بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ
الْحَمد لله كثيرا وَصلى الله على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله خَاتم أنبيائه بكرَة وَأَصِيلا أما بعد فَإِن كثيرا من النَّاس كتبُوا فِي افْتِرَاق النَّاس فِي دياناتهم ومقالاتهم كتبا كَثِيرَة جدا فبعض أَطَالَ وأسهب وَأكْثر وهجر وَاسْتعْمل الأغاليط والشغب فَكَانَ ذَلِك شاغلاً عَن الْفَهم قَاطعا دون الْعلم وَبَعض أحذف وَقصر وقلل وَاخْتصرَ وَاضْرِبْ عَن كثير من قوي معارضات أَصْحَاب المقالات فَكَانَ فِي ذَلِك غير منصف لنَفسِهِ فِي أَن يرضى لَهَا بِالْغبنِ فِي الْإِبَانَة وظالماً لخصمه فِي أَن لم يوفه حق اعتراضه وباخساً حق من قَرَأَ كِتَابه إِذا لم يغنه عَن غَيره وَكلهمْ إِلَّا نحلة الْقسم عقد كَلَامه تعقيداً يتَعَذَّر فهمه على كثير من أهل الْفَهم وَحلق على الْمعَانِي من بعد حَتَّى صَار ينسي آخر كَلَامه أَوله وَأكْثر هَذَا مِنْهُم ستائر دون فَسَاد معانيهم فَكَانَ هَذَا مِنْهُم غير مَحْمُود فِي عاجله وآجله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فجمعنا كتَابنَا هَذَا مَعَ استخارتنا الله عز وَجل فِي جمعه وقصدنا بِهِ قصد إِيرَاد الْبَرَاهِين المنتجة عَن الْمُقدمَات الحسية أَو الراجعة إِلَى الْحس من قرب أَو من بعد على حسب قيام الْبَرَاهِين الَّتِي لَا تخون أصلا مخرجها إِلَى مَا أخرجت لَهُ وَألا يَصح مِنْهُ إِلَّا مَا صححت الْبَرَاهِين الْمَذْكُورَة فَقَط إِذْ لَيْسَ الْحق إِلَّا ذَلِك وبالغنا فِي بَيَان اللَّفْظ وَترك التعقيد راجين من الله تَعَالَى على ذَلِك الْأجر الجزيل وَهُوَ تَعَالَى ولي من تولاه ومعطي من استعطاه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق رُؤْس الْفرق الْمُخَالفَة الدّين الْإِسْلَام سِتّ ثمَّ تتفرق كل فرقة من هَذِه الْفرق السِّت على فرق وسأذكر جماهيرها إِن شَاءَ الله عز وَجل فَالْفرق السِّت الَّتِي ذَكرنَاهَا على مراتبها فِي الْبعد عَنَّا أَولهَا مبطلوا الْحَقَائِق وهم الَّذين يسميهم المتكلمون السوفسطائية ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق إِلَّا أَنهم قَالُوا إِن الْعَالم لم يزل وَأَنه(1/9)
لَا مُحدث لَهُ وَلَا مُدبر ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَإِن الْعَالم لم يزل وَإِن لَهُ مُدبرا لم يزل ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق فبعضهم قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَبَعْضهمْ قَالَ هُوَ مُحدث وَاتَّفَقُوا على أَن لَهُ مُدبرين لم يزَالُوا وَأَنَّهُمْ أَكثر من وَاحِد وَاخْتلفُوا فِي عَددهمْ ثمَّ الْقَائِلين بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَإِن الْعَالم مُحدث وَأَن لَهُ خَالِقًا وَاحِدًا لم يزل وأبطلوا النبوات كلهَا ثمَّ الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات الْحَقَائِق وَأَن الْعَالم مُحدث وَأَن لَهُ خَالِقًا وَاحِدًا لم يزل وأثبتوا النبوات إِلَّا أَنَّهَا خالفوا فِي بَعْضهَا فأقروا بِبَعْض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأنكروا بَعضهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد تحدث فِي خلال هَذِه الْأَقْوَال آراء هِيَ منتجة من هَذِه الرؤوس مركبة مِنْهَا فَمِنْهَا مَا قد قَالَت بِهِ طوائف من النَّاس مثل مَا ذهبت إِلَيْهِ فرق من الْأُمَم من القَوْل بتناسخ الْأَرْوَاح أَو القَوْل بتواتر النبوات فِي كل وَقت أَو إِن فِي كل نوع من أَنْوَاع الْحَيَوَان أَنْبيَاء وَمثل مَا قد ذهب إِلَيْهِ جمَاعَة الْقَائِلين بِهِ وناظرتهم عَلَيْهِ من القَوْل بِأَن الْعَالم مُحدث وَإِن لَهُ مُدبرا لم يزل إِلَّا أَن النَّفس وَالْمَكَان الْمُطلق وَهُوَ الْخَلَاء وَالزَّمَان الْمُطلق لم يزل مَعَه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا قَول قد ناظرني عَلَيْهِ عبد الله بن خلف ابْن مَرْوَان الْأنْصَارِيّ وَعبد الله بن مُحَمَّد السّلمِيّ الْكَاتِب وَمُحَمّد بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن الأصبحي الطَّبِيب وَهُوَ قَول يُؤثر عَن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب وَلنَا عَلَيْهِ فِيهِ كتاب مُفْرد فِي نقض كِتَابه فِي ذَلِك وَهُوَ الْمَعْرُوف بِالْعلمِ الإلهي وَمثل مَا ذهب إِلَيْهِ قوم من أَن الْفلك لم يزل وَأَنه غير الله تَعَالَى وَأَنه هُوَ الْمُدبر للْعَالم الْفَاعِل لَهُ إجلالاً بزعمهم لله عَن أَن يُوصف بِأَنَّهُ فعل شَيْئا من الْأَشْيَاء وَقد كنى بَعضهم عَن ذَلِك بالعرش
وَمِنْهَا مَا لَا نعلم أَن أحدا قَالَ بِهِ إِلَّا أَنه مِمَّا لَا يُؤمن أَن يَقُول بِهِ قَائِل من الْمُخَالفين عِنْد تضييق الْحجَج عَلَيْهِم فليجئون إِلَيْهَا فَلَا بُد إِن شَاءَ الله تَعَالَى من ذكر مَا يَقْتَضِيهِ مساق الْكَلَام مِنْهَا وَذَلِكَ مثل القَوْل بِأَن الْعَالم مُحدث وَلَا مُحدث لَهُ فَلَا بُد بحول الله تَعَالَى من إِثْبَات الْمُحدث بعد الْكَلَام فِي إِثْبَات الْحُدُوث وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق والعون لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
بَاب مُخْتَصر جَامع فِي مَاهِيَّة الْبَرَاهِين الجامعة الموصلة إِلَى معرفَة الْحق فِي كل مَا اخْتلف فِيهِ النَّاس وَكَيْفِيَّة إِقَامَتهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا بَاب قد أحكماه فِي كتَابنَا الموسوم(1/10)
بالتقريب فِي حُدُود الْكَلَام وتقصيناه هُنَالك غَايَة التَّقَصِّي وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِلَّا أننا نذْكر هَاهُنَا جملَة كَافِيَة فِيهِ لتَكون مُقَدّمَة لما يَأْتِي بعده مِمَّا اخْتلف النَّاس فِيهِ يرجع إِلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
إِن الْإِنْسَان يخرج إِلَى هَذَا الْعَالم وَنَفسه قد ذهب ذكرهَا جملَة فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك ذاكرة أَولا ذكر لَهَا الْبَتَّةَ فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أَنَّهَا مزاج عرض إِلَّا أَنه قد حصل أَنه لَا ذكر للطفل حِين وِلَادَته وَلَا تَمْيِيز إِلَّا مَا لسَائِر الْحَيَوَان من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية فَقَط فتراه يقبض رجلَيْهِ ويمدها ويغلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إِذا أحس الْبرد أَو الْحر أَو الْجُوع وَإِذا ضرب أَو قرص وَله سوى ذَلِك مِمَّا يُشَارِكهُ فِيهِ الْحَيَوَان والنوامي مِمَّا لَيْسَ حَيَوَانا من طلب الْغذَاء لبَقَاء جِسْمه على مَا هُوَ عَلَيْهِ ولنمائه فَيَأْخُذ الثدي ويميزه بطبعه من سَائِر الْأَعْضَاء بفمه دون سَائِر أَعْضَائِهِ كَمَا تَأْخُذ عروق الشّجر والنبات رطوبات الأَرْض وَالْمَاء لبَقَاء أجسامها على مَا هِيَ عَلَيْهِ ولنمائها
فَإِذا قويت النَّفس على قَول من يَقُول أَنَّهَا مزاج أَو أَنَّهَا حدثت حِينَئِذٍ أَو أخذت يعاودها ذكرهَا وتمييزها فِي قَول من يَقُول أَنَّهَا كَانَت ذاكرة قبل ذَلِك وَأَنَّهَا كالمفيق من مرض فَأول مَا يحدث لَهَا من التَّمْيِيز الَّذِي ينْفَرد بِهِ النَّاطِق من الْحَيَوَان فهم مَا أدْركْت بحواسها الْخمس كعلمها أَن الرَّائِحَة الطّيبَة مَقْبُولَة من طبعها والرائحة الرَّديئَة منافرة لطبعها وكعلمها أَن الْأَحْمَر مُخَالف للأخضر والأصفر والأبيض وَالْأسود
وكالفرق بَين الخشن والأملس والمكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفيء وكالفرق بَين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف وكالفرق بَين الصَّوْت الحاد والغليظ وَالرَّقِيق والمطرب والمفزع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ إدراكات الْحَواس لمحسوساتها والإدراك السَّادِس علمهَا بالبديهيات
فَمن ذَلِك علمهَا بِأَن الْجُزْء أقل من الْكل فَإِن الصَّبِي الصَّغِير فِي أول تَمْيِيزه إِذا أَعْطيته تمرتين بَكَى وَإِذا زِدْته ثَالِثَة سر وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن الْكل(1/11)
أَكثر من الْجُزْء وَإِن كَانَ لَا يتَنَبَّه لتحديد مَا يعرف من ذَلِك وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يجْتَمع المتضادان فَإنَّك إِذا وقفته قسراً بَكَى وَنزع إِلَى الْقعُود علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون قَائِما قَاعِدا مَعًا
وَمن ذَلِك علمه بِأَن لَا يكون جسم وَاحِد فِي مكانين فَإِنَّهُ إِذا أَرَادَ الذّهاب إِلَى مَكَان مَا فأمسكته قسراً بَكَى وَقَالَ كلَاما مَعْنَاهُ دَعْنِي أذهب علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون فِي الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يذهب إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَكَان وَاحِد
وَمن ذَلِك علمه بِأَنَّهُ لَا يكون الجسمان فِي مَكَان وَاحِد فَإنَّك ترَاهُ يُنَازع على الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ علما مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسعهُ ذَلِك الْمَكَان مَعَ مَا فِيهِ فَيدْفَع من فِي ذَلِك الْمَكَان الَّذِي يُرِيد أَن يقْعد فِيهِ إِذا يعلم أَنه مَا دَامَ فِي الْمَكَان مَا يشْغلهُ فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ وَهُوَ فِيهِ
وَإِذا قلت لَهُ ناولني مَا فِي هَذَا الْحَائِط وَكَانَ لَا يُدْرِكهُ قَالَ لست أدْركهُ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن الطَّوِيل زَائِد على مِقْدَار مَا هُوَ أقصر مِنْهُ وتراه يمشي إِلَى الشَّيْء الَّذِي يُرِيد ليصل إِلَيْهِ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَن ذَا النِّهَايَة يحصر وَيقطع بالعدو وَإِن لم يحسن الْعبارَة بتحديد مَا يدْرِي من ذَلِك
وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يعلم الْغَيْب أحد وَذَلِكَ أَنَّك إِذا سَأَلته عَن شيءٍ لَا يعرفهُ أنكر ذَلِك وَقَالَ لَا أَدْرِي
وَمِنْهَا فرقة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَإِنَّهُ إِذا أخبر بِخَير تَجدهُ فِي بعض الْأَوْقَات لَا يصدقهُ حَتَّى إِذا تظاهر عِنْده بمخبر آخر وَآخر صدقه وَسكن إِلَى ذَلِك
وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يكون شيءٌ إِلَّا فِي زمَان فَإنَّك إِذا ذكرت لَهُ أمرا مَا قَالَ مَتى كَانَ وَإِذا قلت لَهُ لم تفعل كَذَا وَكَذَا قَالَ مَا كنت أَفعلهُ وَهَذَا علم مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم إِلَّا فِي زمَان
وَيعرف أَن للأشياء طبائع وماهية تقف عِنْدهَا وَلَا تجاوزها فتراه إِذا رأى شَيْئا لَا يعرفهُ قَالَ أَي شَيْء هَذَا فَإِذا شرح لَهُ سكت وَمِنْهَا علمه بِأَنَّهُ لَا يكون فعل إِلَّا لفاعل فَإِنَّهُ إِذا رأى شَيْئا قَالَ من عمل هَذَا وَلَا يقنع الْبَتَّةَ بِأَنَّهُ الْعَمَل دون عَامل وَإِذا رأى بيد آخر شَيْئا قَالَ من أَعْطَاك هَذَا وَمِنْهَا مَعْرفَته بِأَن فِي الْخَبَر صدقا وكذباً فتراه يكذب بعض مَا يخبر بِهِ وَيصدق بعضه ويتوقف فِي بعضه هَذَا كُله مشَاهد من جَمِيع النَّاس فِي مبدأ نشأتهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ أَوَائِل الْعقل الَّتِي لَا يخْتَلف فِيهَا ذُو عقل وَهَا هُنَا أَيْضا أَشْيَاء غير مَا ذكرنَا إِذا فتشت وجدت وميزها كل ذِي عقل من نَفسه وَمن غَيره وَلَيْسَ يدْرِي أحد كَيفَ وَقع الْعلم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء كلهَا بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يشك ذُو تَمْيِيز صَحِيح فِي أَن هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا صَحِيحَة لَا امتراء فِيهَا وَإِنَّمَا يشك فِيهَا بعد صِحَة علمه بهَا من دخلت عقله آفَة وَفَسَد تَمْيِيزه أَو مَال إِلَى بعض الآراء الْفَاسِدَة فَكَانَ ذَلِك أَيْضا آفَة دخلت على تَمْيِيزه
كالآفة الدَّاخِلَة على من بِهِ هيجان الصَّفْرَاء فيجد الْعَسَل مرا
وَمن فِي(1/12)
عينه ابْتِدَاء نزُول المَاء فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا وكسائر الْآفَات الدَّاخِلَة على الْحَواس قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ الْمُقدمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ الصَّحِيحَة الَّتِي لَا شكّ فِيهَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يطْلب عَلَيْهَا دَلِيلا إِلَّا مَجْنُون أَو جَاهِل لَا يعلم حقائق الْأَشْيَاء وَمن الطِّفْل أهْدى مِنْهُ وَهَذَا أَمر يَسْتَوِي فِي الْإِقْرَار بِهِ كبار جَمِيع بني آدم وصغارهم فِي أقطار الأَرْض إِلَّا من غالط حسه وكابر عقله فيحلق بالمجانين لِأَن الِاسْتِدْلَال على الشَّيْء لَا يكون إِلَّا فِي زمَان وَلَا بُد ضَرُورَة أَن يعلم ذَلِك بِأول الْعقل لِأَنَّهُ قد علم بضرورة الْعقل أَنه لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم إِلَّا فِي وَقت وَلَيْسَ بَين أول أَوْقَات تَمْيِيز النَّفس فِي هَذَا الْعَالم وَبَين إِدْرَاكهَا لكل مَا ذكرنَا مهلة الْبَتَّةَ لَا دقيقة وَلَا جليلة وَلَا سَبِيل على ذَلِك فصح أَنَّهَا ضرورات أوقعهَا الله فِي النَّفس وَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال الْبَتَّةَ إِلَّا من هَذِه الْمُقدمَات وَلَا يَصح شَيْء إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا فَمَا شهِدت لَهُ مُقَدّمَة من هَذِه الْمُقدمَات بِالصِّحَّةِ فَهُوَ صَحِيح مُتَيَقن وَمَا لم تشهد لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ بَاطِل سَاقِط إِلَّا أَن الرُّجُوع إِلَيْهَا قد يكون من قرب وَمن بعد فَمَا كَانَ من قرب فَهُوَ أظهر إِلَى كل نفس وَأمكن للفهم وَكلما بَعدت الْمُقدمَات الْمَذْكُورَة صَعب الْعَمَل فِي الِاسْتِدْلَال حَتَّى يَقع فِي ذَلِك الْغَلَط إِلَّا للفهم الْقوي الْفَهم والتمييز وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يقْدَح فِي أَن مَا رَجَعَ إِلَى مُقَدّمَة من الْمُقدمَات الَّتِي ذكرنَا حق كَمَا أَن تِلْكَ الْمُقدمَة حق لَا فرق بَينهمَا فِي أَنَّهُمَا حق وَهَذَا مثل الْأَعْدَاد فَكلما قلت الْأَعْدَاد سهل جمعهَا وَلم يَقع فِيهَا غلط حَتَّى إِذا كثرت الْأَعْدَاد وَكثر الْعَمَل فِي جمعهَا صَعب ذَلِك حَتَّى يَقع فِيهَا الْغَلَط إِلَّا مَعَ الحاسب الْكَافِي الْمجِيد وَكلما قرب من ذَلِك وَبعد فَهُوَ كُله حق وَلَا تفاضل فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا تعَارض مُقَدّمَة مِمَّا ذكرنَا مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا وَلَا يُعَارض مَا يرجع إِلَى مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا رُجُوعا صَحِيحا وَهَذَا كُله يعلم بِالضَّرُورَةِ وَمن علم النَّفس بِأَن علم الْغَيْب لَا يُعَارض صَحَّ ضَرُورَة أَنه لَا يُمكن أَن يَحْكِي أحد خَبرا كَاذِبًا طَويلا فَيَأْتِي من لم يسمعهُ فيحكي ذَلِك الْخَبَر بِعَيْنِه كَمَا هُوَ لَا يزِيد فِيهِ وَلَا ينقص إِذْ لَو أمكن ذَلِك لَكَانَ الحاكي لمثل ذَلِك الْخَبَر عَالما بِالْغَيْبِ لِأَن هَذَا هُوَ علم الْغَيْب نَفسه وَهُوَ الْإِخْبَار عَمَّا لَا يعلم الْمخبر عَنهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَذَلِك بِلَا شكّ فَكل مَا نَقله من الْأَخْبَار اثْنَان فَصَاعِدا مفترقان قد أيقنا أَنَّهُمَا لم يجتمعا وَلَا تشاعرا فَلم يختلفا فِيهِ فبالضرورة يعلم أَنه حق مُتَيَقن مَقْطُوع بِهِ على غيبه وَبِهَذَا علمنَا صِحَة موت من مَاتَ وولادة من ولد وعزل من عزل وَولَايَة من ولى وَمرض من مرض وافاقة من أَفَاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عَنَّا والوقائع(1/13)
والملوك والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام ودياناتهم وَالْعُلَمَاء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لَا شكّ عِنْد أحد يُوفي عقله حَقه فِي شَيْء مِمَّا نقل من ذَلِك كَمَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
بَاب الْكَلَام على أهل الْقسم الأول وهم مبطلوا الْحَقَائِق وهم السوفسطائية
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذكر من سلف من الْمُتَكَلِّمين أَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف فصنف مِنْهُم نفى الْحَقَائِق جملَة وصنف مِنْهُم شكوا فِيهَا وصنف مِنْهُم قَالُوا هِيَ حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَهِي بَاطِل عِنْد من هِيَ عِنْده بَاطِل وعمدة مَا ذكر من اعتراضهم فَهُوَ اخْتِلَاف الْحَواس فِي المحسوسات كإدراك المبصر من بعدٍ عَنهُ صَغِيرا وَمن قربٍ مِنْهُ كَبِيرا وكوجود من بِهِ حمى صفراء حُلْو المطاعم مرا وَمَا يرى فِي الرُّؤْيَا مِمَّا لَا شكّ فِيهِ رائيه أَنه حق من أَنه فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن الْخطاب وتعاطي الْمعرفَة إِنَّمَا يكون مَعَ أهل الْمعرفَة وحس الْعقل شَاهد بِالْفرقِ بَين مَا يخيل إِلَى النَّائِم وَبَين مَا يُدْرِكهُ المستيقظ إِذْ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا من اسْتِعْمَال الجري على الْحُدُود المستقرة فِي الْأَشْيَاء الْمَعْرُوفَة وَكَونهَا ابداً على صفة وَاحِدَة مَا فِي الْيَقَظَة وَكَذَلِكَ يشْهد الْحس أَيْضا بِأَن تبدل المحسوس عَن صفته اللازمه لَهُ بحث الْحس إِنَّمَا هُوَ لآفة فِي حس الحاس لَهُ لَا فِي المحسوس جَار كل ذَلِك على رُتْبَة وَاحِدَة لَا تتحول وَهَذِه هِيَ الْبِدَايَة والمشاهدات الَّتِي لَا يجوز أَن يطْلب عَلَيْهَا برهَان إِذْ لَو طلب على كل برهَان برهَان لاقتضى ذَلِك وجود موجودات لَا نِهَايَة لَهَا وَوُجُود أَشْيَاء لَا نِهَايَة لَهَا محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ على مَا سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالَّذِي يطْلب على الْبُرْهَان برهاناً فَهُوَ نَاطِق بالمحال لِأَنَّهُ لَا يفعل ذَلِك إِلَّا وَهُوَ مُثبت لبرهان مَا فَإِذا وقفنا عِنْد الْبُرْهَان الَّذِي ثَبت لزمَه الإذعان لَهُ فَإِن كَانَ لَا يثبت برهاناً فَلَا وَجه لطلبه مَا لَا يُثبتهُ لَو وجده وَالْقَوْل بِنَفْي الْحَقَائِق مُكَابَرَة لِلْعَقْلِ والحس وَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم أَن يُقَال لَهُم قَوْلكُم أَنه لَا حَقِيقَة للأشياء حق هُوَ أم بَاطِل فَإِن قَالُوا هُوَ حق أثبتوا حَقِيقَة مَا وَإِن قَالُوا لَيْسَ هُوَ حَقًا أقرُّوا بِبُطْلَان قَوْلهم وَكفوا خصمهم أَمرهم وَيُقَال للشكاك مِنْهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أشككم مَوْجُود صَحِيح مِنْكُم أم غير صَحِيح وَلَا مَوْجُود فَإِن قَالُوا هُوَ مَوْجُود صَحِيح منا أثبتوا أَيْضا حَقِيقَة مَا وَإِن قَالُوا غير مَوْجُود نفوا الشَّك وأبطلوه وَفِي إبِْطَال الشَّك إِثْبَات الْحَقَائِق أَو الْقطع على إِبْطَالهَا وَقد قدمنَا بعون الله تَعَالَى إبِْطَال قَول من أبطلها فَلم يبْقى إِلَّا الْإِثْبَات
وَيُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لمن قَالَ هِيَ حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَهِي(1/14)
بَاطِل عِنْد من هِيَ عِنْده بَاطِل أَن الشَّيْء لَا يكون حَقًا باعتقاد من اعْتقد أَنه حق كَمَا أَنه لَا يبطل باعتقاد من اعْتقد أَنه بَاطِل وَإِنَّمَا يكون الشَّيْء حَقًا بِكَوْنِهِ مَوْجُودا ثَابتا سَوَاء اعْتقد أَنه حق أَو اعْتقد أَنه بَاطِل وَلَو كَانَ غير هَذَا لَكَانَ الشَّيْء مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حَال وَاحِدَة فِي ذَاته وَهَذَا عين الْمحَال وَإِذا أقرُّوا بِأَن الْأَشْيَاء حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق فَمن جملَة تِلْكَ الْأَشْيَاء الَّتِي تعتقد أَنَّهَا حق عِنْد من يعْتَقد أَن الْأَشْيَاء حق بطلَان قَول من قَالَ أَن الْحَقَائِق بَاطِل وَهُوَ هم قد أقرُّوا أَن الْأَشْيَاء حق عِنْد من هِيَ عِنْده حق وَبطلَان قَوْلهم من جملَة تِلْكَ الْأَشْيَاء فقد أقرُّوا بِأَن بطلَان قَوْلهم حق مَعَ أَن هَذِه الْأَقْوَال لَا سَبِيل إِلَى أَن يعتقدها ذُو عقل الْبَتَّةَ إِذْ حسه يشْهد بِخِلَافِهَا وَإِنَّمَا يُمكن أَن يلجأ إِلَيْهَا بعض المنقطعين على سَبِيل الشغب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
بَاب الْكَلَام على من قَالَ بِأَن الْعَالم لم يزل وَأَنه لَا مُدبر لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا يَخْلُو الْعَالم من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون لم يزل أَو أَن يكون مُحدثا لم يكن ثمَّ كَانَ فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنه لم يزل وهم الدهرية وَذهب سَائِر النَّاس إِلَى أَنه مُحدث فنبتدئ بحول الله تَعَالَى وقوته بإيراد كل حجَّة شغب بهَا الْقَائِلُونَ بِأَن الْعَالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بهَا ثمَّ نبين بحوله تَعَالَى نقضهَا وفسادها فَإِذا بَطل القَوْل بِأَن الْعَالم لم يزل وَجب القَوْل بالحدوث وَصَحَّ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى وَجه ثَالِث لَكنا لَا نقنع بذلك حَتَّى نأتي بالبراهين الظَّاهِرَة والنتائج الْمُوجبَة والقضايا الضرورية على إِثْبَات حُدُوث الْعَالم وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
فَمَا اعْترضُوا بِهِ أَن قَالُوا لم نر شَيْئا حدث إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء فَمن ادّعى غير ذَلِك فقد ادّعى مَا لَا يُشَاهد وَلم يُشَاهد وَقَالُوا أَيْضا لَا يَخْلُو مُحدث الْأَجْسَام الْجَوَاهِر والأعراض وَهِي كل مَا فِي الْعَالم إِن كَانَ الْعَالم مُحدثا من أَن يكون أحدثه لِأَنَّهُ أَو إحداثه لعِلَّة
فَإِن كَانَ لِأَنَّهُ فالعالم لم يزل لِأَن محدثه لم يزل وَإِذ هُوَ عِلّة خلقه فالعلة لَا تفارق الْمَعْلُول وَمَا لم يُفَارق من لم يزل فَهُوَ أَيْضا لم يزل هُوَ مثله بِلَا شكّ فالعالم لم يزل وَإِن كَانَ أحدثه لعِلَّة فَتلك الْعلَّة لَا تَخْلُو من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تكون لم تزل وَإِمَّا أَن تكون محدثة فَإِن كَانَت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل(1/15)
وَإِن كَانَت تِلْكَ الْعلَّة محدثة لزم فِي حدوثها مَا لزم فِي حُدُوث سَائِر الْأَشْيَاء من أَنه أحدثها لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة فَإِن كَانَ لعِلَّة لزم ذَلِك أَيْضا فِي عِلّة الْعلَّة وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود محدثات لَا أَوَائِل لَهَا قَالُوا وَهَذَا قَوْلنَا قَالُوا وَإِن كَانَ أحدثها لِأَنَّهُ فَهَذَا يُوجب أَن الْعلَّة لم تزل كَمَا بَينا آنِفا وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَ للأجسام مُحدث لم يخل من أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه لزم وَإِمَّا أَن يكون خلَافهَا من دميع الْوُجُود وَإِمَّا أَن يكون مثلهَا من بعض الْوُجُوه وخلافها من بعض الْوُجُوه قَالُوا فَلَنْ كَانَ مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه لزم أَن يكون مُحدثا مثلهَا وَهَكَذَا فِي محدثة أَيْضا ابداً وَإِن كَانَ مثلهَا فِي بعض الْوُجُوه لزمَه أَيْضا من مماثلتها فِي ذَلِك الْبَعْض مَا يلْزمه من مماثلته لَهَا فِي جَمِيع الْوُجُوه من الْحُدُوث إِذْ الْحُدُوث اللَّازِم للْبَعْض كازومه للْكُلّ وَلَا فرق وَإِن كَانَ خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه فمحال أَن يَفْعَلهَا لِأَن هَذَا هُوَ حَقِيقَة الضِّدّ والمناقض إِذْ لَا سَبِيل إِلَى أَن يفعل الشَّيْء خِلَافه من جَمِيع الْوُجُوه كَمَا لَا تفعل النَّار التبريد وَقَالُوا أَيْضا لَا يَخْلُو إِن كَانَ للْعَالم فَاعل من أَن يكون فعله لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة أَو طباعاً أَو لَا لشَيْء من ذَلِك قَالُوا فَإِن كَانَ فعله لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَهُوَ مَحل للمنافع والمضار وَهَذِه صفة المحدثات عنْدكُمْ فَهُوَ مُحدث مثلهَا قَالُوا وَإِن كَانَ فعله طباعاً فالطباع مُوجبَة لما حدث بهَا فَفعله لم يزل مَعَه قَالُوا وَإِن كَانَ فعله لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا لَا يعقل وَمَا خرج عَن الْمَعْقُول فمحال وَقَالُوا أَيْضا لَو كَانَت الْأَجْسَام محدثة لَكَانَ محدثها قبل أَن يحدثها فَاعِلا لتركها قَالُوا وَتركهَا لَا يَخْلُو من أَن يكو جسما أَو عرضا وَهَذَا يُوجب أَن الْأَجْسَام والأعراض لم تزل مَوْجُودَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ المشاغب الْخمس هِيَ كل مَا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بالدهر قد تقصيناها لَهُم وَنحن إِن شَاءَ الله نبدأ بحول الله وقوته فِي مناظرتهم فننقضها وَاحِدًا وَاحِدًا
إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الأول قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ يُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق والعون لمن قَالَ لم نر شَيْئا حدث إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء هَل تدْرك حَقِيقَة شَيْء عنْدكُمْ من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة أَو لَا يدْرك شَيْء من الْحَقَائِق إِلَّا من طَرِيق الرُّؤْيَة فَقَط فَإِن قَالُوا إِنَّه قد تدْرك الْحَقَائِق من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة تركُوا استدلالهم وأفسدوه إِذْ قد أوجبوا وجود أَشْيَاء من غير طَرِيق الرُّؤْيَة والمشاهدة وَقد نفوا ذَلِك قبل هَذَا فَإِذا صَارُوا إِلَى الِاسْتِدْلَال نُوظِرُوا فِي ذَلِك إِلَّا أَن دليلهم هَذَا على كل حَال قد بَطل بِحَمْد الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا لَا بل لَا يدْرك شَيْء إِلَّا من طَرِيق الْمُشَاهدَة قيل لَهُم فَهَل شاهدتم شَيْئا قطّ لم يزل فَلَا بُد من نعم أَو لَا فَإِن قَالُوا لَا(1/16)
وَصَدقُوا وأبطلوا استدلالهم وَإِن قَالُوا نعم كابروا وَادعوا مَالا سَبِيل إِلَى مشاهدته إِذْ مُشَاهدَة قَائِل هَذَا القَوْل للأشياء هِيَ ذَات أول بِلَا شكّ وَذُو الأول هُوَ غير الَّذِي لم يزل لِأَن الَّذِي لم يزل هُوَ الَّذِي لَا أول لَهُ وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يُشَاهد مَاله أول مَالا أول لَهُ مُشَاهدَة مُتَّصِلَة فَبَطل هَذَا الِاسْتِدْلَال على كل وَجه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الثَّانِي قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ لَا يَخْلُو من أَن بِفعل لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة هَذِه قسْمَة نَاقِصَة وَينْقص مِنْهَا الْقسم الثَّالِث وَهُوَ لِأَنَّهُ فعل لَا لِأَنَّهُ وَلَا لعِلَّة أصلا لَكِن كَمَا شَاءَ لِأَن كلا الْقسمَيْنِ الْمَذْكُورين أَولا وهما أَنه فعل لِأَنَّهُ أَو لعِلَّة قد بطلا بِمَا قدمنَا هُنَالك إِذْ الْعلَّة توجب إِمَّا الْفِعْل أَو التّرْك وَهُوَ تَعَالَى يفعل وَلَا يفعل فصح بذلك أَنه لَا عِلّة لفعله أصلا وَلَا لتَركه الْبَتَّةَ فَبَطل هَذَا الشغب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فَإِن قَالُوا إِن ترك الْبَارِي تَعَالَى فِي الْأَزَل فعل مِنْهُ للترك فَفعله الَّذِي هُوَ التّرْك لم يزل قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن ترك الْبَارِي تَعَالَى الْفِعْل لَيْسَ فعلا أصلا على مَا نبين فِي فَسَاد الِاعْتِرَاض الْخَامِس إِن شَاءَ الله تَعَالَى
إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الثَّالِث قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ يُقَال لمن قَالَ لَو كَانَ للأجسام مُحدث لم يخل من أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون مثلهَا من جَمِيع الْوُجُوه أَو من بعض الْوُجُوه لَا من كلهَا أَو خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه إِلَى انْقِضَاء كَلَامهم بل هُوَ تَعَالَى خلَافهَا من جَمِيع الْوُجُوه وإدخالكم على هَذَا الْوَجْه أَنه حَقِيقَة الضِّدّ والنقيض والضد لَا يفعل ضِدّه كَمَا لَا تفعل النَّار التبريد إِدْخَال فَاسد لِأَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِأَنَّهُ ضد لخلقه لِأَن الضِّدّ هُوَ مَا حمل التضاد والتضاد هُوَ اقتسام الشَّيْئَيْنِ طرفِي الْبعد تَحت جنس وَاحِد فَإِذا وَقع أحد الضدين ارْتَفع الآخر وَهَذَا الْوَصْف بعيد عَن الْبَارِي تَعَالَى وَإِنَّمَا التضاد كالخضرة وَالْبَيَاض اللَّذين يجمعهما اللَّوْن أَو الْفَضِيلَة والرذيلة اللَّتَيْنِ يجمعهما الْكَيْفِيَّة والخلق وَلَا يكون الضدان الأعرضين تَحت جنس وَاحِد وَلَا بُد وكل هَذَا منفي عَن الْخَالِق عز وَجل فَبَطل بِالضَّرُورَةِ أَن يكون عز وَجل ضداً لخلقه
وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم لَو كَانَ خلافًا لخلقه من جَمِيع الْوُجُوه لَكَانَ ضداً لَهُم قَول فَاسد إِذْ لَيْسَ كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف الْعرض من كل وَجه حاشا الْحُدُوث فَقَط وَلَيْسَ ضداً لَهُ وَيُقَال أَيْضا لمن قَالَ هَذَا القَوْل هَل تثبت فَاعِلا وفعلاً على وَجه من الْوُجُوه أَو تَنْفِي أَن يُوجد فَاعل وَفعل الْبَتَّةَ فَإِن نفي الْفَاعِل وَالْفِعْل(1/17)
الْبَتَّةَ كَابر العيان لإنكاره الْمَاشِي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن وَمن دفع بِهَذَا كَانَ فِي نِصَاب من لَا يكلم وَإِن أثبت الْفِعْل وَالْفَاعِل فِيمَا بَيْننَا قيل لَهُ هَل بِفعل الْجِسْم إِلَّا الْحَرَكَة والسكون فَلَا بُد من نعم وَالْحَرَكَة والسكون خلاف الْجِسْم وَلَيْسَ ضداً لَهُ إِذْ ليسامعه تَحت جنس وَاحِد أصلا وَإِنَّمَا يجمعها وإياه الْحُدُوث فَقَط فَلَو كَانَ كل خلاف ضداً لَكَانَ الْجِسْم فَاعِلا لضده وَهُوَ الْحَرَكَة أَو السّكُون وَهَذَا هُوَ نفس مَا أبطلوا فصح بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ كل خلاف ضداً وَصَحَّ أَن الْفَاعِل يفعل خِلَافه وَلَا بُد من ذَلِك فَبَطل اعتراضهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الرَّابِع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ لَا يَخْلُو من أَن يكون مُحدث الْأَجْسَام أحدثها لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة أَو طباعاً أَو لَا لشَيْء من ذَلِك إِلَى انْقِضَاء كَلَامهم
أما الْفِعْل لإحراز مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ المخلوقون المختارون
وَأما فعل الطباع فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ المخلوقون غير المختارين وكل صِفَات المخلوقين فَهِيَ منفية عَن الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْخَالِق لكل مَا دونه
أما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَنه فعل لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا هُوَ قَوْلنَا ثمَّ نقُول لمن قَالَ إِن الْفِعْل لَا لشَيْء من ذَلِك أَمر غير مَعْقُول مَاذَا تَعْنِي بِقَوْلِك غير مَعْقُول أَتُرِيدُ أَنه لَا يعقل حسا أَو مُشَاهدَة أم تَقول أَنه لَا يعقل اسْتِدْلَالا فَإِن قلت أَنه لَا يعقل حسا ومشاهدة قُلْنَا لَك صدقت كَمَا أَن أزلية الْأَشْيَاء لَا نعقل حسا ومشاهدة وَإِن قلت إِنَّه لَا يعقل اسْتِدْلَالا كَانَ ذَلِك دَعْوَى مِنْك مفتقرة إِلَى دَلِيل وَالدَّعْوَى إِذا كَانَت هَكَذَا فَهِيَ سَاقِطَة فالاستدلال بهَا سَاقِط فَكيف وَالْفِعْل لَا لشَيْء من ذَلِك متوهم مُمكن غير دَاخل فِي الْمُمْتَنع وَمَا كَانَ هَكَذَا فالمانع مِنْهُ مُبْطل وَالْقَوْل بِهِ يعقل فَسقط هَذَا الِاعْتِرَاض ثمَّ نقُول لما كَانَ الْبَارِي تَعَالَى بالبراهين الضرورية خلافًا لجَمِيع خلقه من جَمِيع الْوُجُوه كَانَ فعله خلافًا لجَمِيع أَفعَال خلقه من جَمِيع الْوُجُوه وَجَمِيع خلقه لَا نَفْعل إِلَّا طباعاً أَو لاجتلاب مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة فَوَجَبَ أَن يكون فعله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
إِفْسَاد الِاعْتِرَاض الْخَامِس قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لمن قَالَ إِن ترك الْفَاعِل أَن يفعل الْأَجْسَام لَا يَخْلُو من أَن يكون جسماً أَو عرضا إِلَى مُنْتَهى كَلَامهم إِن هَذِه قسْمَة فَاسِدَة بَيِّنَة العوار وَذَلِكَ أَن الْجِسْم هُوَ الطَّوِيل العريض العميق وَترك الْفِعْل لَيْسَ طَويلا وَلَا عريضاً وَلَا عميقاً فَترك الْفِعْل من الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ جسماً وَالْعرض هُوَ الْمَحْمُول(1/18)
فِي الْجِسْم وَترك فعل الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ مَحْمُولا فَلَيْسَ عرضا فَترك فعل الله تَعَالَى للجسم وَالْعرض لَيْسَ هُوَ جسماً وَلَا عرضا وَإِنَّمَا هُوَ عدم والعدم لَيْسَ معنى وَلَا هُوَ شَيْئا وَترك الله تَعَالَى للْفِعْل لَيْسَ فعلا الْبَتَّةَ بِخِلَاف صفة خلقه لِأَن التّرْك من الْمَخْلُوق للْفِعْل فعل برهَان ذَلِك إِن ترك الْمَخْلُوق للْفِعْل لَا يكون إِلَّا بِفعل آخر مِنْهُ ضَرُورَة كتارك الْحَرَكَة لَا يكون إِلَّا بِفعل السّكُون وتارك الأ كل لَا يكون إِلَّا بِاسْتِعْمَال آلَات الْأكل فِي مقاربة بَعْضهَا بَعْضًا أَو فِي مباعدة بَعْضهَا بَعْضًا وبتعويض الْهَوَاء وَغَيره من الشَّيْء الْمَأْكُول وكتارك الْقيام لَا يكون إِلَّا باشتغاله بِفعل آخر من قعُود أَو غَيره فصح أَن فعل الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف فعل خلقه وَإِن تَركه للْفِعْل لَيْسَ فعلا أصلا فَبَطل استدلالهم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإذْ قد بَطل جَمِيع مَا تعلقوا بِهِ وَلم يبْق لَهُم شغب أصلا بعون الله وتأييده فَنحْن مبتدئون بتأييده عز وَجل فِي إِيرَاد الْبَرَاهِين الضرورية على إِثْبَات حُدُوث الْعَالم بعد أَن لم يكون وَتَحْقِيق أَن لَهُ مُحدثا لم يزل لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
برهَان أول قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن كل شخص فِي الْعَالم وكل عرض فِي شخص وكل زمَان فَكل ذَلِك متناه ذُو أول نشاهد ذَلِك حسا وعياناً لِأَن تناهي الشَّخْص ظَاهر بمساحته بِأول جرمه وَآخره وَأَيْضًا بِزَمَان وجوده وتناهي الْعرض الْمَحْمُول ظَاهر بَين بتناهي الشَّخْص الْحَامِل لَهُ وتناهي الزَّمَان مَوْجُود باستئناف مَا يَأْتِي مِنْهُ بعد الْمَاضِي وفناء كل وَقت بعد وجوده واستئناف آخر يَأْتِي بعده إِذْ كل زمَان فنهايته الْآن وَهُوَ حد الزمانين فَهُوَ نِهَايَة الْمَاضِي وَمَا بعده ابْتِدَاء للمستقبل وَهَكَذَا أبدا يفنى زمَان ويبتدئ آخر وكل جملَة من جمل الزَّمَان فَهِيَ مركبة من أزمنة متناهية ذَات أَوَائِل كَمَا قدمنَا وكل جملَة أشخاص فَهِيَ مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وَذَوَات أَوَائِل كَمَا قدمنَا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذَات أَوَائِل فَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غير أَجْزَائِهِ إِذْ الْكل لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير الْأَجْزَاء الَّتِي ينْحل إِلَيْهَا وأجزاؤه متناهية كَمَا بَينا ذَات أَوَائِل فالجمل كلهَا بِلَا شكّ متناهية ذَات أَوَائِل والعالم كُله إِنَّمَا هُوَ أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها لَيْسَ الْعَالم كُله شَيْئا غير مَا ذَكرْنَاهُ وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولانها ذَوَات أَوَائِل كَمَا ذكرنَا فالعالم كُله متناه ذُو أول وَلَا بُد فَإِن كَانَت أجزاؤه كلهَا متناهية ذَات أول بِالْمُشَاهَدَةِ والحس وَكَانَ هُوَ غير ذِي أول وَقد أثبتنا بِالضَّرُورَةِ وَالْعقل والحس أَنه لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير(1/19)
أَجْزَائِهِ فَهُوَ ذُو أول لَا ذُو أول وَهَذَا عين الْمحَال وَيجب من ذَلِك أَيْضا أَن لأجزائه أَوَائِل محسوسة وأجزاؤه لَيست غَيره وَهُوَ غير ذِي أول فأجزاؤه إِذن لَهَا أول لَيْسَ لَهَا أول وَهَذَا محَال وتخليط فصح بِالضَّرُورَةِ أَن للْعَالم أَولا إِذْ كل أَجْزَائِهِ لَهَا أول وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا غير أَجْزَائِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
برهَان ثَان قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَنَقُول كل مَوْجُود بِالْفِعْلِ فقد حصره الْعدَد وأحصته طَبِيعَته وَمعنى الطبيعة وَحدهَا هُوَ أَن تَقول الطبيعة هِيَ الْقُوَّة الَّتِي فِي الشَّيْء فتجري بهَا كيفيات ذَلِك الشَّيْء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِن أوجزت قلت هِيَ قُوَّة فِي الشَّيْء يُوجد بهَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَحصر الْعدَد وإحصاء الطبيعة نِهَايَة صَحِيحَة إِذْ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا إحصاء وَلَا حصر لَهُ إِذْ لَيْسَ معنى الْحصْر والإحصاء الأخم مَا بَين طرفِي المحصي المحصور والعالم مَوْجُود بِالْفِعْلِ وكل مَحْصُور بِالْعدَدِ محصي بالطبيعة فَهُوَ ذُو نِهَايَة فالعالم كُله ذُو نِهَايَة وَسَوَاء فِي ذَلِك مَا وجد فِي مُدَّة وَاحِدَة أَو مدد كَثِيرَة إِذْ لَيست تِلْكَ المدد إِلَّا مُدَّة محصاة إِلَى جنب مُدَّة محصاة فَهِيَ مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أَشْيَاء فَهُوَ تِلْكَ الْأَشْيَاء الَّتِي ركب مِنْهَا فَهِيَ كلهَا مدد محصاة كَمَا قدمنَا فِي الدَّلِيل الأول فصح من كل ذَلِك أَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى وجوده بِالْفِعْلِ وَمَا لم يُوجد إِلَّا بعد مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى وجوده أبدا لِأَن وُقُوع البعدية فِيهِ هُوَ وجود نِهَايَة لَهُ وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا بعد لَهُ فعلى هَذَا لَا يُوجد شيءٌ بعد شيءٍ أَبَد الْأَبَد والأشياء كلهَا مَوْجُودَة بَعْضهَا بعد بعض فالأشياء كلهَا ذَات نِهَايَة وَهَذَانِ الدليلان قد نبه الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا وحصرهما بحجته الْبَالِغَة إِذْ يَقُول وكل شيءٍ عِنْده بِمِقْدَار
برهَان ثَالِث قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ إِذْ معنى الزِّيَادَة إِنَّمَا هُوَ أَن تضيف إِلَى ذِي النِّهَايَة شَيْئا من جنسه يزِيد ذَلِك فِي عدده أَو فِي مساحته فَإِن كَانَ الزَّمَان لَا أول لَهُ يكون بِهِ متناهياً فِي عدده الْآن فَإِذن كل مَا زَاد فِيهِ وَيزِيد مِمَّا يَأْبَى من الْأَزْمِنَة مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يزِيد ذَلِك فِي عدد الزَّمَان شَيْئا وَفِي شَهَادَة الْحس أَن كل مَا وجد من الأعوام على الْأَبَد إِلَى زَمَاننَا هَذَا الَّذِي هُوَ وَقت ولَايَة هِشَام الْمُعْتَمد بِاللَّه هُوَ أَكثر من كل مَا وجد من الأعوام على الْأَبَد إِلَى وَقت هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن لم يكن هَذَا صَحِيحا فَيجب إِذن أَنه إِذا دَار زحل دورة وَاحِدَة فِي كل ثَلَاثِينَ سنة وزحل لم يزل يَدُور دَار الْفلك الْأَكْبَر فِي تِلْكَ الثَّلَاثِينَ سنة إِحْدَى عشرَة ألف دورة غيرَة خمسين دورة والفلك لم يزل يَدُور وَإِحْدَى عشرَة ألف غير خمسين دورة أَكثر من دورة(1/20)
وَاحِدَة بِلَا شكّ فَإِذن مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَكثر مِمَّا لَا نِهَايَة لَهُ بِنَحْوِ إِحْدَى عشرَة ألف مرّة وَهَذَا محَال لما قدمنَا وَلِأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون عدد أَكثر مِنْهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَوَجَبت فِي الزَّمَان من قبل ابْتِدَائه ضَرُورَة وَلَا مخلص مِنْهَا
وَيجب أَيْضا من ذَلِك أَن الْحس يُوجب ضَرُورَة أَن أشخاص الْإِنْس مُضَافَة إِلَى أشخاص الْخَيل أَكثر من أشخاص الْإِنْس مُفْردَة عَن أشخاص الْخَيل وَلَو كَانَت الْأَشْخَاص لَا نِهَايَة لَهَا لوَجَبَ أَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَكثر مِمَّا لَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا محَال مُمْتَنع لَا يتشكل فِي الْعقل وَلَا يُمكن وَأَيْضًا فَلَا شكّ فِي أَن الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة جُزْء للزمان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا وَبلا شكّ أَيْضا فِي أَن الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا كل للزمان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة وَلما بعده إِلَى وقتنا هَذَا فَلَا يَخْلُو الحكم فِي هَذِه الْقَضِيَّة من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا إِمَّا أَن يكون الزَّمَان مذ كَانَ مَوْجُودا إِلَى وقتنا هَذَا أَكثر من الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى عصر الْهِجْرَة وَإِمَّا أَن يكون أقل مِنْهُ وَإِمَّا أَن يكون مُسَاوِيا لَهُ فَإِن كَانَ الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وقتنا هَذَا من الزَّمَان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة فَالْكل أقل من الْجُزْء والجزء أَكثر من الْكل وَهَذَا هُوَ الِاخْتِلَاط وَعين الْمحَال إِذْ لَا يخيل على أحد أَن الْكل أَكثر من الْجُزْء وَهَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ ببديهة الْعَمَل وضرورة الْحس وَإِن كَانَ مُسَاوِيا لَهُ فَالْكل مسَاوٍ للجزء وَهَذَا عين الْمحَال والتخليط وَإِن كَانَ أَكثر مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فالزمان مذ كَانَ إِلَى وَقت الْهِجْرَة ذُو نِهَايَة وَمعنى الْجُزْء إِنَّمَا هُوَ إبعاض الشَّيْء وَمعنى الْكل إِنَّمَا هُوَ جملَة الإيعاض فَالْكل والجزء واقعان فِي كل ذِي أبعاض والعالم ذُو أبعاض هَكَذَا تُوجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لَا بعاضه وإبعاضه أَجزَاء لَهُ وَالنِّهَايَة كَمَا قدمنَا لَازِمَة لكل ذِي كل وَذي أَجزَاء وَالزَّمَان هُوَ مُدَّة بَقَاء الجرم سَاكِنا أَو متحركاً وَلَو فَارقه لم يكن الجرم مَوْجُودا وَلَا كَانَ الزَّمَان أَيْضا مَوْجُودا والجرم وَالزَّمَان موجودان فكلاهما لم يُفَارق صَاحبه
وَالزَّمَان ذُو أول والجرم ذُو أول وَهَذَا مِمَّا لَا انفكاك لَهُ الْبَتَّةَ وَأما مَا لم يَأْتِ بعد من زمَان أَو شخص أَو عرض فَلَيْسَ كل ذَلِك شَيْئا فَلَا يَقع على شَيْء من ذَلِك عدد وَلَا نِهَايَة وَلَا يُوصف بِشَيْء أصلا لِأَنَّهُ لَا وجود لَهُ بعد فَإِذا وجد لزمَه حِينَئِذٍ مَا لزم سَائِر مَا قد وجد من أجناسه وأنواعه من النِّهَايَة وَالْعدَد وَغير ذَلِك من الصِّفَات
وَأَيْضًا فَلَا شكّ فِي أَن مَا وَقع من الزَّمَان وَوجد من الزَّمَان إِلَى يَوْمنَا هَذَا مسَاوٍ لما من يَوْمنَا هَذَا إِلَى مَا وَقع من الزَّمَان معكوساً وواجب فِيهِ الزِّيَادَة بِمَا يَأْتِي من الزَّمَان والمساوى(1/21)
لَا يَقع إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة فالزمان متناه ضَرُورَة وَقد ألزمت بعض الْمُلْحِدِينَ وَهُوَ ثَابت بن مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ فِي هَذَا الْبُرْهَان فَأَرَادَ أَن يعكسه عَليّ فِي بَقَاء الْبَارِي عز وَجل ووجودنا إِيَّاه فَأَخْبَرته بِأَن هَذَا شغب ضَعِيف مضمحل سَاقِط لِأَن الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان وَلَا لَهُ مُدَّة لِأَن الزَّمَان إِنَّمَا هُوَ حَرَكَة كل ذِي الزَّمَان وانتقاله من مَكَان إِلَى مَكَان أَو مُدَّة بَقَائِهِ سَاكِنا فِي مَكَان وَاحِد والباري تَعَالَى لَيْسَ متحركاً وَلَا سَاكِنا ولاشك أَنه لَيْسَ فِي زمَان وَلَا لَهُ مُدَّة وَلَا هُوَ فِي مَكَان أصلا وَلَيْسَ هُوَ جرما وَلَا جوهراً وَلَا عرضا وَلَا عددا وَلَا جِنْسا وَلَا نوعا وَلَا فصلا وَلَا شخصا وَلَا متحركاً وَلَا سَاكِنا وَإِنَّمَا هُوَ تَعَالَى حق فِي ذَاته مَوْجُود مُطلق بِمَعْنى أَنه مَعْلُوم لَا إِلَه غَيره وَاحِد لَا وَاحِد فِي الْعَالم سواهُ مخترع للموجودات كلهَا دونه لَا يشبه شَيْئا من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الدَّلِيل وحصره فِي قَوْله تَعَالَى يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء
برهَان رَابِع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ الْعَالم لَا أول لَهُ وَلَا نِهَايَة لَهُ فالإحصاء مناله بِالْعدَدِ والطبيعة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ من أَوَائِل الْعَالم الْمَاضِيَة محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِذْ لَو أحصى ذَلِك كُله لَكَانَ لَهُ نِهَايَة ضَرُورَة فَإِذا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَكَذَلِك أَيْضا هُوَ محَال أَن تكون الطبيعة وَالْعدَد أحصيا مَا لَا نِهَايَة لَهُ من أَوَائِل الْعَالم الخالية حَتَّى يبلغَا إِلَيْنَا وَإِذا كَانَ ذَلِك محالاً فالعدد والطبيعة إِذا لم يبلغَا إِلَيْنَا وَقد تَيَقنا وُقُوع الْعدَد والطبيعة فِي كل مَا خلا من الْعَالم حَتَّى بلغا إِلَيْنَا بِلَا شكّ فَإِذا قد أحصى الْعدَد والطبيعة كل ماخلا من أَوَائِل الْعَالم إِلَى أَن بلغا إِلَيْنَا فَكَذَلِك الإحصاء منا إِلَى أولية الْعَالم صَحِيح مَوْجُود لَا ضَرُورَة بِلَا شكّ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فللعالم أَو ل ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
برهَان خَامِس قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا سَبِيل إِلَى وجود ثَان إِلَّا بعد أول وَلَا إِلَى وجود ثَالِث إِلَّا بعد ثَان وَهَكَذَا أبدا وَلَو لم يكن لأجزاء الْعَالم أول لم يكن ثَان وَلَو لم يكن ثَان لم يكن ثَالِث وَلَو كَانَ الْأَمر هَكَذَا لم يكن عدد وَلَا مَعْدُود وَفِي وجودنا جَمِيع الْأَشْيَاء الَّتِي فِي الْعَالم مَعْدُودَة إِيجَاب أَنَّهَا ثَالِث بعد ثَان وثان بعد أول وَفِي صِحَة هَذَا وجوب أول ضَرُورَة وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الدَّلِيل وعَلى الَّذِي قبله وحصرهما فِي قَوْله تَعَالَى وأحصى كل شَيْء عددا وَأَيْضًا فالآخر وَالْأول من بَاب الْمُضَاف فالآخر آخر للْأولِ وَالْأول أول للْآخر وَلَو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هَذَا بِمَا فِيهِ آخر لكل مَوْجُود قبله إِذْ لم يَأْتِ بعد فَلَيْسَ شَيْئا وَلَا وَقع عَلَيْهِ بعد شَيْء من الْأَوْصَاف فَلهُ أول ضَرُورَة(1/22)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد أَخْبرنِي بعض أصدقائنا وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة رَحمَه الله تَعَالَى أَنه عَارض بِهَذَا الْبُرْهَان بعض الْمُلْحِدِينَ وَهُوَ عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد فِي قَوْله بخلود الْجنَّة وَالنَّار وأهلهما فَقَالَ لَهُ ابْن عقبَة إِنَّمَا أَخذنَا خُلُود دَاري الْجَزَاء وخلود أهلهما بِلَا نِهَايَة على غير هَذَا الْوَجْه لَكِن على أَن الله تَعَالَى ينشئ لكل ذَلِك بَقَاء محدوداً وحركات حَادِثَة ولذات مترادفة أبدا وقتا بعد وَقت إِلَّا أَن الأول وَالْآخر جاريان حادثان فِي كل مَوْجُود من ذَلِك وَإِذا ثَبت الأول فَغير مُمْتَنع تمادي الزَّمَان حينا بعد حِين أبدا بِلَا نِهَايَة وَهَذَا مثل الْعدَد فَإِنَّهُ لَو لم يكن لَهُ أول لم يقدر أحد على عد أَي شَيْء أبدا فالعدد لَهُ أول ضَرُورَة يعرف ذَلِك بالحس والمشاهدة وَهُوَ قَوْلنَا وَاحِد فَإِن هَذَا مبدأ الْعدَد الَّذِي لَا عدد قبله ثمَّ الْأَعْدَاد يُمكن فِيهَا الزِّيَادَة أَبَد الْأَبَد لَا إِلَى غَايَة لَكِن كلما خرج مِنْهُ جُزْء إِلَى حد الْوُجُود وحد الْفِعْل فَلهُ نِهَايَة وَهَكَذَا أبدا سرمداً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَانْقَطع الشنيفي وَلم يكن عِنْده إِلَّا الشغب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد قَالَ بعض اهل الْإِلْحَاد فِي هَذِه الْبَرَاهِين الَّتِي أَوجَبْنَا بهَا اسْتِحَالَة وجود موجودات لَا أَوَائِل لَهَا أتقولون أَن الله تَعَالَى يُوفي أهل الْجنَّة مَا وعدهم من النَّعيم الَّذِي لَا آخر لَهُ وَلَا نِهَايَة أم لَا يوفيهم مَا وعدهم
فَإِن قُلْتُمْ أَنه تَعَالَى يوفيهم إِيَّاه دخل عَلَيْكُم كل مَا أدخلتموه علينا فِي هَذِه الْبَرَاهِين وَلَا فرق
وَإِن قُلْتُمْ أَنه تَعَالَى لَا يوفيهم ذَلِك ألزمتموه خلف الْوَعْد وَهُوَ كفر عنْدكُمْ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلهَا فِي كتبنَا الَّتِي جمعناها فِي حُدُود الْمنطق وَهِي متفسخة من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن تعلق الْمَرْء بِمَا يَقُول خَصمه ضعف وَإِنَّمَا يلْزم الْمَرْء أَن يخلص قَوْله مُجَردا وَلَا أُسْوَة لَهُ فِي تنَاقض خَصمه بل لَعَلَّ خَصمه لَا يَقُول ذَلِك الثَّانِي أَن المسؤول بهَا إِن كَانَ جهمياً سقط عَنهُ هَذَا السُّؤَال الْمَذْكُور
وَأما نَحن فعلينا بحول الله تَعَالَى بَيَان فَسَاد هَذَا الِاعْتِرَاض وتمويهه فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن من شغب أهل السفسطة إِدْخَال كلمة لَا يؤبه لَهَا يجعلونها مُقَدّمَة وَهِي كذب فيموهون بهَا على(1/23)
الْجُهَّال وَمَا يبنون عَلَيْهَا وَهَذَا الِاعْتِرَاض من هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَنهم أَرَادوا إلزامنا بِأَن الله عز وَجل وعد أهل الْجنَّة أَن يوفيهم نعيماً لَا نِهَايَة لَهُ وَهَذَا خطأ وَكذب وَمَا وعدهم الله عز وَجل قطّ بِأَن يوفيهم ذَلِك النَّعيم وَلَو وعدهم بذلك لَكَانَ ذَلِك النَّعيم إِذا استوفي بَطل وفني وانقضى وَإِنَّمَا وعدهم تَعَالَى بنعيم لَا نِهَايَة لَهُ وكل مَا ظهر وَوجد من ذَلِك النَّعيم فَهُوَ مَحْصُور ذُو نِهَايَة وَمَا لم يخرج إِلَى حد الْفِعْل فَهُوَ عدم بعد وَلَا يَقع عَلَيْهِ عدد وَلَا صفة وَهَكَذَا أبدا فقد ظهر أَن لَفْظَة بوفيهم هِيَ الشغيبة الْفَاسِدَة الَّتِي موهوا بهَا فَإِذا أسقطها الْمُعْتَرض من كَلَامه سقط اعتراضه جملَة وَصحت الْقَضِيَّة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل إِن الله تَعَالَى يَقُول وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص قُلْنَا هَذَا لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون أَرَادَ بذلك نصِيبهم من الْجَزَاء وَيكون أَرَادَ نصبيهم من مساحة الْجنَّة
فَإِن كَانَ عَنى عز وَجل بذلك نصِيبهم من الْجَزَاء بالعقاب وَالنَّعِيم فَهُوَ صَحِيح لِأَن كل مَا خرج من ذَلِك إِلَى حد الْوُجُود فَهُوَ مُسْتَوفى بِيَقِين وَهَكَذَا أبدا
وَإِن كَانَ تَعَالَى عَنى بذلك نصيب كل وَاحِد من الْجنَّة وَالنَّار فَهَذَا صَحِيح لِأَن كل مَكَان مِنْهَا متناه من جِهَة المساحة وَإِنَّمَا نَفينَا التوفية الَّتِي توجب الِانْقِضَاء بِلَا زِيَادَة فِيهَا وَقد قَالَ عز وَجل فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تبينان أَن الْأجر المستوفي هُوَ مَا يعطونه من مساحة الْجنَّة وكل مَا خرج إِلَى الْوُجُود من النَّعيم ثمَّ لَا يزَال تَعَالَى يزيدهم من فَضله كَمَا قَالَ تَعَالَى {بِغَيْر حِسَاب} فَهَذَا لَا يَسْتَوْفِي أبدا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لَهُ وَلَا كل وَلَو استوفي لم يُمكن أَن تكون فِيهِ زِيَادَة إِذْ بِالضَّرُورَةِ يعلم أَن مَا استوفى فَلَا زِيَادَة فِيهِ وَمَا تمكن الزِّيَادَة فِيهِ فَلم يسْتَوْف بعد وَالله تَعَالَى قد نَص على أَن بعد تِلْكَ التوفية زِيَادَة فصح أَنَّهَا تَوْفِيَة لشَيْء مَحْدُود متناه وَأَن مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يسْتَوْفى أبدا فقد ثَبت بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْعَالم ذُو أول وَإِذا كَانَ ذَا أول فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا وَهِي إِمَّا أَن يكون أحدث ذَاته وَإِمَّا أَن يكون حدث بِغَيْر أَن يحدثه غَيره وَبِغير أَن يحدث هُوَ نَفسه وَإِمَّا أَن يكون أحدثه غَيره فَإِن كَانَ هُوَ أحدث ذَاته فَلَا يَخْلُو من أحد أَرْبَعَة وُجُوه لَا خَامِس لَهَا وَهِي إِمَّا أَن يكون أحدث ذَاته وَهُوَ مَعْدُوم وَهِي مَوْجُودَة أَو أحدث ذَاته وَهُوَ مَوْجُود وَهِي مَعْدُومَة أَو أحدثها وَكِلَاهُمَا مَوْجُود أَو أحدثها وَكِلَاهُمَا مَعْدُوم وكل هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَوْجه محَال مُمْتَنع لَا سَبِيل إِلَى شَيْء مِنْهَا(1/24)
لِأَن الشَّيْء وذاته هِيَ هُوَ وَهُوَ هِيَ وكل مَا ذكرنَا من الْوُجُوه يُوجب أَن يكون الشَّيْء غير ذَاته وَهَذَا محَال وباطل بِالْمُشَاهَدَةِ والحس فَهَذَا وَجه قد بَطل ثمَّ نقُول وَإِن كَانَ خرج عَن الْعَدَم إِلَى الْوُجُود بِغَيْر أَن يخرج هُوَ ذَاته أَو يُخرجهُ غَيره فَهَذَا أَيْضا محَال لِأَنَّهُ لَا حَال أولى بِخُرُوجِهِ إِلَى الْوُجُود من حَال أُخْرَى وَلَا حَال أصلا هُنَالك فَإِذا لَا سَبِيل إِلَى خُرُوجه وَخُرُوجه مشَاهد مُتَيَقن فحال الْخُرُوج غير حَال اللاخروج وَحَال الْخُرُوج هِيَ عِلّة كَونه وَهَذَا لَازم فِي تِلْكَ الْحَال أَعنِي إِن حَال الْخُرُوج يلْزم فِي حدوثها مثل مَا لزم فِي حُدُوث الْعَالم من أَن تكون أخرجت نَفسهَا أَو أخرجهَا غَيرهَا أَو خرجت بِغَيْر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَهَكَذَا فِي كل حَال فَإِن تمادي الْكَلَام وَجب بِمَا قدمْنَاهُ إِلَّا نِهَايَة وَإِلَّا نِهَايَة فِي الْعَالم من مبدئه بَاطِل مُمْتَنع محَال فَإِذا قد بَطل أَن يخرج الْعَالم بِنَفسِهِ وَبَطل أَن يخرج دون أَن يُخرجهُ غَيره فقد ثَبت الْوَجْه الثَّالِث ضَرُورَة إِذْ لم يبْق غَيره الْبَتَّةَ فَلَا بُد من صِحَّته وَهُوَ أَن الْعَالم أخرجه غَيره من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِن الْفلك بِكُل مَا فِيهِ ذُو آثر مَحْمُولَة فِيهِ من نقلة زمانية وحركة دورية فِي كَون كل جُزْء من أَجْزَائِهِ فِي مَكَان الَّذِي يَلِيهِ والأثر مَعَ الْمُؤثر من بَاب الْمُضَاف فَإِن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وَإِن لم يكن مُؤثر لم يكن أثرٌ فَوَجَبَ بذلك أَنه لَا بُد لهَذِهِ الْآثَار الظَّاهِرَة من مؤثرٌ أَثَرهَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يكون الْفلك أَو شَيْء مِمَّا فِيهِ هُوَ الْمُؤثر لِأَنَّهُ يصير هُوَ الْمُؤثر والمؤثر فِيهِ مَعَ أَن الْمُؤثر والأثر من بَاب الْمُضَاف أَيْضا وَمعنى قَوْلنَا أَن الْمُؤثر والأثر والمؤثر فِيهِ من بَاب الْمُضَاف إِنَّمَا هُوَ أَن الْأَثر والمؤثر فِيهِ يقتضيان مؤثرا وَلَا بُد وَلم يرد أَن الْبَارِي تَعَالَى يَقع تَحت الْإِضَافَة فَلَا بُد ضَرُورَة من مُؤثر لَيْسَ مؤثراً فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئا مِمَّا فِي الْعَالم فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ الْخَالِق الأول الْوَاحِد تبَارك وَتَعَالَى فصح بِهَذَا أَن الْعَالم كُله مُحدث وَأَن لَهُ مُحدثا هُوَ غَيره هَذَا الَّذِي مَا نرَاهُ ويشاهد بالحواس من آثَار الصَّنْعَة الَّتِي لَا يشك فِيهَا ذُو عقل
وَمن بعض ذَلِك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اخْتِلَاف مراكزها ثمَّ أفلاك تداويرها والبون بَين حَرَكَة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لَهَا ودوران الأفلاك كلهَا من غرب إِلَى شَرق ودوران الْفلك التَّاسِع الْكُلِّي بِخِلَاف ذَلِك من شَرق إِلَى غرب وإدارته لجَمِيع الأفلاك مَعَ نَفسه كَذَلِك فَحدث من ذَلِك حركتان متعارضتان فِي حَرَكَة وَاحِدَة فالبضرورة نعلم أَن لَهَا محركاً على هَذِه(1/25)
الْوُجُوه الْمُخْتَلفَة
ثمَّ تراكيب أَعْضَاء الْإِنْسَان وَالْحَيَوَان من إِدْخَال الْعِظَام المحدبة فِي المقعرة وتركيب العضل على تِلْكَ المداخل والشد على ذَلِك بالعصب وَالْعُرُوق صناعَة ظَاهِرَة لَا شكّ فِيهَا لَا ينقصها إِلَّا رُؤْيَة الصَّانِع فَقَط
وَمن ذَلِك مَا يظْهر فِي الأصباغ الْمَوْضُوعَة فِي جُلُود كثير من الْحَيَوَان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رُتْبَة وَاحِدَة وَوضع وَاحِد لَا تخَالف فِيهِ كاضباغ الحجل والشفانين اليمام وَالسمان والبزاة وَكثير من الطير والسلاحف والحشارت والسمك لَا يخْتَلف تنقيطه الْبَتَّةَ وَلَا تكون أصباغه مَوْضُوعَة إِلَّا وضعا وَاحِدًا كأذناب الطواويس وَفِي السّمك وَالْجَرَاد والحشرات نوعا وَاحِدًا كَالَّذي يصوره المصور بَيْننَا
ثمَّ مِنْهَا مَا يَأْتِي مُخْتَلفا كأصباغ الدَّجَاج وَالْحمام والبط وَكثير من الْحَيَوَان فالبضرورة والحس نعلم أَن لذَلِك صانعاً مُخْتَارًا يفعل ذَلِك كُله كَمَا شَاءَ ويحصيه إحصاء لَا يضطرب أبدا عَمَّا شَاءَ من ذَلِك وَلَيْسَ يُمكن الْبَتَّةَ فِي حس الْعقل أَن تكون هَذِه المختلفات المضبوطة ضبطاً لَا تفَاوت فِيهِ من فعل طبيعة وَلَا بُد لَهَا من صانع قَاصد إِلَى صَنْعَة كل ذَلِك وَمن دري مَا الطبيعة علم أَنَّهَا قُوَّة مَوْضُوعَة فِي الشَّيْء تجْرِي بهَا صِفَاته على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَقَط وبالضرورة يعلم أَن لَهَا وَاضِعا ومرتباً وصانعاً لِأَنَّهَا لَا تقوم بِنَفسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ يحولة على ذِي الطبيعة وَمِنْهَا مَا نرى فِي لِيف النّخل والدوم من النسج الْمَصْنُوع يَقِينا بنيرين وسدى كَالَّذي يصنعه النساج مَا تنْقصنَا إِلَّا رُؤْيَة الصَّانِع فَقَط وَلَيْسَ هَذَا الْبَتَّةَ من فعل طبيعة وَلَا بنسج ناسج وَلَا بِنَاء وَلَا صانع أصباغ مرتبَة بل صَنْعَة صانع مُخْتَار قَاصد إِلَى ذَلِك غير ذِي طبيعة لكنه قَادر على مَا يَشَاء هَذَا أَمر مَعْلُوم بضرورة الْعقل وأوله يَقِينا كَمَا نعلم أَن الثَّلَاثَة أَكثر من الِاثْنَيْنِ فصح أَنه خَالق أول وَاحِد حق لَا يشبه شَيْئا من خلقه الْبَتَّةَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْوَاحِد الأول الْخَالِق عز وَجل
