِهِ عرقاً فَاجْتمع من عرقه بحران أَحدهمَا ملح مظلم وَالثَّانِي نير عذب ثمَّ اطلع فِي الْبَحْر فَرَأى ظلمَة فَذهب ليأخذه فطار فَأَخذه فَقلع عَيْني ذَلِك الظل ومحقه فخلق من عَيْنَيْهِ الشَّمْس وشمساً أُخْرَى وَخلق الْكفَّار من الْبَحْر المالح وَخلق الْمُؤمنِينَ من الْبَحْر العذب فِي تَخْلِيط لَهُم كثير وَكَانَ مِمَّا يَقُول أَن الْأَنْبِيَاء لم يَخْتَلِفُوا قطّ فِي شَيْء من الشَّرَائِع وَقد قيل أَن جَابر بن يزِيد الْجعْفِيّ الَّذِي يروي عَن الشّعبِيّ كَانَ خَليفَة الْمُغيرَة بن سعيد إِذْ حرقه خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَلَمَّا مَاتَ جَابر خَلفه بكر الْأَعْوَر الهجري فَلَمَّا مَاتَ فَوضُوا أَمرهم إِلَى عبد الله بن الْمُغيرَة رئيسهم الْمَذْكُور وَكَانَ لَهُم عدد ضخم بِالْكُوفَةِ وَآخر مَا وقف عَلَيْهِ الْمُغيرَة ابْن سعيد القَوْل بإمامة مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن وَتَحْرِيم مَاء الْفُرَات وكل مَاء نهر أَو عين أَو بِئْر وَقعت فِيهِ نَجَاسَة فبرئت مِنْهُ عِنْد ذَلِك الْقَائِلُونَ بِالْإِمَامَةِ فِي ولد الْحُسَيْن
وَفرْقَة قَالَت بنبوة بَيَان بن سمْعَان التَّمِيمِي صلبه وَأحرقهُ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي مَعَ الْمُغيرَة بن سعيد فِي يَوْم وَاحِد وَجبن الْمُغيرَة بن سعيد عَن اعتناق حزمة الْحَطب جبنا شَدِيدا حَتَّى ضم إِلَيْهَا قهرا وبادر بَيَان بن سمْعَان إِلَى الحزمة فاعتنقها من غير إِكْرَاه وَلم يظْهر مِنْهُ جزع فَقَالَ خَالِد لأصحابهما فِي كل شَيْء أَنْتُم مجانين هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون رئيسكم لَا هَذَا الفسل وَكَانَ بَيَان لَعنه الله يَقُول أَن الله تَعَالَى يفنى كُله حاشا وَجهه فَقَط وَظن الْمَجْنُون أَنه تعلق فِي كفره هَذَا بقوله تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان وَيبقى وَجه رَبك} وَلَو كَانَ لَهُ أدنى عقل أَو فهم لعلم أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أخبر بالفناء عَمَّا على الأَرْض فَقَط بِنَصّ قَوْله الصَّادِق {كل من عَلَيْهَا فان} وَلم يصف عز وَجل بالفناء غير مَا على الأَرْض وَوجه الله تَعَالَى هُوَ الله وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غَيره وحاشا لله من ان يُوصف بالتبعيض والتجزي هَذِه صفة المخلوقين المحدودين لَا صفة من لَا يحد وَلَا لَهُ مثل وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَنه المعني بقول الله تَعَالَى {هَذَا بَيَان للنَّاس} وَكَانَ يذهب إِلَى أَن الإِمَام هُوَ هَاشم عبد الله بن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة ثمَّ هِيَ فِي سَائِر ولد عَليّ كلهم وَقَالَت فرقة مِنْهُم بنبوة مَنْصُور المستير الْعجلِيّ وَهُوَ الملقب بالكسف وَكَانَ يُقَال أَنه المُرَاد بقول الله عز وَجل {وَإِن يرَوا كسفاً من السَّمَاء سَاقِطا} وصلبه يُوسُف بن عمر بِالْكُوفَةِ وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَنه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء وَأَن الله تَعَالَى مسح رَأسه بِيَدِهِ وَقَالَ لَهُ ابْني اذْهَبْ فَبلغ عني وَكَانَ يَمِين أَصْحَابه لَا والكلة وَكَانَ لَعنه الله يَقُول بِأَن أول من خلق الله تَعَالَى عِيسَى بن مَرْيَم ثمَّ عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ يَقُول بتواتر الرُّسُل وأباح الْمُحرمَات من الزِّنَا وَالْخمر وَالْميتَة والخنازير وَالدَّم وَقَالَ إِنَّمَا هم أَسمَاء رجال وَجُمْهُور(4/141)
الرافضة الْيَوْم على هَذَا واسقط الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج واصحابه كلهم خناقون رضاخون وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الْمُغيرَة بن سعيد ومعناهم فِي ذَلِك أَنهم لَا يسْتَحلُّونَ حمل السِّلَاح حَتَّى يخرج الَّذِي ينتظرونه فهم يقتلُون النَّاس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فَقَط وَذكر هِشَام بن الحكم الرافضي فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالميزان وَهُوَ أعلم النَّاس بِهِ لِأَنَّهُ جارهم بِالْكُوفَةِ وجارهم فِي الْمَذْهَب أَن الكسفية خَاصَّة يقتلُون من كَانَ مِنْهُم وَمن خالفهم وَيَقُولُونَ نعجل الْمُؤمن إِلَى الْجنَّة وَالْكَافِر إِلَى النَّار وَكَانُوا بعد موت أبي مَنْصُور يؤدون الْخمس مِمَّا يَأْخُذُونَ مِمَّن خنقوه إِلَى الْحسن بن أبي مَنْصُور وَأَصْحَابه فرقتان فرقت قَالَت أَن الإِمَام بعد مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن صَارَت إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن وَفرْقَة قَالَت بل إِلَى أبي الْمَنْصُور الكسف وَلَا تعود فِي ولد عَليّ ابدا وَقَالَت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بِالْكُوفَةِ وَإِن وَقع هَذِه الدعْوَة لَهُم فِي حائك لظريفة وَفرْقَة قَالَت بنبوة معمر بَائِع الْحِنْطَة بِالْكُوفَةِ وَقَالَت فرقة بنبوة عمر التبَّان بِالْكُوفَةِ لَعنه الله يَقُول لأَصْحَابه لَو شِئْت أَن أُعِيد هَذَا التِّبْن تبراً لفَعَلت وَقدم إِلَى خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي بِالْكُوفَةِ فتجلد وَسَب خَالِدا فَأمر خَالِد بِضَرْب عُنُقه فَقتل إِلَى لعنة الله وَهَذِه الْفرق الْخمس كلهَا من فرق الخطابية وَقَالَت فرقة من أُولَئِكَ شيعَة بني الْعَبَّاس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر بن أَسد بن عبد الله أَخُو خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَقتله إِلَى لعنة الله
وَالْقسم الثَّانِي من فرق الغالية الَّذين يَقُولُونَ بالإلهية لغير الله عز وَجل فأولهم قوم من أَصْحَاب عبد الله بن سبا الْحِمْيَرِي لَعنه الله أَتَوا إِلَى عَليّ بن أبي طَالب فَقَالُوا مشافهة أَنْت هُوَ فَقَالَ لَهُم وَمن هُوَ قَالُوا أَنْت الله فاستعظم الْأَمر وَأمر بِنَار فأججت واحقهم بالنَّار فَجعلُوا يَقُولُونَ وهم يرْمونَ فِي النَّار الان ص ح عندنَا أَنه الله لِأَنَّهُ لَا يعذب بالنَّار إِلَّا الله وَفِي ذَلِك يَقُول رَضِي الله عَنهُ ... لما رَأَيْت الْأَمر أمرا مُنْكرا ... أججت نَارا ودعوت قنبرا ... // يُرِيد قنبراً مَوْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي تولى طرحهم فِي النَّار نَعُوذ بِاللَّه من أَن نفتتن بمخلوق أَو يفتتن بِنَا مَخْلُوق فِيمَا جلّ أَو دق فَإِن محنة أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ من بَين أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم كمحنة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَصْحَابه من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذِه الْفرْقَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم فَاشِية عَظِيمَة الْعدَد يسمون العليانية مِنْهُم كَانَ إِسْحَاق بن مُحَمَّد المخعي الْأَحْمَر الْكُوفِي وَكَانَ من متكلميهم وَله فِي ذَلِك كتاب سَمَّاهُ الصِّرَاط نقض عَلَيْهِ البهنكي والفياض لما ذكرنَا وَيَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا رَسُول عَليّ وَقَالَت طَائِفَة من الشِّيعَة يعْرفُونَ بالمحمدية أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الله تَعَالَى عَن كفرهم وَمن هَؤُلَاءِ كَانَ البهنكي والفياض بن عَليّ وَله فِي هَذَا الْمَعْنى كتاب سَمَّاهُ القسطاس وَأَبوهُ الْكَاتِب الْمَشْهُور الَّذِي كتب لإسحاق بن كنداج أَيَّام ولَايَته ثمَّ لأمير الْمُؤمنِينَ المعتضد وَفِيه يَقُول البحتري القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي أَولهَا ... شط من مسَاكِن الغرير مرَارَة ... وطوته الْبِلَاد وَالله حارة ...
والفياض هَذَا لَعنه الله قَتله الْقَاسِم بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن وهب لكَونه من جملَة من سعى بِهِ أَيَّام المعتضد والقصة مَشْهُورَة وَفرْقَة قَالَت بإلاهية آدم عَلَيْهِ السَّلَام والنبيين بعده نَبيا نَبيا إِلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ بإلاهية عَليّ ثمَّ بإلاهية الْحسن ثمَّ الْحُسَيْن ثمَّ مُحَمَّد بن عَليّ ثمَّ جَعْفَر بن مُحَمَّد ووقفوا هَاهُنَا وأعلنت الخطابية بذلك نَهَارا بِالْكُوفَةِ فِي ولَايَة عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد ابْن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَخَرجُوا صدر النَّهَار فِي جموع عَظِيمَة فِي أزر وأردية محرمين(4/142)
ينادون بِأَعْلَى أَصْوَاتهم لبيْك جَعْفَر لبيْك جَعْفَر قَالَ ابْن عَيَّاش وَغَيره كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِم يَوْمئِذٍ فَخرج إِلَيْهِم عِيسَى بن مُوسَى فقاتلوه فَقَتلهُمْ واصطلمهم ثمَّ زَادَت فرقة على مَا ذكرنَا فَقَالَت بإلاهية مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن مُحَمَّد وهم القرامطة وَفِيهِمْ من قَالَ بإلاهية أبي سعيد الْحسن بن بهْرَام الجبائي وأبنائه بعده وَمِنْهُم من قَالَ بإلاهية أبي سعيد الْحسن بن بهْرَام الجبائي وأبنائه بعده وَمِنْهُم من قَالَ بإلاهية عبيد الله ثمَّ الْوُلَاة من وَلَده إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية أبي الْخطاب مُحَمَّد بن أبي زَيْنَب مولى بني أَسد بِالْكُوفَةِ وَكثر عَددهمْ بهَا حَتَّى تجاوزوا الألوف وَقَالُوا هُوَ إِلَه وجعفر بن مُحَمَّد إِلَه إِلَّا أَن أَبَا الْخطاب أكبر مِنْهُ وَكَانُوا يَقُولُونَ جَمِيع أَوْلَاد الْحسن أَبنَاء الله وأحباؤه وَكَانُوا يَقُولُونَ أَنهم لَا يموتون وَلَكنهُمْ يرفعون إِلَى السَّمَاء وأشبه على النَّاس بِهَذَا الشَّيْخ الَّذِي ترَوْنَ ثمَّ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية معمر بَائِع الْحِنْطَة بِالْكُوفَةِ وعبدوه وَكَانَ من أَصْحَاب أبي الْخطاب لعنهم الله اجمعين وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية الْحسن بن مَنْصُور حلاج الْقطن المصلوب بِبَغْدَاد بسعي الْوَزير ابْن حَامِد بن الْعَبَّاس رَحمَه الله أَيَّام المقتدر وَقَالَت طَائِفَة بإلاهية مُحَمَّد بن عَليّ ابْن السلمان الْكَاتِب الْمَقْتُول بِبَغْدَاد أَيَّام الراضي وَكَانَ امْر أَصْحَابه أَن يفسق الأرفع قدرا مِنْهُم بِهِ ليولج فِيهِ النُّور وكل هَذِه الْفرق ترى الِاشْتِرَاك فِي النِّسَاء وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بالاهية شباس المغيم فِي وقتنا هَذَا حَيا بِالْبَصْرَةِ وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية أبي مُسلم السراج ثمَّ قَالَت طَائِفَة من هَؤُلَاءِ بإلاهية الْمقنع الْأَعْوَر الْقصار الْقَائِم بثار أبي مُسلم وَاسم هَذَا الْقصار هَاشم وَقتل لَعنه الله أَيَّام الْمَنْصُور وأعلنوا بذلك فَخرج الْمَنْصُور فَقَتلهُمْ وأفناهم إِلَى لعنة الله وَقَالَت الرنودية بإلاهية أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بإلاهية عبد الله بن الخرب الْكِنْدِيّ الْكُوفِي وَعَبده وَكَانَ يَقُول بتناسخ الْأَرْوَاح وَفرض عَلَيْهِم تِسْعَة عشر صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي كل صَلَاة خمس عشر رَكْعَة إِلَى أَن ناظره رجل من متكلمي الصفرية وأوضح لَهُ براهين الدّين فَأسلم وَصَحَّ إِسْلَامه وتبرأ من كل مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأعلم أَصْحَابه بذلك وَأظْهر التَّوْبَة فتبرأ مِنْهُ جَمِيع أَصْحَابه الَّذين كَانُوا يعبدونه وَيَقُولُونَ بإلاهيته ولعنوه وفارقوه وَرَجَعُوا لكهم إِلَى القَوْل بإمامة عبد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب وَبَقِي عبد الله بن الخرب على الْإِسْلَام وعَلى مَذْهَب الصفرية إِلَى أَن مَاتَ وطائفته إِلَى الْيَوْم تعرف بالحزبية وَهِي من السباية الْقَائِلين بإلاهية عَليّ وَطَائِفَة تدعى النصرية غلبوا فِي وقتنا هَذَا على جند الاردن بِالشَّام وعَلى مَدِينَة طبرية خَاصَّة وَمن قَوْلهم لعن فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلعن الْحسن وَالْحُسَيْن ابْني عَليّ رَضِي الله عَنْهُم وسبهم بأقذع السب وقذفهم بِكُل بلية وَالْقطع بِأَنَّهَا وابنيها رَضِي الله عَنْهُم وَلعن مبغضيهم شياطين تصوروا فِي صُورَة الْإِنْسَان وَقَوْلهمْ فِي عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي قَاتل عَليّ رَضِي الله عَنهُ على عَليّ لَعنه الله وَرَضي عَن أبي ملجم فَيَقُول هَؤُلَاءِ أَن عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي أفضل أهل الأَرْض وَأكْرمهمْ فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ خلص روح اللاهوت مِمَّا كَانَ يتشبث فِيهِ من ظلمَة الْجَسَد وكدره فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْجُنُون واسألوا الله الْعَافِيَة من بلَاء الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَهِيَ بِيَدِهِ لَا بيد أحد سواهُ جعل الله حظنا مِنْهَا الأوفى وَاعْلَمُوا أَن كل من كفر هَذِه الكفرات الْفَاحِشَة مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام فَإِنَّمَا عنصرهم الشِّيعَة والصوفية فَإِن من الصُّوفِيَّة من يَقُول أَن من عرف الله تَعَالَى سَقَطت عَنهُ الشَّرَائِع وَزَاد بَعضهم واتصل بِاللَّه تَعَالَى وبلغنا أَن بنيسابور الْيَوْم فِي عصرنا(4/143)
هَذَا رجلا يكنى أَبَا سعيد أَبَا الْخَيْر هَكَذَا مَعًا من الصُّوفِيَّة مرّة يلبس الصُّوف وَمرَّة يلبس الْحَرِير الْمحرم على الرِّجَال وَمرَّة يُصَلِّي فِي الْيَوْم ألف رَكْعَة وَمرَّة لَا يُصَلِّي لَا فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة وَهَذَا كفر مَحْض ونعوذ بِاللَّه من الضلال
ذكر شنع الْخَوَارِج
ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين إِلَى الْإِسْلَام أَن فرقة من الأباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وَهُوَ غير الْمُحدث الْمَشْهُور كَانَ يَقُول إِن فِي هَذِه الْأمة شَاهِدين عَلَيْهَا هُوَ أَحدهمَا وَالْآخر لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا مَتى هُوَ وَلَا يدْرِي لَعَلَّه قد كَانَ قبله وَإِن من كَانَ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى الْعَرَب لَا إِلَيْنَا كَمَا تَقول العيسوية من الْيَهُود قَالَ فَإِنَّهُم مُؤمنُونَ أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَإِن مَاتُوا على هَذَا العقد وعَلى الْتِزَام شرائع الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَأَن دين الْإِسْلَام سينسخ بِنَبِي من الْعَجم يَأْتِي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عَلَيْهِ جملَة وَاحِدَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِلَّا أَن جَمِيع الأباضية يكفرون من قَالَ بِشَيْء من هَذِه المقالات ويبرؤن مِنْهُ ويستحلون دَمه وَمَاله وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب الْحَرْث الأباضي أَن من زنا أَو سرق أَو قذف فَإِنَّهُ يُقَام عَلَيْهِ الْحَد ثمَّ يُسْتَتَاب مِمَّا فعل فَإِن تَابَ ترك وَإِن أَن أَبى التَّوْبَة قتل على الرِّدَّة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وشاهدنا الأباضية عندنَا بالأندلس يحرمُونَ طَعَام أهل الْكتب ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون الْقَضَاء على من نَام نَهَارا فِي رَمَضَان فَاحْتَلَمَ ويتيممون وهم على الْآبَار الَّتِي يشربون مِنْهَا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَقَالَ أَبُو إِسْمَاعِيل البطيحي وَأَصْحَابه وهم من الْخَوَارِج أَن لَا صَلَاة وَاجِبَة إِلَّا رَكْعَة وَاحِدَة بِالْغَدَاةِ وركعة أُخْرَى بالْعَشي فَقَط ويرون الْحَج فِي جَمِيع شهور السّنة ويحرمون أكل السّمك حَتَّى يذبح وَلَا يرَوْنَ أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس ويكفرون من خطب فِي الْفطْرَة والأضحى وَيَقُولُونَ أَن أهل النَّار فِي النَّار فِي لَذَّة ونعيم وَأهل الْجنَّة كَذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وأصل أبي إِسْمَاعِيل هَذَا من الْأزَارِقَة الا انه غلا عَن سَائِر الْأزَارِقَة وَزَاد عَلَيْهِم وَقَالَت سَائِر الأزارفة وهم أَصْحَاب نَافِع بن الْأَزْرَق بِإِبْطَال رجم من زنى وَهُوَ مُحصن وَقَطعُوا يَد السَّارِق من الْمنْكب وأوجبوا على الْحَائِض الصَّلَاة وَالصِّيَام فِي حَيْضهَا وَقَالَ بَعضهم لَا وَلَكِن تقضي الصَّلَاة إِذا طهرت كَمَا تَقْتَضِي الصّيام وأباحوا دم الْأَطْفَال مِمَّن لم يكن فِي عَسْكَرهمْ وَقتل النِّسَاء أَيْضا مِمَّن لَيْسَ فِي عَسْكَرهمْ وبرئت الْأزَارِقَة مِمَّن قعد عَن الْخُرُوج لضعف أَو غَيره وَكَفرُوا من خَالف هَذَا القَوْل بعد موت أول من قَالَ بِهِ مِنْهُم وَلم يكفروا من خَالفه فِيهِ فِي حَيَاته وَقَالُوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عَسْكَرهمْ ويقتلونه إِذا قَالَ أَنا مُسلم ويحرمون قتل من انْتَمَى إِلَى الْيَهُود والى النَّصَارَى أَو إِلَى الْمَجُوس وَبِهَذَا شهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمروق من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرميه إِذْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَنهم يقتلُون أهل الْإِسْلَام ويتركون أهل الْأَوْثَان وَهَذَا من أَعْلَام نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أنذر بذلك وَهُوَ من جزئيات الْغَيْب فَخرج نصا كَمَا قَالَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد بادت الْأزَارِقَة إِنَّمَا كَانُوا اهل عَسْكَر وَاحِد اولهم نَافِع بن الْأَزْرَق وَآخرهمْ عَبدة بن هِلَال العسكري واتصل أَمرهم بضعاً وَعشْرين سنة إِلَّا أَنِّي أَشك فِي صبيح مولى سوار بن الأسعر الْمَازِني مَازِن تَمِيم أخرج بِرَأْي الازارفة أَيَّام هِشَام بن عبد الْملك أم(4/144)
بِرَأْي الصفرية لِأَن أمره لم يطلّ أسر أثر خُرُوجه وَقتل وَقَالَت النجدات وهم أَصْحَاب نجدة بن عويم الْحَنَفِيّ لَيْسَ على النَّاس أَن يتخذوا اماما انما هم عَلَيْهِم أَن يتعاطوا الْحق بَينهم وَقَالُوا من ضعف عَن الْهِجْرَة إِلَى عَسْكَرهمْ فَهُوَ مُنَافِق وَاسْتَحَلُّوا دم الْعقْدَة واموالهم وَقَالُوا من كذب كذبة صَغِيرَة أَو عمل عملا صَغِيرا فأصر على ذَلِك فَهُوَ كَافِر مُشْرك وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي الْكَبَائِر وَأَن من عمل من الْكَبَائِر غير مصر عَلَيْهَا فَهُوَ مُسلم وَقَالَ جَائِز أَن يعذب الله الْمُؤمنِينَ بِذُنُوبِهِمْ لَكِن فِي غير النَّار وَأما النَّار فَلَا وَقَالُوا أَصْحَاب الْكَبَائِر مِنْهُم لَيْسُوا كفَّارًا وَأَصْحَاب الْكَبَائِر من غَيرهم كفار وَقد بادت النجدات وَقَالَت طَائِفَة من الصفرية بِوُجُوب قتل كل من أمكن قَتله من مُؤمن عِنْدهم أَو كَافِر وَكَانُوا يؤلون الْحق بِالْبَاطِلِ وَقد بادت هَذِه الطَّائِفَة وَقَالَت الميمونية وهم فرقة من العجاردة والعجاردة فرقة من الصفرية بِإِجَازَة نِكَاح بَنَات الْبَنَات وَبَنَات الْبَنِينَ وَبَنَات بني الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات وَذكر ذَلِك عَنْهُم الْحُسَيْن بن عَليّ الكراسي وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة فِي الدّين والْحَدِيث وَلم يبْق الْيَوْم من فرق الْخَوَارِج إِلَّا الإباضية والصفرية فَقَط وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب البيهسية وهم أَصْحَاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية إِن كَانَ صَاحب كَبِيرَة فِيهَا حد فَإِنَّهُ لَا يكفر حَتَّى يرفع إِلَى الإِمَام فَإِذا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَد فَحِينَئِذٍ يكفر وَقَالَت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية أَن الْوَاجِب فِي الزَّكَاة نصف الْعشْر مِمَّا سقِِي بالأنهار والعيون وَقَالَت العونية وهم طَائِفَة من البيهسية الَّتِي ذكرنَا آنِفا أَن الإِمَام إِذا قضي قَضِيَّة جور وَهُوَ بخراسان أَو بغَيْرهَا حَيْثُ كَانَ من الْبِلَاد فَفِي ذَلِك الْحِين نَفسه يكفر هُوَ وَجَمِيع رَعيته حَيْثُ كَانُوا من شَرق الأَرْض وغربها وَلَو بالأندلس واليمن فَمَا بَين ذَلِك من الْبِلَاد وَقَالُوا أَيْضا لَو وَقعت قَطْرَة خمر فِي جب مَاء بفلاة من الأَرْض فَإِن كل من خطر على ذَلِك الْجب فَشرب مِنْهُ وَهُوَ لَا يدْرِي مَا وَقع فِيهِ كَافِر بِاللَّه تَعَالَى قَالُوا إِلَّا ان الله تَعَالَى يوفق الْمُؤمن لاجتنابه وَقَالَت الفضيلية من الصفرية من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله بِلِسَانِهِ وَلم يعْتَقد ذَلِك بِقَلْبِه بل اعْتقد الْكفْر اوالدهرية اواليهودية أَو النَّصْرَانِيَّة فَهُوَ مُسلم عِنْد الله مُؤمن وَلَا يضرّهُ اذا قَالَ الْحق بِلِسَانِهِ مَا اعْتقد بِقَلْبِه وَقَالَت طَائِفَة من الصفرية أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بعث فَفِي حِين بَعثه فِي ذَلِك الْوَقْت من ذَلِك الْيَوْم لزم جَمِيع أهل الْمشرق وَالْمغْرب الْإِيمَان بِهِ وان لم يعرفوا جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ من الشَّرَائِع فَمن مَاتَ مِنْهُم قبل أَن يبلغهُ شَيْء من ذَلِك مَاتَ كَافِرًا وَقَالَت العجاردة أَصْحَاب عبد الْكَرِيم بن عجرد من الصفرية أَن من بلغ الْحلم من الوادهم وبناتهم فهم برَاء مِنْهُ وَمن دينه حَتَّى يقر بِالْإِسْلَامِ فيتولوه حِينَئِذٍ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فعلى هَذَا إِن قَتله قَاتل قبل أَن يلفظ بِالْإِسْلَامِ فَلَا قَود وَلَا دِيَة وَإِن مَاتَ لم يَرث وَلم يُورث وَقَالَت طَائِفَة من العجاردة لَا نتولى الْأَطْفَال قبل الْبلُوغ وَلَا نبرأ مِنْهُم لَكِن نقف فيهم حَتَّى يلفظوا بِالْإِسْلَامِ بعد الْبلُوغ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والعجاردة هم الغالبون على خوارج خُرَاسَان كَمَا أَن النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الاندلس وَقَالَت المكرومية وهم أَصْحَاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أَصْحَاب ثَعْلَبَة وَهُوَ من الصفرية وَإِلَى قَول الثعالبة رَجَعَ عبد الله بن باض فبرئ مِنْهُ أَصْحَابه فهم لَا يعرفونه الْيَوْم وَلَقَد سَأَلنَا من هُوَ مقدمهم فِي علمهمْ ومذهبهم عَنْهُم فَمَا عرفه أحد مِنْهُم وَكَانَ من قَول المكرمية هَؤُلَاءِ أَن من أَتَى كَبِيرَة فقد جهل الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر لَيْسَ من أجل الْكَبِيرَة كفر لَكِن لِأَنَّهُ جهل الله عزوجل فَهُوَ كَافِر بجهله بِاللَّه تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة من الْخَوَارِج(4/145)
مَا كَانَ من الْمعاصِي فِيهِ حد كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْقَذْف فَلَيْسَ فَاعله كَافِرًا وَلَا مُؤمنا وَلَا منافقاً وَأما مَا كَانَ من الْمعاصِي لَا حد فِيهِ فَهُوَ كَافِر وفاعله وَقَالَت الحفصية وهم أَصْحَاب حَفْص بن ابي الْمِقْدَام من الأباضية من عرف الله تَعَالَى وَكفر بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهوكافر وَلَيْسَ بمشرك وَإِن جهل الله تَعَالَى أَو جَحده فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْرك وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْحَرْث الأباضي المُنَافِقُونَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانُوا مُوَحِّدين لله تَعَالَى أَصْحَاب كَبَائِر وَمن حماقاتهم قَول بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول كل ذَنْب صَغِير أَو كَبِير وَلَو كَانَ أَخذ حَبَّة خَرْدَل بِغَيْر حق أَو كذبة خَفِيفَة على سَبِيل المزاح فَهِيَ شرك بِاللَّه وفاعلها كَافِر مُشْرك مخلد فِي النَّار إِلَّا أَن يكون من أهل الْجنَّة وَهَذَا حكم طَلْحَة وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْدهم وَمن حماقاتهم قَول عبد الله بن عِيسَى تلميذ بكر بن أُخْت عبد الْوَاحِد بن زيد الْمَذْكُور فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن المجانين والبهايم والأطفال مالم يبلغُوا الْحلم فَإِنَّهُم لَا يألمون الْبَتَّةَ لشَيْء مِمَّا ينزل بهم من الْعِلَل وحجته فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى لَا يظلم أحدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لعمري لقد طرد أصل الْمُعْتَزلَة وَأَن من خَالفه فِي هَذِه المتلوث فِي الحماقة متكسع فِي التَّنَاقُض
ذكر شنع الْمُعْتَزلَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَت الْمُعْتَزلَة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الْغَطَفَانِي الْكُوفِي وَمن وَافقه كحفص الْفَرد وكلثوم وَأَصْحَابه أَن جَمِيع أَفعَال الْعباد من حركاتهم وسكونهم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وَجل ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة خلقهَا فاعلوها دون الله تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة هِيَ أَفعَال مَوْجُودَة لَا خَالق لَهَا أصلا وَقَالَت طَائِفَة هِيَ أَفعَال الطبيعة وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر بِلَا تكلّف وَقَالَت الْمُعْتَزلَة كلهاحاشا ضرار بن عَمْرو الْمَذْكُور وحاشا أَبَا سهل بشر بن العمير الْبَغْدَادِيّ النخاس بالرقيق أَن الله عز وَجل لَا يقدر الْبَتَّةَ على لطف يلطف بِهِ الْكَافِر حَتَّى يُؤمن إيمانايستحق بِهِ الْجنَّة وَالله عز وَجل لَيْسَ فِي قوته أحسن مِمَّا فعل بِنَا وَإِن هَذَا الَّذِي فعل هُوَ مُنْتَهى طاقته وَآخر قدرته الَّتِي لَا يُمكنهُ وَلَا يقدر على أَكثر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تعجيز مُجَرّد للباري تَعَالَى وَوصف لَهُ بِالنَّقْصِ وَكلهمْ لَا نحاشى أحدا يَقُول أَنه لَا يقدر على الْمحَال وَلَا على أَن يَجْعَل الْجِسْم سَاكِنا متحركاً مَعًا فِي حَال وَاحِدَة وَلَا على أَن يَجْعَل إنْسَانا وَاحِدًا فِي مكانين مَعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تعجيز مُجَرّد لله تَعَالَى وَإِيجَاب النِّهَايَة والإنقضاء لقدرته تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل بن مَكْحُول العلاف مولى عبد الْقَيْس بَصرِي أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة ومتقدميهم إِن لما يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ آخر اَوْ لقدرته نِهَايَة لَو خرج إِلَى الْفِعْل لم يقدر الله تَعَالَى بعد ذَلِك على شَيْء أصلا وَلَا على خلق ذرة فَمَا فَوْقهَا وَلَا إحْيَاء بعوضة ميتَة وَلَا على تَحْرِيك ورقة فَمَا فَوْقهَا وَلَا على أَن يفعل شَيْئا أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه حَالَة من الضعْف والمهانة وَالْعجز قد ارْتَفَعت البق والبراغيث والدود مُدَّة حَيَاتهَا عَنْهَا وَعَن أَن تُوصَف بهَا وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ وَزعم أَبُو الْهُذيْل أَيْضا أَن أهل الْجنَّة وَأهل النَّار تفنى حركاتهم حَتَّى يصيروا جماداً لَا يقدرُونَ على تَحْرِيك شَيْء من أعضائهم وَلَا على البراح من مواضعهم وهم فِي تِلْكَ الْحَال متلذذون ومتألمون إِلَّا أَنهم(4/146)
لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون وَلَا يطئون بعد هَذَا أبدا وَكَانَ يزْعم أَيْضا لما يُعلمهُ عز وَجل آخر أَو نِهَايَة وكلا لَا يعلم الله شَيْئا سواهُ وَادّعى قوم من الْمُعْتَزلَة أَنه تَابَ عَن هَذِه الطوام الثَّلَاث
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَا يَصح وَإِنَّمَا دعوا ذَلِك حَيَاء من هَذِه الكفرات الصُّلْح لإمامهم إِمَام الضَّلَالَة وَذكر عَن أبي الْهُذيْل أَيْضا أَنه قَالَ أَن الله عز وَجل لَيْسَ خلافًا لخلقه وَالْعجب أَنه مَعَ هَذِه الْأَقْدَام الْعَظِيم بنكر النشبية وَهَذَا عين النشبية لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا خلاف أَو مثل أَو ضد فَإِذا بَطل أَن يكون خلافًا وضد فَهُوَ مثل وَلَا بُد تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا أَو كَانَ أَبُو الْهُذيْل يَقُول إِن الله لم يزل عليماً وَكَانَ يُنكر أَن يُقَال إِن الله لم يزل سميعاً بَصيرًا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خلاف الْقُرْآن لِأَن الله عز وَجل قَالَ {وَكَانَ الله سميعاً بَصيرًا} كَمَا قَالَ {وَكَانَ الله عليماً حكيماً} وَكلهمْ قَالَ إِن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن من مَاتَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يُؤمن أبدا وَأَنه تَعَالَى حكم وَقَالَ أَن أَبَا لَهب وَامْرَأَته سيصليان النَّار كَافِرين ثمَّ قطعُوا كلهم بِأَن أَبَا لَهب وَامْرَأَته كَانَا قَادِرين على الْإِيمَان على أَن لَا تمسهما النَّار وأنهما كَانَ مُمكنا لَهَا تَكْذِيب الله عز وَجل إنَّهُمَا كَانَا قَادِرين على إبِْطَال علم الله عز وَجل وعَلى أَن يجعلاه كَاذِبًا فِي قَوْله هَذَا نَص قَوْلهم بِلَا تَأْوِيل قَالَ وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن سيار النظام أَو إِسْحَاق الْبَصْرِيّ مولى بني بحير بن الْحَارِث بن عباد الضبعِي أكبر شُيُوخ الْمُعْتَزلَة ومقدمة عُلَمَائهمْ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يقدر على ظلم أحد أصلا وَلَا على شَيْء من الشَّرّ وَأَن النَّاس يقدرُونَ على كل ذَلِك وَأَنه تَعَالَى لَو كَانَ قَادِرًا على ذَلِك لَكنا لَا نَأْمَن أَن يَفْعَله أَو أَنه قد فعله فَكَانَ النَّاس عِنْده أتم قدرَة من الله تَعَالَى وَكَانَ يُصَرح بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِخْرَاج أحد من جَهَنَّم وَلَا إِخْرَاج أحد من أهل الْجنَّة عَنْهَا وَلَا على طرح طِفْل من جَهَنَّم وَأَن النَّاس وكل وَاحِد من الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة يقدرُونَ على ذَلِك فَكَانَ الله عز وَجل عِنْده أعجز من كل ضَعِيف من خلقه وَكَانَ كل أحد من الْخلق أتم قدرَة من الله تَعَالَى وَهَذَا الْكفْر الْمُجَرّد الَّذِي نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَمن الْعجب اتِّفَاق النظام والعلاف شَيْخي الْمُعْتَزلَة على أَنه لَيْسَ يقدر الله تَعَالَى من الْخَيْر على أصلح مَا عمل فاتفقا على أَن قدرته على الْخَيْر متناهية ثمَّ قَالَ النظام أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الشَّرّ جملَة فَجعله عديم قدرَة على الشَّرّ عَاجِزا عَنهُ وَقَالَ العلاف بل هُوَ قَادر على الشَّرّ جملَة فَجعل ربه متناهي الْقُدْرَة على الْخَيْر وَغير متناهي الْقُدْرَة على الشَّرّ فَهَل سمع بأخبث صفة من الصّفة الَّتِي وصف بهَا العلاف ربه وَهل فِي الموصوفين أَخبث طبيعة من الْمَوْصُوف الَّذِي ادّعى العلاف أَنه ربه ونعوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَأما أَبُو الْمُعْتَمِر معمر بن عمر والعطار الْبَصْرِيّ مولى بني سليم أحد شيوخهم وأثمنهم فَكَانَ يَقُول بِأَن فِي الْعَالم أَشْيَاء مَوْجُودَة لَا نِهَايَة لَهَا وَلَا يحصيها الْبَارِي تَعَالَى وَلَا أحد أَيْضا غَيره وَلَا لَهَا عِنْده مِقْدَار وَلَا عدد وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَقُول أَن الْأَشْيَاء تخْتَلف بمعان فِيهَا وَأَن تِلْكَ الْمعَانِي تخْتَلف بمعان أخر فِيهَا وَتلك الْمعَانِي تخْتَلف بمعان أخر فِيهَا وَهَكَذَا بِلَا نِهَايَة أَيْضا تَكْذِيب وَاضح لله تَعَالَى فِي قَوْله {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وأحصى كل شَيْء عددا} وَوَافَقَهُ الدهرية فِي قَوْلهم بِوُجُود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا وعَلى هَذَا طلبته الْمُعْتَزلَة وبالبصرة عِنْد السُّلْطَان حَتَّى فر إِلَى بَغْدَاد وَمَات بهَا مختفياً عِنْد إِبْرَاهِيم بن السَّيِّد بن شاهك بو وَكَانَ معمر أَيْضا يزْعم أَن الله عز وَجل لم يخلق شَيْئا من الألوان وَلَا طولا وَلَا عرضا وَلَا طعماً وَلَا رَائِحَة وَلَا خشونة وَلَا أملاساً وَلَا حسنا وَلَا قبيحاً وَلَا صَوتا وَلَا قُوَّة وَلَا ضعفا وَلَا موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا وَلَا مَرضا وَلَا صِحَة وَلَا عَافِيَة وَلَا سقماً وَلَا عمى وَلَا بكماً وَلَا بصراً(4/147)
وَلَا سمعا وَلَا فصاحة وَلَا فَسَاد للثمار وَلَا صَلَاحهَا وَإِن كل ذَلِك فعل الْأَجْسَام الَّتِي وجدت فِيهَا هَذِه الْأَعْرَاض بطباعها فأعملوا أَن هَذَا الْفَاسِق قد أخرج نصف الْعَالم عَن خلق الله تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ للْعَالم شَيْء إِلَّا الْجَوَاهِر الحاملة والأعراض المحمولة فَقَط فالنصف الْوَاحِد عِنْده غير مَخْلُوق لَعنه الله من مكذب لله تَعَالَى فِي نَص قَوْله تَعَالَى {خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقد عورض معمر بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنه خلق الإماتة والإحياء وَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يُنكر أَن يكون الله عز وَجل عَالما بِنَفسِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْعَالم إِنَّمَا يعلم غير مولا يعلم نَفسه وَكَانَ يزْعم أَن النَّفس لَيست جسماً وَلَا عرضا وَلَا هِيَ فِي مَكَان أصلا وَلَا تماس شَيْئا وَلَا تباينه وَلَا تتحرك وَلَا تسكن
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا قَول أهل الْإِلْحَاد مَحْضا بِلَا تَأْوِيل بِعني الْقَائِلين مِنْهُم بقدم النَّفس وَأَنَّهَا الخالقة للْإنْسَان نَعُوذ بِاللَّه من الضلال وَكَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يعلم نَفسه وَلَا يجهلها لِأَن الْعَالم غير الْمَعْلُوم ومحال أَن يقدر على الموجودات أَو أَن يعلمهَا وَأَن يجهلها وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد الْأَنْبَارِي الْمَعْرُوف بالناشيء ولقبه شرسير فِي كِتَابه فِي المقالات وَأَن الله تَعَالَى عَن كفره لَا يقدر على أَن يُسَوِّي بنان الْإِنْسَان بعد أَن سبق فِي علمه أَنه لَا يسويها
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا تَكْذِيب مَحْض لله تَعَالَى فِي قَوْله {أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه} وَرَأَيْت للجاحظ فِي كِتَابه الْبُرْهَان لَو أَن سَائِلًا سَأَلَهُ وَقَالَ أيقدر الله على أَن يخلق قبل الدُّنْيَا دنيا أُخْرَى فَجَوَابه نعم بِمَعْنى أَنه يخلق تِلْكَ الدُّنْيَا حِين خلق هَذِه فَتكون مثل هَذِه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا تعجيز مِنْهُ للباري تَعَالَى كَمَا قدمنَا إِذْ لم تحصل لَهُ تَعَالَى قدرَة على خلق دنيا قبل هَذِه إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي ذكره وَأما على غَيره فَلَا فَإِن قيل كَيفَ تجيبون قُلْنَا جَوَابنَا نعم على الْإِطْلَاق فَإِن قيل لنا كَيفَ يَصح هَذَا السُّؤَال وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لَا يجوز أَن يُقَال أَن قبل الْعَالم شَيْئا لِأَن قيل وَبعده من الزَّمَان وَلَا زمَان هُنَالك قُلْنَا معنى قَوْلنَا نعم أَي أَنه تَعَالَى لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق عَالما وَلَو خلقه لَكَانَ لَهُ زمَان قبل زمَان هَذَا الْعَالم وَهَكَذَا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما ضِرَارًا بن عمر فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن مُمكنا أَن يكون جَمِيع من فِي الأَرْض مِمَّن يظْهر الْإِسْلَام كفَّارًا كلهم فِي بَاطِن أَمرهم لِأَن كل ذَلِك جَائِز على كل وَاحِد مِنْهُم فِي ذَاته وَمن حماقات ضرار أَنه كَانَ يَقُول أَن الْأَجْسَام إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض مجتمعة وَأَن النَّار لَيْسَ فِيهَا حر وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَسَل حلاوة وَلَا فِي الصَّبْر مرَارَة وَلَا فِي الْعِنَب عصير وَلَا فِي الزَّيْتُون زَيْت وَلَا فِي الْمَعْرُوف دم وَإِن كَانَ ذَلِك إِنَّمَا يخلقه الله عز وَجل عِنْد الْقطع والذوق وَالْعصر واللمس فَقَط وَأما أَبُو عُثْمَان عَمْرو بن الجاحظ القصري الْكِنَانِي صليبه وَقيل بل هُوَ مولى وَهُوَ تلميذ النظام وَأحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يقدر على إفناء الْأَجْسَام الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يرفقها وَيفرق أَجْزَائِهَا فَقَط وَأما إعدامها فَلَا يقدر على ذَلِك أصلا وَأما أَبُو معمر وثمامة بن أَشْرَس النميري صليبه بَصرِي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وعلمائهم فَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول أَن الْعَالم فعل الله عز وَجل بطباعه تَعَالَى الله عَن هَذَا الْكفْر الشنيع علوا كَبِيرا وَكَانَ يزْعم أَن المقلدين من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَعباد الْأَوْثَان لَا يدْخلُونَ النَّار يَوْم الْقِيَامَة لَكِن يصيرون تُرَابا وَإِن كل من مَاتَ من أهل الْإِسْلَام وَالْإِيمَان الْمَحْض وَالِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة مصرا على كَبِيرَة من الْكَبَائِر كشرب الْخمر وَنَحْوهَا وَإِن كَانَ لم يواقع ذَلِك إِلَّا مرّة(4/148)
فِي الدَّهْر فَإِنَّهُ مخلد بَين أطباق النيرَان أبدا مَعَ فِرْعَوْن وَأب وَأبي جهل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأَي كفر أعجب من قَول من يَقُول أَن كثيرا من الْكفَّار لَا يدْخلُونَ النَّار وَإِن كثيرا من الْمُسلمين لَا يدْخلُونَ الْجنَّة وَكَانَ ثُمَامَة يَقُول إِن إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمِيع أَولا د الْمُسلمين الَّذين يموتون قبل الْحلم وَجَمِيع مجانين الْإِسْلَام لَا يدْخلُونَ الْجنَّة أبدا لَكِن يصيرون تُرَابا وَأما هِشَام بن عَمْرو الفوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَكَانَ يَقُول إِذا خلق الله تَعَالَى شَيْئا فَإِنَّهُ لَا يقدر على أَن يخلق مثل ذَلِك الشَّيْء أبدا لَكِن الله يقدر على أَن يخلق غَيره والغير أَن عِنْده لَا يكونَانِ مثلين وَكَانَ لَا يُجِيز لأحد أَن يَقُول حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا أَن الله يعذب الْكفَّار بالنَّار وَلَا أَنه يحيي الأَرْض بالمطر ويروي هَذَا القَوْل وَالْقَوْل بِأَن الله تَعَالَى يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء ضلالا وإلحاداً
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا رد على الله جهاراً وَكَانَ يَقُول لَا يحل القَوْل بِشَيْء من هَذَا إِلَّا عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن فَقَط وَكَانَ يَقُول قُولُوا حَسبنَا الله وَنعم المتَوَكل عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول أَن الله يعذب الْكفَّار فِي النَّار ويحي الأَرْض عِنْد نزُول الْمَطَر وَكَانَ لَا يُجِيز القَوْل بِأَن الله ألف بَين قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَلَا أَن الْقُرْآن عَمَّا على الْكَافرين وَكَانَ يَقُول أَن من هُوَ الْآن مُؤمن عَابِد إِلَّا أَن فِي علم الله أَنه يَمُوت كَافِر فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله كَافِر وَإِن من كَانَ كَافِرًا مجوسياً أَو نَصْرَانِيّا أَو دهرياً أَو زنديقاً إِلَّا أَن فِي علم الله عز وَجل إِنَّه يَمُوت مُؤمنا فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله مُؤمن وَأما عباد بن سُلَيْمَان تلميذ الفوطي الْمَذْكُور فَكَانَ يزْعم أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا فعل من الصّلاح وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى خلق الْمُؤمنِينَ وَلَا أَنه خلق الْكَافرين وَلَكِن يُقَال خلق النَّاس وَذَلِكَ زعم لِأَن الْمُؤمن عِنْده إِنْسَان وإيمان وَالْكَافِر إِنْسَان وَكفر وَأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خلق عِنْده الْإِنْسَان فَقَط وَلم يخلق الْإِيمَان وَلَا الْكفْر وَكَانَ يَقُول أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على أَن يخلق غير مَا خلق وَأَنه تَعَالَى لم يخلق المجاعة وَلَا الْقَحْط وَكلهمْ بزعم أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر الْكفَّار قطّ بِأَن يُؤمنُوا فِي حَال كفرهم وَلَا نهى الْمُؤمنِينَ قطّ عَن الْكفْر فِي حَال إِيمَانهم لِأَنَّهُ لَا يقدر أحد قطّ على الْجمع بَين الْفِعْلَيْنِ المتضادين
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وهم مقرون أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن من يُؤمن بعد كفره فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي كفره إِلَى أَن يُؤمن وَإِن من يكفر بعد إيمَانه فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي إيمَانه حَتَّى يكفروا وَأَن من لَا يُؤمن من الْكفَّار أبدا فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي كفره إِلَى أَن يَمُوت وَأَن من لَا يكفر من الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي إيمَانه إِلَى أَن يَمُوت وَلَيْسَ أحد من المأمورين يخرج عَن أحد هَذِه الْوُجُوه الْأَرْبَعَة ضَرُورَة فَإِذا كَانَ عِنْدهم لم يُؤمر قطّ كَافِر بِالْإِيمَان فِي حَال كفره وَلَا نهى مُؤمن عَن الْكفْر فِي حَال إيمَانه فَإِنَّهُ من لم يزل مُؤمنا إِلَى أَن مَاتَ لم يَنْهَهُ الله عز وَجل عَن الْكفْر قطّ وَإِن من لم يزل كَافِرًا إِلَى أَن مَاتَ فَإِن الله لم يَأْمُرهُ قطّ بِالْإِيمَان وَأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر قطّ بِالْإِيمَان وَمن لم يزل كَافِرًا إِلَى أَن مَاتَ فَإِن الله تَعَالَى لم يَأْمُرهُ قطّ بِالْإِيمَان وَأَن الله تَعَالَى لم يَأْمر قطّ بِالْإِيمَان من آمن بعد كفره إِلَّا حِين آمن وَلَا نهى قطّ عَن الْكفْر من كفر بعد إيمَانه إِلَّا حِين كفر وَهَذَا تَكْذِيب مُجَرّد لله تَعَالَى فِي أمره الْكفَّار وَأهل الْكتاب بِالْإِيمَان ونهبه الْمُؤمنِينَ عَن الْكفْر وَكَانَ بشر بن الْمُعْتَمِر أَيْضا يَقُول أَن الله تَعَالَى لم يخلق قطّ لوناً وَلَا طعماً وَلَا رَائِحَة وَلَا مجسة وَلَا شدَّة وَلَا ضعفا وَلَا عَمَّا وَلَا بصراً وَلَا سمعا وَلَا جبنا وَلَا شجاعة وَلَا كشفاً وَلَا عَجزا وَلَا صِحَة وَلَا مَرضا وَأَن النَّاس يَفْعَلُونَ كل ذَلِك فَقَط وَأما جَعْفَر القصبي(4/149)
بَايع الْقصب والأشج وهما من رُؤَسَائِهِمْ فَكَانَا يَقُولَانِ أَن الْقُرْآن لَيْسَ هُوَ فِي الْمَصَاحِف وَإِنَّمَا فِي الْمَصَاحِف شَيْء آخر وَهُوَ حِكَايَة الْقُرْآن
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر مُجَرّد وَخلاف جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَدِيما وحديثاً وَكَانَ على الأسواري الْبَصْرِيّ أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة يَقُول إِن الله عز وَجل لَا يقدر على غير فعل مَا فعل وَإِن من علم الله تَعَالَى أَنه يَمُوت ابْن ثَمَانِينَ سنة فَإِن الله لَا يقدر على أَن يميته قبل ذَلِك وَلَا أَن يبقيه طرفَة عين بعد ذَلِك وَأَن من علم الله تَعَالَى من مَرضه يَوْم الْخَمِيس مَعَ الزَّوَال مثلا فَإِن الله تَعَالَى لَا يقدر على أَن يبريه قبل ذَلِك لَا بِمَا قرب وَلَا بِمَا بعد وَلَا على أَن يزِيد فِي مَرضه طرفَة عين فَمَا فَوْقهَا وَأَن النَّاس يقدرُونَ كل حِين على إماتة من علم الله أَن لَا يَمُوت إِلَّا وَقت كَذَا وَأَن الله لَا يقدر على ذَلِك وَهَذَا كفر مَا سمع قطّ بأفظع مِنْهُ وَأما أَبُو غفار أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فَكَانَ يزْعم أَن شَحم الْخِنْزِير ودماغه حَلَال
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا كفر صَرِيح لَا خَفَاء بِهِ وَكَانَ يزْعم أَن تفخيذ الرِّجَال الذُّكُور حَلَال وَقد ذكر هَذَا عَن ثُمَامَة أَيْضا وكل هَذَا كفر مَحْض وَأما أَحْمد ابْن خابط وَالْفضل الْحَرْبِيّ النصريان وَكَانَا تلميذين لإِبْرَاهِيم النظام فَكَانَا يزعمان أَن للْعَالم خالقين أَحدهمَا قديم وَهُوَ الله تَعَالَى وَالْآخر حَادث وَهُوَ كلمة الله عز وَجل الْمَسِيح عيس ابْن مَرْيَم الَّتِي بهَا خلق الْعَالم وَكَانَا لعنهما الله يطعنان على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّزْوِيجِ وَأَن أَبَا ذَر كَانَ أزهد مِنْهُ وَكَانَ أَحْمد بن خابط يزْعم أَن الَّذِي يَجِيء بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ الْمَلَائِكَة صفا صفا فِي ظلل من الْغَمَام إِنَّمَا هُوَ الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الَّذِي خلق آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ الْمَسِيح عيس ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْمَسِيح هُوَ الَّذِي يُحَاسب النَّاس يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ أَحْمد بن خابط لَعنه الله يَقُول إِن فِي كل نوع من أَنْوَاع الطير والسمك وَسَائِر حَيَوَان الْبر حَتَّى البق والبراغيث وَالْقمل والقرود وَالْكلاب والفيران والتيوس وَالْحمير والدود والوزغ والجعلان أَنْبيَاء الله تَعَالَى رِسَالَة إِلَى أنواعهم مِمَّا ذكرنَا من سَائِر الْأَنْوَاع وَكَانَ لَعنه الله يَقُول بالتناسخ والكرور وَأَن الله تَعَالَى ابتدا جَمِيع الْخلق فخلقهم كلهم جملَة وَاحِدَة بِصفة وَاحِدَة ثمَّ أَمرهم ونهاهم فَمن عصى مِنْهُم نسخ روحه فِي جَسَد بَهِيمَة فالعتال يبتلى بِالرِّيحِ كالغنم وَالْإِبِل وَالْبَقر والدجاج وَغير ذَلِك من البراغيث وكل مَا يقتل فِي الْأَغْلَب وَإِن من كَانَ مِنْهُم فِي فسقه وَقَتله للنَّاس عفيفاً كُوفِي بِالْقُوَّةِ على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وَغير ذَلِك وَمن كَانَ زَانيا وزانية كوفيا بِالْمَنْعِ من الْجِمَاع كالبغال والبغلات وَمن كَانَ جباراً كُوفِي بالمهانة كالدود وَالْقمل وَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يقْتَصّ مِنْهُم ثمَّ يردون فَمن عصى مِنْهُم كرر أَيْضا كَذَلِك هَكَذَا أبدا حَتَّى يُطِيع طَاعَة لَا مَعْصِيّة مَعهَا فَينْتَقل إِلَى الْجنَّة من وقته أَو يَعْصِي مَعْصِيّة لَا طَاعَة مَعهَا فَينْتَقل إِلَى جَهَنَّم من وقته وَإِنَّمَا حمله على القَوْل بِكُل هَذَا لُزُومه أصل الْمُعْتَزلَة فِي الْعدْل وطرده إِيَّاه مَشْيه مَعَه وَاعْلَمُوا أَن كل من لم يقل من الْمُعْتَزلَة بِهَذَا القَوْل فَإِنَّهُ متناقض تَارِك لَا صلهم فِي الْعدْل وَكَانَ لَعنه الله يَقُول أَن للثَّواب دارين إِحْدَاهمَا لَا أكل فِيهَا وَلَا شرب وَهِي أرفع قدرا من الثَّانِيَة وَالثَّانيَِة فِيهَا أكل وَشرب وَهِي أنقص قدرا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كُله كفر مَحْض وَكَانَ لهَذَا الْكَافِر أَحْمد بن خابط تلميذ على مذْهبه يُقَال لَهُ أَحْمد بن سابوس كَانَ يَقُول بقول معلمه فِي التناسخ ثمَّ ادّعى النُّبُوَّة وَقَالَ أَنه المُرَاد بقول الله عز وَجل وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مرّة(4/150)
بن نجيح الأندلسي يُوَافق الْمُعْتَزلَة فِي الْقدر وَكَانَ يَقُول أَن علم الله وَقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وَأَن لله تَعَالَى علمين أَحدهمَا أحدثه جملَة وَهُوَ علم الْكتاب وَهُوَ علم الْغَيْب كعلمه أَنه سَيكون كفار ومؤمنون وَالْقِيَامَة وَالْجَزَاء وَنَحْو ذَلِك وَالثَّانِي علم الجزئيات وَهُوَ علم الشَّهَادَة وَهُوَ كفر زيد وإيمان عمر وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يعلم الله تَعَالَى من ذَلِك شَيْئا حَتَّى يكون وَذكر قَول الله تَعَالَى {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة}
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ظن بل على ظَاهره أَنه يعلم مَا تَفْعَلُونَ وَإِن أخفيتم وَيعلم مَا غَابَ عَنْكُم مِمَّا كَانَ أَو يكون أَو هُوَ كَائِن
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَإِنَّمَا حمله على هَذَا القَوْل طرده لأصول الْمُعْتَزلَة حَقًا فَإِن من قَالَ مِنْهُم أَن الله تَعَالَى لم يزل يعلم أَن فلَانا لَا يُؤمن أبدا وَأَن فلَانا لَا يكفر أبدا ثمَّ جعل النَّاس قَادِرين على تَكْذِيب كَلَام رَبهم وعَلى إبِْطَال مَا لم يزل وَهَذَا تنَاقض فَاحش لَا خَفَاء بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَكَانَ من أَصْحَابه جمَاعَة يكفرون من قَالَ أَنه عز وَجل لم يزل يعلم كل مَا يكون قبل أَن يكون وَكَانَ من أَصْحَاب مذْهبه رجل يُقَال لَهُ إِسْمَاعِيل ابْن عبد الله الرعيني مُتَأَخّر الْوَقْت وَكَانَ من الْمُجْتَهدين فِي الْعِبَادَة المنقطعين فِي الزّهْد وأدركته إِلَّا أَبى لم ألقه ثمَّ أحدث أقوالاً سَبْعَة فبريء مِنْهُ سَائِر المربة وكفروه إِلَّا من أتبعه مِنْهُم فَمَا أحدث قَوْله أَن الأجساد لَا تبْعَث أبدا وَإِنَّمَا تبْعَث الْأَرْوَاح صَحَّ هَذَا عندنَا عَنهُ وَذكر عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول أَنه حِين موت الْإِنْسَان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الْحساب وَيصير إِمَّا إِلَى الْجنَّة أَو إِلَى النَّار وَأَنه كَانَ لَا يقر بِالْبَعْثِ إِلَّا على هَذَا الْوَجْه وَأَنه كَانَ يَقُول أَن الْعَالم لَا يفنى أبدا بل هَكَذَا يكون الْأَمر بِلَا نِهَايَة وحَدثني الْفَقِيه أَبُو أَحْمد المعار فِي الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قَالَ أَخْبرنِي يحيى بن أَحْمد الطَّبِيب وَهُوَ ابْن ابْنة إِسْمَاعِيل الرعيني الْمَذْكُور قَالَ أَن جدي كَانَ يَقُول أَن الْعَرْش هُوَ الْمُدبر للْعَالم وَأَن الله تَعَالَى أجل من أَن يُوصف بِفعل شَيْء أصلا وَكَانَ ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن مَسَرَّة ويحتج بِأَلْفَاظ فِي كتبه لَيْسَ فِيهَا لعمري دَلِيل على هَذَا القَوْل وَكَانَ يَقُول لسَائِر المرية إِنَّكُم لن تفهموا عَن الشَّيْخ فبرئت مِنْهُ المرية أَيْضا على هَذَا القَوْل وَكَانَ أَحْمد الطَّبِيب صهره مِمَّن بَرِيء مِنْهُ وَتثبت ابْنَته على هَذِه الْأَقْوَال متبعة لأَبِيهَا مُخَالفَة لزَوجهَا وَابْنهَا وَكَانَت متكلمة ناسكة مجتهدة ووافقت أَبَا هَارُون بن إِسْمَاعِيل الرعيني على هَذَا القَوْل فَأنكرهُ وبريء من قَائِله وَكذب ابْن أَخِيه فِيمَا ذكر عَن أَبِيه وَكَانَ مخالفوه من المرية وَكثير من موافقيه ينسبون إِلَيْهِ القَوْل باكتساب النُّبُوَّة وَأَن من بلغ الْغَايَة من الصّلاح وطهارة النَّفس أدْرك النُّبُوَّة وَأَنَّهَا لَيست اختصاصاً أصلا وَقد رَأينَا مِنْهُم من ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن مرّة ويستدل على ذَلِك بِأَلْفَاظ كَثِيرَة فِي كتبه هِيَ لعمري لتشير إِلَى ذَلِك ورأينا سَائِرهمْ يُنكر هَذَا فَالله أعلم وَرَأَيْت أَنا من أَصْحَاب إِسْمَاعِيل الرعيني الْمَذْكُور من يصفه بفهم منطق الطير وَبِأَنَّهُ كَانَ ينذر بأَشْيَاء قبل أَن تكون فَتكون وَأما الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْد فرقته إِمَامًا وَاجِبَة طَاعَته يؤدون إِلَيْهِ زَكَاة أَمْوَالهم وَكَانَ يذهب إِلَى أَن الْحَرَام قد عَم الأَرْض وَأَنه لَا فرق بَين مَا يكتسبه الْمَرْء من صناعَة أَو تِجَارَة أَو مِيرَاث أَو بَين مَا يكتسبه من الرفاق وَإِن الَّذِي يحل للْمُسلمِ من كل ذَلِك قوته كَيفَ مَا أَخذه هَذَا أَمر صَحِيح عندنَا عَنهُ يَقِينا وَأخْبرنَا عَنهُ بعض من عرف بَاطِن أُمُورهم أَنه كَانَ يرى الدَّار دَار كفر مُبَاحَة دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا أَصْحَابه فَقَط وَصَحَّ عندنَا عَنهُ كَانَ يَقُول بِنِكَاح الْمُتْعَة وَهَذَا لَا يقْدَح فِي إيمَانه وَلَا فِي عَدَالَته لَو قَالَه مُجْتَهدا(4/151)
وَلم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة بنسخه وَلَو سلم من الكفرات الصلع الَّتِي ذكرنَا وَإِنَّمَا ذكرنَا عَنهُ مَا جرى لنا من ذكره ولغرابة هَذَا القَوْل الْيَوْم وَقلة الْقَائِلين بِهِ من النَّاس وَرَأَيْت لأبي هَاشم عبد السَّلَام بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي كَبِير الْمُعْتَزلَة وَابْن كَبِيرهمْ الْقطع بِأَن لله تَعَالَى أحوالاً مُخْتَصَّة بِهِ وَهَذِه عَظِيمَة جدا إِذْ جعله حَامِلا للأعراض تَعَالَى عَن هَذَا الأفك وَرَأَيْت لَهُ الْقطع فِي كتبه كثيرا يردد القَوْل بِأَنَّهُ يجب على الله أَن يزيح علل الْعباد فِي كل مَا أَمرهم بِهِ وَلَا يزَال يَقُول فِي كتبه أَن أَمر كَذَا لم يزل وَاجِبا على الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام تقشعر مِنْهُ ذوائب الْمُؤمن لَيْت شعري من الْمُوجب ذَلِك على الله تَعَالَى وَالْحَاكِم عَلَيْهِ بذلك والملزم لَهُ مَا ذكر هَذَا النذل لُزُومه للباري تَعَالَى ووجوبه عَلَيْهِ فيا لله لمن قَالَ أَن الْفِعْل أوجب ذَلِك على الله تَعَالَى أَو ذكر شَيْئا دونه تَعَالَى ليصرحن بِأَن الله تَعَالَى متعبد للَّذي أوجب عَلَيْهِ مَا أوجب مَحْكُوم عَلَيْهِ مُدبر وَأَنه للكفر الصراح وَلَئِن قَالَ أَنه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أوجب ذَلِك على نَفسه فالإيجاب فعل فَاعل لَا شكّ فَإِن كَانَ الله لم يزل مُوجبا ذَلِك على نَفسه فَلم يزل فَاعِلا فالأفعال قديمَة وَلَا بُد لم تزل وَهَذِه دهرية مَحْضَة وَإِن كَانَ تَعَالَى أوجب ذَلِك على نَفسه بعد أَن لم يكن مُوجبا لَهُ فقد بَطل انتفاعه بِهَذَا القَوْل فِي أَصله الْفَاسِد لِأَنَّهُ قد كَانَ تَعَالَى غير وَاجِب عَلَيْهِ مَا ذكر وَرَأَيْت لبَعض الْمُعْتَزلَة سؤالا سَائل عَنهُ أَبَا هَاشم الْمَذْكُور يَقُول فِيهِ مَا بَال كل من بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاعيا إِلَى الْإِسْلَام إِلَى الْيمن والبحرين وعمان والملوك وَسَائِر الْبِلَاد وكل من يَدْعُو إِلَى مثل ذَلِك إِلَى يَوْم الْبَعْث لَا يُسمى رَسُول الله كَمَا سمى مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ أمره الْملك عَن الله عز وَجل بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام وَالْأَمر وَاحِد وَالْعَمَل سَوَاء
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَأُعْجِبُوا لتلاعب إِبْلِيس بِهَذِهِ الْفرْقَة الملعونة وسلوا الله الْعَافِيَة من أَن يكلكم إِلَى أَنفسكُم فَحق لمن دينه أَن ربه لَا يقدر على أَن يهديه وَلَا على أَن يضله إِن يتَمَكَّن الشَّيْطَان مِنْهُ هَذَا التَّمَكُّن ولعمري أَن هَذَا السُّؤَال لقد لزم أصل الْمُعْتَزلَة المضل لَهُم وَلمن الْتَزمهُ والمورد لجميعهم نَار جَهَنَّم وَهُوَ قَوْلهم أَن التَّسْمِيَة موكولة إِلَيْنَا لَا إِلَى الله عز وَجل وَرَأَيْت لهَذَا الْكَافِر أبي هَاشم كلَاما رد فِيهِ بِزَعْمِهِ على من يَقُول أَنه لَيْسَ لأحد أَن يُسَمِّي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَقَالَ هَذَا النذل لَو كَانَ هَذَا وَلم يجز لأحد أَن يُسمى الله تَعَالَى عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه لَكَانَ غير جَائِز لله أَن يُسمى بِهِ نَفسه باسم حَتَّى يُسَمِّيه بِهِ غَيره
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَل يَأْتِي الْمُرُور بأقبح من هَذَا الِاسْتِدْلَال وَهل فِي التَّسْمِيَة أَكثر من هَذَا وَلَكِن من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ونعوذ بِاللَّه من أَن يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا طرفَة عين فنهلك وَكَانَ أَبُو هَاشم أَيْضا يَقُول أَنه لَو طَال عمر الْمُسلم المحسن لجَاز أَن يعْمل من الْحَسَنَات وَالْخَيْر أَكثر مِمَّا عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) لَا وَالله وَلَا كَرَامَة وَلَو عمر أَحَدنَا الدَّهْر كُله فِي طاعات مُتَّصِلَة مَا وازى عمل امريء صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير الْمُنَافِقين وَالْكفَّار المجاهرين سَاعَة وَاحِدَة فَمَا فَوْقهَا مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَو كَانَ لِأَحَدِنَا مثل أحد ذَهَبا فأنفقه مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه فَمَتَى يطْمع ذُو عقل أَن يدْرك أحدا من الصَّحَابَة مَعَ هَذَا القون الْمُمْتَنع إِدْرَاكه قطعا وَكَانَ أَبُو هَاشم الْمَذْكُور يَقُول أَنه لَا يقبل تَوْبَة أحد من ذَنْب عمله أَي ذَنْب كَانَ حَتَّى يَتُوب من جَمِيع الذُّنُوب(4/152)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَحقا أَقُول لقد طرد أصل الْمُعْتَزلَة الَّذِي أطبقوا عَلَيْهِ من إِخْرَاج الْمَرْء عَن الْإِسْلَام جملَة بذنب وَاحِد عمله يصر عَلَيْهِ وإيجابهم الخلود فِي النَّار عَلَيْهِ بذلك الذَّنب وَحده فَلَو كَانَ هَذَا لَكَانَ أَبُو هَاشم صَادِقا إِذْ لَا مَنْفَعَة لَهُ عِنْدهم فِي تَركه كل ذَنْب وَهُوَ بذنب وَاحِد يصر عَلَيْهِ خَارج عَن الْإِيمَان مخلد بَين أطباق النيرَان وَمَا يُنكر هَذَا عَلَيْهِ من الْمُعْتَزلَة إِلَّا جَاهِل بأصولهم أَو عَامِد للتناقض وَكَانَ يَقُول إِن تَارِك الصَّلَاة وتارك الزَّكَاة عَامِدًا لكل لَك لم يفعل شَيْئا وَلَا أنب وَلَا عصي وَأَنه مخلد بل أطباق النيرَان أبدا على غير فعل فعله وَلَا على شَيْء ارْتَكَبهُ
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) فَهَل فِي التجويز لله على أصولهم وَهل فِي مُخَالفَة الْإِسْلَام جهاراً أَكثر من هَذَا القَوْل السخيف وَكَأن الَّذِي حمله على قَوْله هَذَا قَوْله أَنه ترك الْفِعْل لَيْسَ فعلا وَجَمِيع الْمُعْتَزلَة إِلَّا هِشَام بن عمر والفوطي يَزْعمُونَ أَن المعدودات أَشْيَاء على الْحَقِيقَة وَأَنَّهَا لم تزل وَأَنَّهَا لَا نِهَايَة لَهَا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه دهرية بِلَا مطل وَأَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا لم تزل غير مخلوقة وَكَانَ عبد الرَّحِيم بِمَ مُحَمَّد بن عُثْمَان الْخياط من أكَابِر الْمُعْتَزلَة بِبَغْدَاد مِمَّن يَقُول أَن الْأَجْسَام المعدومة لم تزل أجساماً بِلَا نِهَايَة لَهَا لَا فِي عدد وَلَا فِي زمَان غير مخلوقة وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الإسكافي أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة أَن الله تَعَالَى لم يخلق الطنابير وَلَا المزامير وَلَا المعازف
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) كَانَ من تَمام هَذَا الْكفْر أَن يَقُول إِن الله لم يخلق الْخمر وَلَا الْخَنَازِير وَلَا مَرَدَة الشَّيَاطِين وَقَالَت الْمُعْتَزلَة بأسرها حاشا بشر بن الْمُعْتَمِر وَضِرَار ابْن عمر وَأَنه لَا يحل لأحد تمني الشَّهَادَة وَلَا أَن يريدها وَلَا أَن يرضاها لِأَنَّهَا تَغْلِيب كَافِر على مُسلم وَإِنَّمَا يجب على الْمُسلم أَن يحب الصَّبْر على ألم الْجراح فَقَط إِذا أَصَابَته
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا خلاف دين الْإِسْلَام وَالْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَقَالُوا كلهم حاشا ضَرَرا وبشراً أَن الله لم يمت رَسُولا وَلَا نَبيا وَلَا صَاحب نَبِي وَلَا أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يدْرِي أَنهم لَو عاشوا فعلوا خيرا لَكِن أمات كل من أمات مِنْهُم إِذْ علم أَنه لَو أبقاه طرفَة عين لكفروا أَو فسق وَلَا بُد هَذَا قَوْلهم فِي أبي بكر وَعمر وَعلي وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة وَخَدِيجَة نعم وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الضلالات الوحشية وَكَانَ الْجَعْد وَهُوَ من شيوخهم يَقُول إِذا كَانَ الْجِمَاع يتَوَلَّد مِنْهُ الْوَلَد فَأَنا صانع وَلَدي ومدبره وفاعله لَا فَاعل لَهُ غَيْرِي وَإِنَّمَا يُقَال إِن الله خلقه مجَازًا لَا حَقِيقَة فَأخذ أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي الطّرف الثَّانِي من الْكفْر فَقَالَ أَن تَعَالَى خلق الْحَبل وَالْمَوْت وكل من فعل شَيْئا فَهُوَ مَنْسُوب إِلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى هُوَ محبل النِّسَاء وَهُوَ أحبل مَرْيَم بنت عمرَان
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) يلْزم وَلَا بُد إِذا كَانَ أَوْلَادنَا خلقا لله عز وَجل أَن يضيفهم إِلَيْهِ فَيَقُول هم أبنا الله والمسيح ابْن الله وَلَا بُد وَقَالَ أَبُو عمر وَأحمد بن مُوسَى بن احدير صَاحب السِّكَّة وَهُوَ من شُيُوخ الْمُعْتَزلَة فِي بعض رسائله الَّتِي جرت بَينه وَبَين القَاضِي مُنْذر بن سعيد رَحمَه الله أَن الله عَاقل وَأطلق عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم وَقَالَ بعض شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن العَبْد إِذا عصى الله عز وَجل طبع على قلبه فَيصير غير مَأْمُور وَلَا مَنْهِيّ وَأما حماقاتهم فَإِن أَبَا الْهُذيْل العلاف قَالَ(4/153)
من سرق خَمْسَة دَرَاهِم أَو قيمتهَا فَهُوَ فَاسق منسلخ من الْإِسْلَام مخلد أبدا فِي النيرَان إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ بشر بن الْمُعْتَمِر أَن من سرق عشرَة دَرَاهِم غير حَبَّة فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا وَعِيد فَإِن سرق عشرَة دَرَاهِم خرج عَن الْإِسْلَام وَوَجَب عَلَيْهِ الخلود إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ النظام إِن سرق مأتي دِرْهَم غير حَبَّة فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا وَعِيد وَإِن سرق مأتي دِرْهَم خرج عَن الْإِسْلَام وَلَزِمَه الخلود إِلَّا أَن يَتُوب وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن أحور بن الأخشيد وَهُوَ أحد رُؤَسَائِهِمْ الثَّلَاثَة الَّذين انْتَهَت رياستهم إِلَيْهِم وافترقت الْمُعْتَزلَة على مذاهبهم وَالثَّانِي مِنْهُم أَبُو هَاشم الجبائي وَالثَّالِث عبد الله بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْبَلْخِي الْمَعْرُوف بالكعبي وَكَانَ وَالِد أَحْمد بن عَليّ الْمَذْكُور أحد قواد الفراعنة وَولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فَكَانَ من قَول أَحْمد الْمَذْكُور أَن من ارْتكب كل ذَنْب فِي الدُّنْيَا وَهَكَذَا أبدا مَتى عَاد لذَلِك الذَّنب أَو لغيره من الْقَتْل فَمَا دونه إِلَّا أَنه نَدم أثر فعله لَهُ فقد صحت تَوْبَته وَسقط عَنهُ ذَلِك الذَّنب أبدا وَهَكَذَا أبدا مَتى عَاد لذَلِك الذَّنب أَو لغيره
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا قَول لم يبلغهُ جَمَاهِير المرجئة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَدعِي أَن القَوْل بإنفاذ الْوَعْد والوعيد وَمَا على أَدِيم الأَرْض مُسلم لَا ينْدَم على ذَنبه وَقَالَ عبد الرَّحْمَن تلميذ أبي الْهُذيْل أَن الْحجَّة لَا تقوم فِي الْأَخْبَار إِلَّا بِنَقْل خَمْسَة يكون فيهم ولي لله لَا أعرفهُ بِعَيْنِه وَعَن كل وَاحِد من أُولَئِكَ الْخَمْسَة خَمْسَة مثلهم وَهَكَذَا أبدا وَقَالَ صَالح تلميذ النظام أَن من رأى رُؤْيا أَنه بِالْهِنْدِ أَو أَنه قتل أَو أَنه أَي شَيْء رأى فَإِنَّهُ حق يَقِين كَمَا رأى كَمَا لَو كَانَ ذَلِك فِي الْيَقَظَة وَقَالَ عباد بن سُلَيْمَان الْحَواس سبع وَقَالَ النظام الألوان جسم وَقد يكون جسمان فِي مَكَان وَاحِد وَكَانَ النظام يَقُول لَا تعرف الْأَجْسَام بالأخبار أصلا لَكِن كل من رأى جسماً سَوَاء كَانَ المرئي إنْسَانا أَو غير إِنْسَان فَإِن النَّاظر إِلَيْهِ اقتطع مِنْهُ قِطْعَة اخْتلطت بجسم الرَّائِي ثمَّ كل من أخبرهُ ذَلِك الرَّائِي عَن ذَلِك الْجِسْم فَإِن الْمخبر أَيْضا أَخذ من تِلْكَ الْقطعَة قِطْعَة وَهَكَذَا أبدا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذِه قصَّة لَوْلَا أننا وجدناها عَنهُ من طَرِيق تلامذته المعظمين لَهُ ذكروها فِي كتبهمْ عَنهُ مَا عَرفْنَاهُ على ذِي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هَذَا أَن قطعا من جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام فِي نَار جَهَنَّم وَأَن قطعا من فِرْعَوْن وإبليس وَأبي لَهب وَأبي جهل فِي الْجنَّة وَكَانَ يزْعم أَنه لَا سُكُون فِي شَيْء من الْعَالم أصلا وَأَن كل سُكُون يعلم بتوسط الْبَصَر فَهُوَ حَرَكَة بِلَا شكّ وَكَانَ معمر يزْعم أَنه لَا حَرَكَة فِي شَيْء من الْعَالم وَإِن كل مَا يُسَمِّيه النَّاس حَرَكَة فَهُوَ سُكُون وَكَانَ عباد بن سُلَيْمَان يَقُول أَن الْأمة إِذا اجْتمعت وصلحت وَلم تتظالم احْتَاجَت حِينَئِذٍ إِلَى إِمَام يسوسها ويدبرها وَإِن عَصَتْ وفجرت وظلمت استغنت عَن الإِمَام وَكَانَ أَبُو الْهُذيْل يَقُول أَن الْإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا فِي حَال استطاعته وَإِنَّمَا يفعل بالاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يفعل إِذا لم يكن مستطيعاً وَأما إِذا كَانَ مستطيعاً فَلَا وَإِن الْمَيِّت يفعل كل فعل فِي الْعَالم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وحماقاتهم أَكثر من ذَلِك ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
شنع المرجئة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) غلاة المرجئية طَائِفَتَانِ أَحدهمَا الطَّائِفَة القائلة بِأَن الْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ وَإِن(4/154)
اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن عِنْد الله عز وَجل ولي لَهُ عز وَجل من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن كرام السجسْتانِي وَأَصْحَابه وَهُوَ بخراسان وَبَيت الْمُقَدّس وَالثَّانيَِة الطَّائِفَة القائلة أَن الْإِيمَان عقد بِالْقَلْبِ وَإِن أعلن الْكفْر بِلِسَانِهِ بِلَا نقية وَعبد الْأَوْثَان أَو لزم الْيَهُودِيَّة أَو النَّصْرَانِيَّة فِي دَار الْإِسْلَام وَعبد الصَّلِيب وأعلن الثتليث فِي دَار الْإِسْلَام وَمَات على ذَلِك فَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان عِنْد الله عز وَجل ولي لله عز وَجل من أهل الْجنَّة وَهَذَا قَول أبي مُحرز جهم بن صَفْوَان السَّمرقَنْدِي مولى بني راسب كَاتب الْحَارِث بن سُرَيج التَّمِيمِي أَيَّام قِيَامه على نصرين سيار بخراسان وَقَول أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن أبي الْيُسْر الْأَشْعَرِيّ الْبَصْرِيّ وأصحابهما فَأَما الْجَهْمِية فبخراسان وَأما الأشعرية فَكَانُوا بِبَغْدَاد وَالْبَصْرَة ثمَّ قَامَت لَهُ سوق بصقلية والقيروان وبالأندلس ثمَّ رق أَمرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَمن فضايح الْجَهْمِية وشنعهم قَوْلهم بِأَن علم الله مُحدث مَخْلُوق وَأَنه تَعَالَى لم يكن يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما علم بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي الْقُدْرَة وَقَالَ أَيْضا إِن الْجنَّة وَالنَّار يفنيان ويفنى كل من فيهمَا وَهَذَا خلاف الْقُرْآن وَالثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخلاف إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام الْمُتَيَقن وَقَالَ بعض الكرامية المُنَافِقُونَ مُؤمنُونَ من أهل الْجنَّة وَقد أطلق ذَلِك بالمربة مُحَمَّد بن عِيسَى الصُّوفِي الألبيري وَكَانَت الفاظه تدل على أَنه يذهب مَذْهَبهم فِي التجسيم وَغَيره وَكَانَ ناسكاً متقللاً من الدُّنْيَا واعظاً مفوهاً مهذاراً قَلِيل الصَّوَاب كثير الْخَطَأ رَأَيْته مرّة وسمعته يَقُول إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يلْزمه زَكَاة مَال لِأَنَّهُ اخْتَار أَن يكون نَبيا عبدا وَالْعَبْد لَا زَكَاة عَلَيْهِ وَلذَلِك لم يُورث وَلَا ورث فَأَمْسَكت عَن معارضته لِأَن الْعَامَّة كَانَت تحضره فَخَشِيت لغطهم وتشنيعهم بِالْبَاطِلِ وَلم يكن معي أحد إِلَّا يحيى بن عبد الْكثير بن وَافد كنت أتيت أَنا وَهُوَ معي متنكرين لنسمع كَلَامه وبلغتني عَنهُ شنع مِنْهَا القَوْل بحلول الله فِيمَا شَاءَ من خلقه أَخْبرنِي عَنهُ بِهَذَا أَبُو أَحْمد الْفَقِيه الْمعَافِرِي عَن أبي عَليّ الْمقري وَكَانَ على بنت مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَذْكُور وَغير هَذَا أَيْضا نَعُوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالَت طَائِفَة الكرامية المُنَافِقُونَ مُؤمنُونَ مشركون من أهل النَّار وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَيْضا من آمن بِاللَّه وَكفر بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مُؤمن كَافِر مَعًا لَيْسَ مُؤمنا على الْإِطْلَاق وَلَا كَافِرًا على الْإِطْلَاق وَقَالَ مقَاتل ابْن سُلَيْمَان وَكَانَ من كبار المرجئة لَا يضر مَعَ الْإِيمَان سَيِّئَة جلت أَو قلت أصلا وَلَا ينفع مَعَ الشّرك حَسَنَة أصلا وَكَانَ مقَاتل هَذَا مَعَ جهم بخراسان فِي وَقت وَاحِد وَكَانَ يُخَالِفهُ فِي التجسيم كَانَ جهم يَقُول لَيْسَ الله تَعَالَى وَلَا هُوَ أَيْضا لَا شَيْء لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالق كل شَيْء فَلَا شَيْء إِلَّا مَخْلُوق وَكَانَ مقَاتل يَقُول إِن الله جسم وَلحم وَدم على صُورَة الْإِنْسَان وَقَالَت الكرامية الْأَنْبِيَاء يجوز مِنْهُم كَبَائِر الْمعاصِي كلهَا حاشا الْكَذِب فِي الْبَلَاغ فَقَط فَإِنَّهُم معصومون مِنْهُ وَذكر لي سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ وَهُوَ من رُؤْس الأشعرية أَن فيهم من يَقُول أَيْضا أَن الْكَذِب فِي الْبَلَاغ أَيْضا جَائِز من الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم السَّلَام