بَاب الْكَلَام على من قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَله مَعَ ذَلِك فَاعل لم يزل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين الَّتِي قدمنَا هَذِه الْمقَالة وَلَكِن بَقِي لَهُم اعْتِرَاض وَجب إِيرَاده تقصياً لكل مَا موهوا بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ اعْتمد أهل هَذِه الْمقَالة على أَن قَالُوا إِن عِلّة فعل الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ وجوده وحكمته وَقدرته وَهُوَ تَعَالَى لم يزل جواداً حكيماً قَادِرًا فالعالم لم يزل إِذْ علته لم تزل فَهَذَا فَاسد الْبَتَّةَ بِالدّلَالَةِ(1/26)
الَّتِي قدمنَا الَّتِي تضطر إِلَى الْمعرفَة والتيقن بحدوث الْعَالم ثمَّ نقُول أَنه إِنَّمَا يلْزم هَذَا من أقرّ بِهَذِهِ الْمُقدمَة أَعنِي أَن للْعَالم عِلّة وَأما نَحن فَإنَّا نقُول أَنه لَا عِلّة لتكوين الله عز وَجل كل مَا كَونه وَأَنه لَا شَيْء غير الْخَالِق وخلقه ثمَّ نقُول على علم هَؤُلَاءِ قولا كَافِيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ أَن الْمَفْعُول هُوَ الْمُنْتَقل من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود بِمَعْنى من لَيْسَ إِلَى شَيْء فَهَذَا هُوَ الْمُحدث وَمعنى الْمُحدث هُوَ مَا لم يكن ثمَّ كَانَ وهم يَقُولُونَ أَنه الَّذِي لم يزل وَهَذَا هُوَ خلاف الْمَعْقُول لِأَن الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ هُوَ غير الَّذِي لم يزل فالعالم إِذا هُوَ غير نَفسه وَهَذَا عين الْمحَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ لنا قَائِل لما كَانَ الْبَارِي تَعَالَى غير فَاعل على قَوْلكُم ثمَّ صَار فَاعِلا فقد لحقته اسْتِحَالَة وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذَا السُّؤَال رَاجع عَلَيْكُم إِذْ صححتموه فَهُوَ لكم لَازم لَا لنا إِذْ لم نصححه وَذَلِكَ أَنه إِن كَانَ عنْدكُمْ الْفِعْل مِنْهُ بعد أَن كَانَ غير فَاعل يرحب الاستحالة على الْفَاعِل تعال فَإِن فعله لما أحدث من الْإِعْرَاض عنْدكُمْ بعد أَن كَانَ غير مُحدث لَهَا وإعدامه مَا أعدم مِنْهَا بعد أَن كَانَ غير معدم لَهَا مُوجب عَلَيْهِ الاستحالة فأجيبوا عَن سؤلكم الَّذِي صححتموه وَلَا جَوَاب لكم إِلَّا بإفساده وَأما نَحن فَنَقُول إِن الاستحالة لَيست مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا معنى الاستحالة أَنه حُدُوث شَيْء فِي المستحيل لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك صَار بِهِ مستحيلاً عَن صفته المحمولة عَلَيْهِ إِلَى غَيرهَا وَهَذَا الْمَعْنى منفي عَن الله تَعَالَى أَي أَنه تَعَالَى بِحل عَن أَن يكون حَامِلا لصفة عَلَيْهِ بل بِذَاتِهِ لم يفعل إِن كَانَ غير فَاعل وبذاته فعل إِن فعل وَلَا عِلّة لما فعل وَلَا عِلّة لما لم يفعل وَأَيْضًا فَإِن الَّذِي لم يزل هُوَ الَّذِي لَا فَاعل لَهُ وَلَا مخرج لَهُ من عدم إِلَى وجود فَلَو كَانَ الْعَالم لم يزل لَكَانَ لَا مخرج لَهُ وَلَا فَاعل لَهُ وَقد أقرّ أهل هَذِه الْمقَالة بِأَن الْعَالم لم يزل وَإِن لَهُ فَاعِلا لم يزل يفعل وَهَذَا عين الْمحَال والتخليط وَالْفساد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
بَاب الْكَلَام على من قَالَ أَن للْعَالم خَالِقًا لم يزل وَأَن النَّفس وَالْمَكَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الخلا وَالزَّمَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْمدَّة لم تزل مَوْجُودَة وَأَنَّهَا غير محدثة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ النَّفس عِنْد هَؤُلَاءِ جَوْهَر قَائِم بِنَفسِهِ حَامِل لأعراضه لَا متحرك وَلَا منقسم وَلَا مُتَمَكن أَي لَا فِي مَكَان وَقد ناظرني قوم من أهل هَذَا الرَّأْي ورأيته كالغالب على ملحدي أَهلِي زَمَاننَا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوت مِنْهَا أظهرت بطلَان قَوْلهم بعون الله تَعَالَى(1/27)
وقوته وَلم نر أحدا مِمَّن تكلم قبلنَا ذكر هَذِه الْفرْقَة فَجمعت مَا نظرتهم بِهِ وأضفت إِلَيْهِ مَا وَجَبت إِضَافَته إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ تزييف وَقَوْلهمْ وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَهَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان عِنْدهم هما غير الْمَكَان الْمَعْهُود عندنَا وَغير الزَّمَان الْمَعْهُود عندنَا لِأَن الْمَكَان الْمَعْهُود عندنَا هُوَ الْمُحِيط بالتمكن فِيهِ من جهاته أَو من بَعْضهَا وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أما مَكَان يتشكل المتمكن فِيهِ بشكله كالبر أَو المَاء فِي الخابية وَمَا أشبه ذَلِك وَإِمَّا مَكَان يتشكل هُوَ بشكل المتمكن فِيهِ كَالْمَاءِ لما حل بِهِ من الْأَجْسَام وَمَا أشبهه وَالزَّمَان الْمَعْهُود عندنَا هُوَ مُدَّة وجود الجرم سَاكِنا أَو متحركاً أَو مُدَّة وجود الْعرض فِي الْجِسْم ويعمه أَن نقُول هُوَ مُدَّة وجود الْفلك وَمَا فِيهِ من الْحَوَامِل والمحمولات وهم يَقُولُونَ أَن الزَّمَان الْمُطلق وَالْمَكَان الْمُطلق هما غير مَا حددناه آنِفا من الزَّمَان وَالْمَكَان وَيَقُولُونَ أَنَّهُمَا شَيْئا متغايران وَلَقَد كَانَ يَكْفِي من بطلَان قَوْلهم إقرارهم بمَكَان غير مَا يعْهَد وزمان غير مَا يعْهَد بِدَلِيل على ذَلِك وَلَكِن لَا بُد من إِيرَاد الْبَرَاهِين على إبِْطَال دَعوَاهُم فِي ذَلِك بحول الله وقوته فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أخبرونا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي أثبتم وقلتم أَنه كَانَ مَوْجُودا قبل حُدُوث الْفلك وَمَا فِيهِ هَل بَطل بحدوث الْفلك مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَكَان الْفلك قبل أَن يحدث الْفلك أَو لم يبطل فَإِن قَالُوا لم يبطل وَبِذَلِك أجابني بَعضهم فَيُقَال لَهُم فَإِن كَانَ لم يبطل فَهَل انْتقل عَن ذَلِك الْمَكَان بحدوث الْفلك فِي ذَلِك الْمَكَان أَو لم ينْتَقل فَإِن قَالُوا لم ينْتَقل وَهُوَ قَوْلهم قيل لَهُم فَإِذا لم يبطل وَلَا انْتقل فَأَيْنَ حُدُوث الْفلك وَقد كَانَ فِي مَوْضِعه قبل حُدُوثه عنْدكُمْ معنى ثَابت قَائِم بِنَفسِهِ مَوْجُود وَهل حدث الْفلك فِي ذَلِك الْمَكَان الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْخَلَاء أم فِي غَيره فَإِن كَانَ حدث فِي غَيره فها هُنَا إِذا مَكَان آخر غير الَّذِي سميتموه خلاء وَهُوَ إِمَّا مَعَ الَّذِي ذكرْتُمْ فِي حيّز وَاحِد أم هُوَ فِي حيّز آخر فَإِن كَانَ مَعَه فِي حيّز وَاحِد فالفلك فِيهِ حدث ضَرُورَة وَقد قُلْتُمْ أَنه لم يحدث فِيهِ فَهُوَ وَإِذا حَادث فِيهِ غير حَادث فِيهِ وَهَذَا تنَاقض ومحال وَإِن كَانَ فِي حيّز آخر فقد أنبتم النِّهَايَة للحلاء إِذْ الحيز(1/28)
الآخر الَّذِي حدث فِيهِ الْفلك لَيْسَ هُوَ فِي ذَلِك الْخَلَاء وَهَذَا ينطوي فِيهِ بِالضَّرُورَةِ نِهَايَة الْخَلَاء الَّذِي ذكرْتُمْ فَهُوَ متناهٍ لَا متناهٍ وَهَذَا تنَاقض وتخليط وَإِذا بَطل أَن يكون غير متناهٍ وَثَبت أَنه متناه فَهُوَ الْمَكَان الْمَعْهُود الْمُضَاف إِلَى المتمكن فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا يعرف ذُو عقل سواهُ وَإِن كَانَ الْفلك حدث فِيهِ والفلك ملاء بِلَا شكّ وَلم ينْتَقل الْخَلَاء عنْدكُمْ وَلَا بَطل فالفلك إِذا خلاءٌ وملاءٌ مَعًا فِي مَكَان وَاحِد وَهَذَا محَال وتخليط فَإِن قَالُوا بَطل بحدوث الْفلك مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَوضِع الْفلك قبل حُدُوث الْفلك أَو قَالُوا انْتقل فقد أوجبوا لَهُ النِّهَايَة ضَرُورَة إِمَّا من طَرِيق الْوُجُود بِالْبُطْلَانِ إِذْ يفْسد وَيبْطل إِلَّا مَا كَانَ حَادِثا لَا مَا لم يزل وَإِمَّا من طَرِيق المساحة بالنقلة إِذْ لَو لم يجد أَيْن ينْتَقل لم تكن لَهُ نقلة إِذْ معنى النقلَة إِنَّمَا هُوَ تصيير الجرم إِلَى مَكَان لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك أَو إِلَى صفة لم يكن عَلَيْهَا قبل ذَلِك ووجوده مَكَانا ينْتَقل إِلَيْهِ مُوجب أَنه لم يكن فِي ذَلِك الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ من قبل انْتِقَاله إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ إِثْبَات النِّهَايَة ضَرُورَة فَهَذَا هُوَ الَّذِي أبطلوا ويلزمهم فِي ذَلِك أَيْضا أَن يكون متحيزا لِأَن الَّذِي بَطل مِنْهُ غير الَّذِي لم يبطل وَالَّذِي انْتقل هُوَ غير الَّذِي لم ينْتَقل وَهُوَ إِذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا هُوَ جسم ذُو أَجزَاء وَإِمَّا هُوَ مَحْمُول فِي جسم فَهُوَ يَنْقَسِم بانقسام الْجِسْم وَقد أثبتنا النِّهَايَة للجسم فِي غير هَذَا الْمَكَان من كتَابنَا هَذَا بِمَا فِيهِ الْبَيَان الضَّرُورِيّ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فَإِن كَانَ لم يبطل فَالَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي مَوضِع الْفلك ثمَّ لم يبطل وَلَا انْتقل لحدوث الْفلك فِيهِ فَهُوَ والفلك إِذا موجودان فِي حيّز وَاحِد مَعًا فَهُوَ إِذا لَيْسَ مَكَانا بالفلك لِأَن الْمَكَان لَا يكون مَعَ المتمكن فِيهِ فِي مَكَان وَاحِد وَهَذَا يعرف بأولية الْعقل وَلَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ الْمَكَان مَكَانا لنَفسِهِ وَلما كَانَ وَاحِد مِنْهُمَا أولى بِأَن يكون مَكَانا للْآخر من الآخر بذلك وَلَا كَانَ أَحدهمَا أولى أَيْضا بِأَن يكون مُتَمَكنًا فِي الآخر من الآخر فِيهِ وكل هَذَا فَاسد ومحال بِالضَّرُورَةِ وَأَيْضًا فَإِن الْخَلَاء عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ والفلك عِنْدهم مَوْجُود فِي الْخَلَاء إِذْ لَا نِهَايَة للخلاء عِنْدهم من طَرِيق المساحة فَإِذا كَانَ الْفلك مُتَمَكنًا فِي الْخَلَاء عِنْدهم والخلاء عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ فالخلاء إِذا مَكَان فِيهِ مُتَمَكن لَيْسَ فِيهِ مُتَمَكن وَهَذَا محَال وتخليط وَهَذَا بِعَيْنِه لَازم فِي قَوْلهم إِن ذَلِك الْجُزْء من الْخَلَاء لم ينْتَقل لحدوث الْفلك فَفِيهِ فَإِن قَالُوا انْتقل فَإِنَّمَا صَار إِلَى مَكَان لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك خلاء وَلَا ملاك فقد ثَبت عدم الْخَلَاء والملاء فِيمَا فَوق الْفلك ضَرُورَة وَهَذَا خلاف قَوْلهم وَإِن(1/29)
قَالُوا بَطل لَزِمَهُم أَيْضا أَنه قد عدته المدد ضَرُورَة فَإِذا أعدته المدد فقد تناهى من أَوله بالمبدأ ضَرُورَة فَإِن قَالُوا بل لم يحدث الْفلك فِي شَيْء من ذَلِك الْمَكَان الَّذِي هُوَ الْخَلَاء فقد أثبتوا حيزاً آخر للفلك غير الْخَلَاء الشَّامِل عِنْدهم وَإِذا كَانَ ذَلِك فقد تناهى كلا المكانين من جِهَة تلاقيهما ضَرُورَة وَإِذا تناهيا من جِهَة تلاقيهما لزمتهما المساحة وَوَجَب تناهيهما لتناهي ذرعهما ضَرُورَة ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي هُوَ عِنْدهم مَكَان لَا مُتَمَكن فِيهِ هَل لَهُ مبدأ مُتَّصِل بصفحات الْفلك الْأَعْلَى أم لَا مبدأ لَهُ من هُنَالك وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ ضَرُورَة فَإِن قَالُوا لَا مبدأ لَهُ وَهُوَ قَوْلهم قيل لَهُم إِن قَول الْقَائِل مَكَان إِنَّمَا يفهم مِنْهُ مَا يتَمَثَّل فِي النَّفس من الْمَقْصُود بِهَذِهِ اللَّفْظَة وموضعها فِي اللُّغَة لتَكون عبارَة للتفاهم عَن المُرَاد بهَا أَنَّهَا ساحة وَلَا بُد للساحة من الذرع ضَرُورَة وَلَا بُد للذروع من مبدأ لِأَنَّهُ كمية والكمية أعداد مركبة من الْآحَاد فَإِن لم يكن لَهُ مبدأ من وَاحِد اثْنَيْنِ ثَلَاثَة لم يكن عدد وَإِذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلا وَإِذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة وَلَا انفساح وَلَا مَسَافَة وكل هَذِه أَلْفَاظ وَاقعَة إِمَّا على ذرع المذروع وَإِمَّا على مذروع بالذرع ضَرُورَة فَإِن قَالُوا لَهُ مبدأ من هُنَالك وَجَبت لَهُ النِّهَايَة ضَرُورَة لحصر الْعدَد لمساحته بِوُجُود المبدأ لَهُ ويسألون أَيْضا أمماس هَذَا الْفلك أم غير مماس وباين عَنهُ أم غير باين فَإِن قَالُوا لَا مماس وَلَا باين فَهَذَا أَمر لَا يعقل بالحس وَلَا يتشكل فِي النَّفس وَلَا يقوم على صِحَّته برهَان أبدا إِلَّا فِي الْأَعْرَاض المحمولة فِي الْأَجْسَام وهم لَا يَقُولُونَ أَن الْخَلَاء عرض مَحْمُول فِي جسم وكل دَعْوَى لم يقم عَلَيْهَا دَلِيل فَهِيَ بَاطِلَة مَرْدُودَة وَإِن أثبتوا المماسة أَو المباينة وَجب عَلَيْهِم ضَرُورَة إِثْبَات النِّهَايَة لَهُ كَمَا لزم بِإِثْبَات المبدأ إِذْ النِّهَايَة منطوية فِي ذكر المبدأ والمماسة أَو المباينة ضَرُورَة لَا شكّ فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الْخَلَاء الَّذِي يذكرُونَ وَالزَّمَان الَّذِي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أَحدهمَا مَحْمُول وَالثَّانِي حَامِل أم كِلَاهُمَا لَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَأَيّهمَا أجابوا فِيهِ فَإِنَّهُ حَامِل بِلَا شكّ فِي أَن محموله غَيره إِذْ لَا يكون الشَّيْء حَامِلا لنَفسِهِ فَلهُ إِذا مَحْمُول لم يزل وَهُوَ غير الزَّمَان فَإِن قَالُوا ذَلِك كلموا بِمَا قدمنَا قبل على أهل الدَّهْر قائلين بأزلية الْعَالم وَأَيْضًا فَإِن كَانَ الْمَكَان حَامِلا فَلَا يَخْلُو ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون حَامِلا لجرم مُتَمَكن فِيهِ وَهَذَا يُوجب النِّهَايَة نِهَايَة لَهُ لوُجُوب نِهَايَة لوُجُوب الجرم المتمكن فِيهِ بِالدّلَالَةِ الَّتِي قدمنَا فِي إِثْبَات نهايات الأجرام وَإِمَّا أَن يكون حَامِلا لكيفياته(1/30)
فَإِن كَانَ حَامِلا لكيفياته فَهُوَ مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذِي حس سليم أَن كل مركب فَهُوَ متناه بالجرم وَالزَّمَان بالدلائل الَّتِي قدمنَا وَلَا سَبِيل إِلَى حمل ثَالِث وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ أَنه مَحْمُول فَإِنَّهُ يَقْتَضِي حَامِلا وبعكس الدَّلِيل الَّذِي ذكرنَا آنِفا سَوَاء بِسَوَاء وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ أَنه حَامِل مَحْمُول وَجب كل مَا ذكرنَا فِيهِ أَيْضا بعكسه وَأيهمَا قَالُوا فِيهِ لَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَلَا يَخْلُو من أَن يكون بَاقِيا أَو يكون بَقَاء فَإِن كَانَ بَاقِيا فَهُوَ مفتقرا إِلَى بقاءٍ وَهُوَ مدَّته إِذْ لَا بَاقِي إِلَّا بِبَقَاء وَإِن كَانَ بَقَاء فَلَا بُد لَهُ من بَاقٍ وَهُوَ من بَاب الْإِضَافَة والمدة هِيَ الْبَقَاء إِنَّمَا هِيَ مَحْمُولَة وناعتة للْبَاقِي بهَا ضَرُورَة هَذَا الَّذِي لَا يقوم فِي الْعقل سواهُ وَلَا يقوم برهَان إِلَّا عَلَيْهِ ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الزَّمَان الَّذِي يذكرُونَ هَل زَاد فِي مُدَّة اتِّصَاله مذ حدث الْفلك إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو لم يزدْ ذَلِك فِي أمده فَإِن قَالُوا لم يزدْ ذَلِك فِي أمده كَانَت مُكَابَرَة لِأَنَّهَا مُدَّة مُتَّصِلَة بهَا مُضَافَة إِلَيْهَا وَعدد زَائِد على عدد فَإِن قَالُوا زَاد ذَلِك فِي أمده سئلوا مَتى كَانَت تِلْكَ الْمدَّة أطول أقبل الزِّيَادَة أم هِيَ وَهَذِه الزِّيَادَة مَعًا فَإِن قَالُوا هِيَ وَالزِّيَادَة مَعهَا فقد أثبتوا النِّهَايَة ضَرُورَة إِذْ مَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا يَقع فِيهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَلَا يكون شَيْء مُسَاوِيا لَهُ وَلَا أَكثر مِنْهُ وَلَا أنقص مِنْهُ وَلَا يكون هُوَ أَيْضا مفصلا أصلا فَلَا يكون مُسَاوِيا لنَفسِهِ كَمَا هُوَ وَلَا أَكثر من نَفسه وَلَا أقل مِنْهَا فَإِن قَالُوا لَيست هِيَ وَالزِّيَادَة مَعهَا أطول مِنْهَا قبل الزِّيَادَة فقد أثبتوا أَن الشَّيْء وَغَيره مَعَه لَيْسَ أَكثر مِنْهُ وَحده وَهَذَا بَاطِل وهم يَقُولُونَ إِن الحلاء وَالزَّمَان الْمُطلق شيئآن متعايران فَيُقَال لَهُم فَإِذا هما كَذَلِك فَبِأَي شَيْء انْفَصل بعضهما من بعض فَإِن قَالُوا انْفَصل بِشَيْء مَا وَذكروا فِي ذَلِك أَي شَيْء ذَكرُوهُ فقد أثبتوا لَهما التَّرْكِيب من جنسهما وفصلهما وَأَيْضًا فجعلهم لَهما شَيْئَيْنِ إِيقَاع مِنْهُم للعدد عَلَيْهِمَا وكل عدد فَهُوَ متناه مَحْصُور وكل مَحْصُور فقد سلكته الطبيعة وكل مَا سلكته الطبيعة فَهُوَ متناه ضَرُورَة فَإِن أَرَادوا ألزامنا فِي الْبَارِي تَعَالَى مثل مَا ألزمناهم فِي هَذَا السُّؤَال فَقَالُوا أَيّمَا أَكثر الْبَارِي تَعَالَى وَحده أم الْبَارِي وخلقه مَعًا قُلْنَا هَذَا سُؤال فَاسد بالبرهان الضَّرُورِيّ لِأَن هَذَا الْبُرْهَان إِنَّمَا هُوَ على وجوب حُدُوث الزَّمَان وَمَا لم يَنْفَكّ من الزَّمَان وعَلى حُدُوث النوامي وَأَيْضًا فَإِن الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ عددا وَلَا بعض عدد وَلَيْسَ هُوَ أَيْضا معدوداً وَلَا بَعْضًا لمعدود لِأَن وَاحِدًا لَيْسَ عددا بالبرهان الَّذِي نورده فِي الْبَاب الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلَا وَاحِد على الحققة إِلَّا الله عز وَجل فَقَط فَهُوَ الَّذِي لَا يكترث الْبَتَّةَ وَلَا ينضاف إِلَى(1/31)
سواهُ إِذْ لَا يجمعه مَعَ شَيْء سواهُ عدد وَلَا صفة الْبَتَّةَ لِأَن كل مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم وَاحِد مِمَّا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ مجَاز لَا حَقِيقَة لِأَنَّهُ إِذا قسم استبان أَنه كَانَ كثيرا لَا وَاحِدًا فَلذَلِك وَقع الْعدَد على الأجرام والأعداد الْمُسَمَّاة آحاداً فِي الْعَالم وَأما الْوَاحِد فِي الْحَقِيقَة فَهُوَ الَّذِي لَيْسَ كثيرا أصلا وَلَا يتكثر بِوَجْه من الْوُجُوه فَلَا يَقع عَلَيْهِ عدد بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ وَاحِدًا إِلَّا وَاحِدًا كثيرا إِلَّا كثيرا وَهَذَا تَخْلِيط ومحال وممتنع لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَلَا يجوز أَن يُضَاف الْوَاحِد الأول إِلَى شَيْء مِمَّا دونه لَا فِي عدد وَلَا كمية وَلَا فِي جنس وَلَا فِي صفة وَلَا فِي معنى من الْمعَانِي أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله تَعَالَى مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا أَكثر إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى هُوَ رابعهم وَهُوَ سادسهم إِنَّمَا هُوَ فعل فعله فيهم وَهُوَ أَن ربعهم بإحاكته بهم لَا بِذَاتِهِ وسدسهم بإحاطته لَا بِذَاتِهِ أَو قد يربعهم بِملك يشرف عَلَيْهِم ويسدسهم كَذَلِك وبرهان هَذَا القَوْل أَن الله تبَارك وَتَعَالَى إِنَّمَا عَنى بِهَذِهِ الْآيَة بِلَا خلاف بل بضرورة الْعقل من كل سامع أَنه لَا يخفي عَلَيْهِ نَجوَاهُمْ وَهَذَا نَص الْآيَة لِأَنَّهُ تَعَالَى افتتحها بِذكر نجوى المتناجين إِنَّمَا أَرَادَ عز وَجل علمه بنجواهم إِلَّا أَنه مَعْدُود مَعَهم بِذَاتِهِ إِلَى ذواتهم حاشى لله من ذَلِك إِذْ من الْمحَال الْمُمْتَنع الْخَارِج عَن رُتْبَة الْأَعْدَاد والمعدودين أَن يكون الله عز وَجل معبودا بِذَاتِهِ مَعَ ثَلَاثَة بِالْهِنْدِ وَمَعَ ثَلَاثَة بالسند وَمَعَ ثَلَاثَة بالعراق وَمَعَ ثَلَاثَة بالصين فِي وَقت وَاحِد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لَكَانَ الَّذين هُوَ رابعهم بِالْهِنْدِ مَعَ الثَّلَاثَة الَّذين هُوَ رابعهم بالصين ثَمَانِيَة لأَنهم أَرْبَعَة وَأَرْبَعَة بِلَا شكّ فَكَأَن تَعَالَى حِينَئِذٍ يكون اثْنَيْنِ وَأكْثر وَهَذَا محَال وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ بِذَاتِهِ سادساً لخمسة هَا هُنَا سِتَّة ورابعاً لثَلَاثَة هُنَالك فهم أَرْبَعَة فهم كلهم بِلَا شكّ عشرَة فَهُوَ إِذا اثْنَان وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة نَفسهَا إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا إِنَّمَا أضَاف الأينية إِلَيْهِم لَا إِلَى نَفسه تَعَالَى مَعْنَاهُ أَيْنَمَا كَانُوا فَهُوَ تَعَالَى مَعَهم بإحاطته إِذْ محَال أَن يكون بِذَاتِهِ فِي مكانين فَبَطل اعتراضهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَلَيْسَ قَول الْقَائِل الله وَرَسُوله أَو الله وَعمر مِمَّا يعْتَرض بِهِ علينا لأننا لم نمْنَع من ضم اسْمه تَعَالَى إِلَى اسْم غَيره لِأَن الِاسْم كلمة مركبة من حُرُوف الهجاء وَإِنَّمَا منعنَا من أَن تعد ذَاته تَعَالَى مَعَ شَيْء غَيره إِذْ الْعدَد إِنَّمَا هُوَ جمع شَيْء إِلَى غَيره فِي قَضِيَّة مَا وَالله تَعَالَى لَا يجمعه وخلقه شَيْء أصلا فصح انْتِفَاء الْعدَد عَنهُ تَعَالَى وَإِذا صَحَّ انْتِفَاء الْعدَد عَنهُ صَحَّ أَنه لَيْسَ معدوداً الْبَتَّةَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ويسألون أَيْضا هَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان اللَّذَان(1/32)
يذكران أَهما واقعان تَحت الْأَجْنَاس والأنواع أم لَا وَهل هما واقعان تَحت المقولات الْعشْر أم لَا فَإِن قَالُوا لَا فقد نفوهما أصلا وأعدموهما الْبَتَّةَ إِذْ لَا مقول من الموجودات إِلَّا هُوَ وَاقع تحتهَا وَتَحْت الْأَجْنَاس والأنواع حاشى الْحق الأول الْوَاحِد الْخَالِق عز وَجل الَّذِي علم بضرورة الدَّلَائِل وَوَجَب بهَا خُرُوجه عَن الْأَجْنَاس والأنواع والمقولات وَبِالْجُمْلَةِ شاؤا أَو أَبَوا فالخلاء وَالزَّمَان الْمُطلق اللَّذَان يذكران كَانَا موجودين فهما واقعان تَحت جنس الكمية وَالْعدَد ضروررة فَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فَهَذَا الزَّمَان الَّذِي ندريه نَحن وهم وَذَلِكَ الزَّمَان الَّذِي يَدعُونَهُ هما واقعان جَمِيعًا تَحت جنس وَاحِد مَتى وَكَذَلِكَ الْمَكَان الَّذِي يَدعُونَهُ وَاقع مَعَ الْمَكَان الَّذِي نعرفه نَحن وهم تَحت جنس أَيْن وبالضرورة يجب أَن مَا لزم بعض مَا نحت الْجِنْس مِمَّا يُوجِبهُ لَهُ الْجِنْس فَإِنَّهُ لَازم لكل مَا تَحت ذَلِك الْجِنْس وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فهما مركبان وَالنِّهَايَة فيهمَا مَوْجُودَة ضَرُورَة إِذْ المقولات كلهَا كَذَلِك وَأَيْضًا فَإِن الْمَكَان لَا بُد لَهُ من مُدَّة يُوجد فِيهَا ضَرُورَة فنسألهم هَل تِلْكَ الْمدَّة هِيَ الزَّمَان الَّذِي يَدعُونَهُ أم هِيَ غَيره فَإِن كَانَت هِيَ هُوَ فَهُوَ زمَان للمكان فَهُوَ مَحْمُول فِي الْمَكَان فَهُوَ ككل زمَان لذِي الزَّمَان فَلَا فرق وَإِن كَانَت غَيره فها هُنَا إِذن زمَان ثَالِث غير مُدَّة ذَلِك الْمَكَان وَغير الزَّمَان الَّذِي ندريه نَحن وهم وَهَذِه وساوس لَا يعجز عَن ادعائها كل من لم يبال بِمَا يَقُول وَلَا استحيا من فضيحة وَيُقَال لَهُم إِذْ لَيْسَ الْمَكَان الَّذِي تَدعُونَهُ وَالزَّمَان الَّذِي تَدعُونَهُ واقعين مَعَ الْمَكَان الْمَعْهُود وَالزَّمَان الْمَعْهُود تَحت جنس وحدٍ وَاحِد فَلم سميتموه مَكَانا وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لَهما ليبعدا بذلك عَن الْإِشْكَال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشركة فَإِن كَانَا مَعَ الزَّمَان وَالْمَكَان المعهودين تَحت حد وَاحِد فقد بطلت دعواكم زَمَانا ومكاناً غير الزَّمَان وَالْمَكَان المعهودين بِالضَّرُورَةِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ويسألون أَيْضا عَن هَذَا الزَّمَان وَالْمَكَان غير المعهودين أَهما دَاخل الْفلك أم خَارجه فَإِن قَالُوا هما دَاخل الْفلك فالخلاء إِذا هُوَ الملاء وَالْمَكَان إِذا فِي التَّمَكُّن يَعْنِي فِي دَاخله وَهَذَا محَال وَالزَّمَان إِذن هُوَ الَّذِي لَا يعرف غَيره وَإِن قَالُوا هما خَارج الْفلك أوجبوا لَهما نِهَايَة ابْتِدَاء مِمَّا هُوَ خَارج الْفلك وَإِن قَالُوا لَا خَارج وَلَا دَاخل فَهَذِهِ دَعْوَى مفتقرة إِلَى برهَان وَلَا برهَان على صِحَّتهَا فَهِيَ بَاطِل فَإِن قَالُوا أَنْتُم تَقولُونَ هَذَا فِي البارىء تَعَالَى قُلْنَا لَهُم نعم لِأَن الْبُرْهَان قد قَامَ على وجوده فَلَمَّا صَحَّ وجوده تَعَالَى قَامَ الْبُرْهَان بِوُجُوب خِلَافه لكل مَا فِي الْعَالم على أَنه لَا دَاخل وَلَا خَارج وَأَنْتُم لم يَصح لكم برهَان على وجود الْخَلَاء وَالزَّمَان الَّذِي تَدعُونَهُ فَصَارَ كلامكم(1/33)
كُله دَعْوَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلم نجد لَهُم سؤالاً أصلا وَلَا أتونا قطّ بِدَلِيل فنورده عَنْهُم وَلَا وجدنَا لَهُم شَيْئا يُمكن الشغب بِهِ فِي أزلية الْخَلَاء والمدة فنورده عَنْهُم وَإِن لم ينتبهوا وَإِنَّمَا هُوَ رَأْي قلدوا فِيهِ بعض قدماء الْمُلْحِدِينَ فَقَط وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّا يبطل بِهِ الْخَلَاء الَّذِي سموهُ مَكَانا مُطلقًا وَذكروا أَنه لايتناهي وَأَنه مَكَان مُتَمَكن فِيهِ برهَان ضَرُورِيّ لانفكاك مِنْهُ وأطرف شَيْء أَنه برهانهم الَّذِي موهوا بِهِ وشغبو بإيراده وَأَرَادُوا بِهِ إِثْبَات الْخَلَاء وَهُوَ أننا نرى الأَرْض وَالْمَاء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق وَنَحْو ذَلِك طباعها السّفل أبدا وَطلب الْوسط والمركز وَأَنَّهَا لَا تفارق هَذَا الطَّبْع فتصعد إِلَّا بقسر يغلبها وَيدخل عَلَيْهَا كرفعنا المَاء وَالْحجر قهرا فَإِذا رفعناهما ارتفعا فَإِذا تركناهما عادا إِلَى طبعهما بالرسوب ونجد النَّار والهواء طبعهما الصعُود والبعد عَن المركز وَالْوسط وَلَا يفارقان هَذَا الطَّبْع إِلَّا بحركة قسراً تدخل عليهمو وَيرى ذَلِك عيَانًا كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب فِي المَاء فَإِذا زَالَت تِلْكَ الْحَرَكَة القسرية رجعا إِلَى طبعهما ثمَّ نجد الْإِنَاء الْمُسَمّى سارقة المَاء يبقي المَاء فِيهَا صعداً وَلَا ينسفك ونجد الزراقة ترفع التُّرَاب والزئبق وَالْمَاء ونجد الزرافة ترفع التُّرَاب والزئبق وَالْمَاء ونجد إِذا حفرنا بِئْرا امْتَلَأَ هَوَاء وسفل الْهَوَاء حِينَئِذٍ ونجد المحجمة تمس الْجِسْم الأرضي إِلَى نَفسهَا فَلَيْسَ كل هَذَا إِلَّا لأحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا عدم الْخَلَاء جملَة كَمَا نقُول نَحن وَإِمَّا لِأَن طبع الْخَلَاء يجتذب هَذِه الْأَجْسَام إِلَى نَفسه كَمَا يَقُول من يثبت الْخَلَاء فَنَظَرْنَا فِي قَوْلهم أَن طبع الْخَلَاء يجتذب هَذِه الْأَجْسَام إِلَى نَفسه كَمَا يَقُول من يثبت الْخَلَاء فوجدناه دَعْوَى بِلَا دَلِيل فَسقط ثمَّ تأملناه أُخْرَى فوجدناه عَائِدًا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ إِذا اجتذبت الْأَجْسَام وَلَا بُد فقد صَار ملاء فالملاء حَاضر مَوْجُود والخلاء دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا فَسَقَطت وَثَبت عدم الْخَلَاء ثمَّ نَظرنَا فِي قَوْلنَا فوجدناه يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ أننا لم نجد إِلَّا بالحس وَلَا بتوهم الْعقل بالإمكان مَكَانا يبْقى خَالِيا قطّ دون مُتَمَكن فصح الملاء بِالضَّرُورَةِ وَبَطل الْخَلَاء إِذْ لم يقم عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا وجد قطّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
ثمَّ نقُول لَهُم إِن كَانَ خَارج الْفلك خلاء على قَوْلكُم فَلَا يَخْلُو من أَن يكون من جنس هَذَا الْخَلَاء الَّذِي تدعون أَنه يجتذب الْأَجْسَام بطبعه أَو يكون من غير جنسه وَلَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ ضررة وَلَا سَبِيل إِلَى ثَالِث الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا هُوَ من جنسه(1/34)
وَهُوَ قَوْلهم فقد أقرُّوا بِأَن طبع هَذَا الْخَلَاء الْغَالِب بِجَمِيعِ الطبائع هُوَ أَن يجتذب المتمكنات إِلَى نَفسه فيمتلىء بهَا حَتَّى أَنه يحِيل قوى العناصر عَن طباعها فَوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْخَلَاء الْخَارِج عَن الْفلك لذَلِك أَيْضا ضَرُورَة لِأَن هَذِه صفة طبعه وجنسه فَوَجَبَ بذلك ضَرُورَة أَن يكون مُتَمَكنًا فِيهِ وَلَا بُد وَإِذا كَانَ هَذَا وَذَلِكَ الْخَلَاء عِنْدهم لَا نِهَايَة لَهُ فالجسم الماليء لَهُ أَيْضا لَا نِهَايَة لَهُ وَقد قدمنَا الْبَرَاهِين الضرورية أَنه لَا يجوز وجود جسم لَا نِهَايَة لَهُ فالخلاء بَاطِل وَلَو كَانَ ذَلِك أَيْضا لَكَانَ مَلأ لَهُ خلاء وَهَذَا خلاف قَوْلهم فَإِن قَالُوا بل ذَلِك الْخَلَاء هُوَ من غير جنس هَذَا الْخَلَاء يُقَال لَهُم فَبِأَي شَيْء عرفتموه وَبِمَ استدللتم عَلَيْهِ وَكَيف وَجب أَن تسموه خلاء وَهُوَ لَيْسَ خلاء وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وهم فِي هَذَا سَوَاء وَمن قَالَ أَن فِي مَكَان خَارج من الْعَالم نَاسا لَا يحدون بِحَدّ النَّاس وَلَا هم كهؤلاء النَّاس أَو من قَالَ أَن فِي خَارج الْفلك نَارا محرقة لَيست من جنس هَذِه النَّار وكل هَذَا حمق وهوس
الْكَلَام على من قَالَ أَن فَاعل الْعَالم ومدبره أَكثر من وَاحِد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ افترق الْقَائِلُونَ بِأَن فَاعل الْعَالم أَكثر من وَاحِد فرقا ثمَّ ترجع هَذِه الْفرق إِلَى فرْقَتَيْن فإحدى الْفرْقَتَيْنِ تذْهب إِلَى أَن الْعَالم غير مدبريه وهم الْقَائِلُونَ بتدبير الْكَوَاكِب السَّبْعَة وأزليتها وهم الْمَجُوس فَإِن الْمُتَكَلِّمين ذكرُوا عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ أَن الْبَارِي عز وَجل لما طَالَتْ وحدته استوحش فَلَمَّا استوحش فكر فكرة سوءٍ فتجسمت فاستحالت ظلمَة فَحدث مِنْهَا اهرمن وَهُوَ إِبْلِيس فرام البارىء تَعَالَى إبعاده عَن نَفسه يسْتَطع فتحرز مِنْهُ بِخلق الْخيرَات وَشرع اهرمن فِي خلق الشَّرّ وَلَهُم فِي ذَلِك تَخْلِيط كثير
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَمر لَا تعرفه الْمَجُوس قَوْلهم الظَّاهِر هُوَ أَن الْبَارِي تَعَالَى وَهُوَ أورمن وابليس وَهُوَ اهرمن وكام وَهُوَ الزَّمَان وجام وَهُوَ الْمَكَان وَهُوَ الْخَلَاء أَيْضا ونوم وَهُوَ الْجَوْهَر وَهُوَ أَيْضا الهيولي وَهُوَ أَيْضا الطينة والخميرة خَمْسَة لم تزل وَإِن اهرمن هُوَ فَاعل الشرور وَإِن اورمن فَاعل الْخيرَات وَإِن نوم هُوَ الْمَفْعُول فِيهِ كل ذَلِك
وَقد أفردنا فِي نقض هَذِه الْمقَالة كتابا جمعناه فِي نقض كَلَام مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب فِي كِتَابه الموسوم بِالْعلمِ الإلهي وَالْمَجُوس يعظمون الْأَنْوَار والنيران والمياه إِلَّا أَنهم يقرونَ بنبوة زرادشت وَلَهُم شررائع يضيفونها إِلَيْهِ وَمِنْهُم(1/35)
المزدقية وهم أَصْحَاب مزدق الموبذ وهم الْقَائِلُونَ بالمساواة فِي المكاسب وَالنِّسَاء والخزمية أَصْحَاب بابك وهم فرقة من فرق المزدقية وهم أَيْضا سر مَذْهَب الإسماعيليلة وَمن كَانَ على قَول القرامطة وَبني عبيد وعنصرهم وَقد يُضَاف إِلَى جملَة من قَالَ أَن مُدبر الْعَالم أَكثر من وَاحِد الصابئون وهم يَقُولُونَ بقدم الأصليين على مَا قدمنَا نَحن قَول الْمَجُوس إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ بتعظيم الْكَوَاكِب السَّبْعَة والبروج الاثْنَي عشر ويصورونها فِي هياكلهم ويقربون الذَّبَائِح والدخن وَلَهُم صلوَات خمس فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة تقرب من صلوَات الْمُسلمين وَيَصُومُونَ شهر رَمَضَان ويستقبلون فِي صلَاتهم الْكَعْبَة وَالْبَيْت الْحَرَام ويعظمون مَكَّة والكعبة ويحرمون الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير ويحرمون من القرائب مَا يحرم على الْمُسلمين وعَلى نَحْو هَذِه الطَّرِيقَة تفعل الْهِنْد بالبددة فِي تصويرها على أَسمَاء الْكَوَاكِب وتعظيمها وَهُوَ كَانَ أصل الْأَوْثَان فِي الْعَرَب والدقاقرة فِي السودَان حَتَّى آل الْأَمر مَعَ طول الزَّمَان إِلَى عِبَادَتهم إِيَّاهَا وَكَانَ الَّذِي يَنْتَحِلهُ الصائبون أقدم الْأَدْيَان على وَجه الدَّهْر وَالْغَالِب على الدُّنْيَا إِلَى أَن أَحْدَثُوا فِيهِ الْحَوَادِث وبدلوا شرائعه بِمَا ذكرنَا فَبعث الله عز وَجل إِلَيْهِم إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بدين الْإِسْلَام الَّذِي نَحن عَلَيْهِ الْآن وَتَصْحِيح مَا أفسدوه(1/36)
بالحنفية السمحة الَّتِي أَتَى بهَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد الله تَعَالَى فَبين لَهُم كَمَا نَص فِي الْقُرْآن بطلَان مَا أحدثوه من تَعْظِيم الْكَوَاكِب وعبادتها وَعبادَة الْأَوْثَان فلقي مِنْهُم مَا نَصه الله فِي كِتَابه وَكَانُوا فِي ذَلِك الزَّمَان وَبعده يسمون الحنفاء وَمِنْهُم الْيَوْم بقايا بحران وهم قَلِيل جدا فَهَذِهِ فرقة
وَيدخل من هَذِه الْفرْقَة من وَجه وَيخرج مِنْهَا من وَجه آخر النَّصَارَى فَأَما الْوَجْه الَّذِي يدْخلُونَ بِهِ فَهُوَ قَوْلهم بالتثليث وَأَن خَالق الْخلق ثَلَاثَة وَأما الْوَجْه الَّذِي يخرجُون بِهِ فَهُوَ أَن للصابئين شرائع يسندونها إِلَى هرمس وَيَقُولُونَ أَنه إِدْرِيس وَإِلَى قوم آخر يذكرُونَ أَنهم أَنْبيَاء كايلون وَيَقُولُونَ أَنه نوح عَلَيْهِ السَّلَام واسفلانيوس صَاحب الهيكل الْمَوْصُوف وعاظميون ويوداسف وَغَيرهم وَالنَّصَارَى لَا يعْرفُونَ هَؤُلَاءِ لَكِن يقرونَ بنبوة نَبِي تعرفه من بني إِسْرَائِيل وَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عَلَيْهِم السَّلَام وَلَا يعْرفُونَ نبوة إِسْمَاعِيل وَصَالح وَهود وَشُعَيْب وَيُنْكِرُونَ نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى إخْوَته الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام والصابئون لَا يقرونَ بنبوة أحد مِمَّن ذكرنَا أصلا وَكَذَلِكَ الْمَجُوس لَا يعْرفُونَ إِلَّا زرادشت فَقَط
وَأما الْفرْقَة الثَّانِيَة فَإِنَّهَا تذْهب إِلَى أَن الْعَالم هُوَ مدبروه لَا غَيرهم الْبَتَّةَ وهم الديصانية والمزقونية والمانية الْقَائِلُونَ بأزلية الطبائع الْأَرْبَع بسائط غير ممتزجة ثمَّ حدث الامتزاج فَحدث الْعَالم بامتزاجها فَأَما المانية فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَن أصلين لم يَزَالَا وهما نور الظلمَة وَأَن النُّور والظلمة حَيَّة وَأَن كليهمَا غير متناه إِلَّا من الْجِهَة الَّتِي لَاقَى مِنْهَا الآخر وَأما من جهاته الْخمس فَغير متناه وأنهما جرمان وَثمّ لَهُم فِي وصف امتزاجهم أَشْيَاء شَبيهَة بالخرافات وهم أَصْحَاب ماني
وَقَالَ المتكلمون أَن ديصان كَانَ تلميذ ماني وَهَذَا خطأٌ بل كَانَ أقدم من ماني لِأَن ماني ذكره فِي كتبه ورد عَلَيْهِ وهما متفقان فِي كل مَا ذكرنَا إِلَّا أَن الظلمَة عِنْد ماني حَيَّة
وَقَالَ ديصان هِيَ موَات وَكَانَ ماني رَاهِبًا بحران وأحدث هَذَا الدّين وَهُوَ الَّذِي قَتله الْملك بهْرَام بن بهْرَام إِذْ ناظره بِحَضْرَتِهِ إذرباذ بن ماركسفند موبذ مو بذان فِي مَسْأَلَة قطع النَّسْل وتعجيل فرَاغ الْعَام فَقَالَ لَهُ الموبذ أَنْت الَّذِي تَقول بِتَحْرِيم النِّكَاح ليستعجل فنَاء الْعَالم وَرُجُوع كل شكل إِلَى شكله وَأَن ذَلِك حق وَاجِب فَقَالَ لَهُ ماني وَاجِب أَن يعان النُّور على خلاصه بِقطع النَّسْل مِمَّا هُوَ فِيهِ من الامتزاج فَقَالَ لَهُ أذر باذ فَمن الْحق الْوَاجِب أَن يعجل لَك هَذَا الْخَلَاص الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ وتعان على إبِْطَال هَذَا الامتزاج المذموم فَانْقَطع ماني فَأمر بهْرَام بقتل ماني فَقتل هُوَ وَجَمَاعَة(1/37)
من أَصْحَابه وهم لَا يرَوْنَ الذَّبَائِح وَلَا إيلام الْحَيَوَان وَلَا يعْرفُونَ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَحده وهم يقرونَ بنبوة زرادشت وَيَقُولُونَ بنبوة ماني وَقَالَت المزقزنية أَيْضا كَذَلِك إِلَّا أَنهم قَالُوا نور وظلمة لم يَزَالَا وثالث أَيْضا بَينهمَا لم يزل إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ كلهم متفقون على أَن هَذِه الْأُصُول لم تحدث شَيْئا هُوَ غَيرهَا لَكِن حدث من امتزاجها وَمن أبعاضها بالاستحالة صور الْعَالم كُله فَهَذِهِ الْفرق كلهَا مطبقة على أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد وَإِن اخْتلف فِي الْعدَد وَالصّفة وَكَيْفِيَّة الْعقل وإلزامات الشَّرَائِع وكلامنا هَذَا كَلَام اخْتِصَار وإيجاز وَقصد إِلَى اسْتِيعَاب قَوَاعِد الِاسْتِدْلَال والبراهين الضرورية والنتائج الْوَاجِبَة من الْمُقدمَات الأولية الصَّحِيحَة وإضراب عَن الشغب والتطويل الَّذِي يَكْتَفِي بِغَيْرِهِ عَنهُ فَإِنَّمَا وكدنا بعون الله تَعَالَى أَن نبين بالبراهين الضرورية أَن الْفَاعِل وَاحِد لَا أَكثر الْبَتَّةَ ونبين بطلَان أَن يكون أَكثر من وَاحِد كَمَا فعلنَا بتأييد الله عز وَجل إِذْ بَينا بالبراهين الضرورية أَن الْعَالم مُحدث كَانَ بعد أَن لم يكن وَإِن لَهُ مخترعاً مُدبرا لم يزل وَسَقَطت خرافاتهم المضافة إِلَى الْأَوَائِل الْفَاسِدَة فِي وَصفهم الفاعلين وَكَيْفِيَّة أفعالهم إِذْ لاتكون صفة إِلَّا لموصوف فَإِذا بَطل الْمَوْصُوف بطلت الصّفة الَّتِي وصفوه بهَا
وَأما الِاشْتِغَال أحكامهم الشَّرْعِيَّة فلسنا من ذَلِك فِي شَيْء لِأَنَّهُ لَيْسَ من الشَّرَائِع العلمية شَيْء يُوجِبهُ الْعقل وَلَا شَيْء يمْنَع مِنْهُ الْعقل بل كلهَا من بَاب الْمُمكن فَإِذا قَامَت الْبَرَاهِين الضرورية على قَول الْآمِر بهَا وَوُجُوب طَاعَته وَجب قبُول كل مَا أَتَى بِهِ كَائِنا مَا كَانَ من الْأَعْمَال وَلَو أَنه قتل أَنْفُسنَا وأبنائنا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا وَإِذا لم يَصح قَول الْآمِر بهَا وَلم يَصح وجوب طَاعَته لَا يلْتَفت إِلَى مَا يَأْمر بِهِ أَي شَيْء كَانَ من الْأَعْمَال وكل شَرِيعَة كَانَت على خلاف هَذَا فَهِيَ بَاطِلَة فكلامنا مَعَ الْفرق الَّتِي ذكرنَا فِي إِثْبَات أَن الْفَاعِل الأول وَاحِدًا لَا أَكثر وَإِبْطَال أَن يكون أَكثر من وَاحِد وَهُوَ حاسم لكل شغب يأْتونَ بِهِ بعد ذَلِك وكاف من التَّكَلُّف لما قد كفته الْمَرْء بِيَسِير من الْبَيَان وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى
ونبدأ بحول الله تَعَالَى وَقدرته بإيراد عُمْدَة مَا موهو بِهِ فِي إِثْبَات أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد ثمَّ ننقضه بحول الله تَعَالَى وقوته بالبراهين الْوَاضِحَة ثمَّ نشرع إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي إِثْبَات أَنه تَعَالَى وَاحِد بِمَا لَا سَبِيل إِلَى رده وَلَا اعْتِرَاض فِيهِ كَمَا فعلنَا فِيمَا خلا من كتَابنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
عُمْدَة مَا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد استدلالان فاسدان أَحدهمَا هُوَ اسْتِدْلَال المانية(1/38)
والديصانية وَالْمَجُوس والصابئة والمزدقية وَمن ذهب مذاهبهم وَهُوَ أَنهم قَالُوا وجدنَا الْحَكِيم لَا يفعل الشَّرّ وَلَا يخلق خلقا ثمَّ يُسَلط عَلَيْهِ غَيره وَهَذَا عيب فِي الْمَعْهُود وَوجدنَا الْعَالم كُله يَنْقَسِم قسمَيْنِ كل قسم مِنْهُمَا ضد الآخر كالخير وَالشَّر والفضيلة والرذيلة والحياة وَالْمَوْت والصدق وَالْكذب فَعلمنَا أَن الْحَكِيم لَا يفعل إِلَّا الْخَيْر وَمَا يَلِيق فعله بِهِ وَعلمنَا أَن الشرور لَهَا فَاعل غَيره وَهُوَ شَرّ مِنْهَا وَالِاسْتِدْلَال الثَّانِي وَهُوَ اسْتِدْلَال من قَالَ بتدبير الْكَوَاكِب السَّبْعَة والاثني عشر برجاً وَمن قَالَ بالطبائع الْأَرْبَع وَهُوَ أَن قَالُوا لَا يفعل الْفَاعِل أفعالاً مُخْتَلفَة إِلَّا بِأحد وُجُوه أَرْبَعَة إِمَّا أَن يكون ذَا قوى مُخْتَلفَة وَإِمَّا أَن يفعل بآلات مُخْتَلفَة وَإِمَّا أَن يفعل باستحالة وَإِمَّا أَن يفعل فِي أَشْيَاء مُخْتَلفَة قَالُوا فَلَمَّا بطلت هَذِه الْوُجُوه كلهَا وَإِذا لَو قُلْنَا إِنَّه يفعل بقوى مُخْتَلفَة لحكمنا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مركب فَكَانَ يكون من أحد المفعولات وَلَو قُلْنَا إِنَّه يفعل باستحالة لوَجَبَ أَن يكون منفعلاً للشَّيْء الَّذِي أَحَالهُ فَكَانَ يدْخل بذلك فِي جملَة المفعولات وَلَو قُلْنَا إِنَّه يفعل أَشْيَاء مُخْتَلفَة لوَجَبَ أَن تكون تِلْكَ الْأَشْيَاء مَعَه وَهُوَ لم يزل فَتلك الْأَشْيَاء لم تزل فَكَانَ حِينَئِذٍ لَا يكون مخترعاً للْعَالم وَلَا فَاعِلا لَهُ قَالُوا فَعلمنَا بذلك أَن الفاعلين كثير وَأَن كَانَ وَاحِد يفعل مَا يَشَاء كُله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ عُمْدَة مَا عول عَلَيْهِ وَمن لم يقل بِالتَّوْحِيدِ وكلا هذَيْن الاستدلالين خطأ فَاحش على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَيُقَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لمن احْتج بِمَا احتجت بِهِ المانية من أَنه لَا يفعل الْحَكِيم الشَّرّ وَلَا الْعَبَث هَل يَخْلُو علمكُم بِأَن هَذَا الشَّيْء شَرّ وعبث من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تَكُونُوا علمتموه بسمع وردكم وَخبر وَإِمَّا أَن تَكُونُوا علمتموه بضرورة الْعقل
فَإِن قُلْتُمْ أَنكُمْ علمتموه من طَرِيق السّمع قيل لكم هَل معنى السّمع الْآتِي غير أَن مُبْتَدع الْخلق ومرتبة سمي هَذَا الشَّيْء شرا وَأمر باجتنابه وَسمي هَذَا الشَّيْء الآخر خيرا وَأمر بإتيانه فَلَا بُد من نعم إِذْ هَذَا هُوَ معنى اللَّازِم عِنْد كل من قَالَ بِالسَّمْعِ فَيُقَال لَهُم فَإِنَّمَا صَار الشَّرّ شرا لنهي الْوَاحِد الأول عَنهُ وَإِنَّمَا صَار الْخَيْر خيرا لأَمره فَلَا بُد من نعم فَإِذا كَانَ هَذَا فقد ثَبت أَن من لَا مبدع وَلَا مُدبر لَهُ وَلَا آمُر فَوْقه لَا يكون شَيْء من فعله شرا إِذا السَّبَب فِي كَون الشَّرّ شرا هُوَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ شَرّ وَلَا مخبر يلْزم طَاعَته إِلَّا الله تَعَالَى فَإِن قَالَ فَكيف يفعل هُوَ شَيْئا قد أخبر أَنه شَرّ قَلِيل لَهُ لَيْسَ يفعل الْجِسْم فِيمَا يُشَاهد غير الْحَرَكَة والسكون وَالْحَرَكَة كلهَا جنس وَاحِد فِي أَنَّهَا(1/39)
نقلة مكانية وَكَذَلِكَ السّكُون جنس وَاحِد كُله فَإِنَّمَا أمرنَا تَعَالَى بِفعل بَعْضهَا ونهانا عَن فعل بَعْضهَا وَلم يفعل هُوَ الْحَرَكَة قطّ على أَنه متحرك بهَا وَلَا السّكُون على أَنه سَاكن بِهِ وَإِنَّمَا فعلهمَا على سَبِيل الإبداع فتحركنا نَحن بحركة نهينَا عَنْهَا وسكوننا بِسُكُون نهينَا عَنهُ هُوَ الشَّرّ
وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد النَّفس مَا نهبت عَنهُ وَهَذَا كُله غير مَوْصُوف بِهِ الْبَارِي تَعَالَى وَإِن قَالُوا علمنَا ذَلِك ببداهة الْعقل قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَلَيْسَ الْعقل قُوَّة من قوى النَّفس وداخلاً تَحت الْكَيْفِيَّة على الْحَقِيقَة أَو تَحت الْجَوْهَر على قَول من لَا يحصل فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم إِنَّمَا يُؤثر الْعقل مَا هُوَ من شكله فِي بَاب الكيفيات فيميز بَين خطئها وصوابها وَيعرف أحوالها ومراتبها وَأما فِيمَا هُوَ فَوْقه وَفِيمَا لم يزل الْعقل مَعْدُوم وَفِي مخترع الْعقل ومرتبه كَمَا هُوَ فَلَا تَأْثِير لِلْعَقْلِ فِيهِ إِذْ لَو أثر فِيهِ لَكَانَ مُحدثا على مَا قدمنَا من أَن الْأَثر من بَاب الْمُضَاف فَهِيَ تَقْتَضِي مؤثراً فَكَانَ يكون الْبَارِي تَعَالَى منفعلاً لِلْعَقْلِ وَكَانَ يكون الْعقل فَاعِلا فِيهِ تَعَالَى وحاكماً عَلَيْهِ جلّ الله عَن ذَلِك
وَقد بَينا فِي كتَابنَا هَذَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يجْرِي مجْرى خلقه فِي معنى وَلَا حكم وَذكرنَا أَيْضا فِيهِ إبِْطَال قَول من قَالَ بِتَسْمِيَة الْبَارِي حَيا أَو حكيماً أَو قَادِرًا أَو غير ذَلِك من سَائِر الصِّفَات من جِهَة الِاسْتِدْلَال حاشى أَرْبَعَة أَسمَاء فَقَط وَهِي الأول الْوَاحِد الْحق الْخَالِق فَقَط وَهِي الْأَسْمَاء هِيَ الَّتِي لَا يَسْتَحِقهَا شيءٌ فِي الْعَالم غَيره فَلَا أول سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا وَاحِد سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا خَالق سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا حق سواهُ الْبَتَّةَ على الْإِطْلَاق وكل مَا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ حق بالباري تَعَالَى وَلَوْلَا الْبَارِي تَعَالَى مَا كَانَ شيءٌ فِي الْعَالم حَقًا وكل مَا دونه تَعَالَى فَإِنَّمَا حق بِالْإِضَافَة وَلَوْلَا أَن السّمع قد ورد بِسَائِر الْأَسْمَاء الَّتِي ورد الْخَبَر الصَّادِق بهَا مَا جَازَ أَن يُسمى الله عز وَجل بشسء مِنْهَا وَلَكِن قد بَينا فِي مَكَانَهُ من هَذَا الْكتاب على أَي شَيْء تَسْمِيَته بِمَا ورد السّمع وَإِن ذَلِك تَسْمِيَة لَا يُرَاد بهَا غَيره تَعَالَى وَلَا يرجع مِنْهَا إِلَى شَيْء سواهُ الْبَتَّةَ وَأَيْضًا فَإِن دليلهم فِيمَا سموا بِهِ الْبَارِي تَعَالَى وأجروه عَلَيْهِ إقناعي شغبي وَفِيه نشبيه للخالق بخلقه وَفِي تشبيههم لَهُ بخلقه حكم عَلَيْهِ بالحدوث وَأَن يكون الْفَاعِل مَفْعُولا وَقد قدمنَا إبِْطَال ذَلِك وَيُقَال لَهُم إِن التزمتم أَن يكون فَاعل فِيمَا عندنَا عابثاً فقررتم بذلك على أَن يكون فَاعل الْعَالم وَاحِدًا وقدد علمنَا فِيمَا بَينا أَن تَارِك الشَّيْء لَا يُغَيِّرهُ وَهُوَ قَادر على(1/40)
تَغْيِيره عابث ظَالِم وَلَا يَخْلُو فَاعل الْخيرَات عنْدكُمْ من أَن يكون قَادِرًا على تَغْيِيره وَالْمَنْع مِنْهُ وَلم يُغَيِّرهُ فقد صَار عنْدكُمْ عابثاً ضَرُورَة فقد وَقَعْتُمْ فِيمَا عَنهُ فررتم ضَرُورَة وَإِن قُلْتُمْ أَنه غير قَادر على تَغْيِيره وَلَا الْمَنْع مِنْهُ فَهُوَ بِلَا شكّ عَاجز ضَعِيف وَهَذِه صفة سوء عنْدكُمْ فَهَلا تركْتُم القَوْل بِأَنَّهُ أَكثر من وَاحِد لهَذَا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّهُ أصح على أصولكم ومقدماتكم وَأما نَحن فمقدمتكم عندنَا فَاسِدَة بالبرهان الَّذِي ذَكرْنَاهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ والمانية تزْعم أَن النُّور كَانَ فِي الْعُلُوّ إِلَى مَا نِهَايَة لَهُ وَأَن الظلمَة فِي السّفل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَأَن كل وَاحِد مِنْهَا متناهي المساحة من الْجِهَة الَّتِي لَاقَى مِنْهَا الآخر وَغير متناه من جهاته الْخمس وَأَن اللَّذَّة للنور خَاصَّة لَا للظلمة وَأَن الْأَذَى للظلمة خَاصَّة لَا للنور
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَأَما بطلَان هَذَا القَوْل فِي عدم التناهي من الْجِهَات الْخمس فَيفْسد بِمَا أَوجَبْنَا بِهِ تناهي جسم الْعَالم وَأما قَوْلهم بالعلو والسفل فَظَاهر الْفساد لِأَن السّفل لَا يكون إِلَّا بِالْإِضَافَة وَكَذَلِكَ الْعُلُوّ فَكل علو فَهُوَ سفل لما فَوْقه حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الصفحة الْعليا الَّتِي لَا صفحة فَوْقهَا وَهُوَ لَا يقرونَ بهَا وكل سفل فَهُوَ علو لما تَحْتَهُ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى المركز وهم لَا يقرونَ بهَا فصح ضَرُورَة أَن فِي الظلمَة على قَوْلهم علوا وَأَن فِي النُّور سفلاً
وَأما قَوْلهم فِي اللَّذَّة والأذى ففاسد جدا لِأَن اللَّذَّة لَا تكون إِلَّا بِالْإِضَافَة وَكَذَلِكَ الْأَذَى فَإِن الْإِنْسَان لَا يتلذ بِمَا يلتذ بِهِ الْحمار ويتأذى بِمَا لَا يتَأَذَّى بِهِ الأفعى فَبَطل هُوَ سهم بِيَقِين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
سُؤال غلى المانية دامغ لقَولهم بحول الله وقوته وَهُوَ أَن يُقَال لَهُم ألهذه الأجساد أنفس أم لَا فَإِن قَالُوا لَا قيل لَهُم فَهَذِهِ الأجساد لَا تحلو على أصولكم من أَن يكون فِي كل جَسَد مِنْهَا نور وظلمة أَو يكون بعض الأجساد نورا مَحْضا وَبَعضهَا ظلمَة مَحْضَة فَإِن قَالُوا فِي كل جَسَد نور وظلمة قيل لَهُم فَهَل يجوز من الظلمَة فعل الْخَيْر فَلَا بُد من لَا لِأَنَّهُ لَو فعل الْخَيْر لانتقلت إِلَى النُّور وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يفعل النُّور شرا لِأَنَّهُ كَانَ يصير ظلمَة فَيُقَال لَهُم فإي معنى لدعائكم إِلَى الْخَيْر ونهيكم عَن النِّكَاح وَالْقَتْل وأخبرونا من تدعون إِلَى كل ذَلِك فَإِن كُنْتُم تدعون النُّور فَهُوَ طبعه وَهُوَ فَاعل لَهُ بطبعه قبل أَن تَدعُوهُ إِلَيْهِ لَا يُمكنهُ أَن يحول عَنهُ فدعاؤكم لَهُ إِلَى مَا يَفْعَله وأمركم لَهُ يتْرك مَا لَا يَفْعَله عَبث من النُّور دَاع إِلَى الْمحَال وَهَذَا خلاف أصلكم وَإِن كُنْتُم تدعون الظلمَة فَذَلِك عَبث من النُّور لَهَا إِلَى ذَلِك إِذْ لَا سَبِيل لَهَا إِلَى ترك طبعها وَكَذَلِكَ يُقَال لَهُم سَوَاء بِسَوَاء إِن قَالُوا إِن من الأجساد مَا هُوَ نور مَحْض وَمِنْهَا مَا هُوَ ظلمَة مَحْضَة وَهَكَذَا يسئلون فِي الْأَرْوَاح أَن أقرُّوا بهَا ثمَّ يسئلون عَمَّن رَأَيْنَاهُ ينْكح وَيقتل وَيظْلم ويكذب(1/41)
ثمَّ يَتُوب عَن كل ذَلِك من الْقَاتِل الظَّالِم أهوَ النُّور أم الظلمَة وَمن النَّائِب النُّور أم الظلمَة فَأَي ذَلِك قَالُوا فَهُوَ هدم مَذْهَبهم وَقد جوزوا الاستحالة فَإِن قَالُوا معنى دعائنا إِلَى مَا نَدْعُو إِلَيْهِ من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ حض للنور على الْمَنْع للظلمة من ذَلِك قيل لَهُم أَكَانَ النُّور قَادِرًا على منعهَا قبل دعائكم أم لَا فَإِن قَالُوا كَانَ قَادِرًا قيل لَهُم فقد ظلم بِتَرْكِهِ إِيَّاهَا تظلم وَهُوَ يقدر على منعهَا قبل دعائكم وَإِن قُلْتُمْ لم يذكر حَتَّى نبه قيل لَهُم فَهَذَا نقص مِنْهُ وَجَهل وصفات شَرّ لَا تلِيق بِالنورِ على قَوْلكُم وَهَذَا مَالا انفكاك لَهُم مِنْهُ وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُم إِن الدَّاعِي مِنْكُم إِلَى دينه لَا يَقُول لمن دَعَاهُ كف غَيْرك عَن ظلمه إِنَّمَا يَقُول لَهُ كف عَن ظلمك وارجع عَن ضلالك وَلَقَد أَحْسَنت فِي رجوعك عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق فَإِن كُنْتُم تأمرون بِأَن يُخَاطب بذلك الظلمَة فَالْأَمْر بذلك كَاذِب آمُر بِالْكَذِبِ وَإِن كُنْتُم تأمرون بِأَن يُخَاطب بذلك النُّور فَالْأَمْر بذلك أَيْضا كَاذِب آمُر بِالْكَذِبِ = فَإِن قَالُوا فإي معنى لدعائكم إِلَى الْخَيْر وَقد سبق علم الله تَعَالَى فِيمَن يُعلمهُ وَمن لَا يُعلمهُ قيل لَهُم جَوَاب بَعْضنَا فِي هَذَا هُوَ أَن كل من يدعى إِلَى الْخَيْر فممكن وُقُوعه مِنْهُ وممكن أَيْضا فعل الشَّرّ مِنْهُ ومتوهم كل ذَلِك مِنْهُ فَوجه دعائنا لَهُ مَعْرُوف وَلَيْسَ علم الله تَعَالَى إجباراً وَإِنَّمَا هُوَ أَنه تَعَالَى علم مَا يختاره العَبْد وَجَوَاب بَعْضنَا فِي ذَلِك هُوَ أَن فَاعل كل مَا يَبْدُو فِي الْعَالم فعل خلق وإبداع فَهُوَ الله عز وَجل لَا يتعقب عَلَيْهِ فَهُوَ خَالق دعائنا من تَدعُوهُ فَإِن ذَلِك كَذَلِك فَلَا يجوز سُؤال الْخَالِق لما شَاءَ بلم فعلت وَهَذَا هُوَ الْجَواب الَّذِي نختاره وَيُقَال لَهُم أَيْضا أخبرونا عَن ماني والمسيح وزرادشت وَأَنْتُم تعظمونهم أفيهم ظلمَة أم كَانُوا أنورا مَحْضَة فَمن قَوْلهم وَلَا بُد أَن فيهم ظلمَة لأَنهم يَتَغَوَّطُونَ ويجزعون ويألمون فَيُقَال لَهُم فَلم عجز النُّور الَّذِي فِيكُم عَن مثل ذَلِك فَإِن قَالُوا لقلته قيل لَهُم فَكَانَ يجب أَن يَأْتِي من المعجزات وَلَو بِيَسِير على قدره وَهَذَا مَا لَا مخلص لَهُم مِنْهُ أصلا وَيُقَال لَهُم أَيْضا إِن من الْعَجَائِب إلزامكم ترك النِّكَاح لتعجلوا قطع النَّسْل فهبكم قدرتم على ذَلِك فَكيف تَصْنَعُونَ فِي الْوَحْش وَالطير وَسَائِر الْحَيَوَان الْبري والحشرات وحيوان الْمِيَاه والبحار الَّتِي تقتل بَعْضهَا بَعْضًا أَشد من قتل بعض النَّاس لبَعض وَأكْثر فَكيف السَّبِيل إِلَى قطع تناسلها وفراع امتزاجها وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لكم إِلَيْهِ أصلا فَإِن كَانَ النُّور عَاجِزا عَن قطعهَا فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى خلاص أَجْزَائِهِ أَبَد الْأَبَد وَإِن كَانَ على ذَلِك قَادِرًا فَلم لم يعجل خلاص أَجْزَائِهِ وَلم يَتْرُكهَا تردد فِي الظُّلُمَات وأعجب شَيْء مَنعهم من الْقَتْل وَهَذَا عون مِنْهُم على بَقَاء المزاج وعَلى منع الْخَلَاص واستنقاذ(1/42)
النُّور وَقطع المزاج وَهَذَا تنَاقض ظَاهر مِنْهُم لَا خَفَاء بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
وكل مَا قدمنَا من الْبَرَاهِين على حُدُوث الْعَالم وَإِيجَاب النِّهَايَة فِي جرمه وأشخاصه وأزمانه فَهُوَ لَازم الْأَصْلَيْنِ النُّور والظلمة على أصُول المانية وعَلى كل من يَقُول بِأَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد وَأَنه لم يزل مَعَ المفاعل غَيره لُزُوم ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما الِاسْتِدْلَال الثَّانِي الَّذِي عولوا فِيهِ على أَقسَام من يفعل أفعالا مخلفة فَهُوَ اسْتِدْلَال فَاسد أَيْضا لأَنهم إِنَّمَا عولوا فِيهِ على الْأَقْسَام الْمَوْجُودَة فِي الْعَالم وَقد قدنا الْبَرَاهِين الضرورية على حُدُوث الْعَالم وعَلى أَن محدثه لَا يشبه فِي شَيْء من الْأَشْيَاء فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يدْخل تَحت شَيْء من أَقسَام الْعَالم لكنه تَعَالَى يقعل الْأَشْيَاء الْمُخْتَلفَة والأشياء المتفقة مُخْتَارًا لكل ذَلِك وَحين شَاءَ لَا عِلّة لشَيْء من ذَلِك إِذْ قدمنَا أَن مَا حصرته الطبيعة فَهُوَ متناه والمتناهي مُحدث على قدمنَا من أَن يكون ذَا قوى أَو فَاعِلا بآلات أَو فَاعِلا باستحالة أَو فَاعِلا فِي أَشْيَاء لِأَن هَذَا كُله يَقْتَضِي أَن يكون مُحدثا تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَهُوَ لم يزل فقد وَجب ضَرُورَة أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء من مُخْتَلف ومتفق مُخْتَارًا دون عِلّة مُوجبَة عَلَيْهِ شَيْئا من ذَلِك وَلَا بِقُوَّة هِيَ غَيره وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وكل مَا ألزمنا من يَقُول إِن الْعَالم لم يزل من الْبَرَاهِين الضرورية فَهُوَ لَازم للمانية والديصانية والمزقونية والقائلين بأزلية الطبائع والهيولي لِأَن الْعَالم عِنْد هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير تِلْكَ الْأُصُول الَّتِي لم تزل عِنْدهم وَإِنَّمَا حدثت فيهم عِنْدهم الصُّورَة فَقَط وَيدخل أَيْضا عَلَيْهِم القَوْل يتناهي الْأَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا عِنْدهم جسمان والجسم متناه ضَرُورَة لبرهانين نوردهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَذَلِكَ أننا نقُول لَا يَخْلُو كل جرم من الأجرام من أَن يكون متحركاً أَو سَاكِنا فَإِن كَانَ متحركاً أَو سَاكِنا فَإِن كَانَ متحركاً فقد علمنَا أَن الْمسَافَة الَّتِي لَا تتناهى لَا تقطع أصلا لَا فِي زمَان متناه وَلَا فِي زمَان غير متناه ثمَّ لَا تَخْلُو حركته من أَن تكون إِمَّا باستدارة وَإِمَّا إِلَى جِهَة من الْجِهَات وَلَا ثَالِث لهذين الْوَجْهَيْنِ
فَإِن كَانَ متحركاً باستدارة وَهُوَ غير متناه فَهَذَا محَال لِأَن الخطين الخارجين من الْوسط إِلَى الْمشرق وَإِلَى الْعُلُوّ غير متناهين إِذن فَكَانَ يجب أَن يكون الْجُزْء الَّذِي فِي سمت الْمشرق مِنْهُ لَا يبلغهُ إِلَى الْعُلُوّ الَّذِي هُوَ سمت الرَّأْس مِنْهُ أبدا فقد بطلت الْحَرَكَة على هَذَا فَهَذَا إِذن متحرك لَا متحرك وَهَذَا محَال مَعَ مُشَاهدَة العيان لقطع كل جُزْء من الْفلك الْكُلِّي جَمِيع مسافته ورجوعه إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ مِنْهُ فِي كل أَربع وَعشْرين سَاعَة
وَإِن كَانَ متحركاً إِلَى جِهَة من الْجِهَات فَهَذَا أَيْضا محَال لِأَن الْحَرَكَة نقلة من مَكَان إِلَى مَكَان فَإِذا وجد هَذَا الْجِسْم مَكَانا ينْتَقل إِلَيْهِ(1/43)
لم يكن فِيهِ قبل ذَلِك فقد ثبتَتْ النِّهَايَة لَهُ ضَرُورَة لِأَن وجوده غير كَائِن فِي الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ مُوجب لانقطاعه قبله وَإِن كَانَ لم يزل فِي الْمَكَان الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ وَهَكَذَا فِيمَا بعده من الْأَمْكِنَة فَلم يزل غير منتقل وَقد قُلْتُمْ أَنه لم يزل منتقلاً فَهُوَ إِذن متحرك لَا متحرك وَهَذَا محَال
وَإِن قُلْتُمْ سَاكن قُلْنَا لكم اقْطَعُوا من هَذَا الجرم قِطْعَة بالوهم فَإِذا توهموا ذَلِك سألناهم مَتى كَانَ هَذَا الجرم أعظم أقبل أَن تقطع مِنْهُ هَذِه الْقطعَة أَو بعد أَن قطعت فأياما قَالُوا أَو إِن قَالُوا أَنه مساوؤ لنَفسِهِ قبل أَن تقطع مِنْهُ هَذِه الْقطعَة فقد أثبتوا النِّهَايَة إِذْ لَا تقع الْكَثْرَة والقلة والتساوي إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة
وَأَيْضًا فَإِن الْمَكَان والجرم مِمَّا يَقع تَحت الْعدَد كوقوع الزَّمَان تَحت الْعدَد فَكل مَا أدخلْنَاهُ فِيمَا خلا من تناهي الزَّمَان من طَرِيق الْعدَد فَهُوَ لَازم فِي تناهي الْمَكَان والجرم من طَرِيق الْعدَد بالمساحة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل مَا ألزمناه من يَقُول بِأَن الْأَجْسَام لم تزل فَهُوَ لَازم بِعَيْنِه لمن يَقُول أَن السَّبْعَة كواكب والاثني عشر برجاً لم تزل لِأَنَّهَا أجسام جَارِيَة تَحت أَقسَام الْفلك وحركته فَانْظُر هُنَالك مَا ألزمناه من حُدُوث الْأَجْسَام وأزمانها فَهُوَ لَازم لهَؤُلَاء وَتَركنَا مَا ألزمناه فِي حُدُوث الْأَجْسَام فِي فروع أَقْوَالهم كَقَوْلِهِم فِي المزاج والخلاص وصفات النُّور والظلمة إِذا إِنَّمَا قصدنا اجتثاث أصُول الْمذَاهب الْفَاسِدَة فِي أَن الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد واعتمدنا الْبَيَان فِي إِثْبَات الْوَاحِد فَقَط فَإذْ قد ثَبت ذَلِك ببراهين ضَرُورِيَّة بَطل كل مَا عرفوه من هَذَا الأَصْل الْفَاسِد إِنَّمَا قصدنا مَا تدفع إِلَيْهِ الضَّرُورَة من الِاسْتِيعَاب لما لَا بُد مِنْهُ بإيجاز بحول الله تَعَالَى وقوته وَأما من جعل الْفَاعِل أَكثر من وَاحِد إِلَّا أَنهم جعلوهم غير الْعَالم كالمجوس وَالصَّابِئِينَ والمزقزنية وَمن قَالَ بالتثليث من الناري فَإِنَّهُ يدْخل عَلَيْهِم من الدَّلَائِل الضرورية بحول الله وقوته مَا نَحن موردوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن مَا كَانَ أَكثر من وَاحِد فَهُوَ وَاقع تَحت جنس الْعدَد وَمَا كَانَ وَاقعا تَحت جنس الْعدَد فَهُوَ نوع من أَنْوَاع الْعدَد وَمَا كَانَ نوعا فَهُوَ مركب من جنسه الْعَام وَلغيره وَمن فصل خصّه لَيْسَ فِي غَيره فَلهُ مَوضِع وَهُوَ الجلس الْمُقَابل لصورته وَصُورَة غَيره من أَنْوَاع ذَلِك الْجِنْس وَله مَحْمُول وَهُوَ الصُّورَة الَّتِي خصته دون غَيره فَهُوَ ذُو مَوْضُوع وَذُو مَحْمُول فَهُوَ مركب من جنسه وفصله والمركب مَعَ الْمركب من بَاب الْمُضَاف الَّذِي لَا بُد لكل وَاحِد مِنْهُمَا من الآخر فَأَما الْمركب فَإِنَّمَا يَقْتَضِي وجود الْمركب من وَقت تركبه وَحِينَئِذٍ يُسمى مركبا(1/44)
لَا قبل ذَلِك وَأما الْوَاحِد فَلَيْسَ عددا لما سنبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فقد انْقَضى الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَمن الْبُرْهَان على أَن فَاعل الْعَالم لَيْسَ وَاحِدًا أَن الْعَالم لَو كَانَ مخلوقاً لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا لم يخل من أَن يَكُونَا لم يَزَالَا مشتبهين أَو مُخْتَلفين فأياما قَالُوا فقد أثبتوا معنى فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا بِهِ اشتبها أَو بِهِ اخْتلفَا فَإِن نفوا ذَلِك فقد نفوا الِاخْتِلَاف والاشتباه مَعًا وَلَا يجوز ارتفاعهما مَعًا أصلا لِأَن ذَلِك محَال وَمُوجب للعدم لِأَن وجود شَيْئَيْنِ لَا يشتبهان فِي شَيْء وَلَا يَخْتَلِفَانِ بِوَجْه من الْوُجُوه محَال إِذْ فِي ذَلِك عدمهما لِأَن هَذِه الصّفة مَعْدُومَة فحاملها مَعْدُوم وهم قد أثبتوا وجودهَا فَيلْزم القَوْل بموجود مَعْدُوم فِي وَقت وَاحِد من وَجه وَاحِد وَهَذَا محَال وهم إِذا أثبتوهما موجودين لم يَزَالَا فقد أثبتوا لَهما مَعَاني قد اشتبها فِيهَا وَهِي كَونهمَا مشتبهين فِي الْوُجُود مشتبهين فِي الْفِعْل مشتبهين فِي أَن لم يَزَالَا وَلَا يجوز أَن تكون هَذِه الْأَشْيَاء لَيست غَيرهمَا لِأَنَّهَا صِفَات عمتهما أَعنِي اشتباههما فِي الْمعَانِي المذكروة فَإِن كَانَ اشتباههما هُوَ هما فهما شيءٌ وَاحِد وَكَذَلِكَ أَيْضا يلْزم فِي كَونهمَا مُخْتَلفين فِي أَن كل وَاحِد فهما غير صَاحبه فَإِن كَانَ هَذَا الِاخْتِلَاف فيهمَا هُوَ غَيرهمَا فههنا ثَالِث وَهَكَذَا أَيْضا أيدا
وَسَنذكر مَا يدْخل فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَإِن كَانَ التغاير هُوَ هما والاشتباه هُوَ هما فالتغاير هُوَ الِاشْتِبَاه وَهَذَا هُوَ عين الْمحَال لِأَنَّهُ لَا بُد من معنى مَوْجُود فِي المتغاير لَيْسَ اشتباهاً لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الشيئآن مشتبهين بالتغاير فَإذْ قد ثَبت مَا ذكرنَا وَلم يكن بُد من اشْتِبَاه أَو اخْتِلَاف هُوَ معنى غَيرهمَا فقد ثَبت ثَالِث وَإِذا ثَبت ثَالِث لزم فيهم ثَلَاثَتهمْ مثل مَا لزم فِي الِاثْنَيْنِ من السُّؤَال وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَن كل وَاحِد فهما أَو أَحدهمَا مركب من ذَاته وَمن الْمَعْنى الَّذِي بَان بِهِ عَن الآخر أَو بِهِ أشبه الآخر فَإِن أثبتوا ذَلِك لَهما جَمِيعًا وَكِلَاهُمَا مركب والمركب مُحدث فهما مخلوقان لغَيْرِهِمَا وَلَا بُد وَإِن أثبتوا ذَلِك لأَحَدهمَا فَقَط كَانَ مركبا وَكَانَ الآخر هُوَ الْفَاعِل لَهُ فقد عَاد الْأَمر إِلَى وَاحِد غير مركب وَلَا بُد ضَرُورَة
وَيُوجب أَيْضا إِن تَمَادَوْا على مَا ألزمناهم من وجود معنى بِهِ بار كل من الآخر وجود قدماء لم يزَالُوا وَوُجُود فاعلين آلِهَة أَكثر من الماهولين وَهَذَا محَال لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى وجود أعداد قَائِمَة ظَاهِرَة فِي وَقت وَاحِد لَا نِهَايَة لَهَا لِأَنَّهُ إِن كَانَ لَهَا عدد فقد حصرها ذَلِك الْعدَد على مَا قدمنَا وكل مَا حصر فَهُوَ متناه وَقد أَوجَبْنَا عَلَيْهِم القَوْل بِأَنَّهَا غير متناهية فلزمهم القَوْل بأعداد متناهية لَا متناهية وَهَذَا من أعظم الْمحَال فَإِن لم يكن لَهَا عدد فَلَيْسَتْ مَوْجُودَة لِأَن كل مَوْجُود فَلهُ عدد وكل ذِي عدد متناه كَمَا قدمنَا فَإِن قَالَ قَائِل فَبِأَي شَيْء انْفَصل الْخَالِق عَن الْخلق(1/45)
وَبِأَيِّ شَيْء انْفَصل الْخلق بعضه من بعض وَأَرَادَ أَن يلْزمنَا فِي ذَلِك مثل الَّذِي أزمناه فِي الدّلَالَة الْمُتَقَدّمَة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الْخلق كُله حَامِل ومحمول فَكل حَامِل فَهُوَ مُنْفَصِل من خالقه وَمن غَيره من الحاملين بمحموله من فصوله وأنواعه وجنسه وخواصه وإعراضه فِي مَكَانَهُ وَسَائِر كيفياته وكل مَحْمُول فَهُوَ مُنْفَصِل من خالقه وَمن غَيره من المحولات بحامله وَبِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا باين فِيهِ سَائِر المحمولات من نَوعه وجنسه وفصله والباري تَعَالَى غير مَوْصُوف بشيءٍ من ذَلِك كُله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد ذكرنَا فِي بَاب الْكَلَام فِي بَقَاء الْجنَّة وَالنَّار وَبَقَاء الْأَجْسَام فِيهَا بِلَا نِهَايَة وَفِيمَا خلا من كتَابنَا الِانْفِصَال مِمَّن أَرَادَ أَن يلْزمنَا همالك مَا ألزمناهم نَحن هُنَالك من الْأَعْدَاد الَّتِي لَا تتناهى إِلَّا أننا نذْكر هُنَا من ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا كَافِيا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نستعين فَنَقُول إِن الْفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين أننا لم نوجب نَحن فِي الْجنَّة وَالنَّار وجود أعداد لَا تتناهى بل قَوْلنَا إِن أعدادهم متناهية لَا تزيد وَلَا تنقص وَإِن مساحة النَّار وَالْجنَّة محدودة متناهية لَا تزيد وَلَا تنقص وَإِن كل مَا ظهر من حركاتهم ومددهم فِيهَا فمحصورة متناهية وَإِنَّمَا نَفينَا عَنْهَا النِّهَايَة بِالْقُوَّةِ بِمَعْنى أَن الْبَارِي تَعَالَى مُحدث لَهُم فِي كلتا الدَّاريْنِ بَقَاء ومدداً ونعيماً وَعَذَابًا أبدا لَا إِلَى غَايَة وَلَيْسَ مَا ظهر من ذَلِك بَعْضًا لما لم يظْهر فيلزمنا أَن يكون اسْم كل مَا يَقع علا الْمَوْجُود لَا يكون بَعْضًا للمعدوم وَإِنَّمَا هُوَ بعض لموجود مثله هَذَا يعلم بالحس لِأَن الْأَسْمَاء إِنَّمَا تقع على مَعَانِيهَا وَمعنى الْوُجُود إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ قَائِما فِي وَقت من الْأَوْقَات مَاض من الْأَوْقَات أَو حَال مِنْهَا فَمَا لم يكن هَكَذَا فَلَيْسَ مَوْجُودا وأبعاض الموجودات كلهَا مَوْجُودَة فَكلهَا مَوْجُود وَكلهَا كَانَ مَوْجُودا فَلَيْسَ الْمَوْجُود بَعْضًا للمعدوم والعدم هُوَ إبِْطَال الْوُجُود ونفيه وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تكون أبعاض الشَّيْء الَّتِي يلْزمهَا اسْمه الَّذِي لَا اسْم لَهَا سواهُ يبطل بَعْضهَا بَعْضًا وَقد يُمكن أَن شغب مشغب فِي هَذَا الْمَكَان فَيَقُول قد وجدنَا أبعاضاً لَا يَقع عَلَيْهَا اسْم كلهَا كَالْيَدِ وَالرجل وَالرَّأْس وَسَائِر الْأَعْضَاء لَيْسَ شَيْء مِنْهَا يُسمى إنْسَانا فَإِذا اجْتمعت وَقع عَلَيْهَا اسْم إِنْسَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا شغب لأننا إِنَّمَا تكلمنا على الأبعاض المتساوية الَّتِي كل بعض مِنْهَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْكل كَالْمَاءِ الَّذِي كل بعض مِنْهُ مَاء وَكله مَاء وَلَيْسَ الْجُزْء من هَذَا الْبَاب وكل بعض من أبعاض الْمَوْجُود فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِ اسْم مَوْجُود وَقد يُمكن أَن يشغب أَيْضا مشغب فِي قَوْلنَا(1/46)
إِن الأبعاض لَا نتنافي فَيَقُول إِن الخضرة لَا تنَافِي الْبيَاض وَكِلَاهُمَا بعض للون الْكُلِّي فَهَذَا أَيْضا لَيْسَ مِمَّا أردناه فِي شَيْء لِأَن قَوْلنَا مَوْجُود لَيْسَ جِنْسا فَيَقَع على أَنْوَاع المتضادات وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن وجودنا أَشْيَاء قد تَسَاوِي كلهَا فِي وجودنا إِيَّاهَا حَقًا فَهُوَ يعم بَعْضهَا كَمَا يعم كلهَا وَأَيْضًا فَإِن الخضرة لَا تضَاد الْبيَاض فِي أَن هَذَا لون بل يَجْتَمِعَانِ فِي هَذَا الْمَعْنى اجتماعاً وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتلفَا بِمَعْنى آخر وَكَذَلِكَ لَا يُخَالف مَوْجُود مَوْجُودا فِي أَنه مَوْجُود وَالْمَوْجُود يُخَالف الْمَعْدُوم فِي هَذَا الْمَعْنى نَفسه وَلَيْسَ بَعْضًا للمعدوم والمعدوم لَيْسَ شَيْئا وَلَا لَهُ معنى حَتَّى يُوجد فَإِذا وجد كَانَ حِينَئِذٍ شَيْئا مَوْجُودا وَقد تخلصنا أَيْضا فِي بَاب التجزي وكلامنا فِي هَذَا الدِّيوَان من مثل الْإِلْزَام هُنَالك
الْكَلَام على النَّصَارَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ النَّصَارَى وَإِن كَانُوا أهل كتاب ويقرون بنبوة بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن جماهيرهم وفرقهم لَا يقرونَ بِالتَّوْحِيدِ مُجَردا بل يَقُولُونَ بالتثليث فَهَذَا مَكَان الْكَلَام عَلَيْهِم وَالْمَجُوس أَيْضا وَإِن كَانُوا أهل كتاب لَا يقرونَ بِبَعْض الْأَنْبِيَاء وَلَكنَّا أدخلناهم فِي هَذَا الْمَكَان لقَولهم بفاعلين لم يَزَالَا فالنصارى أَحَق بالإدخال هَا هُنَا لأَنهم يَقُولُونَ بِثَلَاثَة لم يزَالُوا
وَالنَّصَارَى فرق مِنْهُم أَصْحَاب أريوس وَكَانَ قسيساً بالإسكندرية وَمن قَوْله التَّوْحِيد الْمُجَرّد وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عبد مَخْلُوق وَأَنه كلمة الله تَعَالَى الَّتِي بهَا خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ فِي زمن قسطنطين الأول باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأول من تنصر من مُلُوك الرّوم وَكَانَ على مَذْهَب أريوس هَذَا
وَمِنْهُم أَصْحَاب بولس الشمشاطي وَكَانَ بطريركيا بأنطاكية قبل ظُهُور النَّصْرَانِيَّة وَكَانَ قَوْله التَّوْحِيد الْمُجَرّد الصَّحِيح وَأَن عِيسَى عبد الله وَرَسُوله كَأحد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام خلقه الله تَعَالَى فِي بطن مَرْيَم من غير ذكر وَأَنه إِنْسَان لَا إلهية فِيهِ وَكَانَ يَقُول لَا أَدْرِي مَا الْكَلِمَة وَلَا روح الْقُدس
وَكَانَ مِنْهُم مقدونيوس وَكَانَ بطريركاً فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد ظُهُور النَّصْرَانِيَّة أَيَّام قسطنطين بن قسطنطين باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَكَانَ هَذَا الْملك أريوسياً كَاتبه وَكَانَ من قَول مقدونيوس هَذَا التَّوْحِيد الْمُجَرّد وَأَن عِيسَى عبد مَخْلُوق إِنْسَان نَبِي رَسُول الله كَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن عِيسَى هُوَ روح الْقُدس وَكلمَة الله عز وَجل وَأَن روح الْقُدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذَلِك
وَمِنْهُم البربرانية وهم يَقُولُونَ أَن عِيسَى وَأمه إلهان من دون الله عز وَجل(1/47)
وَهَذِه الْفرْقَة قد بادت وعمدتهم الْيَوْم ثَلَاث فرق فأعظمها فرقة الملكانية وَهِي مَذْهَب جَمِيع مُلُوك النَّصَارَى حَيْثُ كَانُوا حاشي الْحَبَشَة والنوبة وَمذهب عَامَّة أهل كل مملكة لِلنَّصَارَى حَيْثُ كَانُوا حاشي الْحَبَشَة والنوبة وَمذهب جَمِيع نَصَارَى أفريقية وصقلية والأندلس وَجُمْهُور الشَّام وَقَوْلهمْ أَن الله تَعَالَى عبارَة عَن قَوْلهم ثَلَاثَة أَسبَاب أَب وَابْن وروح الْقُدس كلهَا لم تزل وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَه تَامّ كُله وإنسان تَامّ كُله لَيْسَ أَحدهمَا غير الآخر وَأَن الْإِنْسَان مِنْهُ هُوَ الَّذِي صلب وَقتل وَأَن الْإِلَه مِنْهُ لم ينله شَيْء من ذَلِك وَأَن مَرْيَم ولدت الْإِلَه وَالْإِنْسَان وأنهما مَعًا شيءٌ وَاحِد ابْن الله تَعَالَى الله عَن كفرهم وَقَالَت النسطورية مثل ذَلِك سَوَاء بِسَوَاء إِلَّا أَنهم قَالُوا إِن مَرْيَم لم تَلد الْإِلَه وَإِنَّمَا ولدت الْإِنْسَان وَأَن الله تَعَالَى لم يلد الْإِنْسَان وَإِنَّمَا ولد الْإِلَه تَعَالَى الله عَن كفرهم وَهَذِه الْفرْقَة غالبة على الْموصل وَالْعراق وَفَارِس وخراسان وهم منسوبون إِلَى نسطور بطريركاً بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَقَالَت اليعقوبية إِن الْمَسِيح هُوَ الله تَعَالَى نَفسه وَأَن الله تَعَالَى عَن عَظِيم كفرهم مَاتَ وصلب وَقتل وَأَن الْعَالم بَقِي ثَلَاثَة أَيَّام بِلَا مُدبر والفلك بِلَا مُدبر ثمَّ قَامَ وَرجع كَمَا كَانَ وَأَن الله تَعَالَى عَاد مُحدثا وَأَن الْمُحدث عَاد قَدِيما وَأَنه تَعَالَى هُوَ كَانَ فِي بطن مَرْيَم مَحْمُولا بِهِ وهم فِي أَعمال مصر وَجَمِيع النّوبَة وَجَمِيع الْحَبَشَة وملوك الأمتين المذكورتين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى وصف قَوْلهم فِي كِتَابه إِذْ يَقُول تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَإِذ يَقُول تَعَالَى حاكياً عَنْهُم {أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} لما انْطلق لِسَان مُؤمن بحكاية هَذَا القَوْل الْعَظِيم الشنيع السَّمْح السخيف وتاالله لَوْلَا أننا شاهدنا النَّصَارَى مَا صدقنا أَن فِي الْعَالم عقلا يسع هَذَا الْجُنُون ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فَأَما لايعقوبية فَإِنَّهُم ينسبون إِلَى يَعْقُوب البرذعاني وَكَانَ رَاهِبًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وهم فرقة نافرت الْعقل والحس منافرة وحشية تَامَّة لِأَن الاستحالة بقلة والبقلة والاستحالة لَا يُوصف بهما الأول الَّذِي لم يزل تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ مخلوقاً والمحدث يَقْتَضِي مُحدثا خَالِقًا لَهُ وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل دُخُوله فِي بَاب الْمحَال والممتنع الَّذِي قد أوجب الْعقل والحس بُطْلَانه وَلَيْسَ فِي بَاب الْمحَال أعظم من أَن يكون الَّذِي لم يزل يعود مُحدثا لم يكن ثمَّ كَانَ وَأَن يُشِير غير الْمُؤلف مؤلفاً(1/48)
وَيلْزم هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن يعرفونا من دبر السَّمَوَات وَالْأَرْض وأدار الْفلك هَذِه الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي كَانَ فِيهَا مَيتا تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا
ثمَّ يُقَال لِلْقَائِلين بِأَن الْبَارِي تَعَالَى ثَلَاثَة أَشْيَاء أَب وَابْن وروح الْقُدس أخبرونا إِذْ هَذِه الْأَشْيَاء لم تزل كلهَا وَأَنَّهَا مَعَ ذَات شَيْء وَاحِد إِن كَانَ ذَلِك كَمَا ذكرْتُمْ فَبِأَي معنى اسْتحق أَن يكون أَحدهَا يُسمى أَبَا وَالثَّانِي أَبَا وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الثَّلَاثَة وَاحِد وَأَن كل وَاحِد مِنْهَا هُوَ الآخر فالأب هُوَ الابْن وَالِابْن هُوَ الْأَب وَهَذَا هُوَ عين التَّخْلِيط وانجيلهم يبطل هَذَا بقَوْلهمْ فِيهِ سأقعد عَن يَمِين أبي وبقولهم فِيهِ أَن الْقِيَامَة لَا يعلمهَا إِلَّا الْأَب وَحده وَأَن الابْن لَا يعلمهَا فَهَذَا يُوجب أَن الابْن لَيْسَ هُوَ الْأَب وَإِن كَانَت الثَّلَاثَة متغابرة وهم لَا يَقُولُونَ بِهَذَا فيلزمهم أَن يكون فِي الابْن معنى من الضعْف أَو من الْحُدُوث أَو من النَّقْص بِهِ وَجب أَن ينحط عَن دَرَجَة الْأَب وَالنَّقْص لَيْسَ من صفة الَّذِي لم يزل مَعَ مَا يدْخل على من قَالَ بِهَذَا من وجوب أَن تكون محدثة لحصر الْعدَد وَجرى طبيعة النَّقْص وَالزِّيَادَة فِيهَا على حسب مَا قدمْنَاهُ فِي حُدُوث الْعَالم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد لفق بَعضهم أَشْيَاء قَالُوا أَنَّهَا لَا معنى لَهَا إِلَّا أننا ننبه عَلَيْهَا ليتبن هجنة قَوْلهم وَضَعفه بحول الله تَعَالَى وقوته وَذَلِكَ أَن بَعضهم قَالَ لما وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى حَيا وعالما وَجب أَن تكون لَهُ حَيَاة وَعلم فحياته هِيَ الَّتِي تسمى روح الْقُدس وَعلمه هُوَ الَّذِي يُسمى الابْن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا من أغث مَا يكون من الِاحْتِجَاج لأننا قد قدمنَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِشَيْء من هَذَا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال لَكِن من طَرِيق السّمع خَاصَّة وَلَا يَصح لَهُم دَلِيل لَا من إنجيلهم وَلَا من غَيره من الْكتب أَن الْعلم يُسمى ابْنا وَلَا فِي كتبهمْ أَن علم الله هُوَ ابْنه وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا تَقْتَضِيه اللُّغَة اللاتينية أَن علم الْعَالم يُقَال فِيهِ أَنه ابْنه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا بَاطِل ظَاهر الْكَذِب لِأَن الْإِنْجِيل الَّذِي كَانَ فِيهِ ذكر الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس لَا يخْتَلف أحد من النَّاس فِي أَنه إِنَّمَا نقل عَن اللُّغَة العبرانية إِلَى السريانية وَغَيرهَا فَعبر عَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ العبرانية وَبهَا كَانَ فِيهِ ذكر الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس وَلَيْسَ فِي اللُّغَة العبرانية شَيْء مِمَّا ذكر وَادّعى وَإِن كَانُوا مِمَّن يَقُولُونَ بِتَسْمِيَة الْبَارِي(1/49)
عز وَجل من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فقد أسقطوا صفة الْقُدْرَة إِذْ لَيْسَ الِاسْتِدْلَال على كَونه عَالما بأصح لَا أولى من الِاسْتِدْلَال على كَونه قَادِرًا لَا سِيمَا مَعَ قَول بولس وَهُوَ عِنْدهم فَوق الْأَنْبِيَاء أَن الْمَسِيح قدرَة الله وَعلمه تَعَالَى قَالَ هَذَا النَّص فِي رسَالَته الأولى إِلَى أهل قريته فليضيفوا إِلَى هَذِه الثَّلَاث صفة رَابِعَة وَهِي الْقُدْرَة وَأُخْرَى وَهِي السّمع وَأُخْرَى وَهِي الْبَصَر وَأُخْرَى وَهِي الْكَلَام وَأُخْرَى وَهِي الْعقل وَأُخْرَى وَهِي الْحِكْمَة وَأُخْرَى وَهِي الْجُود فَإِن قَالُوا الْقُدْرَة هِيَ الْحَيَاة قيل لَهُم وَالْعلم هُوَ الْحَيَاة فَإِن قَالُوا لَيْسَ الْعلم الْحَيَاة لِأَنَّهُ قد يكون حَيّ لَيْسَ عَالما كَالْمَجْنُونِ قيل لَهُم قد يكون حَيّ لَيْسَ قَادِرًا كالمغشي عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك فالقدرة لَيست الْحَيَاة وَأَيْضًا فَإِن كَانَ الابْن هُوَ الْعلم وروح الْقُدس هُوَ الْحَيَاة فَمَا بَال إقحامهم الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَنه الابْن وروح الْقُدس أَتَرَى الْمَسِيح هُوَ حَيَاة الله وَعلمه وَمَا بَال قَول بَعضهم أَن مَرْيَم ولدت ابْن الله أتراها ولدت علم الله أَيكُون فِي التَّخْلِيط أَكثر من هَذَا وَهل حط الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام من علم الله وحياته إِلَّا كحظ غَيره وَلَا فرق وَهَذَا لَا مخلص مِنْهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقَالَ بَعضهم لما وجدنَا الْأَشْيَاء قسمَيْنِ حَيا وَلَا حَيا وَجب أَن يكون الْبَارِي عز وَجل حَيا وَلما وجدنَا الْحَيّ يَنْقَسِم قسمَيْنِ ناطقاً وَغير نَاطِق وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى ناطقاً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الْكَلَام فِي غَايَة الكلال لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن هَذِه الْقِسْمَة قسْمَة طبيعية وَاقعَة تَحت جنس لِأَنَّهُ إِذا كَانَ تَسْمِيَة الْبَارِي تَعَالَى حَيا إنماا هُوَ من هَذَا الْوَجْه فَهُوَ إِذا يَقع مَعَ سَائِر الْأَحْيَاء تَحت جنس الْحَيّ وَيحد بِحَدّ الْحَيّ وبحد النَّاطِق وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مركب من جنسه وفصله وكل مَا كَانَ محدوداً فَهُوَ متناه وكل مَا كَانَ مركبا فَهُوَ مُحدث وَالْوَجْه الثَّانِي أَن هَذِه الْقِسْمَة الَّتِي قسموها منقوضة مموهة لِأَنَّهُ يلْزمهُم أَن يبدؤا بِأول الْقِسْمَة الَّذِي هُوَ أقرب إِلَى الطبيعة فيقولوا وجدنَا الْأَشْيَاء جوهراً وَلَا جوهراً ثمَّ يدخلوه تَحت أَي الْقسمَيْنِ شاؤا وهم إِنَّمَا يدخلونه تَحت الْجَوْهَر فَإِذا أدخلوه تَحت الْجَوْهَر فقد وَجب ضَرُورَة أَن يحدوه بِحَدّ الْجَوْهَر فَإِذا كَانَ ذَلِك وَجب أَن يكون مُحدثا إِذْ كل مَحْدُود فَهُوَ مُحدث كَمَا قد بَيناهُ ثمَّ نعترضهم فِي قسمتهم من قبل أَن يبلغُوا إِلَى الْحَيّ النَّاطِق وعَلى بعض الْقسم قبله يَقع الثَّانِي وَهَذِه كلهَا مخلوقات فَلَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى بَعْضهَا أَو كَانَت هَذِه الصِّفَات وَاقعَة عَلَيْهِ من طَرِيق وجوب وُقُوعهَا علينا لَكَانَ مخلوقاً تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَقَالَ بَعضهم لما كَانَت الثَّلَاثَة تجمع الزَّوْج والفرد وَهَذَا أكمل الْأَعْدَاد وَجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى كَذَلِك لِأَنَّهُ غَايَة الْكَمَال(1/50)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا من أغث الْكَلَام لوجوه ضَرُورِيَّة أَحدهَا أَن الْبَارِي تَعَالَى لَا يُوصف بِكَمَال وَلَا تَمام لِأَن الْكَمَال والتمام من بَاب الْإِضَافَة لِأَن التَّمام والكمال لَا يقعان الْبَتَّةَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ النَّقْص لِأَن مَعْنَاهُمَا إِنَّمَا هُوَ إِضَافَة شيءٍ إِلَى شيءٍ بِهِ كملت صِفَاته ولولاه لَكَانَ نَاقِصا لَا معنى للتمام والكمال إِلَّا هَذَا فَقَط
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن كل عدد بعد الثَّلَاثَة فَهُوَ أتم من الثَّلَاثَة لِأَنَّهُ يجمع إِمَّا زوجا وزوجا وَإِمَّا زوجا وزوجاً وفرداً زأما أَكثر من ذَلِك وبالضرورة يعلم أَن مَا جمع أَكثر من زوج فَهُوَ أتم وأكمل مِمَّا لم يجمع إِلَّا زوجا وفرداً فَقَط فَيلْزمهُ أَن يَقُول أَن ربه أعدادا لَا تتناهى أَو أَنه أَكثر الْأَعْدَاد وَهَذَا أَيْضا مُمْتَنع محَال لَو قَالَه وَكفى فَسَادًا بقول يُؤَدِّي إِلَى الْمحَال
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن هَذَا الِاسْتِدْلَال مضاد لقَولهم أَن الثَّلَاثَة وَاحِدًا وَالْوَاحد ثَلَاثَة لِأَن الثَّلَاثَة الَّتِي تجمع الزَّوْج والفرد هِيَ غير الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ عنْدكُمْ وَاحِد بِلَا شكّ لِأَن الثَّلَاثَة الَّتِي تجمع الزَّوْج والفرد لَيست الْفَرد الَّذِي هُوَ فِيهَا وَهِي جَامِعَة لَهُ وَلغيره بل وَلَا هِيَ بعض فَالْكل لَيْسَ هُوَ الْجُزْء والجزء لَيْسَ هُوَ الْكل والفرد جُزْء للثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة كل للفرد وَللزَّوْج مَعَه فالفرد غير الثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة غير الْفَرد وَالْعدَد مركب من وَاحِد يُرَاد بِهِ الْفَرد وَوَاحِد كَذَلِك وَوَاحِد كَذَلِك إِلَى نِهَايَة الْعدَد الْمَنْطُوق بِهِ فالعدد لَيْسَ الْوَاحِد وَالْوَاحد لَيْسَ هُوَ الْعدَد لَكِن الْعدَد مركب من الْآحَاد الَّتِي هِيَ الْأَفْرَاد وَهَكَذَا كل مركب من أَجزَاء فَذَلِك الْمركب لَيْسَ هُوَ جزأ من أَجْزَائِهِ كَالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مركب من حرف وحرف حَتَّى يقوم الْمَعْنى الْمعبر عَنهُ فَالْكَلَام لَيْسَ هُوَ الْحَرْف والحرف لَيْسَ هُوَ الْكَلَام
وَالْوَجْه الرَّابِع أَن هَذَا الْمَعْنى السخيف الَّذِي قَصده هَذَا الْجَاهِل نجده فِي الْإِثْنَيْنِ لِأَن الْإِثْنَيْنِ عدد يجمع فَردا وفرداً وَهُوَ زوج مَعَ ذَلِك فقد وجدنَا فِي الْإِثْنَيْنِ الزَّوْج والفرد فَيلْزمهُ أَن يَجْعَل ربه اثْنَيْنِ
وَالْوَجْه الْخَامِس أَن كل عدد فَهُوَ مُحدث وَكَذَلِكَ كل مَعْدُود يَقع عَلَيْهِ فَهُوَ أَيْضا مُحدث على مَا قد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا هَذَا والمعدود لم يُوجد قطّ إِلَّا ذَا عدد وَالْعدَد لم يُوجد قطّ إِلَّا فِي مَعْدُود وَالْوَاحد لَيْسَ عددا على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِه يتم الْكَلَام فِي التَّوْحِيد بحول الله وقوته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وهم يَقُولُونَ أَن الْإِلَه اتَّحد مَعَ الْإِنْسَان بعنى أَنَّهُمَا صَارا شَيْئا وَاحِدًا فَقَالَت اليعقوبية كاتحاد المَاء يلقِي الخمير فيصيران شَيْئا وَاحِدًا وَقَالَت النسطورية كاتحاد المَاء يلقِي فِي الزَّيْت فَكل وَاحِد مِنْهُمَا بَاقٍ بِحَسبِهِ وَقَالَت الملكية كاتحاد النَّار فِي(1/51)
الصفيحة المحماة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل هَذَا فِي غَايَة الْفساد أول ذَلِك أَنَّهَا دُعَاء وَلَا يعجز عَن مثلهَا متحامق وَلَيْسَ فِي إنجيلهم شَيْء من هَذِه الْأَقْسَام وَالثَّانِي أَنَّهَا كلهَا محَال لِأَن قَول الملكية فِي تمثيلهم بِمَا مثلُوا إِنَّمَا هُوَ عرض فِي جَوْهَر وَلَا يتَوَهَّم غير ذَلِك فالإله على قَوْلهم عرض وَالْإِنْسَان جَوْهَر وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد وَقَول اليعقوبية أفسد لأننا نقُول لَهُم إِن كَانَ اسْتَحَالَ الْإِلَه إنْسَانا فالمسيح إِنْسَان وَلَيْسَ إِلَهًا وَإِن كَانَ الْإِنْسَان اسْتَحَالَ إِلَهًا فالمسيح إِلَه وَلَيْسَ بِإِنْسَان وَإِن كَانَ كِلَاهُمَا لم يسْتَحل وَاحِد مِنْهَا إِلَى الآخر فَهَذَا هُوَ قَول النسطورية لَا قَوْلهم وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا اسْتَحَالَ إِلَى الآخر فقد صَار الْإِلَه إِنْسَان لَا إِلَهًا وَصَارَ الْإِنْسَان إِلَهًا لَا إنْسَانا وحصلوا بعد هَذَا الْحمق على قَول النسطورية وَلَا مزِيد وَلنْ كَانَا استحالا إِلَى غير الْإِنْسَان والإله فالمسيح لَا إِلَه وَلَا إِنْسَان وكل هَذَا خلاف قَوْلهم وَأما النسطورية فَلم يزِيدُوا على أَن قَالُوا إِن الْإِنْسَان إِنْسَان والإله إِلَه وَهَكَذَا كل فَاضل وفاسق فِي الْعَالم هُوَ إِنْسَان والإله إِلَه فالمسيح وَغَيره من النَّاس سَوَاء وَأَيْضًا فَإِن مَا لَا قُوَّة محَال لِأَن الَّذِي لم يزل لَا يَسْتَحِيل إِلَى طبيعة الْإِنْسَان الْمُحدث وَلَا يَسْتَحِيل الْمُحدث إِلَهًا لم يزل وَهَذَا محَال بِذَاتِهِ مُمْتَنع لَا يتشكك وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان لَا يجاور الْإِلَه مجاورة مكانية لِأَنَّهُ محَال أَيْضا وَكَذَا لَا يتَوَهَّم وَلَا يُمكن أَن يكون الْإِلَه عرضا يحملهُ جَوْهَر الْإِنْسَان وَلَا يُمكن أَن يكون الْإِنْسَان عرضا يحملهُ الْإِلَه فِي ذَاته كَمَا تَدعِي الملكية فِي تَشْبِيه ذَلِك الِاتِّحَاد بضوء الشَّمْس فِي الْبَيْت وبالنار فِي الحديدة المحماة فقد صَحَّ أَن كل مَا قَالُوا محَال وباطل وسخيف لَا يقبله إِلَّا مخذول وَلَا يُمكنهُم ادِّعَاء وجود شَيْء من هَذَا فِي كتب الْأَنْبِيَاء أصلا وَأَيْضًا فَإِنَّهُم يضيفون إِلَى ذكرهم الْأَب وَالِابْن وروح الْقُدس شَيْئا رَابِعا وَهُوَ الْكَلِمَة وَهِي المتحدة عِنْدهم بالإنسان الملتحمة بِهِ فِي مشيمة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فَإِن أمانتهم الَّتِي أَنْفقُوا عَلَيْهَا كلهم هِيَ كَمَا نورده نصا نؤمن بِاللَّه الْأَب مَالك كل شَيْء صانع مَا يرى وَمَا لَا يرى وبالرب الْوَاحِد يسوع الْمَسِيح بكر الْخَلَائق كلهَا وَلَيْسَ بمصنوع الْإِلَه حق من الْإِلَه حق من جَوْهَر أَبِيه الَّذِي بِيَدِهِ انفنت العوالم وَخلق كل شَيْء الَّذِي من أجلنا معشر النَّاس وَمن أجل خلاصنا نزل من السَّمَاء وتجسد من روح الْقُدس وَصَارَ إنْسَانا وَولد من مَرْيَم البتول وألم وصلب أَيَّام قيطوش بلاطش وَدفن وَقَامَ وَفِي الْيَوْم الثَّالِث كَمَا هُوَ مَكْتُوب وَصعد إِلَى(1/52)
السَّمَاء وَجلسَ عَن يَمِين الْأَب وَهُوَ مستعد للمجيء تَارَة أُخْرَى للْقَضَاء بَين الْأَمْوَات والأحياء ونؤمن بِروح الْقُدس الْوَاحِد روح الْحق الَّذِي هُوَ مُشْتَقّ من أَبِيه روح محبَّة وبمعبودية وَاحِدَة لغفران الْخَطَايَا وبجماعة وَاحِدَة قدسية سليحية جائليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إِلَى أَبَد الآبدين وَقَالَ فِي أول إنجيل يوحنا التلميذ فِي البدء كَانَت الْكَلِمَة والكلمة عِنْد الله وَالله كَانَ الْكَلِمَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذِهِ أَقْوَال إِذا تأملها ذُو عقل علم أَنَّهَا وساوس أَو جُنُون ملقى من الشَّيْطَان لَا يمْتَحن بِهِ إِلَّا مخذول مشهود لَهُ بِبَرَاءَة الله تَعَالَى مِنْهُ وَيُقَال لَهُم الْكَلِمَة هِيَ الْأَب أَو الابْن أَو روح الْقُدس أم شَيْء رَابِع فَإِن قَالُوا شَيْء رَابِع فقد خَرجُوا عَن التَّثْلِيث إِلَى التربيع وَإِن قَالُوا إِنَّهَا أحد الثَّلَاثَة سئلوا عَن الدَّلِيل على ذَلِك إِذْ الدَّعْوَى لَا يعجز عَنْهَا أحد ثمَّ يُقَال لَهُم الْأَب هُوَ الابْن أم غَيره فَإِن قَالُوا هُوَ غَيره سئلوا أَيْضا من الملتحم فِي مشيمة مَرْيَم المتحد مَعَ طبيعة الْمَسِيح الْأَب أم الابْن فَإِن قَالُوا الابْن فقد بَطل أَن يكون هُوَ الْأَب وخالفوا يوحنا إِذْ يَقُول فِي أول إنجيله إِن الْكَلِمَة هِيَ الله فَإِذا كَانَت هِيَ الله والكلمة التحمت فِي مشيمة مَرْيَم فَالله تَعَالَى هُوَ نَفسه التحم فِي مشيمة مَرْيَم وَفِي أمانتهم أَن الابْن هُوَ الَّذِي التحم فِي مشيمة مَرْيَم وَهَذِه وساوس لَا نَظِير لَهَا
وَيُقَال أَيْضا هَل معنى التحم إِلَّا صَار لَحْمًا وَهَذَا غير قَول النسطورية والملكية
وَإِن قَالُوا بل الْأَب فقد بَطل أَن يكون هُوَ الابْن وخالفوا يوحنا وَالْأَمَانَة وَإِن قَالُوا هُوَ الْأَب وَهُوَ الابْن تركُوا قَوْلهم أَن الابْن يقْعد عَن يَمِين أَبِيه وَأَن الْأَب يعلم وَقت الْقِيَامَة وَالِابْن لَا يعلمهَا وَقَوْلهمْ فِي إنجيل يوحنا الْأَب فوض الْأَمر إِلَى ابْنه وَالْأَب أكبر من الابْن فَهَذِهِ نُصُوص على أَن الابْن غير الْأَب إِذْ لَا يقْعد الْمَرْء عَن يَمِين نَفسه وَلَا يُفَوض الْأَمر إِلَى نَفسه وَلَا يجهل مَا يعلم وَهَذَا كُله يبطل قَوْلهم أَن الابْن هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة أَو غير ذَلِك لِأَن هَذِه الصِّفَات لَا تقعد عَن يَمِين حاملها وَلَا يُفَوض إِلَيْهَا شَيْء وَإِن قَالُوا لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيره دخل عَلَيْهِم من الْجُنُون مَا يدْخل على من ادّعى أَن الصِّفَات لَا هِيَ الْمَوْصُوف وَلَا هِيَ غَيره وَإِن قَالُوا الْأَب هُوَ الابْن وَهُوَ غَيره لم يكن ذَلِك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عَن الْمَعْقُول ولزمهم أَن الابْن ابْن لنَفسِهِ وَأب لنَفسِهِ وَأَن الْأَب أَب لنَفسِهِ وَابْن لنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي الْحمق والهوس أَكثر من هَذَا وَلَا مُتَعَلق لَهُم بِشَيْء مِمَّا فِي الزبُور وَلَا فِي كتاب شعياء وَغَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أَن المُرَاد بِمَا ذكر(1/53)
هُنَالك هُوَ عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقد قَالَ لوقا فِي آخر إنجيله أَنه كَانَ نَبيا مقتدرا عبد الله وَهَذَا كُله بَين عَظِيم مناقضتهم وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه فَإِن تعلقوا بِمَا فِي الْإِنْجِيل من ذكر الْمَسِيح أَنه ابْن الله قيل لَهُم فِي الْإِنْجِيل أَيْضا أبي وأبيكم الله إلهي وإلهكم وَأمرهمْ إِذا دعوا أَن يَقُولُوا يَا أَبَانَا السماوي فَلهُ من ذَلِك كَالَّذي لَهُم وَلَا فرق
فَإِن قَالُوا أَنه أَتَى بالعجائب قيل لَهُم والحواريون أَيْضا عنْدكُمْ أَتَوا بالعجائب ومُوسَى قبله والياس وَسَائِر الْأَنْبِيَاء قد أَتَوا بِمثل مَا أَتَى بِهِ من إحْيَاء الْمَوْتَى وَغَيره فَأَي فرق بَينه وَبينهمْ على أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من الْإِنْجِيل نَص الْأَمَانَة الَّتِي لَا يَصح الْإِيمَان عِنْدهم إِلَّا بهَا من ذكر أَب وَابْن وروح الْقُدس مَعًا وَسَائِر مَا فِيهَا وَإِنَّمَا تَقْلِيد لأسلافهم من الأساقفة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
وأمانتهم الَّتِي ذكرُوا أَنهم متفقون عَلَيْهَا مُوجبَة أَن الابْن هُوَ الَّذِي نزل من السَّمَاء وتجسد من روح الْقُدس وَصَارَ إنْسَانا وَقتل وصلب فَيُقَال لَهُم هَذَا الابْن الَّذِي فِي أمانتكم أَنه نزل من السَّمَاء أمخلوقاً كَانَ أَو غير مَخْلُوق بل كَانَ لم يزل فَإِن قَالُوا كَانَ مخلوقاً
فقد تركُوا قَوْلهم لَا سِيمَا أَن قَالُوا لَيْسَ هُوَ غير الْأَب بل يصير الْأَب وروح الْقُدس مخلوقين وَإِن قَالُوا كَانَ قبل أَن ينزل غير مَخْلُوق قيل لَهُم فقد صَار مخلوقاً إنْسَانا وَهَذَا محَال وتناقض وَأَيْضًا فقد لزم من هَذَا أَن الابْن مَخْلُوق وروح الْقُدس مَخْلُوق إِذْ صَار إنْسَانا ثمَّ يُقَال لَهُم أخبرونا عَن هَذَا الابْن الَّذِي أخبرتم عَنهُ بِمَا لم تخبروا عَن الْأَب وَالَّذِي يقْعد عَن يَمِين الرب ثمَّ ينزل لفصل الْقَضَاء أَله علم وحياة أم لَا علم لَهُ وَلَا حَيَاة فَإِن قَالُوا لَا علم لَهُ وَلَا حَيَاة فارقوا إِجْمَاعهم ولزمهم ضَرُورَة أَن قَالُوا مَعَ ذَلِك أَنه غير الْأَب الَّذِي لَهُ حَيَاة وَعلم إِذْ مَا لَا علم لَهُ هُوَ بِلَا شكّ غير الَّذِي لَهُ علم وَالَّذِي لَا حَيَاة لَهُ هُوَ بِلَا شكّ غير الَّذِي لَهُ حَيَاة وَهَذَا ترك مِنْهُم للنصرانية
وَإِن قَالُوا بل لَهُ علم وحياة لَزِمَهُم أَن الأزليين خَمْسَة الْأَب وَعلمه وحياته وَالِابْن الَّذِي هُوَ علم الْأَب وَعلمه وحياته
وَهَكَذَا يسْأَلُون أَيْضا عَن روح الْقُدس وَلَا فرق وَقد قَالَ يوحنا فِي أول إنجيله فَمن تقبله مِنْهُم وآمن بِهِ أَعْطَاهُم سُلْطَانا أَن يَكُونُوا أَوْلَاد الله أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ باسمه الَّذين لم يتوالدوا من دم وَلَا شَهْوَة اللَّحْم وَلَا باه رجل وَلَكِن تَوَالَدُوا من الله فصح بِهَذَا أَن لكل نَصْرَانِيّ من ولادَة الله والأزلية والكون من جَوْهَر الْأَب كَالَّذي للمسيح سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَإِلَّا فقد كذب يوحنا اللعين قَائِل هَذَا الْكفْر وَأهل(1/54)
الْكَذِب هُوَ وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَهَذَا يلْزم الأشعرية الَّذين يَقُولُونَ بِأَن علم الله تَعَالَى وَقدرته هما غير الله تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا وَمِمَّا يعْتَرض بِهِ علينا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمن ذهب إِلَى إِسْقَاط الكواف من سَائِر الْمُلْحِدِينَ إِن قَالَ قَائِلهمْ قد نقلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قد صلب وَقتل وَجَاء الْقُرْآن بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقتل وَلم يصلب فَقولُوا لنا كَيفَ كَانَ هَذَا فَإِن جوزتم على هَذِه الكواف الْعِظَام الْمُخْتَلفَة الْأَهْوَاء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الْبَاطِل فَلَيْسَتْ بذلك أولى من كافتكم الَّتِي نقلت أَعْلَام نَبِيكُم وشرائعه وَكتابه
فَإِن قُلْتُمْ اشْتبهَ عَلَيْهِم فَلم يعْتَمد وانقل الْبَاطِل فقد جوزتم التلبيس على الكواف فَلَعَلَّ كافتكم أَيْضا متلبس عَلَيْهَا فَلَيْسَ سَائِر الكواف أولى بذلك من كافتكم وتولوا لنا كَيفَ فرض الْإِقْرَار بصلب الْمَسِيح عنْدكُمْ قبل وُرُود الْخَبَر عَلَيْكُم بِبُطْلَان صلبه وَقَتله فَإِن قُلْتُمْ كَانَ الْفَرْض على النَّاس الْإِقْرَار بصلبه وَجب من قَوْلكُم الْإِقْرَار أَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس الْإِقْرَار بِالْبَاطِلِ وَأَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس تَصْدِيق الْبَاطِل والتدين بِهِ وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَإِن قُلْتُمْ كَانَ الْفَرْض عَلَيْكُم الْإِنْكَار لصلبه فقد أوجبتم أَن الله تَعَالَى فرض على النَّاس تَكْذِيب الكواف وَفِي هَذَا إبِْطَال قَول كافتكم بل إبِْطَال جَمِيع الشَّرَائِع بل إبِْطَال كل خبر كَانَ فِي الْعَالم عَن كل بلد وَملك وَنَبِي وفيلسوف وعالم ووقعتم وَفِي هَذَا مَا فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الإلزامات كلهَا فَاسِدَة فِي غَايَة الْحِوَالَة والاضمحلال بِحَمْد الله تَعَالَى وَنحن مبنيون ذَلِك بالبراهين الضرورية بَيَانا لَا يخفى على من لَهُ أدنى فهم بحول الله تَعَالَى وقوته
فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن صلب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لم يقلهُ قطّ كَافَّة وَلَا صَحَّ بالْخبر قطّ لِأَن الكافة الَّتِي يلْزم قبُول نقلهَا هِيَ إِمَّا الْجَمَاعَة الَّتِي يُوقن أَنَّهَا لم تتوطا لتنابذ طرقهم وَعدم التقائهم وَامْتِنَاع اتِّفَاق خواطرهم على الْخَبَر الَّذِي نقلوه عَن مُشَاهدَة أَو رَجَعَ إِلَى مُشَاهدَة وَلَو كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَإِمَّا أَن يكون عدد كثير يمْتَنع مِنْهُ الِاتِّفَاق فِي الطبيعة على التَّمَادِي على سنَن مَا تواطؤا عَلَيْهِ فَأخْبرُوا بِخَبَر شاهدوه وَلم يَخْتَلِفُوا فِيهِ فَمَا نَقله أحد أهل هَاتين الصفتين عَن مثل أَحدهمَا وَهَكَذَا حَتَّى يبلغ إِلَى مُشَاهدَة فَهَذِهِ صفة الكافة الَّتِي يلْزم قبُول نقلهَا ويضطر خَبَرهَا سامعها إِلَى تَصْدِيقه وَسَوَاء كَانُوا عُدُولًا أَو فساقاً أَو كفَّارًا وَلَا يقطع على صِحَّته إِلَّا ببرهان فَلَمَّا صَحَّ ذَلِك نَظرنَا فِيمَن نقل خبر صلب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فوجدناه كواف(1/55)
عَظِيمَة صَادِقَة بِلَا شكّ فِي نقلهَا جيلاً بعد جيل إِلَى الَّذين ادعوا مُشَاهدَة صلبه فَإِن هُنَالك تبدلت الصّفة وَرجعت إِلَى شَرط مأمورين مُجْتَمعين مَضْمُون مِنْهُم الْكَذِب وَقبُول الرِّشْوَة على قَول الْبَاطِل وَالنَّصَارَى يقرونَ بِأَنَّهُم لم يقدموا على أَخذه نَهَارا خوف الْعَامَّة وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ لَيْلًا عِنْد افْتِرَاق النَّاس عَن الفصح وَأَنه لم يبْق فِي الْخَشَبَة إِلَّا سِتّ سَاعَات من النَّهَار وَأَنه أنزل إِثْر ذَلِك وَأَنه لم يصلب إِلَّا فِي مَكَان نازح عَن الْمَدِينَة فِي بُسْتَان فخار متملك للفخار لَيْسَ موضعا مَعْرُوفا بصلب من يصلب وَلَا مَوْقُوفا لذَلِك وَأَنه بعد هَذَا كُله رسي الشَّرْط على أَن يَقُولُوا أَن أَصْحَابه سَرقُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِك وَأَن مَرْيَم المجدلانية وَهِي امْرَأَة من الْعَامَّة تقدم على حضورمة مَوضِع صلبه بل كَانَت واقفة على بعد تنظر هَذَا كُله فِي نَص الْإِنْجِيل عِنْدهم فَبَطل أَن يكون صلبه مَنْقُولًا بكافة بل بِخَبَر يشْهد ظَاهره على أَنه مَكْتُوم متواطأ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ الحواريون ليلتئذ بِنَصّ الْإِنْجِيل إِلَّا خَائِفين على أنفسهم غيباً عَن ذَلِك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين وَإِن شَمْعُون الصَّفَا غرر وَدخل دَار قيقان الكاهن أَيْضا بضوء النَّهَار فَقَالَ لَهُ أَنْت من أَصْحَابه فَانْتفى وَجحد وَخرج هَارِبا عَن الدَّار فَبَطل أَن ينْقل خبر صلبه أحد تطيب النَّفس عَلَيْهِ أَن تظن بِهِ الصدْق فَكيف أَن يَنْقُلهُ كافةٌ وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} إِنَّمَا عَنى تَعَالَى أَن أُولَئِكَ الْفُسَّاق الَّذين دبروا هَذَا الْبَاطِل وتواطؤا عَلَيْهِ هم شبهوا على من قلدهم فَأَخْبرُوهُمْ أَنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون فِي ذَلِك عالمون أَنهم كذبة وَلَو أمكن أَن يشبه ذَلِك على ذِي حاسة سليمَة لبطلت النبوات كلهَا إِذْ لَعَلَّهَا شبهت على الْحَواس السلمِيَّة لَو أمكن ذَلِك لبطلت الْحَقَائِق كلهَا ولأمكن أَن يكون كل وَاحِد منا يشبه عَلَيْهِ فِيمَا يَأْكُل ويلبس وفيمن يُجَالس وَفِي حَيْثُ هُوَ فَلَعَلَّهُ نَائِم أَو مشبه على حواسه وَفِي هَذَا خُرُوج إِلَى السخف وَقَول السوفسطائية والحماقة وَقد شاهدنا نَحن مثل ذَلِك وَذَلِكَ أننا اندرنا للجبل لحضور دفن الْمُؤَيد هِشَام بن الحكم الْمُسْتَنْصر فَرَأَيْت أَنا وغيري نعشاً فِيهِ شخص مكفن وَقد شَاهد غسله شَيْخَانِ جليلان حكيمان من حكام الْمُسلمين وَمن عدُول الْقُضَاة فِي بَيت وخارج الْبَيْت أبي رَحمَه الله وَجَمَاعَة عُظَمَاء الْبَلَد ثمَّ صلينَا فِي أُلُوف من النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ لم يلبث شهوراً نَحْو السَّبْعَة حَتَّى ظهر حَيا وبويع بعد ذَلِك بالخلافة وَدخلت عَلَيْهِ أَنا وغيري وَجَلَست بَين يَدَيْهِ ورأيته وَبَقِي ثَلَاثَة أَعْوَام غير شَهْرَيْن وَأَيَّام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما قَوْله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد(1/56)
بَينا أَنَّهَا لم تكن كَافَّة قطّ وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنَّهَا كَافَّة فَكيف لَا يجوز ذَلِك فِي كل آيَة تحيل الطبائع والحواس فهم ضَرُورَة لَا يحمل على الممكنات فَلَو صَحَّ أَنَّهَا كَانَت كَافَّة لَكَانَ خبر الله تَعَالَى أَنه شبه لَهُم حَاكما على حواسهم ومحيلالها كخروج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة هَاجر بِحَضْرَة مائَة رجل من قُرَيْش وَقد حجب الله سُبْحَانَهُ أَبْصَارهم عَنهُ فَلم يروه
وَأما مَا لم يَأْتِ خبر عَن الله عز وَجل بِأَنَّهُ شبه على الكافة فَلَا يجوز أَن يُقَال ذَلِك لِأَنَّهُ قطع على الْمحَال وإحالة طبيعة وإحالة الطبائع لَا تدخل فِي الْمُمكن إِلَّا أَن يَأْتِي بذلك يَقِين عَن الله عز وَجل فَيلْزم قبُوله
وَأما التَّشْبِيه على الْوَاحِد والاثنين وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ جَائِز وَكَذَلِكَ فقد الْعقل والسخافة يجوز ذَلِك على الْوَاحِد والاثنين وَنَحْو ذَلِك وَلَا يجوز على الْجَمَاعَة كلهَا
وَقَوله تَعَالَى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} إِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن الَّذين يَقُولُونَ تقليداً لأسلافهم من النَّصَارَى وَالْيَهُود أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قتل وصلب فَهَؤُلَاءِ شبه لَهُم القَوْل أَي أدخلُوا فِي شُبْهَة مِنْهُ وَكَانَ المشبهون لَهُم شُيُوخ السوء فِي ذَلِك الْوَقْت وشرطهم المدعون أَنهم قَتَلُوهُ وصلبوه وهم يعلمُونَ أَنه لم يكن ذَلِك وَإِنَّمَا أخذُوا من أمكنهم فَقَتَلُوهُ وصلبوه فِي استتار وَمنع من حُضُور النَّاس ثمَّ أنزلوه ودفنوه تمويهاً على الْعَامَّة الَّتِي شبه الْخَبَر لَهَا
ثمَّ نقُول للْيَهُود وَالنَّصَارَى بعد أَن بَينا بحول الله وقوته بَيَان مَا شنعوه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن كوافكم قد نقلت عَن بعض أنبيائكم فسوقاً وَوَطْء إِمَاء وَهُوَ حرَام عنْدكُمْ وَعَن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَنه هُوَ الَّذِي عمل الْعجل لبني إِسْرَائِيل وَأمرهمْ بِعِبَادَتِهِ والرقص أَمَامه وَقد نزه الله تَعَالَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام عَن عبَادَة غَيره وَعَن الْأَمر بذلك وَعَن كل مَعْصِيّة ورذيلة فَإِذا جوزوا كلهم هَذَا على أَنْبِيَائهمْ مِنْهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ كَانَ كل مَا أمروهم بِهِ من جنس عمل الْعجل والرقص وَالْأَمر بِعِبَادَتِهِ وَمن جنس وَطْء الْإِمَاء وَسَائِر مَا نسبوه إِلَى دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ وَلَا سِيمَا وهم يقرونَ بِأَن الْعجل كَانَ يخور بطبعه
وَأما نَحن فجوابنا فِي هَذَا كُله بِأَن لَيْسَ شَيْء مِنْهُ نقل كَافَّة وَلَكِن نقل آحَاد كذبُوا فِيهِ وَأما خوار الْعجل فَإِنَّمَا هُوَ على مَا روينَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من أَنه كَانَ صفير الرّيح تدخل من فِيهِ وَتخرج من دبره لَا أَنه خار بطبعه قطّ وَحَتَّى لَو صَحَّ أَنه خار بطبعه لَكَانَ ذَلِك من أجل الْقُوَّة الَّتِي كَانَت فِي القبضة الَّتِي قبضهَا السامري من إِثْر جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَالَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ فَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما قَوْله كَيفَ كَانَ الْفَرْض قبل وُرُود النَّص بِبُطْلَان صلبه الْإِقْرَار بصلبه أم الْإِنْكَار لَهُ فَهَذِهِ قسْمَة فَاسِدَة شغبية قد حذر مِنْهَا الْأَوَائِل كثيرا وَنبهَ عَلَيْهَا أهل الْمعرفَة بحدود الْكَلَام وَذَلِكَ أَنهم أوجبوا فرضا ثمَّ قسموه على قسمَيْنِ إِمَّا فرض بإنكار وَإِمَّا فرض بِإِقْرَار وأضربوا عَن الْقسم الصَّحِيح فَلم يذكروه وَهَذَا لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ إِلَّا جَاهِل أَو سخيف مغالط غابن لنَفسِهِ غاش لمن اعتر بِهِ وَإِنَّمَا الْحَقِيقَة هَاهُنَا أَن يَقُول هَل يلْزم النَّاس قبل وُرُود الْقُرْآن فرض بِالْإِقْرَارِ بصلب الْمَسِيح أَو بإنكار صلبه أَو لم يلْزمهُم فرض بِشَيْء من ذَلِك فَهَذِهِ هِيَ الْقِسْمَة الصَّحِيحَة وَالسُّؤَال الصَّحِيح وَحقّ الْجَواب أَنه لم يلْزم النَّاس قطّ قبل وُرُود الْقُرْآن فرض بِشَيْء من ذَلِك لَا بِإِقْرَار وَلَا بإنكار وَإِنَّمَا كَانَ خَبرا لَا يقطع الْعذر وَلَا يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ مُمكن صدق قَائِله فقد قتل أَنْبيَاء كَثِيرَة وممكن أَن يكون ناقله كذب فِي ذَلِك(1/57)
هُوَ بِمَنْزِلَة شَيْء مغيب فِي دَار فَيُقَال لهَذَا المعرض بِهَذَا السُّؤَال الْفَاسِد مَا الْفَرْض على النَّاس فِيمَا فِي هَذِه الدَّار الْإِقْرَار بِأَن فِيهَا رجلا أم الْإِنْكَار لذَلِك فَهَذَا كُله لَا يلْزم مِنْهُ شَيْء
وَلم ينزل الله عز وَجل كتابا قبل الْقُرْآن يفْرض إِقْرَار بصلب الْمَسِيح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بإنكاره وَإِنَّمَا ألزم الْفَرْض بعد نزُول الْقُرْآن بتكذيب الْخَبَر بصلبه
فَإِن قَالُوا قد نقل الحواريون صلبه وهم أَنْبيَاء وعدول
قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عَلَيْهِ السَّلَام هم الناقلون عَنْهُم الْكَذِب فِي نسبه وَالْقَوْل بالتثليث الَّذِي من قَالَ بِهِ فَهُوَ كَاذِب على الله تَعَالَى مفتر عَلَيْهِ كَافِر بِهِ فَإِن كَانَ النَّاقِل لذَلِك عَنْهُم صَادِقا أَو كَانُوا كَافَّة فَمَا كَانَ يوحنا وَمَتى وبولس إِلَّا كفَّارًا كاذبين وَمَا كَانُوا قطّ من صالحي الحواريين وَإِن كَانَ ناقل مَا ذكرنَا عَنْهُم كَاذِبًا فالكاذب لَا يقوم بنقله حجَّة فَبَطل التمويه الْمُتَقَدّم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
وَقَالَ متكلموهم إِن الِاتِّحَاد الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد للإنجيل وَلم يكن نقلة وَلَا حَرَكَة وَلَا فَارق الْبَارِي وَلَا الْعلم مَا كَانَا عَلَيْهِ وَلَا انتقلا فَيُقَال لَهُم هَذَا إبِْطَال للاتحاد وَقَول مِنْكُم بِأَن حَظه وحظ غَيره فِي ذَلِك سَوَاء وَخلاف لأمانتكم الَّتِي فِيهَا أَن الابْن نزل من السَّمَاء وتجسد وَولد وَقتل وَدفن
وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم الْمَسِيح حجاب الله خاطبه الله تَعَالَى مِنْهُ فَيُقَال لَهُم أَنْتُم تَقولُونَ أَن الْمَسِيح رب معبود وإله خَالق والحجاب عنْدكُمْ مَخْلُوق والمسيح عِنْد بَعْضكُم طبيعة وَاحِدَة وَعند بَعْضكُم طبيعتان ناسوتية وَلَا هوتية فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين مَعًا اللاهوتية والناسوتية أم تَعْبدُونَ أَحدهمَا دون الْأُخْرَى فَإِن قَالُوا نعبدهما جَمِيعًا أقرُّوا بِأَنَّهُم يعْبدُونَ إنْسَانا وحجاباً مخلوقاً مَعَ الله تَعَالَى وَهَذَا أقبح مَا يكون من الشّرك
وَإِن قَالُوا بل نعْبد اللاهوت وَحده قيل لَهُم فَإِنَّمَا تَعْبدُونَ نصف الْمَسِيح لَا كُله لِأَنَّهُ طبيعتان ولستم تَعْبدُونَ إِلَّا أَحدهمَا دون الْأُخْرَى
وَكَذَلِكَ يسْأَلُون عَن موت الْمَسِيح وصلبه فَمن قَول الملكية والنسطورية إِن الْمَوْت والصلب إِنَّمَا وَقع على الناسوت خَاصَّة
فَيُقَال لَهُم فَأنْتم فِي قَوْلكُم مَاتَ الْمَسِيح وصلب كاذبون لِأَنَّهُ إِنَّمَا مَاتَ نصفه وصلب نصفه فَقَط لِأَن اسْم الْمَسِيح عنْدكُمْ وَاقع على اللاهوت والناسوت كليهمَا مَعًا لَا على أَحدهمَا دون الآخر وكل من قَالَ من اليعقوبية الْإِنْسَان والإله شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يعبد إنْسَانا لِأَنَّهُ إِذا عبد الْإِلَه والإله هُوَ الْإِنْسَان فقد عبد إنْسَانا وربه إِنْسَان مَخْلُوق
وكل من قَالَ مِنْهُم الْإِلَه غير الْإِنْسَان فقد أبطل الِاتِّحَاد وَهَكَذَا يُقَال لَهُم فِي الْحجاب مَعَ الله تَعَالَى سَوَاء بِسَوَاء ويلزمهم جَمِيعهم إِذْ قد أقرُّوا بِعبَادة الْمَسِيح هَكَذَا هَكَذَا جملَة وَأَنه رب خَالق وَفِي الْإِنْجِيل أَنه جَاع وَأكل الْخبز وَالْحِيتَان وعرق وَضرب أَن رَبهم أكل وجاع وَأَن الْإِلَه ضرب وَلَطم وصلب وَكفى بِهَذَا رذالة وفحش وَبَيَان بطلَان
وَيُقَال للملكية واليعقوبية الْقَائِلين بِأَن الْمَسِيح ابْن الله وَابْن مَرْيَم قد أقررتم أَن الْمَسِيح إِنْسَان وإله فالإنسان هُوَ ابْن الله وَابْن مَرْيَم والإله هُوَ ابْن مَرْيَم وَهَذِه غَايَة الشناعة
فَإِن قَالُوا مَا تَقولُونَ فِيمَا فِي كتابكُمْ {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} وَأَنه تَعَالَى كلم مُوسَى من جَانب الطّور من الشَّجَرَة من شاطىء الْوَادي
قُلْنَا التكليم قعل الله تَعَالَى مَخْلُوق والحجاب إِنَّمَا هُوَ للتكليم والتكليم هُوَ الَّذِي حدث فِي الشَّجَرَة وشاطىء الْوَادي وجانب الطّور(1/58)
وكل ذَلِك مَخْلُوق مُحدث وَكَذَلِكَ تحول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَة دحْيَة إِنَّمَا هُوَ أَن الله تَعَالَى جعل للْمَلَائكَة وَالْجِنّ قُوَّة يتحولون بهَا فِيمَا شاؤا من الصُّور وَكلهمْ مَخْلُوق تعاقب عَلَيْهِم الْإِعْرَاض بِخِلَاف الله تَعَالَى فِي ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمِمَّا يعْتَرض بِهِ على النَّصَارَى وَإِن كَانَ لَيْسَ برهاناً ضَرُورِيًّا على جَمِيعهم لكنه برهَان ضَرُورِيّ على كل من تقلد مِنْهُم الشَّرَائِع الَّتِي يعْمل بهَا الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارقية قَاطع لَهُم وَهِي مَسْأَلَة جرت لنا مَعَ بَعضهم وَذَلِكَ أَنهم لَا يخلون من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَكُونُوا يَقُولُونَ بِبُطْلَان النُّبُوَّة بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَّا أَن يَقُولُوا بإمكانها بعده عَلَيْهِ السَّلَام
فَإِن قَالُوا بِإِمْكَان النُّبُوَّة بعده عَلَيْهِ السَّلَام
لَزِمَهُم الْإِقْرَار بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ ثَبت نقل إِعْلَامه بالكواف الَّتِي بِمِثْلِهَا نقلت إِعْلَام عِيسَى وَغَيره عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَإِن قَالُوا بِبُطْلَان النُّبُوَّة بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام
لَزِمَهُم ترك جَمِيع شرائعهم من صلَاتهم وتعظيمهم الْأَحَد وصيامهم وامتناعهم من اللَّحْم ومناكحتهم وأعيادهم واستباحتهم الْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَترك الْخِتَان وَتَحْرِيم النِّكَاح على أهل المراكب فِي دينهم إِذْ كل مَا ذكرنَا لَيْسَ مِنْهُ فِي أَنَاجِيلهمْ الْأَرْبَعَة شَيْء الْبَتَّةَ بل أَنَاجِيلهمْ مبطلة لكل مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم إِذْ فِيهَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لم آتٍ لأغير شَيْئا من شرائع التَّوْرَاة وَأَنه كَانَ يلْتَزم هُوَ وَأَصْحَابه بعده السبت وأعياد الْيَهُود من الفصح وَغَيره بِخِلَاف كل مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم فَإِذا منعُوا من وجود النُّبُوَّة بعده وَكَانَت الشَّرَائِع لَا تُؤْخَذ إِلَّا عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَّا فَإِن شارعها عَن غير الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَاكم على الله تَعَالَى وَهَذَا أعظم مَا يكون من الشّرك وَالْكذب والسخف فشرائعهم الَّتِي هِيَ دينهم غير مَأْخُوذَة عَن نَبِي أصلا فَهِيَ معاص مفتراة على الله عز وَجل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا حِين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إِن شَاءَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي تَبْيِين أَن الْوَاحِد لَيْسَ عددا فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَن خَاصَّة الْعدَد هُوَ أَن يُوجد عدد آخر مساوٍ لَهُ وَعدد آخر لَيْسَ مُسَاوِيا لَهُ هَذَا شَيْء لَا يَخْلُو من عدد أصلا والمساواة هِيَ أَن تكون إبعاضه كلهَا مُسَاوِيَة لَهُ إِذا جزئت أَلا ترى أَن الْفَرد والفرد مساويان للإثنين وَأَن الزَّوْج والفرد لَيْسَ مُسَاوِيا للزَّوْج الَّذِي هُوَ الإثنان والخمسة مُسَاوِيَة للإثنين وَالثَّلَاثَة غير مُسَاوِيَة للثَّلَاثَة وَهَكَذَا كل عدد فِي الْعَالم فَهَذَا معنى قَوْلنَا أَن الْمسَاوِي وَغير الْمسَاوِي هُوَ خَاصَّة الْعدَد وَهَذِه الْمُسَاوَاة أردنَا لَا غَيرهَا فَلَو كَانَ للْوَاحِد أبعاض مُسَاوِيَة لَهُ لَكَانَ كثيرا بِلَا شكّ لِأَن الْوَاحِد الْمُطلق على الْحَقِيقَة هُوَ الَّذِي لَيْسَ كثيرا هَذَا مَا لاشك فِيهِ عِنْد كل ذِي حس سليم
وَكَانَ مَا كَانَ لَهُ أبعاض فَهُوَ كثير بِلَا شكّ فَهُوَ إِذا بِالضَّرُورَةِ لَيْسَ وَاحِدًا فالواحد ضَرُورَة هُوَ الَّذِي لَا أبعاض لَهُ فَإذْ لَا شكّ فِيهِ فالواحد الَّذِي لَا أبعاض لَهُ تساويه لَيْسَ عددا وَهُوَ الَّذِي أردنَا أَن نبين وَأَيْضًا فَإِن الْحس وضرورة الْعقل يَشْهَدَانِ بِوُجُود الْوَاحِد إِذْ لَو لم يكن الْوَاحِد مَوْجُودا لم يقدر على عدد أصلا إِذْ الْوَاحِد مبدأ الْعدَد والمعدود الَّذِي لَا يُوصل إِلَى عدد وَلَا مَعْدُود إِلَّا بعد(1/59)
وجوده وَلَو لم يُوجد الْوَاحِد لما وجد فِي الْعَالم عدد وَلَا مَعْدُود أصلا والعالم كُله أعداد ومعدودات مَوْجُودَة فالواحد مَوْجُود ضَرُورَة فَلَمَّا نَظرنَا فِي الْعَالم كُله نظرا طبيعياً ضَرُورِيًّا لم نجد فِيهِ وَاحِدًا على الْحَقِيقَة الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَن كل جرم من الْعَالم فمنقسم مُحْتَمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبدا بِلَا نِهَايَة وكل حَرَكَة فَهِيَ أَيْضا منقسمة بانقسام المتحرك بهَا وَالزَّمَان حَرَكَة الْفلك فَهُوَ منقسم بإنقسام الْفلك فَكل مُدَّة فمنقسمة أَيْضا بانقسام المتحرك بهَا الَّذِي هُوَ الْمدَّة وَكَذَلِكَ كل مقول من جنس أَو نوع أَو فصل وَكَذَلِكَ كل عرض مَحْمُول فِي جرم فَإِنَّهُ منقسم بانقسام حامله هَذَا أَمر يعلم بضرورة الْعقل والمشاهدة وَلَيْسَ الْعَالم كُله شَيْئا غير مَا ذكرنَا فصح ضَرُورَة أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم وَاحِد الْبَتَّةَ وَقد قدمنَا ببرهان ضَرُورِيّ آنِفا أَنه لَا بُد من وجود الْوَاحِد فَإِذا لَا بُد من وجوده وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْء من الْعَالم الْبَتَّةَ فَهُوَ إِذا بِالضَّرُورَةِ شيءٌ غير الْعَالم فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالبضرورة الَّتِي لَا محيد عَنْهَا فَهُوَ الْوَاحِد لأوّل الْخَالِق للْعَالم إِذْ لَيْسَ يُوجد بِالْعقلِ الْبَتَّةَ شيءٌ غير الْعَالم إِلَّا خالقه فَهُوَ الْوَاحِد الأول الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الَّذِي لَا يتكثر الْبَتَّةَ أصلا لَا بِعَدَد وَلَا صفة وَلَا بِوَجْه من الْوُجُوه لَا وَاحِد سواهُ الْبَتَّةَ وَلَا أول غَيره أصلا وَلَا مخترع فَاعِلا خَالِقًا إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ
وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي كل فَرد فِي الْعَالم وَهُوَ الَّذِي يُسمى فِي اللُّغَة عِنْد الْعَدو وَاحِد على الْمجَاز أَنه كثير بِمَعْنى أَنه يحْتَمل أَن يقسم وَأَن لَهُ مساحة كَثِيرَة الْأَجْزَاء فَإِذا قسم ظَهرت الْكَثْرَة فِيهِ وَأما مَا لم يقسم فَهُوَ يعد فَردا حَقِيقِيًّا وَقد ذكرنَا برهَان وجوب احْتِمَال الإنقسام لكل جُزْء فِي الْعَالم فِي آخر كتَابنَا هَذَا ببراهين ضَرُورِيَّة لَا محيد عَنْهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا تَقول فِي الْبَاء وَالتَّاء والثاء وَسَائِر حُرُوف الهجاء أَلَيْسَ كل وَاحِد مِنْهَا وَاحِدًا لَا يَنْقَسِم قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذَا شغب ينيغي أَن تحفظ من مثله لِأَن الْحَرْف إِنَّمَا هُوَ هَوَاء ينْدَفع من مخرج ذَلِك الْحَرْف بعصر بعض آلَات الصَّوْت لَهُ من الرئة وأنابيب الصَّدْر وَالْحلق والحنك وَاللِّسَان والأسنان والشفتين فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَذَلِك الْهَوَاء المندفع جسم طَوِيل عريض عميق فَهُوَ مُحْتَمل الإنقسام ضَرُورَة فَذَلِك الْهَوَاء هُوَ الْحَرْف فالحرف هُوَ جسم مُحْتَمل للْقِسْمَة ضَرُورَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْكَلَام على من يَقُول أَن البارىء خلق الْعَالم جملَة كَمَا هُوَ بِجَمِيعِ أَحْوَاله بِلَا زمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ رَأينَا من يقر بالخالق تَعَالَى وَلَا يقر بِالنُّبُوَّةِ وَمن يذهب إِلَى ذَلِك وناظرناه على ذَلِك فَقلت إِن الَّذِي تَقول مُمكن فِي قُوَّة الله تَعَالَى وَالَّذِي نقُول نَحن من أَنه تَعَالَى خلق من النَّوْع الإنساني ذكر وَاحِدًا وَأُنْثَى وَاحِدَة تناسل النَّاس كلهم مِنْهُمَا مُمكن أَيْضا فَمن أَيْن ملت إِلَى تِلْكَ الحثيثة دون هَذِه فتردد سَاعَة فَلَمَّا لم يجد دَلِيلا قَالَ فَمن أَيْن ملتم أَنْتُم أَيْضا إِلَى هَذِه الحثيثة دون تِلْكَ فَقلت لبراهين ضَرُورِيَّة توجب مَا قُلْنَا وتنفي مَا قُلْتُمْ مِنْهَا أَنه لَو كَانَ مَا قلت لَكَانَ كل من أخرجه الله تَعَالَى حِينَئِذٍ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود من الشبَّان والشيوخ يعلمُونَ ذَلِك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أَنهم الْآن بِهِ حدثوا وَأَنَّهُمْ لم يَكُونُوا قبل ذَلِك لَكِن حدثوا الْآن فِي حَال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز(1/60)