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وكل هَذَا كفر مَحْض وَذكر عَنْهُم مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك الْأَشْعَرِيّ أَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى يفعل كلما يفعل فِي اته وَأَنه لَا يقدر على إفناء خلقه كُله حَتَّى يبْقى وَحده كَمَا كَانَ قبل أَن يخلق وَقَالُوا أَيْضا إِن كَلَام الله تَعَالَى أصوات وحروف هجاء وجتمعة كلهَا أبدا لم تزل وَلَا تزَال وَقَالُوا أَيْضا لَا يقدر الله على غير مَا فعل وَقَالُوا أَيْضا أَنه متحرك(4/155)
أَبيض اللَّوْن ذكر عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ أَنه تَعَالَى لَا يقدر على إِعَادَة الْأَجْسَام بعد بلائها لَكِن يقدر على أَن يخلق مثلهَا وَمن حماقاتهم أَنهم يجيزون كَون إمامين وَأكْثر فِي وَقت وَاحِد وَأما الأشعرية فَقَالُوا إِن شِئْتُم من أظهر الْإِسْلَام لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ بأفحش مَا يكون من الشتم وإعلان التَّكْذِيب بهَا بِاللِّسَانِ بِلَا تقية وَلَا حِكَايَة وَالْإِقْرَار بِأَنَّهُ يدين بذلك لَيْسَ شَيْء من ذَلِك كفرا ثمَّ خَشوا مبادرة جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَهُم فَقَالُوا لكنه دَلِيل على أَن فِي قلبه كفر فَقُلْنَا لَهُم وتقطعون بِصِحَّة مَا دلّ عَلَيْهِ هَذَا الدَّلِيل فَقَالُوا لَا وَقَالَت الأشعرية أَن إِبْلِيس قد كفر ثمَّ أعلن بعصيان الله تَعَالَى فِي السُّجُود لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن إِبْلِيس من حِينَئِذٍ لم يعرف أَن الله تَعَالَى حَقًا وَلَا أَنه خلقه من نَار وَلَا أَنه خلق آدم من تُرَاب وطين وَلَا عرف أَن الله أمره بِالسُّجُود لآدَم بعْدهَا قطّ وَلَا عرف بعد هَذَا قطّ أَن الله كرم آدم وَمن قَوْلهم بأجمعهم أَن إِبْلِيس لم يسْأَل الله قطّ أَن ينظره إِلَى يَوْم الْبَعْث فَقُلْنَا لَهُم وَيْلكُمْ إِن هَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورد لِلْقُرْآنِ قَالُوا لنا إِن إِبْلِيس إِنَّمَا قَالَ كل ذَلِك هازئاً مستهزئاً بِلَا معرفَة وَلَا اعْتِقَاد كَانَ هَذَا أشنع كفرُوا برده بعد كفر الغالية من الرافضة وَقَالُوا إِن إِبْلِيس لم يكفر بمعصيته الله فِي ترك السُّجُود لآدَم وَلَا بقوله عَن آدم أَنا خير مِنْهُ وَإِنَّمَا كفر بجحد الله تَعَالَى كَانَ فِي قلبه
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا خلاف لِلْقُرْآنِ وتكهن لَا يعرف صِحَّته إِلَّا من حَدثهُ بِهِ إِبْلِيس عَن نَفسه على أَن الشَّيْخ غير ثِقَة فِيمَا يحدث بِهِ وَقَالَت الأشعرية أَيْضا أَن فِرْعَوْن لم يعرف قطّ أَن مُوسَى إِنَّمَا جَاءَ بِتِلْكَ الْآيَات من عِنْد الله حَقًا وَأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين كَانُوا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعرفوا قطّ أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا وَلَا عرفُوا أَنه مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَأَن من عرف ذَلِك مِنْهُم وكتمه وَتَمَادَى على إعلان الْكفْر ومحاربة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر وَمن بني قُرَيْظَة وَغَيرهم فَإِنَّهُم كَانُوا مُؤمنين عِنْد الله عز وَجل أَوْلِيَاء لله من أهل الْجنَّة فَقُلْنَا لَهُم وَيْلكُمْ هَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول {يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} و {فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك} فَقَالُوا لنا معنى أَنهم وجدوا خطا مَكْتُوبًا عِنْدهم لم يفهموا مَعْنَاهُ وَلَا دروا مَا هُوَ وَنعم عرفُوا صورته فَقَط ودرو أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب كَمَا يعرف الْإِنْسَان جَاره فَقَط فَكَانَ هَذَا كفرا بَارِدًا أَو تحريفاً لكَلَام الله تَعَالَى عَن موَاضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعاً للضَّرُورَة وَقد تقصينا الرَّد على أهل هَذِه الْمقَالة الملعونة فِي كتاب لنا رسمه كتاب الْيَقِين فِي النَّقْض على الْمُلْحِدِينَ المحتجين عَن إِبْلِيس اللعين وَسَائِر الْكَافرين تقصيا فِيهِ كَلَام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسْمه عطاف بن دوتاس فِي كتاب أَلفه فِي نصر هَذِه الْمقَالة وَكَانَ لشيخهم الْأَشْعَرِيّ فِي إعجاز الْقُرْآن قَولَانِ أَحدهمَا كَمَا يَقُول الْمُسلمُونَ أَنه معجز النّظم وَالْآخر إِنَّمَا هُوَ المعجز الَّذِي لم يُفَارق الله عز وَجل قطّ وَالَّذِي لم يزل غير مَخْلُوق وَلَا نزل إِلَيْنَا وَلَا سمعناه قطّ وَلَا سَمعه جِبْرِيل وَلَا مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام قطّ وَأما الَّذِي يقْرَأ فِي الْمَصَاحِف ونسمعه فَلَيْسَ معجزا بل مَقْدُور على مثله وَهَذَا كفر صَحِيح وَخلاف لله تَعَالَى وَلِجَمِيعِ أهل الْإِسْلَام وَقَالَ كَبِيرهمْ وَهُوَ مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني أَن لله تَعَالَى خَمْسَة عشر صفة كلهَا قديمَة لم تزل مَعَ الله تَعَالَى وَكلهَا غير الله وَخلاف لله تَعَالَى وكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ غير الْأُخْرَى مِنْهُنَّ وَخلاف لسائرها وَإِن الله تَعَالَى غَيْرهنَّ وخلافهن(4/156)
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا وَالله أعظم من قَول النَّصَارَى وَأدْخل فِي الْكفْر والشرك لِأَن النَّصَارَى لم يجْعَلُوا مَعَ الله تَعَالَى إِلَّا اثْنَيْنِ هُوَ ثالثهما وَهَؤُلَاء جعلُوا مَعَه تَعَالَى خَمْسَة عشر هُوَ السَّادِس عشر لَهُم وَقد صرح الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالمجالس بِأَن مَعَ الله تَعَالَى أَشْيَاء سواهُ لم تزل كَمَا يزل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا إبِْطَال التَّوْحِيد عَلَانيَة وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذَا الضلال ظنهم أَن إِثْبَات علم الله تَعَالَى وَقدرته وعزته وَكَلَامه لَا يثبت إِلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة الملعونة ومعاذ الله من هَذَا بل كل ذَلِك حق لم يزل غير مَخْلُوق لَيْسَ شَيْء من ذَلِك غير الله تَعَالَى وَلَا يُقَال فِي شَيْء من ذَلِك هُوَ الله تَعَالَى لِأَن هَذِه تَسْمِيَة لَهُ عز وَجل وتسميته لَا تجوز إِلَّا بِنَصّ وَقد تقصينا الْكَلَام فِي هَذَا فِي صدر ديواننا هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِنَّمَا جعلنَا هَاهُنَا شنع أهل الْبدع تنفيراً عَنْهُم وإيحاشا للأغمار من الْمُسلمين من الْأنس بهم وَمن حسن الظَّن بكلامهم الْفَاسِد وَلَقَد قلت لبَعْضهِم إِذا قُلْتُمْ أَن مَعَ الله تَعَالَى خَمْسَة عشر صفة كلهَا غَيره وَكلهَا لم تزل فَمَا الَّذِي أنكرتم على النَّصَارَى إِذْ قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة فَقَالَ لي إِنَّمَا أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم إِذْ جعلُوا مَعَه شَيْئَيْنِ فَقَط وَلم يجْعَلُوا مَعَه أَكثر وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم اسْم الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْلنَا الله عبارَة تقع على ذَات الْبَارِي وَجَمِيع صِفَاته لَا على ذَاته دون صِفَاته فَقلت لَهُ أَتَعبد الله أم لَا فَقَالَ لي نعم فَقلت لَهُ فَإِنَّمَا تعبد إِذا بإقرارك الْخَالِق وَغَيره مَعَه فيكفيك فنفر نفرة وَقَالَ معَاذ الله من هَذَا مَا عبد إِلَّا الْخَالِق وَحده فَقلت لَهُ فَإِنَّمَا تعبد إِذا بإقرارك بعض مَا يُسمى بِهِ الله فنفر أُخْرَى وَقَالَ معَاذ الله من هَذَا وَأَنا وَاقِف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَقَالَ شيخ لَهُم قديم وَهُوَ عبد الله بن سعيد بن كلاب الْبَصْرِيّ أَن صِفَات الله تَعَالَى لَيست بَاقِيَة وَلَا فانية وَلَا قديمَة وَلَا حَدِيثَة لَكِنَّهَا لم تزل غير مخلوقة هَذَا مَعَ تصريحه بِأَن الله قديم بَاقٍ وَمن حماقات الأشعرية قَوْلهم أَن للنَّاس أحوالاً ومعاني لَا مَعْدُومَة وَلَا مَوْجُودَة وَلَا مَعْلُومَة وَلَا مَجْهُولَة وَلَا مخلوقة وَلَا غير ومخلوقة وَلَا أزلية وَلَا محدثة وَلَا حق وَلَا بَاطِل وَهِي علم الْعَالم بِأَن لَهُ علما وَوُجُود الْوَاجِد لوجدوه كلما يجد هَذَا أَمر سمعناه مِنْهُم نصا ورأيناه فِي كتبهمْ فَهَل فِي الرعونة أَكثر من هَذَا وَهل يُمكن الموسوس والمبرسم أَن يَأْتِي بِأَكْثَرَ من هَذَا وَلَقَد حاورني سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ كَبِيرهمْ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مجْلِس حافل فَقلت لَهُ هَذَا كَمَا تَقول الْعَامَّة عندنَا عِنَب لَا من كرم وَلَا من دالية وَمن هوسهم قَوْلهم أَن الْحق غير الْحَقِيقَة وَلَا نَدْرِي فِي أَي لُغَة وجدوا هَذَا أم فِي أَي شرع وَارِد أم فِي أَي طبيعة ظفروا بِهِ فَقَالُوا أَن الْكفْر حَقِيقَة وَلَيْسَ بِحَق وَقُلْنَا كلا بل وجوده عَن حَقِيقَة وَمَعْنَاهُ بَاطِل لَا حق وَلَا حَقِيقَة وَقَالُوا كلهم إِن الله حَامِل لصفاته فِي ذَاته هَذَا نَص قَول أبي جَعْفَر السمناتي المكفوف قَاضِي الْموصل وَهُوَ أكبر أَصْحَاب الباقلاني ومقدم الأشعرية فِي وقتنا هَذَا وَقَالَ هَذَا السمناني أَيْضا إِن من سمي الله تَعَالَى جسماً من أجل أَنه حَامِل لصفاته فِي ذَاته فقد أصَاب الْمَعْنى وَأَخْطَأ فِي التَّسْمِيَة فَقَط وَقَالَ هَذَا السمناني أَن الله تَعَالَى مشارك للْعَالم فِي الْوُجُود وَفِي قِيَامه بِنَفسِهِ كقيام الْجَوَاهِر والأجسام وَفِي أَنه ذُو صِفَات قَائِمَة بِهِ مَوْجُودَة بِذَاتِهِ كَمَا ثَبت ذَلِك فِيمَا هُوَ مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات من جملَة أجسام الْعَالم وجواهر هَذَا نَص كَلَام السمناني حرفا حرفا
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) مَا أعلم أحد من غلاة المشبهة أقدم على أَن يُطلق مَا أطلق هَذَا المبتدع(4/157)
الْجَاهِل الملحد المتهور من أَن الله تَعَالَى مشارك للْعَالم حاشا لله من هَذَا وَقَالَ السمناني عَن شُيُوخه من الأشعرية أَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ على صفة الرَّحْمَن من الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار وَإِجْمَاع صِفَات الْكَمَال فِيهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته كَمَا أسجدهم لنَفسِهِ وَجعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله تَعَالَى كل ذَلِك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص كَلَامه حرفا حرفا وَهَذَا كفر صَرِيح وشرك بواح إِذْ صرح بِأَن آدم على صفة الرَّحْمَن من اجْتِمَاع صِفَات الْكَمَال فيهمَا فَالله تَعَالَى وآدَم عِنْده مثلان مشتبهان فِي أجتمع صِفَات الْكَمَال فيهمَا ثمَّ لم يقنع بِهَذِهِ السوءة حَتَّى صرح بِأَن سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم كسجودهم لله عز وَجل وحاشا لله من هَذَا لِأَن سُجُود الْمَلَائِكَة لله تَعَالَى سُجُود عبَادَة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدَم سُجُود سَلام وتحية وتشريف مِنْهُم لآدَم وإكرام لَهُ بذلك كسجود يَعْقُوب لِابْنِهِ يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَط ثمَّ زَاد اللعين كفرا على كفر بنصه أَن الله تَعَالَى جعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله تَعَالَى ذَلِك وَهَذَا شرك لَا خَفَاء بِهِ كشرك النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَلَا فرق ونسأل الله تَعَالَى الْعَافِيَة وَقَالَ هَذَا السمناني أَن مَذْهَب شُيُوخه أَنهم لَا يَقُولُونَ أَن الْأَمر بالشَّيْء دَال على كَونه مرَادا للْآمِر قَدِيما كَانَ أَو مُحدثا وَلَا يدل النَّهْي على كَونه مَكْرُوها وَهَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا خلاف الْإِسْلَام وَالْإِجْمَاع والمعقول وتصريح بِأَن الله تَعَالَى إِذا أَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالْحج وَالصِّيَام وَالْجهَاد وَشَهَادَة الْإِسْلَام فَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على أَنه يُرِيد شَيْئا من ذَلِك وَإِذ نهى عَن الْكفْر وَالزِّنَا وَالْبَغي وَالسَّرِقَة وَقتل النَّفس ظلما فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَنه يكره شَيْئا من ذَلِك وَمَا فِي الْأَقْوَال أنتن من هَذَا القَوْل وَقَالَ السمناني أَنه لَا يَصح القَوْل بِأَن علم الله تَعَالَى مُخَالف للعلوم كلهَا وَلَا أَن قدرته مُخَالفَة للقدر كلهَا لِأَنَّهَا كلهَا دَاخِلَة تَحت قَوْلنَا ووصفنا للقدر والعلوم هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا بَيَان بِأَن دينهم أَن علم الله تَعَالَى وَقدرته من نوع علمنَا وقدرتنا وَإِذ الْأَمر كَذَلِك عِنْده فَعلمنَا وقدرتنا عرضان فِينَا مخلوقان فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن علم الله تَعَالَى وَقدرته عرضان فِي الله مخلوقان إِذْ من الْمُمْتَنع وُقُوع مَا لم يزل مَعَ الْمُحدث الْمَخْلُوق تَحت حد وَاحِد وَنَوع وَاحِد وَنَصّ هَذَا السمناني وَمُحَمّد بن الْحسن بن فورك فِي صدر كَلَامه فِي كتاب الْأُصُول أَن الْحُدُود لَا تخْتَلف فِي قديم وَلَا مُحدث قَالُوا ذَلِك فِي كَلَامهم فِي علم الله تَعَالَى فِي تحديدهم لِمَعْنى الْعلم بِصفة يَقع تحتهَا علم الله تَعَالَى وعلوم النَّاس وَهَذَا نَص مِنْهُم على أَن الله تَعَالَى مَحْدُود وَاقع مَعنا تَحت الْحُدُود وَهُوَ علمه وَقدرته وَهُوَ شَرّ من قَول جهم شيخهم فِي الْحَقِيقَة وَأبين من قَول كل مشبه فِي الأَرْض وَنَصّ هَذَا السمناني على أَن الْعَالم والقادر والمريد من الله تَعَالَى وخلقه إِنَّمَا كَانَ مُحْتَاجا إِلَى هَذِه الصِّفَات لكَونه مَوْصُوفا بهَا لَا لجوازها عَلَيْهِ هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُم بِلَا تكلّف وَلَا تَأْوِيل بِأَن الله تَعَالَى عَن كفر هَذَا الأرعن مُحْتَاج إِلَى الصِّفَات وَهَذَا كفر مَا يدْرِي أَن أحدا بلغه وَنَصّ هَذَا السمناني أَيْضا على أَن الله تَعَالَى لما كَانَ حَيا عَالما كَانَ مَوْصُوفا بِالْحَيَاةِ وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة حَتَّى لَا يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك فِي الشَّاهِد وَالْغَائِب هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ على أَن الله تَعَالَى حَالا لم يُخَالِفهُ فِيهَا خلقه بل هُوَ وهم فِيهَا سَوَاء وَنَصّ هَذَا السمناني على أَنه إِذا كَانَت الصِّفَات الْوَاجِبَة لله تَعَالَى فِي كَونه عَالما قَادِرًا لَا يُغني وُجُوبهَا لَهُ عَن مَا هُوَ مصحح لَهَا من الْحَيَاة فِيهِ كَمَا لَا يُوجب غناهُ(4/158)
عَمَّا يُوجب كَونه عَالما قَادِرًا عَن الْقُدْرَة وَالْعلم
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص جلي على أَن الله تَعَالَى غير غَنِي عَن شَيْء هُوَ غَيره لِأَن الصِّفَات عِنْدهم هِيَ غَيره تَعَالَى وَالله تَعَالَى عِنْدهم غير غَنِي عَنْهَا تَعَالَى الله وَإِذا لم يكن غَنِيا فَهُوَ فَقير إِلَيْهَا هَكَذَا قَالَت الْيَهُود أَن الله فَقير تَعَالَى الله عَن هَذَا بل هُوَ الْغَنِيّ جملَة عَمَّا سواهُ وكل من دونه فَقير إِلَيْهِ تَعَالَى وَقَالَ السمناني إِن قَالَ قَائِل لم أنكرتم أَن يكون الله مرِيدا لنَفسِهِ حسب مَا قَالَه النجار والجاحظ قيل لَهُ أَنْكَرْنَا ذَلِك لما قدمنَا ذكره من أَن الْوَاحِد من الْخلق مرِيدا بِإِرَادَة وَلَا يَخْلُو أَن يكون حَقِيقَة المريد من لَهُ الْإِرَادَة أَو كَونه مرِيدا أَو جود الْإِرَادَة لَهُ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ وَجَبت مُسَاوَاة الْغَائِب الشَّاهِد فِي هَذَا الْبَاب
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا نَص جلي على مُسَاوَاة الله تَعَالَى لخلقه عِنْد هَذَا الْجَاهِل وَهَذَا أعظم فِي الْكفْر من قَول كل مجسم لِأَن جَمِيع المجسمين لم يقدم أحد مِنْهُم قطّ على القَوْل بِأَن الله تَعَالَى مسَاوٍ لخلقه قبل هَذِه الْفرْقَة الملعونة ثمَّ الْعجب قطعهم بِأَن الله عز وَجل غايب غير شَاهد وحاشا لله عَن هَذَا بل هُوَ مَعنا وَهُوَ أقرب إِلَيْنَا من حَبل الوريد كَمَا قَالَ عز وَجل أَنه حَاضر فِي الْعُقُول غير غَائِب وَقَالَ الباقلاني مَا وجد فِي الله تَعَالَى من التسميات فَإِنَّهُ يجوز إِطْلَاقهَا عَلَيْهِ وَإِن لم يسم بذلك نَفسه مَا لم يرد شرع يمْنَع من ذَلِك
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا نَص مِنْهُ على أَن هَاهُنَا مَعَاني تُوجد فِي الله تَعَالَى مَعَ الْإِلْحَاد فِي أَسْمَائِهِ إِذْ جَازَ تَسْمِيَته بِمَا لم يسم بِهِ عز وَجل نَفسه تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا وَقَالُوا كلهم إِن الله تَعَالَى لَيْسَ لَهُ إِلَّا كَلَام وَاحِد وَلَيْسَ لَهُ كَلِمَات كَثِيرَة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) هَذَا كفر مُجَرّد لخلافه الْقُرْآن وَتَكْذيب لله عز وَجل فِي قَوْله {قل لَو كَانَ الْبَحْر مداداً لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفدت كَلِمَات الله} مَعَ أَن قَوْلهم لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد قَول أَحمَق لَا يعقل وَلَا يقوم بِهِ برهَان شَرْعِي وَلَا تشكل فِي هاجس وَلَا يُوجِبهُ عقل إِنَّمَا هُوَ هذيان مَحْض وَيُقَال لَهُم لَا يَخْلُو الْقُرْآن عِنْدهم من أَنه كَلَام الله تَعَالَى أَو لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى كفرُوا وَمن قرب وَكفى الله تَعَالَى مؤنتهم وَإِن قَالُوا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى فالقرآن مائَة سُورَة وَأَرْبَعَة عشر سُورَة فِيهَا سِتَّة آلَاف آيَة ونيف كل سُورَة مِنْهَا عِنْد أهل الْإِسْلَام غير الْأُخْرَى وكل آيَة غير الْأُخْرَى فَكيف يَقُول هَؤُلَاءِ النوكى أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد أما هَذَا من الْكفْر الْبَارِد والقحة السمجة ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالُوا كلهم إِن الْقُرْآن لم ينزل بِهِ قطّ جِبْرِيل على قلب مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَإِنَّمَا نزل عَلَيْهِ بِشَيْء آخر هُوَ الْعبارَة عَن كَلَام الله وَأَن الْقُرْآن لَيْسَ عندنَا الْبَتَّةَ إِلَّا على هَذَا الْمجَاز وَأَن نرى فِي الْمَصَاحِف ونسمع من الْقُرَّاء ونقرأ فِي الصَّلَاة ونحفظ فِي الصُّدُور لَيْسَ هُوَ الْقُرْآن الْبَتَّةَ وَلَا شَيْء مِنْهُ كَلَام الله الْبَتَّةَ بل شَيْء آخر وَإِن كَلَام الله تَعَالَى لَا يُفَارق ذَات الله عز وَجل
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَهَذَا من أعظم الْكفْر لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {بل هُوَ قُرْآن مجيد فِي لوح مَحْفُوظ} وَقَالَ تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَقَالَ تَعَالَى {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} وَقَالَ رَسُول الله(4/159)
صلى الله عَلَيْهِ إِنِّي أحب أَن أسمعهُ من غَيْرِي يَعْنِي الْقُرْآن وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة الْكِرَام البررة وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعد والى إِجْمَاع عَامَّة الْمُسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعاملهم على القَوْل حفظ فلَان الْقُرْآن وَقَرَأَ فلَان الْقُرْآن وَكتب فلَان الْقُرْآن فِي الْمُصحف وَسَمعنَا الْقُرْآن من فلَان وَكَلَام الله تَعَالَى مَا فِي الْمُصحف من أول أم الْقُرْآن إِلَى آخر قل أعوذ بِرَبّ النَّاس وَقَالَ السمناني أَيْضا أَن الباقلاني وشيوخه قَالُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أطلق القَوْل بِأَن مَا أنزل الله هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ على معنى أَنه عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى وَأَنه يفهم مِنْهُ أمره وَنَهْيه فَقَط
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَيُقَال لَهُم أخبرونا عَن قَوْلكُم أَن الْكتاب هُوَ الْمُصحف وَالْقِرَاءَة المسموعة قي الْمُحَارب كل ذَلِك عبارَة عَن الْقُرْآن مَاذَا تعنون بذلك وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا تمويه ضَعِيف وَهل كل مَا فِي الْمُصحف إِلَّا عبارَة عَن مُعَاينَة الَّتِي أرادها الله تَعَالَى فِي شرع دينه من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْإِيمَان وَغير ذَلِك وَأَحْبَارهمْ الْأُمَم السالفة وَصفَة الْجنَّة وَالنَّار والبعث وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يخْتَلف من أهل الْإِسْلَام أحد فِي أَن الْمعبر عَنهُ بذلك الْكَلَام لَيْسَ هُوَ كَلَام الله تَعَالَى أصلا لِأَن ذَات الْجنَّة وَذَات النَّار وحركات الْمُصَلِّي وَعمل الْحَاج وَعمل الصَّائِم وأجسام عَاد وأشخاص ثَمُود لَيْسَ شَيْء من ذَلِك كَلَام الله تَعَالَى وَلَا قُرْآنًا فثيت أَن لَيْسَ هُوَ الْقُرْآن وَلَا هُوَ كَلَام الله إِلَّا الْعبارَة المسموعة فَقَط وَالْكَلَام المقروء والخط الْمَكْتُوب فِي الْمُصحف بِلَا شكّ إِذْ لم يبْق غير ذَلِك أَو الْكفْر وَتَكْذيب الله تَعَالَى وَتَكْذيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَن الْقُرْآن أنزل عَلَيْهِ وأننا نسْمع كَلَام الله فأوهمتم الضُّعَفَاء أَن لذِي هُوَ كَلَام الله وَالْقُرْآن عِنْد جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَيْسَ هُوَ هُوَ الْقُرْآن وَلَا هُوَ كَلَام لله ثمَّ أوهمتوهم باستخفافكم أَن حركات المتحركين وَذَات الْجنَّة وَذَات النَّار هِيَ كَلَام الله تَعَالَى وَهِي بِالْقُرْآنِ فَهَل فِي الضلال والسخرية بضعفة الْمُسلمين والهزء بآيَات الله تَعَالَى أَكثر من هَذَا وَلَقَد أَخْبرنِي عَليّ بن حَمْزَة المراوي الصّقليّ الصُّوفِي أَنه بعض الأشعرية يبطح الْمُصحف بِرجلِهِ قَالَ فأكبرت ذَلِك وَقلت لَهُ وَيحك هَكَذَا تصنع بالمصحف وَفِيه كَلَام الله تَعَالَى فَقَالَ لي وَيلك وَبِاللَّهِ مَا فِيهِ إِلَّا السخام والسواد وَأما كَلَام الله بِلَا وَنَحْو هَذَا من القَوْل الَّذِي هَذَا مَعْنَاهُ وَكتب إِلَيّ أَبُو المرحي بن رزوار الْمصْرِيّ أَن بعض ثقاة أهل مصر أخبرهُ من طلاب السّنَن أَن رجلا من الأشعرية قَالَ لَهُ مشافهة على من يَقُول أَن الله قَالَ قل هُوَ الله أحد الله الصَّمد ألف لعنة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) بل على من يَقُول أَن الله عز وَجل لم يقلها ألف ألف لعنة نترى وعَلى من يُنكر أننا نسْمع كَلَام الله ونقرأ كَلَام الله ونحفظ كَلَام لله ونكتب كَلَام الله ألف ألف لعنة نترى من الله تَعَالَى فَإِن قَول هَذِه الْفرْقَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نِهَايَة الْكفْر بِاللَّه عز وَجل وَمُخَالفَة لِلْقُرْآنِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُخَالفَة جَمِيع أهل الْإِسْلَام قبل حُدُوث هَذِه الطَّائِفَة الملعونة
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَت الأشعرية كلهَا أَن الله لم يزل قَائِلا لكل مَا خلق أَو يخلق فِي المستأنف كن إِلَّا أَن الْأَشْيَاء لم تكن إِلَّا حِين كَونهَا وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم مَكْشُوف لله عز وَجل إِذْ يَقُول {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَبين الله تَعَالَى أَنه لَا يَقُول للشَّيْء كن إِلَّا إِذا أَرَادَ تكوينه وَأَنه إِذا قَالَ لَهُ كن كَانَ الشَّيْء فِي الْوَقْت بِلَا مهلة لِأَن هَذَا هُوَ مُقْتَضى الْفَاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن فَجمعُوا إِلَى تَكْذِيب الله عز وَجل فِي(4/160)
خبريه جَمِيعًا إِيجَاب أزلية الْعَالم لِأَن الله تَعَالَى إِذا كَانَ لم يزل قَائِلا لما يكون كن فَإِن التكوين لم يزل وَهَذِه دهرية مَحْضَة ثمَّ قَالَ السمناني بعد أسطر لِأَنَّهُ لَو وَجب وجود مَا وجد فِي الْوَقْت الَّذِي وجد فِيهِ لأجل قَول الله تَعَالَى كن لوَجَبَ أَن يُوجد لأجل قَول غَيره لَهُ كن لِأَن صفة الِاقْتِضَاء لَا تخْتَلف فِي ذَلِك بَين الْقَدِيم والمحدث
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا نَص كَلَام هَذَا الْفَاسِق الملحد حرفا حرفا وَهَذَا كفر مَحْض وحماقة لإخفاء بهَا أما الْكفْر فإبطاله أَن وجود الْأَشْيَاء فِي الْأَوْقَات الَّتِي وجدت فِيهَا إِنَّمَا وجدت لأجل قَول الله تَعَالَى لَهَا كن وإيجابه أَن الْأَشْيَاء لم تُوجد فِي أحيان وجودهَا لقَوْل الله تَعَالَى لَهَا كن وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى صرف وَخُرُوج عَن إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام وكل من يُصَلِّي إِلَى الْقبْلَة قبلهم وَمن الْكفْر الصَّرِيح أَيْضا فِي هَذَا الْكَلَام الملعون قَوْله أَن صفة الِاقْتِضَاء فِي ذَلِك لَا تخْتَلف بَين الْقَدِيم والمحدث فسوى بَين الله تَعَالَى وخلقه وَأما الحماقة فَقَوله لَو وجدت الْأَشْيَاء من أجل قَول الله تَعَالَى لَهَا كن لوَجَبَ أَن يُوجد لأجل قَول غَيره لَهَا كن فيا للْمُسلمين هَل سمع فِي الْحمق والرعونة وَقلة الْحيَاء أَكثر من قَول من سوى بَين قَول الله تَعَالَى كن للشَّيْء إِذْ أَرَادَ تكوينه وَبَين قَول غَيره من النَّاس كن وَهَذَا أَخبث من قَول الدهرية ونعوذ بِاللَّه من الضلال فلولا الخذلان مَا انْطلق بِهَذَا النوك لِسَان من لَا يقذف بِالْحِجَارَةِ فِي الشوارع وَمَا شبهت بِهَذَا الْكَلَام إِلَّا كَلَام النذل أبي هَاشم الجبائي لَو لم يجز لنا أَن نسمي الله تَعَالَى باسم حَتَّى يَأْذَن لنا فِي ذَلِك لوَجَبَ أَن لَا يجوز لله أَن يُسَمِّي نَفسه حَتَّى يَأْذَن لَهُ غَيره فِي ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه أَقْوَال لَو قَالَهَا صبيان يسيل مخاطبهم لأيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشَّيْطَان بهم كَمَا شَاءَ فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَقَالَت الأشعرية كلهَا أَن الله لَا يقدر على ظلم أحد الْبَتَّةَ وَلَا يقدر على الْكَذِب وَلَا على قَول أَن الْمَسِيح ابْن الله حَتَّى يَقُول قبل ذَلِك وَقَالَت النَّصَارَى وَأَنه لَا يقدر على أَن يَقُول عُزَيْر ابْن الله حَتَّى يَقُول قبل ذَلِك وَقَالَت الْيَهُود وَأَنه لَا يقدر على أَن يتَّخذ ولد أَو أَنه لَا يقدر الْبَتَّةَ على إِظْهَار معْجزَة على يَدي كَذَّاب يَدعِي النُّبُوَّة فَإِن ادّعى الإلهية كَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على إِظْهَار المعجزات على يَدَيْهِ وَأَنه تَعَالَى لَا يقدر على شَيْء من الْمحَال وَلَا على إِحَالَة الْأُمُور عَن حقائقها وَلَا على قلب الْأَجْنَاس عَن ماهيتها وَأَنه تَعَالَى لَا يقدر الْبَتَّةَ على أَن يقسم الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ وَلَا على أَن يَدْعُو أحدا إِلَى غبر التَّوْحِيد هَذَا نَص كَلَامهم وَحَقِيقَة معتقدهم فجعلوه تَعَالَى عَاجِزا متناهي الْقُوَّة مَحْدُود الْقُدْرَة يقدر مرّة وَلَا يقدر أُخْرَى يقدر على شَيْء وَلَا يقدر على آخر وَهَذِه صفة النَّقْص وهم مَعَ هَذَا يَقُولُونَ أَن السَّاحر يقدر على قلب الْأَعْيَان وعَلى أَن يمسخ إنْسَانا فَيَجْعَلهُ حمارا على الْحَقِيقَة وعَلى الْمَشْي فِي الْهَوَاء وعَلى المَاء فَكَانَ السَّاحر عِنْدهم أقوى من الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وخشوا مبادرة أهل الْإِسْلَام لَهُم بالاصطلام فخنسوا عَن أَن يصرحوا بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر فَقَالُوا لَا يُوصف الله بِالْقُدْرَةِ على شَيْء مِمَّا ذكرنَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا رَاحَة لَهُم فِي هَذَا لأننا نقُول لَهُم وَلم لَا نصفه بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك إِلَّا أَنه يقدر على شَيْء من ذَلِك وَلَا لَهُ قدرَة على كل ذَلِك أم لِأَنَّهُ لَا يقدر على كل ذَلِك وَلَا لَهُ قدرَة على شَيْء من ذَلِك وَلَا بُد من أَحدهمَا بضرورة الْعقل وَهنا ضلت جبلتهم الضعيفة وَلَا بُد لَهُم من الْقطع بِأَنَّهُ لَا يقدر وَبِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَإِذ قد صَرَّحُوا بِهَذَا بِالضَّرُورَةِ(4/161)
فَأول الْعقل ومسموع اللُّغَة كِلَاهُمَا يوجبان أَن من لَا يقدر على شَيْء فَهُوَ عَاجز عَنهُ وَأَن من لَا قدرَة لَهُ على شَيْء فصفة الْعَجز والضعف لاحقة بِهِ فَلَا بُد لَهُم ضَرُورَة من إِطْلَاق اسْم الْعَجز على الله تَعَالَى وَوَصفه بِأَنَّهُ عَاجز وَهَذَا حَقِيقَة مَذْهَبهم يَقِينا إِلَّا أَنهم يخَافُونَ الْبَوَار إِن أظهروه وَقَالَ هَذَا الباقلاني لَا فرق بَين النَّبِي وَالسحر الْكذَّاب المتنبي فِيمَا يأتينا بِهِ إِلَّا التحدي فَقَط وَقَول النَّبِي لمن بِحَضْرَتِهِ هَات من يعْمل كعملي وَهَذَا إبِْطَال للنبوة مُجَرّد وَقَالَ الباقلاني وَابْن فورك وأشياعهما من أهل الضَّلَالَة والجهالة لَيْسَ لله تَعَالَى أَسمَاء الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا لَهُ تَعَالَى اسْم وَاحِد فَقَط لَيْسَ لَهُ اسْم غَيره وَأَن قَول الله تَعَالَى {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} إِنَّمَا أَرَادَ أَن يَقُول لله التسميات الْحسنى فذروا الَّذين يلحدون فِي تسمياته فَقَالَ لله الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ قَالُوا وَكَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد إِنَّمَا أَرَادَ أَن يَقُول تسعا وَتِسْعين تَسْمِيَة فَقَالَ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا فِي الْبُرْهَان على قلَّة الْحيَاء وَفَسَاد الدّين واستسهال الْكَذِب أَكثر من هَذَا وليت شعري من أخْبرهُم عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الأفك ثمَّ لَيْت شعري إِذا زَعَمُوا أَن الله تَعَالَى أَرَادَ ان يَقُول التسميات الْحسنى فَقَالَ الْأَسْمَاء الْحسنى لأي شَيْء فعل ذَلِك اللكنة أم غَفلَة أم تعمد لإضلال عباده وَلَا سَبِيل وَالله إِلَى رَابِع فَأُعْجِبُوا لعَظيم مَا حل بهؤلاء الْقَوْم من الدمار والتبار وَالْكذب على الله جهاراً وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا رهبة ونعوذ بِاللَّه من الضلال مَعَ أَن هَذَا قَول مَا سبقهمْ إِلَيْهِ أحد وَقَالُوا كلهم أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب لَيْسَ هُوَ رَسُول الله الْيَوْم لكنه كَانَ رَسُول الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فكذبوا الْقُرْآن فِي قَول الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله} وكذبوا الآذان وكذبوا الْإِقَامَة الَّتِي افترضها الله تَعَالَى خمس مَرَّات كل يَوْم وَلَيْلَة على كل جمَاعَة من الْمُسلمين وكذبوا دَعْوَة جَمِيع الْمُسلمين الَّتِي الفقوا على دُعَاء الْكفَّار إِلَيْهَا وعَلى أَنه لَا نجاة من النَّار لَا بهَا واكذبوا جَمِيع أعصار الْمُسلمين من الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ فِي أطباق جَمِيعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بِلَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَوَجَب على قَوْلهم هَذَا الملعون أَنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الْإِسْلَام فِي قَوْلهم مُحَمَّد رَسُول الله وان الْوَاجِب أَن تَقولُوا مُحَمَّد كَانَ رَسُول الله وعَلى هَذِه الْمَسْأَلَة قتل الْأَمِير مَحْمُود بن سبكتكين مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَصَاحب خرا سان رَحمَه الله ابْن فورك شيخ الأشعرية فَأحْسن الله جَزَاء مَحْمُود على ذَلِك وَلعن ابْن فورك وأشياعه وَأَتْبَاعه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّمَا حملهمْ على الْكفْر الْفَاحِش قَول لَهُم آخر فِي نِهَايَة الضلال والإنسلاخ من الْإِسْلَام وَهِي قَوْلهم أَن الْأَرْوَاح أَعْرَاض تفنى وَلَا تبقى وَقْتَيْنِ وَأَن روح كل وَاحِد منا الْآن هُوَ غير روحه الَّذِي كَانَ لَهُ قبل ذَلِك بطرفة عين وَإِن كل وَاحِد منا يُبدل أَزِيد من ألف ألف روح فِي كل سَاعَة زمانية وَأَن النَّفس إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْهَوَاء الْخَارِج بالتنفس حاراً بعد دُخُوله بَارِدًا وَأَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ فني روحه وَبَطل وَأَنه لَيْسَ لمُحَمد وَلَا لأحد من الْأَنْبِيَاء عِنْد الله تَعَالَى روح ثَابِتَة تنعم وَلَا نفس قَائِمَة تكرم وَهَذَا خُرُوج عَن إِجْمَاع الْإِسْلَام فَمَا قَالَ(4/162)