وطبخ وَغير ذَلِك وَلَو كَانَ هَذَا لنقلوه إِلَى أَوْلَادهم نقلا يَقْتَضِي لَهُم الْعلم الضَّرُورِيّ بذلك وَلَا بُد كَمَا يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ كل نقل جَاءَ بِأَقَلّ من هَذَا الْمَجِيء مِمَّا كَانَ قبلنَا من الْمُلُوك والدول والوقائع ولبلغ الْأَمر إِلَيْنَا كَذَلِك ولعلمه جَمِيع النَّاس علما ضَرُورِيًّا لِأَن شَيْئا يَنْقُلهُ جَمِيع أهل الأَرْض عَن مشاهدتهم لَهُ لَا يُمكن التشكك فِيهِ أبدا كَمَا نقل طُلُوع الشَّمْس وغروبها وَالْمَوْت والولاد وَغير ذَلِك وَنحن نجد الْأَمر بِخِلَاف هَذَا لأَنا نجد جَمِيع أهل الأَرْض قاطبة لَا يعْرفُونَ هَذَا بل لَا يدريه أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا قلته أَنْت وَمن وافقته أَو من وَافَقت بِرَأْي وَظن لَا بِخَبَر وَنقل أصلا وَهَذَا مَا لَا تخالفنا فِيهِ أَنْت وَلَا أحد من النَّاس فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون خبرٌ نَقله جَمِيع سكان الْعَالم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم إِلَى كل من حدث بعدهمْ عَمَّا شاهدوه يخفي حَتَّى لَا يعرفهُ أحد من سكان الأَرْض هَذَا أَمر يعرف كذبه بِأول الْعقل وبديهته
فَقَالَ وَالَّذِي تحكونه أَنْتُم أَيْضا قد وجدنَا جماعات ينكرونه فَيَنْبَغِي أَن يبطل بِمَا عارضتنا بِهِ
فَقلت بَين النقلين فرق لَا خَفَاء بِهِ لِأَن نقلنا نَحن لما قُلْنَاهُ إِنَّمَا يرجع إِلَى خبر رجل وَاحِد وَامْرَأَة وَاحِدَة فَقَط وهما أول من أحدثهم الله تَعَالَى من النَّوْع الإنساني وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوجد الْعلم الضَّرُورِيّ إِذْ التواطؤ مُمكن فِي ذَلِك وَلَوْلَا أَن الْأَنْبِيَاء وَالَّذين جَاءُوا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذَلِك مَا صَحَّ قَوْلنَا من جِهَة النَّقْل وَحده بل كَانَ مُمكنا أَن يكون الله تَعَالَى ابْتَدَأَ خلق جمَاعَة تناسل الْخلق مِنْهُم لَكِن لما أخبر من صححت المعجزة قَوْله بِأَن الله تَعَالَى لم يبتدىء من النَّوْع الإنساني إِلَّا رجلا وَاحِدًا وَامْرَأَة وَاحِدَة وَجب تَصْدِيق قَوْلهم وبرهان آخر وَهُوَ أَنكُمْ قد أثبتم ضَرُورَة صِحَة قَوْلنَا من أَن الله ابْتَدَأَ النَّوْع الإنساني بِأَن خلق ذكرا وَأُنْثَى ثمَّ ادعيتم زِيَادَة أَن الله تَعَالَى خلق سواهُمَا جماعات وَلم تَأْتُوا على ذَلِك ببرهان أصلا وَلَا بِدَلِيل إقناعي فضلا عَن برهاني وَقد صحت الْبَرَاهِين الَّتِي قدمنَا قيل أَنه لَا بُد من مبدأ ضَرُورَة فَوَجَبَ وَلَا بُد حُدُوث ذكر وَأُنْثَى وَكَانَ من ادّعى حُدُوث أَكثر من ذَلِك مُدعيًا لما لَا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين لَا مرية فِيهِ وكل مَا ذكرت عَنهُ نبوةٌ فِي الْهِنْد وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمين فَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أحدث النَّاس من ذكر وَأُنْثَى وَمَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيء فَلَا يجوز الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى وَإِنَّمَا اخْتلف عَنْهُم فِي الْأَسْمَاء فَقَط وَلَيْسَ فِي هَذَا معترض لِأَنَّهُ قد يكون للمرء أَسمَاء كَثِيرَة فَلم يمْنَع من هَذَا مَانع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَلم نجد عِنْدهم فِي ذَلِك مُعَارضَة أصلا وَمَا علمنَا أحدا من الْمُتَكَلِّمين ذكر هَذِه الْفرْقَة أصلا وَقلت لَهُ فِي خلال كَلَامي مَعَه أَتَرَى الْعَالم إِذا خرج دفْعَة أخرج فِيهِ الْحَوَامِل يطلقن والطباقون قعُودا على أطباقهم يبيعون التِّين والسرقين فَضَحِك وَعلم أَنِّي سلكت بِهِ مَسْلَك السخرية فِي قَوْله لفساده وَقَالَ لي نعم فَقلت يَنْبَغِي أَن يَكُونُوا كلهم أننبياء يُوحى إِلَيْهِم أَو لَهُم عَن آخِرهم بِمَا هم عَلَيْهِ من الْعُلُوم والصناعات(1/61)
أَو يُلْهمُون ذَلِك وَفِي هَذَا من بطلَان الدَّعْوَى مَا لَا خَفَاء بِهِ وَكَانَ مِمَّا اعْترض بِهِ أَن ذكر الجزائر المنقطعة فِي الْبحار وَأَنه يُوجد فِيهَا النَّمْل والحشرات وَكثير من الطير وَكثير من حشرات الأَرْض فَقلت إِن كل ذَلِك لَا يُنكر ذُو حس دُخُوله فِي جملَة رحالات الْمُسَافِرين الداخلين إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد فقد شاهدنا دُخُول الفيران فِي جملَة الرحل كَذَلِك وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يُوجب مَا ذكرت أصلا مَعَ أَن الْحَيَوَان نَوْعَانِ
نوع متولد يخلقه الله تَعَالَى من عفونات الْأَبدَان وعفونات الأَرْض فَهَذَا لَا يُنكر تولده بإحداث الله تَعَالَى فِي كل حِين
وَقسم آخر متوالد قد رتب الله تَعَالَى بنية الْعَالم أَنه لَا يخلقه إِلَّا عَن مني ذكر وَأُنْثَى فَهَذَا هُوَ الَّذِي صَار فِي تِلْكَ الجزائر عَن دُخُول إِلَيْهَا بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَمَا ننكر فِي كل نوع مَا عدا الْإِنْسَان أَن يخلق الله مِنْهُ أَكثر من اثْنَيْنِ فَهَذَا مُمكن فِي قدرَة الله تَعَالَى وَلم يَأْتِ خبر صَادِق بِخِلَافِهِ لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي أَمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام وسفينته حِين الطوفان {احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَمَعَ هَذَا فقد يُمكن أَن يكون نوح عَلَيْهِ السَّلَام مَأْمُورا بِأَن يحمل من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَلَا يمْنَع ذَلِك من بَقَاء بعض أَنْوَاع نَبَات المَاء وحيوانه فِي غير السَّفِينَة وَالله أعلم وَإِنَّمَا نقُول فِيمَا لَا يُخرجهُ الْعقل إِلَى الْوُجُوب والامتناع بِمَا جَاءَت بِهِ النُّبُوَّة فَقَط وبرهان آخر وَهُوَ أَنه لَو كَانَ إِخْرَاج الله تَعَالَى لكل مَا فِي الْعَالم من الْمَعْلُوم وَالْعُلَمَاء بهَا والصناعات والصانعين لَهَا دفْعَة وَاحِدَة لَكَانَ ذَلِك بضرورة الْعقل وأوله لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون ذَلِك بِوَحْي من إِعْلَام وتوقيف مِنْهُ تَعَالَى وَإِمَّا بطبع مركب فيهم يَقْتَضِي لَهُم مَا علمُوا من ذَلِك وَمَا صَنَعُوا فَإِن كَانَ بِوَحْي إِعْلَام وتوقيف فقد صحت النُّبُوَّة لجميعهم إِذْ لَيست النُّبُوَّة معنى غير هَذَا وَهَذِه دَعْوَى مِمَّن قَالَ بِهَذَا القَوْل بِلَا دَلِيل وَمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل لَا يجوز القَوْل بِهِ لَا سِيمَا والقائلون بهَا منكرون للنبوة فلاح تنَاقض قَوْلهم وَإِن كَانَ كل ذَلِك عَن طبيعية تَقْتَضِي لَهُم كَونهم عَالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين فِي الصناعات بِلَا تَعْلِيم وَلَا تَوْقِيف فَهَذَا محَال ضَرُورَة وممتنع فِي الْعقل وَفِي الطبيعة إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لوجدوا أبدا كَذَلِك إِذْ الطبيعة وَاحِدَة لَا تخْتَلف وبالضرورة نَدْرِي أَنه لَا يُوجد أحد أبدا فِي شَيْء من الْأَزْمَان وَلَا فِي مَكَان أصلا يَأْتِي بِعلم من الْعُلُوم لم يُعلمهُ إِيَّاه أحد وَلَا يتَكَلَّم بلغَة لم يُعلمهُ إِيَّاهَا أحد وَلَا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عَلَيْهَا أحد
وبرهان ذَلِك مَا قدمنَا قبل من أَن الْبِلَاد الَّتِي لَيست فِيهَا الْعُلُوم وَأكْثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي الَّتِي فِي خلال المدن لَيْسَ يُوجد فِيهَا أبدا أحد يدْرِي شَيْئا من الْعُلُوم وَلَا من الصناعات حَتَّى يُعلمهُ ذَلِك معلم وَأَنه لَا ينْطق أحد حَتَّى يُعلمهُ معلم فَظهر فَسَاد هَذَا القَوْل ببرهان وَقبل الْبُرْهَان بتعريه من الْبُرْهَان(1/62)
الْكَلَام على من يُنكر النُّبُوَّة وَالْمَلَائِكَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذهبت البراهمة وهم قَبيلَة بِالْهِنْدِ فيهم أَشْرَاف أهل الْهِنْد وَيَقُولُونَ أَنهم من ولد برهمي ملك من مُلُوكهمْ قديم وَلَهُم عَلامَة ينفردون بهَا وَهِي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يَقُولُونَ بِالتَّوْحِيدِ على نَحْو قَوْلنَا أَنهم أَنْكَرُوا النبوات
وعمدة احتجاجهم فِي دَفعهَا أَن قَالُوا لما صَحَّ أَن الله عز وَجل حَكِيم وَكَانَ من بعث رَسُولا إِلَى من يدْرِي أَنه لَا يصدقهُ فَلَا شكّ فِي أَنه متعنت عابث فَوَجَبَ نفي بعث الرُّسُل عَن الله عز وَجل لنفي الْعَبَث والعنت عَنهُ
وَقَالُوا أَيْضا إِن كَانَ الله تَعَالَى إِنَّمَا بعث الرُّسُل إِلَى النَّاس ليخرجهم بهم من الضلال إِلَى الْإِيمَان فقد كَانَ أولى بِهِ فِي حكمته وَأتم لمراده أَن يضْطَر الْعُقُول إِلَى الْإِيمَان بِهِ قَالُوا فَبَطل إرْسَال الرُّسُل على هَذَا الْوَجْه أَيْضا ومجيء الرُّسُل عِنْدهم من بَاب الْمُمْتَنع
وَأما نَحن فَنَقُول إِن مَجِيء الرُّسُل عِنْدهم قبل أَن يَبْعَثهُم الله تَعَالَى وَاقع فِي بَاب الْإِمْكَان وَأما بعد إِن بَعثهمْ الله عز وَجل فَفِي حد الْوُجُوب ثمَّ أخبر الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام عَنهُ تَعَالَى أَنه لَا نَبِي بعده فقد جد الِامْتِنَاع ولسنا نحتاج إِلَى تكلّف ذكر قَول من قَالَ من الْمُسلمين أَن مَجِيء الرُّسُل من بَاب الْوَاجِب واعتلالهم فِي ذَلِك بِوُجُوب الْإِنْذَار فِي الْحِكْمَة إِذْ لَيْسَ هَذَا القَوْل صَحِيحا وَإِنَّمَا قَوْلنَا الَّذِي بَيناهُ فِي غير مَوضِع أَنه تَعَالَى لَا يفعل شَيْئا لعِلَّة وَأَنه تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَأَن كل مَا فعله فَهُوَ عدل وَحِكْمَة أَي شيءٍ كَانَ
فَيُقَال وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لمن احْتج بِالْحجَّةِ الأولى من أَن الْحِكْمَة تضَاد بعثة الرُّسُل وَأَن الْحَكِيم لَا يبْعَث الرُّسُل إِلَى من يدْرِي أَنه يعصيه أَنكُمْ اضطركم هَذَا الأَصْل الْفَاسِد الْحَاكِم إِلَى مُوَافقَة المانية على أُصُولهَا فِي أَن الْحَكِيم لَا يخلق من يعصيه وَمن يكفر بِهِ وَيقتل أولياءه وهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى خلق الْخلق ليدلهم بهم على نَفسه
وَيُقَال لَهُم قد علمنَا وعلمتم أَن فِي النَّاس كثيرا يجحدون الربوبية والوحدانية فَقولُوا أَنه لَيْسَ حكيماً من خلق دَلَائِل لمن يدْرِي أَنه لَا يسْتَدلّ بهَا
فَإِن قَالُوا إِنَّه قد اسْتدلَّ بهَا كثير
قيل لَهُم وَقد صدق الرُّسُل أَيْضا كثير
فَإِن قَالُوا أَنه خلق الْخلق كَمَا شَاءَ
قيل لَهُم وَكَذَلِكَ بعث الرُّسُل أَيْضا كَمَا شَاءَ فبعثته تَعَالَى الرُّسُل هِيَ بعض دلائله الَّتِي خلقهَا تَعَالَى ليدل بهَا على الْمعرفَة بِهِ تَعَالَى وعَلى توحيده
وَيُقَال لمن احْتج بِالْحجَّةِ الثَّانِيَة من أَن الأولى بِهِ أَنه كَانَ يضْطَر الْعُقُول إِلَى الْإِيمَان بِهِ أَن هَذَا قَول مرذول مَرْدُود عَلَيْكُم فِي قَوْلكُم أَن الله عز وَجل خلق الْخلق ليدلهم بهم نَفسه ووحدانيته فيلزمكم على ذَلِك الأَصْل الْفَاسِد أَنه كَانَ الأولى إِذْ خلقهمْ أَن لَا يدعهم وَالِاسْتِدْلَال وَقد علم أَن فيهم من لَا يسْتَدلّ وَأَن فيهم من يغمض عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال فَكَانَ الأولى فِي الْحِكْمَة أَن يضْطَر عُقُولهمْ إِلَى الْإِيمَان بِهِ وَلَا يكلفهم مُؤنَة الِاسْتِدْلَال وَأَن يلطف بهم ألطافاً يخْتَار جَمِيعهم مَعهَا الْإِيمَان كَمَا فعل بِالْمَلَائِكَةِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وملاك هَذَا كُله مَا قد قُلْنَاهُ فِي غير مَوضِع من أَن الْخلق لما كَانُوا لَا يَقع مِنْهُم فعل إِلَّا لعِلَّة وَوَجَب بالبراهين الضرورية أَن الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف جَمِيع خلقه من جَمِيع الْجِهَات وَجب أَن يكون فعله لَا لعِلَّة بِخِلَاف أَفعَال جَمِيع الْخلق وَأَنه لَا يُقَال فِي شَيْء من أَفعاله تَعَالَى أَنه فعل كَذَا لعِلَّة وَلَا إِذْ جَاءَ الْإِنْسَان بالنطق وَحرمه سَائِر الْحَيَوَان وَخلق بعض الْحَيَوَان صائداً وَبَعضه مصيداً وباين بَين جَمِيع مفعولاته كَمَا شَاءَ فَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول(1/63)
لم خلق الْإِنْسَان ناطقاً وَحرم الْحمار النُّطْق وَجعل الْحجر جَامِدا لَا حَيَاة لَهُ وَلَا نطق وَهَذَا أصل قد وَافَقنَا البراهمة عَلَيْهِ وَسَائِر من خَالَفنَا من تَفْرِيع هَذَا الْمَعْنى مِمَّن يَقُول بِالتَّوْحِيدِ وَهَكَذَا إِذا بعث تَعَالَى الْأَنْبِيَاء لَيْسَ لأحد أَن يَقُول لم بَعثهمْ أَو لم بعث هَذَا الرجل وَلم يبْعَث هَذَا الآخر وَلَا لم بَعثهمْ فِي هَذَا الزَّمَان دون غَيره فِي الْأَزْمِنَة وَلَا لم بَعثهمْ فِي هَذَا الْمَكَان دون غَيره من الْأَمْكِنَة كَمَا لَا يُقَال لم حباه بالسعد فِي الدُّنْيَا دون غَيره وَهَكَذَا كل مَا فِي الْعَالم إِذا نظر فِيهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وَهُوَ يسْأَلُون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تَعَالَى وتأييده فلنقل الْآن بعون الله تَعَالَى وتأييده فِي إِثْبَات النُّبُوَّة إِذا وجدت قولا بَينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قد قدمنَا فِيمَا خلا إِثْبَات حُدُوث الْأَشْيَاء وَأَن لَهَا مُحدث لم يزل وَاحِدًا لَا مبدأ لَهُ وَلَا كَانَ مَعَه غَيره وَلَا مُدبر سواهُ وَلَا خَالق غَيره فَإذْ قد ثَبت هَذَا كُله وَصَحَّ أَنه تَعَالَى أخرج الْعَالم كُله إِلَى الْوُجُود بعد أَن لم يكن بِلَا كلفة وَلَا معاناة وَلَا طبيعة وَلَا استعانة وَلَا مِثَال سلف وَلَا عِلّة مُوجبَة وَلَا حكم سَابق قبل الْخلق يكون ذَلِك الحكم لغيره تَعَالَى فقد ثَبت أَنه لم يفعل إِذْ لم يَشَأْ وَفعل إِذْ شَاءَ كَمَا شَاءَ فيزيد مَا شَاءَ وَينْقص مَا شَاءَ فَكل مَنْطُوق بِهِ مِمَّا يتشكك فِي النَّفس أَولا يتشكك فَهُوَ دَاخل لَهُ تَعَالَى فِي بَاب الْإِمْكَان على مَا بَينا فِي غير هَذَا الْمَكَان إِلَّا أننا نذْكر هَهُنَا طرفا إِن شَاءَ الله عز وَجل فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن الْمُمكن لَيْسَ وَاقعا فِي الْعَالم وقوعاً وَاحِدًا أَلا تري أَن نَبَات اللِّحْيَة للرِّجَال مَا بَين الثمان عشرَة إِلَى عشْرين سنة مُمكن وَهُوَ فِي حُدُود الإثني عشر سنة إِلَى العامين مُمْتَنع وَإِن فك الإشكالات العويصة واستخراج الْمعَانِي الغامضة وَقَول الشّعْر البديع وصناعة البلاغة الرائقة مُمكن لذِي الذِّهْن اللَّطِيف والذكاء النَّافِذ وَغير مُمكن من ذِي البلادة والشديدة والغباوة المفرطة فعلى هَذَا مَا كَانَ مُمْتَنعا بَيْننَا إِذْ لَيْسَ فِي بنيتنا وَلَا فِي طبيعتنا وَلَا من عادتنا فَهُوَ غير ممتننع على الَّذِي لَا بنية لَهُ وَلَا طبيعة لَهُ وَلَا عَادَة عِنْده وَلَا رُتْبَة لَازِمَة لفعله فَإذْ قد صَحَّ هَذَا فقد صَحَّ أَنه لَا نِهَايَة لما يقوى عَلَيْهِ تَعَالَى فصح أَن النُّبُوَّة فِي الْإِمْكَان وَهِي بعثة قوم قد خصهم الله تَعَالَى بالفضيلة لَا لعِلَّة إِلَّا أَنه شَاءَ ذَلِك فعلمهم الله تَعَالَى الْعلم بِدُونِ تعلم وَلَا تنقل فِي مراتبه وَلَا طلب لَهُ وَمن هَذَا الْبَاب مَا يرَاهُ أَحَدنَا فِي الرُّؤْيَا فَيخرج صَحِيحا وَمَا هُوَ من بَاب تقدم الْمعرفَة فَإذْ قد أثبتنا أَن النُّبُوَّة قبل مَجِيء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَاقعَة فِي حد الْإِمْكَان فلنقل الْآن بحول الله تَعَالَى وقوته على وُجُوبهَا إِذا وَقعت وَلَا بُد فَنَقُول إِذْ قد صَحَّ أَن الله تَعَالَى ابْتَدَأَ الْعَالم وَلم يكن مَوْجُودا حَتَّى خلقه الله تَعَالَى فبيقين نَدْرِي أَن الْعُلُوم والصناعات لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَهْتَدِي أحد إِلَيْهَا بطبعه فِيمَا بَيْننَا دون تَعْلِيم كالطب وَمَعْرِفَة الطبائع والأمراض وسببها على كَثْرَة اختلافها وَوُجُود العلاج لَهَا بالعقاقير الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى تجريبها كلهَا أبدا وَكَيف يجرب كل عقار فِي كل عِلّة وَمَتى يتهيأ هَذَا وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَّا فِي عشرَة آلَاف من السنين ومشاهدة كل مَرِيض فِي الْعَالم وَهَذَا يقطع دونه قواطع الْمَوْت والشغل بِمَا لَا بُد مِنْهُ من أَمر المعاش وَذَهَاب الدول وَسَائِر الْعَوَائِق وكعلم النُّجُوم وَمَعْرِفَة دورانها وقطعها وعودها إِلَى أفلاكها مِمَّا لَا يتم إِلَّا فِي عشرَة آلَاف من السنين وَلَا بُد من أَن يقطع دون ضبط ذَلِك الْعَوَائِق الَّتِي قُلْنَا وكاللغة الَّتِي يَصح تربية وَلَا عَيْش وَلَا تصرف إِلَّا بهَا(1/64)
وَلَا سَبِيل إِلَّا الِاتِّفَاق عَلَيْهَا إِلَّا بلغَة اخرى وَلَا بُد فصح أَنه لَا بُد من مبدأ للغة مَا وكالحرث والحصاد والدراس والطحن وآلاته والعجن والطبخ والحلب وحراسة الْمَوَاشِي واتخاذ الْإِنْسَان مِنْهَا وَالْغَرْس واستخراج الأدهان ودق الْكَتَّان والقنب والقطن وغزله وحياكته وقطعه وخياطته ولبسه وآلات كل ذَلِك وآلات الْحَرْث والإرحاء والسفن وتدبيرها فِي الْقطع بهَا للبحار والدواليب وحفر الْآبَار وتربية النَّحْل ودود الْخَزّ واستخراج الْمَعَادِن وَعمل الْأَبْنِيَة مِنْهَا وَمن الْخشب والفخار وكل هَذَا لَا سَبِيل إِلَى الاهتداء إِلَيْهِ دون تَعْلِيم فَوَجَبَ بِالضَّرُورَةِ وَلَا بُد أَنه لَا بُد من إِنْسَان وَاحِد فَأكْثر علمهمْ الله تَعَالَى ابْتِدَاء كل هَذَا دون معلم لَكِن بِوَحْي حَقَّقَهُ عِنْده وَهَذِه صفة النُّبُوَّة فَإِذا لَا بُد من نَبِي أَو انبياء ضَرُورَة فقد صَحَّ وجود النُّبُوَّة وَالنَّبِيّ فِي الْعَالم بِلَا شكّ وَمن الْبُرْهَان على مَا ذكرنَا أننا نجد كل من لم يُشَاهد هَذِه الْأُمُور لَا سَبِيل لَهُ إِلَى اختراعها الْبَتَّةَ كَالَّذي يُولد وَهُوَ أَصمّ فَإِنَّهُ لَا يُمكن لَهُ الْبَتَّةَ الاهتداء إِلَى الْكَلَام وَلَا إِلَى مخارج الْحُرُوف وكالبلاد الَّتِي لَيست فِيهَا بعض الصناعات وَهَذِه الْعُلُوم الْمَذْكُورَة كبلاد السودَان والصقالبة وَأكْثر الْأُمَم وسكان الْبَوَادِي نعم والحواضر لَا يُمكن الْبَتَّةَ مُنْذُ أول الْعَالم إِلَى وقتنا هَذَا وَلَا إِلَى انقضائه اهتداء أحد مِنْهُم إِلَى علم لم يعرفهُ وَلَا إِلَى صناعَة لم يعرف بهَا فَلَا سَبِيل إِلَى تهديهم إِلَيْهَا الْبَتَّةَ حَتَّى يعلموها وَلَو كَانَ مُمكنا فِي الطبيعة التهدي إِلَيْهَا دون تَعْلِيم لوجد من ذَلِك فِي الْعَالم على سعته وعَلى مُرُور الْأَزْمَان من يَهْتَدِي إِلَيْهَا وَلَو وَاحِدًا وَهَذَا أَمر يقطع على أَنه لَا يُوجد وَلم يُوجد وَهَكَذَا القَوْل فِي الْعُلُوم وَلَا فرق ولسنا نعني بِهَذَا ابْتِدَاء جمعهَا فِي الْكتب لِأَن هَذَا أَمر لَا مُؤنَة فِيهِ إِنَّمَا هُوَ كتاب مَا سَمعه الْكَاتِب وإحصاؤه فَقَط كالكتب الْمُؤَلّفَة فِي الْمنطق وَفِي الطِّبّ وَفِي الهندسة وَفِي النُّجُوم وَفِي الْهَيْئَة والنحو واللغة وَالشعر وَالْعرُوض إِنَّمَا نعني ابْتِدَاء مُؤنَة اللُّغَة وَالْكَلَام بهَا وَابْتِدَاء معرفَة الْهَيْئَة وتعلمها وَابْتِدَاء أشخاص الْأَمْرَاض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بهَا وَابْتِدَاء معرفَة الصناعات فصح بذلك أَنه لَا بُد من وَحي من الله تَعَالَى فِي ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَيْضا برهَان ضَرُورِيّ على حُدُوث الْعَالم وَأَن لَهُ مُحدثا مُخْتَارًا وَلَا بُد إِذْ لَا بَقَاء للْعَالم الْبَتَّةَ إِلَّا بنشأة ومعاش وَلَا نشأة وَلَا معاش وَلَا معاش إِلَّا بِهَذِهِ الْأَعْمَال والصناعات والآلات وَلَا يُمكن وجود شَيْء من هَذِه كلهَا إِلَّا بتعليم الْبَارِي فصح أَن الْعَالم لم يكن مَوْجُودا إِذْ لَا سَبِيل إِلَى بَقَائِهِ إِلَّا بِمَا ذكرنَا ثمَّ وجد معلما مُدبرا مُبْتَدأ بتعليمه على مَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِذ قد تكلمنا على أَنه لَا بُد من نبوة وَصَحَّ ذَلِك ضَرُورَة فلنتكلم على براهينها الَّتِي يَصح بهَا علم صدق مدعيها إِذْ وَقعت فَنَقُول أَنه قد صَحَّ أَن الْبَارِي تَعَالَى هُوَ فَاعل كل شَيْء ظهر وَأَنه قَادر على إِظْهَار كل متوهم لم يظْهر وَعلمنَا بِكُل مَا قدمنَا أَنه تَعَالَى مُرَتّب هَذِه الرتب الَّتِي فِي الْعَالم ومجريها على طبائعها الْمَعْلُومَة منا الْمَوْجُودَة عندنَا وَأَنه لَا فَاعل على الْحَقِيقَة غَيره تَعَالَى ثمَّ رَأينَا خلافًا لهَذِهِ الرتب والطبائع قد ظَهرت وَوجدنَا طبائع قد أحيلت وَأَشْيَاء فِي حد الْمُمْتَنع وَقد وَجَبت وَوجدت كصخرة انفلقت عَن نَاقَة وعصا انقلبت حَيَّة وميت أَحْيَاهُ إِنْسَان ومئين من النَّاس رووا وتوضؤا كلهم من مَاء يسير فِي قدح صَغِير ضيق عَن بسط(1/65)
الْيَد فِيهِ لَا مَادَّة لَهُ فَعلمنَا أَن محيل هَذِه الطبائع وفاعل هَذِه المعجزات هُوَ الأول الَّذِي أحدث كل شَيْء وَوجدنَا هَذِه القوى قد أصحبها الله تَعَالَى رجَالًا يدعونَ إِلَيْهِ ويذكرون أَنه تَعَالَى أرسلهم إِلَى النَّاس ويستشهدون بِهِ تَعَالَى فَيشْهد لَهُم بِهَذِهِ المعجزات المحدثة مِنْهُ تَعَالَى فِي حِين رَغْبَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلَيْهِ فِيهَا وضراعتهم إِلَيْهِ فِي تصديقهم بهَا فَعلمنَا علما ضَرُورِيًّا لَا مجَال للشَّكّ فِيهِ أَنهم مبعوثون من قبله عز وَجل وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أخبروا بِهِ عَنهُ تَعَالَى إِذْ لَا سَبِيل فِي طبيعة مَخْلُوق فِي الْعَالم إِلَى التحكم على الْبَارِي وَلَا على طبائع خلقه بِمثل هَذَا وَوُجُوب النُّبُوَّة إِذْ ظهر على مدعيها معْجزَة من إِحَالَة الطبائع الْمُخَالفَة لما بني عَلَيْهِ الْعَالم وَقد تكلمنا فِي غير هَذَا الْمَكَان على أَن هَذِه الْأَشْيَاء لَهَا طرق توصل إِلَى صِحَة الْيَقِين بهَا عِنْد من لم يشاهدها كصحتها عِنْد من شَاهدهَا وَلَا فرق وَهِي نقل الكافة الَّتِي قد استشعرت الْعُقُول ببدايتها والنفوس بِأول معارفها أَنه لَا سيبل إِلَى جَوَاز الْكَذِب وَلَا الْوَهم عَلَيْهَا وَإِن ذَلِك مُمْتَنع فِيهَا فَمن تجاهل وَأَجَازَ ذَلِك عَلَيْهَا خرج عَن كل مَعْقُول وَلَزِمَه أَن لَا يصدق أَن من غَابَ عَن بَصَره من الانس بِأَنَّهُم أَحيَاء ناطقون كمن شاهدوا أَن صورهم على حسب الصُّورَة الَّتِي عاين وَلزِمَ أَن يكون عِنْده مُمكنا فِي بعض من غَابَ عَن بَصَره من النَّاس أَن يَكُونُوا بِخِلَاف مَا عهد من الصُّورَة إِذْ لَا يعرف أحد إِن كَانَ غَابَ عَن حسه فَإِنَّهُ فِي مثل كَيْفيَّة مَا شَاهد من نَوعه إِلَّا بِنَقْل الكواف ذَلِك كَمَا نقلت أَن بَعضهم بِخِلَاف ذَلِك فِي بعض الكيفيات فَوَجَبَ تَصْدِيق ذَلِك ضَرُورَة كبلاد السودَان وَمَا أشبه ذَلِك وَيلْزم من لم يصدق خبر الكافة ويجيز فِيهِ الْكَذِب وَالوهم أَن لَا يصدق ضَرُورَة بِأَن أحدا كَانَ قبله فِي الدُّنْيَا وَلَا أَن فِي الدُّنْيَا أحد إِلَّا من شَاهد بحسه فَإِن جوز هَذَا عرف بِقَلْبِه أَنه كاذبوخرج عَن حُدُود من يتَكَلَّم مَعَه لِأَن هَذَا الشَّيْء لَا يعرف الْبَتَّةَ إِلَّا من طَرِيق الْخَبَر لَا غير فَإِن نفر عَن هَذَا وَأقر بِأَنَّهُ قد كَانَ قبله مُلُوك وعلماء ووقائع وأمم وأيقن بذلك وَلم يكن فِي كثير مِنْهَا شكّ بلَى هِيَ عِنْده فِي الصِّحَّة كَمَا شَاهد وَلَا فرق سُئِلَ من أَيْن عرفت ذَلِك وَكَيف صَحَّ عنْدك فَلَا سَبِيل لَهُ أصلا إِلَى أَن يَصح ذَلِك عِنْده إِلَّا بِخَبَر مَنْقُول نقل كَافَّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَنَقُول لَهُ حِينَئِذٍ فرق بَين مَا نقل إِلَيْك من كل ذَلِك وَبَين كل مَا نقل إِلَيْك من عَلَامَات الْأَنْبِيَاء وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْفرق بَين شَيْء من ذَلِك أصلا فَإِن قَالَ الْفرق بَينهَا وَبَينهَا أَنه لَا يُنكر أحد هَذِه الْأُمُور وَكثير من النَّاس يُنكرُونَ أَعْلَام الْأَنْبِيَاء قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن كثيرا من النَّاس لَا يعْرفُونَ كثيرا مِمَّا صَحَّ عنْدك من الْأَخْبَار الْعَارِضَة لمن كَانَ فِي بلادك قبلهَا فَلَيْسَ جهلهم بهَا ودفعهم لَهَا لَو حدثوا بهَا مخرجا لَهَا عَن الصِّحَّة وَكَذَلِكَ جحد من جحد إِعْلَام الْأَنْبِيَاء لَيْسَ مخرجا لَهَا عَن الْوُجُوب وَالصِّحَّة فَإِن قَالَ إِنَّه لَيْسَ نجد النَّاس على الْكَذِب فِيمَا كَانَ قبلنَا من الْأَخْبَار مَا نجدهم على الْكَذِب فِي إِعْلَام النُّبُوَّة قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذَا كذب بل الْأَمْرَانِ سَوَاء لَا فرق بَينهمَا وَمن الْمُلُوك من يشْتَد عَلَيْهِم وصف أسلافهم بالجور وَالظُّلم والقبائح ويحمي هَذَا الْبَاب بِالسَّيْفِ فَمَا دونه فَمَا انتفعوا بذلك فِي كتمان الْحق قد نقل ذَلِك كُله وَعرف كَمَا نقلت فَضَائِل من يغْضب مُلُوك الزَّمَان من مدحه كفضائل عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا قدر قطّ من مُلُوك بني مَرْوَان على سترهَا وطيها وَقد رام الْمَأْمُون والمعنصم والواثق على سَعَة ملكهم لأقطار الأَرْض قطع القَوْل بِأَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق فَمَا قدرُوا على ذَلِك وكل نَبِي فَلهُ عَدو(1/66)
من الْمُلُوك والأمم يكذبونهم فَمَا قدرُوا قطّ على طي إعلامهم وَلَا على تَحْقِيق مَا زادوا على ذَلِك لمن يغْضب لَهُ من لَا دين لَهُ فصح أَن الْأَمريْنِ سَوَاء فَإِن قَالَ قَائِل فَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي ظَهرت مِنْهُ المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قد مَعهَا على إِظْهَار مَا أظهر قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الْخَواص قد علمت ووجوه الْحِيَل قد أحكمت وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا عمل يحدث عَنهُ اختراع جسم لم يكن كنحو مَا ظهر من اختراع المَاء الَّذِي لم يكن وَلَا فِي شَيْء مِنْهُ إِحَالَة نوع إِلَى نوع آخر دفْعَة على الْحَقِيقَة وَلَا جنس إِلَى جنس آخر دفْعَة على الْحَقِيقَة وَهَذَا كُله قد ظهر على أَيدي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فصح أَنه من عِنْد الله تَعَالَى لَا مدْخل لعلم انسان وَلَا حيلته فِيهِ وَنحن نبين إِن شَاءَ الله الْفرق الْوَاضِح بَين معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَبَين مَا يقدر عَلَيْهِ بِالسحرِ وَبَين حيل العجائبيين فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْعَالم كُله جَوْهَر وَعرض لَا سَبِيل إِلَى وجود قسم ثَالِث فِي الْعَالم دون الله تَعَالَى فَأَما الْجَوَاهِر فاختراعها من لَيْسَ إِلَى أنس وَهُوَ من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود فممتنع غير مُمكن الْبَتَّةَ لأحد دون الله تَعَالَى مبتدىء الْعَالم ومخترعه فَمن ظهر عَلَيْهِ اختراع جسم كَالْمَاءِ النابع من أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَة الْجَيْش فَهِيَ معْجزَة شاهدة من الله تَعَالَى لَهُ بِصِحَّة نبوته لَا يُمكن غير ذَلِك أصلا وَكَذَلِكَ إِحَالَة الْأَعْرَاض الَّتِي هِيَ جوهريات ذاتيات وَهِي الْفُصُول الَّتِي تُؤْخَذ من الْأَجْنَاس وَذَلِكَ كقلب الْعَصَا حَيَّة وحنين الْجذع وإحياء الْمَوْتَى الَّذين رموا وصاروا عظاماً والبقاء فِي النَّار سَاعَات لَا تؤذيه وَمَا أشبه ذَلِك وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاض الَّتِي لَا تَزُول إِلَّا بِفساد حاملها كالفطس والرزق وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ أحد دون الله تَعَالَى بِوَجْه من الْوُجُوه وَأما إِحَالَة الْأَعْرَاض من الغيرات الَّتِي تَزُول بِغَيْر فَسَاد حملهَا فقد تكون بِالسحرِ وَمِنْه طلمسات كتنفير بعض الْحَيَوَان عَن مَكَان مَا فَلَا يقربهُ أصلا وكإبعاد الْبرد بِبَعْض الصناعات وَمَا أشبه هَذَا وَقد يزِيد الْأَمر ويفشوا الْعلم بِبَعْض هَذَا النَّوْع حَتَّى يحسبه أَكثر النَّاس كالطير والاصباغ وَمَا أشبه هَذَا وَأما التخييل بِنَوْع من الخديعة كسكين مثقوبة النّصاب تدخل فِيهَا السكين ويظن من رَآهَا أَنَّهَا دخلت فِي جَسَد الْمَضْرُوب بهَا فِي حيل غير هَذِه من حيل أَرْبَاب الْعَجَائِب والحلاج وأشباهه فَأمر يقدر عَلَيْهِ من تعلمه وتعلمه مُمكن لكل من أَرَادَهُ فَالَّذِي يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ إِحَالَة الذاتيات وَمن ذَلِك صرف الْحَواس على طبائعها كمن أَرَاك مَا لَا يرَاهُ غَيْرك أَو مسح يَده على مَرِيض فأفاق أَو سقَاهُ مَا يضر علته فبرىء أَو أخبر عَن الغيوب فِي الجزئيات عَن غير تَعْدِيل وَلَا فكرة فَهَذِهِ كلهَا إِحَالَة الذاتيات وَمَا ثَبت إِذْ ثباتها لَا يكون إِلَّا لنَبِيّ فَإِذا قد تكلمنا على مَكَان النُّبُوَّة قبل مجيئها ووجوبها حِين وجودهَا فلنتكلم الْآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذَلِك فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِذْ قد صَحَّ كل مَا ذكرنَا من المعجزات الظَّاهِرَة من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام شَهَادَة من الله تَعَالَى لَهُم يصدقُوا بهَا أَقْوَالهم فقد وَجب علينا الانقياد لما أَتَوا بِهِ ولزمنا تَيَقّن كل مَا قَالُوا وَقد صَحَّ عَن رَسُول(1/67)
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَقْل الكواف الَّتِي نقلت نبوته واعلامه وَكتابه أَنه أخبر أَنه لَا نَبِي بعده إِلَّا مَا جَاءَت الْأَخْبَار الصِّحَاح من نزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي بعث إِلَى بني إِسْرَائِيل وَادّعى الْيَهُود قَتله وصلبه فَوَجَبَ الْإِقْرَار بِهَذِهِ الْجُمْلَة وَصَحَّ أَن وجود النُّبُوَّة بعده عَلَيْهِ السَّلَام بَاطِل لَا يكون الْبَتَّةَ وَبِهَذَا يبطل أَيْضا قَول من قَالَ بتواتر الرُّسُل وَوُجُوب ذَلِك أبدا وَبِكُل مَا قدمْنَاهُ مِمَّا أبطلنا بِهِ قَول من قَالَ بامتناعهما الْبَتَّةَ إِذْ عُمْدَة حجَّة هَؤُلَاءِ هِيَ قَوْلهم إِن الله حَكِيم والحكيم لَا يجوز فِي حكمته أَن يتْرك عباده هملاً دون إنذار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد أحكمنا بحول الله تَعَالَى وقوته قبل هَذَا أَن الله تَعَالَى لَا شَرط عَلَيْهِ وَلَا عِلّة مُوجبَة عَلَيْهِ أَن يفعل شَيْئا وَلَا أَن لَا يَفْعَله وَأَنه تَعَالَى لَو أهمل النَّاس لَكَانَ حَقًا وحسناً لَو خلقهمْ كَمَا خلق سَائِر الْحَيَوَان الَّذِي لم يلْزمه شَرِيعَة وَلَا خطر عَلَيْهِ شيءٌ وَأَنه تَعَالَى لَو واتر الرُّسُل والنذارة أبدا لَكَانَ حَقًا وحسناً لما فعل بِالْمَلَائِكَةِ الَّذين هم حَملَة وحيه وَرُسُله أبدا وَأَنه تَعَالَى لَو خلق الْخلق كفَّارًا كلهم لَكَانَ ذَلِك مِنْهُ حَقًا وحسنا وَلَو خلقهمْ مُؤمنين كلهم لَكَانَ حَقًا وحسناً كَمَا أَن الَّذِي فعل تَعَالَى من كل ذَلِك حق وَحسن وَأَنه لَا يقبح شَيْء إِلَّا من مَأْمُور مَنْهِيّ قد تقدّمت الْأَوَامِر وجوده وسبقت الْحُدُود الْمرتبَة للأشياء كَونه وَأما من سبق كل ذَلِك فَلهُ أَن يفعل مَا يَشَاء وَيتْرك مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه وَأما الْمَلَائِكَة فَكل من لَهُ معرفَة ببنية الْعَالم والأفلاك والعناصر فَإِنَّهُ يعلم أَن الأَرْض وعمقها أقرب إِلَى الْفساد من سَائِر العناصر وَمن سَائِر الأجرام العلوية وَأَنَّهَا مواتية كلهَا وَأَن الْحَيَاة إِنَّمَا هِيَ فِي النُّفُوس الْمنزلَة قسراً إِلَى مجاورة أجساد الترابية المواتية من جَمِيع الْحَيَوَان فقد ثَبت يَقِينا بضرورة الْمُشَاهدَة أَن مَحل الْحَيَاة وعنصرها ومعدنها وموضعها إِنَّمَا هُوَ هُنَالك من حَيْثُ جَاءَت النُّفُوس الْحَيَّة النَّاقِصَة بِمَا فِي طبعها من مجاورة هَذِه الأجساد والتثبت بهَا عَن كَمَال مَا خص بِالْحَيَاةِ الدائمة وَلم يَشن وَلَا نقص فَضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفَات ودرنا عيوبا فصح أَن الْعُلُوّ الصافي هُوَ مَحل الْأَحْيَاء الفاضلين السالمين من كل رذيلة وَمن كل نقص وَمن كل مزاج فَاسد المحبوين بِكُل فَضِيلَة فِي الْخلق وَهَذِه صفة الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَصَحَّ بِهَذَا أَن على قدر سَعَة ذَلِك الْمَكَان يكون كَثْرَة من فِيهِ من أَهله وعماره وَأَنه لَا نِسْبَة لما فِي هَذَا الْمحل الضّيق والنقطة الكدراء وَمِمَّا هُنَالك كَمَا لَا نِسْبَة لمقدار هَذَا الْمَكَان من ذَلِك وَبِهَذَا صحت الرِّوَايَة وَهَكَذَا أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَثْرَة الْمَلَائِكَة فِي الْأَخْبَار المسندة الثَّابِتَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِهَذَا وَجب أَن يَكُونُوا هم الرُّسُل والوسائط بَين الأول تَعَالَى الَّذِي خصهم بِالنُّبُوَّةِ والرسالة وَتَعْلِيم الْعُلُوم وَبَين إنقاذ النُّفُوس من الهلكة
الْكَلَام على من قَالَ أَن فِي الْبَهَائِم رسلًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذهب أَحْمد بن حابط وَكَانَ من أهل الْبَصْرَة من تلاميذ إِبْرَاهِيم النظام يظْهر الاعتزال وَمَا نرَاهُ إِلَّا كَافِرًا لَا مُؤمنا وَإِنَّمَا استخرنا إِخْرَاجه عَن(1/68)
الْإِسْلَام لِأَن أَصْحَابه حكوا عَنهُ وُجُوهًا من الْكفْر مِنْهَا التناسخ والطعن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنِّكَاحِ وَكَانَ من قَوْله أَن الله عز وَجل نبأ أَنْبيَاء من كل نوع من أَنْوَاع الْحَيَوَان حَتَّى البق والبراغيث وَالْقمل وحجته فِي ذَلِك قَول الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} ثمَّ ذكرُوا قَوْله تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله عز وَجل يَقُول {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَإِنَّمَا يُخَاطب الله تَعَالَى بِالْحجَّةِ من يَعْقِلهَا قَالَ الله تَعَالَى {يَا أولي الْأَلْبَاب} وَقد علمنَا بضرورة الْحسن أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خص بالنطق الَّذِي هُوَ التَّصَرُّف وَمَعْرِفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات على اختلافها الْإِنْسَان خَاصَّة وأضفنا إِلَيْهِم بالْخبر الصَّادِق مُجَرّد الْجِنّ وأصفنا إِلَيْهِم بالْخبر الصَّادِق وببراهين أَيْضا ضَرُورِيَّة الْمَلَائِكَة وَإِنَّمَا شَارك من ذكرنَا سَائِر الْحَيَوَان فِي الْحَيَاة الْخَاصَّة وَهِي الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية فَعلمنَا بضرورة الْعقل أَن الله تَعَالَى لَا يُخَاطب بالشرائع إِلَّا من يَعْقِلهَا وَيعرف المُرَاد بهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَوجدنَا جَمِيع الْحَيَوَان حاشا النَّاس يجْرِي على رُتْبَة وَاحِدَة فِي تصرفها فِي معايشها وتناسلها لَا يجْتَنب مِنْهَا وَاحِد شَيْئا يَفْعَله غَيره هَذَا الَّذِي يدْرك حسا فِيمَا يعاشر النَّاس فِي مَنَازِلهمْ من الْمَوَاشِي وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَالطير وَغير ذَلِك وَلَيْسَ النَّاس فِي أَحْوَالهم كَذَلِك فصح أَن الْبَهَائِم غير مُخَاطبَة بالشرائع وَبَطل قَول ابْن حابط وَصَحَّ أَن معنى قَول الله تَعَالَى {أُمَم أمثالكم} أَي أَنْوَاع أمثالكم إِذْ كل نوع يُسمى أمة وَإِن معنى قَوْله تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} إِنَّمَا عَنى تَعَالَى الْأُمَم من النَّاس وهم الْقَبَائِل والطوائف وَمن الْجِنّ لصِحَّة وجوب الْعِبَادَة عَلَيْهِم فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا يدْريك لَعَلَّ سَائِر الْحَيَوَان لَهُ نطق وتمييز قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق بقضية الْعُقُول وبديهها عرفنَا الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَبهَا عرفنَا الله تَعَالَى وَصِحَّة النُّبُوَّة وَهِي الَّتِي لَا يَصح شَيْء إِلَّا بموجبها فَمَا عرف بِالْعقلِ فَهُوَ وَاجِب فِيمَا بَيْننَا نُرِيد فِي الْوُجُود فِي الْعَالم وَمَا عرف بِالْعقلِ أَنه محَال فَهُوَ محَال فِي الْعَالم وَمَا وجد بِالْعقلِ إِمْكَانه فَجَائِز أَن يُوجد وَجَائِز أَن لَا يُوجد وبضرورة الْعقل والحس علمنَا أَن كل واقعين تَحت جنس فَإِن ذَلِك الْجِنْس يعطيهما اسْمه وَحده عَطاء مستوياً فَلَمَّا كَانَ جنس الْحَيّ يجمعنا مَعَ سَائِر الْحَيَوَان استوينا مَعهَا كلهَا اسْتِوَاء لَا تفاضل فِيهِ فِيمَا اقْتَضَاهُ اسْم الْحَيَاة من الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية وَهَذَا المعنيان هما الْحَيَاة لَا حَيَاة غَيرهمَا أصلا وَعلمنَا ذَلِك بِالْمُشَاهَدَةِ لأننا رَأينَا الْحَيَوَان يألم بِالضَّرْبِ والنخس وَيحدث لَهما من الصَّوْت والقلق مَا يُحَقّق ألما كَمَا نَفْعل نَحن وَلَا فرق وَلذَلِك لما شاركنا وَالْحَيَوَان جَمِيع الشّجر والنبات فِي النَّمَاء اسْتَوَى جَمِيع الْحَيَوَان فِيمَا اقْتَضَاهُ اسْم النمو من طلب الْغذَاء واستمالته فِي المتغذى بِهِ إِلَى نَوعه وَمن طلب بَقَاء النَّوْع مَعَ جَمِيع الشّجر والنبات اسْتِوَاء وَاحِدًا لَا تفاضل فِيهِ وَلما شاركنا وَجَمِيع الْحَيَوَان وَالشَّجر والنبات وَسَائِر الجمادات فِي أَن كل ذَلِك أجسام طَوِيلَة عريضة عميقة جَمِيع الأجرام اسْتَوَى كل ذَلِك فِيمَا(1/69)
اقْتَضَاهُ لَهُ اسْم الجسمية فِي ذَلِك اسْتِوَاء لَا تفاضل فِيهِ وَلم يدْخل مَا لم يُشَارك شَيْئا مِمَّا ذكرنَا فِي الصّفة الَّتِي انْفَرد بهَا عَنهُ هَذَا كُله يُعلمهُ ضَرُورَة من وقف عَلَيْهِ مِمَّن لَهُ حس سليم فَلَمَّا كَانَ النُّطْق الَّذِي هُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات قد خصنا دون سَائِر الْحَيَوَان وَجب ضَرُورَة أَن لَا يشاركنا شَيْء من الْحَيَوَان فِي شَيْء مِنْهُ إِذْ لَو كَانَ فِيهِ شيءٌ مِنْهُ لما كُنَّا أَحَق بكله من سَائِر الْحَيَوَان كَمَا أَنا لسنا بِالْحَيَاةِ أَحَق مِنْهَا وَلَا بالنمو وَلَا بالحركة وَلَا بالجسمية فَصبح بِهَذَا أَنه لَا نطق لَهَا أصلا فَإِن قَالَ قَائِل لَعَلَّ نطقها بِخِلَاف نطقنا قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَا يتشكل فِي الْعُقُول أَلْبَتَّة حَيَاة على غير صفة الْحَيَاة عندنَا وَلَا نَمَاء على غير صفة النَّمَاء عندنَا وَلَا حمرَة على غير الْحمرَة عندنَا وَلَا جسم على خلاف الْأَجْسَام عندنَا وَهَكَذَا فِي كل شَيْء وَلَو كَانَ شَيْء بِخِلَاف مَا عندنَا لم يَقع عَلَيْهِ ذَلِك الِاسْم أصلا وَكَانَ كمن سمى المَاء نَارا وَالْعَسَل حجرا وَهَذَا هُوَ الْحمق والتخليط فالبضرورة وَجب أَن كل صفة هِيَ بِخِلَاف نطقنا فَلَيْسَ نطقاً والنطق عندنَا هُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والصناعات وَمَعْرِفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَو كَانَ ذَلِك النُّطْق بِخِلَاف هَذَا لَكَانَ لَيْسَ معرفَة للأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلَا تَصرفا فِي الْعُلُوم والصناعات فَهُوَ إِذا لَيْسَ نطقاً فَبَطل هَذَا الشغب السخيف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فَإِن اعْترض معترض بِفعل النَّحْل ونسج العنكبوت قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذِه طبيعة ضَرُورِيَّة لِأَن العنكبوت لَا يتَصَرَّف فِي غير تِلْكَ الصّفة من النسج وَلَا تُوجد أبدا إِلَّا لذَلِك وَأما الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يتَصَرَّف فِي عمل الديباج والوشي وَالْقَبَاطِي وأنواع الأصباغ والدباغ والخرط والنقش وَسَائِر الصناعات من الْحَرْث والحصاد والطحن والطبخ وَالْبناء والتجارات وَفِي أَنْوَاع الْعُلُوم من النُّجُوم وَمن الأغاني والطب والقبل والجبر والعبارة وَالْعِبَادَة وَغير ذَلِك وَلَا سَبِيل لشَيْء من الْحَيَوَان إِلَى التَّصَرُّف فِي غير الشَّيْء الَّذِي اقْتَضَاهُ لَهُ طبعه وَلَا إِلَى مُفَارقَة تِلْكَ الْكَيْفِيَّة فَإِن اعْترض معترض بقول الله تَعَالَى {علمنَا منطق الطير} وَبِمَا ذكر الله تَعَالَى من قَول النملة {يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ} الْآيَة وَقصد الهدهد قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لم ندفع أَن يكون للحيوان أصوات عِنْد معاناة مَا تَقْتَضِيه لَهُ الْحَيَاة من طلب الْغذَاء وَعند الْأَلَم وَعند الْمُضَاربَة وَطلب الْفساد وَدُعَاء أَوْلَادهَا وَمَا أشبه ذَلِك فَهَذَا هُوَ الَّذِي علمه الله تَعَالَى سُلَيْمَان رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا الَّذِي يُوجد فِي أَكثر الْحَيَوَان وَلَيْسَ هَذَا من تَمْيِيز دقائق الْعُلُوم وَالْكَلَام وَلَا من عمل وُجُوه الصناعات كلهَا فِي شَيْء وَإِنَّمَا عَنى الله تَعَالَى بمنطق الطير أصواتها الَّتِي ذكرنَا لَا تَمْيِيز الْعُلُوم وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات الَّذِي من ادِّعَاء لَهَا أكذبه العيان وَالله تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق وَأما قصَّة النملة والهدهد فهما(1/70)
معجزتان خاصتان لذَلِك النَّمْل وَلذَلِك الهدهد وآيتان لِسُلَيْمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ككلام الذِّرَاع وحنين الْجذع وتسبيح الطَّعَام لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَات لنبوته عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ حَيَاة عَصا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آيَة لرَسُول الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن هَذَا النُّطْق شَامِل ولأنواع هَذِه الْأَشْيَاء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد قاد السخف والضعف وَالْجهل من يقدر فِي نَفسه أَنه عَالم وَهُوَ الْمَعْرُوف بخويز منداد الْمَالِكِي إِلَى أَن جعل للجمادات تمييزاً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَعَلَّ مُعْتَرضًا يعْتَرض بقول الله تَعَالَى {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حاكياً أَنه قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض {ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم يفتص للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فَهَذَا كُله حق وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لِأَن الْقُرْآن وَاجِب أَن يحمل على ظَاهره كَذَلِك كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن خَالف ذَلِك كَانَ عَاصِيا لله عز وَجل مبدلاً لكلماته مَا لم يَأْتِ نَص فِي أَحدهمَا أَو إِجْمَاع مُتَيَقن أَو ضَرُورَة حس على خلاف ظَاهره فَيُوقف عِنْد ذَلِك وَيكون من حمله على ظَاهره حِينَئِذٍ ناسباً الْكَذِب إِلَى الله عز وَجل أَو كَاذِبًا عَلَيْهِ وعَلى نبيه عَلَيْهِ السَّلَام نَعُوذ بِاللَّه من كلا الْوَجْهَيْنِ وَإِذ قد بَينا قبل بالبراهين الضرورية أَن الْحَيَوَان غير الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة لَا نطق لَهُ نعني أَنه لَا تصرف لَهُ فِي الْعُلُوم والصناعات وَكَانَ هَذَا القَوْل مشَاهد بالحس مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ لَا يُنكره إِلَّا وقح مكابر لحسه وَبينا أَن كل مَا كَانَ بِخِلَاف التَّمْيِيز الْمَعْهُود عندنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ تمييزاً وَكَانَ هَذَا أَيْضا يعلم بِالضَّرُورَةِ والعيان والمشاهدة فَوَجَبَ أَنه بِخِلَاف مَا يُسمى فِي الشَّرِيعَة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا فقد وَجب أَنَّهَا أَسمَاء مُشْتَركَة اتّفقت ألفاظها وَأما مَعَانِيهَا فمختلفة لَا يحل لأحد أَن يحملهَا على غير هَذَا
لِأَنَّهُ إِن فعل كَانَ مخبرا أَن الله تَعَالَى قَالَ مَا يُبطلهُ العيان وَالْعقل الَّذِي بِهِ عرفنَا الله تَعَالَى ولولاه مَا عَرفْنَاهُ وَمن أجَاز هَذَا كَانَ كَافِرًا مُشْركًا وَمن أبطل الْعقل فقد أبطل التَّوْحِيد إِذْ كذب شَاهد عَلَيْهِ إِذْ لَو الْعقل لم يعرف الله عز وَجل أحد أَلا ترى المجانين والأطفال لَا يلْزمهُم شَرِيعَة لعدم عُقُولهمْ وَمن جوز هَذَا فَلَا يُنكر على النَّصَارَى مَا يأْتونَ بِهِ خلاف الْمَعْقُول وَلَا على الدهرية وَلَا على السوفسطائية مَا يخالفون بِهِ الْمَعْقُول لَكنا نقُول أَن اللَّفْظ مُشْتَرك وَالْمعْنَى هُوَ مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ كَمَا فعلنَا فِي النُّزُول وَفِي الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ والأعين وحملنا كل ذَلِك على أَنه حق بِخِلَاف مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم ينزل عندنَا وَاسم يَد وَعين عندنَا لِأَن هَذَا عندنَا فِي اللُّغَة وَاقع على الْجَوَارِح والنقلة وَهَذَا منفي عَن الله تَعَالَى فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فلنقل الْآن على مَعَاني الْآيَات الَّتِي ذكرنَا أَنه رُبمَا اعْترض بهَا من لَا يمعن النّظر بحول الله وقوته فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما تسيبح كل شَيْء فالتسبيح عندنَا إِنَّمَا هُوَ قَول سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ وبالضرورة نعلم أَن الْحِجَارَة والخشب والهوام والحشرات والألوان لَا تَقول سُبْحَانَ الله بِالسِّين والباءوالحاء وَالْألف وَالنُّون وَاللَّام وَالْهَاء هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ من لَهُ مسكة عقل فإ لَا شكّ فِي هَذَا فباليقين(1/71)
علمنَا أَن التَّسْبِيح الَّذِي ذكره الله تَعَالَى هُوَ حق وَهُوَ معنى غير تسبيحنا نَحن بِلَا شكّ فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن التَّسْبِيح فِي أصل اللُّغَة وَهُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن السوء فَإذْ قد صَحَّ هَذَا فَإِن كل شَيْء فِي الْعَالم بِلَا شكّ منزه لله تَعَالَى عَن السوء الَّذِي هُوَ صفة الْحُدُوث وَلَيْسَ فِي العاعلم شَيْء إِلَّا وَهُوَ دَال بِمَا فِيهِ من دَلَائِل الصَّنْعَة واقتضائه صانعاً لَا يشبه شَيْئا مِمَّا خلق على أَن الله تَعَالَى منزه عَن كل سوء وَنقص وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يفهمهُ وَلَا يفقهه كثير من النَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} فَهَذَا هُوَ تَسْبِيح كل شَيْء بِحَمْد الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَهَذَا الْمَعْنى حق لَا يُنكره موحد فَإِن كَانَ قَوْلنَا هَذَا مُتَّفقا على صِحَّته وَكَانَت الضَّرُورَة توجب أَنه لَيْسَ هُوَ التَّسْبِيح الْمَعْهُود عندنَا ففقد ثَبت قَوْلنَا وانتفى قَول من خَالَفنَا بَطْنه الْكَاذِب وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَالْكَافِر الدهري شَيْء لَا يشك فِي أَنه شَيْء وَهُوَ لَا يسبح بِحَمْد الله تَعَالَى أَلْبَتَّة فصح ضَرُورَة أَن الْكَافِر يسبح إِذْ هُوَ من جملَة الْأَشْيَاء الَّتِي تسبح بِحَمْد الله تَعَالَى وَأَن تسبيحه لَيْسَ هُوَ قَوْله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ بِلَا شكّ وَلكنه تَنْزِيه الله تَعَالَى بدلائل خلقه وتركيبه عَن أَن يكون الْخَالِق مشبهاً لشَيْء مِمَّا خلق وَهَذَا يَقِين لَا شكّ فِيهِ فصح بِمَا ذكرنَا أَن لَفْظَة التَّسْبِيح هِيَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة وَهِي الَّتِي تقع على نَوْعَيْنِ فَصَاعِدا وَأما السُّجُود الَّذِي ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْله {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} فقد علمنَا أَن السُّجُود المعهد عندنَا فِي الشَّرِيعَة واللغة هُوَ وضع الْجَبْهَة وَالْيَدَيْنِ والركبتين وَالرّجلَيْنِ وَالْأنف فِي الأَرْض بنية التَّقَرُّب بذلك إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا مَا لَا يشك فِيهِ مُسلم وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة لَا شكّ فِيهَا أَن الْحمير والهوام والخشب والحشيش وَالْكفَّار لَا تفعل ذَلِك لَا سِيمَا من لَيْسَ لَهُ هَذِه الْأَعْضَاء وَقد نَص تَعَالَى على صِحَة مَا قُلْنَا وَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من لَا يسْجد لَهُ السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا بقوله تَعَالَى {واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} فَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من يستكبر عَن السُّجُود لَهُ فَلَا يسْجد وَقَالَ تَعَالَى {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} فَبين تَعَالَى أَن السُّجُود كرها غير السُّجُود بالطوع الَّذِي هُوَ السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا وَإِذ قد أخبر الله تَعَالَى بِهَذَا وَصَحَّ أَيْضا بالعيان فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن السُّجُود الَّذِي أخبر الله تَعَالَى أَنه يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض هُوَ غير السُّجُود الَّذِي يَفْعَله الْمُؤْمِنُونَ طَوْعًا ويستكبر عَنهُ بعض النَّاس وَيمْتَنع مِنْهُ أَكثر الْخلق هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ مُسلم فَإذْ هَذَا كَذَلِك بِلَا شكّ فَوَاجِب علينا أَن نطلب معنى هَذَا السُّجُود مَا هُوَ فَفَعَلْنَا فوجدناه مُبينًا بِلَا إِشْكَال فِي آيَتَيْنِ من كتاب الله وهما قَوْله تَعَالَى {وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} وَقَوله تَعَالَى {أَو لم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون} فَبين تَعَالَى فِي هَاتين الآيتيين بَيَانا لَا إِشْكَال فِيهِ أَن ميل الْفَيْء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذِي ظلّ هُوَ معنى السُّجُود الْمَذْكُور فِي الْآيَة لَا السُّجُود الْمَعْهُود عندنَا وَصَحَّ بِهَذَا أَن لَفْظَة السُّجُود هِيَ من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة الَّتِي تقع على نَوْعَيْنِ فَأكْثر وَأما قَوْله(1/72)
تَعَالَى قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ والمشاهدة أَن القَوْل فِي اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ دفع آلَات الْكَلَام من أنابيب الصَّدْر وَالْحلق والحنك وَاللِّسَان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إِلَى أذن السَّامع فيفهم بِهِ مرادات الْقَائِل فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَكل من لَا لِسَان لَهُ وَلَا شفتين وَلَا أضراس وَلَا حنك وَلَا حلق فَلَا يكون مِنْهُ القَوْل الْمَعْهُود منا هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ ذُو عقل فَإذْ هَذَا هَكَذَا كَمَا قُلْنَا بالعيان فَكل قَول ورد بِهِ نَص وَلَفظ مخبر بِهِ عَمَّن لَيست هَذِه صفته فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ القَوْل الْمَعْهُود عندنَا لكنه معنى آخر فَإذْ هَذَا كَمَا ذكرنَا فبالضرورة قد صَحَّ أَن معنى قَوْله تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} إِنَّمَا هُوَ الجري على نَفاذ حكمه عز وَجل فيهمَا وتصريفه لَهَا وَأما عرضه تَعَالَى الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وإباية كل وَاحِد مِنْهَا فلسنا نعلم نَحن وَلَا أحد من النَّاس كَيْفيَّة ذَلِك وَهَذَا نَص قَوْله تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} فَمن تكلّف أَو كلف غَيره معرفَة ابْتِدَاء الْخلق وَأَن لَهُ مبدئاً لَا يُشبههُ الْبَتَّةَ فَأَرَادَ معرفَة كَيفَ كَانَ فقد دخل فِي قَوْله تَعَالَى {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} إِلَّا أننا نوقن أَنه تَعَالَى لم يعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال الْأَمَانَة إِلَّا وَقد جعل فِيهَا تمييزاً لما عرض علييها وَقُوَّة تفهم بهَا الْأَمَانَة فِيمَا عرض عَلَيْهَا فَلَمَّا أبتها وأشفقت مِنْهَا سلبها ذَلِك التَّمْيِيز وَتلك الْقُوَّة وَأسْقط عَنْهَا تَكْلِيف الْأَمَانَة هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه عز وَجل وَلَا مزِيد عندنَا على ذَلِك وَأما مَا كَانَ بعد ابْتِدَاء الْخلق فمعروف الكيفيات قَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} فصح أَنه لَا تَبْدِيل لما رتبه الله تَعَالَى مِمَّا أجْرى عَلَيْهِ خلائقه حاشا مَا أحَال فِيهِ الرتب والطبائع للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن اعْترضُوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى يصف الْحِجَارَة وَأَن من الْحِجَارَة {لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن الْحِجَارَة لم تُؤمر بشريعة وَلَا بعقل وَلَا بعث إِلَيْهَا نَبِي قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن القَوْل مِنْهُ تَعَالَى يخرج على أحد ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَن يكون الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط} رراجع إِلَى الْقُلُوب الْمَذْكُورَة فِي أول الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} الْآيَة فَذكر تَعَالَى أَن من تِلْكَ الْقُلُوب القاسية مَا يقبل الْإِيمَان يَوْمًا مَا فيهبط عَن الْقَسْوَة إِلَى اللين من خشيَة الله تَعَالَى وَهَذَا أَمر يُشَاهد بالعيان فقد تلين الْقُلُوب القاسية بلطف الله تَعَالَى ويخشى العَاصِي وَقد أخبر عز وَجل أَن من أهل الْكتاب من يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَيْهِم وكما أخبر تَعَالَى أَن من الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه من بعد أَن أخبر تَعَالَى أَن الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقاً وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله فَهَذَا وَجه ظَاهر مُتَيَقن الصِّحَّة
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الخشية الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة إِنَّمَا هِيَ التَّصَرُّف بِحكم الله تَعَالَى وجري أقداره كَمَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى عز وَجل حاكياً عَن السَّمَاء وَالْأَرْض قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين وَقد بَين جلّ وَعز ذَلِك مَوْصُولا بِهَذَا اللَّفْظ فَقَالَ جلّ وَعز {فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} فَبين الله تَعَالَى بَيَانا(1/73)
رفع كل إِشْكَال أَن تِلْكَ الطَّاعَة من السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّمَا هِيَ تصرفه لَهَا وقضاؤه تَعَالَى إياهن سبع سموات ووحيه فِي كل سماءٍ أمرهَا فصح قَوْلنَا نصاجليا بِبَيَان الله تَعَالَى لذَلِك وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَصَحَّ بِهَذَا إباية السَّمَوَات ولأرض وَالْجِبَال من قبُول الْأَمَانَة إِنَّمَا هُوَ لماركبها الله تَعَالَى عَلَيْهِ من الجمادية وَعدم التَّمْيِيز وَقد علم كل ذِي عقل امْتنَاع قبُول مَا هَذِه صفته للشرائع والأوامر والنواهي وَقد ذمّ الله تَعَالَى من ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دعاءونداء وَلَا يحل لمُسلم أَن ينْسب إِلَى الله تَعَالَى فعلا ذمه
وَالْوَجْه الثَّالِث أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بقوله وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله الْجَبَل الي صَار دكاً إِذْ تجلى الله تَعَالَى لَهُ يَوْم سَأَلَهُ كليمه عَلَيْهِ السَّلَام الرُّؤْيَة فَذَلِك الْجَبَل بِلَا شكّ من جملَة الْحِجَارَة وَقد هَبَط عَن مَكَانَهُ من خشيَة الله تَعَالَى وَهَذِه معْجزَة وَآيَة وإحالة طبيعة فِي ذَلِك الْجَبَل خَاصَّة وَيكون يهْبط بِمَعْنى هَبَط كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} وَمَعْنَاهُ بِلَا شكّ وَإِذ مكر وَبَين قَوْله تَعَالَى مُصدقا إِبْرَاهِيم خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنْكَاره على أَبِيه عبَادَة الْحِجَارَة لم تعبد مَا يسمع وَلَا يبصر وَقَوله تَعَالَى {أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل أولو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ} مَا هِيَ عَلَيْهِ من الجمادية وَعدم التَّمْيِيز
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فصح بِهَذَا صِحَة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَن الْحِجَارَة لَا تعقل لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانُوا لَا يعْبدُونَ مِمَّا لَا يعقل وَأما سَائِر مَا كَانُوا يعْبدُونَ من الْمَلَائِكَة والمسيح وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَمن الْجِنّ فَكل هَؤُلَاءِ عاقلون مميزون فَلم يبْق إِلَّا الْحِجَارَة فصح بِالنَّصِّ أَنَّهَا لَا تعقل وَإِذ تَيَقّن ذَلِك بِالنَّصِّ وبالضرورة وبالمشاهدة فقد انْتَفَى عَنْهَا النُّطْق والتمييز والخشية الْمَعْهُود كل ذَلِك عندنَا وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين
وَأما الْأَحَادِيث المأثورة فِي أَن الْحجر لَهُ لِسَان وشفتان والكعبة كَذَلِك وَأَن الْجبَال تطاولت وخشع جبل كَذَا فخرافات مَوْضُوعَة نقلهَا كل كَذَّاب وَضَعِيف لَا يَصح شَيْء مِنْهَا من طَرِيق الْإِسْنَاد أصلا وَيَكْفِي من التَّطْوِيل فِي ذَلِك أَنه لم يدْخل شَيْئا مِنْهَا من انتدب من الْأَئِمَّة لصبيف الصَّحِيح من الحَدِيث أوما يستجاز رِوَايَته مِمَّا يُقَارب الصِّحَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل من يخالفنا فِي هَذَا فَإِنَّهُ إِذا أقرّ لنا أَن القَوْل الْمَذْكُور فِي الْآيَات الَّتِي تلونا وَالسُّجُود وَالتَّسْبِيح والحشية لَيْسَ شَيْء مِنْهُ على الصّفة الْمَعْهُودَة بَيْننَا فقد وَافَقنَا أحب أَو كره وهم كلهم مقرون بذلك وَقد جَاءَ ذَلِك فِي أشعار الْعَرَب
قَالَ الشَّاعِر ... شكى الى جمل طول السرى ... وَقَالَ آخر ... فَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... وَقَالَ الرَّاعِي ... قلق الفؤوس إِذا أردن نصولا ...
وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله تَعَالَى {جداراً يُرِيد أَن ينْقض} وَهَذَا بِلَا شكّ غير الْإِرَادَة الْمَعْهُودَة من الْحَيَوَان فصح قَوْلنَا بِالنَّصِّ والضرورة وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم يقْتَصّ للشاه الْجَمَّاء من الشَّاة القرناء فقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا الوحوش حشرت} فصح أَنَّهَا تحْشر بِلَا شكّ ويسلط الله تَعَالَى مَا يَشَاء(1/74)
من خلقه على مَا يَشَاء فَإِذا سلط القرناء على الْجَمَّاء فِي الدُّنْيَا فَلهُ تَعَالَى أَن يُسَلط الْجَمَّاء على القرناء فِي الْآخِرَة يَوْم الْقِيَامَة وَلم يَأْتِي نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا دَلِيل خبر على أَن الْمَوَاشِي متعبدة بشريعة وَهَذَا مِمَّا نقربه ونقول يفعل الله مَا يَشَاء وَلَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الرَّد على من زعم ان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَيْسُوا أَنْبيَاء الْيَوْم وَلَا الرُّسُل الْيَوْم رسلًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حَدِيث فرقة مبتدعة تزْعم أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ هُوَ الْآن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا قَول ذهب إِلَيْهِ الأشعرية
وَأَخْبرنِي سُلَيْمَان بن خلف الْبَاجِيّ وَهُوَ من مقدميهم الْيَوْم أَن مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك الْأَصْبَهَانِيّ على هَذِه المسئلة قَتله بالسم مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب مادون وَرَاء النَّهر من خرسان رَحمَه الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه مقَالَة خبيثة مُخَالفَة لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما أجمع عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة زانما حملهمْ على هَذَا قَوْلهم الْفَاسِد أَن الرّوح عرض وَالْعرض يفنى أبدا وَيحدث وَلَا يبْقى وَقْتَيْنِ فَروح النَّبِي صالى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدهم قد فنيت وَبَطلَت وَلَا روح الْآن عِنْد الله تَعَالَى وَأما جسده فَفِي قَبره موَات فبطلت نبوته بذلك ورسالته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ونعوذ بِاللَّه من هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ كفر صراح لَا ترداد فِيهِ وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا القَوْل الْفَاحِش الفظيع أَنه مُخَالف لما أَمر الله عز وَجل بِهِ وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتفقَ عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام من كل فرقة وَمن كل نحلة من الْأَذَان فِي الصوامع كل يَوْم حمس مَرَّات فِي كل قَرْيَة من شَرق الأَرْض إِلَى غربها بِأَعْلَى أَصْوَاتهم قد قرنه الله تَعَالَى بِذكرِهِ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله فعلى قَول هَؤُلَاءِ الموكلين إِلَى أنفسهم يكون الآذان كذبا وَيكون من أَمر بِهِ كَاذِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكون الْأَذَان على قَوْلهم أشهد أَن مُحَمَّدًا كَانَ رَسُول الله وَإِلَّا فَمن أخبر(1/75)
عَن شَيْء كَانَ وَبَطل أَنه كَائِن الْآن فَهُوَ كَاذِب فالأذان كذب على قَوْلهم وَهَذَا كفر مُجَرّد وَكَذَلِكَ مَا اتّفق عَلَيْهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم من تلقين موتاهم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَإِنَّهُ بَاطِل على قَول هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ مَا عمل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة قِتَاله الْأمة وَأمره عَن الله عز وَجل بِأَن يعْمل بِهِ بعده أبدا وَأجْمع على القَوْل بِهِ وَالْعَمَل جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أول الْإِسْلَام إِلَى آخِره وَمن شَرق الأَرْض إِلَى غربها إنسهم وجنهم بِيَقِين مَقْطُوع بِهِ دون مُخَالف فَمَا تخرج بِهِ الدِّمَاء من التَّحْلِيل إِلَى التَّحْرِيم أَو إِلَى الحقن بالجزية من أَن يعرض على أهل الْكفْر أَن يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَيجب على قَول هَؤُلَاءِ المحرومين أَن هَذَا بَاطِل وَكذب وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكفلوا أَن يَقُولُوا أَن مُحَمَّد كَانَ رَسُول الله وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم} وَقَوله تَعَالَى {وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} فسماهم الله رسلًا وَقد مَاتُوا وَسَمَّاهُمْ نبيين ورسلاً وهم فِي الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ مَا أجمع النَّاس عَلَيْهِ وَجَاء بِهِ النَّص من قَول كل مصل فرضا أَو نَافِلَة السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَلَو لم يكن روحه عَلَيْهِ السَّلَام مَوْجُودا قَائِما لَكَانَ السَّلَام على الْعَدَم هدرا
فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون مَيتا رَسُول الله وَإِنَّمَا الرَّسُول هُوَ الَّذِي يُخَاطب عَن الله بالرسالة قيل لَهُم نعم من أرْسلهُ الله مرّة وَاحِدَة فَقَط رَسُولا لله تَعَالَى أبدا لِأَنَّهُ حَاصِل على مرتبَة جلالة لَا يحطه عَنْهَا شىء أبدا ول يسْقط عَنهُ هَذَا الِاسْم أبدا وَلَو كَانَ مَا قُلْتُمْ لوَجَبَ أَن لَا يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولا إِلَى أهل الْيمن فِي حَيَاته لِأَنَّهُ لم يكلمهم وَلَا شافههم وَيلْزم أَيْضا أَن لَا يكون رَسُول الله إِلَّا مَا دَامَ يكلم النَّاس فَإِذا سكت أَو أكل أَو نَام أَو جَامع لم يكن رَسُول الله وَهَذَا حمق مشوب بِكفْر وحلاف للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن خبر الْإِسْرَاء الَّذِي ذكره الله عز وَجل فِي الْقُرْآن وَهُوَ مَنْقُول نقل التَّوَاتُر وَأحد أَعْلَام النُّبُوَّة ذكر فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي سماءٍ سَمَاء فَهَل رأى إِلَّا أَرْوَاحهم الَّتِي هِيَ أنفسهم وَمن كذب بِهَذَا أَو بعضه فقد انْسَلَخَ عَن الْإِسْلَام بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَهَذِه براهين لَا محيد عَنْهَا وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر أَن لله مَلَائِكَة يبلغونه منا السَّلَام وَأَنه من رَآهُ فِي الْمَنَام فقد رَآهُ حَقًا وَلَقَد بَلغنِي عَن بَعضهم أَنهم يَقُولُونَ أَن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم لسن الْآن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ لكنهن كن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا ضلال بحت وحماقة مَحْضَة وَلَو كَانَ هَذَا الْوَاجِب أَن لَا تكون أم الْمَرْء الَّتِي وَلدته وَأَبوهُ الَّذِي وَلَده أَبَاهُ وَلَا أمه إِلَّا فِي حِين الْولادَة وَالْحمل من الْأُم فَقَط وَفِي حِين الْإِنْزَال من الْأَب فَقَط لَا بعد ذَلِك وَهَذَا من السخف الَّذِي لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ ذُو مسكة فَإِن قَالُوا أتقولون أَن عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْيَوْم أَو عُثْمَان أَيْضا كَذَلِك قُلْنَا لَهُم لَا وَهَذَا إِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا يكون أَمِيرا إِلَّا من الائتمار لأَمره وَاجِب وَلَيْسَ هَذَا لأحد إِلَّا بعد مَوته إِلَّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا هُوَ لخليفة بعد خَليفَة طول حَيَاته فَقَط فَبَطل أَن يكون لَهُم فِيهَا مُتَعَلق
الْكَلَام على من قَالَ بتناسخ الْأَرْوَاح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ افترق الْقَائِلُونَ بتناسخ الْأَرْوَاح على فرْقَتَيْن فَذَهَبت الْفرْقَة(1/76)
الْوَاحِدَة إِلَى أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل بعد مفارقتها الأجساد إِلَى أجساد أخر وَإِن لم تكن من نوع الأجساد الَّتِي فَارَقت وَهَذَا قَول أَحْمد بن حابط وَأحمد بن نانوس تِلْمِيذه وَأبي مُسلم الْخُرَاسَانِي وَمُحَمّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب صرح بذلك فِي كِتَابه الموسوم بِالْعلمِ الإلهي وَهُوَ قَول القرامطة وَقَالَ الرَّازِيّ فِي بعض كتبه لَوْلَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى تَخْلِيص الْأَرْوَاح عَن الأجساد المتصورة بالصور الهيمية إِلَى الأجساد المتصورة بصور الْإِنْسَان إِلَّا بِالْقَتْلِ وَالذّبْح لما جَازَ ذبح شَيْء من الْحَيَوَان أَلْبَتَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه كَمَا ترى دعاوي وخرافات بِلَا دَلِيل وَذهب هَؤُلَاءِ إِلَى أَن التناسخ إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل الْعقَاب وَالثَّوَاب قَالُوا فالفاسق الْمُسِيء الْأَعْمَال تنْتَقل روحه إِلَى أجساد الْبَهَائِم الخبيثة المرتطمة فيي الأقذار والمسخرة المؤلمة الممتهنة بِالذبْحِ وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت أفاعيله كلهَا شَرّ الاخبر فِيهَا فَقَالَ بَعضهم أَرْوَاح هَذِه الطَّبَقَة هِيَ الشَّيَاطِين وَقَالَ أَحْمد بن حابط أَنَّهَا تنْتَقل إِلَى جَهَنَّم فتعذب بالنَّار أَبَد الْأَبَد وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت أفاعيله كلهَا خيرا لَا شَرّ فِيهَا فَقَالَ بَعضهم أَرْوَاح هَذِه الطَّبَقَة هِيَ الْمَلَائِكَة وَقَالَ أَحْمد بن حابط أَنَّهَا لَا شكّ أَنَّهَا تنْتَقل إِلَى الْجنَّة فتنعم فِيهَا أَبَد الْأَبَد واحتجت هَذِه الطَّائِفَة المرتسمة بِالْإِسْلَامِ أَعنِي أَحْمد بن حابط وَأحمد بن نانوس بقول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ} وَاحْتج من هَذِه الطَّائِفَة من لَا يَقُول بِالْإِسْلَامِ بِأَن قَالُوا إِن النَّفس لَا تتناهى والعالم لَا يتناهى لأمد فَالنَّفْس منتقلة أبدا وَلَيْسَ انتقالها إِلَى نوعها بِأولى من انتقالها إِلَى غير نوعها بِأولى من انتقالها إِلَى غير نوعها قَالَ أَبُو أَحْمد رَضِي الله عَنهُ وَذَهَبت الْفرْقَة الثَّانِيَة إِلَى أَن منعت من انْتِقَال الْأَرْوَاح إِلَى غير أَنْوَاع أجسادها الَّتِي فَارَقت وَلَيْسَ من هَذِه الْفرْقَة أحد يَقُول بشيءٍ من الشَّرَائِع وهم من الدهرية وحجتهم هِيَ حجَّة الطَّائِفَة الَّتِي ذكرنَا قبلهَا القائلة أَنه لَا تناهي للْعَالم فَوَجَبَ أَن تَتَرَدَّد النَّفس فِي الأجساد أبدا قَالُوا وَلَا يجوز أَن تنْتَقل إِلَى غير النَّوْع الَّذِي أوجب لَهَا طبعها الإشراف عَلَيْهِ وتعلقها بِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما الْفرْقَة المرتسمة باسم الْإِسْلَام فَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم إِجْمَاع جَمِيع أهل الْإِسْلَام على تكفيرهم وعَلى أَن من قَالَ بقَوْلهمْ فَإِنَّهُ على غير الْإِسْلَام وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِغَيْر هَذَا وَبِمَا وَبِمَا الْمُسلمُونَ مجمعون عَلَيْهِ من أَن الْجَزَاء لَا يَقع إِلَّا بعد فِرَاق الأجساد للأرواح بالنكر أَو التنعم قبل يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ بِالْجنَّةِ أَو النَّار فِي موقف الْحَشْر فَقَط إِذا جمعت أجسادها مَعَ أرواحها مَعَ أرواحها الَّتِي كَانَت فِيهَا وَأما احتجاجهم بالآيتين فَكفى من بطلَان قَوْلهم أَيْضا مَا ذَكرْنَاهُ من الْإِجْمَاع وَأَن الْأمة كلهَا مجمعون بِلَا خلاف على أَن المُرَاد بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ غير مَا ذكر هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ وَأَن المُرَاد بقوله تَعَالَى فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك أَنَّهَا الصُّورَة الَّتِي رتب الْإِنْسَان عَلَيْهَا من طول أَو قصر أَو حسن أَو قبح أَو بَيَاض أَو سَواد وَمَا أشبه ذَلِك وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَإِن مَعْنَاهَا أَن الله تَعَالَى امتن علينا فِي أَن خلق لنا من أَنْفُسنَا أَزْوَاجًا(1/77)
تتولد مِنْهَا ثمَّ امتن علينا بِأَن خلق لنا من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج ثمَّ أخبر تَعَالَى أَنه يذرؤنا فِي هَذِه الْأزْوَاج يَعْنِي الَّتِي هِيَ من أَنْفُسنَا فَتبين ذَلِك بَيَانا ظَاهرا لاخفاء بِهِ أَن الله تَعَالَى أخبرنَا فِي هَذِه الْآيَة نَفسهَا أَن الْأزْوَاج المخلوقة لنا إِنَّمَا هِيَ من أَنْفُسنَا ثمَّ فرق بَين أَنْفُسنَا وَبَين الْأَنْعَام فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يكون لنا أَزوَاج تتولد فِيهَا من غير أَنْفُسنَا وَيَكْفِي من هَذَا أَن قَوْلهم إِنَّمَا هُوَ دَعْوَى بِلَا برهَان وَإِنَّمَا رتبوه على أصلهم فِي الْعدْل فأخرجوا هَذَا الْوَجْه لما شاهدوه من إيلام الْحَيَوَان وكل قَول لم يُوجِبهُ برهَان فَهُوَ بَاطِل وَلم يَأْتِ هَذَا القَوْل قطّ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء وَهَؤُلَاء الْقَوْم مقرون بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فلاح يَقِينا فَسَاد قَوْلهم
وَأما الْفرْقَة الثَّانِيَة القائلة بالدهر فإننا نقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
إِنَّه يَكْفِي من فَسَاد قَوْلهم هَذَا أَنه دَعْوَى بِلَا برهَان لَا عَقْلِي ولاحسي وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ لكننا لَا نقنع بِهَذَا بل نبين عَلَيْهِم بَيَانا لائحاً ضَرُورِيًّا بحول الله تَعَالَى وقوته فَتَقول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين أَن الله تَعَالَى خلق الْأَنْوَاع والأجناس ورتب الْأَنْوَاع تَحت الْأَجْنَاس وَفصل كل نوع من النَّوْع الآخر بفصله الْخَاص لَهُ الَّذِي لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره وَهَذِه الْفُصُول الْمَذْكُورَة لأنواع الْحَيَوَان إِنَّمَا هِيَ لأنفسها الَّتِي هِيَ أرواحها فَنَفْس الْإِنْسَان حَيَّة ناطقة وَنَفس الْحَيَوَان حَيَّة غير ناطقة هَذَا هُوَ طبيعة كل نفس وجوهرها الَّذِي لَا يُمكن استحالته عَنهُ فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يصير غير النَّاطِق ناطقاً وَلَا النَّاطِق غير النَّاطِق وَلَو جَازَ هَذَا لبطلت المشاهدات وَمَا أوجبه الْحس وبديهة الْعقل والضرورة لانقسام الْأَشْيَاء على حُدُودهَا وَأما الْفرْقَة الثَّالِثَة
الَّتِي قَالَت أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل إِلَى أجساد نوعها فَيبْطل قَوْلهم بحول الله تَعَالَى وقوته بطلاناً ضَرُورِيًّا بِكُل مَا كتبناه فِي إِثْبَات حُدُوث الْعَالم وَوُجُوب الِابْتِدَاء لَهُ وَالنِّهَايَة من أَوله وَبِمَا كتبناه فِي إِثْبَات النُّبُوَّة أَن جَمِيع النبوات وَردت بِخِلَاف قَوْلهم وببرهان ضَرُورِيّ عَلَيْهِم وهوانه فِي الْعَالم كُله شيآن يشتبهان بِجَمِيعِ أعراضها اشتباهاً تَاما من وَجه يعلم هَذَا من تدبر اخْتِلَاف الصُّور وَاخْتِلَاف الهيآت وتباين الْأَخْلَاق وَإِنَّمَا يُقَال هَذَا الشَّيْء يشبه هَذَا على معنى أَن ذَلِك فِي أَكثر أحوالهما لافي كلهَا وَلَو لم يكن مَا قُلْنَا مَا فرق أحد بَينهمَا أَلْبَتَّة وَقد علمنَا بِالْمُشَاهَدَةِ أَن كل من يتَكَرَّر عَلَيْهِ ذَلِك الشيآن تكرراً كثيرا مُتَّصِلا أَنه لَا بُد أَن يفصل بَينهمَا وَأَن يُمَيّز أَحدهمَا من الثَّانِي وَأَن يجد فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَشْيَاء بَان بهَا عَن الآخر لَا يُشبههُ فِيهَا فصح بِهَذَا أَنه لَا سَبِيل إِلَى وجود شَخْصَيْنِ يتفقان فِي أخلاقهما كلهَا حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرق فِي شَيْء مِنْهَا وَقد علمنَا بِيَقِين أَن الْأَخْلَاق مَحْمُولَة فِي النَّفس فصح بِهَذَا أَن نفس كل ذِي نفس من الأجساد من أَي نوع كَانَت غير النَّفس الَّتِي فِي غَيره من الأجساد كلهَا ضَرُورَة وَقَالَ أَيْضا بعض من ذهب إِلَى التناسخ من الحاملين ذَلِك على سَبِيل الْجَزَاء أَن الله تَعَالَى عدل حَكِيم رَحِيم كريم فإذهو كَذَلِك فمحال أَن يعذب من لَا ذَنْب لَهُ قَالَ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُ تَعَالَى يقطع أجسام الصّبيان الَّذين لَا ذَنْب لَهُم بالجدري والقروح وَيَأْمُر بِذبح بعض الْحَيَوَان الَّذِي لَا ذَنْب لَهُ وبطبخه وَأكله ويسلط بَعْضهَا على بعض فيقطعه ويأكله وَلَا ذَنْب لَهُ علمنَا أَنه تَعَالَى لم يفعل ذَلِك إِلَّا وَقد كَانَت الْأَرْوَاح عصاة مُسْتَحقَّة للعقاب بكسب هَذِه الأجساد لتعذب فِيهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى عَنهُ وَقد تكلمنا على إبِْطَال هَذَا الأَصْل الْفَاسِد فِي(1/78)
غير هَذَا الْمَكَان على البراهمة فِي كتَابنَا هَذَا بِمَا يَكْفِي وَقد رددنا الْكَلَام أَيْضا فِي بَيَان بُطْلَانه فِي غير مَا مَوضِع من كتَابنَا وَفِي بَاب الْكَلَام على من أبطل الْقدر من الْمُعْتَزلَة فِي كتَابنَا هَذَا وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَيَكْفِي من بطلَان هَذَا الأَصْل الْفَاسِد أَن يُقَال لَهُم إِن طردتم هَذَا الأَصْل وَقَعْتُمْ فِي مثل مَا أنكرتم وَلَا فرق وَهُوَ أَن الْحَكِيم الْعدْل الرَّحِيم على أصلكم لَا يخلق من يعرضه للمعصية حَتَّى يحْتَاج إِلَى إفساده بِالْعَذَابِ بعد إِصْلَاحه وَقد كَانَ قَادِرًا على أَن يطهر كل نفس خلقهَا وَلَا يعرضهَا للفتن ويلطف بهَا ألطافاً فيصلحها بهَا حَتَّى تسْتَحقّ كلهَا إحسانه وَالْخُلُود فِي النَّعيم وَمَا كَانَ ذَلِك ينقص شَيْئا من ملكه فَإِن كَانَ عَاجِزا عَن ذَلِك فَهَذِهِ صفة نقص وَيلْزم حاملها أَن يكون من أجل نَقصه مُحدثا مخلوقاً فَإِن طردوا هَذَا الأَصْل خَرجُوا إِلَى قَول المانوية فِي أَن للأشياء فاعلين وَقد تقدم إبطالنا لقَولهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبينا أَن الَّذِي لَا آمُر فَوْقه وَلَا مُرَتّب عَلَيْهِ فَإِن كل مَا يَفْعَله فَهُوَ حق وَحِكْمَة وَإِذ قد تعلق هَؤُلَاءِ الْقَوْم بالشريعة أَن كل قَول لم يَأْتِ عَن نَبِي تِلْكَ الشَّرِيعَة فَهُوَ كذب وفرية فَإذْ لم يَأْتِ عَن أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام القَوْل بتناسخ الْأَرْوَاح فقد صَار قَوْلهم بِهِ خرافة وكذباً وباطلاً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل فِي الْكَلَام على من أنكر الشَّرَائِع من المنتمين إِلَى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد النَّاس عَن الْعلم بهَا جملَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ نبين فِي هَذَا الْفَصْل بحول الله تَعَالَى وقوته وجوب صِحَة الشَّرَائِع على مَا توجبه أصُول الفلاسفة على الْحَقِيقَة أَوَّلهمْ عَن آخِرهم على اخْتِلَاف أَقْوَالهم فِي غير ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ الفلسفة على الْحَقِيقَة إِنَّمَا مَعْنَاهَا وثمرتها وَالْغَرَض الْمَقْصُود نَحوه بتعلمها لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير إصْلَاح النَّفس بِأَن تسْتَعْمل فِي دنياها الْفَضَائِل وَحسن السِّيرَة المؤدية إِلَى سلامتها فِي الْمعَاد وَحسن السياسة للمنزل والرعية وَهَذَا نَفسه لَا غَيره هُوَ الْغَرَض فِي الشَّرِيعَة هَذَا مَا لَا خلاف فِيهِ بَين أحد من الْعلمَاء بالفلسفة وَلَا بَين أحد من الْعلمَاء بالشريعة فَيُقَال لمن انْتَمَى إِلَى الفلسفة بِزَعْمِهِ وَهُوَ يُنكر الشَّرِيعَة بجهله على الْحَقِيقَة بمعاني الفلسفة وَبعده عَن الْوُقُوف على غرضها وَمَعْنَاهَا أليست الفلسفة بِإِجْمَاع من الفلاسفة مبينَة للفضائل من الرذائل موقفة على الْبَرَاهِين المفرقة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَلَا بُد من نعم وضرورة فَيُقَال لَهُ أَلَيْسَ الفلاسفة كلهم قد قَالُوا صَلَاح الْعَالم بشيئين أَحدهمَا بَاطِن وَالْآخر ظاهرفالباطن هُوَ اسْتِعْمَال النَّفس للشرائع الزاجرة عَن تظالم النَّاس وَعَن القبائح وَالظَّاهِر هُوَ التحصين بالأسوار واتخاذ السِّلَاح لدفع الْعَدو الَّذِي يُرِيد ظلم النَّاس والإفساد ثمَّ أضافوا إِلَى إصْلَاح النُّفُوس بِمَا ذكرنَا إصْلَاح الأجساد بالطب فَلَا بُد من نعم ضَرُورَة فَيُقَال لَهُم فَهَل صَلَاح الْعَالم وانكفاف النَّاس عَن الْقَتْل الَّذِي فِيهِ فنَاء الْحلق وَعَن الزِّنَا الَّذِي فِيهِ فَسَاد النَّسْل وحراب الْمَوَارِيث وَعَن الظُّلم الَّذِي فِيهِ الضَّرَر على الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وحراب الأَرْض وَعَن الرذائل من(1/79)
الْبَغي والحسد وَالْكذب والجبن وَالْبخل والنميمة والغش والخيانة وَسَائِر الرذائل إِلَّا بشرائع زاجرة للنَّاس عَن كل ذَلِك فَلَا بُد من نعم ضَرُورَة وَإِلَّا وَجب الإهمال الَّذِي فِيهِ فَسَاد كل مَا ذَكرْنَاهُ فَإِذا لَا بُد من ذَلِك وَإِلَّا ذَلِك لفسد الْعَالم كُله ولفسدت الْعُلُوم كلهَا ولكان الْإِنْسَان قد بطلت فَضِيلَة الْفَهم والنطق وَالْعقل الَّذِي فِيهِ وَصَارَ كَالْبَهَائِمِ فَلَا تَخْلُو تِلْكَ الشَّرَائِع من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن تكون صحاحاً من عِنْد الله عز وَجل الَّذِي هُوَ خَالق الْعَالم ومدبره كَمَا يقوا أَصْحَاب الشَّرَائِع وَإِمَّا أَن تكون مَوْضُوعَة بِاتِّفَاق من أفاضل الْحُكَمَاء لسياسة النَّاس بهَا وكفهم عَن التظالم والرذائل وَإِن كَانَت مَوْضُوعَة كَمَا يَقُول هَؤُلَاءِ المخاذيل فقد تَيَقنا أَن مَا ألزموا النَّاس من ذَلِك كذب لَا أصل لَهُ وزور مختلق وَإِيجَاب لما لَا يجب وباطل لَا حَقِيقَة لَهُ ووعيد ووعد كِلَاهُمَا كذب فَإِن كَانَ ذَلِك كَذَلِك فقد صَار الْكَذِب الَّذِي هُوَ أرذل الرذائل وَأعظم الشَّرّ لَا يتم صَلَاح الْعَالم الَّذِي هُوَ الْغَرَض من طلب الْفَضَائِل إِلَّا بِهِ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك فقد صَار الْحق بَاطِلا والصدق رذيلة وَصَارَ الْبَاطِل حَقًا وصدقاً وَالْكذب فَضِيلَة وَصَارَ لَا قوام للْعَالم أصلا إِلَّا بِالْبَاطِلِ وَصَارَ الْكَذِب نتيجة الْحق وَصَارَ الْبَاطِل ثَمَرَة الصدْق وَصَارَ الْغرُور والغش والخديعة فَضَائِل ونصيحة وَهَذَا أعظم مَا يكون من الْمحَال والممتنع والخلق الَّذِي لَا مدْخل لَهُ فِي الْعقل فَإِن قَالُوا إِنَّه لَو كشف السِّرّ فِي ذَلِك إِلَى الْعَامَّة لم ترغب فِي الْفَضَائِل فَوَجَبَ لذَلِك أَن يُؤْتِي بِمَا ترهبه وتتقيه فاضطر فِي ذَلِك إِلَى الْكَذِب لَهُم كَمَا يفعل بالصبيان وكما أبحتم أَنْتُم فِي شرائعكم كذب الرجل لامْرَأَته ليستصلحها بذلك وَفِي دفاع الظَّالِم على سَبِيل التقية وَفِي الْحَرْب كَذَلِك فيلزمكم فِي هَذَا مَا ألزمتموه إيانا من أَن الْكَذِب صَار حَقًا وفضيلة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أما نَحن فقولنا أَنه لَيْسَ كَمَا ذكرْتُمْ قبيحاً إِذْ أَبَاحَهُ الله عز وَجل الَّذِي لَا حسن إِلَّا مَا حسن وَمَا أَمر بِهِ وَلَا قَبِيح إِلَّا مَا قبح وَمَا نهي عَنهُ وَلَا آمُر فَوْقه فَلَا يلْزمنَا مَا أردتم إلزامنا إِيَّاه ثمَّ أَيْضا على أصولكم فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا ذكرْتُمْ مُعَارضَة وَلَا مَا شبهتم بِهِ مشبهاً لما شبهتموه بِهِ لأننا إِنَّمَا أبحنا الْكَذِب فِي الْوُجُوه الَّتِي ذكرْتُمْ للضَّرُورَة الدافعة إِلَى ذَلِك النَّص الْوَارِد علينا بذلك كَمَا جَازَ بِالنَّصِّ عِنْد الضَّرُورَة دفع الْقَتْل عَن النَّفس بقتل المريد لقتلها وَلَو أمكننا كف الصَّبِي وَالْمَرْأَة بِغَيْر ذَلِك لما جَازَ الْكَذِب أصلا فَإِذا ارْتَفَعت الضَّرُورَة وَجب الرُّجُوع إِلَى اسْتِعْمَال الصدْق على كل حَال وَلَوْلَا النَّص لم نبح شَيْئا من ذَلِك وَلَا حرمناه وَأَنْتُم فِيمَا تَدعُونَهُ من مداراة النَّاس كلهم مبتدئون لاختيار الْكَذِب دون أَن يَأْمُركُمْ بِهِ من يسْقط عَنْكُم اللوم بِطَاعَتِهِ فَأنْتم لَا عذرلكم على خلاف حكمنَا فِي ذَلِك ثمَّ إِنَّكُم لَا تخلون من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تطووا هَذَا السِّرّ عَن كل أحد فتصيرون إِلَى مَا ألزمناكم من أَن قطع الصدْق جملَة فَضِيلَة وَأَن الْكَذِب على الْجُمْلَة حق وَاجِب وَهَذَا هُوَ الَّذِي ألزمناكم ضَرُورَة وَإِمَّا أَن تبوحوا بذلك لمن وثقتم بِهِ فَهَذَا إِن قُلْتُمْ بِهِ يُوجب ضَرُورَة كشف سركم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن ينكتم أصلا على كَثْرَة العارفين بِهِ هَذَا أَمر يعلم بالضضرورة أَن الشَّيْء إِذا كثر العارفون بِهِ فبالضرورة لَا بُد من انتشاره فَإِن كُنْتُم تَقولُونَ أَن طيه وَاجِب الاعمن يوثق بِهِ وَفِي كشفه إِلَى من يوثق بِهِ(1/80)
مَا يُوجب انتشاره إِلَى من لَا يوثق بِهِ فقد رجعتم إِلَى وجوب كشفه لِأَن كشفه الْبَتَّةَ هُوَ نتيجة كشفه إِلَى خَاص دون عَام وَفِي كشفه بطلَان مَا دبرتموه صلاحاً فقد بَطل حكمكم بِالضَّرُورَةِ لَا سِيمَا والقائلون بِهَذَا القَوْل مجدون فِي كشف سرهم هَذَا إِلَى الْخَاص وَالْعَام فقد أبطلوا علتهم جملَة وتناقضوا أقبح تنَاقض وعَلى كل ذَلِك فقد صَار الْبَاطِل وَالْكذب لَا يتم الْخَيْر والفضائل الْبَتَّةَ فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إِلَّا بهما وَهَذَا خلاف الفلسفة جملَة وَأَيْضًا إِن كَانَت الشَّرَائِع مَوْضُوعَة فَلَيْسَ مَا وَضعه وَاضع مَا بِأَحَق بِأَن يتبع مِمَّا وَضعه وَاضع آخر هَذَا أَمر يعلم بِالضَّرُورَةِ وَقد علمنَا بِمُوجب الْعقل وضرورته أَن الْحق لَا يكون من الْأَقْوَال الْمُخْتَلفَة والمتناقضة إِلَّا فِي وَاحِد وسائرها بَاطِل فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَأَي تَكُ الموضوعات هُوَ الْحق أم أَيهَا هُوَ الْبَاطِل وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يَأْتُوا بِمَا يحِق مِنْهَا شَيْئا دون سائرها أصلا فَإذْ لَا دَلِيل على صِحَة شىء مِنْهَا فقد صَارَت كلهَا بَاطِلَة إِذْ مَا لَا دَلِيل على صِحَّته فَهُوَ بَاطِل وَلَيْسَ لأحد أَن يَأْخُذ بقول وَيتْرك غَيره بِلَا دَلِيل فَبَطل بِهَذَا بطلاناً ضَرُورِيًّا كل مَا تعلقوا بِهِ وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين وَبَطل بِهَذَا الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ ماتوهمه هَؤُلَاءِ الْجُهَّال المجانين وَصَحَّ يَقِينا أَن الشَّرَائِع صِحَاح من عِنْد منشىء الْعَالم ومدبره الَّذِي يُرِيد بَقَاءَهُ إِلَى الْوَقْت الَّذِي سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه يبقيه إِلَيْهِ كَمَا هُوَ وَإِذ ذَلِك كَذَلِك ضَرُورَة لَا يَخْلُو الحكم فِي ذَلِك من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن تكون الشَّرَائِع كلهَا حَقًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت مِنْهُم من يذهب إِلَى هَذَا وَإِمَّا أَن يكون بَعْضهَا حَقًا وَبَعضهَا بَاطِلا لَا بُد من أحد هذَيْن الْوَجْهَيْنِ ضَرُورَة فَإِن كَانَت كلهَا حَقًا فَهَذَا محَال لَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا شَرِيعَة مِنْهَا إِلَّا وَهِي تكذب سائرها وتخبر يأنها بَاطِل وَكفر وضلال وإلحادٌ فَوَجَدنَا هَذَا المخذول الَّذِي أَرَادَ بِزَعْمِهِ مُوَافقَة جَمِيع الشَّرَائِع قد حصل على خلاف جَمِيعهَا أَولهَا عَن آخرهَا وَحصل على تَكْذِيب جَمِيع الشَّرَائِع لَهُ كلهَا بِلَا خلاف وعَلى تَكْذِيبه هُوَ لجميعها وَمَا كَانَ هَكَذَا أَو هُوَ يَقُول إِنَّهَا كلهَا حق وَهِي كلهَا مكذبة لَهُ وَهُوَ مُصدق لَهَا كلهَا فقد شهد على نَفسه بِالْكَذِبِ وَبطلَان قَوْله وَصَحَّ بِالْيَقِينِ أَنه كَاذِب فِيهِ وَأَيْضًا فَإِن كل شَرِيعَة فَهِيَ مضادة فِي أَحْكَامهَا لغَيْرهَا تحرم هَذِه مَا تحل هَذِه وتوجب هَذِه مَا تسْقط هَذِه وَمن الْمحَال الْفَاسِد أَن يكون الشَّيْء وضده حَقًا مَعًا فِي وَقت وَاحِد حَرَامًا حَلَالا فِي حِين وَاحِد على إِنْسَان وَاحِد وَوجه وَاحِد وَاجِبا غير وَاجِب كَذَلِك وَهَذَا أَمر يُعلمهُ بَاطِلا كل ذِي حس سليم وَلَيْسَ فِي الْعقل تَحْرِيم شَيْء مِمَّا جَاءَ فِيهَا تَحْرِيمه وَلَا إِيجَاب شَيْء مِمَّا جَاءَ فِيهَا إِيجَابه فَبَطل أَن يرجح بِمَا فِي الْعقل إِذْ كل ذَلِك فِي حد الْمُمكن فِي الْعقل فَإذْ قد بَطل هَذَا الْوَجْه ضَرُورَة فقد وَجَبت صِحَة الْوَجْه الآخر ضَرُورَة وَهُوَ أَن فِي الشَّرَائِع شَرِيعَة وَاحِدَة صَحِيحَة من عِنْد الله عز وَجل وَإِن سَائِر الشَّرَائِع كلهَا بَاطِل فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَفرض على كل ذِي حس طلب تِلْكَ الشَّرِيعَة وإطراح كل شَرِيعَة دون ذَلِك وَإِن جلت حَتَّى يُوقف عَلَيْهَا بالبراهين الصِّحَاح إِذْ بهَا يكون صَلَاح النَّفس فِي الْأَبَد وبجهلها يكون هَلَاك النَّفس فِي الْأَبَد فَالْحَمْد الله الَّذِي وفقنا لتِلْك الشَّرِيعَة ووفقنا عَلَيْهَا وهدانا(1/81)
إِلَى طريقها وعرفناها حمداً كثيرا طيبا كَمَا هُوَ أَهله وَنحن نَسْأَلهُ تَعَالَى أَن يثبتنا عَلَيْهَا حَتَّى نَلْقَاهُ وَنحن من أَهلهَا وحملتها آمين رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا فَمن نازعنا فِي هَذَا القَوْل وادعاه لنَفسِهِ فَنحْن فِي ميدان النّظر وَحمل الْأَقْوَال على السّير بالبراهين فسنزيف الْبَاطِل والدعاوي الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا حَيْثُمَا كَانَت ويلوح الْحق ثَابتا حَيْثُمَا كَانَ وبيد من كَانَ وَلَا حول وَلَا قُوَّة إل بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
الْكَلَام على الْيَهُود وعَلى من أنكر التثليب من النَّصَارَى
وَمذهب الصابئين وعَلى من أقرّ بنبوة زرادشت من الْمَجُوس وَأنكر من سواهُ من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن أهل هَذِه الْملَّة يَعْنِي الْيَهُود وَأهل هَذِه النحلة يَعْنِي من أنكر التَّثْلِيث من النَّصَارَى موافقون لنا فِي الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ ثمَّ بِالنُّبُوَّةِ وبآيات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وبنزول الْكتب من عِنْد الله عز وَجل إِلَّا أَنهم فارقونا فِي بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام دون بعض وَكَذَلِكَ وافقتنا الصابئة وَالْمَجُوس على لإقرار بِبَعْض الْأَنْبِيَاء فَأَما الْيَهُود فَإِنَّهُم قد افْتَرَقُوا على خمس فرق وَهِي 1 السامرية وهم يَقُولُونَ أَن مَدِينَة الْقُدس هِيَ نابلس وَهِي من بَيت الْمُقَدّس على ثَمَانِيَة عشر ميلًا وَلَا يعْرفُونَ حُرْمَة لبيت الْمُقَدّس وَلَا يعظمونه وَلَهُم توراة غير التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي سَائِر الْيَهُود وييبطلون كل نبوة كَانَت فِي بني اسرائييل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَبعد يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام فيكذبون بنبوة شَمْعُون وَدَاوُد وَسليمَان واشعيا وَالْيَسع والياس وعاموص وحبقوق وزَكَرِيا وارميا وَغَيرهم وَلَا يقرونَ بِالْبَعْثِ أَلْبَتَّة وهم بِالشَّام لَا يسْتَحلُّونَ الْخُرُوج عَنْهَا والصدوقية ونسبوا إِلَى رجل يُقَال لَهُ صَدُوق وهم يَقُولُونَ بَين سَائِر اليهودان العزير هُوَ ابْن الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَكَانُوا بِجِهَة الْيَمين والعنانية وهم أَصْحَاب عانان الدَّاودِيّ الْيَهُودِيّ وتسميهم الْيَهُود العراس والمسر وَقَوْلهمْ إِنَّهُم لَا يتعدون شرائع التَّوْرَاة وَمَا جَاءَ فِي كتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ويتبرؤن من قَول الْأَحْبَار ويكذبونهم وَهَذِه الْفرْقَة بالعراق ومصر وَالشَّام وهم من الأندلس بطليطله وطليبره والربانية وهم الأشعنية وهم الْقَائِلُونَ بأقوال الْأَحْبَار ومذاهبهم وهم جُمْهُور الْيَهُود والعيسوية وهم أَصْحَاب أبي عِيسَى الْأَصْبَهَانِيّ رجل من الْيَهُود كَانَ بأصبهان وَبَلغنِي أَن اسْمه كَانَ مُحَمَّد بن عِيسَى وهم يَقُولُونَ بنبوة عِيسَى بن مَرْيَم وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ أَن عِيسَى بَعثه الله عز وَجل إِلَى بني إِسْرَائِيل على مَا جَاءَ فِي الْإِنْجِيل وَأَنه أحد أَنْبيَاء بني اسرائيل وَيَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِي أرْسلهُ الله تَعَالَى بشرائع الْقُرْآن إِلَى بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِم السَّلَام وَإِلَى سَائِر الْعَرَب كَمَا كَانَ أَيُّوب نَبيا فِي بني عيص وكما كَانَ بلعام نَبيا فِي بني مواب بِإِقْرَار من جَمِيع فرق الْيَهُود
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَقَد لقِيت من ينحو إِلَى هَذَا الْمَذْهَب من خَواص الْيَهُود كثيرا وقرأت فِي تَارِيخ لَهُم جمعه رجل هاروني كَانَ قَدِيما فيهم وَمن كبارهم وأئمتهم وَمِمَّنْ عصبت بِهِ ثلث بلدهم وَثلث حروبهم وَثلث جيوشهم أَيَّام حَرْب طيطوس خراب الْبَيْت وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ آثَار عَظِيمَة وَكَانَ قد أدْرك أَمر الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام واسْمه يُوسُف بن هَارُون فَذكر(1/82)
مُلُوكهمْ وحروبهم إِلَى أَن وصل إِلَى قتل يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَذكره أجمل ذكر وَعظم شَأْنه وَأَنه قتل ظلما لقَوْله الْحق وَذكر أَمر المعمودية ذكرا حسنا لم ينكرها وَلَا أبطلها ثمَّ قَالَ فِي ذكره لذَلِك الْملك هردوس بن هردوس وَقبل هَذَا الْملك من حكماء بني إِسْرَائِيل وخيارهم وعلمائهم جمَاعَة وَلم يذكر من شَأْن الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام أَكثر من هَذَا (قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ) وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا الْكَلَام لأرى إِن هَذَا الْمَذْهَب كَانَ فيهم ظَاهرا فاشياً فِي أئمتهم من حِينَئِذٍ إِلَى الْآن ثمَّ انقسم الْيَهُود جملَة على قسمَيْنِ فقسم أبطل النّسخ وَلم يجْعَلُونَ مُمكنا وَالْقسم الثَّانِي أجازوه إِلَّا أَنهم قَالُوا لم يَقع وعمدة حجَّة من أبطل النّسخ أَن قَالُوا إِن الله عز وَجل يَسْتَحِيل مِنْهُ أَن يَأْمر بِالْأَمر ثمَّ ينْهَى عَنهُ وَلَو كَانَ كَذَلِك لعاد الْحق بَاطِلا وَالطَّاعَة مَعْصِيّة وَالْبَاطِل حَقًا وَالْمَعْصِيَة طَاعَة (قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ) لَا نعلم لَهُم حجَّة غير هَذِه وَهِي من أَضْعَف مَا يكون من التمويه الَّذِي لَا يقوم على سَاق لِأَن من تدبر أَفعَال الله كلهَا وَجَمِيع أَحْكَامه وآثاره تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالم تَيَقّن بطلَان قَوْلهم هَذَا لِأَن الله تَعَالَى يحيي ثمَّ يُمِيت ثمَّ يحيي وينقل الدولة من قوم أعزة فيذلهم إِلَى قوم أَذِلَّة فيعزهم ويمنح من شَاءَ مَا شَاءَ من الْأَخْلَاق الْحَسَنَة والقبيحة وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق مَا تَقولُونَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ من الْأُمَم المقبول دُخُولهَا فِيكُم إِذا غزوكم أَلَيْسَ دِمَاؤُهُمْ لكم حَلَالا وقتلهم حَقًا وفرضاً وَطَاعَة وَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم فَإِن دخلُوا فِي شريعتكم لَيْسَ قد حرمت دِمَاؤُهُمْ وَصَارَ عنْدكُمْ قَتلهمْ حَرَامًا وباطلاً ومعصية بعد أَن كَانَ فرضا وَحقا وَطَاعَة فَلَا بُد من نعم ثمَّ إِن عدوا فِي السبت وَعمِلُوا أَلَيْسَ قد عَاد قَتلهمْ فرضا بعد أَن كَانَ حَرَامًا فَلَا بُد من نعم فَهَذَا إِقْرَار ظَاهر مِنْهُم بِبُطْلَان قَوْلهم وَإِثْبَات مِنْهُم لما أنكروه من أَن الْحق يعود بَاطِلا وَالْأَمر يعود نهيا وَأَن الطَّاعَة تعود مَعْصِيّة وَهَكَذَا القَوْل فِي جَمِيع شرائعهم لِأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ أوَامِر فِي وَقت مَحْدُود بِعَمَل مَحْدُود فَإِذا خرج ذَلِك الْوَقْت عَاد ذَلِك الْأَمر مَنْهِيّا عَنهُ كالعمل هُوَ عِنْدهم مُبَاح فِي الْجُمُعَة محرم يَوْم السبت ثمَّ يعود مُبَاحا يَوْم الْأَحَد وكالصيام والقرابين وَسَائِر الشَّرَائِع كلهَا وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ نسخ الشَّرَائِع الَّذِي أَبوهُ وامتنعوا مِنْهُ إِذْ لَيْسَ معنى النّسخ إِلَّا أَن يَأْمر الله عزز وَجل بِأَن يعْمل عمل مَا مُدَّة مَا ثمَّ ينْهَى عَنهُ بعد انْقِضَاء تِلْكَ الْمدَّة وَلَا فرق فِي شَيْء من الْعُقُول بَين أَن يعرف الله تَعَالَى ويخبر عباده بِمَا يُرِيد أَن يَأْمُرهُم بِهِ قبل أَن يَأْمُرهُم بِهِ ثمَّ بِأَنَّهُ سينهى عَنهُ بعد ذَلِك وَبَين أَن لَا يعرفهُمْ بِهِ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعَالَى شَرط أَن يعرف عباده بِمَا يُرِيد أَن يَأْمُرهُم قبل أَن يَأْتِي الْوَقْت الَّذِي يُرِيد إلزامهم فِيهِ الشَّرِيعَة وَأَيْضًا فَإِن جَمِيعهم مقرّ بِأَن شَرِيعَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت غير شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن يَعْقُوب تزوج ليا وراحيل إبنتي لَا بَان وجمعهما مَعًا وَهَذَا حرَام فِي شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا مَعَ قَوْلهم أَن أم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت عمَّة أَبِيه أُخْت جده وَهِي يوحا نذا بنت لاوي وَهَذَا فِي شَرِيعَة مُوسَى حرَام وَلَا فرق فِي الْعُقُول بَين شَيْء أحله الله تَعَالَى ثمَّ حرمه وَبَين شَيْء حرمه الله ثمَّ أحله والمفرق بَين هذَيْن مكابر للعيان مجاهر بالقحة وَلَو قلب عله قالب كَلَامه مَا كَانَ بَينهمَا فرق وَفِي توراتهم أَن الله تَعَالَى افْترض عَلَيْهِم بِالْوَحْي إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام(1/83)
وَأمرهمْ مُوسَى بذلك فِي نَص توراتهم أَن لَا يتْركُوا من الْأُمَم السَّبْعَة الَّذين كَانُوا سكاناً فِي فلسطين والأردن أحدا أصلا إِلَّا قَتَلُوهُ ثمَّ أَنه لما اختدعتهم الْأمة الَّتِي يُقَال لَهَا عباوون وَهِي إخدى تِلْكَ الْأُمَم الَّتِي افْترض عَلَيْهِم قَتلهمْ واستئصالهم فتحيلوا عَلَيْهِم وأظهروا لَهُم أَنهم أَتَوْ من بِلَاد بعيدَة حَتَّى عاهدوهم فَلَمَّا عرفُوا بعد ذَلِك أَنهم من السكان فِي الأَرْض الَّتِي أمروا بقتل أَهلهَا حرم الله عز وَجل عَلَيْهِم قَتلهمْ على لِسَان يُوشَع النَّبِي بِنَصّ كتاب يُوشَع عِنْدهم فأبقوهم ينقلون المَاء والحطب إِلَى مَكَان التَّقْدِيس وَهَذَا هُوَ النّسخ الَّذِي أَنْكَرُوا بِلَا كلفة وَفِي توراتهم البداء الَّذِي هُوَ أَشد من النّسخ وَذَلِكَ أَن فِيهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سأهلك هَذِه الْأمة وأقدمك على أمة أُخْرَى عَظِيمَة فَلم يزل مُوسَى يرغب إِلَى الله تَعَالَى فِي أَن لَا يفعل ذَلِك حَتَّى أَجَابَهُ أمسك عَنْهُم وَهَذَا هُوَ البداء بِعَيْنِه وَالْكذب المنفيان عَن الله تَعَالَى لِأَنَّهُ ذكر أَن الله تَعَالَى أخبر أَنه سيهلكهم ويقدمه على غَيره ثمَّ لم يفعل فَهَذَا هُوَ الْكَذِب بِعَيْنِه تَعَالَى الله عَنهُ وَفِي سفر اشعيا أَن الله تَعَالَى سيرتب فِي آخر الزَّمَان من الْفرس خداماً لبيته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه لِأَن التَّوْرَاة مُوجبَة أَن لَا يخْدم فِي الْبَيْت الْمُقَدّس أحد غير بني لاوي بن يَعْقُوب على حسب مَرَاتِبهمْ فِي الْخدمَة فعلى أَي وَجه أنزلوا هَذَا القَوْل من اشعيا فَهُوَ نسخ لما فِي التَّوْرَاة على كل حَال وَأما فِي الْحَقِيقَة فَهُوَ إنذار بالملة الإسلامية الَّتِي صَار فِيهَا الْفرس وَالْعرب وَسَائِر الْأَجْنَاس فِي الْمَسَاجِد بِبَيْت الْمُقَدّس وَغَيره الَّتِي هِيَ بيُوت الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما الطَّائِفَة الَّتِي أجازت النّسخ إِلَّا أَنَّهَا أخْبرت أَنه لم يكن فَإِنَّهُ يُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بِأَيّ شَيْء علمْتُم صِحَة نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَوُجُوب طَاعَته فَلَا سَبِيل إِلَى أَن يَأْتُوا بِشَيْء غير إِعْلَامه وبراهينه وإعلامه الظَّاهِرَة فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِذا وَجب تَصْدِيق مُوسَى وَالطَّاعَة لأَمره لما ظهر من أحالة الطبائع على مَا بَيناهُ فِي بَاب الْكَلَام فِي بَيَان إِثْبَات النبوات فَلَا فرق بَينه وَبَين من أَتَى بمعجزات غَيرهَا وبإحالة لطبائع أخر وبضرورة الْعقل يعلم كل ذِي حس أَن مَا أوجبه لنَوْع فَإِنَّهُ وَاجِب لأجزائه كلهَا فَإِذا كَانَت إِحَالَة الطبائع مُوجبَة تَصْدِيق من ظَهرت عَلَيْهِ فوجوب تَصْدِيق مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب وجوبا مستوياً وَلَا فرق بَين شَيْء مِنْهُ بِالضَّرُورَةِ وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم فِي تصديقكم بعض من ظَهرت عَلَيْهِ المعجزات وتكذبيكم بَعضهم وَبَين من صدق من كَذبْتُمْ وَكذب من صَدقْتُمْ كالمجوس المصدقين بنبوة زرادشت المكذبين بنبوة مُوسَى وَسَائِر أنبيائكم أَو المانوية المصدقة بنبوة عِيسَى وزرادشت المكذبة بنبوة مُوسَى أَو الصابئين المكذبين بنبوة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَمن دونه المصدقين بنبوة إِدْرِيس وَغَيره وكل هَذِه الْفرق والملل تَقول فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سَائِر أنبيائكم أَكثر مِمَّا تَقولُونَ أَنْتُم فِي عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهَا السَّلَام تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم وَهِي مَوْجُودَة مَشْهُورَة وَأقرب ذَلِك السامرية الَّذين يُنكرُونَ نبوة كل نَبِي لكم بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تَأْتُوا على جَمِيع من ذكرنَا(1/84)
بفرق إِلَّا أَتَوْكُم بِمثلِهِ وَلَا تدعوا عَلَيْهِم دَعْوَى إِلَّا ادعوا عَلَيْكُم بِمِثْلِهَا وَلَا أَن تطعنوا فِي نقلهم بِشَيْء إِلَّا أروكم فِي نقلكم مثله سَوَاء بِسَوَاء وَقد نبه الله تَعَالَى على هَذَا الْبُرْهَان بقوله تَعَالَى {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد} فنص تَعَالَى على أَن طَرِيق الْإِيمَان بِمَا آمنُوا بِهِ من النُّبُوَّة وَطَرِيق مَا آمنا بِهِ نَحن فَمَا وَاحِد وَأَنه لَا فرق بَين شَيْء من ذَلِك وَأَن الْإِيمَان بالإله الْبَاعِث لمُوسَى هُوَ الْإِيمَان الْبَاعِث لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم
وَأَن طَرِيق كل لَك طَرِيق وَاحِدَة لَا فرق فِيهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَأما شغب من شغب مِنْهُم بأننا نؤمن بمُوسَى وهم لَا يُؤمنُونَ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ شغب ضَعِيف بَارِد لأَنهم لَا يخلون من أَن يَكُونُوا إِنَّمَا صدقُوا بنبوة مُوسَى من أجل تصديقنا نَحن وَلَوْلَا ذَلِك لم يصدقُوا بِهِ وَيكون إِنَّمَا صدقُوا بِهِ لما أظهر من الْبُرْهَان فَقَط فَإِن كَانُوا إِنَّمَا صدقُوا بِهِ من أجل تصديقنا نَحن فَوَاجِب عَلَيْهِم أَن يصدقُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل تصديقنا نَحن بِهِ وَإِلَّا فقد تناقضوا وَإِن كَانَ إِنَّمَا صدقُوا بِهِ لما أظهر من الْآيَات فَلَا معنى لتصديق من صدقه وَلَا لتكذيب من كذبه وَالْحق حق صدقه النَّاس أَو كذبوه وَالْبَاطِل بَاطِل صدقه النَّاس أم كذبوه وَلَا يزِيد الْحق دَرَجَة فِي أَنه حق أطباق النس كلهم على تَصْدِيقه وَلَا يزِيد الْبَاطِل مرتبَة فِي أَنه بَاطِل تَكْذِيب النَّاس كلهم لَهُ وَلَا يظنّ ظان أننا فِي مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا الْمُخَالفين لنا فِي بعض أقوالنا بِالْإِجْمَاع وَقد نقضنا كلامنا فِي هَذَا الْمَكَان فَليعلم أننا لم ننقضه لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قد قَامَ الْبُرْهَان على صِحَّتهَا فِي الْفتيا فِي دين الْإِسْلَام وَمَا قَامَ على صِحَّته الْبُرْهَان فَهُوَ حجَّة قَاطِعَة على من خَالفه وعَلى من وَافقه وَأما إِن نحتج على مخالفنا بِأَنَّهُ مُوَافق لنا فِي بعض مَا نَخْتَلِف فِيهِ فَلَيْسَ حجَّة علينا فَإِن وجد لنا يَوْمًا من الْأَيَّام فَإِنَّمَا نخاطب بِهِ جَاهِلا نستكف تخليطه بذلك أَو نبكته لنريه تناقضه فَقَط وَأَيْضًا فَإنَّا إِنَّمَا آمنا بنبوة مُوسَى الَّذِي أنذر بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالتوراة الَّتِي فِيهَا الْإِنْذَار برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باسمه وَنسبه وَصفَة أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَهَكَذَا نقُول فِي عِيسَى وَالْإِنْجِيل حرفا حرفا لَا بنبوة من لم ينذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نؤمن بمُوسَى وَعِيسَى وَلَا نؤمن بتوراة وَلَا إنجيل لَيْسَ فيهمَا الْإِنْذَار برسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصفَة أَصْحَابه بل نكفر بِكُل ذَلِك ونبرأ مِنْهُم فَلم نوافقهم قطّ على مَا يَدعُونَهُ فَبَطل شغبهم الضَّعِيف وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَجُمْلَة القَوْل فِي هَذَا إِن نقل الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَاسد لما ذكرنَا وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى من عَظِيم الدَّاخِلَة فِي كتبهمْ المبينة أَنَّهَا مفتعلة وَفَسَاد نقلهم فَإِنَّمَا صدقنا بنبوة مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لِأَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقهما وَأخْبرنَا عَنْهُمَا وَعَن أعلامهما وَلَوْلَا ذَلِك لما صدقنا بهما وَلما كَانَا عندنَا بِمَنْزِلَة إلْيَاس وَالْيَسع وَيُونُس وَلُوط فِي ذَلِك
كَمَا أننا لَا نقطع بِصِحَّة نبوة سموال وحقاي وَحُقُوق وَسَائِر الْأَنْبِيَاء الَّذين عِنْدهم كموسى وَسَائِر من ذكرنَا وَلَا فرق وَلَكِن نقُول آمنا بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله فَإِن كَانَ المذكورون أَنْبيَاء فَنحْن نؤمن بهم وَإِن لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فَلَا ندخل فِي أَنْبيَاء الله تَعَالَى من لَيْسَ مِنْهُم بأخبار الْيَهُود وَالنَّصَارَى الكاذبة الَّتِي لَا أصل لَهَا الراجعة إِلَى قوم كفار كاذبين وَبِاللَّهِ(1/85)
تَعَالَى نتأيد وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ تَعَالَى فِي الرُّسُل {مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} فَنحْن نؤمن بالأنبياء جملَة وَلَا نسمي مِنْهُم إِلَّا من يُسَمِّي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَيُقَال لسَائِر فرق الْيَهُود حاشا السامرية مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين السامرية الَّذين كذبُوا بنبوة كل نَبِي صَدقْتُمْ أَنْتُم بِهِ بعد يُوشَع بِمثل مَا كَذبْتُمْ أَنْتُم بِهِ عِيسَى ومحمداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا مَا لَا إنفكاك مِنْهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن ادعوا أَن عِيسَى ومحمداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يأتيا بالمعجزات بِأَن كذبهمْ ومجاهرتهم إِذْ قد نقلت الكواف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سقى الْعَسْكَر فِي تَبُوك وهم أُلُوف كَثِيرَة من قدح صَغِير نبع فِيهِ المَاء من بَين أَصَابِعه عَلَيْهِ السَّلَام وَفعل أَيْضا مثل ذَلِك بِالْحُدَيْبِية وَأَنه أطْعم عَلَيْهِ السَّلَام فِي منزل أبي طَلْحَة أهل الخَنْدَق حَتَّى شَبِعُوا وَفِي منزل جَابر أَيْضا وَرمى هوَازن فِي جَيش فعميت عُيُون جَمِيعهم بِتُرَاب يَده وفيهَا أنزل الله تَعَالَى {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} وشق الْقَمَر إِذْ سَأَلَهُ قومه آيَة فَأنْزل الله تَعَالَى فِي ذَلِك {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم وكل أَمر مُسْتَقر وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر}
وَكَذَلِكَ حنين الْجذع الَّذِي سَمعه كل من حَضَره من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَمن أبهر ذَلِك وأعظمه قَوْله للْيَهُود الَّذين كَانُوا مَعَه فِي وقته وهم زِيَادَة على ألف بِلَا شكّ ولعلهم كَانُوا ألوفاً وهم بَنو قُرَيْظَة وبنوا النصير وبنوا أهدل وَبَنُو قينقاع أَن يتمنوا الْمَوْت إِن كَانُوا صَادِقين فِي تكذيبهم نبوته وأعلمهم أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِك أصلا فعجزوا عَن ذَلِك أَي عَن تمني الْمَوْت وحيل بَينهم وَبَين النُّطْق بذلك وَهَذِه قصَّة منصوصة فِي سُورَة الْجُمُعَة يقْرَأ بهَا كل يَوْم جُمُعَة فِي جَمِيع جَوَامِع الْمُسلمين من شَرق الدُّنْيَا إِلَى غربها وَقد كَانَ أسهل الْأُمُور عَلَيْهِم أَن يكذبوا بِأَن يتمنوا الْمَوْت لَو اسْتَطَاعُوا وهم يسمعونه يَقُول فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا أَمر لَا يَدْفَعهُ الأوقاح جَاهِل مكابر للعيان لِأَن الْقُرُون والاعصار نقلت هَذِه الْآيَات جيلاً جيلاً يخاطبون بهَا فَكل أذعن وَأقر وَلم يُمكن أحدا دَفعه ودعا عَلَيْهِ السَّلَام من حِين مبعثه الْعَرَب كلهم على فصاحة ألسنتهم وَكَثْرَة استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز وَالتَّصَرُّف فِي أفانين البلاغة والألفاظ المركبة على وُجُوه الْمعَانِي إِلَى أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن ثمَّ ردهم إِلَى سُورَة فعجزوا كلهم عَن ذَلِك على سَعَة بِلَادهمْ طولا وعرضاً وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقَامَ بَين أظهرهم ثَلَاثَة وَعشْرين عَاما يستسهلون قِتَاله والتعرض لسفك دِمَائِهِمْ واسترقاق ذَرَارِيهمْ وَقد أضربوا عَمَّا دعاهم إِلَيْهِ من الْمُعَارضَة لِلْقُرْآنِ جملَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا لَا يخفى على من لَهُ أقل فهم أَنه إِنَّمَا حملهمْ على ذَلِك الْعَجز عَمَّا كلفهم من ذَلِك وارتفاع الْقُوَّة عَنْهُم وَأَنه قد حيل بَينهم وَبَين ذَلِك ثمَّ عَم الدُّنْيَا من البلغاء الَّذين يتخللون بألسنتهم تخَلّل النَّاقِد ويطيلون فِي الْمَعْنى التافة إِظْهَارًا لإقتدراهم(1/86)
على الْكَلَام جماعات لَا بصائر لَهُم فِي دين الْإِسْلَام مُنْذُ أَرْبَعمِائَة عَام وَعشْرين عَاما فَمَا مِنْهُم أحد يتَكَلَّف معارضته إِلَّا افتضح وَسقط وَصَارَ مهزأة ومعيرة يتماجن بِهِ وَبِمَا أَنِّي بِهِ ويتطايب عَلَيْهِ مِنْهُم مُسَيْلمَة بن حبيب الْحَنَفِيّ لما رام ذَلِك لم ينْطق لِسَانه إِلَّا بِمَا يضْحك الثكلى وَقد تعاطى بَعضهم ذَلِك يَوْمًا فِي كَلَام جرى بيني وَبَينه فَقلت لَهُ اتَّقِ الله على نَفسك فَإِن الله تَعَالَى قد منحك من الْبَيَان والبلاغة نعْمَة سبقت بهَا وَوَاللَّه لَئِن تعرضت لهَذَا الْبَاب بِإِشَارَة ليسلبنك الله هَذِه النِّعْمَة وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة كَمَا فعل بِمن رام هَذَا من قبلك فَقَالَ لي صدقت وَالله أظهر النَّدَم وَالْإِقْرَار بقبحه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا مشَاهد وَهِي آيَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم وَإِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا وَسَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قد فنيت بفنائهم فَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْخَبَر عَنْهَا فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد ظن قوم إِن عجز الْعَرَب وَمن تلاهم من سَائِر البلغاء عَن مُعَارضَة الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ لكَون الْقُرْآن فِي أَعلَى طَبَقَات البلاغة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا خطأ شَدِيد وَلَو كَانَ ذَلِك وَقد أَبى الله عز وَجل أَن يكون لما كَانَ حينئذٍ معْجزَة لِأَن هَذِه صفة كل باسق فِي طبقته وَالشَّيْء الَّذِي هُوَ كَذَلِك وَإِن كَانَ قد سبق فِي وَقت مَا فَلَا يُؤمن أَن يَأْتِي فِي غَد مَا يُقَارِبه بل مَا يفوقه وَلَكِن الإعجاز فِي ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أَن الله عز وَجل حَال بَين الْعباد وَبَين أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَرفع عَنْهُم الْقُوَّة فِي ذَلِك جملَة وَهَذَا مثل لَو قَالَ قَائِل إِنِّي أَمْشِي الْيَوْم فِي هَذِه الطَّرِيق ثمَّ لَا يُمكن أحدا بعدِي أَن يمشي فِيهَا وَهُوَ لَيْسَ بأقوى من سَائِر النَّاس وَأما لَو كَانَ الْعَجز عَن الْمَشْي لصعوبة الطَّرِيق وَقُوَّة هَذَا الْمَاشِي لما كَانَت آيَة وَلَا معْجزَة وَقد بَينا فِي غير هَذَا الْمَكَان أَن الْقُرْآن لَيْسَ من نوع بلاغة النَّاس لِأَن فِيهِ الْأَقْسَام الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور والحروف الْمُقطعَة الَّتِي لَا يعرف أحد مَعْنَاهَا وَلَيْسَ هَذَا من نوع بلاغة النَّاس الْمَعْهُودَة وَقد روينَا عَن أنيس أخي أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سمع الْقُرْآن فَقَالَ لقد وضعت هَذَا الْكَلَام على أَلْسِنَة البلغاء وألسنة الشُّعَرَاء فَلم أَجِدهُ يُوَافق ذَلِك أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فصح بِهَذَا مَا قُلْنَاهُ من أَن الْقُرْآن خَارج عَن نوع بلاغة المخلوقين وَأَنه على رُتْبَة قد منع الله تَعَالَى جَمِيع الْخلق عَن أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَلنَا فِي هَذَا رِسَالَة مستقصاة كتبنَا بهَا إِلَى أبي عَامر أَحْمد بن عبد الْملك ابْن شَهِيد وَسَنذكر مِنْهَا هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا فِيهِ كِفَايَة فِي كلامنا مَعَ الْمُعْتَزلَة والأشعرية فِي خلق الْقُرْآن من ديواننا هَذَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل أَنه منع المعارضون حينئذٍ من الْمُعَارضَة أَو عارضوا فَستر ذَلِك قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَو أمكن مَا تَقول لأمكن لغيرك أَن يَدعِي فِي آيَات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مثل ذَلِك بل كَانَ يكون أقرب إِلَى التلبيس لِأَن فِي توراتكم أَن السَّحَرَة عمِلُوا مثل مَا عمل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حاشا الْعِوَض خَاصَّة فَإِنَّهُم لم يطيقوه(1/87)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل والتبديل الظَّاهِر لِأَن السحر لَا يحِيل عينا وَلَا يقلبها وَلَا يحِيل طبيعة إِنَّمَا هُوَ حيل قد بَينا الْكَلَام فِيهَا بعون الله تَعَالَى فِي مَوْضِعه من هَذَا الْكتاب وَفِي غَيره
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الِاعْتِرَاض هُوَ على سَبِيل إبِْطَال الكواف لَا سَبِيل من أفر بِشَيْء مِنْهَا ثمَّ يُقَال كل من ولي الْأَمر بعده عَلَيْهِ السَّلَام مَعْرُوف لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَله أَعدَاء يخرجُون من عداوته إِلَى أبعد الغايات من الحنق والغيظ فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا تعاديهما الرافضة وتبلغ فِي عداوتهما أقْصَى الغايات وَمَا قَالَ قطّ أحد مُؤمن وَلَا كَافِر عَدو لَهما وَلَا ولي أَن أحد مِنْهُمَا أجبر أحدا على الْإِقْرَار بآيَات مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا على ستر شَيْء عورض بِهِ وَلَا قدر أَن يَقُول هَذَا أَيْضا يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ وَكَذَلِكَ عُثْمَان أَيْضا وَعلي تعاديهما الْخَوَارِج وَتخرج فِي عداوتهما وتكفيرهما إِلَى أبعد الغايات مَا قَالَ قطّ قَائِل فِي أَحدهمَا شَيْئا من هُنَا وَحَتَّى لَو رام أحد من الْمُلُوك ذَلِك لما قدر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يملك أَيدي النَّاس وَلَا ألسنتهم يصنعون فِي مَنَازِلهمْ مَا أَحبُّوا وينشرونه عِنْد من يثقون بِهِ حَتَّى ينتشر وَهَذَا أَمر لَا يقدر على ضَبطه وَالْمَنْع مِنْهُ أحد لَا سِيمَا مَعَ انخراق الدُّنْيَا وسعة أقطارها من أقْصَى السَّنَد إِلَى أقْصَى الأندلس فَلَو أمكنت معارضته مَا تَأَخّر عَن ذَلِك من لَهُ أدنى حَظّ من استطاعة عِنْد نَفسه على ذَلِك مِمَّن لَا بَصِيرَة لَهُ فِي الْإِسْلَام فِي شَرق الأَرْض وغربها فَإِن قَالَ قَائِل من الْيَهُود أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُم فِي التَّوْرَاة لَا تقبلُوا من نَبِي أَتَاكُم بِغَيْر هَذِه الشرايعة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا سَبِيل إِلَى أَن يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَنَّهُ لَو قَالَ ذَلِك لَكَانَ مُبْطلًا لنبوة نَفسه وَهَذَا كَلَام يَنْبَغِي أَن يتدبر وَذَلِكَ أَنه لَو قَالَ لَهُم لَا تصدقوا من دعَاكُمْ إِلَى غير شريعتي وَإِن جَاءَ بآيَات فَإِنَّهُ يلْزمه إِذا كَانَت الْآيَات لَا توجب تَصْدِيق غَيره إِذا أَتَى بهَا فِي شَيْء دَعَا إِلَيْهِ فَهِيَ غير مُوجبَة تَصْدِيق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا أَتَى بِهِ إِذْ لَا فرق بَين معجزاته ومعجزات غَيره إِذْ بِالْآيَاتِ صحت الشَّرَائِع وَلم تصح الْآيَات بالشرائع لِأَن تَصْدِيق الشَّرِيعَة مُوجبَة لِلْآيَةِ وَالْآيَة مُوجبَة تَصْدِيق الشَّرِيعَة وَمن قَالَ خلاف هَذَا مِمَّن يدين بشريعة وبنبوة فَهُوَ عَظِيم المجاهرة بِالْبَاطِلِ(1/88)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأَيْضًا فَإِن هَذَا القَوْل الْمَنْسُوب إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كذب مَوْضُوع لَيْسَ فِي التَّوْرَاة شَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا فِيهَا من أَتَاكُم يَدعِي نبوة وَهُوَ كَاذِب فَلَا تُصَدِّقُوهُ فَإِن قُلْتُمْ من أَيْن نعلم كذبه من صدقه فانظروا فَإِذا قَالَ عَن الله شَيْئا وَلم يكن كَمَا قَالَ فَهُوَ كَاذِب هَذَا نَص مَا فِي التَّوْرَاة فصح بِهَذَا أَنه إِذا أخبر عَن الله تَعَالَى بِشَيْء فَكَانَ كَمَا قَالَ فَهُوَ صَادِق وَقد وجدنَا كلما أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَلَبَة الرّوم على كسْرَى وإنذاره بقتل الْكذَّاب الْعَنسِي وَيَوْم ذِي قار وبخلع كسْرَى وَبِغير ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن فِي التَّوْرَاة أَن هَذِه الشَّرِيعَة لَازِمَة لكم فِي الْأَبَد قُلْنَا هَذَا محَال فِي التَّأْوِيل لِأَنَّهُ كَذَلِك أَيْضا فِيهَا أَن هَذِه الْبِلَاد يسكنونها أبدا وَقد رأيناهم لعيان خَرجُوا مِنْهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَإِن قَالَ قَائِل فقد قَالَ لكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نَبِي بعدِي قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نأيد لَيْسَ هَذَا الْكَلَام مِمَّا ادعيتموه على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لأننا قد علمنَا من أخباره عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لَا سَبِيل إِلَى أَن يظْهر أحد آيَة بعده أبدا وَلَو جَازَ ظُهُورهَا لوَجَبَ تَصْدِيق من أظهرها وَلَكنَّا قد أيقنا أَنه لَا تظهر آيَة على أحد بعده عَلَيْهِ السَّلَام بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِن قَالَ قَائِل وَكَيف تَقولُونَ فِي الدَّجَّال وَأَنْتُم ترَوْنَ أَنه يظْهر لَهُ عجائب فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الْمُسلمين فِيهِ على أَقسَام فَأَما ضرار ابْن عمر وَسَائِر الْخَوَارِج فَإِنَّهُم ينفون أَن يكون الدَّجَّال جملَة فَكيف أَن يكون لَهُ آيَة وَأما سَائِر فرق الْمُسلمين فَلَا ينفون ذَلِك والعجائب الْمَذْكُورَة عَنهُ إِنَّمَا جَاءَت بِنَقْل الْآحَاد وَقَالَ بعض أَصْحَاب الْكَلَام أَن الدَّجَّال إِنَّمَا يَدعِي الربوبية ومدعي الربوبية فِي نفس قَوْله بَيَان كذبه قَالُوا فظهور الْآيَة عَلَيْهِ لَيْسَ مُوجبا لضلال من لَهُ عقل وَأما مدعي النُّبُوَّة فَلَا سَبِيل إِلَى ظُهُور الْآيَات عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يكون ضلالا لكل ذِي عقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما قَوْلنَا فِي هَذَا فَهُوَ أَن الْعَجَائِب الظَّاهِرَة من الدَّجَّال إِنَّمَا هِيَ حيل من نَحْو مَا صنع سحرة فِرْعَوْن وَمن بَاب أَعمال الحلاج وَأَصْحَاب الْعَجَائِب يدل على ذَلِك حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة إِذْ قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مَعَه نهر مَاء ونهر خبز فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَهْون على الله من ذَلِك حَدثنَا يُونُس بن عبد الله بن مغيث حَدثنَا أَحْمد بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار بنْدَار حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان حَدثنَا هِشَام بن حسان الفردوسي حَدثنَا حميد بن هِلَال عَن أبي الدهماء عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سمع من أمتِي الدَّجَّال فلينأ عَنهُ فَإِن الرجل يَأْتِيهِ وَهُوَ يحسبه مُؤمن فيتبعه مِمَّا يرى من الشُّبُهَات
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فصح بِالنَّصِّ أَنه صَاحب شُبُهَات
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَبِهَذَا تتألف الْأَحَادِيث وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث أَن مَا يظْهر الدَّجَّال من نهر مَاء ونار وَقتل إِنْسَان وإحيائه أَن ذَلِك حيل وَلكُل ذَلِك وُجُوه إِذا طلبت وجدت فقد تحيل بِبَعْض الأجساد المعدنية إِذا أذيب أَنه مَاء وتحيل بالنفط الْكَاذِب أَنه نَار وَيقتل إِنْسَان ويغطي وَآخر معد مخبوء فَيظْهر ليرى أَنه قتل ثمَّ أحيي كَمَا فعل الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج فِي الجدي الأبلق وكما فعل الشريعي والنميري بالبغلة وكما فعل زبزن بالزرزور وَأَنا أَدْرِي من يطعم الدَّجَاج الزرنيخ فتخدر وَلَا يشك فِي مَوتهَا ثمَّ يصب(1/89)
فِي حلوقها الزَّيْت فتقوم صحاحاً وَإِنَّمَا كَانَت تكون معْجزَة لَو أَحْيَا عظاماً قد أرمت فَيظْهر نَبَات اللَّحْم عَلَيْهَا فَهَذِهِ كَانَت تكون معْجزَة ظَاهِرَة لَا شكّ فِيهَا وَلَا يقدر غير نَبِي عَلَيْهَا أَلْبَتَّة
وَقد رَأينَا لدبر يلقى فِي المَاء حَتَّى لَا يشك أحد أَنَّهَا ميتَة ثمَّ كُنَّا نضعها للشمس فَلَا تلبث أَن تقوم وَتَطير وَقد بلغنَا مثل ذَلِك فِي الذُّبَاب المسترخي فِي المَاء إِذا ذَر عَلَيْهِ سحق الْآجر الْجَدِيد وآيات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا تكون من وَرَاء حَائِط وَلَا فِي مَكَان بِعَيْنِه وَلَا من تَحت ستارة وَلَا تكون إِلَّا بادية مكشوفة وَقد فضحت أَنا حِيلَة أبي مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمحرق فِي الْكَلَام المسموع بِحَضْرَتِهِ وَلَا يرى الْمُتَكَلّم وسمت بعض أَصْحَابه أَن يسمعني ذَلِك فِي مَكَان آخر أَو بِحَيْثُ الفضاء دون بُنيان فَامْتنعَ من ذَلِك فظهرت الْحِيلَة وَإِنَّمَا هِيَ قَصَبَة مثقوبة تُوضَع وَرَاء الْحَائِط على شقّ خَفِي وَيتَكَلَّم الَّذِي طرف القصبة على فِيهِ على حِين غَفلَة مِمَّن فِي الْمَسْجِد كَلِمَات يسيرَة الْكَلِمَتَيْنِ وَالثَّلَاث لَا أَكثر من ذَلِك فَلَا يشك من فِي الْبَيْت مَعَ المحرق الملعون فِي أَن الْكَلَام انْدفع بحضرتهم وَكَانَ الْمُتَكَلّم فِي ذَلِك مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاتِب صَاحبه فَإِن اعْترض معترض بقوله تَعَالَى {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا يخرج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن معنى قَوْله تَعَالَى {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} إِنَّمَا هُوَ على معنى التبكيت لمن قَالَ ذَلِك وَأورد تَعَالَى كَلَامهم وَحذف ألف الِاسْتِفْهَام وَهَذَا مَوْجُود فِي كَلَام الْعَرَب كثيرا وَالثَّانِي أَنه إِنَّمَا عَنى تَعَالَى بذلك الْآيَات المشترطة فِي الرقي إِلَى السَّمَاء وَأَن يكون مَعَه ملك وَمَا أشبه وَهَذَا لَيْسَ على الله تَعَالَى شَرط لأحد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَالْقَوْل الأول هُوَ جَوَابنَا لِأَن الله تَعَالَى لَا شَيْء يمنعهُ عَمَّا يُرِيد وَكَذَلِكَ إِن اعْترض معترض بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من الْأَنْبِيَاء إِلَّا من قد أُوتِيَ مَا على مثله آمن الْبشر وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتهُ وَحيا أُوحِي إِلَيّ وَإِنِّي لأرجو أَن أكون أَكْثَرهم تبعا يَوْم الْقِيَامَة قيل لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِنَّمَا عَنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل آيَته الْكُبْرَى الثَّابِتَة الْبَاقِيَة أَبَد الآباد الَّتِي هِيَ أول معجزته حِين بعث وَهِي الْقُرْآن لبَقَاء هَذِه الْآيَة على الآباد وَإِنَّمَا جعلهَا عَلَيْهِ السَّلَام بِخِلَاف سَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لِأَن تِلْكَ الْآيَات يَسْتَوِي فِي معرفَة إعجازها الْعَالم وَالْجَاهِل وَأما إعجاز الْقُرْآن فَإِنَّمَا يعرفهُ الْعلمَاء بلغَة الْعَرَب ثمَّ يعرفهُ سَائِر النَّاس بأخبار الْعلمَاء لَهُم بذلك مَعَ مَا فِي التَّوْرَاة من الْإِنْذَار الْبَين برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله تَعَالَى فِيهَا سأقيم لبني إِسْرَائِيل نَبيا من إِخْوَتهم أجعَل على لِسَانه كَلَامي فَمن عَصَاهُ انتقمت مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلم تكن هَذِه الصّفة لغير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإخوة بني إِسْرَائِيل هم بنوا إِسْمَاعِيل وَقَوله فِي السّفر الْخَامِس مِنْهَا جَاءَ الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وسيناء هُوَ مَوضِع مبعث مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِلَا شكّ وساعير هُوَ مَوضِع مبعث عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وفاران بِلَا شكّ هِيَ مَكَّة مَوضِع مبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان ذَلِك أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أسكن إِسْمَاعِيل فاران وَلَا خلاف بَين أحد فِي أَنه إِنَّمَا أسْكنهُ مَكَّة فَهَذَا نَص على مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرؤيا الَّتِي فَسرهَا دانيال(1/90)
فِي أَمر الْحجر الَّذِي رأى الْملك فِي نَومه الَّذِي دق الصَّنَم الَّذِي كَانَ بعضه ذَهَبا وبعه فضَّة وَبَعضه نُحَاسا وَبَعضه حديدا وَبَعضه فخارا وخلطه كُله وطحنه وَجعله شَيْئا وَاحِدًا ثمَّ رَبًّا الْحجر حَتَّى مَلأ الأَرْض ففسره دانيال أَنه نَبِي يجمع الْأَجْنَاس ويبلغ ملك أمره ملْء الْآفَاق فَهَل كَانَ نَبِي قطّ غير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع الْأَجْنَاس كلهَا على اختلافها وَاخْتِلَاف لغاتها وأديانها وممالكها فجعلهم جِنْسا وَاحِدًا ولغة وَاحِدَة وَأمة وَاحِدَة ومملكة وَاحِدَة وديناً وَاحِدًا فَإِن الْعَرَب وَالْفرس والنبط والأكراد وَالتّرْك والديلم والجبل والبربر والقبط وَمن أسلم من الرّوم والهند والسودان على كثرتهم كلهم ينطقون بلغَة وَاحِدَة وَبهَا يقرؤن الْقُرْآن وَقد صَار كل من ذكرنَا أمة وَاحِدَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَصحت النُّبُوَّة الْمَذْكُورَة بِلَا أشكال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وكل مَا ذكرنَا فِي هَذَا الْبَاب أَنه يدْخل على النَّصَارَى الَّذين يَقُولُونَ بنبوة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط من الأريوسية والمقدونية والبولقانية سَوَاء سَوَاء مَعَ مَا فِي الْإِنْجِيل من دُعَاء الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله اللَّهُمَّ ابْعَثْ البارقليط ليعلم النَّاس أَن ابْن الْبشر إِنْسَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا غَايَة الْبَيَان لمن عقل لِأَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام علم أَنه سيغلو قومه فِيهِ فَيَقُولُونَ أَنه الله وَأَنه ابْن الله فَدَعَا الله فِي أَن يبْعَث الَّذِي يبين للنَّاس أَنه لَيْسَ إِلَهًا وَلَا ابْن إِلَه وَإِنَّمَا هُوَ إِنْسَان من ولد امْرَأَة من الْبشر فَهَل أُتِي بعده نَبِي يبين هَذَا إِلَّا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا لَا يحِيل بَيَانه على ذِي حس سليم وإنصاف ونسأل الله إيزاع الشُّكْر على مَا وفْق لَهُ من الْهدى فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن الْمَجُوس تصدق بنبوة زرادشت وَقوم من الْيَهُود بنبوة أبي عِيسَى الْأَصْبَهَانِيّ وَقوم من كفرة الغالية يصدقون بنبوة يزيع الحائك والمغيرة بن سعيد وبنان بن سمْعَان التَّمِيمِي وَغَيرهم من كلاب الغالية فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن أَبَا عِيسَى وبنان ويزيعاً وَسَائِر من تَدعِي لَهُ الغالية بنبوة أَو إلهية من خِيَار النَّاس وشرارهم لم تظهر لوَاحِد مِنْهُم آيَة بِوَجْه من الْوُجُوه والآيات لَا تصح إِلَّا بِنَقْل الكواف وكل هَؤُلَاءِ كَانَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أخبر الَّذِي جَاءَت الْبَرَاهِين بصدقه أَنه لَا نَبِي بعده فقد صَحَّ الْبُرْهَان بطلَان مَا ادّعى لهَؤُلَاء من النُّبُوَّة وَأما زرادشت فقد قَالَ كثير من الْمُسلمين بنبوته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَيست النُّبُوَّة بمدفوعة قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن صحت عَنهُ معْجزَة قَالَ الله عز وَجل {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ عز وَجل ورسلاً قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وَقَالُوا إِن الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الْمَجُوس من الأكذوبات بَاطِل مفتري مِنْهُم وبرهان ذَلِك أَن المانية تنْسب إِلَيْهِم مقالتهم وأقوال هَؤُلَاءِ كلهم متضادة لَا سَبِيل إِلَى أَن يَقُول بهَا قَائِل وَاحِد صَادِق وَلَا كَاذِب فِي وَقت وَاحِد وَكَذَا الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام ينْسب إِلَيْهِ الملكانية قَوْلهم فِي التَّثْلِيث وتنسب إِلَيْهِ النسطورية قَوْلهم أَيْضا وَكَذَلِكَ اليعقوبية وتنسب إِلَيْهِ المانية أَيْضا أَو كَذَلِك(1/91)
المزنوقية وَهَذَا برهَان ظَاهر على كذب جَمِيعهم عَلَيْهِمَا بِلَا شكّ وَقد رامت الغالية مثل هَذَا فِي الْقُرْآن وَلَكِن قد تولى الله حفظه وَبِالْجُمْلَةِ فَكل كتاب وَشَرِيعَة كَانَا مقصورين على رجال من أَهلهَا وَكَانَا محظورين على من سواهُمَا فالتبديل والتحريف مَضْمُون فيهمَا وَكتاب الْمَجُوس وشريعتهم إِنَّمَا كَانَ طول مُدَّة دولتهم عِنْد المؤبذ وَعند ثَلَاثَة وَعشْرين هربذاً لكل هربذ سفر قد أفرد بِهِ وَحده لَا يُشَارِكهُ فِيهِ غَيره من الهرابذة وَلَا من غَيرهم وَلَا يُبَاح بشيءٍ من ذَلِك لأحد سواهُم ثمَّ دخل فِيهِ الخرم بإحراق الْإِسْكَنْدَر لكتابهم أَيَّام غلبته لدارا بن دَارا وهم مقرون بِلَا خلاف مِنْهُم أَنه ذهب مِنْهُ مِقْدَار الثُّلُث ذكر ذَلِك بشير الناسك وَغَيره من عُلَمَائهمْ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاة إِنَّمَا كَانَت طول مُدَّة ملك بني إِسْرَائِيل عِنْد الكوهن الْأَكْبَر الهاروني وَحده لَا يُنكر ذَلِك مِنْهُم إِلَّا كَذَّاب مجاهر وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيل إِنَّمَا هِيَ كتب أَرْبَعَة مُخْتَلفَة من تأليف أَرْبَعَة رجال فَأمكن فِي كل ذَلِك التبديل وَقد نقلت كواف الْمَجُوس الْآيَات المعجزات عَن زرادشت كالصفر الَّذِي أفرغ وَهُوَ مذاب على صَدره فَلم يضرّهُ وقوائم الْفرس الَّتِي غاصت فِي بَطْنه فأخرجها وَغير ذَلِك وَمِمَّنْ قَالَ أَن الْمَجُوس أهل كتاب عَليّ بن أبي طَالب وَحُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور أَصْحَاب أهل الظَّاهِر وَقد بَينا الْبَرَاهِين الْمُوجبَة لصِحَّة هَذَا القَوْل فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الإيصال فِي كتاب الْجِهَاد مِنْهُ وَفِي كتاب الذَّبَائِح مِنْهُ وَفِي كتاب النِّكَاح مِنْهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ويكفى من ذَلِك صِحَة أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة مِنْهُم وَقد حرم الله عز وَجل فِي نَص الْقُرْآن فِي آخر سُورَة نزلت مِنْهُ وَهِي بَرَاءَة أَن تُؤْخَذ الْجِزْيَة من غير كتابي
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما العيسوية من الْيَهُود فَإِنَّهُ يُقَال لَهُم إِذا صَدقْتُمْ الكافة فِي نقل الْقُرْآن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي نقل معجزاته وَصِحَّة نبوته فقد لزمكم الإنقياد لما فِي الْقُرْآن من أَنه عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النَّاس كَافَّة بقوله تَعَالَى فِيهِ آمراً لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَقُول يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا وَقَوله تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَقَوله تَعَالَى فِيهِ {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر} إِلَى قَوْله {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} وَمَا فِيهِ من دُعَاء الْيَهُود إِلَى ترك مَا هم عَلَيْهِ وَالرُّجُوع إِلَى شَرِيعَته عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ فَإِن اعْترضُوا بِمَا فِي الْقُرْآن مِمَّا حرم عَلَيْهِم يَعْنِي الْيَهُود وحضهم على الْتِزَام السبت
فَإِنَّمَا هُوَ تبكيت لَهُم فِيمَا سلف من أسلافهم الَّذين قفوا هم آثَارهم يبين هَذَا نَص الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني إِسْرَائِيل ليحل لَهُم بعض الَّذِي حرم عَلَيْهِم وَهَذَا نَص جلي على نسخ شريعتهم وبطلانها ثمَّ مَا لم يُنكره أحد من مُؤمن وَلَا كَافِر من أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حَارب يهود بني إِسْرَائِيل من بني قُرَيْظَة وَالنضير وهذل وَبني قنيقاع وقتلهم وسباهم وألزمهم الْجِزْيَة وَسَمَّاهُمْ كفَّارًا إِذْ لم يرجِعوا إِلَى الْإِسْلَام وَقبل إِسْلَام من أسلم مِنْهُم فَلَو لم يكن نسخ دينهم مَا حل لَهُ إجبارهم على تَركه أَو الْجِزْيَة وَالصغَار وَلَا جَازَ لَهُ قبُول ترك مَا ترك مِنْهُم بدين بني إِسْرَائِيل(1/92)
وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون عِنْد العيسويين رَسُولا صَادِقا نَبيا ثمَّ يجور وَيظْلم ويبدل دين الْحق فوضح فَسَاد قَوْلهم وتناقضه بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَكَذَا يُقَال لمن أقرّ بنبوة بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من فرق الصابئين كإدريس وَغَيره مِمَّن لَا يُوقن بِصِحَّة قَوْلهم فِيهِ كعادمون واسقلاببوس وايلن وَغَيرهم وللمجوس المقتصرين على زرادشت فَقَط
أخبرونا بِأَيّ شَيْء صحت نبوة من تدعون لَهُ النُّبُوَّة فَلَيْسَ هَاهُنَا إِلَّا صِحَة مَا أَتَوْ بِهِ من المعجزات فَيُقَال لَهُم فَإِن النَّقْل إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معجزاته أقرب عهدا وَأظْهر صِحَة وَأكْثر عدد ناقلين وَأدْخل فِي الضَّرُورَة وَلَا فرق وَلَا مخلص لَهُم من هَذَا أصلا لِأَنَّهُ نقل وَنقل إِلَّا أَن نقلنا أفشى وَأظْهر وَأقوى انتشاراً ومبدأ هَذَا مَعَ ذهَاب دين الصابئين وانقطاعهم وَرُجُوع نقلهم إِلَى من لَا يقوم بهم حجَّة لقلتهم ولعلهم الْيَوْم فِي جَمِيع الأَرْض لَا يبلغون أَرْبَعِينَ وَأما الْمَجُوس فَإِنَّهُم معترفون مقرون بِأَن كِتَابهمْ الَّذِي فِيهِ دينهم أحرقه الْإِسْكَنْدَر إِذْ قتل دَارا بن دَارا وَأَنه ذهب مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَأكْثر وَأَنه لم يبْق مِنْهُ إِلَّا أقل من الثُّلُث وَأَن الشَّرَائِع كَانَت فِيمَا ذهب فَإذْ هَذَا صفة دينهم فقد بَطل القَوْل بِهِ جملَة لذهاب جمهوره وَأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف أحدا مَا لَا يتكفل بحفظه حَتَّى يبلغ إِلَيْهِ وَفِي كتاب لَهُم اسْمه خذاي بِأَنَّهُ يعظمونه جدا أَن أنوشروان الْملك منع من أَن يتَعَلَّم دينهم فِي شَيْء من الْبِلَاد إِلَّا فِي أزدشيرخرة وَفَشَا من داتجرد فَقَط وَكَانَ قبله لَا يتَعَلَّم إِلَّا باصطخر فَقَط وَكَانَ لَا يُبَاح إِلَّا لقوم خَصَائِص وكتابهم الَّذِي بَقِي بعد مَا أحرق الْإِسْكَنْدَر ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ سفرا فَلهم ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ هربذاً لكل هربذ سفر لَا يتعداه إِلَى غَيره وموبذ موبذ أَن يشرف على جَمِيع تِلْكَ الْأَسْفَار وَمَا كَانَ هَكَذَا فمضمون تبديله وتحريفه وكل نقل هَكَذَا فَهُوَ فَاسد لَا يُوجب الْقطع بِصِحَّتِهِ هَذَا إِلَى مَا فِي كتبهمْ الَّتِي لَا يَصح دينهم إِلَّا بِالْإِيمَان بهَا من الْكَذِب الظَّاهِر كَقَوْلِهِم أَن جرم الْملك كَانَ يركب إِبْلِيس حَيْثُ شَاءَ وَإِن مبدأ النَّاس من بقلة الريباس وَهِي الشرالية وَمن ولادَة بيروان سياوش بن كيفاوش بني مَدِينَة كنكدر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وأسكنها ثَمَانِينَ ألف راجل من أهل البيوتات هم فِيهَا إِلَى الْيَوْم فَإِذا ظهر بهْرَام هماوند على الْبَقَرَة ليرد ملكهم نزلت تِلْكَ الْمَدِينَة إِلَى الأَرْض ونصروه وردوا دينهم وملكهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وكل كتاب دون فِيهِ الْكَذِب فَهُوَ بَاطِل مَوْضُوع لَيْسَ من عِنْد الله عز وَجل فَظهر فَسَاد دين الْمَجُوس كَالَّذي ظهر من فَسَاد دين الْيَهُود وَالنَّصَارَى سَوَاء سَوَاء وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل فِي مناقضات ظَاهِرَة وتكاذيب وَاضِحَة فِي الْكتاب الَّذِي تسميه الْيَهُود التَّوْرَاة وَفِي سَائِر كتبهمْ وَفِي الأناجيل الْأَرْبَعَة يتَيَقَّن بذلك تحريفها وتبديله وَأَنَّهَا غير الَّذِي أنزل الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا فِي الْكتب الْمَذْكُورَة من الْكَذِب الَّذِي لَا يشك كل ذِي مسكة تَمْيِيز فِي أَنه كذب على الله تَعَالَى وعَلى الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام(1/93)
وعَلى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى أَحْبَار أوردوها لَا يخفي الْكَذِب فِيهَا على أحد كَمَا لَا يخفى ضوء النَّهَار على ذِي بصر وَقد كُنَّا نعجب من إطباق النَّصَارَى على تِلْكَ الْأَقْوَال الْفَاسِدَة المتناقضة الَّتِي لَا يخفى فَسَادهَا على أحد بِهِ رَمق إِلَى أَن وقفنا على مَا بأيدي الْيَهُود فَرَأَيْنَا أَن سبيلهم وسبيل النَّصَارَى وَاحِدَة كشق الْأُنْمُلَة وَثَبت بذلك عِنْد كل منصف من الْمُخَالفين صِحَة قَوْلنَا أَن كل من خَالف دين الْإِسْلَام ونحلة اللسنة وَمذهب أَصْحَاب الحَدِيث فَإِنَّهُ عَارِف بضلال مَا هم عَلَيْهِ إِلَّا أَنهم بخذلان الله تَعَالَى إيَّاهُم مكابرون لعقولهم مغلبون لأهوائهم وظنونهم على يقينهم تقليداً لأسلافهم وعصبية واستدامة لرياسة دنيوية وَهَكَذَا وجدنَا أَكثر من شاهدنا من رُؤَسَائِهِمْ فنحمد الله كثيرا على مَا هدَانَا لَهُ من الْإِسْلَام ونحلة السّنة وَاتِّبَاع الْآثَار الثَّابِتَة ونسأله ثتبيتنا على ذَلِك وَأَن يجعلنا من الدعاة إِلَيْهِ حَتَّى يَدْعُونَا إِلَى رَحمته ورضوانه عَن لِقَائِه آمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وليعلم كل من قَرَأَ كتَابنَا هَذَا أننا لم نخرج من الْكتب الْمَذْكُورَة شَيْئا يُمكن أَن يخرج على وَجه مَا وَإِن دق وَبعد فالاعتراض بِمثل هَذَا لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ أَيْضا لم نخرج مِنْهُ كلَاما لَا يفهم وَإِن كَانَ ذَلِك مَوْجُودا فِيهَا لِأَن للقائل أَن يَقُول قد أصَاب الله مَا أَرَادَ وَإِنَّمَا أخرجنَا مَا لَا حِيلَة فِيهِ وَلَا وَجه أصلا إِلَّا الدعاوي الكاذبة الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا أصلا لَا مُحْتملا وَلَا خفِيا
فصل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أول ذَلِك أَن بأيدي السامرية توراة غير التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي سَائِر الْيَهُود يَزْعمُونَ أَنَّهَا الْمنزلَة ويقطعون أَن الَّتِي بأيدي الْيَهُود محرفة مبدلة وَسَائِر الْيَهُود يَقُولُونَ أَن الَّتِي بأيدي السامرية محرفة مبدلة وَلم إِلَى آخِره وَلم يَقع إِلَيْنَا توراة السامرية لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْخُرُوج عَن فلسطين والأردن أصلا إِلَّا أننا قد أَتَيْنَا ببرهان ضَرُورِيّ على أَن التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي السامرية أَيْضا محرفة مبدلة عِنْدَمَا ذكرنَا فِي آخر هَذِه الْفُصُول أَسمَاء مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
فصل
فِي أول ورقة من توراة الْيَهُود الَّتِي عِنْد ربانيهم وعانانيهم وعيسوبهم حَيْثُ كَانُوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا على صفة وَاحِدَة لَو رام أَن يزِيد فِيهَا لَفْظَة أَو ينقص أُخْرَى لافتضح عِنْد جَمِيعهم مبلغة ذَلِك إِلَى أَحْبَارهم الَّذين كَانُوا أَيَّام ملك(1/94)
الهارونية لَهُم قبل الخراب الثَّانِي بدهر يذكرُونَ أَنَّهَا مبلغة ذَلِك من أُولَئِكَ إِلَى عذراء الْوراق الهاروني فَفِي صدرها قَالَ الله تَعَالَى اصْنَع بِنَاء آدم كصورتنا كشبهنا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ول لم يقل إِلَّا كصورتنا لَكَانَ لَهُ وَجه حسن وَمعنى صَحِيح وَهُوَ أَن نضيف الصُّورَة إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَة الْملك والخلق كَمَا تَقول هَذَا عمل الله وَتقول للقرد والقبيح وَالْحسن هَذِه صُورَة الله أَي تَصْوِير الله وَالصّفة الَّتِي انْفَرد بملكها وخلقها لَكِن قَوْله كشبهنا منع التأويلات وسد المخارج وَقطع السبل وَأوجب شبه آدم لله عز وَجل ولابد ضَرُورَة وَهَذَا يعلم بُطْلَانه ببديهة الْعقل إِذْ الشّبَه والمثل مَعْنَاهُمَا وَاحِد وحاشى لله أَن يكون لَهُ مثل أَو شبه
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ ونهر يخرج من عدن فيسقي الْجنان وَمن ثمَّ يفْتَرق فَيصير أَرْبَعَة أرؤس اسْم أَحدهَا النّيل وَهُوَ مُحِيط بِجَمِيعِ بِلَاد زويله الَّذِي بِهِ الذَّهَب وَذهب ذَلِك الْبَلَد جيد وَبهَا اللُّؤْلُؤ وحجارة البلور وَاسم الثَّانِي جيحان وَهُوَ مُحِيط بِجَمِيعِ بِلَاد الْحَبَشَة وَاسم الثَّالِث الدجلة وَهُوَ السائر شَرق الْموصل وَاسم الرَّابِع الْفُرَات وَأخذ الله آدم وَوَضعه فِي جنَّات عدن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْكَلَام من الْكَذِب وُجُوه فَاحِشَة قَاطِعَة بِأَنَّهَا من توليد كَذَّاب مستهزيء أول ذَلِك أخباره أَن هَذِه الْأَرْبَعَة تفترق من النَّهر الَّذِي يخرج من جنَّات عدن الَّتِي أسكن الله فِيهَا آدم إِذْ خلقه ثمَّ أخرجه مِنْهَا إِذْ أكل من الشَّجَرَة الَّتِي نَهَاهُ الله تَعَالَى عَن أكلهَا وكل من لَهُ أدنى معرفَة بالهيئة وبصفة الرّبع الْمَعْمُور من الأَرْض الَّذِي هُوَ فِي سماك الأَرْض أَو من مَشى إِلَى مصر وَالشَّام والموصل يدْرِي أَن هَذَا كُله كذب فاضح وَأَن مخرج النّيل من عين الْجنُوب من خَارج الْمَعْمُور ومصبه قبالة تنيس وقبالة الْإسْكَنْدَريَّة فِي آخر أَعمال مصر فِي الْبَحْر الشَّامي وَأَن مخرج الدجلة والفرات وجيحان من الشمَال فَأَما جيحان فَيخرج من بِلَاد الرّوم ويمر مَا بَين المصيصة وربضها الْمُسَمّى كفرينا حَتَّى يصب فِي الْبَحْر الشَّامي على أَرْبَعَة أَمْيَال من المصيصة وَأما دجلة فمخرجها من أعين بِقرب خلاط من عمل أرمينية بِقرب آمد من ديار بكر وتصب مياهها فِي البطائح الْمَشْهُورَة بِقرب الْبَصْرَة فِي أَرض الْعرَاق متأخمه أَرض الْعَرَب وَأما الْفُرَات فمخرجه من بِلَاد الرّوم على يَوْم من قالى قلا قرب أرمينيه ثمَّ يخرج إِلَى ملطيه ثمَّ يَأْخُذ على أَعمال الرقه إِلَى الْعرَاق وينقسم إِلَى قسمَيْنِ كِلَاهُمَا يَقع فِي دجلة دجلة فَهَذِهِ كذبة شنيعة كَبِيرَة لَا مخلص مِنْهَا وَالله تَعَالَى لَا يكذب وَأُخْرَى وَهِي قَوْله إِن النّيل مُحِيط بِبَلَد زويلة وجيحان مُحِيط بِبَلَد الْحَبَشَة وَهَذِه كذبة شنيعة فَاحِشَة مَا فِي جَمِيع أَرض السودَان الْحَبَشَة وَغير الْحَبَشَة نهر غير النّيل أصلا وَيتَفَرَّع سَبْعَة فروع كلهَا مخرج وَاحِد ثمَّ يجْتَمع فَوق بِلَاد النّوبَة وكذبة ثَالِثَة وَهِي قَوْله أَن بِبَلَد زويلة اللُّؤْلُؤ الْجيد وَهَذَا كذب مَا للؤلؤ بهَا مَكَان أصلا إِنَّمَا(1/95)
اللُّؤْلُؤ فِي مغاصاته فِي بَحر فَارس وبحر الْهِنْد وأنهار بِالْهِنْدِ والصين وَهَذِه فضائح لَا خَفَاء بهَا لم يقلها الله تَعَالَى قطّ وَلَا إِنْسَان يهاب الْكَذِب فَإِن قَالَ قَائِل فقد صَحَّ عَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ النّيل والفرات وسيحان وجيحان من أَنهَار الْجنَّة قُلْنَا نعم هَذَا حق لَا شكّ فِيهِ وَمَعْنَاهُ هُوَ على ظَاهره بِلَا تَكْلِيف تَأْوِيل أصلا وَهِي أَسمَاء لأنهار الْجنَّة كالكوثر والسلسبيل فَإِن قيل قد صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة وَرُوِيَ عَنهُ مقبري ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة قُلْنَا هَذَا حق وَهُوَ من أَعْلَام نبوته لِأَنَّهُ أنذر بمَكَان قَبره فَكَانَ كَمَا قَالَ وَذَلِكَ الْمَكَان لفضله وَفضل الصَّلَاة فِيهِ يُؤَدِّي الْعَمَل فِيهِ إِلَى دُخُول الْجنَّة فَهِيَ رَوْضَة من رياضها وَبَاب من أَبْوَابهَا ومعهود اللُّغَة أَن كل شَيْء فَاضل طيب فَإِنَّهُ يُضَاف إِلَى الْجنَّة ونقول لمن بشرنا بِخَبَر حسن هَذَا من الْجنَّة وَقَالَ الشَّاعِر ... رَوَائِح الْجنَّة فِي الشَّبَاب ... وَلَيْسَ كَذَلِك هَذَا الَّذِي فِي توراة الْيَهُود لِأَن واضعها لم يَدعهَا فِي لَيْسَ من كذبه بل بَين أَنه عَنى النّيل النحيط بِأَرْض زويلة بلد الذَّهَب الْجيد ودجلة الَّتِي بشرقي الْموصل وجيحان الْمُحِيط بِبَلَد الْحَبَشَة الَّتِي لم تخلق بعد فَلم يدع لطَالب تَأْوِيل لكَلَامه حِيلَة وَلَا مخرجا وَأَيْضًا فَإِنَّهُم لَا يُمكنهُم أَلْبَتَّة تَخْرِيج مَا فِي توراتهم المكذوبة على مَا وَصفنَا نَحن الْآن فِي نَص توراتهم أَن الْجنَّة الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم لأكله من الشَّجَرَة الَّتِي فِيهَا إِنَّمَا هِيَ شَرْقي عدن فِي الأَرْض لَا فِي السَّمَاء كَمَا نقُول نَحن فثبتت الكذبة لَا مخرج مِنْهَا أصلا وَلَو لم يكن فِي توراتهم إِلَّا هَذِه الكذبة وَحدهَا لكفت فِي بَيَان أَنَّهَا مَوْضُوعَة لم يَأْتِ بهَا مُوسَى قطّ وَلَا هِيَ من عِنْد الله تَعَالَى فَكيف وَلها نَظَائِر ونظائر ونظائر فَإِن قيل فِي الْقُرْآن ذكر سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَلَا يدْرِي مَكَانَهُ وَلَا مكانهم قُلْنَا مَكَانَهُ مَعْرُوف فِي أقْصَى الشمَال فِي آخر الْمَعْمُور مِنْهُ وَقد ذكر أَمر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي كتب الْيَهُود الَّتِي يُؤمنُونَ بهَا ويؤمن بهَا النَّصَارَى وَقد ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج والسد ارسطاطاليس فِي كِتَابه فِي الْحَيَوَان عِنْد كَلَامه على الغرانيق وَقد ذكر سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج بطليموس فِي كِتَابه الْمُسَمّى جغرافيا وَذكر طول بِلَادهمْ وعرضها وَقد بعث إِلَيْهِ الواثق أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام الترجمان فِي جمَاعَة مَعَه حَتَّى وقفُوا عَلَيْهِ ذكر ذَلِك أَحْمد بن الطَّبِيب السَّرخسِيّ وَغَيره وَقد ذكره قدامَة بن جَعْفَر وَالنَّاس فهيهات خبر من خبر وَحَتَّى لَو خَفِي مَكَان يَأْجُوج وَمَأْجُوج والسد فَلم يعرف فِي شَيْء من الْمَعْمُور مَكَانَهُ لما ضرّ ذَلِك خبرنَا شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ يكون مَكَانَهُ حِينَئِذٍ خلف خطّ الاسْتوَاء حَيْثُ يكون ميل الشَّمْس ورجوعها وَبعدهَا كَمَا هُوَ فِي الْجِهَة الشمالية بِحَيْثُ تكون الْآفَاق كبعض آفاقنا المسكونة والهواء كهواء بعض الْبِلَاد الَّتِي يُوجد فِيهَا النَّبَات والتناسل وَاعْلَمُوا أَن كل مَا كَانَ فِي عنصر الْإِمْكَان فَادْخُلْهُ مدْخل فِي عنصر الِامْتِنَاع بِلَا برهَان فَهُوَ كَاذِب مُبْطل جَاهِل أَو متجاهل لَا سِيمَا إِذا أخبر بِهِ من قد قَامَ الْبُرْهَان على صدق خَبره وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي الْمحَال الْمُمْتَنع الَّتِي تكذبه الْحَواس والعيان أَو بديهة الْعقل فَمن جَاءَ بِهَذَا فَإِنَّمَا جَاءَ ببرهان قَاطع على أَنه كَذَّاب مفتر ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء
فصل
ثمَّ قَالَ وَقَالَ(1/96)
الله هَذَا آدم قد صَار كواحد منا فِي معرفَة الْخَيْر وَالشَّر والآن كَيْلا يمد يَده وَيَأْخُذ من شَجَرَة الْحَيَاة وَيَأْكُل وَيحيى إِلَى الدَّهْر فطرده الله من جنَّات عدن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حكايتهم عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ هَذَا آدم قد صَار كواحد منا مُصِيبَة من مصائب الدَّهْر وَمُوجب ضَرُورَة أَنهم آلِهَة أَكثر من وَاحِد وَلَقَد أدّى هَذَا القَوْل الْخَبيث المفتري كثيرا من خَواص الْيَهُود إِلَى الِاعْتِقَاد أَن الَّذِي خلق آدم لم يكن إِلَّا خلقا خلقه الله تَعَالَى قبل آدم وَأكل من الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم فَعرف الْخَيْر وَالشَّر ثمَّ أكل من شَجَرَة الْحَيَاة فَصَارَ إِلَهًا من جملَة الْآلهَة نَعُوذ بِاللَّه من هَذَا الْكفْر الأحمق ونحمده إِذْ هدَانَا للملة الزهراء الْوَاضِحَة الَّتِي تشهد سلامتها من كل دخل بِأَنَّهَا من عِنْد الله تَعَالَى
فصل
وَبعد ذَلِك وأسكن فِي شَرْقي جنَّة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب بحراسة شَجَرَة الْحَيَاة وَرَأَيْت فِي نُسْخَة أُخْرَى مِنْهَا ووكل بالجنان المشتهر إسْرَافيل وَنصب بَين يَدَيْهِ رمحاً ناريا ليحفظ طريقي شَجَرَة الْحَيَاة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِن لم يكن أَحدهمَا خطأ من المترجم وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي كَيفَ هَذَا
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى كل من قتل قابيل نفاديه إِلَى سَبْعَة وَلَا تناكر بَين جَمِيعهم فِي أَن لامك بن متوشائيل بن محويائيل ابْن عيراد بن حنوك بن قابين هُوَ الَّذِي قتل قابين جد جد أَبِيه وَأَنه لم يقل بِهِ فنسبوا إِلَى الله تَعَالَى الْكَذِب لِأَنَّهُ وعده أَن يفْدِيه إِلَى السَّبْعَة وَلم يفده وَأَيْضًا فَإِن ذكر السَّبْعَة هُنَا حمق لِأَن لامك الَّذِي قَتله هُوَ الْخَامِس من ولد قابين وقابين هُوَ الْخَامِس من آبَاء لامك فَلَا مدْخل للسبعة هَا هُنَا
فصل وَقبل هَذَا ذكر هابيل بن آدم وَأَنه راعي غنم ثمَّ قَالَ قبل ذَلِك بِنَحْوِ ورقتين أر لامك الْمَذْكُور آنِفا اتخذ امْرَأتَيْنِ اسْم إِحْدَاهمَا عَادَة وَالثَّانيَِة صلَة وَولدت عَادَة يابال وَهُوَ أول من سكن الأخبية وَملك الْمَاشِيَة وَهَاتَانِ قضيتان تكذب إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى لَا بُد
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ فَلَمَّا ابْتَدَأَ النَّاس يكثرون على ظهر الأَرْض وَولد لَهُم الْبَنَات فَلَمَّا رأى أَوْلَاد الله بَنَات آدم أَنَّهُنَّ حسان اتَّخذُوا مِنْهُنَّ نسَاء وَقَالَ بعد ذَلِك كَانَ يدْخل بَنو الله إِلَى بَنَات آدم ويولد لَهُم حَرَامًا وهم الْجَبَابِرَة الَّذين على الدَّهْر لَهُم أَسمَاء وَهَذَا حمق ناهيك بِهِ وَكذب عَظِيم إِذْ جعل الله أَوْلَادًا ينْكحُونَ بَنَات آدم وَهَذِه مصاهرة تَعَالَى الله عَنْهَا حَتَّى أَن بعض أسلافهم قَالَ إِنَّمَا عني بذلك الْمَلَائِكَة وَهَذِه كذبة إِلَّا أَنَّهَا دون الْكَذِب فِي ظَاهر اللَّفْظ
فصل
وَفِي خلال هَذَا قَالَ لَا يدين روحي فِي الْإِنْسَان إِلَى الدَّهْر إِذْ هم منتشرون لزيغانه هُوَ بشر فَتكون أعمارهم مائَة وَعشْرين سنة وَهَذَا كذب فَاحش ومصيبة الْأَبَد لِأَنَّهُ ذكر بعد هَذَا القَوْل أَن سَام بن نوح عَاشَ بعد ذَلِك سِتّمائَة سنة وارفخشاد بن سَام عَاشَ أَرْبَعمِائَة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وشالح بن ارفخشاذ عَاشَ أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وعابر بن شالخ عَاشَ أَرْبَعمِائَة سنة وَسِتِّينَ سنة وفالغ بن عَابِر عَاشَ مِائَتي سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة ورعو بن فالغ عَاشَ مِائَتي سنة وتسعاً وَعشْرين سنة وسروغ بن رعوعاش(1/97)
مِائَتي سنة وَثَلَاثِينَ سنة وناحور بن سروغ عَاشَ مائَة ثَمَان وَأَرْبَعين سنة وتارح بن ناحور عَاشَ مِائَتي سنة وَخمسين سنة وَإِبْرَاهِيم بن تارح عَاشَ مائَة سنة وخمساً وَسبعين سنة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَأَرْبَعين سنة ولاوي ين يَعْقُوب عَاشَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سبة وَعمْرَان بن فاهث عَاشَ كَذَلِك أَيْضا وفاهث ابْن لاوي عَاشَ مائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَإِن سارح بنت أشر وَمَرْيَم بنت عمرَان وَهَارُون بن عمرَان عَاشَ كل وَاحِد مِنْهُم أَزِيد من مائَة وَعشْرين سنة بسنيهم فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح ولعقول تَتَابَعَت على التَّصْدِيق والتدين بِمثل هَذَا الْإِفْك الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر أَن متوشالح بن حنوك بن مارد عَاشَ تِسْعمائَة سنة وتسعاً وَسِتِّينَ سنة وَأَنه ولد لَهُ لامك وَهُوَ ابْن مائَة سنة وَسبع وَثَمَانِينَ سنة وَأَن لامك الْمَذْكُور إِذْ بلغ مائَة سنة واثنتين وَثَمَانِينَ سنة ولد لَهُ نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا شكّ من أَن متوشالح كَانَ إِذْ ولد لَهُ نوح بن ثَلَاثمِائَة سنة وتسع وَسِتِّينَ سنة فَوَجَبَ من هَذَا ضَرُورَة أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ابْن سِتّمائَة سنة إِذْ مَاتَ متوشالح فاضبطوا هَذَا ثمَّ قَالَ إِن فِي الْيَوْم السَّابِع عشر من الشَّهْر الثَّانِي من سنة سِتّمائَة من عمر نوح اندفعت الْمِيَاه بالطوفان ثمَّ قَالَ أَن فِي الْيَوْم سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا من الشَّهْر الثَّانِي من سنة إِحْدَى وسِتمِائَة لنوح خرج نوح من التابوت يعنيي السَّفِينَة هُوَ وَمن كَانَ مَعَه فَوَجَبَ من هَذَا ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا أَن متوشالح بن حنوك دخل السَّفِينَة وَأَنه فِيهَا مَاتَ قبل خُرُوجهمْ مِنْهَا بشهرين غير ثَلَاثَة أَيَّام وَقد قطع فِيهَا وَبت على أَنه لم يدْخل التابوت أحد من النَّاس إِلَّا نوح وَبَنوهُ الثَّلَاثَة وَامْرَأَة نوح وَثَلَاثَة نسَاء لأولاده وَقد قطع فِيهَا وَبت على أَنه لم ينج من الْغَرق إنسي أصلا وَلَا حَيَوَان فِي غير التابوت وَهَذِه كذبات فَوَاضِح نَعُوذ بِاللَّه من مثلهَا لِأَن فِي نُصُوص توراتهم كَمَا أوردنا أَن متوشالح لم يغرق لِأَنَّهُ لَو غرق لم يسْتَوْف تَمام السّنة الموفية سِتّمائَة سنة لنوح وَفِي نَصهَا أَنه استوفاها وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عِنْدهم مَحْمُود ممدوح لم يسْتَحق الْهَلَاك قطّ وأبطلوا أَن يكون دخل التابوت إِذْ قطعُوا بِأَنَّهُ لم يدخلهَا إنسي إِلَّا نوح وَبَنوهُ الثَّلَاثَة وَنِسَاؤُهُمْ وأبطلوا أَن يتنجوا فِي غير التابوت بقطعهم أَنه لم ينج إنس وَلَا حَيَوَان فِي غير التابوت وَلَا بُد لمتوشالح من أحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة فلاح الْكَذِب البحت فِي نقل توراتهم ضَرُورَة وتيقن كل ذِي عقل أَنَّهَا غير منزلَة من الله تَعَالَى وَلَا جَاءَ بهَا نَبِي أصلا لِأَن الله تَعَالَى لَا يكذب والأنبياء لَا تَأتي بِالْكَذِبِ فصح يَقِينا أَنَّهَا من عمل زنديق جَاهِل أَو مستخف متلاعب بهم ونعوذ بِاللَّه من مثل مقامهم وَفِي هَذَا الْفَصْل كِفَايَة فَكيف وَمَعَهُ أَمْثَاله كَثِيرَة
فصل
وَبعد ذَلِك أَن نوحًا إِذْ بلغه فعل ابْنه حام أبي كنعان قَالَ مَلْعُون أَبُو كنعان عبد العبيد يكون لإخوته مستعبداً يكون لأخويه يُبَارك الْإِلَه ساماً وَيكون أَبُو كنعان عبدا لَهُم إِحْسَان الله ليافث ويسكن فِي أخبية سَام وَيكون أَبُو كنعان عبدا لَهُم ثمَّ نسي نَفسه المحرف أَو تعاظم اسْتِخْفَافًا بهم فَلم يطلّ لكنه بعد سِتَّة أسطر قَالَ إِذْ ذكر(1/98)
أَوْلَاد حام فَقَالَ بَنو حام كوش ومصرايم وفوحا وكنعان وَبَنُو كوش وصبان وزويلة ورغاوة ورعمة وسفتخا وَبَنُو رعمة السَّنَد والهند وكوش ولد غرود الي ابْتَدَأَ يكون جبارا فِي الأَرْض الَّذِي كَانَ جَبَّار صيد بَين يَدي الله عز وَجل وَكَانَ أول مَمْلَكَته بابل فَحصل من هَذَا الْخَبَر تَكْذِيب نوح فِي خَبره وَهُوَ بإقرارهم نَبِي مُعظم جدا وَإِذ وصف أَن ولد أبي كنعان صَارُوا ملوكاً على إخْوَة بني كنعان وعَلى بنيهم ثمَّ الْعجب كُله على أَن مَا توجبه توراتهم كَانَ ملك نمْرُود بن كوش بن كنعان بن حام على جَمِيع الأَرْض ونوح حَيّ وسام بن نوح حَيّ لِأَن فِي نَص توراتهم أَن نوحًا عَاشَ إِلَى أَن بلغ إِبْرَاهِيم بن تارح عَلَيْهِ السَّلَام ثَمَانِيَة وَخمسين عَاما وَأَن سَام بن نوح عَاشَ إِلَى أَن بلغ يَعْقُوب وعيصا ابْنا إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام خمْسا وَأَرْبَعين سنة على مَا ذكره من مواليدهم أَبَا فأبا فَمَا لنا نرى خبر نوح معكوساً فَإِن قَالُوا إِن السودَان تملكوا الْيَوْم قُلْنَا وَفِي السودَان ملك عَظِيم جدا وممالك شَتَّى كغانة والحبشة والنوبة والهند والتبت وَالْأَمر بَينهم سَوَاء يملكُونَ طوائف من بني سَام كَمَا يملك بَنو سَام طوائف مِنْهُم وحاش لله أَن يكذب نَبِي
فصل
وَقَالَت توراتهم أَن نوحًا لما بلغ خَمْسمِائَة سنة ولد لَهُ يافث وسام وَحَام ثمَّ ذكرت أَن نوحًا إِذْ بلغ سِتّمائَة سنة كَانَ الطوفان ولسام يَوْمئِذٍ مائَة سنة وَقَالَت بعد ذَلِك أَن سَام بن نوح لما كَانَ ابْن مائَة سنة ولدار فخشاذ لِسنتَيْنِ بعد الطوفان وَهَذَا كذب فَاحش وتلون سمج وَجَهل مظلم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ نوح إِذْ ولد لَهُ سَام ابْن خَمْسمِائَة سنة وَبعد مائَة سنة كَانَ الطوفان فسام حِينَئِذٍ ابْن مائَة سنة وسنتين وَفِي نَص توراتهم أَنه كَانَ ابْن مائَة سنة وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ حاش لله من مثله
فصل
وَبعد ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم اعْلَم علما أَنه سَيكون نسلك غَرِيبا فِي بلد لَيْسَ لَهُ ويستعبدونهم ويعذبونهم أَرْبَعمِائَة سنة وَأَيْضًا الْقَوْم الَّذين يعذبونهم يحكم لَهُم وَبعد ذَلِك بشرح عَظِيم وَأَنت تسير لآبائك بِسَلام وتدفن بِشَيْبَة صَالِحَة والجيل الرَّابِع من الْبَنِينَ يرجعُونَ إِلَى هَا هُنَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل على قلته كذبتان فاحشتان شنيعتان منسوبتان إِلَى الله تَعَالَى وحاش لله من الْكَذِب وَالْخَطَأ فأحدهما قَوْله والجيل الرَّابِع من الْبَنِينَ يرجعُونَ إِلَى هَاهُنَا وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ لِأَن الجيل الأول من بني إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام هم إِسْحَاق وَإِخْوَته عَلَيْهِم السَّلَام والجيل الثَّانِي هم يَعْقُوب وعيصا وَبَنُو أعمامهما والجيل الثَّالِث أَوْلَاد يَعْقُوب لصلبه وهم دوبان وشمعون ويهوذا ولاوي وساخار وزابلون ويوسف وبنيامين وداى وهباد وعاذ وَأَشَارَ وَأَوْلَاد عيصا وَمن كَانَ فِي تعدادهما من سَائِر عقب إِبْرَاهِيم والجيل الرَّابِع هم أَوْلَاد هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وهم والجيل الثَّالِث آباؤهم وَيَعْقُوب جدهم هم الداخلون مصر لَا الخارجون مِنْهَا بِنَصّ توراتهم وإجماعهم كلهم بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى االشام بِنَصّ توراتهم وإجماعهم كلهم الجيل السَّادِس من أَبنَاء إِبْرَاهِيم وهم أَوْلَاد الجيل الرَّابِع الْمَذْكُور وَمَا رَجَعَ من الجيل الرَّابِع وَلَا من الجيل الْخَامِس وَلَا وَاحِد إِلَى الشَّام وحاشى لله م ن أَن يكذب فِي خَبره(1/99)
فَإِن قيل إِنَّمَا تعد الأجيال من الجيل المعذب قُلْنَا هَذَا خلاف نَص توراتهم لِأَن نَصهَا الجيل الرَّابِع من الْأَبْنَاء وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لم يعذب أحد من أَوْلَاد يَعْقُوب بل كَانُوا مبرورين وهم الجيل الثَّالِث بِنَصّ توراتهم حرفا حرفا على مَا نورد بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِنَّمَا ابْتَدَأَ التعذيب فِي أَبنَاء يَعْقُوب وهم الداخلون مَعَ آبَائِهِم وهم الجيل الرَّابِع فعد من حَيْثُ شِئْت لست تخرج من شرك الْكَذِب الفاضح وَفِي هَذَا كِفَايَة والكذبة الثَّانِيَة طامة من الطَّامَّات وَهِي قَوْله لإِبْرَاهِيم أَن نسلك سَيكون غَرِيبا فِي بلد لَيْسَ لَهُ ويستعبدونهم ويعذبونهم أَرْبَعمِائَة سنة وَبعد ذَلِك يخرجُون فَهَذِهِ سوءة وعار الدَّهْر لِأَنَّهُ إِذا عذب الأربعمائة سنة من وَقت بدإِ بتعذيب بني إِسْرَائِيل بِمصْر فَإِنَّمَا ذَلِك بعد موت يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن خرج بهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نصا إِذْ فِي سِيَاق توراتهم وَلما مَاتَ يُوسُف وَجمع إخْوَته وَذَلِكَ الجيل كُله كثر بَنو إِسْرَائِيل وتكاثروا وتفووا فملكوا الأَرْض وَولى عِنْد ذَلِك بِمصْر ملك جَدِيد لم يعرف يُوسُف فَقَالَ لأهل مَمْلَكَته إِن بني إِسْرَائِيل قد كَثُرُوا وصاروا أقوى منا فأذلوهم بَيْننَا لِئَلَّا يزدادوا كَثْرَة ويكونوا عوناً لمن رام محاورتنا فَقدم عَلَيْهِم أَصْحَاب صناعته لسخرتهم هَذَا نَص تورتهم شاهدة بِمَا قُلْنَا وَقد ذكر فِي توراتهم إِذْ ذكر من دخل مَعَ يَعْقُوب من وَلَده وَولد وَولد أَن قاهاث بن لاوي بن يَعْقُوب وَالِد عمرَان بن قاهاث وَهُوَ جد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ مِمَّن ولد بِالشَّام وَدخل مصر مَعَ أَبِيه لاوي وجده يَعْقُوب وَذكر فِيهَا أَيْضا أَن جَمِيع عمر قاهاث الْمَذْكُور ابْن لاوي كَانَ مائَة سنة وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة وَأَن جَمِيع عمر عمرَان بن قاهاث الْمَذْكُور كَانَ مائَة سنة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة وَذكر فِيهَا نصا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ابْن ثَمَانِينَ سنة هَذَا كُله نَص توراتهم حرفا بِحرف بِإِجْمَاع مِنْهُم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم فهبك أَن قاهاث كَانَ إِذْ دَخلهَا ابْن أقل من شهر وَأَن عمرَان ولد لَهُ سنة مَوته وَأَن مُوسَى ولد لعمران سنة مَوته فالمجتمع من هَذَا الْعدَد كُله ثَلَاثمِائَة سنة وَخَمْسُونَ سنة وَهَذِه كَانَت مدتهم بِمصْر من يَوْم دُخُولهَا إِلَى أَن خَرجُوا عَنْهَا على هَذَا الْحساب فَأَيْنَ الأربعمائة سنة فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط سنّ قاهاث إِذْ دخل مصر مَعَ أَبِيه لاوي الْمدَّة الَّتِي كَانَت من ولادَة عمرَان لقاهاث إِلَى موت قاهاث والمدة الَّتِي كَانَت من ولادَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى موت ابْنه عمرَان وَفِي كتب الْيَهُود أَن قاهاث دخل مصر وَله ثَلَاث سِنِين وَأَنه كَانَ إِذْ ولد لَهُ عمرَان ابْن سِتِّينَ سنة وَأَن عمرَان كَانَ إِذْ ولد لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ابْن ثَمَانِينَ سنة فعلى هَذَا لم يكن بَقَاء بني إِسْرَائِيل بِمصْر مذ دخلوها مَعَ يَعْقُوب إِلَى أَن خَرجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى إِلَّا مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَأَيْنَ الأربعمائة عَام فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط من هَذَا الْعدَد الْأَخير مُدَّة حَيَاة يُوسُف مذ دخل إخْوَته وأبوهم وبنوهم مصر إِلَى أَن مَاتَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فطول هَذَا الأمد لم يَكُونُوا مستخدمين وَلَا معذبين وَلَا مستعبدين بل كَانُوا أعزاء مكرمين وَفِي نَص توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ دخل على فِرْعَوْن ابْن ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ كَانَت سنو الْخطب سبع سِنِين وبدأت سنو الْجُوع ودخله يَعْقُوب ونسله مصر بعد سنتَيْن من سني الْجُوع فليوسف حِينَئِذٍ تسع وَثَلَاثُونَ سنة وَفِي نَص توراتهم أَن يُوسُف كَانَ إِذْ مَاتَ ابْن مائَة سنة وَعشر سِنِين فصح أَن مدتهم مذ دخلُوا مصر إِلَى أَن مَاتَ يُوسُف عَلَيْهِ(1/100)
السَّلَام كَانَت إِحْدَى وَسبعين سنة فَقَط وَلَا بُد فالباقي مائَة سنة وست وَأَرْبَعُونَ سنة يسْقط مِنْهَا وَلَا بُد بِنَصّ توراتهم مُدَّة بَقَاء من بَقِي من إخْوَة يُوسُف بعده وَلم نجد من ذَلِك إِلَّا عمر لاوي فَقَط فَإِنَّهُ على نَص التَّوْرَاة كَانَ يزِيد على يُوسُف ثَلَاثَة أَعْوَام أَو أَرْبَعَة فَعَاشَ بعد يُوسُف ثَلَاثَة وَعشْرين عَاما فَقَط وَلَا بُد من هَذَا الْعدَد فالباقي مائَة سنة وَثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة هَذِه مُدَّة عَذَابهمْ واستخدامهم واستعبادهم على أبعد الْأَعْدَاد وَقد تكون أقل فَأَيْنَ الأربعمائة سنة وَلَعَلَّ وقاح الْوَجْه يَقُول مَا أعد ذَلِك إِلَّا من دُخُول يُوسُف مصر مستعبداً مستخدماً معذباً ثمَّ مسجوناً فَاعْلَم أَنه لَا يزِيد على المائتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما الَّتِي ذكرنَا قبل إِلَّا اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما فَقَط فَذَلِك مِائَتَا عَام وَتِسْعَة وَثَلَاثُونَ عَاما فَأَيْنَ الأربعمائة سنة فَظهر الْكَذِب المفضوح الَّذِي لَا يدْرِي كَيفَ خَفِي عَلَيْهِم جيلاً بعد جيل وَرَأَيْت لنذل مِنْهُم مقلة ظريفة وَهِي انه ذكر هَذِه الْقِصَّة وَقَالَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تعد هَذِه الأربعمائة سنة من حِين خَاطب الله عز وَجل إِبْرَاهِيم بِهَذَا الْكَلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأَرَادَ هَذَا السَّاقِط الْخُرُوج من مزبلة فَوَقع فِي كنيف عذرة لِأَنَّهُ جاهر بِالْبَاطِلِ وتعجل الفضيحة وَنسبَة الْكَذِب إِلَى الله تَعَالَى إِذْ نَص مَا حكوه عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم أَن نسلك يستعبد أَرْبَعمِائَة سنة وَلم يقل لَهُ قطّ من الْآن إِلَى انْقِضَاء استخدامهم أَرْبَعمِائَة سنة وَأَيْضًا فَإِن نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام لإِبْرَاهِيم قبل ولادَة إِسْمَاعِيل هَذَا أَيْضا فَكَانَ إِبْرَاهِيم حِينَئِذٍ ابْن أقل من سِتَّة وَثَمَانِينَ عَاما ثمَّ عَاشَ بعد ذَلِك أَرْبَعَة عشر عَاما وَولد لَهُ إِسْحَاق وعاش إِسْحَاق مئة وَثَمَانِينَ سنة وَمَات إِسْحَاق وليعقوب مائَة وَعِشْرُونَ سنة وَدخل يَعْقُوب مصر وَله مائَة وَثَلَاثُونَ سنة كل هَذَا نُصُوص توراتهم بِلَا اخْتِلَاف مِنْهُم ممات إِسْحَاق قبل دُخُول يَعْقُوب مصر بِعشْرَة أَعْوَام فَمن حِين ادعوا أَن الله تَعَالَى قَالَ هَذَا الْكَلَام لإِبْرَاهِيم إِلَى دُخُول يَعْقُوب مصر مِائَتَا عَام وَأَرْبَعَة أَعْوَام وَمن دُخُول يَعْقُوب مصر إِلَى خُرُوج مُوسَى عَنْهَا كَمَا ذكرنَا مائَة عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فحصلنا على أَرْبَعمِائَة عَام وَأَرْبَعَة وَعشْرين عَاما فَلَا منجا من الْكَذِب إِمَّا بِزِيَادَة أَو نُقْصَان وحاش لله أَن يكذب فِي حِسَاب بدقيقة فَكيف بأعوام وَالله خَالق الْحساب ومعلمه عباده ومعاذ الله أَن يكذب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَو يخطىء فِيمَا أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فوضح يَقِينا لكل من لَهُ أدنى فهم يَقِينا كَمَا أَن أمس قبل الْيَوْم أَنَّهَا لَيست من عِنْد الله تَعَالَى وَلَا من أَخْبَار نَبِي وَلَا من تأليف عَالم يَتَّقِي الْكَذِب وَلَا من عمل من يحسن الْحساب وَلَا يخطيء فبمَا لَا يخطىء فِيهِ صبي يحسن الْجمع والطرح وَالْقِسْمَة وَالتَّسْمِيَة وَلكنهَا بِلَا شكّ من عمل كَافِر مستخف ماجن سخر بهم وتطايب مِنْهُم وَكتب لَهُم مَا سخم الله بِهِ وجوهم عَاجلا فِي الدُّنْيَا بالفضيحة وآجلاً فِي الْآخِرَة بالنَّار وَالْخُلُود فِيهَا أَو من عمل تَيْس أرعن تكلّف إملاء مَا لم يقم بحفظه جَاهِل مَعَ ذَلِك مظلم الْجَهْل بالهيئة وَصفَة الأَرْض وبالحساب وَبِاللَّهِ تَعَالَى وبرسله صلى الله عَلَيْهِم وَسلم فأملى مَا خرج إِلَى فهمه من خَبِيث وَطيب وَلَقَد كَانَ فِي هَذَا الْفَصْل كِفَايَة لمن نصح نَفسه لَو لم يكن غَيره فَكيف وَمَعَهُ عجائب جمة وَنَحْمَد الله تَعَالَى على نعْمَة الْإِسْلَام كثيرا(1/101)
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم لنسلك أعطي هَذَا الْبَلَد من نهر مصر النَّهر الْكَبِير إِلَى نهر الْفُرَات وَهَذَا كذب وشهرة من الشَّهْر لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَنى نَبِي إِسْرَائِيل وَهَكَذَا يَزْعمُونَ فَمَا ملكوا قطّ من نهر مصر وَلَا على نَحْو عشرَة أَيَّام مِنْهُ شبْرًا مِمَّا فَوْقه وَذَلِكَ من موقع النّيل إِلَى قرب بَيت الْمُقَدّس وَفِي هَذِه الْمسَافَة الصَّحَارِي الْمَشْهُورَة الممتدة والحضار ثمَّ دفج وغزة وعسقلان وجبال الشراه الَّتِي لم تزل تحاربهم طول مُدَّة دولتهم وتذيقهم الْأَمريْنِ إِلَى انْقِضَاء دولتهم وَلَا ملكوا قطّ من الْفُرَات وَلَا على عشرَة أَيَّام مِنْهُ بل بَين أخر حوز بني إِسْرَائِيل إِلَى أقرب مَكَان من الْفُرَات إِلَيْهِم نَحْو تسعين فرسخاً فِيهَا قنسرين وحمص الَّتِي لم يقربُوا مِنْهَا قطّ ثمَّ دمشق وصور وصيدا الَّتِي لم يزل أَهلهَا يحاربونهم ويسومونهم الْخَسْف طول مُدَّة دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهمْ وحاش لله عز وَجل أَن يخلف وعده فِي قدر وقيقة من سرابة فَكيف فِي تسعين فرسخاً فِي الشمَال وَنَحْوهَا فِي الْجنُوب ثمَّ فوله النَّهر الْكَبِير وَمَا فِي بِلَادهمْ الَّتِي ملكوا نهر يذكر إِلَّا الْأُرْدُن وَحده وَمَا هُوَ بكبير إِنَّمَا مَسَافَة مجْرَاه من بحيرة الْأُرْدُن إِلَى مسقطه فِي الْبحيرَة المنتنة نَحْو سِتِّينَ ميلًا فَقَط فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا عَنى الله بِهَذَا الْوَعْد بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قُلْنَا وَهَذَا أَيْضا خطأ لِأَن هَذَا الْقدر الْمَذْكُور هَا هُنَا من الأَرْض أقل من جُزْء من مائَة جُزْء مِمَّا ملك الله عز وَجل بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأَيْنَ يَقع مَا بَين مصب النّيل عِنْد تنيس وَبَين الْفُرَات وَمن آخر الأندلس على سَاحل الْبَحْر الْمُحِيط وبلاد البربر كَذَلِك إِلَى آخر السَّنَد وكابل مِمَّا يَلِي الْهِنْد وَمن سَاحل الْيمن إِلَى ثغور أرمينية وأذربيجان فَمَا بَين ذَلِك وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَكيف وَهَذِه الدَّعْوَى بَاطِلَة لِأَن ذَلِك الْكَلَام بعضه مَعْطُوف على بعض فالموعودون بِملك ذَلِك الْبَلَد هم المتوعدون بِأَنَّهُم يتملكون ويعذبون فِي الْبَلَد الآخر وَقد أكْرم الله تَعَالَى بني إِسْمَاعِيل وصانهم عَن ذَلِك فوضح الْكَذِب الْفَاحِش فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة وَصَحَّ أَنه لَيْسَ من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من كَلَام نَبِي أصلا بل من تَبْدِيل وغد جَاهِل كالحمار بلادة أَو متلاعب بِالدّينِ وفاسد المعتقد ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل
وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم أَنا الله الَّذِي أخرجتك من أتون الكردانيين لأعطيك هَذَا الْبَلَد حوراً فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم يَا رب بِمَاذَا أعرف أَنِّي أرث هَذَا الْبَلَد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حاشى لله أَن يَقُول إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرَبه هَذَا الْكَلَام فَهَذَا كَلَام من لم يَثِق بِخَبَر الله عز وَجل حَتَّى طلب على ذَلِك برهاناً فَإِن قَالَ قَائِل جَاهِل فَفِي الْقُرْآن أَنه قَالَ رب كَيفَ تحي الْمَوْتَى وَأَن زَكَرِيَّا قَالَ لله تَعَالَى إِذْ وعده بِابْن يُسمى يحيى رب اجْعَل لي آيَة قُلْنَا بَين المراجعات الْمَذْكُورَة فرق كَمَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب أما طلب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام رُؤْيَة إحْيَاء الْمَوْتَى فَإِنَّمَا طلب ذَلِك لِيَطمَئِن قلبه المنازع لَهُ إِلَى(1/102)
رُؤْيَة الْكَيْفِيَّة فِي ذَلِك فَقَط بَيَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى لَهُ {أَو لم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} فوضح أَن إِبْرَاهِيم لم يطْلب ذَلِك برهاناً على شكّ أزاله عَن نَفسه لَكِن ليرى الْهَيْئَة فَقَط وَأما زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّمَا طلب آيَة تكون لَهُ عِنْد النَّاس لِئَلَّا يكذبوه هَذَا نَص كَلَامه وَالَّذِي ذَكرُوهُ عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام شَاك يطْلب برهاناً يعرف بِهِ صِحَة وعد ربه لَهُ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وحاشى لإِبْرَاهِيم مِنْهُ
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وتجلى الله لإِبْرَاهِيم عِنْد بلوطات ممرأ وَهُوَ جَالس عِنْد بَاب الخباء عِنْد حمي النَّهَار وَرفع عَيْنَيْهِ وَنظر فَإِذا بِثَلَاثَة نفر وقُوف أَمَامه فَنظر وركض لاستقبالهم عِنْد بَاب الخباء وَسجد على الأَرْض وَقَالَ يَا سَيِّدي إِن كنت قد وجدت نعْمَة فِي عَيْنَيْك فَلَا تتجاوز عَبدك ليؤخذ قَلِيل من مَاء واغسلوا أَرْجُلكُم واستندوا تَحت الشَّجَرَة وأقدم لكم كسرة من الْخبز تشتد بهَا قُلُوبكُمْ وَبعد ذَلِك تمضون فَمن أجل ذَلِك مررتم على عبدكم فَقَالُوا اصْنَع كَمَا قلت فأسرع إِبْرَاهِيم إِلَى الخباء إِلَى سارة وَقَالَ لَهَا اصنعي ثَلَاث صيعان من دَقِيق سميذ اعجنيه واصنعي خبز مِلَّة وَحضر إِبْرَاهِيم إِلَى الْبَقر وَأخذ عجلاً رخصا سمنا وَدفعه للغلام واستعجل بإصلاحه وَأخذ سمناً ولبناً والعجل الَّذِي صنعوه وَقدم بَين أَيْديهم وَهُوَ وَاقِف عَلَيْهِم تَحت الشَّجَرَة وَقَالَ كلوا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل آيَات من الْبلَاء شنيعة نَعُوذ بِاللَّه من قَلِيل الضلال وَكَثِيره فَأول ذَلِك إخْبَاره أَن الله تَعَالَى تجلى لإِبْرَاهِيم وَأَنه رأى الثَّلَاثَة نفر فأسرع إِلَيْهِم وَسجد وخاطبهم بالعبودية فَإِن كَانَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة هم الله فَهَذَا هُوَ التَّثْلِيث بِعَيْنِه بِلَا كلفة بل هُوَ أَشد من التَّثْلِيث لِأَنَّهُ إِخْبَار بشخوص ثَلَاثَة وَالنَّصَارَى يهربون من التشخيص وَقد رَأَيْت فِي بعض كتب النَّصَارَى الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْقَضِيَّة فِي إِثْبَات التَّثْلِيث وَهَذَا كَمَا ترى فِي غَايَة الفضيحة فَإِن كَانَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَة مَلَائِكَة وَهَكَذَا يَقُولُونَ فَعَلَيْهِم فِي ذَلِك أَيْضا فضائح عَظِيمَة وَكذب فَاحش من وُجُوه أَولهَا من الْمحَال وَالْكذب أَن يخبر بِأَن الله تَعَالَى تجلى لَهُ وَإِنَّمَا تجلى لَهُ ثَلَاثَة من الْمَلَائِكَة وَثَانِيها أَن يُخَاطب أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة بخطاب الْوَاحِد وَهَذَا مِمَّا يزِيد فِي ضلال النَّصَارَى فِي هَذَا الْفَصْل وَهَذَا أَيْضا محَال فِي الْخطاب وَثَالِثهَا سُجُوده للْمَلَائكَة فَإِن من الْبَاطِل أَن يسْجد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخليله لغير الله تَعَالَى ولمخلوق مثله فَهَذِهِ كذبة وَإِن قَالُوا بل الله سجد فَهَذِهِ كذبة وَلَا بُد أَو يكون الله عِنْدهم هم الثَّلَاثَة المتجلون لَا بُد من أحداها وعادت البلية أَشد مَا كَانَت وَرَابِعهَا خطابه لَهُم بِأَنَّهُ عبدهم فَإِن كَانَ الْمُخَاطب بذلك هُوَ الله تَعَالَى وَهُوَ المتجلي لَهُ فقد عَادَتْ البلية وَإِن كَانَ المخاطبون بذلك الْمَلَائِكَة فحاشى لله أَن يُخَاطب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالعبودية غير الله تَعَالَى ومخوقا مثله مَعَ أَن الْمحَال أَن يُخَاطب ثَلَاثَة بخطاب وَاحِد وخامسها قَوْله يُؤْخَذ قَلِيل من مَاء وَيغسل أَرْجُلكُم وأقدم كسرة من الْخبز تشتد بهَا قُلُوبكُمْ فَهَذِهِ الْحَالة لَئِن كَانَ خَاطب بِهَذَا الْخطاب الله تَعَالَى فَهِيَ الَّتِي لَا سوي لَهَا وَلَا بَقِيَّة بعْدهَا وَالَّتِي تملأ الْفَم وَإِن كَانَ خَاطب بذلك الْمَلَائِكَة فَهَذَا أكذب لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجهل أَن الْمَلَائِكَة لَا تشتد قُلُوبهم بِأَكْل كسر الْخبز(1/103)
فَهَذِهِ على كل حَال كذبة بَارِدَة سمجة فَإِن قَالُوا ظنهم نَاسا قُلْنَا هَذَا أكذب لِأَن فِي أول الْخَبَر يخبر أَن الله تجلى لَهُ وَكَيف يسْجد إِبْرَاهِيم ويتعبد لخاطر طَرِيق حاشى لَهُ من هَذَا الضلال وسادسها إخْبَاره أَنهم أكلُوا الْخبز والشوى وَالسمن وَاللَّبن وحاشى لَهُ أَن يكون هَذَا خَبرا عَن الله تَعَالَى لَا وَلَا عَن الْمَلَائِكَة أَيْن هَذَا الْكَذِب الْبَارِد الفاضح الَّذِي يشبه عقول الْيَهُود المصدقين بِهِ من الْحق الْمُنِير الْوَاضِح عَلَيْهِ ضِيَاء الْيَقِين من قَول الله عز وَجل فِي هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا {وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا سَلاما قَالَ سَلام فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم وأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط} الْآيَات هَيْهَات نور الْحق من ظلمات الْكَذِب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وفيهَا أَيْضا وَجه سَابِع لَيْسَ كهذه الْوُجُوه فِي الشناعة وَهُوَ إقرارهم بِأَن إِبْرَاهِيم أطْعم الْمَلَائِكَة اللَّحْم وَاللَّبن وَالسمن مَعًا والربانيون مِنْهُم يحرمُونَ هَذَا الْيَوْم فَأَقل مَا فِيهِ النّسخ على أَن يكون سَلَامَته من أَطَم الدَّوَاهِي والسلامة وَالله مِنْهُم بعيدَة
فصل
ثمَّ قَالَ مُتَّصِلا بِهَذَا الْفَصْل وَقَالُوا لَهُ أَيْن سارة زَوجتك فَقَالَ هَا هِيَ ذِي فِي الخباء قَالَ سأرجع إِلَيْك مثل هَذَا الْوَقْت من قَابل وَيكون لَهَا ابْن وَسَارة تسمع فِي الخباء وَهُوَ وَرَاءَهَا وَكَانَ إِبْرَاهِيم وَسَارة شيخين قد طَعنا فِي السن وانْتهى لسارة أَن لَا يكون لَهَا عَادَة النِّسَاء فَضَحكت سارة فِي نَفسهَا قائلة أبعد أَن نليت يصير لي ذَا وسيدي شيخ قَالَ الله لإِبْرَاهِيم لماذا ضحِكت سارة قائلة هَل لي أَن أَلد وَأَنا عَجُوز وَهل يخفى عَن الله أَمْرِي فِي هَذَا الْوَقْت إِذْ قَالَ عز من قَائِل يكون لسارة ابْن فجحددت سارة وَقَالَت لم أضْحك لِأَنَّهَا خَافت وَقَالَ السَّيِّد لَيْسَ كَمَا تَقُولِينَ بل قد ضحِكت فَقَامَ الْقَوْم من ثمَّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ عَاد الْخَبَر بَين سارة وَإِبْرَاهِيم وَبَين الله عز وَجل وَعَاد الحَدِيث الْمَاضِي ثمَّ فِي هَذَا زِيَادَة أَن الله تَعَالَى قَالَ أَن سارة ضحِكت وَقَالَت سارة لم أضْحك فَقَالَ الله بل قد ضحِكت فَهَذِهِ مُرَاجعَة الْخُصُوم وتعارض الْأَكفاء وحاشى لسارة الفاضلة المنبأة من الله عز وَجل بالبشارة من أَن تكذب الله عز وَجل فِيمَا يَقُول وَتكذب هِيَ فِي ذَلِك فتجحد مَا فعلت فتجمع بَين سوءتين إِحْدَاهمَا كَبِيرَة من الْكَبَائِر قد نزه الله عز وَجل الصَّالِحين عَنْهَا فَكيف الْأَنْبِيَاء وَالْأُخْرَى أدهى وَأمر وَهِي الَّتِي لَا يَفْعَلهَا مُؤمن وَلَو أَنه أفسق أهل الأَرْض لِأَنَّهَا كفر ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَبعد ذَلِك وصف أَن الْملكَيْنِ باتا عِنْد لوط وأكلا عِنْده الْخبز الفطير وَلَو أَن لوطاً سجد لَهما على وَجه الأَرْض وَتعبد لَهما وَقد مضى مثل هَذَا وَأَنه كذب وَأَن الْمَلَائِكَة لَا تَأْكُل فطيراً وَلَا مختمراً وَأَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا يَسْجُدُونَ لغير الله تَعَالَى وَلَا يتعبدون لسواه
فصل
وَذكر أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لله عز وَجل إِذْ ذكر لَهُ هَلَاك قوم(1/104)
لوط فِي كَلَام كثير أَنْت معَاذ من أَن تصنع هَذَا الْأَمر لَا تقتل الصَّالح مَعَ الطالح فَأَنت معَاذ يَا حَاكم جَمِيع الْعَالم وَلم يُنكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ هَذَا القَوْل وَقَالَ بعد ذَلِك أَن الْملكَيْنِ قَالَا للوط أنظر من لَك هُنَا من صهر بنيك وبناتك وكل مَالك فِي الْقرْيَة أخرجهم من هَذَا الْموضع لأَنا مهلكون هَذَا الْموضع وَقَالَ بعد ذَلِك إِن لوطاً كلم أَصْحَابه المتزوجين بَنَاته وَقَالَ لَهُم اخْرُجُوا من هَذَا الْموضع فَإِن الله مهلكهم وَأَنه صَار عِنْدهم كاللاعب ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة أَمْسكُوا بيد لوط وبيد زَوجته وابنتيه لشفقة الله عَلَيْهِم وأخرجوهم خَارج الْقرْيَة ثمَّ ذكر هَلَاك الْقرْيَة بِكُل مَا فِيهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا تَخْلُو أَصْهَار لوط وَبَنوهُ وَبنَاته الناكحات من أَن يَكُونُوا صالحين أَو طالحين فَإِن كَانُوا صالحين فقد هَلَكُوا مَعَ الطالحين وَبَطل عقد الله تَعَالَى مَعَ إِبْرَاهِيم فِي ذَلِك وحاشى لله من هَذَا وَإِن كَانُوا طالحين فَكيف تَأمر الْمَلَائِكَة بِإِخْرَاج الطالحين وهم كَانُوا مبعوثين لهلاكهم فَلَا بُد من الْكَذِب فِي أحد الْوَجْهَيْنِ وَبِالْجُمْلَةِ فأخبارهم معفونة جدا
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وَأقَام لوط فِي المغارة هُوَ وابنتاه فَقَالَت الْكُبْرَى للصغرى أَبونَا شيخ وَلَيْسَ فِي الأَرْض أحد يأتينا كسبيل النِّسَاء تَعَالَى نسقي أَبَانَا الْخمر ونضاجعه ونستبق مِنْهُ نَسْلًا فسقتا أباهما الْخمر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَأَتَت الْكُبْرَى فضاجعت أَبَاهَا وَلم يعلم بنومها وَلَا بقيامها فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَت الْكُبْرَى للصغرى قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الْخمر هَذِه اللَّيْلَة وضاجعيه أَنْت ونستبقي من أَبينَا نَسْلًا فسقتاه تِلْكَ اللَّيْلَة خمرًا وَأَتَتْ الصُّغْرَى فضاجعته وَلم يعلم بنومها وَلَا بقيامها وحملت ابنتا لوط من أَبِيهِمَا فَولدت الْكُبْرَى ابْنا وسمته مواب وَهُوَ أَبُو الموابين إِلَى الْيَوْم وَولدت الصُّغْرَى ابْنا سمته ابْن عمي وَهُوَ أَبُو العمونيين إِلَى الْيَوْم وَفِي السّفر الْخَامِس من التَّوْرَاة بزعمهم أَن مُوسَى قَالَ لبني إِسْرَائِيل إِن الله تَعَالَى قَالَ لما انتهينا إِلَى صحراء بني مواب قَالَ لي لَا تحارب بني مواب وَلَا تقَاتلهمْ فَإِنِّي لم أجعَل لكم فِيمَا تَحت أَيْديهم سَهْما لِأَنِّي قد ورثت بني لوط أَدّوا وجعلتها مسكنا لَهُم ثمَّ ذكر أَن مُوسَى قَالَ لَهُم إِن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ أَيْضا أَنْت تخلف الْيَوْم حوز بني مواب الْمَدِينَة الَّتِي تَدعِي عَاد وتنزل فِي حوز بني عمون فَلَا تحاربهم وَلَا تقَاتل أحدا مِنْهُم فَإِنِّي لم أجعَل لكم تَحت أَيْديهم سَهْما لأَنهم من بني لوط وَقد ورثتهم تِلْكَ الأَرْض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول فضائح وسوآت تقشعر من سماعهَا جُلُود الْمُؤمنِينَ بِاللَّه تَعَالَى العارفين حُقُوق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فأولها مَا ذكر عَن بِنْتي لوط عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْلهمَا لَيْسَ أحد فِي الأَرْض يأتينا كسبيل النِّسَاء تعالي نسقي أَبَانَا خمرًا ونضاجعه ونستبق مِنْهُ نَسْلًا فَهَذَا كَلَام أَحمَق فِي غَايَة الككذب وَالْبرد أَتَرَى كَانَ انْقَطع نسل ولد آدم حَتَّى لم يبْق فِي الأَرْض أحد يضاجعها إِن هَذَا لعجب فَكيف والموضع مَعْرُوف إِلَى الْيَوْم لَيْسَ بَين تِلْكَ المغارة الَّتِي كَانَ فِيهَا لوط عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ بنتيه وَبَين قَرْيَة سُكْنى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا فَرسَخ وَاحِد لَا يزِيد وَهُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال فَقَط فَهَذِهِ سوءة وَالثَّانيَِة اطلاق الْكَذِب الْوَاضِع لهَذِهِ الخرافة لَعنه الله هَذِه الطومة(1/105)
على الله عز وَجل من أَنه أطلق نبيه وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَذِه الْفَاحِشَة الْعَظِيمَة من وَطْء ابْنَتَيْهِ وَاحِدَة بعد الْأُخْرَى فَإِن قَالُوا لَا ملامة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ فعل ذَلِك وَهُوَ سَكرَان وَهُوَ لَا يعلم من هما قُلْنَا فَكيف عمل إِذْ رآهما حاملتين وَإِذ رآهما قد ولدتا وَلدين لغير رشدة وَإِذ رآهما تربيان أَوْلَاد الزِّنَا هَذِه فضائح الْأَبَد وتوليد الزَّنَادِقَة المبالغين فِي الاستخفاف بِاللَّه تَعَالَى وبرسله عَلَيْهِم السَّلَام وَالثَّالِثَة إِطْلَاقهم على الله تَعَالَى أَنه نسب أَوْلَاد ذَيْنك الزنيمين فرخي الزِّنَا إِلَى ولادَة لوط عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى ورثهما بلدين كل ورث بني إِسْرَائِيل وَبني عيسو ابْني إِسْحَاق سَوَاء سَوَاء تَعَالَى الله عَن هَذَا علوا كَبِيرا فَإِن قَالُوا كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ قُلْنَا فقد صَحَّ النّسخ الَّذِي تُنْكِرُونَهُ بِلَا كلفة وَقَالَ قبل هَذَا إِن إِبْرَاهِيم إِذْ أَمر الله تَعَالَى بِالْمَسِيرِ من حران إِلَى أَرض كنعان أَخذ مَعَ نَفسه امْرَأَته سارة وَابْن أَخِيه لوط بن هَارُون وَذكروا فِي بعض توراتهم أَنه كَلمته الْمَلَائِكَة وَأَن الله تَعَالَى أرسلهم إِلَيْهِ فصح بإقرارهم أَنه نَبِي الله عز وَجل وهم يَقُولُونَ أَنه بَقِي فِي تِلْكَ المغارة شَرِيدًا طريداً فَقِيرا لَا شَيْء لَهُ يرجع إِلَيْهِ فَكيف يدْخل فِي عقل من لَهُ أقل إِيمَان أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يتْرك ابْن أَخِيه الَّذِي تغرب مَعَه وآمن بِهِ ثمَّ تنبأ مثله يضيع ويسكن فِي مغارة مَعَ ابْنَتَيْهِ فَقِيرا هَالكا وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهُ وَإِبْرَاهِيم على مَا ذكر فِي التَّوْرَاة عَظِيم المَال مفرط الْغنى كثير الْيَسَار من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْعَبِيد وَالْإِمَاء وَالْجمال وَالْبَقر وَالْغنم وَالْحمير وَيَقُولُونَ فِي توراتهم أَنه ركب فِي ثَلَاثمِائَة مقَاتل وَثَمَانِية عشر مُقَاتِلًا لِحَرْب الَّذين سبوا لوطاً وَمَاله حَتَّى استنفذوه وَمَاله فَكيف يضيعه بعد ذَلِك هَذَا التضييع لَيست هَذِه صِفَات الْأَنْبِيَاء وَلَا كَرَامَة وَلَا صِفَات من فِيهِ شيءٌ من الْخَيْر لَكِن صِفَات الْكلاب الَّذين وضعُوا لَهُم هَذِه الخرافات الْبَارِدَة الَّتِي لَا فَائِدَة فِيهَا وَلَا موعظة وَلَا عِبْرَة حَتَّى ضلوا بهَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل
وَفِي موضِعين من توراتهم المبدلة أَن سارة امْرَأَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَخذهَا فِرْعَوْن ملك مصر وَأَخذهَا ملك الخلص أَبُو مَالك مرّة ثَانِيَة وَأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أرى الْملكَيْنِ فِي منامهما مَا أوجب ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر أَن سنّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ انحدر من حران خَمْسَة وَسَبْعُونَ عَاما وَأَن إِسْحَاق ولد لَهُ وَهُوَ ابْن مائَة سنة ولسارة إِذْ ولد تسعون عَاما فصح أَنه كَانَ يزِيد عَلَيْهَا عشر سنسن وَذكر أَن ملك الخلص أَخذهَا بعد أَن ولدت إِسْحَاق وَهِي عَجُوز مُسِنَّة بإقرارها بلسانها إِذْ بشرت بِإسْحَاق فَكيف بعد أَن وَلدته وَقد جَاوَزت تسعين عَاما وَمن الْمحَال أَن تكون فِي هَذَا السن تفتن ملكا وَأَن إِبْرَاهِيم قَالَ فِي كلتا الْمَرَّتَيْنِ هِيَ أُخْتِي وَذكر عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ للْملك هِيَ أُخْتِي بنت أبي لَكِن لَيست من أُمِّي فَصَارَت لي زَوْجَة فنسبوا فِي نَص توراتهم إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه تزوج أُخْته وَقد وقفت على هَذَا الْكَلَام من يعَض من شَاهَدْنَاهُ مِنْهُم وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن يُوسُف الْكَاتِب الْمَعْرُوف بإبن النغرالي فَقَالَ لي إِن نَص اللَّفْظَة فِي التَّوْرَاة أُخْت وَهِي لَفْظَة تقع فِي العبرانية على الْأُخْت وعَلى الْقَرِيبَة فَقلت يمْنَع من صرف هَذِه اللَّفْظَة إِلَى الْقَرِيبَة هَا هُنَا قَوْله لَكِن لَيست من أُمِّي وَإِنَّمَا هِيَ بنت أبي فَوَجَبَ أَنه(1/106)
أَرَادَ الْأُخْت بنت الْأَدَب وَأَقل مَا فِي هَذَا إِثْبَات النّسخ الَّذِي تفرون مِنْهُ فخلط وَلم يَأْتِ بِشَيْء
فصل
ثمَّ ذكر موت سارة وَقَالَ تزوج إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام امراة اسْمهَا قطورة وَولدت لَهُ زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبق وشوحا وَأعْطى إِبْرَاهِيم جَمِيع مَاله لإسحاق وَأعْطى بني الْإِمَاء عطايا وأبعدهم عَن إِسْحَاق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا نَص الْكَلَام مُتَتَابِعًا مُرَتبا وَلم يذكر لَهُ زَوْجَة فِي حَيَاة سارة وَلَا أمة لَهَا ولد إِلَّا هَاجر أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا ذكر لَهُ بعد سارة زَوْجَة وَلَا أمة وَلَا ولدا غير قطورة وبنيها وَفِي كتبهمْ أَن قطورة هَذِه بنت ملك الربذ وَهُوَ مَوضِع عمان الْيَوْم بِقرب البلقاء وَهَذِه أَخْبَار يكذب بَعْضهَا بَعْضًا
فصل
ثمَّ ذكر أَن رفْقَة بنت بتوئيل بن تارخ زَوْجَة إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت عاقراً قَالَ فشفعه الله وحملت وازدحم الْولدَان فِي بَطنهَا وَقَالَت لَو علمت أَن الْأَمر هَكَذَا كَانَ يكون مَا طلبته وَمَضَت لتلتمس علما من الله عز وَجل فَقَالَ لَهَا الله فِي بَطْنك أمتان وحزبان يفترقان مِنْهُ أَحدهمَا أكبر من الآخر وَالْكَبِير يخْدم الصَّغِير فَلَمَّا كَانَت أَيَّام الْولادَة إِذْ بتوءمين فِي بَطنهَا وَخرج الأول أَحْمَر كُله كفروة من شعر فَسُمي عيسو وَبعد ذَلِك خرج أَخُوهُ وَيَده ممسكة بعقب عيسو فَسَماهُ يَعْقُوب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لَا مُؤنَة على هَؤُلَاءِ السفلة فِي أَن ينسبوا الْكَذِب إِلَى الله عز وَجل وحاشى لله أَن يكذب وَلَا خلاف بَينهم فِي أَن عيسو لم يخْدم قطّ يَعْقُوب وَأَن بني عيسو لم تخْدم قطّ بني يَعْقُوب بل فِي التَّوْرَاة نصا أَن يَعْقُوب سجد على الأَرْض سبع مَرَّات لعيسو اذرآه وَأَن يَعْقُوب لم يُخَاطب عيسو إِلَّا بالعبودية والتذلل المفرط وَأَن جَمِيع أَوْلَاد يَعْقُوب حاشا بنيامين الَّذِي لم يكن ولد بعد كلهم سجدوا لعيسو وَأَن يَعْقُوب أهْدى لعيسو مداراة لَهُ خَمْسمِائَة رَأس وَخمسين رَأْسا من إبل وبقر وحمير وضأن ومعز وَأَن يَعْقُوب رَآهَا منَّة عَظِيمَة إِذْ قبلهَا مِنْهُ وَأَن بني عيسو لم تزل أَيْديهم على إقفاء بني إِسْرَائِيل من أول دولتهم إِلَى انقطاعها إِمَّا يتملكون عَلَيْهِم أَو يكونُونَ على السوَاء مَعَهم وَأَن بني إسرئيل لم يملكُوا قطّ أَيَّام دولتهم بني عيسو فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح أَيهَا الْمُسلمُونَ واحمدوا الله على السَّلامَة مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْركُمْ من الضلال والعمى
فصل
ثمَّ ذكر أَن إِسْحَاق قَالَ لِابْنِهِ عيسو يَا بني قد شخت وَلَا أعلم يَوْم موتِي فَاخْرُج وَصد لي صيدا واصنع لي مِنْهُ طَعَاما كَمَا أحب وائتني بِهِ لآكله كي تبَارك نَفسِي قبل أَن أَمُوت وَإِن رفْقَة أم عيسو وَيَعْقُوب أمرت يَعْقُوب ابْنهَا أَن يَأْخُذ جديين وتصنع هِيَ مِنْهُمَا طَعَاما وَيَأْتِي يَعْقُوب إِلَى إِسْحَاق أَبِيه ليأكله ويبارك عَلَيْهِ وَأَن يَعْقُوب قَالَ لأمه أَن عيسو أخي أشعر وَأَنا أجرد لَعَلَّ أبي أَن يحس بِي وأكون عِنْده كاللاعب وأجلب على نَفسِي لعنة لَا بركَة فَقَالَت لَهُ أمه عَليّ استدفاع لعنتك وَإِن يَعْقُوب فعل مَا أَمرته بِهِ أمه فَأخذت هِيَ ثِيَاب عيسو ابْنهَا الْأَكْبَر وألبستها يَعْقُوب وَجعلت جُلُود الجديين على يَدَيْهِ وعَلى حلقه وأعطته الطَّعَام وَجَاء بِهِ إِلَى(1/107)
أَبِيه فَقَالَ لَهُ يَا أبي فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق من أَنْت يَا وَلَدي قَالَ يَعْقُوب أَنا ابْنك عيسو بكرك صنعت جَمِيع مَا قلت لي فاجلس وتأكل من صيدي لتبارك عَليّ وَأَن إِسْحَاق قَالَ ليعقوب تقدم حَتَّى أجلسك يَا بني هَل أَنْت ابْني عيسو أم لَا فَتقدم يَعْقُوب فجسه إِسْحَاق وَقَالَ الصَّوْت صَوت يَعْقُوب وَالْيَدَانِ يدا عيسو وَقَالَ هَل أَنْت هُوَ ابْني عيسو فَقَالَ أَنا فَبَارك عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ فِي بركته تِلْكَ تخدمك الْأُمَم وتخضع لَك الشعوب وَتَكون مولي إخْوَتك وتسجد لَك بَنو أمك ثمَّ ذكر أَن عيسو أَتَى بالصيد إِلَى إِسْحَاق فَلَمَّا عرف إِسْحَاق الْقِصَّة قَالَ لعيسو عَن يَعْقُوب قد صيرته سُلْطَانا وَجعلت جَمِيع إخْوَته عبيدا فَرغب إِلَيْهِ عيسو فِي أَن يباركه أَيْضا فَفعل وَقَالَ فِي بركته هوذا بِلَا دسم الأَرْض يكون مسكنك وَبلا ندى السَّمَاء من فَوق وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد وَلَكِن يكون حينما تجمح أَنَّك تكسر غيرَة عَن عُنُقك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي هَذَا الْفَصْل فضائح وأكذوبات وَأَشْيَاء تشبه الخرافات فَأول ذَلِك إِطْلَاقهم على نَبِي الله يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه خدع أَبَاهُ وغشه وَهَذَا مبعد عَمَّن فِيهِ خير من أَبنَاء النَّاس مَعَ الْكفَّار والأعداء فَكيف من نَبِي مَعَ أَبِيه نَبِي أَيْضا هَذِه سوآت مضاعفات أَيْن ظلمَة هَذَا الْكَذِب من نور الصدْق فِي قَول الله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم} وثانية وَهِي أخبارهم ان بركَة يَعْقُوب إِنَّمَا كَانَت مسروقة مَأْخُوذَة بغش وخديعة وتخابث وحاشى للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام من هَذَا ولعمري أَنَّهَا لطريقة الْيَهُود فَمَا تلقى مِنْهُم إِلَّا الْخَبيث المخادع إِلَّا الشاذ وثالثة وَهِي أخبارهم ان الله تَعَالَى أجْرى حكمه وَأعْطى نعْمَته على طَرِيق الْغِشّ والخديعة وحاش لله من هَذَا ورابعة وَهِي الَّتِي لَا يشك أحد فِي أَن إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ بَارك يَعْقُوب إِذْ خدعه بزعم النذل الَّذِي كتب لَهُم هَذَا الهوس إِنَّمَا قصد بِتِلْكَ الْبركَة عيسو وَله دَعَا لَا ليعقوب فَأَي مَنْفَعَة للخديعة هَهُنَا لَو كَانَ لَهُم عقل وَمَا أشبه هَذِه الْقَضِيَّة إِلَّا بحمق الغالية من الرافضة الْقَائِلين أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَى عليٍّ فَأَخْطَأَ جِبْرِيل وأتى إِلَى مُحَمَّد وَهَكَذَا بَارك إِسْحَاق على عيسو فأخطأت الْبركَة وَمَضَت إِلَى يَعْقُوب فعلى كلتا الطَّائِفَتَيْنِ لعنة الله فَهَذِهِ وُجُوه الْخبث والغش فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَأما وُجُوه الْكَذِب فكثيرة جدا من ذَلِك نسبتهم الْكَذِب إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ نَبِي الله تَعَالَى وَرَسُوله فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع أَولهَا قَوْله لِأَبِيهِ إِسْحَاق أَنا ابْنك عيسو وبكرك فَهَذِهِ كذبتان فِي نسق لأه لم يكن ابْنه عيسو وَلَا كَانَ بكره وثالثة قَوْله لِأَبِيهِ صنعت جَمِيع مَا قلت لي فاجلس وكل من صيدي فَهَذِهِ كذبتان فِي نسق لِأَنَّهُ لم يكن قَالَ لَهُ شَيْئا وَلَا أطْعمهُ من صَيْده وكذبات أخر وَهِي بطلَان بركَة إِسْحَاق إِذْ قَالَ لَهُ تخدمك الْأُمَم وتخضع الشعوب وَتَكون مولي إخْوَتك وَيسْجد لَك بَنو أمك وَقَوله لعيسو ولأخيك تستعبد وَهَذِه كذبات مُتَوَالِيَات وَالله مَا خدمت الْأُمَم قطّ يَعْقُوب وَلَا بنيه بعده وَلَا خضعت لَهُم الشعوب وَلَا كَانُوا موَالِي إِخْوَتهم وَلَا سجد لَهُم وَلَا لَهُ بنوا أمه بل بنوا بني إِسْرَائِيل خدموا الْأُمَم فِي كل بَلْدَة وَفِي كل أمة وهم خضعوا للشعوب قَدِيما وحديثاًُ فِي أَيَّام دولتهم وَبعدهَا فَإِن قَالُوا سَيكون هَذَا قُلْنَا لَهُم ... قد حصلتم على الصغار يَقِينا
والأماني بضائع السخفاء ... هَيْهَات(1/108)
ترجى ربيع أَن ستحيا صغارها
بِخَير وَقد أعيا ربيعاً كِبَارهَا ...