بِهَذَا أحد مِمَّن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام قبل أبي الْهُذيْل العلاف ثمَّ تلاه هَؤُلَاءِ وَهَذَا خلاف مُجَرّد لِلْقُرْآنِ وَتَكْذيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول {اخْرُجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} وَإِذ يَقُول عز وَجل {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون} وَقَالَ عز وَجل {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم إِلَّا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} وَلقَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} وَخلاف السّنَن الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المنقولة نقل التَّوَاتُر من رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْلَة أسرِي بِهِ فِي السَّمَاء وَمَا جرى لَهُ مَعَه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي عدد الصَّلَوَات المفروضات وَأَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء نسمَة تعلق فِي ثمار الْجنَّة وَمَا يلقى الرّوح عِنْد خُرُوجه من الْفِتْنَة والمسائلة وإخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى عَن يَمِين آدم أَسْوِدَة نسم بنيه من أهل الْجنَّة وَعَن يسَاره أَسْوِدَة نسم بنيه من أهل النَّار وَسَائِر السّنَن المأثورة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ خجلوا من هَذِه الْعَظِيمَة وتبرأ مِنْهُم إِبْلِيس الَّذِي ورطهم فِيهَا فشلوا فَقَالُوا فِي كتبهمْ فَإِن لم يكن هَذَا فَإِن الرّوح تنْتَقل عِنْد خُرُوجهَا من الْجِسْم إِلَى جسم آخر هَكَذَا نَص الباقلاني فِي أحد كتبه وَأَظنهُ الرسَالَة الْمَعْرُوفَة بِالْحرَّةِ وَهَذَا مَذْهَب التناسخ بِلَا كلفة وَقَالَ السمناني فِي كِتَابه أَن الباقلاني وَأَصْحَابه قَالُوا أَن كل مَا جَاءَ فِي الْخَبَر من نقل أَرْوَاح الشُّهَدَاء إِلَى حواصل طير خضر وَأَن روح الْمَيِّت ترتد إِلَيْهِ فِي قَبره وَمَا جرى مجْرى ذَلِك من وصف الرّوح بِالْقربِ والبعد وَالْحَرَكَة والانتقال والسكون وَالْعَذَاب فَكل ذَلِك مَحْمُول على أقل جُزْء من أَجزَاء الْمَيِّت والشهيد أَو الْكَافِر وإعادة الْحَيَاة فِي ذَلِك الْجُزْء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا طَرِيق من الهوس جدا وتطايب بِالدّينِ وَلَقَد أَخْبرنِي ثِقَة من أَصْحَابِي أَنه سمع بعض مقدميهم يَقُول أَن الرّوح إِنَّمَا تبقى فِي عجب الذَّنب لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب مِنْهُ خلق وَفِيه يركب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا التَّأْوِيل أقرب إِلَى الْهزْل مِنْهُ إِلَى أَقْوَال أهل الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان فَإِنَّمَا هَذِه ستائر دون مَذْهَبهم الْخَبيث الَّذِي ذكرنَا آنِفا وَقَالُوا كلهم أَن النّظر فِي دَلَائِل الْإِسْلَام فرض وَأَنه لَا يكون مُسلما حَتَّى ينظر فِيهَا وَأَن من شَرط النَّاظر فِيهَا أَن يكون وَلَا بُد شاكا فِي الله عز وَجل وَفِي صِحَة النُّبُوَّة وَلَا يَصح النّظر فِي دَلَائِل النُّبُوَّة وَدَلَائِل التَّوْحِيد لمن يعْتَقد صِحَّتهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالله مَا سمع سامع قطّ بادخل فِي الْكفْر من قَول من أوجب الشَّك فِي الله تَعَالَى وَفِي صِحَة النُّبُوَّة فرضا على كل متعلم لانجاه لَهُ إِلَّا بِهِ وَلَا دين لَا حد دونه وَأَن اعْتِقَاد صِحَة التَّوْحِيد لله تَعَالَى وَصِحَّة النُّبُوَّة بَاطِل لَا يحل فَحصل من كَلَامهم أَن من لم يشك فِي الله تَعَالَى وَلَا فِي صِحَة النُّبُوَّة فَهُوَ كَافِر وَمن شكّ فيهمَا فَهُوَ محسن مؤد مَا وَجب عَلَيْهِ وَهَذِه فضيحة وحماقة اللَّهُمَّ إِنَّا نبرأ إِلَيْك من هَذَا القَوْل وَمن كَانَ قَائِل بِهِ ثمَّ لم يَجدوا فِي أمد الِاسْتِدْلَال حدا فليت شعري على هَذَا القَوْل الملعون وَهُوَ ومعتقده والداعي إِلَيْهِ كَيفَ يكون حَال من قبل وصيتهم هَذِه الَّتِي هِيَ وَصِيَّة الشَّيْطَان الرَّجِيم فَتبين بِالشَّكِّ فِي الله تَعَالَى وَفِي النُّبُوَّة وامتد بِهِ أمد الِاسْتِدْلَال أَيَّامًا وأشهراً وساعات مَاتَ فِيهَا أَيْن مستقره ومصيره إِلَى النَّار وَالله خَالِدا(4/163)
مخلدا أَبَد وبيقين نَدْرِي أَن قَائِل هَذِه الْأَقْوَال مطَالب لِلْإِسْلَامِ كأدلة مرصد لأهل دَاعِيَة إِلَى الْكفْر ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالُوا كلهم أَن طَعَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المئين والعشرات من صَاع شعير مرّة بعد مرّة وسقيه الْألف والألوف من مَاء يسير يَنْبع من بَين أَصَابِعه وحنين الْجذع ومجيء الشَّجَرَة وَتكلم الذِّرَاع وشكوى الْبَعِير ومجيء الذِّئْب لَيْسَ شَيْء من ذَلِك دلَالَة على صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نبوته لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يتحد النَّاس بذلك وَلَا يكون عِنْدهم آيَة إِلَّا مَا تحدى بِهِ الْكفَّار فَقَط وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله إِذْ فعل ذَلِك أشهد أَنِّي رَسُول الله وَهَذَا أَيْضا قَول افتروه خالفوا فِيهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام وَقَالُوا كلهم لَيْسَ لشَيْء من الْأَشْيَاء نصف وَلَا ثلث وَلَا ربع وَلَا سدس وَلَا ثمن وَلَا عشر وَلَا بعض وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال الْفَرد عشر الْعشْرَة وَلَا أَنه بعض الْخَمْسَة وحجتهم فِي ذَلِك أَنه لَو جَازَ أَن يُقَال ذَلِك لَكَانَ عشرا لنَفسِهِ وَبَعض نَفسه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جهل شَدِيد لِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ بعض من جملَة يكون سائرها غَيره وَعشر جملَة يكون سائرها غَيره ونسوا أنفسهم فَقَالُوا بالجزء لَا يتَجَزَّأ ونسوا إِلْزَام أنفسهم أَن يكون جُزْءا لنَفسِهِ وَهَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول فِي الْقُرْآن فلهَا النّصْف فلامه الثُّلُث فلامه السُّدس وَلكم الرّبع ولهن الثّمن بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَهَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثير مَعَ مخالفتهم فِي ذَلِك جَمِيع أهل الأَرْض مؤمنهم وكافرهم وَمُخَالفَة كل لُغَة والمعقول والطبائع وَقَالُوا كلهم من قَالَ أَن النَّار تحرق أَو تفلح أَو أَن الأَرْض تهتز أَو تنْبت شَيْئا أَو أَن الْخمر يسكر أَو أَن الْخبز يشْبع أَو أَن المَاء يروي أَو أَن الله تَعَالَى ينْبت الزَّرْع وَالشَّجر بِالْمَاءِ فقد ألحد وافترى وَقَالَ الباقلاني من آخر السّفر الرَّابِع من كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن نَحن ننكر فعل النَّار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثَّلج للتبريد وَفعل الطَّعَام وَالشرَاب للشبع والري وَالْخمر للإسكار كل هَذَا عندنَا بَاطِل محَال ننكره أَشد الْإِنْكَار وَكَذَلِكَ فعل الْحجر لجذب شَيْء أَو رده أَو حَبسه أَو إِطْلَاقه من جَدِيد أَو غَيره هَذَا نَص كَلَامه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم لله عز وَجل إِذْ يَقُول {تلفح وُجُوههم النَّار} وَلقَوْله تَعَالَى {ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم وأنفسهم} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وَقد صككت بِهَذَا وَجه بعض مقدميهم فِي المناظرة فدهش وبلد وَهُوَ أَيْضا تَكْذِيب لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول كل مُسكر حرَام وكل سراب أسكر حرَام مَعَ مخالفتهم لكل لُغَة وَلكُل ذِي حس من مُسلم وَكَافِر ومكابرة العيان وَإِبْطَال الْمُشَاهدَة ثمَّ أظرف شَيْء احتجاجهم فِي هَذِه الطامة بِأَن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي خلق ذَلِك كُله فَقُلْنَا لَهُم أوليس فعل كل حَيّ مُخْتَار واختياره خلقا لله عز وَجل فَلَا بُد من قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَمن أَيْن نسبتم الْفِعْل إِلَى الْأَحْيَاء وَهِي خلق الله تَعَالَى ومنعتم من نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الجمادات لِأَنَّهُ خلق الله تَعَالَى وَلَا فرق وَلَكنهُمْ قوم لَا يعْقلُونَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَسمعت بعض مقدميهم يَقُول أَن من كَانَ على معاصي خَمْسَة من زنا وسرقة وَترك صَلَاة وتضييع زَكَاة وَغير ذَلِك ثمَّ تَابَ عَن بَعْضهَا دون بعض فَإِن تَوْبَته تِلْكَ لَا تقبل وَقد نَص السمناني على أَن هَذَا قَول الباقلاني وَهُوَ قَول أبي هَاشم الجبائي ثمَّ قَالَ السمناني(4/164)
هَذَا قَول خارق للْإِجْمَاع جملَة وَخلاف لدين الْأمة هَذَا نَص قَول السمناني فِي شَيْخه وشهدوا على أنفسهم وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتلاومون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا القَوْل مُخَالف لِلْقُرْآنِ وَالسّنَن لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} وبالضرورة يدْرِي كل ذِي مسكة من عقله أَن التَّوْبَة من الزِّنَا خير كثير فَهَذَا الْجَاهِل يَقُول أَنه لَا يرَاهُ صَاحبه وَأَنه عمل ضائع عِنْد الله عز وَجل من مُسلم مُؤمن ومعاذ الله من هَذَا وسر هَذَا القَوْل الملعون وَحَقِيقَته الَّتِي لَا بُد لقائله مِنْهُ أَنه لَا معنى لمن أصر على الزِّنَا أَو شرب الْخمر فِي أَن يُصَلِّي وَلَا أَن يُزكي فقد صَار يَأْمر بترك الصَّلَاة الْخمس وَالزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَالْحج فعلى هَذَا القَوْل وقائله لعائن الله تتري مَا دَار اللَّيْل وَالنَّهَار وَنَصّ السمناني عَن الباقلاني شَيْخه أَنه كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لَا يغْفر الصَّغَائِر باجتناب الْكَبَائِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَن سَمِعت بعض مقدميهم يُنكر أَن يكون فِي الذُّنُوب صغائر وناظرته بقول الله تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} وَقلت بِالضَّرُورَةِ يدْرِي كل ذِي فهم أَن لَا كَبَائِر إِلَّا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا هُوَ أَصْغَر مِنْهَا وَهِي السَّيِّئَات المغفورة باجتناب الْكَبَائِر بِنَصّ كَلَام الله تَعَالَى فقولك هَذَا خلاف لِلْقُرْآنِ مُجَرّد فخلط ولجأ إِلَى الحرد وَهَذَا مِنْهُم تَكْذِيب لله عز وَجل ورد لحكمه بِلَا كلفة وَمن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفافة الْوَجْه قَوْلهم أَن لَا حر فِي النَّار وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَسَل حلاوة وَلَا فِي الصَّبْر مرَارَة وَإِنَّمَا خلق الله تَعَالَى ذَلِك عِنْد اللَّمْس والذوق وَهَذَا حمق عَتيق قادهم إِلَيْهِ إنكارهم الطبائع وَقد ناظرناهم على ذَلِك هَذَا مَعَ قَول شيخهم الباقلاني أَن لقشور الْعِنَب رَائِحَة للزجاج والحصا طعماً ورائحة وَزَادُوا حَتَّى بلغُوا إِلَى أَن قَالُوا أَن للفلك طعماً ورائحة فليت شعري مَتى ذاقوه أَو شموه أَو من أخْبرهُم بِهَذَا وَهَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا الله ثمَّ الْمَلَائِكَة الَّذين هُنَالك وَليكن من ذاق طعم الزّجاج وشم رَائِحَته فَغير مُنكر أَن يدعى مُشَاهدَة الْفلك ولمسه وَشمه وذوقه وَمن شنعهم قَوْلهم أَن من كَانَ الْآن على دين الْإِسْلَام مخلصاً بِقَلْبِه وَلسَانه مُجْتَهدا فِي الْعِبَادَة إِلَّا أَن الله عز وَجل يعلم أَنه لَا يَمُوت إِلَّا كَافِرًا فَهُوَ الْآن عِنْد الله كَافِرًا وَإِن من كَانَ الْآن كَافِرًا يسْجد للنار وللصليب أَو يَهُودِيّا أَو زنديقا مصرحين بتكذيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن فِي علم الله تَعَالَى أَنه لَا يَمُوت إِلَّا مُسلما فَإِنَّهُ الْآن عِنْد الله مُسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا قَالَ هَذَا مُسلم قطّ قبل هِشَام الغوطي وَهَذِه مُكَابَرَة للعيان وَتَكْذيب لله عز وَجل مُجَرّد كَأَنَّهُمْ مَا سمعُوا قطّ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} فسماهم مُؤمنين ثمَّ أخبر تَعَالَى بِأَنَّهُم كفرُوا وَقَوله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر} فَجعل الْإِسْلَام دينا لما كَانَ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ عَلَيْهِ وَإِن ارْتَدَّ مَعَه وَمَات كَافِرًا وَقَوله تَعَالَى مُخَاطبا للْمُسلمين من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم فَتَبَيَّنُوا} ويلزمهم أَن الَّذِي يسلم أَبوهُ وَلَا يسلم هُوَ لِأَنَّهُ كَانَ بَالغا ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فَلم يَرِثهُ لكفره ثمَّ أسلم أَن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أَبِيه لِأَنَّهُ عِنْدهم كَانَ إِذْ مَاتَ أَبوهُ مُؤمنا عِنْد الله تَعَالَى ويلزمهم(4/165)
أَن من كَانَ صَبيا ثمَّ عَاشَ حَتَّى شاخ أَنه لم يكن عِنْد الله قطّ إِلَّا شَيخا وَلَو جمع مَا يدْخل عَلَيْهِم لقام مِنْهُ سفر ضخم وَقَالُوا كلهم أَنه لَيْسَ على ظهر الأَرْض يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ يقر بِقَلْبِه أَن الله حق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تَكْذِيب لِلْقُرْآنِ على مَا بَينا قبل ومكابرة للعيان لأَنا لَا نحصي كم دخل فِي الْإِسْلَام مِنْهُم وَصلح إيمَانه وَصَارَ عدلا وَكلهمْ لَا يخْتَلف فِي أَنه كَانَ قبل إِسْلَامه مقرا بِاللَّه عز وَجل عَالما بِهِ كَمَا هُوَ بعد إِسْلَامه لم يزدْ فِي توحيده شَيْء فكابر والعيان وكذبوا لِلْقُرْآنِ بحمق وَقلة حَيَاء لَا نَظِير لَهُ وَقَالَ الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن مني قَول الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله تَعَالَى {لَا يحب الْفساد} إِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا يحب الْفساد لأهل الصّلاح وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ أَن يكفروا وَلم يرد أَنه لَا يرضاه لأحد من خلقه وَلَا يُحِبهُ لأحد مِنْهُم ثمَّ قَالَ وَإِن كَانَ قد أحب ذَلِك ورضيه لأهل الْكفْر وَالْفساد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى مُجَرّد ثمَّ أَيْضا أخبر بِأَن الْكفَّار فعلوا من الْكفْر أمرا رضيه الله تَعَالَى مِنْهُم وأحبه مِنْهُم فَكيف يدْخل هَذَا فِي عقل مُسلم مَعَ قَوْله تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} وأعجبوا لظلمة جَهله إِذْ لم يفرق بَين إِرَادَة الْكفْر والمشيئة والخلق لَهُ وَبَين الرِّضَا والمحبة وَقَالَ أَيْضا فِيهِ أَن أقل من سُورَة من الْقُرْآن لَيْسَ بمعجز أصلا بل هُوَ مَقْدُور على مثله وَقَالَ أَيْضا فِي السّفر الْخَامِس من الدِّيوَان الْمَذْكُور أَن قيل كَيفَ تَقولُونَ أَكَانَ يجوز من الله أَن يؤلف الْقُرْآن تأليفاً آخر غير هَذَا يعجز الْخلق عَن مُقَابلَته قُلْنَا نعم هُوَ تَعَالَى قَادر على ذَلِك وعَلى مَا لَا غَايَة لَهُ من هَذَا الْبَاب وعَلى أقدار كَثِيرَة وأعداد لَا يحصيها غَيره إِلَّا أَن كَانَ تأليف الْكَلَام ونظم الْأَلْفَاظ لَا بُد أَن يبلغ إِلَى غَايَة وحد لَا يحْتَمل الْكَلَام أَكثر مِنْهُ وَلَا أوسع وَلَا يبْقى وَرَاء تِلْكَ الْأَعْدَاد نَص والأوزان شَيْء تتناوله الْقُدْرَة قَالَ وَلنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نظر فِي تأليف الْكَلَام ونظم الْأَجْسَام وتصوير الْأَشْخَاص هَل يجب أَن يكون نِهَايَة لَا يحْتَمل الْمُؤلف والمنظوم فَوْقهَا وَلَا مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُنَا صرح بِالشَّكِّ فِي قدرَة الله تَعَالَى الها نِهَايَة كَمَا يَقُول أَبُو الْهُذيْل أَخُوهُ فِي الضلال وَالْكفْر أم لَا نِهَايَة لَهَا كَمَا يَقُول أهل الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الضلال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَقَد أَخْبرنِي بعض من كَانَ يداخلهم وَكَانَ لَهُ فيهم سَبَب قوي وَكَانَ من أهل الْفَهم والذكاء وَكَانَ يزري فِي بَاطِن أمره عَلَيْهِم أَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى مذ خلق الأَرْض فَإِنَّهُ خلق جسماً عَظِيما يمْسِكهَا عَن أَن تهوى هابطة فَلَمَّا خلق ذَلِك الْجِسْم أفناه فِي الْوَقْت بِلَا زمَان وَخلق آخر مثله يمْسِكهَا أَيْضا فَلَمَّا خلقه أفناه إِثْر خلقه بِلَا زمَان أَيْضا وَخلق آخر وَهَكَذَا أبدا أبدا بِلَا نِهَايَة قَالَ لي وحجتهم فِي هَذَا الوسواس وَالْكذب على الله تَعَالَى فِيهِ مِمَّا لم يقلهُ أحد قبلهم مِمَّا يكذبهُ الْحس والمشاهدة أَنه لَا بُد للْأَرْض من جسم مُمْسك والاهوت فَلَو كَانَ ذَلِك الممسك يبْقى وَقْتَيْنِ أَو مِقْدَار طرفَة عين لسقط هُوَ أَيْضا مَعهَا فَهُوَ إِذا خلق ثمَّ أفنى إِثْر خلقه وَلم يَقع لِأَن الْجِسْم عِنْدهم فِي ابْتِدَاء خلقه لَا سَاكن وَلَا متحرك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا احتجاج للحمق بالحمق وَمَا عقل أحد قطّ جسماً لَا سَاكِنا وَلَا متحركاً بل الْجِسْم فِي ابتداه خلق الله تَعَالَى لَهُ فِي مَكَان مُحِيط بِهِ فِي جهاته وَلَا شكّ سَاكن فِي مَكَانَهُ ثمَّ تحرّك وَكَأَنَّهُم لم يسمعوا لقَوْل الله تَعَالَى {أَن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا}(4/166)
فَأخْبر تَعَالَى أَنه يمْسِكهَا كَمَا شَاءَ دون تكلّف مَا لم يخبرنا الله تَعَالَى بِهِ وَلَا جعل فِي الْعُقُول دَلِيلا عَلَيْهِ وَلَو أَن قَائِل هَذَا الْحمق وقف على الْحق وطالع شَيْئا من براهين الْهَيْئَة لحجل مِمَّا أَتَى بِهِ من الهوس وَمن شنعهم قَول هَذَا الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن إِن تَقْسِيم آيَات الْقُرْآن وترتيب مَوَاضِع سوره شَيْء فعله النَّاس وَلَيْسَ هُوَ من عِنْد الله وَلَا من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فقد كذب هَذَا الْجَاهِل وأفك أتراه مَا سمع قَول الله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الْكَلَالَة وَالْخَبَر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْمر إِذا نزلت الْآيَة أَن تجْعَل فِي سُورَة كَذَا وَمَوْضِع كَذَا وَلَو أَن النَّاس رتبوا سوره لما تعدوا أحد وُجُوه ثَلَاثَة إِمَّا أَن يرتبوها على الأول فَالْأول نزولاً أَو الأطول فَمَا دونه أَو الأقصر فَمَا فَوْقه فَإذْ لَيْسَ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ أَنه أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي لَا يُعَارض عَن الله عز وَجل لَا يجوز غير ذَلِك أصلا وَمن شنعهم قَول الباقلاني فِي كِتَابه فِي مَذَاهِب القرامطة قرب آخر الْكتاب فِي بَاب تَرْجَمته ذكر جمل مقالات الدهرية والفلاسفة والثنوية قَالَ الباقلاني فَأَما مَا يَسْتَحِيل بَقَاؤُهُ من أَجنَاس الْحَوَادِث وَهِي الْأَعْرَاض فَإِنَّمَا يجب عدمهَا فِي الثَّانِي من حَال حدوثها من غير معدم وَلَا شَيْء يفنيها هَذَا نَص كَلَامه وَقَالَ مُتَّصِلا بِهَذَا الْفَصْل وَأما نَحن فَنَقُول أَنَّهَا تفني الْجَوَاهِر نعني بِقطع الأكوان عَنْهَا من حَيْثُ لَا يَصح لَهَا وجود لَا فِي مَكَان وَلَا فِيمَا يقدر تَقْدِير الْمَكَان وَإِذا لم يلْحق فِيهَا شَيْء من الأكوان فَعدم مَا كَانَ يخلق فِيهَا مِنْهَا أوجب عدمهَا هَذَا نَص كَلَامه وَهَذَا قَول بإفناء الْجَوَاهِر والأعراض وَهُوَ فنَاء وإعدام لَا فَاعل لَهما وَإِن الله تَعَالَى لم يفنى الفاني ونعوذ بِاللَّه من الضلال والحاد الْمَحْض وَقَالُوا بأجمعهم لَيْسَ لله تَعَالَى على الْكفَّار نعْمَة دينية أصلا وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ شيخهم ولاله على الْكفَّار نعْمَة دنيوية أصلا وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُ وَمن أَتْبَاعه الضلال لله عز وَجل إِذْ يَقُول {بدلُوا نعْمَة الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار} وَإِذ يَقُول عز وَجل {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَإِنَّمَا خَاطب تَعَالَى بِهَذَا كفَّارًا جَحَدُوا نعْمَة الله تَعَالَى تبكيتاً لَهُم وَأما الدُّنْيَوِيَّة فكثير قَالَ تَعَالَى {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره من أَي شَيْء خلقه من نُطْفَة خلقه فقدره ثمَّ السَّبِيل يسره} إِلَى قَوْله {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} الْآيَة وَمثله من الْقُرْآن كثير وَقَالَ الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن فِي بَاب مترجم بِبَاب الدّلَالَة على أَن الْقُرْآن معجز للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكروا سُؤال الْمُلْحِدِينَ عَن الدَّلِيل على صِحَة مَا ادَّعَاهُ الْمُسلمُونَ من أَن الْقُرْآن معجز فَقَالَ الباقلاني يُقَال لَهُم مَا معنى وصف الْقُرْآن وَغَيره من آيَات الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ معجز فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه مِمَّا لَا يقدر الْعباد عَلَيْهِ وَأَن يَكُونُوا عاجزين على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا وصف الْقُرْآن وَغَيره من آيَات الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كعصى مُوسَى وَخُرُوج النَّاقة من الصَّخْرَة وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الْمَوْتَى بِأَنَّهُ معجز وَإِن لم يتَعَلَّق بِهِ عجز عَاجز عَنهُ على وَجه التَّسْمِيَة بِمَا يعجز عَنهُ الْعَاجِز من الْأُمُور الَّتِي صَحَّ عجزهم عَنْهَا وقدرتهم عَلَيْهَا لأَنهم لم يقدروا على معارضات آيَات الرُّسُل غير عَن عدم قدرتهم على ذَلِك فالعجز عَنهُ تَشْبِيها لَهُ بالمعجوز عَنهُ قَالَ الباقلاني وَمِمَّا يدل على أَن الْعَرَب لَا(4/167)
يجوز أَن تعجز عَن مثل الْقُرْآن لِأَنَّهُ قد صَحَّ وَثَبت أَن الْعَجز لَا يكون عَجزا إِلَّا عَن مَوْجُود فَلَو كَانُوا على هَذَا الأَصْل عاجزين عَن مثل الْقُرْآن وَعصى مُوسَى وإحياء الْمَوْتَى وَخلق الْأَجْسَام والأسماع والأبصار وكشف الْبلوى والعاهات لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْمثل مَوْجُودا فيهم وَمِنْهُم كَمَا كَانُوا قَادِرين على ذَلِك لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك مِنْهُم وَلما لم يكن ذَلِك كَذَلِك ثَبت أَنه لَا يجوز عجز الْعباد على الْحَقِيقَة عَن مثل الْقُرْآن مَعَ عَدمه مِنْهُم وَكَونه غير مَوْجُود لَهُم وَلَا عَن قلب عصى مُوسَى حَيَّة وَلَا عَن مثل ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أينتظر كفر بعد هَذَا الْكفْر فِي تصريحه أَن الْعباد وَالْعرب لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن مثل الْقُرْآن وَلَا عَن قلب الْعَصَا حَيَّة وَلَا يغتر ضَعِيف بقوله إِنَّهُم غير قَادِرين على ذَلِك فَإِنَّمَا على قَوْله الْمَعْرُوف من أَن الله لَا يقدر على غير مَا فعل وَظهر مِنْهُ فَقَط وَمن عَظِيم الْمحَال قَوْله فِي هَذَا الْفَصْل أَنه لَا يجوز أَن يعجز الْعَاجِز إِلَّا عَمَّا يقدر عَلَيْهِ مَعَ أَن هَذَا الْكَلَام عَنهُ مُوجب أَنهم إِن عجزوا عَن مثل الْقُرْآن وقدروا عَلَيْهِ وَمَا يمترى فِي أَنه كَانَ كائداً لِلْإِسْلَامِ ملحداً لَا شكّ فِيهِ فَهَذِهِ الْأَقْوَال لَا ينْطَلق بهَا لِسَان مُسلم وَمن أعظم الْبَرَاهِين على كفر الباقلاني وكيده للدّين قَوْله فِي فصل آخر من الْبَاب الْمَذْكُور فِي الْكتاب الْمَذْكُور أَنه لَا يجب على من سمع الْقُرْآن من مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُبَادر إِلَى الْقطع على أَنه لَهُ آيَة أَو أَنه على يَده ظهر وَمن قبله نجم حَتَّى يسْأَل أهل النواحي والأطراف ونقلة الْأَخْبَار ويتعرف حَال الْمُتَكَلِّمين بذلك اللِّسَان فِي الْآفَاق فَإِذا علم بعد التثبت وَالنَّظَر أَنه لم يسْبقهُ إِلَى ذَلِك أحد لزمَه حِينَئِذٍ اعْتِقَاد نبوته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنْسَان خَافَ معاجلة الْأمة لَهُ بِالرَّجمِ كَمَا يرْجم الْكَلْب إِن صرح بِأَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاطِل فَصرحَ لَهُم بِمَا يودي إِلَى ذَلِك من قرب إِذا وَجب بِأَن لَا يقر أحد بنبوة مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِأَن أَتَى بِالْقُرْآنِ وَلَا بِأَنَّهُ آيَة من آيَاته على صِحَة نبوته إِلَّا حَتَّى يسْأَل أهل النواحي والأطراف وينتظر الْأَخْبَار ويتعرف حَال الْمُتَكَلّم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي الْآفَاق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فأحال وَالله على عمل لَا نِهَايَة لَهُ وَلَو عمر الْإِنْسَان عمر نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن سُؤال أهل النواحي والأطراف لَا يَنْقَضِي فِي ألف عَام وانتظار الْأَخْبَار لَيْسَ لَهُ حد وليت شعري مَتى تصل المخدرة وطالب المعاش إِلَى طرف من هَذَا الْمحَال لِأَن أهل النواحي هم من بَين صدر الصين إِلَى آخر الأندلس إِلَى بِلَاد الزنج إِلَى بِلَاد الصقالية فَمَا بَين ذَلِك فلاح كفر هَذَا الْجَاهِل الملحد وكيده لِلْإِسْلَامِ لكل من لَهُ أدنى حس مَعَ ضعف كَيده فِي ذَلِك قَالَ تَعَالَى {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} وَيَكْفِي من كل هزر أَتَى بِهِ هَذَا الْفَصْل الملعون قائلة ازمن لَهُ علم قوي بِالْعَرَبِيَّةِ ولاخبار فِي كَيْفيَّة تَيَقّن عجز الْعَرَب عَن معارضته فَمن بعدهمْ إِلَى الْيَوْم وَأَنه من عِنْده ضَرُورَة لِأَنَّهُ لم ينزل الْقُرْآن جملَة فَيمكن فِيهِ الدَّعْوَى من أحد وَإِنَّمَا نزل مقطعاً فِي كل قصَّة تنزل فَينزل فِيهَا قُرْآن وَهَذِه ضَرُورَة مُوجبَة أَنه عِنْده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ظهر بِوَحْي الله تَعَالَى إِلَيْهِ وَبِمَا فِيهِ من الغيوب الَّتِي قد ظهر إنذاره بهَا وَأما من لَا علم لَهُ باللغة والأحبار فكيفية أَخْبَار من يَقع لَهُ الْعلم بِخَبَرِهِ بِأَن الْعَرَب عجزت عَن مثله وَأَنه أَتَى بِهِ مفصلا عِنْد حُلُول الْقَصَص الَّتِي أنزل الله تَعَالَى فِيهَا الْآيَة والآيتين والكلمة والكلمتين من الْقُرْآن والتوراة(4/168)
حَتَّى تمّ هُوَ فَهَذَا الْحق وَذَلِكَ الْإِلْحَاد الْمَحْض وَالْكَلَام الغث السخيف وَمن كفراتهم الصلع قَول السمناني إِذْ نَص على أَن الباقلاني كَانَ يَقُول أَن جَمِيع الْمعاصِي كلهَا لَا تحاشي شَيْئا مِنْهَا مِمَّا يجب أَن يسْتَغْفر الله مِنْهُ جايز وُقُوعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا الْكَذِب فِي الْبَلَاغ فَقَط وَقَالَ الباقلاني وَإِذا نهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء ثمَّ فعله فَلَيْسَ ذَلِك دَلِيلا على أَنه مَنْسُوخ إِذْ قد يَفْعَله عَاصِيا لله عز وَجل قَالَ الباقلاني وَلَيْسَ على أَصْحَابه فرضا أَن ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ وَقَالَ السمناني فِي كِتَابه الْإِمَامَة لَوْلَا دلَالَة الْعقل على وجوب كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْصُوما فِي الْبَلَاغ عَن الله عز وَجل لما وَجب كَونه مَعْصُوما فِي الْبَلَاغ كَمَا لَا يجب فِيمَا سواهُ من أَفعاله وأقواله وَقَالَ أَيْضا فِي مَكَان آخر مِنْهُ وَكَذَلِكَ يجوز أَن يكفر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَدَاء الرسَالَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِن كَانَ قَالَ هَذَا القَوْل ناصراً لَهُ وداعياً إِلَيْهِ مُسلم قطّ وَمَا كَانَ قَائِله لَا كَافِرًا ملحداً فاعلموا أَيهَا النَّاس أَنه قد جوز على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكفْر وَالزِّنَا واللياطة والبغاء وَالسَّرِقَة وَجَمِيع الْمعاصِي وَأي كيد لِلْإِسْلَامِ النَّاس أعظم من هَذَا وَأما صَاحبه ابْن فورك فَإِنَّهُ منع من هَذَا وَأنْكرهُ وَأَجَازَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صغَار الْمعاصِي كَقَتل النِّسَاء وتعريضهن وتفخيذ الصّبيان وَنَحْو ذَلِك وَأما شيخهما ابْن مُجَاهِد الْبَصْرِيّ لَيْسَ بالمقري فَإِنَّهُ منع من كل ذَلِك وحاشا لله أَن يجوز النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَنْب بعمد لَا صَغِير وَلَا كَبِير لقَوْل الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَمن الْمحَال أَن يَأْمُرنَا الله تَعَالَى أَن نتأسي بعاص فِي مَعْصِيّة صغرت أَو كَبرت وأعجبوا لاستخفاف هَذَا الملحد بِالدّينِ وبالمسلمين إِذْ يَقُول هَاهُنَا أَنه لَيْسَ فرضا على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينكروا عَلَيْهِ عصيان ربه وَمُخَالفَة أمره الَّذِي أَمرهم بِهِ وَهُوَ يَقُول فِي نَصره للْقِيَاس أَن قِيَاس من قَاس من الصَّحَابَة وسكوت من سكت مِنْهُم عَن إِنْكَاره دَلِيل على وجوب الحكم بِالْقِيَاسِ لأَنهم لَا يقرونَ على مُنكر فَأوجب إقرارهم على الْمُنكر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حاشا لله من هَذَا وَأنكر إقرارهم على الْقيَاس لَو كَانَ مُنكر فَجمع بَين هَذَا المناقضة وَالْكذب فِي دَعْوَى الْقيَاس على الصَّحَابَة وَدَعوى معرفَة جَمِيعهم بِقِيَاس من قَاس مِنْهُم وَدَعوى أَنهم لم ينكروه وَهَذِه صِفَات الْكَذَّابين المتلاعبين بِالدّينِ وَمن طوامهم مَا حَكَاهُ السمناني عَن الباقلاني أَنه قَالَ وَاخْتلفُوا فِي وجوب كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل أهل وقته فِي حَالَة الرسَالَة وَمَا بعْدهَا إِلَى حِين مَوته فَأوجب ذَلِك قَائِلُونَ وأسقطه آخَرُونَ وَقَالَ الباقلاني وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه نقُول
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا وَالله الْكفْر الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ إِذْ جوز أَن يكون أحد مِمَّن فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا بعده أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أَنْكَرْنَا على أَحْمد ابْن خابط الأدون هَذَا إِذْ قَالَ أَن أَبَا ذَر كَانَ أزهد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا مَعَ قَول هَذَا المستخف الباقلاني الَّذِي ذكره عِنْد السمناني فِي كِتَابه الْكَبِير فِي كتاب الْإِمَامَة مِنْهُ أَن من شَرط الْإِمَامَة أَن يكون الإِمَام أفضل أهل زَمَانه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد يَا للعيارة بِالدّينِ يجوز عِنْد هَذَا الْكَافِر أَن يكون فِي النَّاس غير الرُّسُل أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يجوز عِنْده أَن يَلِي الْإِمَامَة أحد يُوجد فِي النَّاس(4/169)
أفضل مِنْهُ ثمَّ حمقه أَيْضا فِي هَذَا حمق عَتيق لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع بِفضل أحد على أحد إِلَّا بِنَصّ من الله عز وَجل وَكَيف يحاط بالأفضل من قُرَيْش وهم مبثوثون من أقْصَى السَّنَد وكابل ومكران إِلَى الأشوته إِلَى سواحل الْبَحْر الْمُحِيط وَمن سواحل بَحر الْيمن إِلَى ثغور أرمينية وأذربيجان فَمَا بَين ذَلِك اللَّهُمَّ الْعَن من لَا يستحي وَمن الْعجب أَن هَذَا النذل الباقلاني قطع بِخِلَاف الْإِجْمَاع على أبي حنيفَة بإجازته للفراة الفارسية وَصرح بِأَن تَرْتِيب الْآيَات فِي الْقُرْآن إِجْمَاع وَقد أجَاز مَالك لمن قَرَأَ عِنْد غرُوب الشَّمْس وطلوعها فَجَاءَتْهُ آيَة سَجْدَة أَن يصل الَّتِي قبلهَا بِالَّتِي بعْدهَا فمالك عِنْده مُخَالف للْإِجْمَاع وَقطع بِأَن الشَّافِعِي مُخَالف للْإِجْمَاع فِي قَوْله {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} آيَة من أم الْقُرْآن وَإِن دَاوُد خَالف الْإِجْمَاع فِي قَوْله بِإِبْطَال الْقيَاس أَفلا يستحي هَذَا الْجَاهِل من أَن ينصف الْعلمَاء بِصفتِهِ مَعَ عَظِيم جَهله بِأَن عَاصِمًا وَابْن كثير وَغَيرهمَا من الْقُرَّاء وَطَائِفَة من الصَّحَابَة تَقول بقول الشَّافِعِي الَّذِي جعله خلافًا للْإِجْمَاع وَأَنه لم يَأْتِ قطّ عَن أحد من الصَّحَابَة إِيجَاب الحكم بِالْقِيَاسِ من طَرِيق تثبت وَأَنه قد قَالَ بإنكاره ابْن مَسْعُود ومسروق والشعي وَغَيرهم وَلَكِن من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ وَمن عجائبه قَوْله أَن المامي إِذا نزلت بِهِ النَّازِلَة ففرضه أَن يسْأَل أفقه أهل بَلَده فَإِذا أفتاه فَهُوَ فَرْضه فَإِن نزلت بِهِ تِلْكَ النَّازِلَة ثَانِيَة لم يجز لَهُ أَن يعْمل بِتِلْكَ الْفتيا لَكِن يسْأَل ثَانِيَة أما إِذا كَانَ الْفَقِيه وَإِمَّا غَيره ففرضه أَن يعْمل بالفتيا الثَّانِيَة وَهَكَذَا أبدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِذا وَجب على كل أحد من الْعَامَّة أَن يسْأَل أبدا عَن كل مَا ينوبه فِي صلَاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السُّؤَال عَن كل ذَلِك كل يَوْم بل كل سَاعَة فَهَل فِي الحماقة أَكثر من هَذَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
ذكر شنع لقوم لَا تعرف فرقهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ادَّعَت طَائِفَة من الصُّوفِيَّة أَن أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من هُوَ أفضل من جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَقَالُوا من بلغ الْغَايَة القصوى من الْولَايَة سَقَطت عَنهُ الشَّرَائِع كلهَا من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك وحلت لَهُ الْمُحرمَات كلهَا من الزِّنَا وَالْخمر وَغير ذَلِك واستباحوا بِهَذَا نسَاء غَيرهم وَقَالُوا أننا نرى الله ونكلمه وَكلما قذف فِي نفوسنا فَهُوَ حق وَرَأَيْت لرجل مِنْهُم يعرف إِبْنِ شمعور كلَاما نَصه إِن لله تَعَالَى ماية اسْم وَأَن الموفي ماية هُوَ سِتَّة وَثَلَاثُونَ حرفا لَيْسَ مهنا فِي حُرُوف الهجاء شَيْء إِلَّا وَاحِد فَقَط وَبِذَلِك الْوَاحِد يصل أهل المقامات إِلَى الْحق وَقَالَ أَيْضا أَخْبرنِي بعض من رسم لمجالسة الْحق أَنه مد رجله يَوْمًا فَنُوديَ مَا هَكَذَا مجَالِس الْمُلُوك فَلم يمد رجله بعْدهَا يَعْنِي أَنه كَانَ مديماً لمجالسة الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَاضر النصيبي من أهل نَصِيبين وَأَبُو الصَّباح السَّمرقَنْدِي وأصحابهما أَن الْخلق لم يزَالُوا مَعَ الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو الصياح لَا تحل ذَبَائِح أهل الْكتاب وَخطأ فعل أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي قتال أهل الرِّدَّة وَصوب قَول الصَّحَابَة الَّذين رجعُوا عَنهُ فِي حربهم وَقَالَ أَبُو شُعَيْب القلال أَن ربه جسم فِي صُورَة إِنْسَان لحم وَدم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق وَقَالَ بعض الصُّوفِيَّة أَن ربه يمشي فِي الْأَزِقَّة حَتَّى أَنه يمشي فِي صُورَة مَجْنُون يتبعهُ الصّبيان بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تدموا عقبَة فاعلموا رحمكم الله أَن هَذِه كلهَا كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الْإِسْلَام وَصدق الْقَائِل ... شهِدت بِأَن ابْن الْمعلم هازل
بِأَصْحَابِهِ والباقلاني أهزل ...(4/170)
وَمَا الْجمل الملعون فِي ذَاك دونه ... وَكلهمْ فِي الْإِفْك وَالْكفْر الْمنزل ...