لَا سِيمَا مَعَ تقضي جَمِيع الآماد الَّتِي كَانُوا ينبئون بِأَنَّهَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يرجع أَمرهم وَاعْلَمُوا أَن كل أمة أَدْبَرت فَإِنَّهُم ينتظرون من العودة ويمنون أنفسهم من الرّجْعَة بِمثل مَا تمنى بِهِ بَنو إِسْرَائِيل أَنْفسهَا ويذكرون فِي ذَلِك مواعيد كمواعيدهم فأملٌ كاملٍ وَلَا فرق كانتظار مجوس الْفرس بهزام هما وندراكب الْبَقَرَة وانتظار الروافض للمهدي وانتظار النَّصَارَى الَّذين ينتظرون فِي السَّحَاب وانتظار الصائبين أَيْضا لقصة أُخْرَى وانتظار غَيرهم للسفياني ... تمن يلذ المستهام بِمثلِهِ
وَإِن كَانَ لَا يُغني فتيلاً وَلَا يجدي
وغيظ على الْأَيَّام كالنار فِي الحشا
وَلكنه غيظ الْأَسير على الْقد ...
وَأما قَوْله تكون مولي إخْوَتك وَيسْجد لَك بَنو أمك فلعمري لقد صَحَّ ضد ذَلِك جهاراً إِذْ فِي توراتهم أَن يَعْقُوب كَانَ راعي ابْن عَمه لابان ابْن ناحور بن لامك وخادمه عشْرين سنة وَأَنه بعد ذَلِك سجد هُوَ وَجَمِيع وَلَده حاشا من لم يكن خلق مِنْهُم بعد لِأَخِيهِ عيسو مرَارًا كَثِيرَة وَمَا سجد عيسو قطّ ليعقوب وَلَا ملك قطّ أحد من بني يَعْقُوب بني عيسو وَأَن يَعْقُوب تعبد لعيسو فِي جَمِيع خطابه لَهُ وَمَا تعبد قطّ عيسو ليعقوب وَسَأَلَهُ عيسو عَن أَوْلَاده فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب هم أصاغر من الله بهم على عَبدك وَأَن يَعْقُوب طلب رِضَاء عيسو وَقَالَ لَهُ إِنِّي نظرت إِلَى وَجهك كمن نظر إِلَى بهجة الله فارض عني وَاقْبَلْ مَا أهديت إِلَيْك وَأَن عيسو بالحرا قبل هَدِيَّة يَعْقُوب حينئذٍ فَمَا نرى عيسو وبنيه إِلَّا موَالِي يَعْقُوب وبنيه وَكَذَلِكَ ملك بَنو عيسو بِإِقْرَار توراتهم ميراثهم لساعير وَهِي جبال الشراة وَبَنُو لوط ميراثهم بمواب وعمان قبل أَن يملك بَنو إِسْرَائِيل ميراثهم بفلسطين والأردن بدهر طَوِيل ثمَّ لم يزَالُوا يتغلبون على بني إِسْرَائِيل أَو يساوونهم طول دولة بني إِسْرَائِيل بِإِقْرَار كتبهمْ وَمَا ملك بَنو إِسْرَائِيل قطّ بني عيسو وَلَا بني لوط وَلَا بني إِسْمَاعِيل بإقرارهم وَلَقَد بَقِي بَنو عيسو وَبَنُو لوط بِإِقْرَار كتبهمْ فِي ميراثهم بساعير ومواب وعمان بعد هَلَاك دولة بني إِسْرَائِيل وأخرجهم عَن ميراثهم ثمَّ ملكهم بَنو إِسْمَاعِيل إِلَى الْيَوْم فَمَا نرى تِلْكَ الْبركَة كَانَت إِلَّا معكوسة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَلَكِن حق الْبركَة المسروقة الْمَأْخُوذَة بالخبث فِي زعمهم أَن تخرج معكوسة منكوسة
فصل
ثمَّ ذكر أَن يَعْقُوب إِذْ مُضِيّ إِلَى خَاله لابان بن بثوال خطب إِلَيْهِ ابْنَته راحيل وَقَالَ لَهُ أخدمك سبع سِنِين فِي راحيل ابْنَتك الصُّغْرَى فَقَالَ لَهُ لابان أُعْطِيك إِيَّاهَا أحسن من أَن أعطيها رجلا آخر أقِم عِنْدِي وخدم يَعْقُوب فِي راحيل سبع سِنِين وَصَارَت عِنْده أَيَّامًا يسيرَة فِي محبته لَهَا وَقَالَ يَعْقُوب للابان أَعْطِنِي زَوْجَتي إِذْ قد كملت أيامي فَأدْخل بهَا وَجمع لابان جَمِيع أهل الْموضع وصنع وَلِيمَة فَلَمَّا كَانَ بالْعَشي أَخذ ليئة ابْنَته وزفها إِلَيْهِ وَدخل بهَا فَلَمَّا كَانَ بالغد وَرَأى أَنَّهَا ليئة قَالَ للابان مَاذَا صنعت أَلَيْسَ فِي راحيل خدمتك(1/109)
فَلم خدعتني فَقَالَ لابان لَا نصْنَع هَكَذَا فِي موضعنا أَن نزوج الصُّغْرَى قبل الْكُبْرَى أكمل أُسْبُوع هَذِه وَأُعْطِيك أَيْضا هَذِه بِخِدْمَة سبع سِنِين أُخْرَى وصنع يَعْقُوب كَذَلِك وأكمل أُسْبُوع ليئة وَأعْطى راحيل ابْنَته لتَكون لَهُ زَوْجَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل آبدة الدَّهْر وَهِي إقرارهم أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام تزوج راحيل فأدخلت عَلَيْهِ غَيرهَا فحصلت ليئة إِلَى جنبه بِلَا نِكَاح وَولد لَهَا مِنْهُ سِتَّة ذُكُور وَابْنَة وَهَذَا هُوَ الزِّنَا بِعَيْنِه أَخذ امْرَأَة لم يَتَزَوَّجهَا بخديعة وَقد أعاذ الله نبيه من هَذِه السوءة وأعاذ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مُوسَى وَهَارُون وَدَاوُد وَسليمَان من أَن يَكُونُوا من مثل هَذِه الْولادَة وَهَذَا يشْهد ضَرُورَة أَنَّهَا من توليد زنديق متلاعب بالديانات فَإِن قَالُوا لَا بُد أَنه قد تزَوجهَا إِذْ علم أَنَّهَا لَيست الَّتِي تزوج قُلْنَا فعلي أَن نسمح لكم بِهَذَا فالنسخ ثَابت وَلَا بُد لِأَن نِكَاح أُخْتَيْنِ مَعًا حرَام فِي توراتكم وَقد قَالَ لي بَعضهم فِي هَذَا لم تكن الشَّرَائِع نازلة من الله تَعَالَى قبل مُوسَى فَقلت هَذَا كذب أَلَيْسَ فِي نَص توراتكم أَن الله تَعَالَى قَالَ لنوح عَلَيْهِ السَّلَام كل دَبِيب حَيّ يكون لكم أكله كخضراء العشب أُعْطِيكُم لَكِن اللَّحْم بدمه لَا تأكلوه وَأما دماؤكم فِي أَنفسكُم فسأطلبها فَهَذِهِ شَرِيعَة إِبَاحَة وَتَحْرِيم قبل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر أَن يَعْقُوب رَجَعَ من عِنْد خَاله لابان بنسائه وَأَوْلَاده قَالَ وَلما أصبح أجَاز امرأتيه وجاريته وَأحد عشر من وَلَده المخاضة وَبَقِي وَحده وصارعه رجل إِلَى الصُّبْح فَلَمَّا عجز عَنهُ ضرب حق فَخذه فانخلع حق فَخذ يَعْقُوب فِي مصارعته مَعَه وَقَالَ لَهُ خَلِّنِي لِأَنَّهُ قد طلع الْفجْر قَالَ لست أدعك حَتَّى تبَارك عَليّ فَقَالَ لَهُ كَيفَ اسْمك قَالَ يَعْقُوب قَالَ لَهُ لست تدعى من الْيَوْم يَعْقُوب بل إِسْرَائِيل من أجل أَنَّك كنت قَوِيا على الله فَكيف على النَّاس فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب عرفني بِاسْمِك فَقَالَ لَهُ لَو لم تَسْأَلنِي عَن اسْمِي وَبَارك عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْموضع فَسُمي يَعْقُوب ذَلِك الْموضع فنيئيل وَقَالَ رَأَيْت الله تَعَالَى مُوَاجهَة وسلمت نَفسِي وبزغت لَهُ الشَّمْس بعد أَن جَاوز فنيئيل وَهُوَ يعرج من رجله وَلِهَذَا لَا يَأْكُل بَنو إِسْرَائِيل الْعقب الَّذِي على حق الْفَخْذ إِلَى الْيَوْم لِأَنَّهُ ضرب حق فَخذ يَعْقُوب لمس الله وانقباضه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل شنعة على كل من سلف يقشعر مِنْهَا جُلُود أهل الْعُقُول وَبِاللَّهِ الْعَظِيم لَوْلَا أَن الله عز وَجل قصّ علينا كفرهم بقَوْلهمْ {يَد الله مغلولة} وبقولهم {إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} لما نطقت ألسنتنا بحكاية هَذِه العظائم لَكنا نحكيه منكرين كَمَا نتلوه فِيمَا نَصه عز وَجل لنا تحذيراً من إفكهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذكر فِي هَذَا الْمَكَان أَن يَعْقُوب صارع الله عز وَجل تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَعَن كل شبه لخلقه فَكيف عَن لعب الصراع الَّذِي لَا يَفْعَله إِلَّا أهل البطالة وَأما أهل الْعُقُول فَلَا يَفْعَلُونَهُ لغير ضَرُورَة ثمَّ لم يكتفوا بِهَذِهِ الشُّهْرَة حَتَّى قَالُوا(1/110)
أَن الله عز وَجل عجز عَن أَن يصرع بِنَصّ كَلَام توراتهم وحقق ذَلِك قَوْلهم عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ كنت قَوِيا على الله تَعَالَى فَكيف على النَّاس وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أهل الْبَصَر بالعبرانية أَنه لذَلِك سَمَّاهُ إِسْرَائِيل إبل بلغتهم هُوَ اسْم الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَلَا خلاف فَمَعْنَاه أسر الله تذكيراً بذلك الضَّبْط الَّذِي كَانَ بعد المصارعة إِذْ قَالَ لَهُ دَعْنِي فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب لَا أدعك حَتَّى تبَارك عَليّ وَلَقَد ضربت بِهَذَا الْفَصْل وُجُوه المتعرضين مِنْهُم للجدال فِي كل محفل فثبتوا على أَن نَص التَّوْرَاة أَن يَعْقُوب صارع الوهيم وَقَالَ أَن لفظ الوهيم يعبر بهَا عَن الْملك فَإِنَّمَا صارع ملكا من الْمَلَائِكَة فَقلت لَهُم سِيَاق الْكَلَام يبطل مَا تَقولُونَ ضَرُورَة أَن فِيهِ كنت قَوِيا على الله فَكيف على النَّاس وَفِيه أَن يَعْقُوب قَالَ رَأَيْت الله مُوَاجهَة وسلمت نَفسِي وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يعجب من سَلامَة نَفسه إِذْ رأى الْملك وَلَا يبلغ من مس الْملك لما نَص يَعْقُوب أَن يحرم على بني إِسْرَائِيل أكل عروق الْفَخْذ فِي الْأَبَد من أجل ذَلِك وَفِيه أَنه سمي الْموضع بذلك فنيئيل لِأَنَّهُ قَابل إيل وَهُوَ الله عز وَجل بِلَا احْتِمَال عنْدكُمْ ثمَّ لَو كَانَ ملكا كَمَا تدعون عِنْد المناظرة لَكَانَ أَيْضا من الخطاء تصارع نَبِي وَملك لغير معنى فَهَذِهِ صفة المتحدين فِي العنصر لَا صفة الْمَلَائِكَة والأنبياء فَإِن قيل قد رويتم أَن نَبِيكُم صارع ركَانَة بن عبد يزِيد قُلْنَا نعم لِأَن ركَانَة كَانَ من الْقُوَّة بِحَيْثُ لَا يجد أحدا يقاومه فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَلم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْصُوفا بِالْقُوَّةِ الزَّائِدَة فَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَام فَقَالَ لَهُ إِن صرعتني آمَنت بك وَرَأى إِن هَذَا من المعجزات فَأمره عَلَيْهِ السَّلَام بالتأهب لذَلِك ثمَّ صرعه للْوَقْت وَأسلم ركَانَة بعد مُدَّة فَبين الْأَمريْنِ فرق كَمَا بَين الْعقل والحمق وَلكُل مقَام مقَال وَلَكِن إِذا أكل الْمَلَائِكَة عنْدكُمْ كسور الْخبز حَتَّى تشتد بهَا قُلُوبهم والشاي وَاللَّبن وَالسمن والفطائر فَمَا يُنكر بَعضهم للصراع مَعَ النَّاس فِي الطرقات وَهَذِه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم وَصِحَّة الْيَقِين بِأَن توراتهم مبدلة
فصل
وَفِي الْفَصْل الْمَذْكُور أَن الله تَعَالَى قَالَ ليعقوب لست تدعى من الْيَوْم يَعْقُوب لَكِن إِسْرَائِيل ثمَّ فِي السّفر الثَّانِي من توراتهم قَالَ الله تَعَالَى قل لآل يَعْقُوب وَعرف بني إِسْرَائِيل فقد سَمَّاهُ بعد ذَلِك يَعْقُوب وَهَذِه نِسْبَة الْكَذِب إِلَى الله تَعَالَى
فصل
ثمَّ قَالَ وَبينا إِسْرَائِيل بذلك الْموضع ضاجع رأوبين ابْن ليئة سَرِيَّة أَبِيه بلهة وَهِي أم دَان ونفثالى وهما أَخَوَاهُ وابنا يَعْقُوب ثمَّ أكد هَذَا بِأَن ذكر فِي قرب آخر السّفر الأول ذكر موت يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ومخاطبته لِبَنِيهِ ابْنا ابْنا وَأَن يَعْقُوب قَالَ لرؤابين ابْنه أَنَّك صعدت على سَرِير أَبِيك ووسخت فرَاشه وَلَيْسَ مِمَّا ابتذلت فِرَاشِي تخلص بعد أَن ذكر فِي توراتهم أَن شكيم بن حمور الحوى أَخذ دينة بنت يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام واضطجع مَعهَا وأذلها ثمَّ بعد ذَلِك خطبهَا إِلَى يَعْقُوب أَبِيهَا إِلَى أَن ذكر قتل لاوي وشمعون لحمور وشكيم ابْنه وَجَمِيع أهل مدينته وإنكار يَعْقُوب على ابنيه فتاهما لَهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ معَاذ الله أَن يخذل الله نبيه وَلَا يعصمه فِي حُرْمَة امْرَأَته وابنتيه من هَذِه الفضائح ثمَّ لَا يُنكر ذَلِك بِأَكْثَرَ من التعزيز الضَّعِيف فَقَط(1/111)
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وَأَوْلَاد يَعْقُوب اثْنَا عشر فأولاد ليئة رؤابين بكر يَعْقُوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون وَأَبْنَاء راحيل يُوسُف وبنيامين وابنا بلهة أمة راحيل دَان ونفثالى وابنا زلفة أمة ليئة جادا وأشير هَؤُلَاءِ بني يَعْقُوب الَّذين ولدُوا لَهُ بفدان ارام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب ظَاهر لِأَنَّهُ ذكر قبل أَن بنيامين لم يُولد ليعقوب إِلَّا باقراشا بِقرب بَيت لحم على أَرْبَعَة أَمْيَال من بَيت الْمُقَدّس بعد رحيله من فدان ارام بدهر وَالله تَعَالَى لَا يتَعَمَّد الْكَذِب وَلَا ينسى هَذَا النسْيَان
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وَكَانَ إِسْرَائِيل يحب يُوسُف لِأَنَّهُ كَانَ ولد لَهُ فِي شيخوخته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْعلَّة توجب محبَّة بنيامين لِأَنَّهُ ولد لَهُ بعد يُوسُف بازيد من سِتّ سِنِين بِنَصّ توراتهم وتوجب مُشَاركَة يساكر وزبولون فِي الْمحبَّة ليوسف لِأَنَّهُ ذكر قبل هَذَا أَن يَعْقُوب قَالَ للابان خَاله خدمتك عشْرين سنة من ذَلِك أَرْبَعَة عشر سنة لابنتيك وست سِنِين لأدواتك وَذكر أَن بعد سِنِين اعطاء ليئة وَبعد سَبْعَة أَيَّام أعطَاهُ راحيل لم يكن بَينهمَا إِلَّا سَبْعَة أَيَّام وَهُوَ اسبوع ليئة فَقَط وَأَن ليئة ولدت لَهُ روابين ثمَّ شَمْعُون ثمَّ لاوي ثمَّ يهوذا ثمَّ قعدت عَن الْوَلَد وَأَن راحيل أَعْطَتْ بعد ذَلِك يعفوب أمتها بلهة فَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ دانا ثمَّ نفثالى ثمَّ أَعْطَتْ ليئة أمتها زلفة ليعقوب فَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ جاداً ثمَّ أُشير ثمَّ أطلقت لَهُ راحيل مماسة ليئة فِي لقاح أَخَذتهَا مِنْهَا فَولدت لَهُ راحيل يُوسُف ثمَّ بعد ولادَة يُوسُف ابْتَدَأَ يَعْقُوب بمعاملة خَاله لابان على أُجْرَة ذكرهَا لرعاية غنمه فرعاها لَهُ سِتّ سِنِين هَذَا كُله نَص توراتهم فصح أَن يُوسُف كَانَ لَهُ عِنْد تَمام السِّت سِنِين سِتّ سِنِين فَقَط بِلَا شكّ وَإِن جَمِيع أَوْلَاد يَعْقُوب حاشا بنيامين فَإِنَّمَا ولدُوا وَلَا بُد فِي السَّبع سِنِين الَّتِي كَانَت قبل السِّت سِنِين الْمَذْكُورَة بِلَا شكّ وَالْأَوْلَاد سَبْعَة فَفِي كل عشرَة أشهر ولدت ولدا لَا يُمكن أقل من هَذَا فَلَا شكّ فِي أَن زابولون لَا يزِيد على يُوسُف إِلَّا سنة وَاحِدَة فَقَط وَلَا يزِيد عَلَيْهِ يساكر إِلَّا سنتَيْن فَقَط وَأَقل هَذَا على أَن تلغى الْمدَّة الَّتِي ذكرنَا أَن ليئة قعدت فِيهَا عَن الْوَلَد والمدة الَّتِي اعتزلها فِيهَا يَعْقُوب وَلَا بُد أَن لَهَا مِقْدَارًا مَا فعلى هَذَا فزابلون ويوسف ولدا مَعًا والمدة تضييق عَن هَذِه الْقِسْمَة فَفِي هَذَا الْخَبَر كذب مَقْطُوع بِهِ ضَرُورَة وَلَا بُد وَلَا يجوز قَلِيل الْكَذِب وَلَا كَثِيره على الله تَعَالَى وَلَا على نَبِي من الْأَنْبِيَاء فصح أَنَّهَا مفتعلة مبدلة وَلَو كَانَ لهَذَا الْخَبَر وَجه وَإِن غمض ومخرج وَإِن بعد أَو أمكنت فِيهِ حِيلَة أَو سَاغَ فِيهِ تَأْوِيل مَا ذَكرْنَاهُ ونسأل الله الْعَافِيَة وَفِي توراتهم عِنْد ذكر أَوْلَاد عيسو خبال شَدِيد وتخليط فِي الْأَسْمَاء والوالدات إِلَّا أَنه رُبمَا خرج على وُجُوه بعيدَة ضَعِيفَة فَلم نعتن بإيراده لذَلِك وَلَكِن نبهنا عَلَيْهِ فَالْأَظْهر الْأَغْلَب فِيهِ الْكَذِب وَأَنه إِيرَاد جَاهِل بِتِلْكَ الْقَضِيَّة بِلَا شكّ(1/112)
فصل
ثمَّ ذكر بيع إخْوَة يُوسُف ليوسف وَأَن إخْوَته كَانُوا مُجْتَمعين حِينَئِذٍ يرعون أذوادهم ثمَّ قَالَ وَفِي ذَلِك الزَّمَان اعتزل يهوذا عَن إخْوَته وَكَانَ مَعَ رجل من أهل عدلام يَدعِي اسْمه حيرة فَبَصر فِي ذَلِك الْموضع بابنة رجل كنعاني اسْمه شوع فَتَزَوجهَا وضاجعها فَحملت وَولدت ولدا اسْمه عيرًا ثمَّ حملت وَوضعت ثَانِيًا وَسَماهُ أنان ثمَّ حملت وَوضعت وسمته شيلة ثمَّ أَمْسَكت عَن الْوَلَد فزوج يهوذا عيرًا بكر وَلَده امْرَأَة وَكَانَ عيرًا بكر يهذا مذنباً بَين يَدي السَّيِّد وَلذَلِك قتل فَقَالَ يهوذا لِابْنِهِ أونان أَدخل إِلَى امْرَأَة أَخِيك وضاجعها لتحي نَسْله فَلَمَّا علم أَنه لَا ينْسب إِلَيْهِ من ولد لَهُ مِنْهَا دخل إِلَى مرأة أَخِيه وَكَانَ يعْزل عَنْهَا لِئَلَّا يُولد لِأَخِيهِ مِنْهُ وَلذَلِك أهلكه السَّيِّد للفاحشة الَّتِي اطلع عَلَيْهَا مِنْهُ فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ يهوذا لثامار كنته كوني أرملة فِي بَيت أَبِيك إِلَى أَن يكبر ابْني شيلة وَكَانَ يتَوَقَّع أَن يُصِيبهُ من الْمَوْت مَا أصَاب أَخَاهُ إِن ضاجعها فسكنت فِي بَيت أَبِيهَا وَبعد أَيَّام كَثِيرَة توفيت بنت شوع امْرَأَة يهوذا فتصبر يهوذا وتسلى عَنهُ حزنها وَتوجه إِلَى جزار أغنامه مَعَ حيرة صديقه العدلامي إِلَى تمنة وَقيل لثامار إِن خنتك صاعد إِلَى تمنة ليجز أغنامه فَأَلْقَت عَن نَفسهَا ثِيَاب الأرامب وتقنعت وَقَعَدت فِي مجمع الطّرق المسلوكة إِلَى تمنة فعلت ذَلِك مذ كبر شيلة وَلم تزوج مِنْهُ فَلَمَّا رَآهَا يهوذا ظَنّهَا زَانِيَة وَكَانَت غطت وَجههَا لِئَلَّا تعرف فَمَال إِلَيْهَا وَقَالَ ائذني لي فِي مضاجعتك وَكَانَ يجهل أَنَّهَا كنته فَقَالَت لَهُ مَاذَا تُعْطِينِي إِن أمكنتك من مضاجعتي قَالَ لَهَا أبْعث إِلَيْك جدياً من الْغنم فَقَالَت نعم إِن أَعْطَيْتنِي رهنا إِلَى أَن تبْعَث مَا وعدت فَقَالَ لَهَا يهوذا وَمَا أرهنه لَك قَالَت أرهن لي خاتمك وحزامك والعصا الَّتِي بِيَدِك فحبلت من مضاجعة وَاحِدَة ثمَّ انْطَلَقت وَأَلْقَتْ الشكل الَّتِي كَانَت فِيهِ وعادت إِلَى شكل الأرامل وَبعث يهوذا الجدي مَعَ صديقه العدلامي ليَأْخُذ من الْمَرْأَة الرَّهْن الَّذِي وَضعه عِنْدهَا فَسَأَلَ عَنْهَا إِذْ لم يجدهَا من سكان ذَلِك الْموضع فَقَالَ أَيْن الْمَرْأَة الْقَاعِدَة فِي مجمع الطّرق فَقَالُوا لَهُ لم تكن فِي هَذَا الْموضع زَانِيَة فَانْصَرف إِلَى يهوذا فَقَالَ لَهُ لم أَجدهَا وَقَالَ لي سكان ذَلِك الْموضع لم تكن هَهُنَا زَانِيَة فَقَالَ لَهُ يهوذا تَأْخُذ مَا عِنْدهَا مَخَافَة ان تكون ضحكة فَإِنِّي قد أرْسلت الجدي إِلَيْهَا وَأَنت تَقول لم أَجدهَا وَبعد ثَلَاثَة أشهر قيل ليهوذا إِن كنتك ثامار قد زنت وَقد بدا بَطنهَا يظْهر فَقَالَ يهوذا أخرجوها لتحرق فَلَمَّا أخرجت بعثت إِلَى يهوذا إِنَّمَا حبلت من الَّذِي لَهُ هَذَا فاعرف هَذَا الْخَاتم والزنار والعصا فَلَمَّا عرف قَالَ هِيَ أعدل مني إِذْ منعتها شيلة وَلَدي وَلم يضاجحعها بعد ذَلِك فَلَمَّا أدركتها الْولادَة ظهر فِيهَا توأمان فَفِي وَقت خروجهما بدر أَحدهمَا وَأخرج يَده فَربطت الْقَابِلَة فِي يَده خيطاً أرجواناً وَقَالَت هَذَا يخرج أَولا فَأدْخل يَده إِلَى تفسه وَأخرج الْوَلَد الآخر فَقَالَت لَهُ الْقَابِلَة لم افترضت أَخَاك فَسُمي فارصاً وَبعده خرج الَّذِي ربط فِي(1/113)
يَده الْخَيط الأرجوان وَسمي زارح تمّ الْفَصْل قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ثمَّ بعد فُصُول وقصص ذكر أَوْلَاد يَعْقُوب المولودين بالشأم الَّذين دخلُوا مَعَه مصر إِذْ بعث يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فيهم كلهم فَذكر يهوذا وبنيه الثَّلَاثَة الْأَحْيَاء شيلة وفارص وزارح وَذكر لفارص هَذَا نَفسه اثْنَيْنِ وهما حصرون وحامول ابْنا فارص ابْن يهوذا الْمَذْكُور قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَفِي هَذَا الْكَلَام عَار وفضيحة مكذوبة وَكذب فَاحش مفرط الْقبْح فَأَما الْعَار فَالَّذِي ذكر عَن يهوذا من طلبه الزِّنَا بِامْرَأَة لقيها فِي الطَّرِيق على أَن يُعْطِيهَا جدياً ثمَّ جوره فِي الحكم عَلَيْهَا بالحرق فَلَمَّا علم أَنه صَاحب الْخصْلَة أسقط الحكم عَن نَفسه وعنها ثمَّ شنعة أُخْرَى وَهِي قَوْله إِن ونان بن يهوذا لما عرف أَنه لَا ينْسب إِلَيْهِ من يُولد لَهُ من امْرَأَته الَّتِي تزَوجهَا بعد موت أَخِيه جعل يعْزل عَنْهَا وَهَذَا عجب جدا أَن تَلد امْرَأَة رجل من زَوجهَا من لَا ينْسب إِلَيْهِ لَكِن إِلَى غَيره مِمَّن قد مَاتَ قبل أَن يَتَزَوَّجهَا هَذَا فَلَعَلَّ فيهم الْآن ولادات وأنساب فِي كتبهمْ مثل هَذِه فَهَذِهِ وَالله أُمُور سمجة ثمَّ دع يهوذا فَلَيْسَ بنبيا وَلَا يُنكر مِمَّن لَيْسَ نَبيا مثل هَذَا إِنَّمَا الشَّأْن كُله وَالْعجب فِي أَنهم مطبقون بأجمعهم قطعا على أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام بن أشماي بن عونين بن يوغز بن بشاي بن مخشون ابْن عمينا ذاب بن نورام بن حصرون بن فارص الْمَذْكُور ابْن يهوذا فَجعلُوا الرسولين الفاضلين مولودين من تِلْكَ الْولادَة الخبيثة رَاجِعين إِلَى ولادَة الزِّنَا ثمَّ أقبح مَا يكون الزِّنَا رجل مَعَ امْرَأَة وَلَده حاشى لله من هَذَا الْإِفْك المفتري وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم إِذْ قَرّرته على هَذَا الْفَصْل إِن هَذَا كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ فَقلت لَهُ فَلم امْتنع من مضاجعتها بعد ذَلِك وَكَيف يكون مُبَاحا وَهِي لم تعرفه بِنَفسِهَا وَلَا عرفهَا عِنْد تِلْكَ الْمُعَامَلَة الخبيثة بالجدي المسخوط وَالرَّهْن الملعون وَإِنَّمَا وَطئهَا على أَنَّهَا زَانِيَة إِذا اغتلم إِلَيْهَا لَا على أَنَّهَا امْرَأَة الْمَيِّت وَلَده إِلَّا إِن قُلْتُمْ إِن الزِّنَا جملَة كَانَ مُبَاحا حِينَئِذٍ فقد قرت عيونكم فَسكت خزيان كالحاً وتالله مَا رَأَيْت أمة تقر بِالنُّبُوَّةِ وتنسب إِلَى الْأَنْبِيَاء مَا ينْسبهُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة فَتَارَة ينسبون إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه تزوج إِلَى أُخْته فَولدت لَهُ إِسْحَق عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى يَعْقُوب أَنه تزوج امْرَأَة فدست إِلَيْهِ أُخْرَى لَيست امْرَأَته فَولدت لَهُ أَوْلَادًا مِنْهُم انتسل مُوسَى وَهَارُون وَسليمَان وَغَيرهم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى روبان بن يَعْقُوب أَنه زنى بربيبته زوج النَّبِي أَبِيه وَأم أَخَوَيْهِ ثمَّ ينسبون إِلَى نبيه يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فسق بهَا كرها وافتضها غَلَبَة ثمَّ ينسبون إِلَى يهوذا مَا ذكرنَا من زِنَاهُ بِامْرَأَة ولديه فحبلت وَولدت من الزِّنَا ولدا مِنْهُ انتسل دَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى يُوشَع بن نون أَنه تزوج رحب الزَّانِيَة الْمَشْهُورَة الموقفة نَفسهَا للزِّنَا لكل من دب وهب فِي مَدِينَة أرِيحَا ثمَّ ينسبون إِلَى عمرَان بن فهث بن لاوي أَنه تزوج عمته أُخْت وَالِده وَاسْمهَا يوحانذ ولدت لجده بِمصْر فولد لَهُ مِنْهَا هَارُون(1/114)
ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام هَكَذَا ذكر نَسَبهَا فِي قرب آخر السّفر الرَّابِع ثمَّ ينسبون دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه زنى جهاراً بِامْرَأَة رجل من جنده مُحصنَة وَزوجهَا حَيّ وَأَنَّهَا ولدت مِنْهُ من ذَلِك الزِّنَا ابْنا ذكرا ثمَّ مَاتَ ذَلِك الفرخ الطّيب ثمَّ تزَوجهَا وَهِي أم سُلَيْمَان ابْن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام ثمَّ ينسبون إِلَى أمثون بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنه فسق بسراري أَبِيه عَلَانيَة أَمَام النَّاس ثمَّ ينسبون إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام العهر وَأَنه تزوج نسَاء لَا يحل لَهُ زواجهن وَأَنه بنى لَهُنَّ بيُوت الْأَوْثَان وَقرب لَهُنَّ القرابين للأوثان مَعَ مَا ذكرنَا قبل وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى من نسبتهم إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِم السَّلَام وَلَكِن أَيْن هَذَا مِمَّا فِي توراتهم من نسبتهم لعب الصراع إِلَى الله تَعَالَى مَعَ يَعْقُوب وَالْكذب المفضوح فِيمَا وعده وَأخْبر بِهِ فعلى من يصدق بِشَيْء من كل هَذَا الْإِفْك لعنة الله وغضبه فَأُعْجِبُوا لعَظيم كفر هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَمَا افتراه الْكَفَرَة أسلافهم الإنتان على الله تَعَالَى وعَلى رسله عَلَيْهِم السَّلَام ثمَّ على كل كتاب حقق فِيهِ شيءٌ من هَذَا وعَلى كَاتبه لعنة الله وغضبه عدد كل شيءٍ خلق الله فأحمدوا الله معاشر الْمُسلمين على مَا هدَاكُمْ لَهُ من الْملَّة الزهراء الَّتِي لم يشبها تَبْدِيل وَلَا تَحْرِيف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَأما الكذبة الْفَاحِشَة المفضوحة الَّتِي هِيَ من الْمحَال الْمَحْض والافتراء الْمُجَرّد فَهُوَ مَا أذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فتأملوه تروا عجبا ذكر فِي توراتهم نصا أَن يهوذا بن يَعْقُوب كَانَ مَعَ إخْوَته يرعون أذوادهم إِذْ باعوا أَخَاهُم يُوسُف وَأَن يهوذا أَشَارَ عَلَيْهِم بِبيعِهِ وإخراجه من الْجب ليخلصه بذلك من الْمَوْت ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَن يهوذا اعتزل عَن إخْوَته وَصَارَ مَعَ حيرة العدلامي وَرَأى ابْنة رجل كنعاني اسْمه شوع فَتَزَوجهَا وَولدت لَهُ ولد اسْمه عير ثمَّ ولدا آخر اسْمه أونان ثمَّ ولدا آخر اسْمه شيلة كَمَا ذكرنَا آنِفا حرفا حرفا وَذكر بعد ذَلِك أَن عير تزوج امْرَأَة اسْمهَا ثامار وَدخل بهَا وَكَانَ مذنباً وَلذَلِك قَتله الله تَعَالَى فَزَوجهَا من أَخِيه أونان فَكَانَ يعْزل عَنْهَا فَمَاتَ لذَلِك وَبقيت أرملة ليكبر شيلة وَتزَوج مِنْهُ وَأَن شيلة كبر وَلم تزوج مِنْهُ وَقد اعْترف بذلك يهوذا إِذْ قَالَ هِيَ أعدل مني إِذْ منعتها شيلة ابْني وَذكر بعد ذَلِك أَنَّهَا تحيلت حَتَّى زنت بيهوذا نَفسه وَالِد زَوجهَا وحبلت مِنْهُ وَولدت مِنْهُ توءمين فارص وزارح كَمَا ذكرنَا قبل ثمَّ ذكر بعد ذَلِك نسل يَعْقُوب وَأَوْلَاد أَوْلَاده المولودين بِالشَّام ودخلوا مَعَه مصر فَذكر فيهم حصرون وحامول ابْني فارص بن يهوذا فاضبطوا هَذَا وَذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ بلغ سِتّ عشرَة سنة كَانَ يرْعَى ذوداً مَعَ إخْوَته عِنْد أَبِيه وَأَنَّهُمْ باعوه فصح أَنه كَانَ ابْن سبع عشرَة سنة إِذْ باعوه وَهَكَذَا ذكر فِي توراتهم ثمَّ ذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا دخل على فِرْعَوْن وَفسّر لَهُ رُؤْيَاهُ فِي الْبَقَرَات والسنابل وولاه أَمر مصر ابْن ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ ذكر فِي توراتهم أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذْ دخل أَبوهُ مصر مَعَ جَمِيع أَهله ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة هَذَا مَنْصُوص فِيهَا بِلَا خلاف من وَاحِد مِنْهُم فصح يَقِينا أَنه لم يكن بَين دُخُول يَعْقُوب مَعَ نَسْله مصر وَبَين بيع يُوسُف إِلَّا اثْنَان وَعِشْرُونَ سنة وَرُبمَا أشهر يسيرَة زَائِدَة لَا أقل وَلَا أَكثر هَذَا حِسَاب ظَاهر لَا يخفى على جَاهِل وَلَا عَالم وَقد(1/115)
ذكر فِي توراتهم أَن فِي هَذِه الْمدَّة تزوج يهوذا بنت شوع وَولدت لَهُ ولدا ثمَّ ثَانِيًا ثمَّ ثَالِثا وَأَن الْأَكْبَر بلغ فزوج زَوْجَة ثمَّ مَاتَ بِعَدَد دُخُوله بهَا فزوجت بعده من أَخِيه فَكَانَ يعْزل عَنْهَا فَمَاتَ وَبقيت مُدَّة حَتَّى كبر الثَّالِث وَلم تزوج مِنْهُ فزنت بيهوذا وَالِد زَوجهَا فولد لَهُ مِنْهَا توءمان ثمَّ ولد لأحد ذَيْنك التوءمين ابْنَانِ وَهَذَا محَال مُمْتَنع لَا خَفَاء بِهِ لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي طبيعة بني بشر وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فِي الجبلة والبنية بِوَجْه من الْوُجُوه هبك أَن يهوذا اعتزل عَن إخْوَته وَتزَوج بنت شوع بائر بيع يُوسُف بِيَوْم وحبلت زَوجته وَولدت لَهُ الْوَلَد الْأَكْبَر فِي عامها الثَّانِي ثمَّ الثَّانِي فِي عَام آخر ثمَّ الثَّالِث فِي عَام ثَالِث وهبك أَن الْأَكْبَر زوج وَله اثْنَا عشر عَاما من جملَة اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما وَبَقِي مَعهَا مَا بَقِي ثمَّ زوجت منن الثَّانِي وَله اثْنَا عشر عَاما فَبَقيَ يعْزل عَنْهَا لِئَلَّا ينْسب إِلَى أَخِيه من يُولد لَهُ مِنْهَا ثمَّ مَاتَ وَبقيت تنْتَظر أَن يكبر شيلة وَتزَوج مِنْهُ حَتَّى طَال عَلَيْهَا وَرَأَتْ أَنه قد كبر وَلم تزوج مِنْهُ وَهَذَا لَا يكون الْبَتَّةَ فِي أقل من عَام فَهَذِهِ أَرْبَعَة عشر عَاما ثمَّ زنت بيهوذا فَحملت فَولدت فَهَذَا عَام أَو أقل بِيَسِير فَلم يبْق من الِاثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما إِلَّا سَبْعَة أَعْوَام إِلَى ثَمَانِيَة أَعْوَام لَا أَكثر الْبَتَّةَ فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع فِي الْعقل أَن يُوجد لرجل ابْن ثَمَان سنَن أَو سبع سِنِين ولدان مَا رَأَيْت أَجْهَل بِالْحِسَابِ من الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة وحاشى لله أَن يكون هَذَا الْخَبَر الْبَارِد الْكَاذِب عَن الله تَعَالَى أَو عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا عَن إِنْسَان يعقل مَا يَقُول ويستحي من تعمد الْكَذِب الفاضح ونسأل الله الْعَافِيَة
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر عدد بني يَعْقُوب المولودين بالشأم عِنْد خَاله لابان الداخلين مَعَه مصر فَذكر الَّذين ولدت لَهُ ليئة وهم سِتّ ذُكُور وَابْنَة وَاحِدَة وَذكر أَوْلَاد هَؤُلَاءِ السِّتَّة وَسَمَّاهُمْ فَذكر لرأوبين أَرْبَعَة ذُكُور ولشمعون سِتَّة ذُكُور وللاوي ثَلَاثَة ذُكُور وليهوذا ثَلَاثَة ذُكُور وَابْني ابْن لَهُ فهم خَمْسَة وليساخر أَرْبَعَة ذُكُور ولزابلون ثَلَاثَة ذُكُور الْمُجْتَمع من بني ليئة فِي نَص توراتهم بعقب تسميتهم هَؤُلَاءِ بَنو ليئة وَعدد أَوْلَادهَا وبناتها ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ هَكَذَا نَص توراتهم وَهَذَا خطاء فِي الْحساب تَعَالَى الله عَن أَن يخطىء فِي الْحساب أَو أَن يخطىء فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فصح أَنَّهَا من توليد جَاهِل غث أَو من عابث سخر بهم وكشف سواءتهم
فصل
ثمَّ ذكر بعد هَذَا أَوْلَاد راحيل فَذكر يُوسُف وبنيامين وبنيهما قَالَ وهم أَرْبَعَة عشر وَذكر أَوْلَاد زلفي عَاد وَأَشَارَ وبنيهما قَالَ وهم سِتَّة عشر وَذكر أَوْلَاد بلهة دَان نفتالى وبنيهما قَالَ وهم سَبْعَة ثمَّ وصل ذَلِك بِأَن قَالَ وَعدد نسل يَعْقُوب الَّذين دخلُوا مَعَه مصر سوى نسَاء أَوْلَاده سِتَّة وَسِتُّونَ وابنا يُوسُف اللَّذَان ولدا لَهُ بِمصْر اثْنَان فَجَمِيع الداخلين مصر سَبْعُونَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا خطأ فَاحش لِأَن الْمُجْتَمع من الْأَعْدَاد الْمَذْكُورَة تِسْعَة وَسِتُّونَ فَإِذا سَقَطت مِنْهُم وَلَدي يُوسُف اللَّذَان ولدا لَهُ بِمصْر بَقِي سَبْعَة وَسِتُّونَ وَهُوَ يَقُول سِتَّة وَسِتُّونَ فَهَذِهِ كذبة ثمَّ قَالَ فَجَمِيع الداخلين مَعَه إِلَى مصر سَبْعُونَ فَهَذِهِ كذبة ثَانِيَة وَقد قدمنَا أَن الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة كَانَ ضَعِيف البصارة بِالْحِسَابِ وَلَيْسَت هَذِه صفة الله عز وَجل وَلَا صفة من مَعَه مسكة عقل تردعه عَن الْكَذِب وتعمده على الله تَعَالَى وَعَن تكلّف(1/116)
مَا لَا يحسن وَلَا يقوم بِهِ وَذكر فِي هَذَا الْفَصْل قصَّة أُخْرَى فِيهَا الِاعْتِرَاض إِلَّا أَنَّهَا تخرج على وَجه مَا فَلذَلِك لم نفرد لَهَا فصلا وَهِي أَنه ذكر أَوْلَاد بنيامين فَقَالَ بالع وباكر واشبيل واجير ونعمان وابجي وروش ومفيم وحفيم وَارِد ثمَّ ذكر فِي السّفر الرَّابِع من توراتهم فَذكر بالع واشبيل واجير ومفيم وحفيم فَقَط ثمَّ قَالَ وابنا بالع ازد ونعمان ابْني بالع فَإِن لم يكن هَذَا على أَنه لم ينسل من أُولَئِكَ الْعشْرَة إِلَّا خَمْسَة الَّذين ذكرهم فِي الرَّابِع وَإِن ازد ونعمان ابْني بالع هما غير ازد ونعمان ابْني بنيامين وَإِلَّا فَهِيَ كذبة وَقد قُلْنَا إِن كل مَا يُمكن تَخْرِيجه بِوَجْه وَإِن بعد فلسنا نخرجهُ فِي فضائح كِتَابهمْ المكذوب
فصل
ثمَّ ذكر بركَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام على بنيه وَأَنه وضع يَده الْيُمْنَى على رَأس افرايم ابْن يُوسُف واليسرى على رَأس منسي بن يُوسُف وَإِن ذَلِك شقّ على يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ لَا يحسن هَذَا يَا أَبَت لِأَن هَذَا بكر وَلَدي فَاجْعَلْ يَمِينك عَن رَأسه يَعْنِي منسي فكره ذَلِك يَعْقُوب وَقَالَ علمت يَا بني علمت وستكثر ذُرِّيَّة هَذَا وتعظم وَلَكِن أَخُوهُ الْأَصْغَر يكون أَكثر مِنْهُ نَسْلًا وعدداً يَعْنِي أَن افرايم يكون عدد نَسْله أَكثر من عدد نسل منسي ثمَّ ذكر فِي مصحف يُوشَع أَن بني منسي كَانُوا إِذا دخلُوا الشَّام وَقسمت عَلَيْهِم الأَرْض اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مقَاتل وَسَبْعمائة وَإِن بني أفرايم كَانُوا حِينَئِذٍ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألفا وَخَمْسمِائة وَذكر فِي كتاب لَهُم مُعظم عِنْدهم اسْمه سفطيم أَنه ذكر بني إِسْرَائِيل قبل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعَة من مُلُوك بني منسي وَأَرْبَعَة من بني أفرايم وَأَن من جملَة بني منسي الْمَذْكُورين رجلا اسْمه مِفْتَاح بن علفاذ قتل من بني أفرايم اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف مقَاتل حَتَّى كَاد يَسْتَأْصِلهُمْ وَفِي كتاب لَهُم آخر مُعظم عِنْدهم أَيْضا اسْمه ملاخيم أَنه ملك عشرَة أَسْبَاط من بني إِسْرَائِيل بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن ذهب الأسباط الْمَذْكُورين وَسبوا من بني أفرايم ملكَيْنِ كَانَت مدتهما جَمِيعًا سِتَّة وَعشْرين سنة فَقَط وهما باريعام وَابْنه باباط ووليهم من بني منشا خَمْسَة مُلُوك واتصلت دولتهم مائَة عَام وعامين وهم زحربا بن يربعم بن يؤاش بن يَهو ياحاز بن يَهو كلهم ملك بن ملك بن ملك بن ملك بن ملك وَلم يكن فِيمَن ملك الأسباط الْعشْرَة أقوى ملكا من هَؤُلَاءِ المنشانين وَهَذَا ضد قَول يَعْقُوب الَّذِي حكوه عَنهُ وحاشى لله أَن يكذب نَبِي فِيمَا ينذر بِهِ من الله عز وَجل فَإِن قَالُوا إِن يُوشَع بن نون وربور انسه وملحي المورشي النَّبِي كلهم كَانَ من بني أفرايم وَكَانَ بَنو أفرايم إِذْ أخرجُوا من مصر أَرْبَعِينَ ألف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل ومائتي مقَاتل وَكَانَ بَنو منشا يَوْمئِذٍ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ألف مقَاتل ومائتي مقَاتل قُلْنَا لم تَذكرُوا أَن يَعْقُوب قَالَ يكون الشّرف فِي نسل أفرايم إِنَّمَا حكيتم أَنه قَالَ إِن أفرايم يكون أَكثر نَسْلًا وعددا من منشا على التَّأْبِيد والعموم وإيصال الْبركَة لَا على وَقت خَاص قَلِيل ثمَّ يعود الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك فَتبْطل الْبركَة وَيصير الْمُبَارك مُدبرا وَالْمُدبر مُبَارَكًا فِي الْأَبَد
فصل
ثمَّ ذكر عَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لرأوبين فِي ذَلِك الْوَقْت أَنْت أول الْمَوَاهِب مفضل فِي الشّرف فِي الْعِزّ وَلَا تفضل منهملة مَاء(1/117)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَلَام يكذب أَوله آخِره
ثمَّ ذكر أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ليهوذا حِينَئِذٍ لَا تَنْقَطِع من يهوذا المخصرة وَلَا من نَسْله قَائِد حَتَّى يأتيني الْمَبْعُوث الَّذِي هُوَ رَجَاء الْأُمَم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا كذب قد انْقَطَعت من ولد يهوذا المخصرة وانقطعت من نَسْله القواد وَلم يَأْتِ الْمَبْعُوث الَّذِي هُوَ رجاءهم وَكَانَ انْقِطَاع الْملك من ولد يهوذا من عهد بخت نصر مذ أَزِيد من ألف عَام وَخَمْسمِائة عَام إِلَّا مُدَّة يسيرَة وَهِي مُدَّة زرباءيل بن صلثاءيل فَقَط وَقد قررت على هَذَا الْفَصْل أعلمهم وأجدلهم وَهُوَ أشموال بن يُوسُف اللاوي الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن النفرال فِي سنة أَربع وَأَرْبَعمِائَة فَقَالَ لي لم تزل رُؤْس الجواليت ينتسلون من ولد دَاوُود وهم من بني يهوذا وَهِي قيادة وَملك ورياسة فَقلت هَذَا خطأ لِأَن رَأس الجالوت لَا ينفذ أمره على أحد من الْيَهُود وَلَا من غَيرهم وَإِنَّمَا هِيَ تَسْمِيَة لَا حَقِيقَة لَهَا وَلَا لَهُ قيادة وَلَا بِيَدِهِ مخصرة فَكيف وَبعد احرب بِابْن برام لم يكن من بني يهوذا وَال أصلا مُدَّة من سِتَّة أَعْوَام ثمَّ بعده نَشأ الملقب صدقيا بن يوشا لم يكن مِنْهُم لأحد لَهُ معِين وَلَا من يملك على أحد اثْنَيْنِ وَسبعين عَاما مُتَّصِلَة حَتَّى ولي زرباييل ثمَّ انْقَطع الْوُلَاة مِنْهُم جملَة لَا رَأس جالوت وَلَا غَيره مُدَّة وُلَاة الهارونيين ملكا ملكا مئين من السنين لَيْسَ لأحد من يهوذا فِي ذَلِك أَمر إِلَى دولة الْمُسلمين أَو قبلهَا بِيَسِير فأوقعوا اسْم رَأس الجالوت على رجل من بني دَاوُد إِلَى الْيَوْم إِلَّا أَن بعض المؤرخين القدماء ذكر أَن هردوس وابنيه وَابْن ابْنه اعريفاس بن اعريفاس كَانُوا من بني يهوذا وَالْأَظْهَر أَنهم من الرّوم عِنْد كل مؤرخ فَظهر كذب هَؤُلَاءِ الأنذال بِيَقِين وحاشى لله أَن يكذب نَبِي
فصل
ثمَّ ذكر أَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للاوي وشمعون سأبددهما فِي يَعْقُوب وأفرقهما فِي إِسْرَائِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما لاوي فَكَانَ نَسْله مبدداً فِي بني إِسْرَائِيل كَمَا ذكر وَأما بَنو شَمْعُون فَلَا بل كَانُوا مُجْتَمعين فِي الْبَلَد الَّذِي وَقع لَهُم كَسَائِر الأسباط وَلَا فرق وَلَيْسَ إنذار النُّبُوَّة مِمَّا يكذب فِي قصَّة وَيصدق فِي أُخْرَى هَذِه صِفَات إنذارات الْحساب القاعدين على الطّرق للنِّسَاء وَلمن لَا عقل لَهُ
فصل
وَقَالَ فِي السّفر الثَّانِي من توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قل لفرعون السَّيِّد يَقُول لإسرائيل بكر وَلَدي وَيَقُول لَك ائْذَنْ لوَلَدي ليخدمني وَإِن كرهت الْآن سأهلك بكر ولدك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا عجب ناهيك بِهِ لَيْت شعري ماذ يُنكرُونَ على النَّصَارَى بعد هَذَا وَهل طرق لِلنَّصَارَى سَبِيل الْكفْر فِي أَن يجْعَلُوا لله ولدا ونهج لَهُم طَرِيق التَّثْلِيث على مَا ذكرنَا قبل هَذَا إِلَّا هَذِه الْكتب الملعونة المبدلة إِلَّا أَن النَّصَارَى لم يدعوا بنوة لله إِلَّا لوَاحِد أَتَى بمعجزات عَظِيمَة وَأما هَذِه الْكتب السخيفة وكل من(1/118)
تدين بهَا فَإِنَّهُم ينسبون بنوةً لله إِلَى جَمِيع بني إِسْرَائِيل وهم أوسخ الْأُمَم وأرذلهم وكفرهم أوحش وجهلهم أفحش
فصل
ثمَّ ذكر أَن هَارُون ألْقى الْعَصَا بَين يَدي فِرْعَوْن وعبيده فَصَارَت حَيَّة فدعى فِرْعَوْن بالعلماء والسحرة وفعلوا بالرقى الْمصْرِيّ مثل ذَلِك وَلَكِن عَصا مُوسَى ازدرت عصيهم ثمَّ ذكر مُوسَى وَهَارُون فعلا مَا أَمرهمَا السَّيِّد فَرفع الْعَصَا وَضرب بهَا مَاء النَّهر بَين يَدي فِرْعَوْن وعبيده فَعَاد دَمًا وَمَات كل حوت فِيهِ ونتن النَّهر وَلم يجد المصريون سَبِيلا إِلَى الشّرْب مِنْهُ وَصَارَ المَاء فِي جَمِيع أَرض مصر دَمًا فَفعل مثل ذَلِك سحرة مصر برقاهم ثمَّ ذكر أَن هَارُون مد يَده على مياه مصر وَخرجت الضفادع مِنْهَا وغطت أَرض مصر فَفعل السَّحَرَة برقاهم مثل ذَلِك وَأَقْبلُوا بالضفادع على أَرض مصر ثمَّ ذكر أَن هَارُون مد يَده بالعصا وَضرب بهَا غُبَار الأَرْض فتخلق مِنْهَا بعوض فِي الْآدَمِيّين والأنعام وَعَاد جَمِيع الْغُبَار بعوضاً فِي جَمِيع أَرض مصر فَلم يفعل السَّحَرَة مثل ذَلِك برقاهم وراموا اختراع البعوض فَلم يقدروا عَلَيْهِ فَقَالَ السَّحَرَة لفرعون هَذَا من صنع الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه الآبدة المصمئلة والصيلم المطبقة وَلَو صَحَّ هَذَا لبطلت نبوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بل نبوة كل نَبِي وَلَو قدر السَّحَرَة على شيءٍ من جنس مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِي لَكَانَ بَاب السَّحَرَة وَبَاب مدعي النُّبُوَّة وَاحِدًا وَلما انْتفع مُوسَى بازدراء عَصَاهُ لعصييهم وَلَا بعجزهم عَن البعوض وَقد قدرُوا على قلب العصي حيات وعَلى إِعَادَة المَاء دَمًا وعَلى الْمَجِيء بالضفادع وَلما كَانَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِم بنبوته أَكثر من أَنه أعلم بذلك الْعَمَل مِنْهُم فَقَط وَلَو كَانَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الكذابون الملعونون لَكَانَ فِرْعَوْن صَادِقا فِي قَوْله إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر وَلَا مَنْفَعَة لَهُم فِي قَول السَّحَرَة فِي البعوض هَذَا صنع الله لِأَنَّهُ يُقَال لبني إِسْرَائِيل فعلى مُوجب قَول السَّحَرَة لم يكن من صنع الله قلب الْعَصَا حَيَّة وَالْمَاء دَمًا والمجيء بالضفادع بل من غير صنع الله وَهَذِه عَظِيمَة تقشعر مِنْهَا الْجُلُود أَيْن هَذَا الْإِفْك المفترى الْبَارِد من نور الْحق الباهر إِذْ يَقُول الله عز وَجل {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن قَالُوا إِن لنا لأجراً إِن كُنَّا نَحن الغالبين قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ لمن المقربين قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وجاؤوا بِسحر عَظِيم وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ فغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين رب مُوسَى وَهَارُون} وَإِذ يَقُول تَعَالَى {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} فَأخْبر عز وَجل أَن الَّذِي عمل(1/119)
ومسى حق وَأَن عَصَاهُ صَارَت ثعباناً على الْحَقِيقَة بقوله تَعَالَى {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} فصح أَنه تبين ذَلِك لكل من رَآهُ يَقِينا وَأخْبر أَن الَّذِي عمل السَّحَرَة إِنَّمَا هُوَ إفْك وتخييل وَكيد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي تشهد بِهِ الْعُقُول لَا مَا فِي الْكتاب الْمُبدل المحرف فصح أَن فعل السَّحَرَة حِيلَة مموهة لَا حَقِيقَة لَهَا وَهَذَا الَّذِي يُصَحِّحهُ الْبُرْهَان إِذْ لَا يحِيل الطبائع إِلَّا خَالِقهَا شَهَادَة لرسله وأنبيائه وفرقاً بَين الصدْق وَالْكذب لَا قَوْلهم عمل السَّحَرَة مثل مَا عمل مُوسَى فِي وَقت تَكْلِيفه برهانٌ على صدق قَوْله وَعند تحديه لَهُم على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ إِن كَانُوا صَادِقين وَهُوَ كَاذِب فَأتوا بِمثلِهِ فانظروا النتيجة يَرْحَمكُمْ الله هَذِه سُورَة تشهد شَهَادَة قَاطِعَة صَادِقَة بِأَن صانع ذَلِك الْكتاب الملعون المكذوب الَّذِي يسمونه الحماس وَيدعونَ أَنه توراة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ زنديقاً مستخفاً بالباري تَعَالَى وَرُسُله وَكتبه وحاش لمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ وَأَنَّهُمْ إِلَى الْآن يَزْعمُونَ أَن إِحَالَة الطبائع وقلب الْأَجْنَاس عَن صفاتها الذاتية إِلَى أَجنَاس أخر واختراع الْأُمُور فِي المعجزات الْبَيِّنَة يقدر على ذَلِك بالرقي والصناعات وَعَلمُوا أَن من صدق بِهَذَا مُبْطل للنبوة بِلَا مرية إِذْ لَا فرق بَين النَّبِي وَغَيره إِلَّا فِي هَذَا الْبَاب فَإِذا أمكن لغير النَّبِي فَلم يبْق إِلَّا دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَلَقَد شاهدناهم متفقين إِلَى الْيَوْم على أَن رجلا من عُلَمَائهمْ بِبَغْدَاد دخل من بَغْدَاد إِلَى قُرَيْظَة فِي يَوْم وَاحِد وَأنْبت قرنين فِي رَأس رجل من بني الإسكندري كَانَ سَاكِنا بِقرب دَار الْيَهُود عِنْد فندق الحرقة كَانَ يُؤْذِي يهود تِلْكَ الْجِهَة ويسخر مِنْهُم وَهَذِه كذبة وفضيحة لَا نَظِير لَهَا والموضع مَشْهُور عندنَا بقرطبة دَاخل الْمَدِينَة وَبَنُو عبد الْوَاحِد بن يزِيد الإسكندري من بَيته رفيعة مَشْهُورَة أدركنا آخِرهم كَانَت فيهم وزارة وعمالة لَيْسَ فيهم مغمور وَلَا خَفِي إِلَى أَن بادوا مَا عرف قطّ أحد مِنْهُم هَذِه الأحموقة الْمُخْتَلفَة وَالْقَوْم بِالْجُمْلَةِ أكذب الْبَريَّة أسلافهم وأخلافهم وعَلى كَثْرَة مَا شاهدنا مِنْهُم مَا رَأَيْت فيهم قطّ متحرياً للصدق إِلَّا رجلَيْنِ فَقَط
فصل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي قصَّة قلب المَاء دَمًا فضيحة أُخْرَى ظَاهِرَة الْكَذِب وَهِي أَن فِي نَص الْكَلَام الَّذِي يزعمونه التَّوْرَاة ثمَّ قَالَ السَّيِّد لمُوسَى قل لهارون مد يدك بالعصا على مياه مصر وأنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها لتعود دَمًا وَتصير مَاء فِي آنِية التُّرَاب والخشب دَمًا فَفعل مُوسَى وَهَارُون كَمَا أَمرهمَا السَّيِّد إِلَى قَوْله وَصَارَ المَاء فِي جَمِيع أَرض مصر دَمًا فَفعل مثل ذَلِك سحرة مصر برقاهم وَاشْتَدَّ قلب فِرْعَوْن وَلم يسمع لَهما على حَال ثمَّ انْصَرف فِرْعَوْن وَدخل بَيته وَلم يُوَجه قلبه إِلَى هَذَا أَيْضا وحفر جَمِيع المصريين حوالي النَّهر ليصيبوا المَاء مِنْهَا لأَنهم لَا يقدرُونَ على شرب المَاء من النَّهر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا نَص كِتَابهمْ فَأخْبر أَن كل مَاء كَانَ بِمصْر فِي أنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها وأواني الْخشب وَالتُّرَاب وَالْمَاء كُله فِي جَمِيع أَرض(1/120)
مصر صَار دَمًا فَأَي مَاء بَقِي حَتَّى تقلبه السَّحَرَة دَمًا كَمَا فعل مُوسَى وَهَارُون أَبى الله إِلَّا فضيحة الْكَذَّابين وخزيهم فَإِن قَالُوا قلبوا مَاء الْآبَار حَتَّى حفرهَا المصريون حول النَّهر قُلْنَا لَهُم فَكيف عَاشَ النَّاس بِلَا مَاء أصلا أَلَيْسَ هَذِه فضائح مرددة وَهل يخفى إِن هَذَا من توليد ضَعِيف الْعقل أَو زنديق مستخف لَا يُبَالِي بِمَا أَتَى بِهِ من الْكَذِب ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَقُول لفرعون سَتَكُون يَدي على مكسبك الَّذِي لَك فِي الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شَدِيد وَيظْهر السَّيِّد هَذَا فِي الأَرْض فَفعل السَّيِّد ذَلِك فِي يَوْم آخر وَمَاتَتْ جَمِيع دَوَاب المصريين وَلم يمت لبني إِسْرَائِيل دَابَّة فَاشْتَدَّ قلب فِرْعَوْن وَلم يَأْذَن لَهُم ثمَّ ذكر بعد ذَلِك أَمر الله تَعَالَى مُوسَى بِأَن يَأْخُذ مَا حملت الْكَفّ من رماد الكانون وَيُلْقِيه إِلَى السَّمَاء بَين يَدي فِرْعَوْن ليصير غباراً فِي جَمِيع أَرض مصر فَيكون فِي الْآدَمِيّين والأنعام خراجات ونفاطات فَأخذ رَمَادا من كانون ووقف بَين يَدي فِرْعَوْن ورماه مُوسَى إِلَى السَّمَاء وَصَارَت مِنْهُ نفاطات فِي الْآدَمِيّين والأنعام وَلم تقدر السَّحَرَة على الْوُقُوف عِنْد مُوسَى لما كَانَ أَصَابَهُم من ألم النفاطات وَكَانَ مثل ذَلِك فِي جَمِيع أَرض مصر والسحرة فَشدد الله قلب فِرْعَوْن وَلم يسمع لَهما على حَال مَا عهد السَّيِّد إِلَى مُوسَى وَبعد ذَلِك قَالَ إِن الله أَمر مُوسَى أَن يَقُول لفرعون غَدا هَذَا الْوَقْت أمطر بردا كثيرا جدا لم ينزل مثله على مصر من الْيَوْم الَّذِي أسست فِيهِ إِلَى هَذَا الْوَقْت فَابْعَثْ واجمع أنعامك وكل من تملكه فِي الفدان فَكل مَا أدْركهُ الْبرد فِي الفدان وَلم يدْخل الْبيُوت فَمن خَافَ وَعِيد السَّيِّد من عبيد فِرْعَوْن أَدخل عبيده وأنعامه فِي الْبيُوت وَمن استهان بوعيد السَّيِّد أبقى عبيده وأنعامه فِي الفدان وَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى مد يدك إِلَى السَّمَاء لينزل الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر فَمد مُوسَى يَده بالعصا فَأتى السَّيِّد بالرعد وَالْبرد الْمُخْتَلف على الأَرْض ثمَّ أمطر السَّيِّد الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر مخلوطاً بِنَار وَلم ينزل بعظمة فِي تِلْكَ الأَرْض من حِين سكن ذَلِك الْجِنْس فَأهْلك الْبرد فِي جَمِيع أَرض مصر كل مَا ظهر بِهِ فِي الْفَدادِين من الْآدَمِيّين والأنعام وَجَمِيع عشبهما وَكسر جَمِيع شَجَرهَا وَلم ينزل مِنْهُ شَيْء فِي أَرض قَوس حَيْثُ كَانُوا بَنو إِسْرَائِيل(1/121)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ تأملوا هَذَا الْكَذِب الهجين اللائح ذكر أَولا أَن مُوسَى أَتَى بالوباء وَأخْبر عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ لفرعون سأهلك مكسبك الَّذِي فِي الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك فعمم جَمِيع النَّاس مَا أَدخل فِي الْبيُوت وَمَا لم يدْخل يعم جَمِيع الْحَيَوَان صنفا صنفا ثمَّ أخبر أَن جَمِيع دَوَاب المصريين مَاتَ وَلم تمت لبني إِسْرَائِيل وَلَا دَابَّة ثمَّ ذكر أَمر النفاطات ثمَّ ذكر أَمر الْبرد وَأَن مُوسَى أنذر فِرْعَوْن من الله تَعَالَى وَأمره بِإِدْخَال أنعامه فِي الْبيُوت وَأَن مَا أدْرك الْبرد مِنْهَا فِي الفحص يهْلك فليت شعري أَي دَابَّة بقيت لفرعون وَأهل مصر وَقد ذكر أَن الوباء أهلك جَمِيعهَا وَأَيْنَ الْإِبِل وَالْحمير وَالْخَيْل وَالْغنم وَالْبَقر أَلَيْسَ هَذَا عجبا وَلَيْسَ يُمكن أَن يَقُول إِن دَوَاب بني إِسْرَائِيل هَلَكت آخرا إِذْ سلمت أَولا لِأَنَّهُ قد بَين أَنه لم يَقع من الْبرد شيءٌ فِي أَرض قَوس حَيْثُ سُكْنى بني إِسْرَائِيل وَلم يكن بَين آيَة وَآيَة بإقرارهم وَقت يُمكن فِيهِ جلب أنعام إِلَيْهِم من بلد آخر لأه لم يكن بَين آيَة وَآيَة إِلَّا يَوْم أَو يَوْمَانِ أَو قريب من ذَلِك ومصر وَاسِعَة الْأَعْمَال وَلَا تتصل بشيءٍ من العمائر بل بَين جَمِيع انْتِهَاء أقطارها من كل جِهَة وَبَين أقرب العمائر إِلَيْهَا مسيرَة أَيَّام كَثِيرَة كالشام وبلاد الغرب وَأَرْض النّوبَة والسودان وأفريقة فَظهر كذب من عمل ذَلِك الْكتاب الْمُبدل المحرف المفترى الَّذِي يزعمونه التَّوْرَاة وحاش لله من ذَلِك وَالْحَمْد لله على السَّلامَة من مثل عَمَلهم وضلالهم كثيرا