وَالله مَا هم من المغرورين بهم فِي قبولهم عَنْهُم وَحسن الظَّن بهم إِلَّا كَمَا قَالَ الآخر ... وساع مَعَ السُّلْطَان يُسمى عَلَيْهِم
ومحترس من مثله وَهُوَ حارس ...
وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن جَمِيع فرق الضَّلَالَة لم يجر الله على أَيْديهم خيرا وَلَا فتح بهم من بِلَاد الْكفْر قَوِيَّة وَلَا رفع لِلْإِسْلَامِ راية وَمَا زَالُوا يسعون فِي قلب نظام الْمُسلمين ويفرقون كلمة الْمُؤمنِينَ ويسلون السَّيْف على أهل الدّين ويسعون فِي الأَرْض مفسدين أما الْخَوَارِج والشيعة فَأَمرهمْ فِي هَذَا الشَّهْر من أَن يتَكَلَّف ذكره وَمَا توصلت الباطنية إِلَى كيد الْإِسْلَام وَإِخْرَاج الضُّعَفَاء مِنْهُ أَي الْكفْر الْأَعْلَى السّنة الشيعية وَأما المرجئة فَكَذَلِك إِلَّا أَن الحارس بن سريح خرج بن عَمه مُنْكرا للجور ثمَّ لحق بِالتّرْكِ فقادهم إِلَى أَرض الْإِسْلَام فنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة فِي سَبِيل ذَلِك إِلَّا أَنه ابتلى بتقليد بَعضهم المعتصم والواثق جهلا وظناً أَنهم على شَيْء وَكَانَت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وَغَيرهم فَالله الله أَيهَا الْمُسلمُونَ تحفظُوا بدينكم وَنحن نجمع لكم بعون الله تَعَالَى الْكَلَام فِي ذَلِك الزموا الْقُرْآن وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا مضى عَلَيْهِ الصَّحَابَة رَضِي اله عَنْهُم والتابعون وَأَصْحَاب الحَدِيث عصراً عصراً الَّذين طلبُوا الْأَثر فلزموا الإثر ودعوا كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وكل ضَلَالَة فِي النَّار وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ الْكَلَام فِي شنع المبتدعة أهل الْأَهْوَاء والنحل المضلة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(4/171)
الْمعَانِي الَّتِي يسميها أهل الْكَلَام اللطائف وَالْكَلَام فِي السحر وَفِي المعجزات الَّتِي فِيهَا إِحَالَة الطبائع يجوز وَاحِدهَا لغير الْأَنْبِيَاء أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وَأَنَّهُمْ يرَوْنَ أعين النَّاس مَا لَا يرى وأجازوا للصالحين على سَبِيل كَرَامَة الله عز وَجل لَهُم اختراع الْأَجْسَام وقلب الْأَعْيَان وَجَمِيع إِحَالَة الطبائع وكل معجز للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَرَأَيْت لمُحَمد ابْن الطّيب الباقلاني أَن السَّاحر يمشي على المَاء على الْحَقِيقَة وَفِي الْهَوَاء ويقلب الْإِنْسَان حمارا على الْحَقِيقَة وَإِن كل هَذَا مَوْجُود من الصَّالِحين على سَبِيل الْكَرَامَة وَأَنه لَا فرق بَين آيَات الْأَنْبِيَاء وَبَين مَا يظْهر من الْإِنْسَان الْفَاضِل وَمن السَّاحر أصلا إِلَّا بالتحدي فَإِن النَّبِي يتحدى النَّاس أَن يَأْتُوا بِمثل مَا جَاءَ هُوَ بِهِ فَلَا يقدر أحد على ذَلِك فَقَط وَإِن كل مَا لم يتحد بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس فَلَيْسَتْ آيَة لَهُ وَقطع بِأَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِظْهَار آيَة على لِسَان متنبىء كَاذِب وَذهب أهل الْحق إِلَى أَنه لَا يقلب أحد عينا وَلَا يحِيل طبيعة إِلَّا الله عز وَجل لأنبيائه فَقَط سَوَاء تحدوا بذلك أَو لم يتحدوا وكل ذَلِك آيَات لَهُم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام تحدوا بذلك أم لَا والتحدي لَا معنى لَهُ وَأَنه لَا يُمكن وجود شَيْء من ذَلِك لصالح وَلَا لساحر وَلَا لأحد غير الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالله تَعَالَى قَادر على إِظْهَار الْآيَات على أَيدي الْكَذَّابين المدعين للنبوة لكنه تَعَالَى لَا يفعل كَمَا لَا يفعل مَا لَا يُرِيد أَن يَفْعَله من سَائِر مَا هُوَ قَادر عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يجوز غَيره برهَان ذَلِك قَوْله عز وَجل {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} وَقَالَ عز وَجل {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فصح أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا قد رتبه الله عز وَجل التَّرْتِيب الَّذِي لَا يتبدل وَصَحَّ أَن الله عز وَجل أوقع كل اسْم على مُسَمَّاهُ فَلَا يجوز أَن يُوقع اسْم من تِلْكَ الْأَسْمَاء على غير مُسَمَّاهُ الَّذِي أوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يكون تبديلاً لكلمات الله تَعَالَى الَّتِي أبطل عز وَجل أَن تبدل وَمنع من أَن يكون لَهَا مبدل وَلَو جَازَ أَن تحال صِفَات مُسَمّى مِنْهَا الَّتِي بوجودها فِيهِ اسْتحق وُقُوع ذَلِك الِاسْم عَلَيْهِ لوَجَبَ أَن يسْقط عَنهُ ذَلِك الِاسْم الَّذِي أوقعه الله تَعَالَى عَلَيْهِ فبإذ ذَلِك كَذَلِك فقد وَجب أَن كل مَا فِي الْعَالم مِمَّا قد رتبه(5/2)
الله على مَا هُوَ عَلَيْهِ من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فَلَا يتبدل شَيْء مِنْهُ قطعا إِلَّا حَيْثُ قَامَ الْبُرْهَان على تبدله وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا على أحد وَجْهَيْن إِمَّا اسْتِحَالَة معهودة جَارِيَة على رُتْبَة وَاحِدَة وعَلى مَا بنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ الْعَالم من اسْتِحَالَة الْمَنِيّ حَيَوَانا والنوى والبزور نباتا وَسَائِر الاستحالات المعهودات وَأما إستحالة مَا لم تعهد قطّ وَلَا بنى الله تَعَالَى الْعَالم عَلَيْهَا وَلذَلِك قد صَحَّ للانبياء عَلَيْهِم السَّلَام شَوَاهِد لَهُم على صِحَة نبوتهم وجود ذَلِك بِالْمُشَاهَدَةِ مِمَّن شهدهم وَنَقله إِلَى من لم يشاهدهم بالتواتر الْمُوجب للْعلم الضَّرُورِيّ فَوَجَبَ الْإِقْرَار بذلك وَبَقِي مَا عدا أَمر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على الِامْتِنَاع فَلَا يجوز الْبَتَّةَ وجود ذَلِك لَا من سَاحر وَلَا من صَالح بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ لم يقم برهَان بِوُجُود ذَلِك وَلَا صَحَّ بِهِ نقل وَهُوَ مُمْتَنع فِي الْعقل كَمَا قدمنَا وَلَو كَانَ ذَلِك مُمكنا لاستوى الْمُمْتَنع والممكن وَالْوَاجِب وَبَطلَت الْحَقَائِق كلهَا وَلَكِن كل مُمْتَنع وَمن لحق هَاهُنَا لحق بالسوفسطائية على الْحَقِيقَة ونسأل من جوز ذَلِك للساحر والفاضل هَل يجوز لكل أحد غير هذَيْن أم لَا يجوز إِلَّا لهذين فَقَط فان قَالَ إِن ذَلِك للساحر والفاضل فَقَط وَهَذَا هُوَ قَوْلهم سألناهم عَن الْفرق بَين هذَيْن وَبَين سَائِر النَّاس وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى الْفرق بَين هَؤُلَاءِ وَبَين غَيرهم إِلَّا بِالدَّعْوَى الَّتِي لَا يعجز عَنْهَا أحد وَإِن قَالُوا إِن ذَلِك جَائِز أَيْضا لغير السَّاحر والفاضل لَحِقُوا بالسوفسطائية حَقًا وَلم يثبتوا حَقِيقَة وَجَاز تَصْدِيق من يدعى أَنه يصعد إِلَى السَّمَاء وَيرى الْمَلَائِكَة وانه يكلم الطير ويجتني من شجر الخروب التَّمْر والعناب وان رجَالًا حملُوا وولدوا وَسَائِر التَّخْلِيط الَّذِي من صَار إِلَيْهِ وَجب أَن يُعَامل بِمَا هُوَ أَهله إِن أمكن أَو أَن يعرض عَنهُ لجنونه وَقلة حيائه قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا فرق بَين من ادّعى شَيْئا مِمَّا ذكرنَا لفاضل وَبَين دَعْوَى الرافضة رد الشَّمْس على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ حَتَّى ادّعى بَعضهم أَن حبيب بن أَوْس قَالَ ... فَردَّتْ علينا الشَّمْس وَاللَّيْل راغم
بشمس لَهُم من جَانب الخدر تطلع
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى
لبهجتها فَوق السَّمَاء الْمرجع
فوَاللَّه مَا أدرى عَليّ بدا لنا
فَردَّتْ لَهُ أم كَانَ فِي الْقَوْم يُوشَع ...
وَكَذَلِكَ دَعْوَى النَّصَارَى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعونَ لَهُم من قلب الْأَعْيَان أضعافا مَا يَدعِيهِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْيَهُودِيّ لأحبارهم ورؤوس المثايب عِنْدهم ان رجلا مِنْهُم رَحل من بَغْدَاد إِلَى قرطبة فِي يَوْم وَاحِد وانه اثْبتْ قرنين فِي رَأس رجل مُسلم من بنى الاسكندراني كَانَ يسكن بقرطبة عِنْد بَاب الْيَهُود وَهَذَا كُله بَاطِل مَوْضُوع وَبَنُو الاسكندراني كَانُوا أَقْوَامًا أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد مِنْهُ شَيْء من هَذَا والحماقة لَا حد لَهَا وَهَذَا برهَان لمن نصح
نَفسه قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما السحر فانه ضروب مِنْهُ مَا هُوَ من قبل الْكَوَاكِب كالطابع المنقوش فِيهِ صُورَة عقرب فِي وَقت كَون الْقَمَر فِي الْعَقْرَب فينفع إِمْسَاكه من لدغة الْعَقْرَب وَمن هَذَا الْبَاب كَانَت الطلسمات وَلَيْسَت إِحَالَة طبيعية وَلَا قلب عين وَلكنهَا قوي ركبهَا الله عز وَجل مدافعة لقوى أُخْرَى كدفع الْحر للبرد وَدفع الْبرد للْحرّ وكقتل الْقَمَر للدابة الدبرة إِذا لَاقَى الدبرة ضوءه إِذا كَانَت دبرتها مكشوفة للقمر وَلَا يُمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا أَنْفُسنَا أثارها ظَاهِرَة إِلَى الْآن من قرى لَا ندْخلهَا جَرَادَة وَلَا يَقع فِيهَا برد وكسرى قسطة الَّتِي لَا يدخلهَا جَيش إِلَّا أَن يدْخل كرها وَغير ذَلِك كثير جدا لَا يُنكره إِلَّا معاند وَهِي أَعمال قد ذهب من كَانَ يحسنها جملَة وَانْقطع من الْعَالم وَلم يبْق إِلَّا آثَار صناعاتهم فَقَط وَمن هَذَا الْبَاب كَانَ مَا تذكره الْأَوَائِل فِي كتبهمْ فِي المويسيقا وانه كَانَ يؤلف بَين الطبائع وينافر بِهِ أَيْضا بَينهَا وَنَوع آخر(5/3)
من السحر يكون بالرقي وَهُوَ كَلَام مَجْمُوع من حُرُوف مقطعه فِي طوالع مَعْرُوفَة أَيْضا يحدث لذَلِك التَّرْكِيب قُوَّة تستثار بهَا الطبائع وتدافع قوى أخر وَقد شاهدنا وجربنا من كَانَ يرقي الدمل الحاد الْقوي الظُّهُور فِي أول ظُهُوره فييبس يبْدَأ من يَوْمه ذَلِك بالذبول وَيتم يبسه فِي الْيَوْم الثَّالِث ويقلع كَمَا تقلع قشرة القرحة إِذا تمّ يبسها جربنَا من ذَلِك مَا لَا نحصيه وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة ترقي أحد دملين قد دفعا على إِنْسَان وَاحِد وَلَا ترقي الثَّانِي فيبس الَّذِي رقت وَيتم ظُهُور الَّذِي لم ترق ويلقي حامله مِنْهُ الْأَذَى الشَّديد وشاهدنا من كَانَ يرقي الورم الْمَعْرُوف بالخنازير فيندمل مَا يفتح مِنْهَا ويذبل مَا لم ينفتح وَيبرأ كل ذَلِك الْبُرْء التَّام كَانَ لَا يزَال يفعل ذَلِك فِي النَّاس وَالدَّوَاب وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد اُخْبُرْنَا من خَبره عندنَا كمشاهدتنا لِثِقَتِهِ وتجريبنا لصدقة وفضله انه شَاهد مَا لَا يحصي نسَاء يتكلمن على الَّذين يمخضون الزّبد من اللَّبن بِكَلَام فَلَا يخرج من ذَلِك اللَّبن زبد وَلَا فرق بَين هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَبَين ملاقاة فضلَة الصَّفْرَاء بالسقمونيا وملاقاة ضعف الْقلب بالكندر وكل هَذِه الْمعَانِي جَارِيَة على رُتْبَة وَاحِدَة من طلب علم ذَلِك أركه وَمِنْه مَا يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وَمَا أشبه ذَلِك وَمِنْه مَا يكون لطف يَد كحيل أبي الْعَجَائِب الَّتِي شَاهدهَا النَّاس وَهِي أَعمال لَطِيفَة لَا تحيل طبعا اصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا لَيست من بَاب معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا من بَاب مَا يَدعِيهِ أهل الْكَذِب للسحرة وَالصَّالِحِينَ لِأَن معجز الْأَنْبِيَاء هُوَ خَارج عَن الرتب وَعَن طبائع كل مَا فِي الْعَالم وَعَن بنية الْعَالم لَا يجْرِي شَيْء من ذَلِك على قانون وَلَا على سنَن مَعْلُوم لَكِن قلب عين وإحالة صِفَات ذاتية كشق الْقَمَر وفلق الْبَحْر واختراع طَعَام وَمَاء وقلب الْعَصَا حَيَّة وإحياء ميت قد أرم وَإِخْرَاج نَاقَة من صَخْرَة وَمنع النَّاس من أَن يتكلموا بِكَلَام مَذْكُور أَو من أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَمَا أشبه هَذَا من إِحَالَة الصِّفَات الذاتية الَّتِي بوجودها تسْتَحقّ الْأَسْمَاء وَمِنْهَا تقوم الْحُدُود وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ الَّذِي يَدعِيهِ المبطلون للساحر والفاضل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا يلوح الْفرق جدا بَين هذَيْن السَّبِيلَيْنِ لأهل الْعلم بحدود الْأَسْمَاء والمسميات وبطبائع الْعَالم وانقسامه من مبدئه من أَجنَاس إِلَى أَنْوَاعه إِلَى أشخاصه وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من أعراضه ذاتي وَمَا هُوَ مِنْهَا غَيْرِي وَمَا يسْرع الاستحالة والزوال من الغيري مِنْهَا وَمَا يبطيء زَوَاله مِنْهَا وَمَا يثبت مِنْهَا ثبات الذاتي وان لم يكن ذاتياً وَالْفرق بَين الْبُرْهَان وَبَين مَا نظن أَنه برهَان وَلَيْسَ برهاناً وَالْحَمْد لله على مَا وهب وأنعم بِهِ علينا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن بياتي ثَنَا أَحْمد بن عبد الْبَصِير قَالَ ثَنَا قَاسم بن اصبغ ثَنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي ثَنَا مُحَمَّد بن المثني ثَنَا عبد الرَّحْمَن ابْن الْمهْدي ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَن بشير بن عمر وَقَالَ ذكر الغيلاني عِنْد عمر بن الْخطاب فَقَالُوا أَنهم يتحولون فَقَالَ عمر انه لَيْسَ أحد يتَحَوَّل عَن خلقه الَّذِي خلق لَهُ وَلَكِن لَهُم سحرة كسحرتكم فَإِذا خشيتم شَيْئا من ذَلِك فأذنوا(5/4)
فَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ يبطل إِحَالَة الطبائع وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَقد نَص الله عز وَجل على مَا قُلْنَا فَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} فاخبر تَعَالَى أَن عمل أُولَئِكَ السَّحَرَة إِنَّمَا كَانَ تخييلا لَا حَقِيقَة لَهُ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} فَأخْبر تَعَالَى أَنه كيد لَا حَقِيقَة لَهُ فَإِن قيل قد قَالَ الله عز وَحل {سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وجاؤوا بِسحر عَظِيم} قُلْنَا نعم إِنَّهَا حيل عَظِيمَة وإثم عَظِيم إِذْ قصدُوا بهَا مُعَارضَة معجزات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانهم كَادُوا عُيُون النَّاس إِذْ أوهموهم أَن تِلْكَ الحبال والعصي تسعي فاتفقت الْآيَات كلهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَانَ الَّذِي قدر مِمَّن لَا يدْرِي حيلهم أَنَّهَا تسْعَى ظنا أَصله الْيَقِين وَذَلِكَ انهم رَأَوْا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إِلَى الظَّن وقدروا أَنَّهَا ذَوَات حيات وَلَو منعُوا الظَّن وفتشوها لوقفوا على الْحِيلَة فِيهَا وَأَنَّهَا ملئت زئبقا ولد فِيهَا تِلْكَ الحركات كَمَا يفعل العجائبي الَّذِي يضْرب بسكينة فِي جسم إِنْسَان فيظن من رَآهُ مِمَّن لَا يدْرِي حيلته أَن السكين غاصت فِي جَسَد الْمَضْرُوب وَلَيْسَ كَذَلِك بل كَانَ نِصَاب السكين مثقوبا فَقَط فغاصت السكين فِي النّصاب وَكَاد خَاله خيطا فِي حَلقَة خَاتم يمسك إِنْسَان مِنْهُم طرفِي الْخط بيدَيْهِ ثمَّ يَأْخُذ العجائبي الْخَاتم الَّذِي فِيهِ الْخَيط بِفِيهِ وَفِي ذَلِك الْمقَام أدخلهُ تَحت يَده وَكَانَ فِي فِيهِ خَاتم أُخْرَى يري من حضر حَلقَة الْخَاتم الَّذِي فِي فِيهِ يوهمهم انه قد أخرجه من الْخَيط ثمَّ يرد فَمه إِلَى الْخَيط وَيرْفَع يَدَيْهِ وفمه فَينْظر الْخَاتم الَّذِي كَانَ فِيهِ الْخَيط وَكَذَلِكَ سَائِر حيلهم وَقد وقفنا عَلَيْهَا جَمِيعهَا فَهَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى سحروا أعين النَّاس أَو استرهبوهم أَي انهم أوهموا النَّاس فِيمَا رَأَوْا ظنونا متوهمة لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَو فتشوها للاح لَهُم الْحق وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه} فَهَذَا أَمر مُمكن يَفْعَله التَّمام وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذَلِك عَلَيْهِ مَرضا حَتَّى كَانَ يظنّ أَنه فعل الشَّيْء وَهُوَ لم يَفْعَله فَلَيْسَ فِي هَذَا أَيْضا إِحَالَة طبيعية وَلَا قلب عين وَإِنَّمَا هُوَ تَأْثِير بِقُوَّة لتِلْك الصِّنَاعَة كَمَا قُلْنَا فِي الطلسمات والرقي فَلَا فرق وَنحن نجد الْإِنْسَان يسب أَو يُقَابل بحركة يغْضب مِنْهَا فيستحيل من الْحلم إِلَى الطيش وَمن السّكُون إِلَى الْحَرَكَة والنزق حَتَّى يُقَارب حَال المجانين أَو رُبمَا أمرضه ذَلِك وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن من الْبَيَان لسحرا لِأَن من الْبَيَان مَا يُؤثر فِي النَّفس فيثيرها أَو يسكنهَا عَن ثورانها ويحيلها عَن عزماتها وعَلى هَذَا الْمَعْنى اسْتعْملت الشُّعَرَاء ذكر سحر الْعُيُون لاستمالتها للنفوس فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ أَن السحر يحِيل الْأَعْيَان ويقلب الطبائع أخبرونا إِذا جَازَ هَذَا فَأَي فرق بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والساحر وَلَعَلَّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء كَانُوا سحرة كَمَا قَالَ فِرْعَوْن عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر} {إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا} وَإِذا جَازَ أَن يقلب سحرة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عصيهم وأحبالهم حيات وقلب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَصَاهُ حَيَّة وَكَانَ كلا الآمرين حَقِيقَة فقد صدق فِرْعَوْن بِلَا شكّ فِي أَنه سَاحر مثلهم إِلَّا أَنه أعلم بِهِ فَقَط وحاشا لله من هَذَا بل مَا كَانَ فعل السَّحَرَة إِلَّا من حيل أبي الْعَجَائِب فَقَط فان لجؤا إِلَى مَا ذكره الباقلاني من التحدي قيل لَهُم هَذَا بَاطِل من وُجُوه أَحدهَا إِن اشْتِرَاط التحدي فِي كَون آيَة النَّبِي آيَة دَعْوَى كَاذِبَة سخيفة لَا دَلِيل على صِحَّتهَا لَا من قُرْآن وَلَا من سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة وَلَا من إِجْمَاع وَلَا من قَول صَاحب وَلَا من حجَّة عقل وَلَا قَالَ بِهَذَا أحد قطّ قبل هَذَا الْفرْقَة الضعيفة وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط والهجنة قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فَوَجَبَ(5/5)
ضَرُورَة أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة قَوْله فَهُوَ كَاذِب فِيهَا غير صَادِق وَثَانِيها أَنه لَو كَانَ مَا قَالُوا لسقطت اكثر آيَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنبعان المَاء من بَين أَصَابِعه وإطعامه المئتين والعشرات من صَاع شعير وعناق وَمرَّة أُخْرَى من كسر ملفوفة فِي خمار وكتفله فِي الْعين فَجَاشَتْ بِمَاء غزير إِلَى الْيَوْم وحنين الْجذع وتكليم الذِّرَاع وشكوى الْبَعِير وَالذِّئْب وَالْأَخْبَار بالغيوب وتمر جَابر وَسَائِر معجزاته الْعِظَام لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتحد بذلك كُله أحد وَلَا عمله إِلَّا بِحَضْرَة أهل الْيَقِين من أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَلم يبْق لَهُ آيَة حاشا الْقُرْآن وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وشق الْقَمَر فَقَط وَكفى نحسا بقول أدّى إِلَى مثل هَذَا فان ادعوا انه عَلَيْهِ السَّلَام تحدى بهَا من حضر وَغَابَ كذبُوا واخترعوا هَذِه الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لم يَأْتِ فِي شَيْء من تِلْكَ الْأَخْبَار أَنه تحدى بهَا أحدا وان تَمَادَوْا على أَن كل هَذِه لَيست معجزات وَلَا آيَات أكذبهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله إِذْ فعل ذَلِك أشهد أَنِّي رَسُول الله وَالثَّالِث وَهُوَ الْبُرْهَان الدَّافِع وَهُوَ قَول الله تَعَالَى {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ} وَقَوله {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} فَسمى الله تَعَالَى تِلْكَ المعجزات الْمَطْلُوبَة من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام آيَات وَلم يشْتَرط عز وَجل فِي ذَلِك تحديا من غَيره فصح إِن اشْتِرَاط التحدي بَاطِل مَحْض وَصَحَّ أَنَّهَا إِذا ظَهرت فَهِيَ آيَة كَانَ هُنَالك تحد أَو لم يكن وَقد صَحَّ إِجْمَاع الْأمة الْمُتَيَقن على الْآيَات الَّتِي لَا يَأْتِي بهَا سَاحر وَلَا غير نَبِي فصح أَن المعجزات إِذا هِيَ آيَات لَا تكون لساحر وَلَا لأحد لَيْسَ نَبيا وَالرَّابِع أَنه لَو صَحَّ حكم التحدي لَكَانَ حجَّة عَلَيْهِ لِأَن التحدي عِنْدهم يُوجب أَن لَا يقدر على مثل ذَلِك أحد إِذْ لَو أمكن أَن يُوجد مثل ذَلِك من أحد لَكَانَ قد بَطل تحديه وَقيل لَهُ قد وجد من يعْمل عَمَلك هَذَا إِمَّا صَالح وَإِمَّا سَاحر وَالْخَامِس أَنه لَو كَانَ مَا قَالُوا وَجَاز ظُهُور معْجزَة من سَاحر لَا يتحدى بهَا أَو فَاضل لَا يتحدى بهَا لامكن أَن يتحدى لَهما بهَا بعد مَوْتهمَا من ضل فيهمَا كَمَا فعلت الغلاة بعلي رَضِي الله عَنهُ فعلى كل حَال قَوْلهم سَاقِط وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما من ادّعى أَنه يشبه السَّاحر على الْعُيُون فريهم مَا لَا يرى فان هَذِه الطَّائِفَة لم تكتف بالْكفْر بِإِبْطَال النبوات إِذْ لَعَلَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تَشْبِيها على الْعُيُون لَا حَقِيقَة لَهُ حَتَّى رامت إبِْطَال الْحَقَائِق كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا وَلَحِقت بالسوفسطائية لحَاقًا صَحِيحا بِلَا تكلّف وَيُقَال لَهُم إِذا جَازَ أَن يشبه على الْعُيُون حَتَّى يرى الْمُشبه عَلَيْهَا مَا لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا ترَاهُ فَمَا يدريكم لَعَلَّكُمْ كلكُمْ الْآن مشبه على عيونكم وَلَعَلَّ بعض السَّحَرَة قد شبه عَلَيْكُم فأراكم أَنكُمْ تتوضؤن وتصلون وَأَنْتُم لَا تعقلون شَيْئا من ذَلِك ولعلكم تظنون أَنكُمْ تزوجتم وَإِنَّمَا فِي بُيُوتكُمْ ضَأْن ومعز ولعلكم الْآن على ظهر الْبَحْر وَلَعَلَّ(5/6)
كل مَا تعتقدون من الدّين تَشْبِيه عَلَيْكُم وَهَذَا كُله لَا مخلص لَهُم مِنْهُ وَقد عَابَ الله عز وَجل من ذهب إِلَى هَذَا فَقَالَ {وَلَو فتحنا عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون} فَلَو جَازَ أَن يكون للسحر حَقِيقَة وَيُشبه مَا يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَأمكن أَن يشبه على الْبَصَر مَا ذمهم الله عز وَجل بِأَن قَالُوا شَيْئا يُمكن كَونه لكِنهمْ لما قَالُوا مَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ وتعلقوا بذلك فِي دفع الْحَقَائِق عابهم الله تَعَالَى بذلك وَأنْكرهُ عَلَيْهِم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ غلط الْحَواس فِي بعض الْأَوْقَات من بَاب التَّشْبِيه عَلَيْهَا فِي شَيْء لِأَن أَحَدنَا قد يرى شخصا على بعد لَا يشك فِيهِ إِلَّا أَن سارع فَقطع أَنه إِنْسَان أَو أَنه فلَان فَقطع بظنه وَلَو أَنه لم يعْمل ظَنّه وَلَا قطع بِهِ لَكَانَ بَاقِيا على مَا أدْرك من الْحَقِيقَة وَهَكَذَا فِي كل مَا حكم فِيهِ الْمَرْء بظنه وَأما ذُو الآفة كمن فِيهِ ابْتِدَاء نزُول المَاء فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا فَهُوَ أَيْضا كَمَا ذكرنَا وَإِنَّمَا المَاء المطل على حدقته يُوهِمهُ أَنه رأى شَيْئا وَقطع بذلك فَإِذا تثبت فِي كل ذَلِك لَاحَ لَهُ الْحق من الظَّن وَكَذَلِكَ من فسد مَكَان التخيل من دماغه فَإِن نَفسه تظن مَا توهمه بِهِ وَلَو قوي تميزها لفرقت بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهَكَذَا القَوْل فِي إِدْرَاك السّمع والذوق وَهَذَا كُله يجْرِي على رتب مُخْتَلفَة بِمن أعمل ظَنّه وعَلى رتب غير مُخْتَلفَة فِي جمل هَذِه الْأَوْقَات بل هِيَ ثَابِتَة عِنْد أهل التَّحْقِيق والمعرفة مَعْرُوفَة العلاج حَتَّى يعود مِنْهَا إِلَى صَلَاحه مَا لم يستحكم فَسَاده وَلَا يظنّ ظان أَنه مُمكن أَن تكون فِي مثل حَال هَؤُلَاءِ إِذْ لَو كَانَ هَذَا لم نَعْرِف شَيْئا من الْعُلُوم على رتبه وَأَحْكَامه الْجَارِيَة على سنَن وَاحِد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نسألهم بِأَيّ شَيْء يعْرفُونَ أَنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نَحن بِمَاذَا نَعْرِف أَن حواسنا سليمَة وَأَن عقولنا سليمَة مَا دَامَت سَالِمَة وبماذا نَعْرِف الْحَواس المدخولة والعقول المدخولة وَغير المدخولة إِجْرَاء مَا أدْرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة مَعْلُومَة لَا تبدل عَن حُدُودهَا أبدا وإجراء مَا أدْرك بالحواس الْفَاسِدَة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على فرق أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ مَا ذكرنَا عَمَّن لَيْسَ نَبيا من قلب عين أَو إِحَالَة طبيعة فَهُوَ كذب إِلَّا مَا وجد من ذَلِك فِي عصر نَبِي فَإِنَّهُ آيَة كَذَلِك لذَلِك الشَّيْء وَذَلِكَ الَّذِي ظَهرت عَلَيْهِ آيَة بِمَنْزِلَة الْجذع الَّذِي ظَهرت فِيهِ الحنين والذراع الَّذِي ظهر فِيهِ النُّطْق والعصا الَّتِي ظَهرت فِيهَا الْحَيَاة وَسَوَاء كَانَ الَّذِي ظَهرت فِيهِ الْآيَة صَالحا أَو فَاسِقًا وَذَلِكَ كنحو النُّور الَّذِي ظهر فِي سَوط عمر بن حَمْحَمَة الدوسي وبرهان ذَلِك أَنه لم يظْهر فِيهِ بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قيل إِذا أجزتم أَن تظهر المعجزة فِي غير نَبِي فِي عصر نَبِي لتَكون آيَة لذَلِك النَّبِي فَهَلا أجزتموه كَذَلِك بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتَكون آيَة لَهُ أَيْضا وَلَا فرق بَين الْأَمريْنِ قُلْنَا إِنَّمَا أجزنا ذَلِك الشَّيْء فِي الجماد وَسَائِر الْحَيَوَان وفيمن شَاءَ الله تَعَالَى إِظْهَار ذَلِك فِيهِ من النَّاس لَا نخص بذلك فَاضلا لفضله وَلَا نمْنَع فَاسق لفسقه أَو كَافِر وَإِنَّمَا ننكر على من خص بذلك الْفَاضِل فَجَعلهَا كَرَامَة لَهُ فَلَو جَازَ ذَلِك بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشكل الْأَمر وَلم تكن فِي أَمن من دَعْوَى من ادّعى أَنَّهَا آيَة لذَلِك الْفَاضِل وَلذَلِك الْفَاسِق وَالْإِنْسَان من النَّاس يدعيها آيَة لَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ إشْكَالًا فِي الدّين وتلبيساً من الله تَعَالَى على جَمِيع عباده أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَهَذَا خلاف وعد الله تَعَالَى لنا وإخباره بِأَنَّهُ قد بَين علينا الرشد من الغي وَلَيْسَ كَذَلِك مَا كَانَ فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا من قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أَنَّهَا لَهُ لَا للَّذي ظَهرت مِنْهُ وَهَذَا فِي غَايَة الْبَيَان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(5/7)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِك عَن أَصْحَاب الثَّلَاثَة الْغَار وانفراج الصَّخْرَة ثلثا ثلثا عِنْد مَا ذكرُوا أَعْمَالهم فَلَا تعلق لَهُم بِهِ لِأَن تكسير الصَّخْرَة مِمَّن فِي كل وَقت وَلكُل وَاحِد بِلَا إعجاز وَمَا كَانَ هَكَذَا فَجَاز وُقُوعه بِالدُّعَاءِ وَبِغير الدُّعَاء لَكِن وَقع وفَاقا لتمنيه كمن دَعَا فِي موت عدوه أَو تفريج همه أَو بُلُوغ أمْنِيته فِي دُنْيَاهُ وَلَقَد حَدثنِي حكم بن مُنْذر بن سعيد أَن أَبَاهُ رَحمَه الله كَانَ فِي جمَاعَة فِي سفرة فِي صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا فِي ظلّ جبل ينتظرون الْمَوْت قَالَ فأسندت رَأْسِي إِلَى حجر ناتئ فتأذيت بِهِ فقلعته فَانْدفع المَاء العذب من تَحْتَهُ فشربنا وتزودنا وَمثل هَذَا كثير مِمَّا يفرج وَحَتَّى لَو كَانَت معْجزَة لوَجَبَ بِلَا شكّ أَن يَكُونُوا أَنْبيَاء أَو لنَبِيّ مِمَّن فِي زمن نَبِي لَا بُد مِمَّا قدمْنَاهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا عجب أعجب من قَول من يُجِيز قلب الْأَعْيَان للساحر وَهُوَ عِنْدهم فَاسق أَو كَافِر ويجيز مثل ذَلِك للصالح وَلِلنَّبِيِّ فقد جَازَ عِنْدهم قلب الْأَعْيَان للنَّبِي وللصالح وللفاسق وللكافر فَوَجَبَ أَن قلب الْأَعْيَان جَائِز من كل أحد وبؤساً لقَوْل أدّى إِلَى مثل هَذَا وَهُوَ يجيزون للْمُغِيرَة بن سعيد وَبَيَان وَمَنْصُور الْكَشْف وقلب الْأَعْيَان على سَبِيل السحر وَقد جَاءَ بعدهمْ من يَدعِي لَهُم النُّبُوَّة بهَا فَاسْتَوَى عِنْد هَؤُلَاءِ المخذولين النَّبِي والساحر ونعوذ بِاللَّه من الضلان الْمُبين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن اعْترضُوا بقول الله تَعَالَى {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} فَهَذَا حق وَإِنَّمَا هُوَ بِلَا شكّ أَنه فِي الممكنات الَّتِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا تكون لَا فِيمَا فِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا لَا تكون وَلَا فِي الْمحَال ونسألهم عَمَّن دَعَا إِلَى الله تَعَالَى فِي أَن يَجعله نَبيا أَو فِي أَن ينْسَخ دين الْإِسْلَام أَو بِأَن يَجْعَل الْقِيَامَة قبل وَقتهَا أَو يمسخ النَّاس كلهم قردة أَو بِأَن يَجْعَل لَهُ عينا ثَالِثَة أَو بِأَن يدْخل الْكفَّار الْجنَّة وَالْمُؤمنِينَ النَّار وَمَا أشبه هَذَا فَإِن أَجَازُوا كل هَذَا كفرُوا وَلَحِقُوا مَعَ كفرهم بالمجانين وَإِن منعُوا من كل هَذَا تركُوا استدلالهم بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة وَصَحَّ أَن الْإِجَابَة إِنَّمَا تكون فِي خَاص من الدُّعَاء لَا فِي الْعُمُوم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَصَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسامة وخَالِد هلا شققت عَن قلبه لتعلم أقالها مُتَعَوِّذًا أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَو جَازَ ظُهُور المعجزة على غير نَبِي على سَبِيل الْكَرَامَة لوَجَبَ الْقطع على مَا فِي قلبه وَأَنه ولي الله تَعَالَى وَهَذَا لَا يعلم من أحد بعد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الَّذين ورد فيهم النَّص وَأما قَول الباقلاني أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على إِظْهَار آيَة على يَد كَذَّاب فَهُوَ فِي دَاخل فِي جملَة تعجيزه الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ أَيْضا تعجيزه سخيف دَاخل فِي جملَة الْمحَال وَذَلِكَ أَنه جعل الله تَعَالَى قَادِرًا على إِظْهَار الْآيَات على كل سَاحر فَإِن علم أَنه يَقُول أَنه نَبِي لم يقدر على أَن يظهرها عَلَيْهِ وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد لَا من قدر على شَيْء لم يجز أَن يبطل قوته عَلَيْهِ علمه بِأَن ذَلِك الَّذِي يظْهر فِيهِ الْفِعْل يَقُول أَنا نَبِي وَلَا يتَوَهَّم هَذَا وَلَا يتشكل فِي الْفِعْل وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هم قوم أهملوا حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِم وأطلقوا حكمهم عَلَيْهِ تَعَالَى مَا فِي الْكفْر أسمج من هَذَا وَلَا أَطَم وَلَا أبرد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَأَيْت للباقلاني فِي فصل من كَلَامه أَن النَّاس لَيْسُوا عاجزين عَن مثل هَذَا الْقُرْآن وَلَا قَادِرين عَلَيْهِ وَلَا هم عاجزون عَن الصعُود إِلَى السَّمَاء وَلَا عَن إحْيَاء الْمَوْتَى وَلَا عَن خلق الْأَجْسَام وَلَا اختراعها وَلَا قَادِرين على ذَلِك هَذَا نَص كَلَامه دون تَأْوِيل منا عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِن الْقُدْرَة لَا تقع إِلَّا حَيْثُ يَقع الْعَجز
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا هوس لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا الممرور وأطم من ذَلِك احتجاجه بِأَن الْعَجز لَا يَقع إِلَّا(5/8)
حَيْثُ تقع الْقُدْرَة وَلَا نَدْرِي فِي أَي لُغَة وجد هَذَا الكذيب أم فِي أَي عقل وجد هَذَا السخف وَمَا شكّ ذُو علم باللغة الْخَاصَّة والعامة فِي بطلَان قَوْله وَفِي أَن الْعَجز ضد الْقُدْرَة وَأَن مَا قدر الْإِنْسَان عَلَيْهِ فَلم يعجز عَنهُ فِي حِين قدرته عَلَيْهِ وَأَن مَا عجز عَنهُ فَلم يقدر عَلَيْهِ فِي حِين عَجزه عَنهُ وَإِن نفي الْقُدْرَة إِثْبَات للعجز وَأَن نفي الْعَجز إِثْبَات للقدرة مَا يجهل هَذَا عَامي وَلَا خاصي أصلا وَهُوَ أَيْضا مَعْرُوف بِأول الْعقل وَالْعجب أَن يَأْتِي بِمثل هَذِه الدعاوي السخيفة بِغَيْر دَلِيل أصلا لَكِن حماقات وضلالات يطلقهَا هَذَا الْجَاهِل وَأَمْثَاله من الْفُسَّاق فِي دين الله تَعَالَى فينلنفها عَنْهُم من أضلّهُ الله تَعَالَى ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله} فَاقْتضى هَذَا أَنهم غير مَقْدُور عَلَيْهِم لله تَعَالَى وَقَالَ تَعَالَى {فَلَيْسَ بمعجز فِي الأَرْض} فَوَجَبَ أَنه مَقْدُور عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {وَالله على كل شَيْء قدير} فصح أَنه غير عَاجز وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ
الْكَلَام فِي الْجِنّ ووسوسة الشَّيْطَان وَفعله فِي المصروع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم ندرك بالحواس وَلَا علمنَا وجوب كَونهم وَلَا وجوب امْتنَاع كَونهم فِي الْعَالم بضرورة الْعقل لَكِن علمنَا بضرورة الْعقل إِمْكَان كَونهم لِأَن قدرَة الله تَعَالَى لَا نِهَايَة لَهَا وَهُوَ عز وَجل يخلق مَا يَشَاء وَلَا فرق بَين أَن يخلق خلقا عنصرهم التُّرَاب وَالْمَاء فيسكنهم فِي الأَرْض والهواء وَالْمَاء وَبَين أَن يخلق خلقا عنصرهم النَّار والهواء فيسكنهم الْهَوَاء وَالنَّار وَالْأَرْض بل كل ذَلِك سَوَاء وممكن فِي قدرته لَكِن لما أخْبرت الرُّسُل الَّذين شهد الله عز وَجل بصدقهم بِمَا أبدى على أَيْديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بِنَصّ الله عز وَجل على وجود الْجِنّ فِي الْعَالم وَجب ضَرُورَة الْعلم بخلقهم وَقد جَاءَ النَّص بذلك وبأنهم أمة عَاقِلَة مُمَيزَة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وَأجْمع الْمُسلمُونَ كلهم على ذَلِك نعم وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس والصابئون وَأكْثر الْيَهُود حاشا السامرة فَقَط فَمن أنكر الْجِنّ أَو تَأَول فيهم تَأْوِيلا يخرجهم بِهِ عَن هَذَا الظَّاهِر فَهُوَ كَافِر مُشْرك حَلَال الدَّم وَالْمَال قَالَ تَعَالَى {أفتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم يروننا وَلَا نراهم قَالَ الله تَعَالَى {أَنه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} فصح أَن الْجِنّ قبيل إِبْلِيس قَالَ الله عز وَجل {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا أخبرنَا الله عز وَجل أننا لَا نراهم فَمن ادّعى أَنه يراهم أَو رَآهُمْ فَهُوَ كَاذِب إِلَّا أَن يكون من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَذَلِك معْجزَة لَهُم كَمَا نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تفلت عَلَيْهِ الشَّيْطَان ليقطع عَلَيْهِ صلَاته قَالَ فَأَخَذته فَذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان وَلَوْلَا ذَلِك لأصبح موثقًا يرَاهُ أهل الْمَدِينَة أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة الَّذِي رأى إِنَّمَا هِيَ معْجزَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا سَبِيل إِلَى وجود خبر يَصح بِرُؤْيَة جن بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هِيَ منقطعات أَو عَمَّن لَا خير فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم أجسام رقاق صَافِيَة هوائية لَا ألوان لَهَا وعنصرهم النَّار كَمَا أَن عنصرنا التُّرَاب وَبِذَلِك جَاءَ الْقُرْآن قَالَ الله عز وَجل {والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم} وَالنَّار والهواء عنصران لَا ألوان لَهما وَإِنَّمَا حدث اللَّوْن فِي النَّار المشتعلة لامتزاجها برطوبات مَا تشتعل فِيهِ من الْحَطب والكتان والأدهان وَغير ذَلِك وَلَو كَانَت لَهُم ألوان لرأيناهم بحاسة الْبَصَر وَلَو لم يَكُونُوا أجساما صَافِيَة رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللَّمْس وَصَحَّ النَّص بِأَنَّهُم يوسوسون فِي صُدُور النَّاس وَأَن الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فَوَجَبَ التَّصْدِيق بِكُل ذَلِك حَقِيقَة وَعلمنَا أَن الله عز وَجل جعل لَهُم قُوَّة يتوصلون بهَا إِلَى حذف مَا يوسوسون بِهِ فِي النُّفُوس برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس من الْجنَّة وَالنَّاس} وَنحن نشاهد الْإِنْسَان يرى من لَهُ عِنْده ثار فيضطرب وتتبدل أعراضه وَصورته وأخلاقه وتثور ناريته وَيرى من يحب فيثور لَهُ حَال أُخْرَى ويبتهج وينبسط وَيرى من يخَاف فَتحدث لَهُ حَال أُخْرَى(5/9)
من صفرَة ورعشة وَضعف نفس وَيُشِير إِلَى إِنْسَان آخر بإشارات بهَا طبائعه فيغضب مرّة ويخجله مرّة أُخْرَى ويفزعه ثَالِثَة ويرضيه رَابِعَة وَكَذَلِكَ يحيله أَيْضا بالْكلَام إِلَى جَمِيع هَذِه الْأَحْوَال فَعلمنَا أَن الله عز وَجل جعل للجن قوى يتصلون بهَا إِلَى تغير النُّفُوس وَالْقَذْف فِيهَا بِمَا يستدعونها إِلَيْهِ نَعُوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ووسوسته وَمن شرار النَّاس وَهَذَا هُوَ جريه من ابْن آدم مجْرى الدَّم كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... وَقد كنت أجري فِي حشاهن مرّة
كجري معِين المَاء فِي قصب الآس ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الصرع فان الله عز وَجل قَالَ {الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} فَذكر عز وَجل تَأْثِير الشَّيْطَان فِي المصروع فَإِنَّمَا هُوَ بالمماسة فَلَا يجوز لأحد أَن يزِيد على ذَلِك شَيْئا وَمن زَاد على هَذَا شَيْئا فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا حرَام لَا يحل قَالَ عز وَجل {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَهَذِه الْأُمُور لَا يُمكن أَن يعرف الْبَتَّةَ إِلَّا بِخَبَر صَحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خبر عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِغَيْر مَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فصح أَن الشَّيْطَان يمس الْإِنْسَان الَّذِي يُسَلِّطهُ الله عَلَيْهِ مسا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن يثير بِهِ من طبائعه السَّوْدَاء والأبخرة المتصاعدة إِلَى الدِّمَاغ كَمَا يخبر بِهِ عَن نَفسه كل مصروع بِلَا خلاف مِنْهُم فَيحدث الله عز وَجل لَهُ الصرع والتخبط حِينَئِذٍ كَمَا نشاهده وَهَذَا هُوَ نَص الْقُرْآن وَمَا توجبه الْمُشَاهدَة وَمَا زَاد على هَذَا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الشَّمْس تطلع وَمَعَهَا قرن الشَّيْطَان فَإِذا ارْتَفَعت فَارقهَا فَإِذا اسْتَوَت قارنها فَإِذا زَالَت فَارقهَا فَإِذا جنحت للغروب قارنها فَإِذا غربت فَارقهَا وَنهى عَن الصَّلَاة فِي هَذِه الْأَوْقَات أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّا هَذَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ فقد قُلْنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا الْحق وَأَن كَلَامه كُله على ظَاهره إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِأَن هَذَا النَّص لَيْسَ على ظَاهره فنسمع ونطيع أَو يقوم ذَلِك برهَان من ضَرُورَة حس أَو أول عقل فنعلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ مَا قد قَامَ بِصِحَّتِهِ الْبُرْهَان وَلَا يجوز غير ذَلِك وَقد علمنَا يَقِينا أَن الشَّمْس فِي كل دقيقة طالعة من الْآفَاق مُرْتَفعَة على آخر مستوية على ثَالِث زائلة عَن رَابِع جانحة للغروب على خَامِس غرابة على سادس هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ عِنْد كل ذِي علم بالهيئة فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد صَحَّ يَقِينا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني بذلك أفقا مَا دون سَائِر الْآفَاق لَا يجوز غير ذَلِك إِذْ لَو أَرَادَ كل أفقي لَكَانَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ يفارقها كذبا وحاشا لَهُ من ذَلِك فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا كُله فَلَا مرية أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا عَنى بِهِ أفق الْمَدِينَة إِذْ هُوَ الْأُفق الَّذِي أخبر أَهله بِهَذَا الْخَبَر فأنبأهم بِمَا يقارن الشَّمْس فِي تِلْكَ الْأَحْوَال وَمَا يفارقها من الشَّيْطَان وَالله أعلم بذلك الْقُرْآن مَا هُوَ لَا نزيد على هَذَا إِذْ لَا بَيَان عندنَا فِيمَا بَينه(5/10)
إِلَّا أَنه لَيْسَ شَيْء بممتنع أصلا فصح بِمَا ذكرنَا أَن أول الْخَبَر خَاص كَمَا وَصفنَا وَأَن نَهْيه عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات قصَّة أُخْرَى وَقَضِيَّة ثَانِيَة وَحكم غير الأول فَهُوَ على عُمُومه فِي كل زمَان وكل مَكَان إِلَّا مَا قَامَ الْبُرْهَان على تَخْصِيصه من هَذَا الحكم بِنَصّ آخر كَمَا بَينا فِي غير هَذَا الْكتاب فِي كتب الصَّلَاة من تآليفنا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا
الْكَلَام فِي الطبائع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الأشعرية إِلَى إِنْكَار الطبائع جملَة وَقَالُوا لَيْسَ فِي النَّار حر وَلَا فِي الثَّلج برد وَلَا فِي الْعَالم طبيعة أصلا وَقَالُوا إِنَّمَا حدث حر النَّار جملَة وَبرد الثَّلج عِنْد الْمُلَامسَة قَالُوا وَلَا فِي الْخمر طبيعة إسكار وَلَا فِي الْمَنِيّ قُوَّة يحدث بهَا حَيَوَان وَلَكِن الله عز وَجل يخلق مِنْهُ مَا شَاءَ وَقد كَانَ مُمكنا أَن يحدث من مني الرِّجَال جملا وَمن مني الْحمار إنْسَانا وَمن زويعة الكزبر نخلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم لَهُم حجَّة شغبوا بهَا فِي هَذَا الهوس أصلا وَقد ناظرت بَعضهم فِي ذَلِك فَقلت لَهُ إِن اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن تبطل قَوْلكُم لِأَن من لُغَة الْعَرَب الْقَدِيمَة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والنحيزة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بِالْجِيم وَلَا يشك ذُو علم فِي أَن هَذِه الْأَلْفَاظ اسْتعْملت فِي الْجَاهِلِيَّة وسمعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم ينكرها قطّ وَلَا أنكرها أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَا وَلَا أحد مِمَّن بعدهمْ حَتَّى حدث من لَا يعْتد بِهِ وَقد قَالَ امْرُؤ الْقَيْس ... وَإِن كنت قد سائتك مني خَلِيقَة
وَقَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي الْكِنْدِيّ ... لكل امْرِئ يَا أم عَمْرو طبيعة
وتفرق مَا بَين الرِّجَال الطبائع ...
وَقَالَ النَّابِغَة ... لَهُم سيمة لم يُعْطهَا الله غَيرهم
من الْجُود والأحلام غير عوازب ...
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجارود إِذا أخبرهُ أَن فِيهِ الْحلم والأناة فَقَالَ لَهُ الْجَارُود الله جبلني عَلَيْهِمَا يَا رَسُول الله أم هما كسب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل الله جبلك عَلَيْهِمَا وَمثل هَذَا كثير وكل هَذِه الْأَلْفَاظ أَسمَاء مترادفة بِمَعْنى وَاحِد عِنْدهم وَهُوَ قُوَّة فِي الشَّيْء يُوجد بهَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ فاضطرب ولجأ إِلَى أَن قَالَ أَقُول بِهَذَا فِي النَّاس خَاصَّة فَقلت لَهُ وَأَنِّي لَك بالتخصيص وَهَذَا مَوْجُود بالحس وببديهة الْعقل فِي كل مَخْلُوق فِي الْعَالم فَلم يكن عِنْده تمويه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الْمَذْهَب الْفَاسِد حداهم على أَن سموا مَا تَأتي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْآيَات المعجزات خرق الْعَادة لأَنهم جعلُوا امْتنَاع شقّ الْقَمَر وشق الْبَحْر وَامْتِنَاع إحْيَاء الْمَوْتَى وَإِخْرَاج نَاقَة من صَخْرَة وَسَائِر معجزاتهم إِنَّمَا هِيَ عادات فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد معَاذ الله من هَذَا وَلَو كَانَ ذَلِك عَادَته لما كَانَ فِيهَا إعجاز أصلا لِأَن الْعَادة فِي لُغَة الْعَرَب والدأب وَالدّين والديدن والهجيري أَلْفَاظ مترادفة على معنى وَاحِد وَهِي فِي أَكثر اسْتِعْمَال الْإِنْسَان لهل ننل لَا يُؤمن تَركه إِيَّاه وَلَا يُنكر زَوَاله عَنهُ بل هُوَ مُمكن وجود غَيره وَمثله بِخِلَاف الطبيعة الَّتِي الْخُرُوج عَنْهَا مُمْتَنع فالعادة فِي اسْتِعْمَال الْعَرَب الْعَامَّة التلحي وَحمل الْقَنَاة تحمل بعض النَّاس القلنسوة وكاستعمال بَعضهم حلق الشّعْر وَبَعْضهمْ توفيره(5/11)
قَالَ الشَّاعِر ... تَقول وَقد درأت لَهَا وضيني
أهدأ دينه أبدا وديني ...
وَقَالَ آخر وَمن عاداته الْخلق الْكَرِيم
وَقَالَ آخر ... قد عود الطير عادات وثقن بهَا
فهن يصحبنه فِي كل مرتحل ...
وَقَالَ آخر ... عودت كِنْدَة عادات فصير لَهَا ...
وَقَالَ آخر ... وشديد عَادَة منتزعه ...
فَذكر أَن انتزاع الْعَادة يشْتَد إِلَّا أَنه مُمكن غير مُمْتَنع بِخِلَاف إِزَالَة الطبيعة الَّتِي لَا سَبِيل إِلَيْهَا وَرُبمَا وضعت الْعَرَب لَفْظَة الْعَادة مَكَان لَفْظَة الطبيعة كَمَا قَالَ حميد بن ثَوْر الْهِلَالِي ... سَلِي الرّبع أَن يمت يَا أم سَالم
وَهل عَادَة الرّبع أَن يتكلما ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه الطبائع والعادات مخلوقة خلقهَا الله عز وَجل فرتب الطبيعة على أَنَّهَا لَا تستحيل أبدا وَلَا يُمكن تبدلها عِنْد كل ذِي عقل كطبيعة الْإِنْسَان بِأَن يكون مُمكنا لَهُ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات إِن لم يَعْتَرِضهُ آفَة وطبيعة الْحمير وَالْبِغَال بِأَنَّهُ غير مُمكن مِنْهَا ذَلِك وكطبيعة الْبر أَن لَا ينْبت شَعِيرًا وَلَا جوزا وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم وَالْقَوْم مقرون بِالصِّفَاتِ وَهِي الطبيعة نَفسهَا لِأَن من الصِّفَات المحمولة فِي الْمَوْصُوف مَا هُوَ ذاتي بِهِ لَا يتَوَهَّم زَوَاله إِلَّا بِفساد حامله وَسُقُوط الِاسْم عَنهُ كصفات الْخمر الَّتِي إِن زَالَت عَنْهَا صَارَت خلا وَبَطل اسْم الْخمر عَنْهَا وكصفات الْخبز وَاللَّحم الَّتِي إِذا زَالَت عَنْهَا صَارَت زبلا وَسقط اسْم الْخبز وَاللَّحم عَنْهُمَا وَهَكَذَا كل شَيْء لَهُ صفة ذاتية فَهَذِهِ هِيَ الطبيعة وَمن الصِّفَات المحمولة فِي الْمَوْصُوف مَا لَو توهم زَوَاله عَنهُ لم يبطل حامله وَلَا فَارقه اسْمه وَهَذَا الْقسم يَنْقَسِم أقساما ثَلَاثَة فأحدها مُمْتَنع الزَّوَال كالفطس وَالْقصر والزرق وَسَوَاد الزنْجِي وَنَحْو ذَلِك إِلَّا أَنه لَو توهم زائلا لبقي الْإِنْسَان إنْسَانا بِحَالهِ وَثَانِيها بطيء الزَّوَال كالمردوة وَسَوَاد الشّعْر وَمَا أشبه ذَلِك وَثَالِثهَا سريع الزَّوَال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الْهم وَنَحْو ذَلِك فَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَة الْكَلَام فِي الصِّفَات وَمَا عدا ذَلِك فطريق السوفسطائية الَّذين لَا يحققون حَقِيقَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
نبوة النِّسَاء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا فصل لَا نعلمهُ حدث التَّنَازُع الْعَظِيم فِيهِ إِلَّا عندنَا بقرطبة وَفِي زَمَاننَا فَإِن طَائِفَة ذهبت إِلَى إبِْطَال كَون النُّبُوَّة فِي النِّسَاء جملَة وبدعت من قَالَ ذَلِك وَذهب طَائِفَة إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ قد كَانَت فِي النِّسَاء نبوة وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى التَّوَقُّف فِي ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم للمانعين من ذَلِك حجَّة أصلا إِلَّا أَن بَعضهم نَازع فِي ذَلِك بقول الله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي اليهم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أَمر لَا ينازعون فِيهِ وَلم يدع أحد أَن الله تَعَالَى أرسل امْرَأَة وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي النُّبُوَّة دون الرسَالَة فَوَجَبَ طلب الْحق فِي ذَلِك بِأَن ينظر فِي معنى لَفْظَة النُّبُوَّة فِي اللُّغَة الَّتِي خاطبنا الله بهَا عز وَجل فَوَجَدنَا هَذِه اللَّفْظَة مَأْخُوذَة من الْأَنْبِيَاء وَهُوَ الْإِعْلَام فَمن أعلمهُ الله عز وَجل بِمَا يكون قبل أَن يكون أَو أُوحِي إِلَيْهِ منبئا لَهُ بِأَمْر مَا فَهُوَ نَبِي بِلَا شكّ وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الإلهام الَّذِي هُوَ طبيعة كَقَوْل الله تَعَالَى {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} وَلَا من بَاب الظَّن والتوهم الَّذِي لَا يقطع بحقيقته إِلَّا مَجْنُون وَلَا من بَاب الكهانة الَّتِي هِيَ من(5/12)
إستيراق الشَّيَاطِين للسمع من السَّمَاء فيرمون بِالشُّهُبِ الثاقب وَفِيه يَقُول الله عز وَجل {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا} وَقد انْقَطَعت الكهانة بمجيء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من بَاب النُّجُوم الَّتِي هِيَ تجارب نتعلم وَلَا من بَاب الرُّؤْيَا الَّتِي لَا يدْرِي أصدقت أم كذبت بل الْوَحْي الَّذِي هُوَ النُّبُوَّة قصد من الله تَعَالَى إِلَى إِعْلَام من يوحي إِلَيْهِ بِمَا يُعلمهُ بِهِ وَيكون عِنْد الْوَحْي بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَة خَارِجَة عَن الْوُجُوه الْمَذْكُورَة يحدث الله عز وَجل لمن أوحى بِهِ إِلَيْهِ علما ضَرُورِيًّا بِصِحَّة مَا أُوحِي بِهِ كعلمه بِمَا أدْرك بحواسه وبديهة عقله سَوَاء لَا مجَال للشَّكّ فِي شَيْء مِنْهُ أما بمجيء الْملك بِهِ إِلَيْهِ وَإِمَّا بخطاب يُخَاطب بِهِ فِي نَفسه وَهُوَ تَعْلِيم من الله تَعَالَى لمن يُعلمهُ دون وساطة معلم فَإِن أَنْكَرُوا أَن يكون هَذَا هُوَ معنى النُّبُوَّة فليعرفوا مَا مَعْنَاهَا فَإِنَّهُم لَا يأْتونَ بِشَيْء أصلا فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فقد جَاءَ الْقُرْآن بِأَن الله عز وَجل أرسل الْمَلَائِكَة إِلَى نسَاء فأخبروهن بِوَحْي حق من الله تَعَالَى فبشروا أم إِسْحَاق بِإسْحَاق عَن الله تَعَالَى قَالَ عز وَجل {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب قَالَت يَا ويلتى أألد وَأَنا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} فَهَذَا خطاب الْمَلَائِكَة لأم إِسْحَاق عَن الله عز وَجل بالبشارة لَهَا بِإسْحَاق ثمَّ يَعْقُوب ثمَّ بقَوْلهمْ لَهَا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون هَذَا الْخطاب من ملك لغير نَبِي بِوَجْه من الْوُجُوه ووجدناه تَعَالَى قد أرسل جِبْرِيل إِلَى مَرْيَم أم عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام يخاطبها وَقَالَ لَهَا {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} فَهَذِهِ نبوة صَحِيحَة بِوَحْي صَحِيح ورسالة من الله تَعَالَى إِلَيْهَا وَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام يجد عِنْدهَا من الله تَعَالَى رزقا واردا تمنى من أَجله ولدا فَاضلا وَوجدنَا أم مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام قد أوحى الله إِلَيْهَا بإلقاء وَلَدهَا فِي اليم وأعلمها أَنه سيرده إِلَيْهَا ويجعله نَبيا مُرْسلا فَهَذِهِ نبوة لَا شكّ فِيهَا وبضرورة الْعقل يدْرِي كل ذِي تَمْيِيز صَحِيح أَنَّهَا لَو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وَجل لَهَا لكَانَتْ بإلقائها وَلَدهَا فِي اليم برؤيا ترَاهَا أَو بِمَا يَقع فِي نَفسهَا أَو قَامَ فِي هاجستها فِي غَايَة الْجُنُون والمرار الهائج وَلَو فعل ذَلِك أَحَدنَا لَكَانَ فِي غَايَة الْفسق أَو فِي غَايَة الْجُنُون مُسْتَحقّا لمعاناة دماغه فِي البيمارستان لَا يشك فِي هَذَا أحد فصح يَقِينا أَن الْوَحْي الَّذِي ورد لَهَا فِي إِلْقَاء وَلَدهَا فِي اليم كالوحي الْوَارِد على إِبْرَاهِيم فِي الرُّؤْيَا فِي ذبح وَلَده فَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَو لم يكن نَبيا واثقا بِصِحَّة الْوَحْي والنبوة الْوَارِد عَلَيْهِ من ذبح وَلَده لكنه ذبح وَلَده لرؤيا رَآهَا أَو ظن وَقع فِي نَفسه لَكَانَ بِلَا شكّ فَاعل ذَلِك من غير الْأَنْبِيَاء فَاسِقًا فِي نِهَايَة الْفسق أَو مَجْنُونا فِي غَايَة الْجُنُون هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ أحد من النَّاس فَصحت نبوتهن بِيَقِين وَوجدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ وَقد ذكر من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي سُورَة كهيعص ذكر مَرْيَم فِي جُمْلَتهمْ ثمَّ قَالَ عز وَجل {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح} وَهَذَا هُوَ عُمُوم لَهَا مَعَهم لَا يجوز تخصيصها من جُمْلَتهمْ وَلَيْسَ قَوْله عز وَجل وَأمه صديقَة بمانع من أَن تكون نبية فقد قَالَ تَعَالَى يُوسُف أَيهَا الصّديق وَهُوَ مَعَ ذَلِك نَبِي رَسُول وَهَذَا ظَاهر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَيلْحق بِهن عَلَيْهِنَّ السَّلَام فِي ذَلِك امْرَأَة فِرْعَوْن بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل من الرِّجَال كَثِيرُونَ وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام والكمال فِي الرِّجَال لَا يكون إِلَّا لبَعض الْمُرْسلين عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن من دونهم نَاقص عَنْهُم بِلَا شكّ وَكَانَ تَخْصِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرْيَم وَامْرَأَة فِرْعَوْن تَفْضِيلًا لَهما على سَائِر من أُوتيت النُّبُوَّة من النِّسَاء بِلَا شكّ إِذْ من نقص عَن منزلَة آخر وَلَو بدقيقة فَلم يكمل فصح بِهَذَا الْخَبَر أَن هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ كملتا كمالا لم يلحقهما فِيهِ امْرَأَة غَيرهَا أصلا وَإِن كن بنصوص الْقُرْآن نبيات وَقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} فالكامل فِي نَوعه هُوَ الَّذِي لَا يلْحقهُ أحد من أهل نَوعه فهم من الرِّجَال الرُّسُل الَّذين فَضلهمْ الله تَعَالَى على سَائِر الرُّسُل وَمِنْهُم نَبينَا وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا(5/13)
الصَّلَاة وَالسَّلَام بِلَا شكّ للنصوص الْوَارِدَة بذلك فِي فَضلهَا على غَيرهمَا وكمل من النِّسَاء من ذكر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
الْكَلَام فِي الرُّؤْيَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب صَالح تلميذ النظام إِلَى أَن الَّذِي يري أَحَدنَا فِي الرُّؤْيَا حق كَمَا هُوَ وَأَنه من رأى أَنه بالصين وَهُوَ بالأندلس فَإِن الله عز وَجل اخترعه فِي ذَلِك الْوَقْت بالصين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل فِي غَايَة الْفساد لِأَن العيان وَالْعقل يضْطَر إِلَى كذب هَذَا القَوْل وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حِينَئِذٍ هَذَا النَّائِم عندنَا وَهُوَ يرى نَفسه فِي ذَلِك الْوَقْت بالصين وَأما من طَرِيق الْعقل فَهُوَ معرفتنا بِمَا يرى الحالم من المحالات من كَونه مَقْطُوع الرَّأْس حَيا وَمَا أشبه ذَلِك وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا قصّ عَلَيْهِ رُؤْيا فَقَالَ لَا تخبر بتلعب الشَّيْطَان بك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل الصَّحِيح فِي الرُّؤْيَا هُوَ أَنْوَاع فَمِنْهَا مَا يكون من قبل الشَّيْطَان وَهُوَ مَا كَانَ من الأضغاث والتخليط وَمِنْهَا مَا يكون من حَدِيث النَّفس وَهُوَ مَا يشْتَغل بِهِ الْمَرْء فِي الْيَقَظَة فيراه فِي النّوم من خوف عَدو أَو لِقَاء حبيب أَو خلاص من خوف أَو نَحْو ذَلِك وَمِنْهَا مَا يكون من غَلَبَة الطَّبْع كرؤية من غلب عَلَيْهِ الدَّم للأنوار والزهر والحمرة وَالسُّرُور ورؤية من غلب عَلَيْهِ الصَّفْرَاء للنيران ورؤية صَاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عَلَيْهِ السَّوْدَاء الكهوف وَالظُّلم وَمِنْهَا مَا يرِيه الله عز وَجل نفس الحالم إِذا صفت من أكدار الْجَسَد وتخلصت من الأفكار الْفَاسِدَة فيشرف الله تَعَالَى بِهِ على كثير من المغيبات الَّتِي لم تأت بعد وعَلى قدر تفاضل النَّفس فِي النَّقَاء والصفاء يكون تفاضل مَا يرَاهُ فِي الصدْق وَقد جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يبْق بعده من النُّبُوَّة إِلَّا الْمُبَشِّرَات وَهِي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الرجل أَو ترى لَهُ وَأَنَّهَا جُزْء من سِتَّة وَعشْرين جزأ من النُّبُوَّة إِلَى جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جزأ من النُّبُوَّة إِلَى جُزْء من سبعين جزأ من النُّبُوَّة وَهَذَا نَص جلي مَا ذكرنَا من تفاضلها فِي الصدْق والوضوح والصفاء من كل تَخْلِيط وَقد تخرج هَذِه النّسَب والأقسام على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ بذلك رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَمنهمْ من رُؤْيَاهُ جُزْء من سِتَّة وَعشْرين جُزْء من أَجزَاء نبوته وخصائصه وفضائله وَمِنْهُم من رُؤْيَاهُ جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وَمِنْهُم من رُؤْيَاهُ جُزْء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر وَالله أعلم وَيكون خَارِجا على مُقْتَضى أَلْفَاظ الحَدِيث بِلَا تَأْوِيل بتكلف وَأما رُؤْيا غير الْأَنْبِيَاء فقد تكذب وَقد تصدق إِلَّا أَنه لَا يقطع على صِحَة شَيْء مِنْهُ إِلَّا بعد ظُهُور صِحَّته حاشا رُؤْيا الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهَا كلهَا وَحي مَقْطُوع على صِحَّته كرؤيا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو رأى ذَلِك غير نبى فِي الرُّؤْيَا فأنفذه فِي الْيَقَظَة لَكَانَ فَاسِقًا عابثا أَو مَجْنُونا ذَاهِب التَّمْيِيز بِلَا شكّ وَقد تصدق رُؤْيا لكَافِر وَلَا تكون حِينَئِذٍ جزأ من النُّبُوَّة وَلَا مُبَشِّرَات وَلَكِن إنذارا لَهُ أَو لغيره ووعظا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي أَي الْخلق أفضل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أفضل من الْمَلَائِكَة وَذَهَبت طَائِفَة تنتسب إِلَى الْإِسْلَام أَن الصَّالِحين غير النَّبِيين أفضل من الْمَلَائِكَة وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي وَأَنه يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من عِيسَى بن مَرْيَم وَرَأَيْت الباقلاني يَقُول جَائِز أَن يكون فِي هَذِه الْأمة من هُوَ أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حِين بعث إِلَى أَن مَاتَ وَرَأَيْت لأبي هَاشم الجبائى أَنه لَو طَال عمر إِنْسَان من الْمُسلمين فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة لأمكن أَن يوازي عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كذب لَعنه الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَوْلَا أَنه استحيا قَلِيلا مِمَّا لم يستحي من نَظِيره الباقلاني لقَالَ مَا يُوجِبهُ هَذَا القَوْل من أَنه(5/14)
كَانَ يزِيد فضلا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْأَقْوَال كفر مُجَرّد لَا تردد فِيهِ وحاشا لله تَعَالَى من أَن يكون أحد عمر عمر الدَّهْر يلْحق فضل صَاحب فَكيف فضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو نَبِي من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَكيف أَن يكون أفضل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا مَالا تقبله نفس مُسلم كَأَنَّهُمْ مَا سمعُوا قَول الله عز وَجل {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا لي أَصْحَابِي فَلَو كَانَ لأحدكم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه فِي سَبِيل الله مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكيف يلْحق أبدا من أَن تصدق وَهُوَ بِمثل جبل أحد ذَهَبا وَتصدق الصاحب بِنصْف مد من شعير كَانَ نصف مد الشّعير لَا يلْحقهُ فِي الْفضل جبل الذَّهَب فَكيف برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أهل الْحق أَن الْمَلَائِكَة أفضل من كل خلق خلقه الله تَعَالَى ثمَّ بعدهمْ الرُّسُل من النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ بعدهمْ الْأَنْبِيَاء غير الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا رتبنا قبل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِنّ لَهُ من الْفضل مَا لسَائِر الصَّحَابَة بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعوا لي أَصْحَابِي وَأفضل الرُّسُل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما فضل الْمَلَائِكَة على الرُّسُل من غير الْمَلَائِكَة فلبراهين مِنْهَا قَول الله عز وَجل أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم أَنِّي ملك أَن اتبع إِلَّا مَا يوحي إِلَيّ} فَلَو كَانَ الرَّسُول أرفع من الْملك أَو مثله مَا أَمر الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول لَهُم هَذَا القَوْل الَّذِي إِنَّمَا قَالَه منحطا عَن الترفع بِأَن يظنّ أَنه عِنْده خَزَائِن الله أَو أَنه يعلم الْغَيْب أَو أَنه ملك منزل لنَفسِهِ المقدسة فِي مرتبته الَّتِي هِيَ دون هَذِه الْمَرَاتِب بِلَا شكّ إِذْ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَقُول هَذَا عَن مَرَاتِب هُوَ أرفع مِنْهَا وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل ذكر مُحَمَّدًا الَّذِي هُوَ أفضل الرُّسُل بعد الْمَلَائِكَة وَذكر جِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام وَكَانَ من التباين من الله عز وَجل بَينهمَا تبايناً بَعيدا وَهُوَ أَنه عز وَجل قَالَ {أَنه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين} فَهَذِهِ صفة جِبْرِيل عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ ذكر مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} ثمَّ زَاد تَعَالَى بَيَانا رَافعا للأشكال جملَة فَقَالَ {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} فَعظم الله تَعَالَى من شَأْن أكْرم الْأَنْبِيَاء وَالرسل بِأَن رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالَ {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى إِذْ يغشي السِّدْرَة مَا يغشي مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طغي لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} فأمتن الله تَعَالَى كَمَا ترى على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أرَاهُ جِبْرِيل مرَّتَيْنِ وَإِنَّمَا يتفاضل النَّاس كَمَا قدمنَا بِوَجْهَيْنِ فَقَط أَحدهمَا الِاخْتِصَاص الْمُجَرّد وَأعظم الِاخْتِصَاص الرسَالَة والتعظيم فقد حصل ذَلِك للْمَلَائكَة قَالَ تَعَالَى {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا} فهم كلهم رسل الله اختصهم تَعَالَى بِأَن ابتدأهم فِي الْجنَّة وحوالي عَرْشه فِي الْمَكَان الَّذِي وعد رسله وَمن اتبعهم بِأَن نِهَايَة كرامتهم مصيرهم إِلَيْهِ وَهُوَ مَوضِع خلق الْمَلَائِكَة ومحلهم بِلَا نِهَايَة مذ خلقُوا وَذكرهمْ عز وَجل فِي غير مَوضِع من كِتَابه فَأثْنى على جَمِيعهم ووصفهم بِأَنَّهُم لَا يفترون وَلَا يسأمون وَلَا يعصون الله فنفي عَنْهُم الزلل والفترة السَّاقَة والسهو وَهَذَا أَمر لم ينفه عز وَجل عَن الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم بل السَّهْو جَائِز عَلَيْهِم وبالضرورة نعلم من عصم من السَّهْو أفضل مِمَّن لم يعْصم مِنْهُ وَأَن من عصم من الْعمد كالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام أفضل مِمَّن لم يعْصم مِمَّن سواهُم فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} قيل لَهُ لَيْسَ هَذَا مُعَارضا لقَوْله تَعَالَى جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا فَإِن كل آيَة فَإِنَّمَا لم تحمل على مقتضاها وَمُوجب لَفظهَا فَفِي هَذِه الْآيَة أَن بعض الْمَلَائِكَة رسل وَهَذَا حق لَا شكّ فِيهِ وَلَيْسَ إِخْبَارًا عَن سَائِرهمْ بِشَيْء لَا بِأَنَّهُم رسل وَلَا بِأَنَّهُم لَيْسُوا رسلًا فَلَا يحل لأحد أَن يزِيد فِي الْآيَة مَا لَيْسَ فِيهَا ثمَّ فِي الْآيَة الْأُخْرَى زِيَادَة على مَا فِي هَذِه الْآيَة وَالْأَخْبَار بِأَن جَمِيع الْمَلَائِكَة(5/15)
رسل فَفِي تِلْكَ الْآيَة بعض مَا فِي هَذِه الْآيَة وَفِي هَذِه الْآيَة كل مَا فِي تِلْكَ وَزِيَادَة فَفرض قبُول كل ذَلِك كَمَا أَن الله عز وَجل إِذْ ذكر فِي كهيعص من ذكر من النَّبِيين فَقَالَ {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين} وَقد قَالَ تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} أفترى الرُّسُل الَّذين لم يقصصهم الله تَعَالَى عَلَيْهِ جملَة أَو فِي هَذِه السُّورَة خَاصَّة لم ينعم عَلَيْهِم معَاذ الله من هَذَا فَمَا يَقُوله مُسلم وَالْوَجْه الثَّانِي من أوجه الْفضل هُوَ تفاضل العاملين بتفاضل مَنَازِلهمْ فِي أَعمال الطَّاعَة والعصمة من الْمعاصِي والدنيات وَقد نَص الله تَعَالَى على أَن الْمَلَائِكَة لَا يفترون من الطَّاعَة وَلَا يسأمون مِنْهَا وَلَا يعصون الْبَتَّةَ فِي شَيْء أمروا بِهِ فقد صَحَّ أَن الله عز وَجل عصمهم من الطبائع النَّاقِصَة الداعية إِلَى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الْجِمَاع وَالنَّوْم فصح يَقِينا أَنهم أفضل من الرُّسُل الَّذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج بعض الْمُخَالفين فِي هَذَا بِأَن قَالَ قَالَ الله عز وَجل {إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين} قَالُوا فَدخل فِي الْعَالمين الْمَلَائِكَة وَغَيرهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْآيَة قد صَحَّ الْبُرْهَان بِأَنَّهَا لَيست على عمومها لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يذكر فِيهَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خلاف فِي أَنه أفضل النَّاس قَالَ الله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} فَإِن قَالَ أَن آل إِبْرَاهِيم هم آل مُحَمَّد قيل لَهُ فَنحْن إِذا أفضل من جَمِيع الْأَنْبِيَاء حاشا آل عمرَان وآدَم ونوحا فَقَط وَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم فصح يَقِينا أَن هَذِه الْآيَة لَيست على عمومها فَإِذا لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ أَن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ بهَا عالمي زمانهم من النَّاس لَا من الرُّسُل وَلَا من النَّبِيين نعم وَلَا من عالمي غير زمانهم لأننا بِلَا شكّ أفضل من آل عمرَان فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة جملَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَصَحَّ أَنَّهَا مثل قَوْله تَعَالَى {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَإِنِّي فضلتكم على الْعَالمين} وَلَا شكّ فِي أَنهم لم يفضلوا على الرُّسُل وَلَا على النَّبِيين وَلَا على أمتنَا وَلَا على الصَّالِحين من غَيرهم فَكيف على الْمَلَائِكَة وَنحن لَا ننكر إِزَالَة النَّص عَن ظَاهره وعمومه ببرهان من نَص آخر أَو إِجْمَاع مُتَيَقن أَو ضَرُورَة حس وَإِنَّمَا ننكر ونمنع من إِزَالَة النَّص عَن ظَاهره وعمومه بِالدَّعْوَى فَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الَّذِي لَا يحل فِي دين وَلَا يَصح فِي إِمْكَان الْعقل وَبِاللَّهِ تعلى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكر بَعضهم قَول الله عز وَجل {الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مِمَّا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أصلا لِأَن هَذِه الصّفة تعم كل مُؤمن صَالح من الْإِنْس وَمن الْجِنّ نعم وَجَمِيع الْمَلَائِكَة عُمُوما مستويا فَإِنَّمَا هَذِه لآيَة تَفْضِيل الْمَلَائِكَة وَالصَّالِحِينَ من الْإِنْس وَالْجِنّ على سَائِر الْبَريَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتَجُّوا بِأَمْر الله عز وَجل الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم على جَمِيعهم السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا أعظم حجَّة عَلَيْهِم لِأَن السُّجُود الْمَأْمُور بِهِ لَا يَخْلُو من أَن يكون سُجُود عبَادَة وَهَذَا كفر مِمَّن قَالَه وَلَا يجوز أَن يكون الله عز وَجل يَأْمر أحدا من خلقه بِعبَادة غَيره وَإِمَّا ان يكون سُجُود تَحِيَّة وكرامة وَهُوَ كَذَلِك بِلَا خلاف من أحد من النَّاس فَإذْ هُوَ كَذَلِك فَلَا دَلِيل أدل على فضل الْمَلَائِكَة على آدم من أَن يكون الله تَعَالَى بلغ الْغَايَة فِي إعظامه وكرامته بَان تحييه الْمَلَائِكَة لأَنهم لَو كَانُوا دونه لم يكن لَهُ كَرَامَة وَلَا مزية فِي تحيتهم لَهُ وَقد أخبر الله عز وَجل عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ {وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش وخروا لَهُ سجدا وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل قد جعلهَا رَبِّي حَقًا} وَكَانَت رُؤْيَاهُ هِيَ الَّتِي ذكر الله عز وَجل عَنهُ إِذْ يَقُول(5/16)
أَيْضا بِأَن الْمَلَائِكَة لم يعلمُوا أَسمَاء الْأَشْيَاء حَتَّى أنبأهم بهَا آدم على جَمِيعهم السَّلَام بتعليم الله عز وَجل آدم إِيَّاهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله عز وَجل يعلم من هُوَ أنقص فضلا وعلما فِي الْجُمْلَة أَشْيَاء لَا يعلمهَا من هُوَ أفضل مِنْهُ وَأعلم مِنْهُ بِمَا عدا تِلْكَ الْأَشْيَاء فَعلم الْمَلَائِكَة مَالا يُعلمهُ آدم وَعلم آدم أَسمَاء الْأَشْيَاء ثمَّ أمره بِأَن يعلمهَا الْمَلَائِكَة كَمَا خص الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام بِعلم لم يُعلمهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى اتبعهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ليتعلم مِنْهُ وَعلم أَيْضا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام علوما لم يعلمهَا الْخضر وَهَكَذَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْخضر قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنِّي على علم من علم الله لَا تعلمه أَنْت وَأَنت على علم من علم الله لَا أعلمهُ أَنا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ فِي هَذَا أَن الْخضر أفضل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قَالَ بعض الْجُهَّال أَن الله تَعَالَى جعل الْمَلَائِكَة خدام أهل الْجنَّة يأتونهم بالتحف من عِنْد رَبهم عز وَجل قَالَ تَعَالَى {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون} وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما خدمَة الْمَلَائِكَة لأهل الْجنَّة وإقبالهم إِلَيْهِم بالتحف فشيء مَا علمناه قطّ وَلَا سمعناه إِلَّا من الْقصاص بالخرافات والتكاذيب وَإِنَّمَا الْحق من ذَلِك مَا ذكره الله عز وَجل فِي النَّص الَّذِي أوردنا وَهُوَ وَللَّه الْحَمد من أقوى الْحجَج فِي فضل الْمَلَائِكَة على من سواهُم وَيلْزم هَذَا المحتج اذا كَانَ إقبال الْمَلَائِكَة بالبشارات إِلَى أهل الْجنَّة دَلِيلا على فضل مِنْهُم وَهَذَا كفر مُجَرّد وَلَكِن حَقِيقَة هِيَ أَن الْفضل إِذا كَانَ للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام على النَّاس بِأَنَّهُم رسل الله اليهم ووسائط بَين رَبهم تَعَالَى وَبينهمْ فالفضل وَاجِب للْمَلَائكَة على الْأَنْبِيَاء وَالرسل لكَوْنهم رسل الله تَعَالَى إِلَيْهِم ووسائط بَينهم وَبَين رَبهم تَعَالَى وَأما تفضل الله تَعَالَى على أهل الْجنَّة بِالْأَكْلِ وَالشرب وَالْجِمَاع واللباس والآلات والقصور فَإِنَّمَا فَضلهمْ الله عز وَجل من ذَلِك بِمَا يُوَافق طباعهم وَقد نزه الله سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَة عَن هَذِه الطبائع المستدعية لهَذِهِ اللَّذَّات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لَا تلتذ بِشَيْء من ذَلِك إِلَّا بِذكر الله عز وَجل وعبادته وطاعته فِي تَنْفِيذ أوامره تَعَالَى فَلَا منزلَة أَعلَى من هَذِه وَعجل لَهُم سُكْنى الْمحل الرفيع الَّذِي جعل تَعَالَى غَايَة إكرامنا الْوُصُول إِلَيْهِ بعد لِقَاء الْأَمريْنِ فِي التَّعَب فِي عمَارَة هَذِه الدُّنْيَا النكدة وَفِي كلف الْأَعْمَال فَفِي ذَلِك الْمَكَان خلق الله عز وَجل الْمَلَائِكَة مُنْذُ ابتدائهم وَفِيه خلدهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بعض السخفاء أَن الْمَلَائِكَة بِمَنْزِلَة الْهَوَاء والرياح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب وقحة وجنون لِأَن الْمَلَائِكَة بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنَن وَإِجْمَاع جَمِيع من يقر بِالْمَلَائِكَةِ من أهل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وَلَيْسَ كَذَلِك الْهَوَاء والرياح لَكِنَّهَا لَا تعقل وَلَا هِيَ متكلفة متعبدة بل هِيَ مسخرة مصرفة لَا اخْتِيَار لَهَا قَالَ تَعَالَى {والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام} وَذكر تَعَالَى الْمَلَائِكَة فَقَالَ {بل عباد مكرمون لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} فقرن تَعَالَى نزُول الْمَلَائِكَة بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَقرن تَعَالَى إِتْيَانه بإتيان الْمَلَائِكَة فَقَالَ عز وَجل {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَاعْلَم أَن إِعْرَاب الْمَلَائِكَة هَاهُنَا بِالرَّفْع عطفا على الله عز وَجل لَا على الْغَمَام وَنَصّ تَعَالَى على أَن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا أكل من الشَّجَرَة ليَكُون ملكا أَو ليخلد كَمَا نَص تَعَالَى علينا إِذْ يَقُول عز وَجل {مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فبيقين نَدْرِي أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لَوْلَا يقينه بِأَن الْمَلَائِكَة أفضل مِنْهُ وطمعه بِأَن يصير ملكا لما قبل(5/17)
من أبليس مَا غره بِهِ من أكل الشَّجَرَة الَّتِي نها الله عز وَجل عَنْهَا وَلَو علم آدم أَن الْملك مثله أَو دونه لما حمل نَفسه على مُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى لينحط عَن مَنْزِلَته الرفيعة إِلَى الدون هَذَا مَا لَا يَظُنّهُ ذُو عقل أصلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله عز وَجل {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون} فَقَوله عز وَجل بعد ذكر الْمَسِيح وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون بُلُوغ الْغَايَة فِي علو درجتهم على الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن بنية الْكَلَام ورتبته إِنَّمَا هِيَ إِذا أَرَادَ الْقَائِل نفي صفة مَا عَن متواضع عَنْهَا أَن يبْدَأ بالأدني ثمَّ بالأعلى وَإِذا أَرَادَ نفي صفة مَا عَن مترفع عَنْهَا أَن يبْدَأ بالأعلى ثمَّ بالأدني فَنَقُول فِي الْقسم الأول مَا يطْمع فِي الْجُلُوس بَين يَدي الْخَلِيفَة خازنه وَلَا وزيره وَلَا أَخُوهُ ونقول فِي الْقسم الثَّانِي مَا ينحط إِلَى الْأكل فِي السُّوق وَال وَلَا ذُو مرتبَة وَلَا متصاون من التُّجَّار أَو الصناع لَا يجوز الْبَتَّةَ غير هَذَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَيْضًا فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الْمَلَائِكَة من نور وَخلق الْإِنْسَان من طين وَخلق الْجِنّ من نَار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يجهل فضل النُّور على الطين وعَلى النَّار أحد إِلَّا من لم يَجْعَل الله لَهُ نورا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نوا فَمَا لَهُ من نور وَقد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا ربه فِي أَن يَجْعَل فِي قلبه نورا فالملائكة من جَوْهَر دَعَا أفضل الْبشر ربه فِي أَن يَجْعَل فِي قلبه مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ عز وَجل {وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر} إِلَى قَوْله {وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} فَإِنَّمَا فضل الله تَعَالَى بِنَصّ كَلَامه عز وَجل بني آدم على كثير مِمَّن خلق لَا على كل من خلق وَبلا شكّ أَن بنى آدم يفضلون على الْجِنّ وعَلى جَمِيع الْحَيَوَان الصَّامِت وعَلى مَا لَيْسَ حَيَوَانا فَلم يبْق خلق يَسْتَثْنِي من تَفْضِيل الله تَعَالَى بني آدم عَلَيْهِ إِلَّا الْمَلَائِكَة فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما فضل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل رَسُول قبله فالثابت عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فضلت على الْأَنْبِيَاء بست وَرُوِيَ بِخمْس وَرُوِيَ بِأَرْبَع وَرُوِيَ بِثَلَاث رَوَاهُ جَابر بن عبد الله وَأنس بن مَالك وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَأَبُو هُرَيْرَة وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَأَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر الْأَنْبِيَاء اتبَاعا وَأَنه ذُو الشَّفَاعَة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة فِيهَا النَّبِيُّونَ فَمن دونهم أماتنا الله على مِلَّته وَلَا خَالف بِنَا عَنهُ وَهُوَ أَيْضا عَلَيْهِ السَّلَام خَلِيل الله وكليمه
الْكَلَام فِي الْفقر والغنى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف قوم فِي أَي الْأَمريْنِ أفضل الْفقر أم الْغنى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال فَاسد لِأَن تفاضل الْعَمَل وَالْجَزَاء فِي الْجنَّة إِنَّمَا هُوَ لِلْعَامِلِ لَا لحالة مَحْمُولَة فِيهِ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بتفضيل الله عز وَجل حَالا على حَال وَلَيْسَ هَا هُنَا نَص فِي فضل إِحْدَى هَاتين الْحَالَتَيْنِ على الْأُخْرَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَن يُقَال أَيّمَا أفضل الْغَنِيّ أم الْفَقِير وَالْجَوَاب هَا هُنَا هُوَ مَا قَالَه الله تَعَالَى إِذْ يَقُول {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَإِن كَانَ الْغَنِيّ أفضل عملا من الْفَقِير فالغنى أفضل وَإِن كَانَ الْفَقِير أفضل عملا من الْغنى فالفقير أفضل وَإِن كَانَ عملهما مُتَسَاوِيا فهما سَوَاء قَالَ عز وَجل {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقد استعاذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فتْنَة الْفقر وفتنة الْغنى وَجعل الله عز وَجل الشُّكْر بِإِزَاءِ الْغنى وَالصَّبْر بِإِزَاءِ الْفقر فَمن اتَّقى الله عز وَجل فَهُوَ الْفَاضِل غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا وَقد اعْترض بَعضهم هَا هُنَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِد أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِكَذَا وَكَذَا خَرِيفًا وَنزع الْآخرُونَ بقول الله عز وَجل {ووجدك ضَالًّا فهدي ووجدك عائلا فأغنى}(5/18)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والغنى نعْمَة إِذا قَامَ بهَا حاملها بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيهَا وَأما فُقَرَاء الْمُهَاجِرين فهم كَانُوا كثر وَكَانَ الْغَنِيّ فيهم قَلِيلا وَالْأَمر كُله مِنْهُم وَفِي غَيرهم رَاجع إِلَى الْعَمَل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع على أَنه تَعَالَى لَا يَجْزِي بِالْجنَّةِ على فقر لَيْسَ مَعَه عمل خير وَلَا على غنى لَيْسَ مَعَه عمل خير وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الِاسْم والمسمى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الِاسْم هُوَ المسمي وَقَالَ آخَرُونَ الِاسْم غير الْمُسَمّى وَاحْتج من قَالَ أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بقول الله تَعَالَى {تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام} وَيقْرَأ أَيْضا ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام قَالَ لَا يجوز أَن يُقَال تبَارك غير الله فَلَو كَانَ الِاسْم غير الْمُسَمّى مَا جَازَ أَن يُقَال تبَارك اسْم رَبك وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَقَالُوا وَمن الْمُمْتَنع أَن يَأْمر الله عز وَجل بِأَن يسبح غَيره وَبِقَوْلِهِ عز وَجل {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} وَقَالُوا الِاسْم مستق من السمو وأنكروا على من قَالَ أَنه مستق من الوسم وَهُوَ الْعَلامَة وَذكروا قَول لبيد ... إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر ... وَقَالُوا قَالَ سِيبَوَيْهٍ الْأَفْعَال أَمْثِلَة احدث من لفظ أَحْدَاث الْأَسْمَاء قَالُوا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسلمين هَذَا كل مَا احْتَجُّوا بِهِ قد تقصيناه لَهُم وَلَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ إِمَّا قَول الله عز وَجل تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال والاكرام وَذُو الْجلَال فَحق وَمعنى تبَارك تفَاعل من الْبركَة وَالْبركَة وَاجِبَة لاسم الله عز وَجل الَّذِي هُوَ كلمة مؤلفة من حُرُوف الهجاء وَنحن نتبرك بِالذكر لَهُ وبتعظيمه ونجله ونكرمه فَلهُ التبارك وَله الإجلال منا وَمن الله تَعَالَى وَله الْإِكْرَام من الله تَعَالَى وَمنا حَيْثُمَا كَانَ ق رطاس أَو فِي شَيْء منقوش فِيهِ أَو مَذْكُور بالألسنة وَمن لم يجل اسْم الله عز وَجل كَذَلِك وَلَا أكْرمه فَهُوَ كَافِر بِلَا شكّ فالآية على ظَاهرهَا دون تَأْوِيل فَبَطل تعلقهم بهَا جملَة وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وكل شَيْء نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَنه تبَارك فَذَلِك حق وَلَو نَص تَعَالَى بذلك على أَي شَيْء كَانَ من خلقه كَانَ ذَلِك وَاجِبا لذَلِك الشَّيْء وَأما قَوْله تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَهُوَ على ظَاهره دون تَأْوِيل لِأَن التَّسْبِيح فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن وَبهَا خاطبنا الله عز وَجل هُوَ تَنْزِيه الشَّيْء عَن السوء وَبلا شكّ أَن الله تَعَالَى أمرنَا أَن ننزه اسْمه الَّذِي هُوَ كلمة مَجْمُوعَة من حُرُوف الهجاء عَن كل سوء حَيْثُ كَانَ من كتاب أَو منطوقا بِهِ وَوجه آخر وَهُوَ أَن معني قَوْله تَعَالَى {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} وَمعنى قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} معنى وَاحِد وَهُوَ أَن يسبح الله تَعَالَى باسمه وَلَا سَبِيل إِلَى تسبيحه تَعَالَى وَلَا إِلَى دُعَائِهِ وَلَا إِلَى ذكره إِلَّا بتوسط اسْمه فكلا الْوَجْهَيْنِ صَحِيح حق وتسبيح الله تَعَالَى وتسبيح اسْمه كل ذَلِك وَاجِب بِالنَّصِّ وَلَا فرق بَين قَوْله تَعَالَى {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} وَبَين قَوْله {وَسبح بِحَمْد رَبك حِين تقوم وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار النُّجُوم} وَالْحَمْد بِلَا شكّ هُوَ غير الله وَهُوَ تَعَالَى نُسَبِّح بِحَمْدِهِ كَمَا نُسَبِّح باسمه وَلَا فرق فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَوْله تَعَالَى {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} فَقَوْل الله عز وَجل حق على ظَاهره ولهذه الْآيَة وَجْهَان كِلَاهُمَا صَحِيح أَحدهمَا أَن معنى قَوْله عز وَجل {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء} برهَان هَذَا قَوْله تَعَالَى إِثْر ذَلِك مُتَّصِلا بهَا سميتموها أَنْتُم وآباؤكم فصح يَقِينا أَنه تَعَالَى لم يعن بالأسماء هاهناذوات المعبودين لِأَن العابدين لَهَا لم يحدثوا قطّ ذَوَات المعبودين بل الله تَعَالَى توَحد بإحداثها هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَالْوَجْه الثَّانِي أَن أُولَئِكَ الْكفَّار إِنَّمَا كَانُوا يعْبدُونَ أوثانا من حِجَارَة اوبعض الْمَعَادِن أَو من خشب وبيقين نَدْرِي انهم قبل أَن يسموا تِلْكَ الْجمل من الْحِجَارَة والمعادن وَمن الْخشب باسم اللات والعزي وَمَنَاة هُبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل قد كَانَت ذواتها بِلَا شكّ موجودات قَائِمَة وهم لَا يعبدونها وَلَا تسْتَحقّ عِنْدهم عبَادَة(5/19)
فَلَمَّا أوقعوا عَلَيْهِ هَذِه الْأَسْمَاء عبدوها حِينَئِذٍ فصح يَقِينا أَنهم لم يقصدوا بِالْعبَادَة إِلَّا الْأَسْمَاء كَمَا قَالَ الله تَعَالَى لَا الذوات المسميات فَعَادَت الْآيَة حجَّة عَلَيْهِم وبرهانا على الِاسْم غير الْمُسَمّى بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْلهم أَن الِاسْم مستق من السمو وَقَول بعض من خالفهم أَنه مُشْتَقّ من الوسم فَقَوْلَانِ فاسدان كِلَاهُمَا بَاطِل افتعله أهل النَّحْو لم يَصح قطّ عَن الْعَرَب شَيْئا مِنْهُمَا وَمَا اشتق لفظ الِاسْم قطّ من شَيْء بل هُوَ اسْم مَوْضُوع مثل حجر وجبل وخشبة وَسَائِر الْأَسْمَاء لَا اشتقاق لَهَا وَأول مَا تبطل بِهِ دَعوَاهُم هَذِه الْفَاسِدَة أَن يُقَال لَهُم قَالَ الله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} فصح أَن من لَا برهَان لَهُ على صِحَة دَعْوَاهُ فَلَيْسَ صَادِقا فِي قَوْله فهاتوا برهانكم على أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو أَو من الِاسْم وَإِلَّا فَهِيَ كذبة كذبتموها على الْعَرَب وافتريتموها عَلَيْهِم أَو على الله تَعَالَى الْوَاضِع للغات كلهَا وَقَول عَلَيْهِ تَعَالَى أَو على الْعَرَب بِغَيْر علم وَإِلَّا فَمن أَيْن لَكِن أَن الْعَرَب اجْتَمعُوا فَقَالُوا نشتق لَفْظَة اسْم من السمو أَو من الوسم وَالْكذب لَا يستحله مُسلم وَلَا يستسهله فَاضل وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى برهَان أصلا بذلك وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الِاسْم مشتقا من السمو كَمَا تَزْعُمُونَ فتسمية الْعذرَة وَالْكَلب والجيفة والقذر والشرك وَالْخِنْزِير والخساسة رفْعَة لَهَا وسمو لهَذِهِ المسميات وتباً لكل قَول أدّى إِلَى هَذَا الهوس الْبَارِد وَأَيْضًا فهبك أَنه قد سلم لَهُم قَوْلهم أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو أَي حجَّة على أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِم لِأَن ذَات المسمي لَيست مُشْتَقَّة أصلا وَلَا يجوز عَلَيْهَا الِاشْتِقَاق من السمو وَلَا من غَيره فصح بِلَا شكّ إِن مَا كَانَ مشتقا فَهُوَ غير مَا لَيْسَ مشتقا وَالِاسْم بإقرارهم مُشْتَقّ والذات الْمُسَمَّاة غير مُشْتَقَّة فالاسم غير الذَّات الْمُسَمَّاة وَهَذَا يليح لكل من نصح نَفسه أَن المحتج بِمثل هَذَا السَّفه عيار مستهزئ بِالنَّاسِ متلاعب بِكَلَامِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول يُؤَدِّي من اتبعهُ وطرده إِلَى الْكفْر الْمُجَرّد لأَنهم قطعُوا أَن الِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَقَطعُوا أَن الِاسْم هُوَ الله نَفسه فعلى قَوْلهم المهلك الْخَبيث أَن الله يشتق وَأَن ذَاته مُشْتَقَّة وَهَذَا مَا لَا نَدْرِي كَافِرًا بلغه وَالْحَمْد لله على مَا من بِهِ من الْهدى وَأَيْضًا فَإِن الله تعالي يَقُول {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين} إِلَى قَوْله تَعَالَى {قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَا يَخْلُو أَن يكون الله عز وَجل علم آدم الْأَسْمَاء كلهَا كَمَا قَالَ عز وَجل إِمَّا بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِمَّا بلغَة أُخْرَى أَو بِكُل لُغَة فَإِن كَانَ عز وَجل علمه الْأَسْمَاء بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِن لَفْظَة اسْم من جملَة مَا علمه لقَوْله تعالي الْأَسْمَاء كلهَا ولأمر تَعَالَى آدم بِأَن يَقُول للْمَلَائكَة أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ فَلَا يجوز أَن يخص من هَذَا الْعُمُوم شَيْء أصلا بل هُوَ لفظ موقف عَلَيْهِ كَسَائِر الْأَسْمَاء وَلَا فرق وَهُوَ من جملَة مَا علمه الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَن يدعوا أَن الله تَعَالَى اشتقه فالقوم كثيرا مَا يستسهلون الْكَذِب على الله تَعَالَى والإخبار عَنهُ بِمَا لَا علم لَهُم بِهِ فصح يَقِينا أَن لَفْظَة الِاسْم لَا اشتقاق لَهَا وَإِنَّمَا هِيَ اسْم مُبْتَدأ كَسَائِر الْأَسْمَاء والأنواع والأجناس وَأَن كَانَ الله تَعَالَى علم آدم الْأَسْمَاء كلهَا بِغَيْر الْعَرَبيَّة فَإِن اللُّغَة الغربية مَوْضُوعَة للتَّرْجَمَة عَن تِلْكَ اللُّغَة بدل كل اسْم من تِلْكَ اللُّغَة اسْم من الْعَرَبيَّة مَوْضُوع للعبارة عَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ وَإِذا كَانَ هَذَا فَلَا مدْخل للاشتقاق فِي شَيْء من الْأَسْمَاء أصلا لَا لَفْظَة اسْم وَلَا غَيرهَا وَإِن كَانَ تَعَالَى علمه الْأَسْمَاء بِالْعَرَبِيَّةِ وبغيرها من اللُّغَات الْعَرَبيَّة فلفظة اسْم من جملَة مَا علمه وَبَطل أَن يكون مشتقا أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَبَطل قَوْلهم فِي اشتقاق الِاسْم وَعَاد حجَّة عَلَيْهِم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما بَيت لبيد فَإِنَّهُ يخرج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن} ولبيد رَحمَه الله مُسلم صَحِيح الصُّحْبَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْنَاهُ ثمَّ اسْم الله عَلَيْكُمَا حَافظ لَكمَا وَالْوَجْه الثَّانِي أَنه أَرَادَ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّة ولبيد لَا يقدر هُوَ وَلَا غَيره على إِيقَاع التَّحِيَّة عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا يقدر لبيد وَغَيره على إِيقَاع اسْم التَّحِيَّة وَالدُّعَاء بهَا فَقَط فَأَي الْأَمريْنِ كَانَ فاسم السَّلَام فِي بَيت لبيد هُوَ غير معنى السَّلَام فالاسم فِي ذَلِك الْبَيْت غير الْمُسَمّى وَلَا بُد ثمَّ لَو صَحَّ مَا يَدعُونَهُ على لبيد وَلَو صَحَّ لَكَانَ قَول عَائِشَة رَحمهَا الله وَرَضي الله عَنْهَا إِنَّمَا أَهجر اسْمك بَيَانا أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَأَن اسْمه(5/20)
عَلَيْهِ السَّلَام غَيره لِأَنَّهَا أخْبرت أَنَّهَا لَا تهجره وَإِنَّمَا تهجر اسْمه رضوَان الله وَهِي لَيست الفصاحة فِي دون لبيد وَهِي أولى بَان تكون حجَّة من لبيد فَكيف وَقَول لبيد حجَّة عَلَيْهِم لَا لَهُم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقد قَالَ رؤبة باسم الَّذِي فِي كل صور سمر ورؤية لَيْسَ دون لبيد فِي الفصاحة وَذَات الْبَارِي تَعَالَى لَيست فِي كل صُورَة وَإِنَّمَا فِي الصُّورَة اسْم الله تَعَالَى فَلَا شكّ أَن الَّذِي فِي السُّورَة غير الَّذِي لَيْسَ فِيهَا وَقَالَ أَبُو ساسان حُصَيْن بن الْمُنْذر بن الْحَارِث بن وَعلة الرقاشِي لِابْنِهِ غياظ ... وَسميت غياظا وَلست بغايظ
عدوا وَلَكِن الصّديق تغيظ ...
فَصرحَ بِأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى تَصْرِيحًا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل بِخِلَاف مَا ادعوهُ على لبيد وَأما قَول سِيبَوَيْهٍ أَن الْأَفْعَال أَمْثِلَة أحدث من لفظا إِحْدَاث الْأَسْمَاء فَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ فبيقين نَدْرِي أَنه أَرَادَ إِحْدَاث أَصْحَاب الْأَسْمَاء برهَان ذَلِك قَوْله فِي غير مَا وضع من كِتَابه أَمْثِلَة الْأَسْمَاء فِي الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه أَن السداسى والسباعي من الْأَسْمَاء مزيدان وَلَا بُد وَأَن الثلاثي من الْأَسْمَاء أُصَلِّي وَلَا بُد وَإِن الرباعي والخماسي من الْأَسْمَاء يكونَانِ أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين وَأَن الثنائى من الْأَسْمَاء مَنْقُوص مثل يَد وَدم وَلَو تتبعنا على أَن الْأَسْمَاء هِيَ الْأَبْنِيَة المسموعة الْمَوْضُوعَة ليعرف بهَا المسميات لبلغ أَزِيد من ثلثمِائة مَوضِع أَفلا يستحي من يدْرِي هَذَا من كَلَام سِيبَوَيْهٍ اطلاقا لعلمه بِأَن مُرَاده لَا يخفى على أحد قَرَأَ من كِتَابه ورقتين ونعوذ بِاللَّه من قلَّة الْحيَاء وَأول سطر فِي كتاب سِيبَوَيْهٍ بعد الْبَسْمَلَة هَذَا بَاب علم مَا الْكمّ من الْعَرَبيَّة فالكلم اسْم وَفعل وحرف جَاءَ لِمَعْنى لَيْسَ باسم وَلَا فعل فالاسم رجل وَفرس فَهَذَا بَيَان جلي من سِيبَوَيْهٍ وَمن كل من تكلم فِي النَّحْو قبله وَبعده على أَن الْأَسْمَاء هِيَ فِي بعض الْكَلَام وان الِاسْم هُوَ كلمة من الْكَلم وَلَا خلاف بَين أحد لَهُ حس سليم فِي أَن المسمي لَيْسَ كلمة ثمَّ قَالَ بعد أسطر يسيرَة وَالرَّفْع والجر وَالنّصب والجزم بحروف الْإِعْرَاب وحروف الْإِعْرَاب الْأَسْمَاء المتمكنة وَالْأَفْعَال المضارعة لأسماء الفاعلين وَهَذَا مِنْهُ بَيَان لَا إِشْكَال فِيهِ أَن الْأَسْمَاء غير الفاعلين وَهِي الَّتِي تضارعها الْأَفْعَال الَّتِي فِي أوائلها الزَّوَائِد الْأَرْبَع وَمَا قَالَ قطّ من يَرْمِي بِالْحِجَارَةِ أَن الْأَفْعَال تضارع المسمين ثمَّ قَالَ وَالنّصب فِي الْأَسْمَاء رَأَيْت زيدا والجر مَرَرْت بزيد وَالرَّفْع هَذَا زيد وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء جزم لتمكنها وإلحاق التَّنْوِين وَهَذَا كُله بَيَان أَن الْأَسْمَاء هِيَ الْكَلِمَات الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة لَا المسمون بهَا وَلَو تتبع هَذَا فِي أَبْوَاب الْجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وَغَيرهَا لكثر جدا وَكَاد يفوت التَّحْصِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَسقط كل مَا شغب بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى وكل قَول سقط احتجاج أَهله وعري عَن برهَان فَهُوَ بَاطِل ثمَّ نَظرنَا فِيمَن احْتج بِهِ الْقَائِلُونَ أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى فوجدناهم يحتجون بقول الله تَعَالَى {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} قَالُوا وَالله عز وَجل وَاحِد والأسماء كَثِيرَة وَقد تَعَالَى الله عَن أَن يكون اثْنَيْنِ أَو أَكثر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد من أحصاها دخل الْجنَّة قَالُوا وَمن قَالَ أَن خالقه أَو معبوده تِسْعَة وَتسْعُونَ فَهُوَ شَرّ من النَّصَارَى الَّذين لم يَجْعَلُوهُ إِلَّا ثَلَاثَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ لَازم وَرَأَيْت لمُحَمد بن الطّيب الباقلاني ولمحمد بن الْحسن بن فورك الْأَصْبَهَانِيّ أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا اسْم وَاحِد فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا مُعَارضَة وَتَكْذيب لله عز وَجل وللقرآن ولرسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِجَمِيعِ العاملين ثمَّ عطفا فَقَالَا معنى قَول الله عز وَجل وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما إِنَّمَا هُوَ التَّسْمِيَة لَا الْأَسْمَاء(5/21)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَانَ هَذَا التَّقْسِيم أَدخل فِي الضلال من ذَلِك الْإِجْمَال وَيُقَال لَهُم فعلى قَوْلكُم هَذَا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن بقول لله التسميات الْحسنى فَقَالَ الْأَسْمَاء الْحسنى وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين تَسْمِيَة فَقَالَ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما عَن غلط وَخطأ قَالَ الله تَعَالَى ذَلِك وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم عَن عمد ليضل بذلك أهل الاسلام أم عَن جهل باللغة الَّتِي تنبهتما لَهَا أَنْتُمَا ولابد من أحد هَذِه الْوُجُوه ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا وَكلهَا كفر مُجَرّد وَلَا بُد لَهُم من أَحدهَا أَو ترك مَا قَالُوهُ من الْكَذِب على الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا ودعواهم فِي ذَلِك ظَاهر الْكَذِب بِلَا دَلِيل وَلَا يُرْضِي بِهَذَا لنَفسِهِ عَاقل
الِاسْم على الْمُسَمّى فَهِيَ شىء ثَالِث غير الِاسْم وَغير الْمُسَمّى فذات الْخَالِق تَعَالَى هِيَ الله الْمُسَمّى وَالتَّسْمِيَة هِيَ تحريكنا عضل الصَّدْر وَاللِّسَان عِنْد نطقنا بِهَذِهِ الْحُرُوف وَهِي غير الْحُرُوف لِأَن الْحُرُوف هِيَ الْهَوَاء المندفع بِالتَّحْرِيكِ فَهُوَ المحرك بِفَتْح الرَّاء وَالْإِنْسَان هُوَ المحرك بِكَسْر الرَّاء وَالْحَرَكَة هِيَ فعل المحرك فِي دفع المحرك وَهَذَا أَمر مَعْلُوم بالحس مشَاهد بِالضَّرُورَةِ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي جَمِيع اللُّغَات وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} وَهَذَا نَص لَا يحْتَمل تَأْوِيلا فِي أَن الِاسْم هُوَ الْيَاء والحاء وَالْيَاء وَالْألف وَلَو كَانَ الِاسْم هُوَ المسمي لما عقل أحد معنى قَوْله تَعَالَى لم تجْعَل لَهُ من قبل سميا وَلَا فهم ولكان فَارغًا حاشا لله من هَذَا وَلَا خلاف فِي أَن مَعْنَاهُ لم يعلق هَذَا الِاسْم على أحد قبله وَذكروا أَيْضا قَول الله عز وَجل عَن نَفسه هَل تعلم لَهُ سميا وَهَذَا نَص جلي على أَن أَسمَاء الله تَعَالَى الَّتِي اخْتصَّ بهَا لَا تقع على غَيره وَلَو كَانَ مَا يَدعُونَهُ لما عقل هَذَا اللَّفْظ أحد أَيْضا حاشا لله من هَذَا وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى مبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد وَهَذَا نَص على أَن الِاسْم هُوَ الْألف والحاء وَالْمِيم وَالدَّال إِذا اجْتمعت وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول الله عز وَجل وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ نبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين إِلَى قَوْله قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أنبأهم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ ألم أقل لكم الْآيَة وَهَذَا نَص جلي على أَن الْأَسْمَاء كلهَا غير المسميات لِأَن المسميات كَانَت أعيانا قَائِمَة وَذَوَات ثابته ترَاهَا الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا جهلت الْأَسْمَاء فَقَط الَّتِي علمهَا الله آدم وَعلمهَا آدم الْمَلَائِكَة وَذكروا قَول الله تَعَالَى قل ادعوا الله وَادعوا الرَّحْمَن أَيَّامًا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَهَذَا مَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ لِأَن لَفْظَة الله هِيَ غير لَفْظَة الرَّحْمَن بِلَا شكّ وَهِي بِنَصّ الْقُرْآن أَسمَاء الله تَعَالَى والمسمى وَاحِد لَا يتغاير بِلَا شكّ وَذكروا قَول الله عز وَجل {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} وَهَذَا بَيَان أَيْضا جلي مجمع عَلَيْهِ من أهل الْإِسْلَام أَن الَّذِي عِنْده التذكية فَهُوَ الْكَلِمَة الْمَجْمُوعَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة مثل الله والرحمن الرَّحِيم وَسَائِر أَسْمَائِهِ عز وَجل احْتَجُّوا من الْإِجْمَاع بِأَن جَمِيع أهل الْإِسْلَام لَا نحاشى مِنْهُم أحدا قد أَجمعُوا على القَوْل بِأَن من حلف باسم من أَسمَاء الله عز وَجل فَحنث فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَلَا خلاف فِي أَن ذَلِك لَازم فِيمَن قَالَ وَالله أَو الرَّحْمَن أَو الصَّمد أَو أَي اسْم من أَسمَاء الله عز وَجل حلف بهَا فَمَا أسخف عقولا يدْخل فِيهَا تخطئة مَا جَاءَ بِهِ الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أجمع عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام وَمَا أطبق عَلَيْهِ أهل الأَرْض قاطبة من أَن الِاسْم هُوَ الْكَلِمَة الْمَجْمُوعَة من الْحُرُوف الْمُقطعَة وتصويب الباقلاني وَابْن فورك فِي أَن ذَلِك لَيْسَ هُوَ الِاسْم وَإِنَّمَا هُوَ التَّسْمِيَة وَالْحَمْد لله الذى لم يجعلنا من أهل هَذِه الصَّنْعَة المرذولة وَلَا من هَذِه الْعِصَابَة المخذولة وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أرْسلت كلبك فَذكرت اسْم الله فَكل فصح أَن اللَّفْظ الْمَذْكُور هُوَ اسْم الله تَعَالَى وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ اسْما وَهِي احْمَد وَمُحَمّد وَالْعَاقِب والحاشر والماحي فيالله وَيَا للْمُسلمين أَيجوزُ أَن يظنّ ذُو مسنكة عقل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس ذَوَات تبَارك الَّذِي يخلق مَا لَا نعلم وَذكروا قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(5/22)
عَلَيْهِ وَسلم تسموا بأسمي وَلَا تكنوا بكنيتى فصح أَن الِاسْم هُوَ الْمِيم والحاء وَالْمِيم وَالدَّال بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَاحْتَجُّوا بقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ لَهَا عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كنت راضية عني قلت لَا وَرب مُحَمَّد وَإِذا كنت ساخطة قلت لَا وَرب إِبْرَاهِيم قَالَت أجل وَالله يَا رَسُول الله مَا أَهجر إِلَّا اسْمك فَلم يُنكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا ذَلِك القَوْل فصح أَن اسْمه غَيره بِلَا شكّ لِأَنَّهَا لم تهجر ذَاته وَإِنَّمَا هجرت اسْمه وَاحْتَجُّوا أَيْضا بقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عز وَجل عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وأصدق الْأَسْمَاء همام والْحَارث وروى أكذبها خَالِد وَمَالك وَهَذَا كُله يبين أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى فقد يُسمى عبد الله وَعبد الرَّحْمَن من يبغضه الله عز وَجل وَقد يُسمى من يكون كذابا الْحَارِث وهماما وَيُسمى الصَّادِق خَالِدا ومالكا فهم بِخِلَاف أسمائهم وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن قَالُوا قد اجْتمعت الْأُمَم كلهَا عل أَنه إِذا سُئِلَ الْمَرْء مَا اسْمك قَالَ فلَان وَإِذا قيل لَهُ كَيفَ سميت ابْنك وعيدك قَالَ سميته فلَانا فصح أَن تَسْمِيَته هِيَ اخْتِيَاره وإيقاعه ذَلِك الِاسْم على الْمُسَمّى وَأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَاحْتَجُّوا من طَرِيق النّظر بِأَن قَالُوا أَنْتُم تَقولُونَ أَن اسْم الله تَعَالَى هُوَ الله نَفسه ثمَّ لَا تبالون بِأَن تَقولُوا أَسمَاء الله تَعَالَى مُشْتَقَّة من صِفَاته فعليم مُشْتَقّ من علم وقدير مُشْتَقّ من قدرَة وَحي من حَيَاة فَإِذا اسْم الله هُوَ الله وَاسم الله مُشْتَقّ فَالله تَعَالَى على قَوْلكُم مُشْتَقّ وَهَذَا كفر بَارِد وَكَلَام سخيف وَلَا مخلص لَهُم مِنْهُ فَصحت الْبَرَاهِين الْمَذْكُورَة من الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع وَالْعقل واللغة والنحو على أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى بِلَا شكّ وَلَقَد أحسن أَحْمد بن جِدَار مَا شَاءَ أَن يحسن إِذْ يَقُول ... هَيْهَات يَا أُخْت آل بِمَا
غَلطت فِي الِاسْم والمسمى
لَو كَانَ هَذَا وَقيل سم
مَاتَ إِذا من يَقُول سما ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأَخْبرنِي أَبُو عبد الله السائح الْقطَّان أَنه شَاهد بَعضهم قد كتب الله فِي سحاة وَجعل يصلى إِلَيْهَا قَالَ فَقلت لَهُ مَا هَذَا قَالَ معبودي قَالَ فنفخت فِيهَا فطارت فَقلت لَهُ قد طَار معبودك قَالَ فضربني
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وموهوا فَقَالُوا فأسماء الله عز وَجل إِذا مخلوقة إِذْ هِيَ كَثِيرَة وَإِذ هى غير الله تَعَالَى قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كُنْتُم تعنون الْأَصْوَات الَّتِي هِيَ حُرُوف الهجاء والمداء الخطوط بِهِ فِي الفواطيس فَمَا يخْتَلف مسلمان فِي كل ذَلِك مَخْلُوق وَإِن كُنْتُم تُرِيدُونَ الْإِيهَام والتمويه بِإِطْلَاق الْخلق على الله تَعَالَى فَمن أطلق ذَلِك فَهُوَ كَافِر بل أَن أَشَارَ مشير إِلَى كتاب مَكْتُوب فِيهِ الله أَو بعض أَسمَاء الله تَعَالَى أَو إِلَى كَلَامه إِذْ قَالَ يَا الله أَو قَالَ بعض أَسْمَائِهِ عز وَجل فَقَالَ هَذَا مَخْلُوق أَو هَذَا لَيْسَ ربكُم أَو تكفرون بِهَذَا لما حل لمُسلم إِلَّا أَن يَقُول حاشا لله من أَن يكون مخلوقا بل هُوَ رَبِّي وخالقي أُؤْمِن بِهِ وَلَا أكفر بِهِ وَلَو قَالَ غير هَذَا لَكَانَ كَافِرًا حَلَال الدَّم لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يسْأَل عَن ذَات الْبَارِي تَعَالَى وَلَا عَن الَّذِي هُوَ رَبنَا عز وَجل وخالقنا وَالَّذِي هُوَ الْمُسَمّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاء وَلَا إِلَى الَّذِي يخبر عَنهُ وَلَا إِلَى الَّذِي يذكر إِلَّا بِذكر اسْمه وَلَا بُد فَلَمَّا كَانَ الْجَواب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة يموه أهل الْجَهْل بإيصال مَا لَا يجوز إِلَى ذَات الله تَعَالَى لم يجز أَن يُطلق الْجَواب فِي ذَلِك الْبَتَّةَ إِلَّا بتقسيم كَمَا ذكرنَا وَكَذَلِكَ لَو كتب إِنْسَان مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم أَو نطق بذلك ثمَّ قَالَ لنا هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَيْسَ رَسُول الله وتؤمنون بِهَذَا أَو تكفرون بِهِ لَكَانَ من قَالَ لَيْسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أكفر بِهِ كَافِرًا حَلَال الدَّم بِإِجْمَاع أهل الاسلام وَلَكِن نقُول بل هُوَ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نؤمن بِهِ وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي الصَّوْت المسموع والخط الْمَكْتُوب لَيْسَ هُوَ الله وَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا أَن أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبا زرْعَة عبيد الله بن عبد الْكَرِيم وَأَبا حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْحَنْظَلِي الراويين رَحِمهم الله تَعَالَى يَقُولُونَ أَن الِاسْم هُوَ المسمي قُلْنَا لَهُم هَؤُلَاءِ رَضِي الله عَنْهُم وَإِن كَانُوا من أهل السّنة وَمن أَئِمَّتنَا فليسوا معصومين من الْخَطَأ وَلَا أمرنَا الله عز وَجل بتقليدهم واتباعهم فِي كل مَا قَالُوهُ وَهَؤُلَاء رَحِمهم الله(5/23)
أَرَاهُم اخْتِيَار هَذَا القَوْل قَوْلهم الصَّحِيح أَن الْقُرْآن هُوَ المسموع من الْقُرْآن الْمَخْلُوط فِي الْمَصَاحِف نَفسه وَهَذَا قَول صَحِيح وَلَا يُوجب أَن يكون الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على مَا قد بَينا فِي هَذَا الْبَاب وَفِي بَاب الْكَلَام فِي الْقُرْآن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِنَّمَا الْعجب كُله مِمَّن قلب الْحق وَفَارق هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين حَيْثُ أَصَابُوا وحيت لَا يحل خلافهم وَتعلق بهم حَيْثُ وهموا من هَؤُلَاءِ المنتمين إِلَى الْأَشْعَرِيّ الْقَائِلين بِأَن الْقُرْآن لم ينزل قطّ إِلَيْنَا وَلَا سمعناه قطّ وَلَا نزل بِهِ جِبْرِيل على قلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن الَّذِي فِي الْمَصَاحِف هُوَ شَيْء آخر غير الْقُرْآن ثمَّ أتبعوا هَذِه الْكَفَرَة الصلعاء بِأَن قَالُوا إِن اسْم الله هُوَ الله وَأَنه لَيْسَ لله إِلَّا اسْم وَاحِد وكذبوا الله تَعَالَى وَرَسُوله فِي أَن لله أَسمَاء كَثِيرَة تِسْعَة وَتِسْعين ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن إنْسَانا يُشِير إِلَى كتاب مَكْتُوب فِيهِ الله فَقَالَ هَذَا لَيْسَ رَبِّي وَأَنا كَافِر بِهَذَا لَكَانَ كَافِرًا وَلَو قَالَ هَذَا المداد لَيْسَ رَبِّي وَأَنا كَافِر بربوبية هَذَا الصَّوْت لَكَانَ صَادِقا وَهَذَا لَا يُنكر وَإِنَّمَا نقف حَيْثُ وقفنا قَالَ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة الله لم يبعد من الاستخفاف فَلَو قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد لَكَانَ محسناً وَلَو أَن إنْسَانا يذكر من أَبَوَيْهِ الْعُضْو المستور باسمه لَكَانَ عاقاً أَتَى كَبِيرَة وَإِن كَانَ صَادِقا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي قضايا النُّجُوم وَالْكَلَام فِي هَل يعقل الْفلك والنجوم أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد زعم قوم أَن الْفلك والنجوم تعقل وَأَنَّهَا ترى وَتسمع وَلَا تذوق وَلَا تشم وَهَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَرْدُود عِنْد كل طَائِفَة بِأول الْعقل إِذْ لَيست أصح من دَعْوَى أُخْرَى تضادها وتعارضها وبرهان صِحَة الحكم بِأَن الْفلك والنجوم لَا تعقل أصلا هُوَ أَن حركتها أبدا على رُتْبَة وَاحِدَة لَا تتبدل عَنْهَا وَهَذِه صفة الجماد الْمُدبر الَّذِي لَا اخْتِيَار لَهُ فَقَالُوا الدَّلِيل على هَذِه أَن الْأَفْضَل لَا يخْتَار إِلَّا لأَفْضَل الْعَمَل فَقُلْنَا لَهُم وَمن أَيْن لكم بِأَن الْحَرَكَة أفضل من السّكُون الِاخْتِيَارِيّ لأننا وجدنَا الْحَرَكَة حركتين اختيارية واضطرارية وَوجدنَا السّكُون سكونين واضطرارياً فَلَا دَلِيل على أَن الْحَرَكَة الاختيارية أفضل من السّكُون الِاخْتِيَارِيّ ثمَّ من لكم بِأَن الْحَرَكَة الدورية أفضل من سَائِر الحركات يَمِينا ويسارا أوأمام أورواء ثمَّ من لكم بِأَن الْحَرَكَة من شَرق إِلَى غرب كَمَا يَتَحَرَّك الْفلك الْأَكْبَر أفضل من الْحَرَكَة من غرب إِلَى شَرق كَمَا تتحرك سَائِر الأفلاك وَجَمِيع الْكَوَاكِب فلاح أَن قَوْلهم مخرفة فَاسِدَة وَدَعوى كَاذِبَة مموهة وَقَالَ بَعضهم لما كُنَّا نَحن نعقل وَكَانَت الْكَوَاكِب تدبرنا كَانَت أولى بِالْعقلِ والحياة منا فَقُلْنَا هَاتَانِ دعوتان مجموعتان فِي نسق أَحدهمَا القَوْل بِأَنَّهَا تدبرنا فَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَة بِلَا برهَان على مَا ذكره بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالثَّانِي الحكم بِأَن من تدبرنا أَحَق بِالْعقلِ والحياة منا فقد وجدنَا التَّدْبِير يكون طبيعياً وَيكون اختيارياً فَلَو صَحَّ أَنَّهَا تدبرنا لَكَانَ تدبيراً طبيعياً كتدبير الْغذَاء لنا وكتدبير الْهَوَاء وَالْمَاء لنا وكل ذَلِك لَيْسَ حَيا وَلَا عَاقِلا بِالْمُشَاهَدَةِ وَقد أبطلنا الْآن أَن يكون تَدْبِير الْكَوَاكِب لنا اختيارياً بِمَا ذكرنَا من جريها على حَرَكَة وَاحِدَة ورتبة وَاحِدَة لَا تنقل عَنْهَا أصلا وَأما القَوْل بقضايا النُّجُوم فَإنَّا نقُول فِي ذَلِك قولا لائحاً ظَاهرا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما معرفَة فطعها فِي أفلاكها وآناء ذَلِك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها وَاخْتِلَاف مراكز أفلاكها فَعلم حسن صَحِيح رفيع يشرف بِهِ النَّاظر فِيهِ على عَظِيم قدرَة الله عز وَجل وعَلى يَقِين ناثرة وصنعته واختراعه تَعَالَى للْعَالم بِمَا فِيهِ وَفِيه الَّذِي يضْطَر كل ذَلِك إِلَى الْإِقْرَار بالخالق وَلَا يَسْتَغْنِي عَن ذَلِك فِي معرفَة الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة وينتج من هَذَا معرفَة رُؤْيا الْأَهِلّة لغَرَض الصَّوْم وَالْفطر وَمَعْرِفَة الكسوفين برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق وَقَالَ تَعَالَى وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم لَا الشَّمْس يَنْبَغِي(5/24)
لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون وَقَالَ تَعَالَى وَالسَّمَاء ذَات البروج وَقَالَ تَعَالَى لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب وَهَذَا هُوَ نفس مَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما الْقَضَاء فالقطع بِهِ خطأ لما نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأهل الْقَضَاء ينقسمون قسمَيْنِ أَحدهمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا والفلك عَاقِلَة مُمَيزَة فاعلة مُدبرَة دون الله تَعَالَى أَو مَعَه وَأَنَّهَا لم تزل فَهَذِهِ الطَّائِفَة كفار مشركون حَلَال دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ بِإِجْمَاع الْأمة وَهَؤُلَاء عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول أَن الله تَعَالَى قَالَ أصبح من عبَادي كَافِر بِي مُؤمن بالكواكب وَفَسرهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه الْقَائِل فطرنا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا وَأما من قَالَ بِأَنَّهَا فِي المدن الَّتِي يُمكنهُم فِيهَا دَعْوَى أَن بناءها كَانَ فِي طالع كَذَا وَنَصه كَذَا لَكِن فِي الأقاليم وَالْقطع من الأَرْض الَّتِي لم يتَقَدَّم كَون بَعْضهَا كَون بعض كذبهمْ فِيمَا عَلَيْهِ بنوا قضاياهم فِي النُّجُوم وَكَذَلِكَ قسمتهم أَعْضَاء الْجِسْم والفلزات على الدراري أَيْضا وبرهان سادس أننا نجد نوعا وأنواعاً من أَنْوَاع الْحَيَوَان قد فَشَا فِيهَا الذّبْح فَلَا تكَاد يَمُوت شَيْء مِنْهَا إِلَّا مذبوحاً كالدجاج وَالْحمام والضان والمعز وَالْبَقر الَّتِي لَا يَمُوت مِنْهَا حتف أَنفه إِلَّا فِي غَايَة الشذوذ ونوعاً وأنواعاً لَا تكَاد تَمُوت إِلَّا حتف أنوفها كالحمير وَالْبِغَال وَكثير من السبَاع وبالضرورة يدْرِي كل أحد أَنَّهَا قد تستوي أَوْقَات وِلَادَتهَا فَبَطل قضاؤهم بِمَا يُوجب الْمَوْت الطبيعي وَبِمَا يُوجد الكرهى لِاسْتِوَاء جَمِيعهَا فِي الولادات واختلافها فِي أَنْوَاع المنايا وبرهان سَابِع وَهُوَ أننا نرى الخصافا شَيْئا فِي سكان الاقليم الأول وسكان الاقليم السَّابِع وَلَا سَبِيل إِلَى وجوده الْبَتَّةَ فِي سكان سَائِر الأقاليم وَلَا شكّ وَلَا مرية فِي استوائهم فِي أَوْقَات الْولادَة فَبَطل يَقِينا قضاؤهم بِمَا يُوجب الخصا وَبِمَا لَا يُوجِبهُ بِمَا ذكرنَا من تساويهم فِي أَوْقَات التكون والولادة وَاخْتِلَافهمْ فِي الحكم وَيَكْفِي من هَذَا أَن كَلَامهم فِي ذَلِك دَعْوَى بِلَا برهَان وَأما كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل مَعَ اخْتلَافهمْ فِيمَا يُوجِبهُ الحكم عِنْدهم وَالْحق لَا يكون فِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين وَأَيْضًا فَإِن الْمُشَاهدَة توجب أننا قادرون على مُخَالفَة أحكامهم مَتى أخبرونا بهَا فَلَو كَانَت حَقًا وحتما مَا قدر أحد على خلَافهَا وَإِذا أمكن خلَافهَا فَلَيْسَتْ حَقًا فصح أَنَّهَا تحرص كالطرق بالحصا والصرب بالحب وَالنَّظَر فِي الْكَتف والزجر والطيرة وَسَائِر مَا يَدعِي أَهله فِيهِ تَقْدِيم الْمعرفَة بِلَا شكّ وَمَا يخص مَا شَاهَدْنَاهُ وَمَا صَحَّ عندنَا مِمَّا حَقَّقَهُ حذاقهم من التَّعْدِيل فِي الموالد والمناجات وتحاول السنين ثمَّ فضوا فِيهِ فاخطؤا وَمَا نفع أَصَابَتْهُم من خطئهم إِلَّا فِي جُزْء يسير فصح أَنه يحرص لَا حَقِيقَة فِيهِ لَا سِيمَا دَعوَاهُم فِي إِخْرَاج الضَّمِير فَهُوَ كُله كذب لمن تَأمله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَكَذَلِكَ قَوْلهم فِي القرانات أَيْضا وَلَو أمكن تَحْقِيق تِلْكَ التجارب فِي كل مَا ذكرنَا لصدقناها وَمَا يبدوا مِنْهَا وَلم يكن ذَلِك علم غيب لِأَن كل مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيل من خطّ أَو كنف أَو زجرا وَتَطير فَلَيْسَ غيباً لَو صَحَّ وَجه كل ذَلِك وَإِنَّمَا الْغَيْب وَعلمه هُوَ أَن يخبر الْمَرْء من الكائنات دون صناعَة أصلا من شَيْء مِمَّا ذكرنَا وَلَا من غَيره فَيُصِيب الجزئي والكلي وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لنَبِيّ وَهُوَ معْجزَة حينئذٍ وَأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ هَذَا من أَعْلَامه وآياته وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي خلق الله تَعَالَى للشَّيْء أهوَ الْمَخْلُوق نَفسه أم غَيره وَهل فعل الله من دون الله تَعَالَى هُوَ الْمَفْعُول أم غَيره
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن خلق الشَّيْء الْمَخْلُوق وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقول الله عز وَجل {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لِأَن الْإِشْهَاد هَا هُنَا هُوَ الْإِحْضَار بالمعرفة وَهَذَا حق لِأَن الله تَعَالَى لم يحضرنا عارفين ابْتِدَاء خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَابْتِدَاء أَنْفُسنَا وَوجدنَا من قَالَ أَن خلق الشَّيْء هُوَ الشَّيْء نَفسه بقول الله تَعَالَى هَذَا خلق الله وَهَذِه إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْمَخْلُوقَات فقد سمي الله تَعَالَى جَمِيع(5/25)
الْمَخْلُوقَات كلهَا خلقا لَهُ وَهَذَا برهَان لَا يُعَارض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ نسْأَل من قَالَ أَن خلق الشَّيْء هُوَ غير الشَّيْء فَتَقول لَهُ أخبرنَا عَن خلق الله تَعَالَى لما خلق أم مَخْلُوق هُوَ أَيْضا أَن غير مَخْلُوق فَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ فَإِن قَالُوا هُوَ غير مَخْلُوق أوجبوا بِإِزَاءِ كل مَخْلُوق شَيْئا مَوْجُودا غير مَخْلُوق وَهَذَا مضاهاة لقَوْل الدهرية والبرهان قد قَامَ بِخِلَاف هَذَا وَقَالَ تَعَالَى {وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا} وَإِن قَالُوا بل خلقه تَعَالَى لما خلق مَخْلُوق قُلْنَا فخلقه تَعَالَى لذَلِك الْخلق أبخلق أم بِغَيْر خلق فَإِن قَالُوا بِغَيْر خلق قيل لَهُم من أَيْن قُلْتُمْ أَن خلقه للأشياء بمخلق هُوَ غير الْمَخْلُوق وقلتم فِي خلقه لذَلِك الْخلق أَنه بِغَيْر خلق وَهَذَا تَخْلِيط وَإِن قَالُوا بل خلقه بِخلق سألناهم الْخلق هُوَ أم بِخلق هُوَ غَيره وَهَكَذَا أبدا فَإِن وقفُوا فِي شَيْء من ذَلِك فَقَالُوا خلقه هُوَ هُوَ سألناهم عَن الْفرق بَين مَا قَالُوا أَن خلقه هُوَ غَيره وَبَين مَا قَالُوا أَن خلقه هُوَ هُوَ وَإِن تماد وأخرجوا إِلَى وجود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا وَهَذَا محَال مقنع مُتَّصِلا وَقد قطع بِهَذَا معمر بن عَمْرو الْعَطَّار أحد رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة وَسَنذكر كَلَامه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى مُتَّصِلا بِهَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأَيْضًا فَإِن الْجَمِيع مطبقون على أَن الله عز وَجل خلق مَا خلق بِلَا معاياة فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد صَحَّ يَقِينا أَنه لَا وَاسِطَة بَين الله تَعَالَى وَبَين مَا خلق وَلَا ثَالِث فِي الْوُجُود غير الْخَالِق والمخلوق وَخلق الله تَعَالَى مَا خلق حق مَوْجُود وَهُوَ بِلَا شكّ مَخْلُوق وَهُوَ بِلَا شكّ لَيْسَ هُوَ الْخَالِق فَهُوَ الْمَخْلُوق نَفسه بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ إِذْ لَا ثَالِث هَا هُنَا أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل من دون الله تَعَالَى فعله هُوَ مَفْعُوله نَفسه لَا غير لِأَنَّهُ لَا يفعل أحد دون الله تَعَالَى إِلَّا حَرَكَة أَو سكوناً أَو تَأْثِيرا أَو معرفَة أَو فكرة أَو إِرَادَة وَلَا مفعول لشَيْء دون الله تَعَالَى إِلَّا مَا ذكرنَا فَهِيَ مفعولات الفاعلين وَهِي أَفعَال الفاعلين وَلَا فرق وَمَا عدا هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ مفعول فِيهِ كالمضروب والمقتول أَو مفعول بِهِ كالسوط والإبرة وَمَا أشبه ذَلِك أَو مفعول لَهُ كالمطاع والمخدوم أَو مفعول من أَجله كالمكسوب والمحلوب فَهَذِهِ أوجه المفعولات
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما سَائِر أَفعَال الله تَعَالَى فبخلاف مَا قُلْنَا فِي الْخلق بل هِيَ غير الْمَفْعُول فِيهِ أَو لَهُ أَو بِهِ أَو من أَجله وَذَلِكَ كالأحياء فَهُوَ غير الْمحيا بِلَا شكّ وَكِلَاهُمَا مَخْلُوق لله تَعَالَى وخلقه تَعَالَى لكل ذَلِك هُوَ الْمَخْلُوق نَفسه كَمَا قُلْنَا وكالإماته فَهِيَ غير الْمَمَات وَلَو كَانَ غير هَذَا وَكَانَ الْأَحْيَاء هُوَ الْمحيا والإماتة هِيَ الْمَمَات وبيقين نَدْرِي أَن الْمحيا هُوَ الْمَمَات نَفسه لوَجَبَ أَن يكون الْأَحْيَاء هُوَ الإماتة وَهَذَا محَال وكالا بَقَاء فَهُوَ غير المبقي للبرهان الَّذِي ذكرنَا وبيقين نَدْرِي أَن الشَّيْء غير أعراضه الَّتِي هِيَ قَائِمَة بِهِ وقتا وفانية عَنهُ تَارَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْبَقَاء والفناء والمعاني الَّتِي يدعيها معمر
وَالْأَحْوَال الَّتِي تدعيها الأشعرية وَهل الْمَعْدُوم شَيْء أم لَيْسَ شَيْئا وَمَسْأَلَة الْأَجْزَاء وَهل بتجدد خلق الله للأشياء أم لَا يَتَجَدَّد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب قوم إِلَى أَن الْبَقَاء والفناء صفتان للْبَاقِي والفاني لَا هما الْبَاقِي وَلَا الفاني وَلَا هما غير الْبَاقِي والفاني
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول فِي غَايَة الْفساد لِأَن الْقَضِيَّة الثَّانِيَة بنقيض الأولى وَالْأولَى بنقيض الثَّانِيَة لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَيست هِيَ فقد أوجب أَنَّهَا غَيره وَإِذا قَالَ لَيست غَيره فقد أوجب أَنه هُوَ وَهَذَا تنَاقض ظَاهر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا فرق بَين قَول الْقَائِلين لَيْسَ هُوَ هُوَ وَلَا ين قَوْله هُوَ هُوَ وَهُوَ غَيره وَالْمعْنَى فِي تِلْكَ القضيتين سَوَاء وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْبَقَاء لَيْسَ هُوَ الْبَاقِي وَلَا هُوَ غَيره والفناء لَيْسَ هُوَ الفاني وَلَا هُوَ غَيره فالباقي هُوَ الفاني نَفسه وَالْبَاقِي لَيْسَ هُوَ الْبَاقِي وَلَا غَيره وَهَذَا مزِيد من الْجُنُون وَمن التَّنَاقُض وَذهب معمر إِلَى أَن الفناء صفة قَائِمَة بِغَيْر الفاني(5/26)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تخبيط لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيلا أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل والحقيقة فِي ذَلِك ظَاهِرَة وَهِي أَن الْبَقَاء هُوَ وجود الشَّيْء وَكَونه ثَابتا قَائِما مُدَّة زمَان مَا فَإذْ هُوَ قَائِما كَذَلِك فَهُوَ صفة مَوْجُودَة فِي الْبَاقِي مَحْمُولَة فِيهِ قَائِمَة مَوْجُودَة بِوُجُودِهِ فانية بفنائه وَأما الفناء فَهُوَ عدم الشَّيْء وبطلانه جملَة وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا أصلا والفناء الْمَذْكُور لَيْسَ مَوْجُودا الْبَتَّةَ فِي شَيْء من الْجَوَاهِر وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْعرض فَقَط كحمرة الخجل إِذا ذهبت عبر عَن الْمَعْنى المُرَاد بالإخبار عَن ذهابها بِلَفْظَة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضَا وَمَا أشبه ذَلِك وَلَو شَاءَ الله عز وَجل أَن يعْدم الْجَوَاهِر لقدر على ذَلِك وَلكنه لم يُوجد ذَلِك إِلَى الْآن وَلَا جَاءَ بِهِ نَص فيقف عِنْده فالفناء عدم كَمَا قُلْنَا
الْكَلَام فِي الْمَعْدُوم أهوَ شَيْء أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد اخْتلف النَّاس فِي الْمَعْدُوم أهوَ شَيْء أم لإقفال أهل السّنة وَطَوَائِف من المرجئة كالأشعرية وَغَيرهم لَيْسَ شَيْئا وَبِه يَقُول هِشَام بن عَمْرو الغوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَقَالَ سَائِر الْمُعْتَزلَة الْمَعْدُوم شَيْء وَقَالَ عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْخياط أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة أَن المعدم جسم فِي حَال عَدمه إِلَّا انه لَيْسَ متحركاً وَلَا سَاكِنا وَلَا مخلوقاً وَلَا مُحدثا فِي حَال عَدمه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج من قَالَ بِأَن الْمَعْدُوم شَيْء بَان قَالُوا قَالَ عز وَجل إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم فَقَالُوا فقد أخبر عز وَجل بِأَنَّهَا شَيْء وَهِي مَعْدُومَة وَمن الدَّلِيل على أَن الْمَعْدُوم شَيْء أَنه يخبر عَنهُ ويوصف ويتمنى وَمن الْمحَال أَن يكون مَا هَذِه صفته لَيْسَ شَيْئا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَول الله عز وَجل إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم فَإِن هَذِه الْقِصَّة مَوْصُولَة بقوله تَعَالَى يَوْم ترونها تذهل كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت وتضع كل ذَات حمل حملهَا وتري النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى فَإِنَّمَا تمّ الْكَلَام عِنْد قَوْله يَوْم ترونها فصح أَن زَلْزَلَة السَّاعَة يَوْم ترونها شَيْء عَظِيم وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا وَلم يقل تَعَالَى قطّ أَنَّهَا الْآن شَيْء عَظِيم ثمَّ أخبر تَعَالَى بِمَا يكون يَوْمئِذٍ من هول المرضعات وَوضع الْأَحْمَال وَكَون النَّاس سكارى من غير خمر فَبَطل تعلقهم بِالْآيَةِ وَمَا نعلم أَنهم شغبوا بِشَيْء غَيرهَا وَأما قَوْلهم أَن الْمَعْدُوم يخبر عَنهُ ويوصف ويتمنى وَيُسمى فجهل شَدِيد وَظن فَاسد وَذَلِكَ أَن قَوْلنَا فِي شَيْء يذكر أَنه مَعْدُوم ويخبر عَنهُ أَنه مَعْدُوم ويتمنى بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَن يذكر اسْم مَا فَذَلِك الِاسْم مَوْجُود بِلَا شكّ يعرف ذَلِك بالحس كَقَوْلِنَا العنقاء وَابْن آوى وحبين وعرس ونبوة مُسَيْلمَة وَمَا أشبه ذَلِك ثمَّ كل اسْم ينْطق بِهِ وَيُوجد ملفوظاً أَو مَكْتُوبًا فَإِنَّهُ ضَرُورَة لَا بُد لَهُ من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون لَهُ مُسَمّى وَإِمَّا أَن يكون لَيْسَ لَهُ مُسَمّى فَإِن كَانَ لَهُ مُسَمّى فَهُوَ مَوْجُود وَهُوَ شَيْء حِينَئِذٍ وَإِن كَانَ لَيْسَ لَهُ مُسَمّى فأخبارنا بِالْعدمِ وتمنينا للْمَرِيض الصِّحَّة إِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن ذَلِك الِاسْم الْمَوْجُود أَنه لَيْسَ لَهُ مُسَمّى وَلَا تَحْتَهُ شَيْء وتمن منا لِأَن يكون تَحْتَهُ مُسَمّى فَهَكَذَا هُوَ الْأَمر لَا كَمَا ظَنّه أهل الْجَهْل فصح أَن الْمَعْدُوم لَا يخبر عَنهُ وَلَا يتَمَنَّى ونسألهم عَمَّن قَالَ لَيْت لي ثوبا أَحْمَر وَغُلَامًا أسود أخبرونا هَل الثَّوْب المتمنى بِهِ عنْدكُمْ أَحْمَر أم لَا فَإِن أثبتوا معنى وَهُوَ الثَّوْب أثبتوا عرضا مَحْمُولا فِيهِ وَهُوَ الْحمرَة فَوَجَبَ أَن الْمَعْدُوم يحمل الْأَعْرَاض وَإِن قَالُوا لم يتمن شَيْئا أصلا صدقُوا وَصَحَّ أَن الْمَعْدُوم لَا يتَمَنَّى لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئا وَلَا فرق بَين قَول الْقَائِل تمنيت لَا شَيْء وَبَين قَوْله لم أتمن شَيْئا بل هما متلائمان بِمَعْنى وَاحِد وَهَذَا أَيْضا يخرج على وَجه آخر وَهُوَ أَنه لَا يتَمَنَّى الْأَشْيَاء مَوْجُود فِي الْعَالم كَثوب مَوْجُود اَوْ غُلَام مَوْجُود واما من اخْرُج لَفْظَة التَّمَنِّي لما لَيْسَ فِي الْعَالم فَلم يتمن شَيْئا وَأما قَوْلهم بِوَصْف فطريق عجب جدا لِأَن معنى قَول الْقَائِل يُوصف إِخْبَار بِأَن لَهُ صفة مَحْمُولَة فِيهِ مَوْجُودَة بِهِ فليت شعري كَيفَ يحمل الْمَعْدُوم من الصِّفَات من الْحمرَة والخضرة وَالْقُوَّة والطول وَالْعرض إِن هَذَا لعجيب جدا فَظهر فَسَاد مَا موهوا بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(5/27)