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وَكَانَ مسكن بني إِسْرَائِيل بِمصْر أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ سنة فَلَمَّا انْقَضتْ هَذِه السنون خرج ذَلِك الْيَوْم معسكر السَّيِّد من أَرض مصر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه فضيحة الدَّهْر وشهرة الْأَبَد قاصمة الظّهْر يَقُول هَا هُنَا إِن مسكن بني إِسْرَائِيل بِمصْر أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثُونَ سنة وَقد ذكر قبل أَن قاهاث بن لاوي دخل مصر مَعَ جده يَعْقُوب وَمَعَ أَبِيه لاوي وَمَعَ سَائِر أَعْمَامه وَبني أَعْمَامه وَإِن عمر قاهاث بن لاوي الْمَذْكُور كَانَ مائَة سنة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ سنة وَأَن عمرَان بن قاهاث بن لاوي الْمَذْكُور كَانَ إِلَّا خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر مَعَ نَفسه ابْن ثَمَانِينَ سنة هَذَا كُله مَنْصُوص كَمَا نذكرهُ فِي الْكتاب الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه التَّوْرَاة فهبك أَن قاهاث دخل مصر ابْن شهر أَو أقل وَأَن عمرَان ابْنه ولد بعد مَوته وَأَن مُوسَى بن عمرَان ولد بعد موت أَبِيه لَيْسَ يجْتَمع من كل ذَلِك إِلَّا ثَلَاثمِائَة عَام وَخَمْسُونَ عَاما فَقَط فَأَيْنَ الثَّمَانُونَ عَاما الْبَاقِيَة من جملَة أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة فَإِن قَالُوا نضيف إِلَى ذَلِك مُدَّة بَقَاء يُوسُف بِمصْر قبل دُخُول أَبِيه وَإِخْوَته قُلْنَا قد بَين فِي التَّوْرَاة أَنه كَانَ إِذْ دَخلهَا ابْن سبع عشرَة سنة وَأَنه كَانَ إِذْ دَخلهَا أَبوهُ وَإِخْوَته ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة فَإِذن كَانَ مقَامه بِمصْر قبل أَبِيه وَإِخْوَته اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة ضمهَا إِلَى ثلثمِائة سنة وَخمسين سنة يقوم من الْجَمِيع بِلَا شكّ ثَلَاثمِائَة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ سنة أَيْن الثماني وَالْخَمْسُونَ الْبَاقِيَة من أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثِينَ(1/122)
سنة هَذِه شهرة لَا نَظِير لَهُ وَكذب لَا يخفى على أحد وباطل يقطع بِأَنَّهُ لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يَعْتَقِدهُ أحد فِي رَأسه شيءٌ من دماغ صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكذب الله تَعَالَى فِي دقيقة وَلَا أَن يكذب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامِدًا وَلَا مخطئاً فِي دقيقة فيقره الله تَعَالَى على ذَلِك فَكيف وَلَا بُد أَن يسْقط من هَذِه الْمدَّة سنّ قاهاث إِذْ ولد لَهُ عمرَان وَسن عمرَان إِذْ ولد لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالصَّحِيح الَّذِي يخرج على نُصُوص كتبهمْ أَن مُدَّة بني إِسْرَائِيل مذ دخل يَعْقُوب وَبَنوهُ مصر إِلَى أَن خَرجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم تكن إِلَّا مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَهَذِهِ كذبة فِي مِائَتي عَام وَثَلَاثَة عشر عَاما وَلَو لم يكن فِي توراتهم إِلَّا هَذِه الكذبة وَحدهَا لكفت فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَة مبدلة من حمَار فِي جَهله أَو مستخف سخر بهم وَلَا بُد
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ وَعند ذَلِك مجد مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل بِهَذِهِ السُّورَة وَقَالُوا مجد بِنَا السَّيِّد فَإِنَّهُ يعظم ويشرف وَأغْرقَ فِي الْبَحْر الْفرس وراكبه قوتي ومديحي للسَّيِّد وَقد صَار خلاصي هَذَا إلهي أمجده وإله أبي أعظمه السَّيِّد قَاتل كَالرّجلِ الْقَادِر وَفِي السّفر الْخَامِس اعلموا أَن السَّيِّد إِلَهكُم الَّذِي هُوَ نارٌ أكول
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه سوءة من السوءات لتشبيه الله عز وَجل بِالرجلِ الْقَادِر ويخبر بِأَنَّهُ نَار هَذِه مُصِيبَة لَا تجبر وَلَقَد قَالَ بَعضهم أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول عنْدكُمْ {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قلت نعم وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سَأَلَهُ أَبُو ذَر هَل رَأَيْت رَبك فَقَالَ نورٌ أَنى أرَاهُ وَهَذَا بَين ظَاهر أَنه لم يعن النُّور المرئي لَكِن نور لَا يرى فلاح أَن معنى نور السَّمَوَات وَالْأَرْض إِذْ ثَبت أَنه لَيْسَ هُوَ النُّور المرئي الملون أَنه الْهَادِي لأهلهما فَقَط وَأَن النُّور اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى فَقَط وَأما قَوْله تَعَالَى {مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة} إِلَى قَوْله {وَلَو لم تمسسه نَار} فَإِنَّهُ شبه نوره الَّذِي يهدي بِهِ أولياءه بِالْمِصْبَاحِ الَّذِي ذكر فَإِنَّهُ شبه مخلوقاً بمخلوق وَبَيَان ذَلِك قَوْله تَعَالَى مُتَّصِلا بالْكلَام الْمَذْكُور فِي الْآيَة نَفسهَا {نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء} فصح مَا قُلْنَاهُ يَقِينا من أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عَنى بنوره هداه للْمُؤْمِنين فَقَط وَهَذَا أصح تَشْبِيه يكون لِأَن نور هداه فِي ظلمَة الْكفْر كالمصباح فِي ظلمَة اللَّيْل
فصل
ثمَّ وصف الْمَنّ النَّازِل عَلَيْهِم من السَّمَاء فَقَالَ وَكَانَ أَبيض شَبِيها بزريعة الكزبر ومذاقه كالسميد المعل ثمَّ قَالَ فِي السّفر الرَّابِع كَانَ الْمَنّ شَبِيها بزريعة الكزبر ولونه إِلَى الصُّفْرَة وَكَانَ طعمه كطعم الْخبز المعجون بالزيت
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا تنَاقض فِي الصّفة واللون والطعم وَإِحْدَى الصفتين تكذب الْأُخْرَى بِلَا شكّ
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ إِن الله عز وَجل قَالَ لبني إِسْرَائِيل لقد رَأَيْتُمُونِي كلكُمْ من السَّمَاء فَلَا تَتَّخِذُوا معي آلِهَة الْفضة ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك ثمَّ صعد مُوسَى وَهَارُون وناداب وابيهو وَسَبْعُونَ رجلا من الْمَشَايِخ ونظروا إِلَى إِلَه إِسْرَائِيل وَتَحْت رجلَيْهِ كلبنة من زمرد فيروزي وكسماء صَافِيَة وَلم يمد الرب يَده إِلَى خِيَار بني(1/123)
إِسْرَائِيل الَّذين نظرُوا إِلَى الله وأكلوا وَشَرِبُوا وَقَالَ بمقربة من ذَلِك وَكَانَ منظر عَظمَة السَّيِّد كنار آكِلَة فِي قرن الْحِيَل يرَاهُ جمَاعَة من بني إِسْرَائِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا تجسيم لَا شكّ فِيهِ وتشبيه لَا خَفَاء بِهِ وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْل الله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَلَا كَقَوْلِه تَعَالَى {إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَلَا كَقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينزل الله تبَارك وَتَعَالَى كل لَيْلَة فِي ثلث اللَّيْل الْبَاقِي إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا لِأَن هَذَا كُله على ظَاهره بِلَا تكلّف تَأْوِيل إِنَّمَا هِيَ أَفعَال يَفْعَلهَا الله عز وَجل تسمى مجيئاً وإتياناً وتنزلاً وَلَا مثل قَوْله تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} {وَيبقى وَجه رَبك} وَسَائِر مَا فِي الْقُرْآن من مثل هَذَا فكله لَيْسَ بِمَعْنى الْجَارِحَة لَكِن على وُجُوه ظَاهِرَة فِي اللُّغَة قد بيناها فِي غير هَذَا الْمَكَان عمدتها إِن كل ذَلِك خبر عَن الله تَعَالَى لَا يرجع بِشَيْء من ذَلِك إِلَى سواهُ أصلا ثمَّ كَيفَ يجْتَمع مَا ذكرنَا عَن توراتهم مَعَ قَوْله فِي السّفر الْخَامِس كلمكم الله من وسط اللهيب فسمعتم صَوته وَلم تروا لَهُ شخصا وَهَاتَانِ قضيتان تكذب كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الْأُخْرَى وَلَا بُد
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ فَلَمَّا أَطَالَ مُوسَى الْمقَام اجْتمع بَنو إِسْرَائِيل إِلَى هَارُون وَقَالُوا قُم واعمل لنا إِلَهًا يتقدمنا فإننا لَا نَدْرِي مَا أصَاب مُوسَى الرجل الَّذِي أخرجنَا من مصر فَقَالَ لَهُم هَارُون اقلعوا أقراط الذَّهَب عَن آذان نِسَائِكُم وَأَوْلَادكُمْ وبناتكم وائتوني بهَا فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ وأتوه بالأقراط فَلَمَّا قبضهَا هَارُون أفرغها وَعمل لَهُم مِنْهَا عجلاً وَقَالَ هَذَا إِلَهكُم يَا بني إِسْرَائِيل الَّذِي أخرجكم من مصر فَلَمَّا بصر بهَا هَارُون بنى مذبحاً بَين يَدي الْعجل وبرح مسمعاً غَدا عيد السَّيِّد فَلَمَّا قَامُوا صباحاً قربوا لَهُ قرباناً وأهدوا لَهُ هَدَايَا وَقَعَدت الْعَامَّة تَأْكُل وتشرب وَقَامُوا للعب ثمَّ ذكر إقبال مُوسَى وَأَنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تتغنى وَبعد ذَلِك ذكر أَنه قَالَ لهارون مَاذَا فعلت بك هَذِه الْأمة إِذْ جعلتم تذنبون ذَنبا عَظِيما فَقَالَ لَهُ هَارُون لَا تغْضب سَيِّدي فَإنَّك تعرف رَأْي هَذِه الْأمة فِي الشَّرّ قَالُوا لي اعْمَلْ لنا إِلَهًا يتقدمنا لأننا نجهل مَا أصَاب مُوسَى الَّذِي أخرجنَا من مصر فَقلت لَهُم من كَانَ عِنْده مِنْكُم ذهب فليقبل بِهِ إِلَيّ وألقيته فِي النَّار وَخرج لَهُم مِنْهُ هَذَا الْعجل فَلَمَّا رأى مُوسَى الْقَوْم قد تعروا وَكَانَ هَارُون قد عراهم بِجَهَالَة قلبه وصيرهم بَين يَدي أعدائهم عُرَاة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا الْفَصْل عَفا على مَا قبله وطم عَلَيْهِ أَن يكون هَارُون وَهُوَ نَبِي مُرْسل يتَعَمَّد أَن يعْمل لِقَوْمِهِ إِلَهًا يعبدونه من دون الله عز وَجل وينادي عَلَيْهِ غَدا عيد السَّيِّد وَيَبْنِي للعجل مذبحاً ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ثمَّ يجردهم ويكشف استاههم للرقص وللغناء أَمَام الْعجل إِلَّا أَن تكون أَحَق(1/124)
استاه كشفت إِن هَذَا لعجبٌ نَبِي مُرْسل كَافِر مُشْرك يعْمل لِقَوْمِهِ إِلَهًا من دون الله أَو يكون الْعجل ظهر من غير أَن يتَعَمَّد هَارُون عمله فَهَذِهِ وَالله معْجزَة كمعجزات مُوسَى وَلَا فرق إِلَّا أَن هَذَا هُوَ الضلال والتلبيس والإشكال والتدليس المبعد عَن الله تَعَالَى إِذْ لَو كَانَ هَذَا لما كَانَ مُوسَى أولى بالتصديق من عَابِد الْعجل الملعون أَتَرَى بعد استخفاف النذل الَّذِي عمل لَهُم هَذِه الخرافة بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام اسْتِخْفَافًا حاش لله من هَذَا أَو ترَوْنَ بعد حمق من يُؤمن بِأَن هَذَا من عِنْد مُوسَى رَسُول الله وكليمه عَن الله تَعَالَى حمقاً نحمد الله على الْعَافِيَة أَيْن هَذَا الهوس الْبَارِد وَالْكذب المفترى من نور الْحق الَّذِي يشْهد لَهُ الْعقل بِالصِّحَّةِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الله عز وَجل حَقًا إِذْ يَقُول فِي هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا مَا لَا يُمكن سواهُ {وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم عجلاً جسداً لَهُ خوارٌ ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين} وَقَوله عز وَجل {فَكَذَلِك ألْقى السامري فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضراً وَلَا نفعا وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَلا تتبعن أفعصيت أَمْرِي قَالَ يَا ابْن أم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بني إِسْرَائِيل وَلم ترقب قولي} وَقَوله {ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني} فَهَذَا هُوَ الصدْق حَقًا إِنَّمَا عمل لَهُم الْعجل الْكَافِر الضال السامري وَأما هَارُون فنهاهم عَنهُ جهده وَإِنَّهُم عصوه وكادوا يقتلونه وَقد بَين الصُّبْح لذِي عينين ولاح صدق قَوْله تَعَالَى من كذب الآفكين وَأما الخوار فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس مَا لَا يجوز سواهُ وَأَنه إِنَّمَا كَانَ دوِي الرّيح تدخل من قبله وَتخرج من دبره وَهَذَا هُوَ الْحق لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه لَا يكلمهم وَلَو خار من عِنْد نَفسه لَكَانَ ضربا من الْكَلَام ولكانت حَيَاة فِيهِ وَهُوَ محَال إِذْ لَا تكون معْجزَة وَلَا إِحَالَة لغير نَبِي أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي خلال هَذِه الْفُصُول ذكر أَن الله عز وَجل قَالَ لمُوسَى دَعْنِي أغضب عَلَيْهِم وأهلكهم وأقدمك على أمة عَظِيمَة وَأَن مُوسَى رغب إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ تذكر إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَإِسْحَاق عبيدك الَّذين خلقتهمْ بِيَدِك وَقلت لَهُم سأكثر ذريتكم حَتَّى يَكُونُوا كنجوم السَّمَاء وأورثتهم جَمِيع هَذِه الأَرْض الَّتِي وعدتهم بهَا ويملكونها فحن السَّيِّد وَلم يتم مَا كَانَ أَرَادَ إنزاله من الْمَكْرُوه بأمته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل عجائب أَحدهَا إخْبَاره بِأَن الله تَعَالَى لم يتم مَا أَرَادَ إنزاله من الْمَكْرُوه بهم وَكَيف يجوز أَن يُرِيد الله عز وَجل إهلاك قوم قد تقدم وعده لَهُم بِأُمُور وَلم يُتمهَا لَهُم بعد وحاش لله من أَن يُرِيد إخلاف وعده فيريد الْكَذِب(1/125)
وَثَانِيها نسبتهم البدآء إِلَى الله عز وَجل وحاش لله من ذَلِك وَالْعجب من إِنْكَار من أنكر مِنْهُم النّسخ بعد هَذَا وَلَا نكرَة فِي النّسخ لِأَنَّهُ فعل من أَفعَال الله أتبعه بِفعل آخر من أَفعاله مِمَّا قد سبق فِي علمه كَونه كَذَلِك وَهَذِه صفة كل مَا فِي الْعَالم من أَفعاله تَعَالَى وَأما البداء فَمن صِفَات من يهم بالشَّيْء ثمَّ يَبْدُو لَهُ غَيره وَهَذِه صفة المخلوقين لَا صفة من لم يزل لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء يَفْعَله فِي المستأنف وَثَالِثهَا قَوْله فِيهَا ويملكونها وَهَذَا كذب ظَاهر مَا ملكوها إِلَّا مُدَّة ثمَّ خَرجُوا عَنْهَا إِلَى الْأَبَد وَالله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يخلف وعده
فصل
وَبعد هَذَا ذكر أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى اذْهَبْ واصعد من هَذَا الْموضع أَنْت وَأمتك الَّتِي أخرجت من مصر إِلَى الأَرْض الَّتِي وعدت بهَا مقسمًا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب لأورثها نسلهم وَابعث بَين يَديك ملكا لَا خراج الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين تدخل فِي أَرض تفيض لَبَنًا وَعَسَلًا لست أنزل مَعكُمْ لأنكم أمة قساة الرّقاب لِئَلَّا تهْلك بِالطَّرِيقِ فَلَمَّا سَمِعت الْعَامَّة هَذَا الْوَعيد الشَّديد عجبت وَلم تَأْخُذ زينتها فَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى قل لبني إِسْرَائِيل أَنْتُم أمة قد قست رِقَابكُمْ سَأُنْزِلُ عَلَيْكُم مرّة وأهلككم فضعوا زينتكم لأعْلم مَا أفعل بكم وَبعد ذَلِك بفصول قَالَ إِن مُوسَى قَالَ لله تَعَالَى إِن كنت سَيِّدي عني رَاضِيا فَأَنا أَرغب إِلَيْك أَن تذْهب مَعنا وَبعد ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى سأخرج بنفسي بَين يَديك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل كذبتان وتشبيه مُحَقّق أما الكذبتان فأحدهما قَوْله أَنه سيبعث بَين يَدي مُوسَى ملكا لإِخْرَاج الْأَعْدَاء وَأما هُوَ تَعَالَى فَلَيْسَ ينزل مَعَهم ثمَّ نزل مَعَهم وَهَذَا كذب لَا مخلص مِنْهُ تَعَالَى الله عَن هَذَا وحاش لَهُ من أَن يَقُول سأفعل ثمَّ لَا يفعل وَأَن يَقُول لَا أفعل ثمَّ يفعل وَالثَّانيَِة قَوْله إِنِّي سَأُنْزِلُ إِلَيْكُم مرّة وأهلككم ثمَّ لم يفعل حاش لله من هَذَا وَأما التَّشْبِيه الْمُحَقق فإقتناعه من أَن ينزل بِنَفسِهِ واقتصاره على أَن يبْعَث ملكا لنصرتهم ثمَّ أجَاب إِلَى النُّزُول مَعَهم وَهَذَا مَا لَا يسوغ فِيهِ مَا يسوغ فَمن حَدِيث التَّنْزِيل من أَنه فعل بِفِعْلِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا لَكَانَ إرْسَال الْملك أقوى مَا يُوجد فِي الْعَالم فَإذْ قد بَطل فقد صَحَّ أَنه نزُول نقلة وَلَا بُد
فصل
وَفِي خلال هَذِه الْفُصُول قَالَ وَكَانَ السَّيِّد يكلم مُوسَى مُوَاجهَة فَمَا بِفَم كَمَا يكلم الْمَرْء صديقه وَإِن مُوسَى رغب إِلَى الله تَعَالَى أَن يرَاهُ وَأَن الله تَعَالَى قَالَ لَهُ سأدخلك فِي حجر وأحفظك بيميني حَتَّى أجتاز ثمَّ أرفع يَدي وتبصر ورائي لِأَنَّك لَا تقدر أَن ترى وَجْهي فَفِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ تَشْبِيه شنيع قَبِيح جدا من إِثْبَات آخر بِخِلَاف الْوَجْه وَهَذَا لَا مخرج مِنْهُ
فصل
وَفِي السّفر الثَّالِث أَن الْبَارِي تَعَالَى قَالَ لَهُ من ضاجع امْرَأَة عَمه أَو خَاله أَو كشف عَورَة بنته فيحملان جَمِيعًا ذنوبهما ويموتان من غير أَوْلَاد(1/126)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ كُنَّا ذكرنَا أننا لَا نخرج عَلَيْهِم من توراتهم كلَاما لَا يفهم مَعْنَاهُ إِذْ للقائل أَن يَقُول قد أصَاب الله بِهِ مَا أَرَادَ لَكِن هَذَا الْمَكَان لم يتَخَلَّف فِيهِ وعدنا لِأَنَّهَا شَرِيعَة مكلفة ملزمة وَمن الْمحَال أَن يُكَلف الله النَّاس عملا لَا يفهمونه وَلَا يعْقلُونَ معنى الْأَمر بِهِ
فصل
وَفِي السّفر الرَّابِع ذكر أَن عدد بني إِسْرَائِيل الخارجين من مصر القادرين على الْقِتَال خَاصَّة من كَانَ ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا كَانُوا سِتّمائَة ألف مقَاتل وَثَلَاثَة آلَاف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل وَخمسين مقَاتل وَأَنه لَا يدْخل فِي هَذَا الْعدَد من كَانَ لَهُ أقل من سِتّمائَة ألف رجل وَألف رجل وَسَبْعمائة رجل وَثَلَاثُونَ رجلا لم يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَأَن على هَؤُلَاءِ قسمت الأَرْض المغنومة وعَلى النِّسَاء وعَلى من كَانَ دون الْعشْرين أَيْضا وَفِي كتبهمْ أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أحصى فِي أَيَّامه بني إِسْرَائِيل فَوجدَ بني يهوذا خَاصَّة خَمْسمِائَة ألف مقَاتل وَوجد التِّسْعَة الأسباط الْبَاقِيَة حاشى بني لاوي وَبني بنيامين فَلم يحصهما ألف ألف مقَاتل غير ثَلَاثِينَ ألفا سوى النِّسَاء وَسوى من لَا يقدر على الْقِتَال من صبي أَو شيخ أَو مَعْذُور وكل هَؤُلَاءِ إِنَّمَا كَانُوا فِي فلسطين والأردن وَبَعض عمل الْغَوْر فَقَط والبلد الْمَذْكُور بحالته كَمَا كَانَ لم يزدْ بالاتساع وَلَا نقص وَفِي كتبهمْ أَيْضا أَن ابْنا ابْن يربعام بن سُلَيْمَان بن دَاوُد قتل من الْعشْرَة الأسباط من بني إِسْرَائِيل خَمْسمِائَة ألف رجل وَأَن ابْنا قتل اثْنَيْنِ وَخمسين ألف مقَاتل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ الْبَلَد الْمَذْكُور بَاقٍ لم ينقص وَلَا صغرت أرضه وَحده بإقرارهم فِي الْجنُوب غَزَّة وعسقلان ورحج وطرق من جبال الشراة بلد عيسو وَلَا خلاف بَينهم فِي أَنهم لم يملكُوا قطّ قَرْيَة فَمَا فَوْقهَا من هَذِه الْبِلَاد وَأَنَّهُمْ لم يزالوامن أول دولتهم إِلَى آخرهَا محاربين مرّة لنَبِيّ إِسْرَائِيل ومراراً عَلَيْهِم وحد ذَلِك الْبَلَد فِي الْقرب الْبَحْر الشَّامي وَحده فِي الشمَال صور وصيدا وأعمال دمشق الَّتِي لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنهم لم يملكُوا قطّ مِنْهَا مضرب وتد وَأَنَّهُمْ لم يزَالُوا من أول دولتهم إِلَى آخرهَا محاربين لَهُم فَمرَّة عَلَيْهِم وَمرَّة لَهُم وَفِي أَكثر ذَلِك يملكُونَ بني إِسْرَائِيل ويسومونهم سوء الْعَذَاب وَمرَّة يخرج بَنو إِسْرَائِيل عَن ملكهم فَقَط وحد الْبَلَد الْمَذْكُور فِي الشرق بِلَاد مواب وعمون وَقطعَة من صحراء الْعَرَب الَّتِي هِيَ الفلوات والرمال وَلَا خلاف بَينهم فِي أَن نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى وَبني إِسْرَائِيل إِلَى هُنَا لَا تَحَارَبُوا بني عيسو وَلَا بني مواب وَلَا بني عمون فَإِنِّي لم أورثكم من بِلَادهمْ وَطْأَة قدم فَمَا فَوْقهَا لِأَنِّي قد ورثت بَين عيسو وَبني لوط هَذِه الْبِلَاد كَمَا ورثت بني إِسْرَائِيل تِلْكَ الَّتِي وعدتهم بهَا وَأَنَّهُمْ لم يزَالُوا من أول دولتهم إِلَى آخرهَا يحاربونهم فَمرَّة يملكهم بَنو عمون وَبَنُو مواب وَمرَّة يخرجُون عَن رقهم فَقَط وَطول بِلَاد بني إِسْرَائِيل الْمَذْكُورَة بمساححة الْخُلَفَاء المحققة من عقبَة أنيق وَهِي على أَرْبَعَة وَخمسين ميلًا من دمشق إِلَى طبرية ثَمَانِيَة أَمْيَال وَهِي جبل أفرايم إِلَى الطّور اثْنَي عشر ميلًا إِلَى اللجون اثْنَي عشر ميلًا إِلَى علمين عِنْدهمَا(1/127)
يَنْقَطِع عمل الْأُرْدُن ومبدأ عمل فلسطين ميل وَاحِد إِلَى الرملة نَحْو أَرْبَعِينَ ميلًا إِلَى عسقلان ثَمَانِيَة عشر ميلًا وَمَوْضِع الرملة هُوَ كَانَ آخر عمل بني إِسْرَائِيل فَذَلِك ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ميلًا وَعرضه من الْبَحْر الشَّامي إِلَى أول عمل جبل الشراة وَأول عمل مواب وَأول عمل عمان نَحْو ذَلِك أَيْضا وَعمل صَغِير شَرْقي الْأُرْدُن يُسمى الْغَوْر فِيهِ مَدِينَة بيسان يكون أقل من ثَلَاثِينَ ميلًا فِي ثَلَاثِينَ ميلًا وَلَا يزِيد وَكَانَ هَذَا الْعَمَل الَّذِي بشرقي الْأُرْدُن بزعمهم وَقع لبني رؤابين وَبني جادا وَنصف بني منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ يصلح لرعي الْمَوَاشِي وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَصْحَاب بقر وغنم فَأُعْجِبُوا لهَذَا الْكَذِب المفضوح وَهَذَا الْمحَال الْمُمْتَنع أَن تكون الْمسَافَة الْمَذْكُورَة تقسم أرْضهَا على عدد يكون ابْنا الْعشْرين مِنْهُم فَصَاعِدا خَاصَّة أَزِيد من سِتّمائَة ألف فَأَيْنَ من دون الْعشْرين وَأَيْنَ النِّسَاء وَالْكل بزعمهم أَخذ سَهْمه من الأَرْض الْمَذْكُورَة ليعيش من زَرعهَا وثمرتها وَاعْلَمُوا أَنه لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِي المساحة الْمَذْكُورَة على أَن تكون مساحة كل قَرْيَة ميلًا فِي ميل مزارعها ومشاجرها إِلَّا سِتَّة آلَاف قَرْيَة وَمِائَتَا قَرْيَة هَذَا على أَن يكون جَمِيع الْعَمَل الْمَذْكُور عمراناً مُتَّصِلا لَا مرج فِيهِ وَلَا شجر وَلَا أَرض محجرة لَا تعمر وَلَا أَرض مرملة وَلَا سبخَة ملح كَذَلِك وَهَذَا محَال أَن يكون فعلي هَذَا يَقع لكل قَرْيَة من الرِّجَال الْمَذْكُورين مائَة رجل أَو نَحْو ذَلِك سوى من هُوَ دون الْعشْرين بَينهم وَسوى النِّسَاء وَلَا سَبِيل الْبَتَّةَ على هَذَا أَن يدركوا فِيهَا المعاش وَهَذَا كذب لَا خَفَاء بِهِ لَا سِيمَا إِذْ بلغُوا ألف ألف مقَاتل وَخَمْسمِائة مقَاتل سوى من لَا يُقَاتل وَسوى النِّسَاء أَيْن هَذَا الْكَذِب الْبَارِد من الْحق الْوَاضِح فِي قَول الله تَعَالَى حاكياً عَن فِرْعَوْن أَنه قَالَ إِذْ تبع بني إِسْرَائِيل {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} هَذَا الَّذِي لَا يجوز غَيره وَلَا يُمكن سواهُ أصلا وكذبة أُخْرَى وَهِي أَنهم ذكرُوا فِي كتاب يُوشَع أَن الْبَلَد الْمَذْكُور كَانَ فِيهِ من المدن فِي سهم بني يهوذا مائَة مَدِينَة وَأَرْبَعَة مدن وَفِي سهم بني شَمْعُون سبع عشرَة مَدِينَة وَفِي سهم بنيامين ثَمَان وَعِشْرُونَ مَدِينَة وَفِي سهم بني زبلون اثْنَي عشر مَدِينَة وَفِي سهم بني نفتالي تسع عشرَة مَدِينَة وَفِي سهم بني دَان ثَمَان عشرَة مَدِينَة فَذَلِك مِائَتَا مَدِينَة وَاثْنَتَانِ وست وَثَلَاثُونَ مَدِينَة قَالَ فِي الْكتاب الْمَذْكُور سوى قراها لَا يحصيها إِلَّا الله عز وَجل وَذكر فِيهِ أَنه وَقع لنصف بني منشا بن يُوسُف بشرقي الْأُرْدُن باشان وعملها وَأَن مدائنهم المحصنة سِتُّونَ مَدِينَة سوى قراها لَا يحصيها إِلَّا الله فالمجتمع من هَذِه المدن الْمَذْكُورَة ثَلَاث مائَة مَدِينَة غير أَربع مدن وَلم يذكر عدد مَدَائِن بني رؤابين وَلَا عدد مَدَائِن بني عادو وَلَا عدد مَدَائِن نصف بني منشا لذِي بغرب الْأُرْدُن وَلَا مَدَائِن بني أفرايم وَهَذِه الأسباط الَّتِي لم تذكر مدنها تقع على مَا توجبه توراتهم فِي الرّبع من جَمِيع بني إِسْرَائِيل يَقع لَهُم على هَذَا الْحساب نَحْو مائَة مَدِينَة إِذا ضمت إِلَى الْعدَد الَّذِي ذكرنَا فتمام الْجَمِيع نَحْو أَرْبَعمِائَة مَدِينَة فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الشُّهْرَة أَن تكون الْبقْعَة الَّتِي قد ذكرنَا مساحتها على قلتهَا وتفاهتها تكون فِيهَا هَذِه المدن وَقد ذكر أَن نصف سبط بني منشا الَّذين وَقَعُوا بشرقي الْأُرْدُن وَوَقع فِي خطهم سِتُّونَ مَدِينَة كَانُوا سِتَّة وَعشْرين ألف رجل مقاتلين كلهم لَيْسَ فيهيم ابْن أقل من عشْرين سنة وَالْعَمَل بَاقٍ إِلَى الْيَوْم لَعَلَّه اثْنَي عشر ميلًا فِي مثلهَا مَا رَأَيْت(1/128)
أقل حَيَاء من الَّذِي كتب لَهُم تِلْكَ الْكتب المرذولة وسخم بهَا وُجُوههم ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
ويتصل بِهَذَا الْفَصْل فصل آخر هُوَ أشنع مِنْهُ فِي شهرة الْكَذِب وشنعة الْمحَال وَظُهُور التوليد وبشاعة الإفتعال وَذكر فِي صدر السّفر الثَّانِي إِذْ ذكر خُرُوج بني إِسْرَائِيل عَن مصر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يعد بني إِسْرَائِيل بعد خُرُوجهمْ من مصر بِسنة وَاحِدَة وَشهر وَاحِد فَقَط فعد جَمِيع قبائلهم فَقَالَ هَؤُلَاءِ أكَابِر الْبيُوت فِي قبائلهم حنوك وفلو وحصرون وكرمي وهم بَنو رؤابين بكر ولد إِسْرَائِيل هَذِه قبائيل رؤابين وَذكر فِي أول السّفر الرَّابِع أَن مقدمهم كَانَ اليصور بن شدّ يئور وَأَن عَددهمْ كَانَ سِتَّة وَأَرْبَعين ألف رجل لم يعد مِنْهُم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق الْحَرْب وَذكر فِي صدر السّفر الثَّانِي فَقَالَ وَبَنُو شَمْعُون يموئيل ويامين وأوهد وياكين وصوحر وشأول بن الكنعانية هَذِه قبائل شَمْعُون وَذكر فِي أول السّفر الرَّابِع أَن مقدمهم كَانَ شلو ميئيل بن صور يشداي وَأَن عَددهمْ كَانَ تِسْعَة وَخمسين ألف رجل لم يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق الْحَرْب وَقَالَ فِي صدر السّفر الثَّانِي هَذِه تَسْمِيَة بني لاوي فِي قبائلهم جرشون وقهاث ومراري وابنا جرشون لبني وشمعي فِي قبائلهما وَبَنُو قهاث عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل وَابْن مراري ومحلى وموشي هَذِه أَنْسَاب بني لاوي فِي قبائلهم فَتزَوج عمرَان يوكابد عمته فَولدت لَهُ مُوسَى وَهَارُون وَبَنُو يصهار قورح ونافج وذكري وَبَنُو قورح أُشير والقانة وابيا ساف وَبَنُو عزيئيل ميشائيل والصافان وستري فَتزَوج هَارُون إِلَى اليشابع بنت عمينا دَاب أُخْت نحشون فَولدت لَهُ ناداب وابيهوا والعازار وايثامار فَتزَوج العازار بن هَارُون فِي بَنَات بني فوطيئيل فَولدت فيخاس وَقَالَ فِي صدر السّفر الرَّابِع فَكلم السَّيِّد مُوسَى فِي مغار سينا وَقَالَ لَهُ عدد بني لاوي فِي بيُوت آبَائِهِم وأهاليهم فَكل ذكر ابْن شهر فَصَاعِدا حسبهم مُوسَى كَمَا عهد إِلَيْهِ السَّيِّد فَوجدَ ولد لاوي على أسمائهم مسمين جرشون وقهاث ومراري وَولد جرشون لبني وشمعي وَولد قهاث عمرام ويصهار وعزيئيل وَولد مراري محلي وموشي وَأَنه عد عَامَّة ذُكُور بني جرشون ابْن شهر فَصَاعِدا فَكَانُوا سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة كَانُوا فِي ساقة الْقبَّة فِي الغرب تَحت أَيدي الياساف بن لايل وَبعد ذَلِك ذكر أَنه حسب ألفي رجل وسِتمِائَة رجل وَثَلَاثِينَ رجلا ثمَّ قَالَ هَذِه نِسْبَة قهاث خرج مِنْهُ رَهْط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فَحسب من كَانَ مِنْهُم ذكرا ابْن شهر فَصَاعِدا فَوَجَدَهُمْ ثَمَانِيَة آلَاف رجل وسِتمِائَة ذكر مقدمهم لصافان بن عزيئيل الْمَذْكُور وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا فِي جنوب الْقبَّة حاشا مُوسَى وَهَارُون وأولادهما فَإِنَّهُم يكونُونَ أَمَام الْقبَّة فِي الشرق وَأَنه حسب من كَانَ مِنْهُم ابْن ثَلَاثِينَ سنة إِلَى ابْن خمسين سنة فَقَط فَوَجَدَهُمْ ألفي رجل وَسَبْعمائة رجل وَخمسين رجلا وَذكر أَنه حسب بني مراري محلي وموشي بني مراري(1/129)
وَمن كَانَ مِنْهُم ابْن شهر فَصَاعِدا من الذُّكُور فَوَجَدَهُمْ سِتَّة آلَاف وَمِائَتَيْنِ مقدمهم صوريئيل ابْن أبيحايل وَأمرهمْ أَن يَكُونُوا فِي شمال الْقبَّة وَأَنه حسب من كَانَ مِنْهُم ابْن ثَلَاثِينَ سنة فَصَاعِدا إِلَى خمسين سنة فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَة آلَاف رجل ومائتي رجل وَبعد أَن ذكر من كَانَ من بني لاوي ابْن شهر فَصَاعِدا من الذُّكُور كَمَا أوردنا قَالَ فَجَمِيع اللاويين الَّذين حسب مُوسَى وَهَارُون من كل ذكر من ابْن شهر فَصَاعِدا اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا وَأَن السَّيِّد أوحى إِلَى مُوسَى أَحسب بكور ذُكُور ولد إِسْرَائِيل الذُّكُور من ابْن شهر فَصَاعِدا وَتَأْخُذ لي اللاويين عَن بكور جَمِيع ولد إِسْرَائِيل فعد مُوسَى بكور ولد بني إِسْرَائِيل الذُّكُور من ابْن فَصَاعِدا فَوَجَدَهُمْ اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة وَسبعين فَقَالَ السَّيِّد لمُوسَى خُذ بني لاوي عَن بكور ذُكُور ولد إِسْرَائِيل ليَكُون بَنو لاوي لي وَعَن الْمِائَتَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالسبْعين الزائدين عَن عدد بني لاوي تَأْخُذ عَن كل وَاحِد خَمْسَة أشقال بِوَزْن الهيكل فَأخذ مُوسَى دَرَاهِم الزائدين فبلغت ألفا وثلاثمائة وَخَمْسَة وَسِتِّينَ شقلا وَأَعْطَاهَا لهارون وَولده على مَا عهد عَلَيْهِ السَّيِّد ثمَّ ذكر فِي سفر يُوشَع أَن العازار بن هَارُون بِنَفسِهِ أَتَى إِلَى يُوشَع بن نون إِذْ فتحت الأَرْض المقدسة وَكَلمه فِي أَن يُعْطي بن لاوي مَدَائِن للسُّكْنَى فَفعل وَأَنه وَقع لبني هَارُون خَاصَّة ثَلَاث عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن بن يهوذا وبنيامين وشمعون وَأَنه وَقع لسَائِر بني قاهاث بن لاوي عشر مَدَائِن بني دَان وَبني أفرايم وَنصف سبط منشا الَّذين مَعَ سَائِر الأسباط وَأَنه وَقع لبني جرشون بن لاوي ثَلَاث عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن يساخر وَأَشَارَ ونفتالي وَنصف سبط منشا الَّذِي بشرقي الْأُرْدُن وَأَنه وَقع لبني مراري بن لاوي ثِنْتَيْ عشرَة مَدِينَة من مَدَائِن بني زابلون وَبني رؤابين وجاد ابْن يَعْقُوب بشرقي الْأُرْدُن فَذَلِك لبني لاوي ثَمَان وَأَرْبَعُونَ مَدِينَة وَذكر فِي السّفر الرَّابِع أَنه أحصى أَيْضا بني جاد ابْن يَعْقُوب الرِّجَال خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب فَوَجَدَهُمْ خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف رجل وَخمسين رجلا مقدمهم الياساف بن رعوئيل وَأَنه أحصى بني يهوذا الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَة وَسبعين ألفا وسِتمِائَة رجل وَقد ذكر قبل وَبعد أَن هَذَا الْعدَد كُله إِنَّمَا هم من ولد شيلة وفارص وزارح بني يهوذا فَقَط مقدمهم نحشون عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون ابْن فارص بن يهوذا بن إسراءيل وَأَنه أحصى بني يساحر الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم نثنائيل بن صوغر وَأَنه أحصى بني زبلون الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ سَبْعَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم الياب بن حيلون وَأَنه حسب بني يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ اثْنَيْنِ وَسبعين ألف رجل وَسَبْعمائة رجل مِنْهُم من ولد أفرايم بن(1/130)
يُوسُف أَرْبَعُونَ ألف رجل وَخَمْسمِائة رجل ومقدمهم اليشمع بن عميهود وَمن ولد منشا بن يُوسُف اثْنَان وَثَلَاثُونَ ألف رجل وَمِائَتَا رجل مقدمهم جمليئيل بن فدهصور وَأَنه حسب بني بنيامين الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَكَانُوا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم ابيدن بن جدعوني وَأَنه حسب بني دَان الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا من المبارزين للحرب خَاصَّة فَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ ألف رجل وَسَبْعمائة رجل مقدمهم أخيعزر بن عميشداي وَكلهمْ من ولد حوشيم بن دَان وَأَنه حسب بني أُشير الذُّكُور خَاصَّة من كَانَ مِنْهُم ابْن عشْرين فَصَاعِدا من المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ أحدا وَأَرْبَعين ألف رجل وَخَمْسمِائة رجل مقدمهم فجعيئيل ابْن عكران وَأَنه حسب بني نفتالي من كَانَ مِنْهُم من الذُّكُور خَاصَّة ابْن عشْرين فَصَاعِدا المبارزين للحرب خَاصَّة فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَة وَخمسين ألف رجل وَأَرْبَعمِائَة رجل مقدمهم أخيرع ابْن عينن وَأَن هَذَا الْحساب كَانَ بعد عَام وَاحِد وَشهر وَاحِد من خُرُوجهمْ من مصر حاشا قسْمَة الْمَدَائِن الْمَذْكُورَة وَأَنَّهَا بعد دُخُولهمْ فلسطين والأردن فَلْيتَأَمَّل كل ذِي تَمْيِيز صَحِيح من الْخَاصَّة والعامة هَذَا الْكَذِب الْفَاحِش الَّذِي لَا خَفَاء بِهِ والمحال الْمُمْتَنع وَالْجهل المفرط الْمُوجب كل ذَلِك ضَرُورَة أَنَّهَا كتب محرفة مبدلة من تَحْرِيف فَاسق سخر بهم وَأَنَّهَا لَا تمكن أَلْبَتَّة أَن تكون من عِنْد الله وَلَا من عِنْد نَبِي وَلَا من عمل صَادِق اللهجة فَمن ذَلِك أخباره بِأَن رجال بني دَان إِذا خَرجُوا من مصر اثْنَتَيْنِ وَسبعين ألفا وَسَبْعمائة رجل لم يعد فيهم من كَانَ مِنْهُم ابْن أقل من عشْرين سنة وَلَا من لَا يُطيق البروز للحرب وَلَا النِّسَاء وَأَنَّهُمْ كلهم رَاجِعُون إِلَى حوشيم بن دَان وَحده وَلم يكن لدان بإقرارهم ولد غير حوشيم مَعَ قرب أنسابهم من حوشيم لِأَن فِي نَص توراتهم أَن الله تَعَالَى قَالَ لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَن الجيل الرَّابِع من الْأَوْلَاد يرجعُونَ إِلَى الشَّام فاضبطوا هَذَا يظْهر لكم الْكَذِب عَلَانيَة لَا خَفَاء بِهِ وَأَن بني يهوذا كَانُوا أَرْبَعَة وَسبعين ألفا وسِتمِائَة رجل لَيْسَ يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَكلهمْ رَاجِعُون كَمَا ذكرنَا إِلَى ثَلَاثَة أَوْلَاد ليهوذا لم يعقب لَهُ غَيرهم وَفِي الْحَيَاة يَوْمئِذٍ رئيسهم نحشون بن عمينا دَاب بن رام ابْن حصرون بن فارص ابْن يهوذا وَأَن بني يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانُوا اثْنَيْنِ وَسبعين ألف رجل وَسَبْعمائة رجل لَيْسَ يعد فيهم من لَهُ أقل من عشْرين سنة وَكلهمْ رَاجع إِلَى أفرايم ومنشا لم يعقب ليوسف غَيرهمَا وَفِيهِمْ يَوْمئِذٍ فِي الْحَيَاة صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَقد ذكر أَيْضا فِي توراتهم أَوْلَاد أفرايم فَلم يَجْعَل لَهُ إِلَّا ثَلَاثَة ذُكُور وَلم يَجْعَل لمنشا إِلَّا وَلدين وَذكر أَوْلَاد جلعاد الْمَذْكُور بن منشا وَلم يَجْعَل لَهُ إِلَّا سِتَّة ذُكُور فَقَط فاجعلوا لمنشا وأفرايم أقْصَى مَا يُمكن أَن يكون للرجل من الْأَوْلَاد ثمَّ لجلعاد وَإِخْوَته وَبني عَمه مثل ذَلِك ثمَّ لحافر وطبقته مثل ذَلِك وانظروا هَل يُمكن أَن يبلغ ذَلِك ثلث هَذَا الْعدَد وَالْأَمر فِي لد دَان أفحش من سَائِر مَا فِي ولد إخْوَته وَإِن كَانَ الْكَذِب فِي كل ذَلِك فَاحِشا لِأَن الْبضْع وَالسبْعين ألف رجل وَزِيَادَة لم يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين(1/131)
سنة يرجعُونَ إِلَى ثَلَاثَة من ولد يهوذا واثنين من ولد يُوسُف وَأما الِاثْنَان وَسِتُّونَ ألف رجل ونيف لَا يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين سنة فَإِنَّمَا يرجع إِلَى وَاحِد فَقَط لم يكن لدان غَيره بِلَا خلاف مِنْهُم فَكيف إِذا أضيف إِلَى هَذَا الْعدَد من لَهُ أقل من عشْرين سنة من الرِّجَال والأغلب أَنهم قريب من عدد المتجاوزين عشْرين سنة أَو أقل بِيَسِير وَجَمِيع النِّسَاء والأغلب أَنَّهُنَّ فِي عدد الرِّجَال أَو قَرِيبا من ذَلِك فيجتمع من ولد حوشيم ابْن دَان وَحده فِي مُدَّة مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما نَحْو مائَة ألف وَسِتِّينَ ألف إِنْسَان هَذَا الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لم يكن قطّ فِي الْعَالم على حسب بنيته ويجتمع من ولد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام على هَذَا أرحج من مِائَتي ألف إِنْسَان وَمن ولد يهوذا نَحْو ذَلِك وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا أَن الطَّبَقَات من الولادات كَانَت كَثِيرَة جدا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا قَوْله فِي توراتهم أَن الجيل الرَّابِع من الْأَوْلَاد يرجعُونَ إِلَى الشَّام وَالثَّانِي أَن الَّذِي ذكر أنسابهم من بني لاوي وَبني يهوذا وَبني يُوسُف وَبني رؤابين كَانُوا متقاربين فِي التعداد كموسى وَهَارُون وَمَرْيَم بني عمرَان بن قاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل واليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل وقورح واخوانه بَنو يصهار بن قاهاث بن لاوي بن إِسْرَائِيل ونحشون واخوانه بَنو عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إِسْرَائِيل وأحار بن كرمي بن سيداي بن شيلة بن يهوذا بن إِسْرَائِيل ودابان وأبيرام ابْنا الْبَاب بن ملوكن بن روبان بن إِسْرَائِيل وإخوتهم وَأَوْلَادهمْ وَأَوْلَاد أَوْلَادهم هَذَا نَص ذكر أنسابهم فِي توارثهم فوضح أَن الْأَمر مُتَقَارب فِي تعدادهم وَظهر بِهَذَا عَظِيم االكذب الْفَاحِش فِي الْأَعْدَاد الَّتِي ذكرُوا وَلَا يُمكنهُم الْبَتَّةَ أَن يَقُولُوا أَنه كَانَ لإسرائيل غير من سمينا من الْأَوْلَاد الاثْنَي عشر وَلَا أَنه كَانَ لأَوْلَاد إِسْرَائِيل الْمَذْكُورين غير من سمينا من الْأَوْلَاد وعددهم أحد وَخَمْسُونَ رجلا فَقَط لبنيامين عشرَة ولجادا سَبْعَة ولشمعون سِتَّة ولرؤابين واشير وليساخر ونفتالي لكل وَاحِد مِنْهُم أَرْبَعَة أَرْبَعَة وليهوذا وللاوي وزبلون لكل وَاحِد مِنْهُم ثَلَاثَة ثَلَاثَة وليوسف اثْنَان ولدان وَوَاحِد فيا للنَّاس كَيفَ يُمكن أَن يتناسل من ولادَة وَاحِد وَخمسين رجلا فَقَط فِي مُدَّة مِائَتي عَام وَسَبْعَة عشر عَاما فَقَط أَزِيد من ألفي ألف إِنْسَان هَذَا غَايَة الْمحَال الْمُمْتَنع لِأَنَّهُ نَص فِي توراتهم أَنه إنتسل مِنْهُم ستماية ألف وَثَلَاثَة آلَاف رجال كلهم لم يعد فيهم ابْن أقل من عشْرين سنة وَلَعَلَّ من دون الْعشْرين عَاما مِنْهُم يقاربون هَذَا الْعدَد ثمَّ النِّسَاء ولعلهن نَحْو هَذَا الْعدَد فَأُعْجِبُوا لهَذِهِ الفضائح وَقد رام بعض من صككت وَجهه من عُلَمَائهمْ بِهَذِهِ الفضيحة أَن يلوذ بِهَذَا الشغب فَقلت دع عَنْك هَذَا التمويه فقد سدت عَلَيْك توراتك كل الْمذَاهب لِأَن فِيهَا بعلمك حَيْثُ ذكر خُرُوجهمْ من مصر وَحَيْثُ ذكر دُخُولهمْ إِلَى الشَّام وَحَيْثُ ذكر قسْمَة الأَرْض عَلَيْهِم فِي سفر يُوشَع ذكر أفخاذ قبائلهم وَتَسْمِيَة أسباطهم اسْما اسْما فَلم يزدْ على من سمينا وَلَا وَاحِدًا فَلَو كَانَ مَا تَقول لكَانَتْ أَيْضا قد كذبت فِي هَذَا الْموضع إِذْ فَلَا بُد فِيهَا من الْكَذِب الْمُتَيَقن كَيْفَمَا تصرفت الْحَال فَسكت خاسئاً فَإِن قيل ألم ينْقل يَعْقُوب إِذْ عرض عَلَيْهِ يُوسُف بنه أفرايم ومنشا فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب افرايم ومنشا يكونَانِ ليي وينسبان إِلَيّ(1/132)
وَمن ولد لَك بعدهمَا ينسبان إِلَيْك قُلْنَا لَا يَخْلُو يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام من أَن لَا يكون لَهُ ولد غَيرهمَا مِمَّا أعقب خَاصَّة كَمَا نقُول نَحن وَتشهد بِهِ نُصُوص توراتكم وَجَمِيع كتبكم أَو يكون ليوسف ولد أعقب غير أفرايم ومنشا فَلَو كَانَ ذَلِك فكتبكم كلهَا كَاذِبَة أَولهَا عَن آخرهَا من التَّوْرَاة فَمَا وَرَاءَهَا لِأَنَّهُ فِي كل مَكَان ذكر فِيهِ رُتْبَة معسكر الأسباط سبطاً سبطاً وعددهم إِذْ خَرجُوا من مصر وعددهم إِذْ دخلُوا الشَّام وعددهم إِذْ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذَّهَب وعددهم إِذْ وقفُوا على الجبلين للبركة واللعنة وعددهم إِذْ نقشت أَسمَاؤُهُم فِي الفصوص الْمرتبَة على صدر هَارُون فِي أَزِيد من ألف مَوضِع فِي سَائِر كتبهمْ وَلم يذكر ليوسف الإسبطين فَقَط سبط منشا وسبط أفرايم فَبَطل الِاعْتِرَاض بذلك الْكَلَام الْمَذْكُور وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقد علم كل من يُمَيّز من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَن الْكَثْرَة الْخَارِجَة من الْأَوْلَاد لم تُوجد فِي الْعَالم لصعوبة الْأَمر فِي تربية أَطْفَال النَّاس وَلكَون الْإِسْقَاط فِي الْحَوَامِل ولإبطاء حمل الْمَرْأَة بَين بطن وبطن ولكثرة الْمَوْت فِي الْأَطْفَال فَهَذِهِ أَربع عوارض قواطع دون الْكَثْرَة الخارجية فِي الْأَوْلَاد للنَّاس ثمَّ كَون الْإِنَاث فِي الولادات أَيْضا وَلَو طلبنا أَن نعد من عَاشَ لَهُ عشرُون ولدا فَصَاعِدا من الذُّكُور بلغُوا الْحلم فَمَا وجدناهم إِلَّا فِي الندرة ثمَّ فِي الْقَلِيل من الْمُلُوك وَذَوي الْيَسَار المفرط الَّذين تَنْطَلِق ايديهم على الْكثير من النِّسَاء وَالْإِمَاء ثمَّ على الخدام اللواتي هن العون على التربية والكفاية وعَلى كَثْرَة المَال الَّذِي لَا يكون المعاش إِلَّا بِهِ وَأما من لَا يجد إِلَّا الكفاف وفوقه مِمَّا لَا يبلغ الْإِكْثَار من الوفر وَلَا يقدر إِلَّا على الْمَرْأَة والمرأتين وَنَحْو ذَلِك فَلَا يُوجد هَذَا فيهم الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يُمكن ذَلِك أصلا لَهُم لما ذكرنَا آنِفا من القواطع الْمَوَانِع وَقد شاهدنا النَّاس وبلغتنا أَخْبَار أهل الْبِلَاد الْبَعِيدَة وَكثر بحثنا عَمَّا غَابَ منا ووصلت إِلَيْنَا التواريخ الْكَثِيرَة الْمَجْمُوعَة فِي أَخْبَار من سلف من عرب وعجم فِي كثير من الْأُمَم فَمَا وجدنَا فِي ذَلِك الْمَعْهُود من عدد أَوْلَاد الذُّكُور فِي المكثرين الَّذين يتحدث بهم عِنْد كَثْرَة الْوَلَد إِلَّا من أَرْبَعَة عشر ذكرا فَأَقل وَأما مَا زَاد إِلَى الْعشْرين فنادر جدا هَذِه الْحَال فِي جَمِيع بِلَاد أهل الْإِسْلَام وَالَّذِي بلغنَا عَن ممالك النَّصَارَى إِلَى أَرض الرّوم وممالك الصقالبة وَالتّرْك والهند والسودان قَدِيما وحديثاً وَأما الثَّلَاثُونَ فَأكْثر فَمَا بلغنَا ذَلِك إِلَّا عَن نفر يسير عَمَّن سلف مِنْهُم أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَخَلِيفَة بن أبي السَّعْدِيّ وَأَبُو بكرَة فَإِن هَؤُلَاءِ لم يموتوا حَتَّى مشي بَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم مائَة ذكر من وَلَده وَعمر بن عبد الْملك فَإِنَّهُ كَانَ يركب مَعَه سِتُّونَ رجلا من وَلَده وجعفر بن سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس فَإِنَّهُ عَاشَ لَهُ أَرْبَعُونَ ذكر من وَلَده سوى أبنائهم وَعبد الرَّحْمَن بن الحكم ابْن هِشَام بن عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ ولد لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ذكرا عَاشَ مِنْهُم نَيف وَثَلَاثُونَ ومُوسَى ابْن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب فَإِنَّهُ بلغ لَهُ مِنْهُم مبلغ الرِّجَال وَاحِد وَثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا كلهم وَكَانَ أَبوهُ أَمِيرا على الْيمن مرّة قَائِما وَمرَّة والياً لِلْمَأْمُونِ ووصيف مولى المعتصم التركي كَانَ لَهُ خَمْسَة وَخَمْسُونَ ذكرا بالغون من وَلَده الأدنين وتامرت مولي بني مُنَاد صَاحب طرابلس(1/133)
فَإِنَّهُ كَانَ يركب وَمَعَهُ ثَمَانُون من أَوْلَاده الأدنين إِلَّا أَن هَذَا كَانَ يغتصب كل امْرَأَة أَعْجَبته من أمة أَو حرَّة وَبِوَلَدِهَا وَرجل من مُلُوك البربر من بني دمر معتزلي كَانَ يركب مَعَه مِائَتَا فَارس من وَلَده وَولد وَلَده وَتَمِيم بن زيد بن يعلي بن مُحَمَّد العرني فَإِنَّهُ بلغنَا أَنه كَانَ لَهُ نَيف وَخَمْسُونَ ذكرا بالغون وَكَانَ ملك بني نفر مِمَّن ملك بلادا عظمية وَأَبُو الهار بن زيرى بن منكاد فَكَانَ يركب مَعَه ثَلَاثُونَ ذكرا من وَلَده الأدنين ومرزوق ابْن أشكر بن الثغري بِجِهَة لارده فَكَانَ يركب مَعَه ثَلَاثُونَ فَارِسًا من وَلَده الأدنين وبلغنا عَن ملك من مُلُوك الْهِنْد أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانُون ولدا ذُكُورا بالغون وتذكر الْيَهُود فِي تواريخهم أَن رَئِيسا كَانَ يدبر أَمرهم يُسمى جدعون ابْن بواش من بني منشا بن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ سَبْعُونَ ولدا ذُكُورا وَإِن آخر مِنْهُم أَيْضا من سبط منشا يُسمى بَابَيْنِ بن جلعاد كَانَ لَهُ اثْنَان وَثَلَاثُونَ ولدا ذُكُورا وَآخر من مدبريهم اسْمه عبدون بن هِلَال من بني افرايم بن يُوسُف كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ابْنا ذُكُورا بالغون وَآخر من مدبريهم من سبط يهوذا اسْمه افصان من سكان بَيت لحم كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ زَوْجَة وَثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا وَثَلَاثُونَ بِنْتا وتزعم الْفرس أَن جودرز الْملك عَليّ كرمان كَانَ لَهُ تسعون ابْنا ذُكُورا بالغون فَإِذا كَانَت هَذِه الصّفة لم نجدها مُنْذُ نَحْو ثَلَاثَة آلَاف عَام إِلَّا فِي أقل من عشْرين إنْسَانا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا فِي الْأُمَم السالفة والخالفة مِمَّن علت حَاله وامتد عمره وَكَثُرت أَمْوَاله وَعِيَاله فَكيف يَتَأَتَّى من هَذَا الْعدَد مَا لم يسمع بِمثلِهِ قطّ فِي الدَّهْر لَا فِي نَادِر وَلَا فِي شَاذ لبني إِسْرَائِيل كَافَّة بِمصْر وحالهم فِيهَا مَعْرُوفَة مَشْهُورَة لَا يقدر أحد على إنكارها وَهِي أَنهم كَانُوا فِي حَيَاة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام فِي كفاف من الْعَيْش أَصْحَاب غنم فَقَط وَلم يَكُونُوا فِي يسَار فائض ثمَّ كَانُوا بعد موت يُوسُف وَإِخْوَته عَلَيْهِ السَّلَام فِي فاقة عَظِيمَة وَعَذَاب وَنصب وسخرة مُتَّصِلَة وذل راتب وبلاءٍ دائب وتعب زاهق يكَاد يقطع عَن الشِّبَع فَكيف عَن الاتساع فِي الْعِيَال والأشر فِي الاستكثار من الْوَلَد فَهَذِهِ كذبة عَظِيمَة مطبقة فاضحة وثانية وَهِي أَن فِي توراتهم أَنهم كَانُوا ساكنين فِي أَرض قَوس فَقَط وَأَن معاشهم كَانَ من الْمَوَاشِي فَقَط وَذكر فِي توراتهم أَنهم خَرجُوا من مصر خَرجُوا بِجَمِيعِ مَوَاشِيهمْ فاعجبوا أَيهَا السامعون وتفكروا مَا الَّذِي يَكْفِي سِتّمائَة ألف وَثَلَاثَة آلَاف لم يعد فيهم بن أقل من عشْرين سنة سوى النِّسَاء للقوت وَالْكِسْوَة من الْمَوَاشِي ثمَّ اعلموا يَقِينا أَن أَرض مصر كلهَا تضيق عَن مسرح هَذَا الْمِقْدَار من الْمَوَاشِي فَكيف أَرض قَوس وَحدهَا وهم يَقُولُونَ فِي توراتهم أَن إِبْرَاهِيم ولوطاً عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يحمل كَثْرَة مَوَاشِيهمْ أَرض وَاحِدَة وَلَا أمكنهما أَن يسكنا مَعًا فَكيف بمواش تقوم بأزيد من ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف إِنْسَان لقد كَانَ الَّذِي عمل لَهُم هَذِه الْكتب الملعونة المكذوبة ضَعِيف الْعقل وَقَلِيل الفكرة فِيمَا يُطلق بِهِ قلمه فَهَذِهِ كذبة فَاحِشَة ثَانِيَة عَظِيمَة جدا وثالثة أَنه ذكر فِي توراتهم أَنهم كَانُوا كلهم يسخرون فِي عمل الطوب وتالله إِن سِتّمائَة ألف طواب لكثير جدا لَا سِيمَا فِي قَوس وَحدهَا وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا أَنهم كَانُوا مُتَفَرّقين فَإِن توراتهم تَقول غير هَذَا(1/134)
وتخبر أَنهم كَانُوا مُجْتَمعين ذكر ذَلِك فِي مَوَاضِع جمة مِنْهَا حَيْثُ أَمرهم بِذبح الخرفان وَمَسّ الْعِنَب بِالدَّمِ وَمِنْهَا حَيْثُ أَبَاحَ لَهُم فِرْعَوْن الْخُرُوج مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانُوا كلهم مُجْتَمعين بمواشيهم يَوْم خُرُوجهمْ وَهَذِه كذبة عَظِيمَة ثَالِثَة لَا خَفَاء بهَا وَالرَّابِعَة أَنه ذكر أَن بني لاوي ثَلَاثَة رجال فَقَط قهاث وجرشون ومراري وَأَن ذُكُور نسل هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فَقَط كَانُوا اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا من الذُّكُور خَاصَّة من بن شهر فَصَاعِدا من جُمْلَتهمْ ثَمَانِيَة آلَاف رجل وَخَمْسمِائة رجل وَثَمَانُونَ رجلا لَيْسَ فيهم بن أقل من ثَلَاثِينَ سنة وَلَا ابْن أَكثر من خمسين سنة ثمَّ ذكر أَوْلَاد مراري فَلم يذكر لَهُ إِلَّا وَلدين محلي وموشي فَقَط وَذكر أَوْلَاد جرشون بن لاوي فَلم يذكر إِلَّا وَلدين لبني وشمعي وَذكر أَوْلَاد قهاث بن لاوي فَلم يذكر إِلَّا أَرْبَعَة فَقَط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فَرجع نسل لاوي كُله إِلَى هَؤُلَاءِ الثَّمَانِية فَقَط ثمَّ لم يجْعَلُوا لتوجيه التَّأْوِيل فِي كذبهمْ مساغاً بل عد أَوْلَاد عمرام بِأَنَّهُم مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَط والعازار وفرصوم ابْني مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَا صغيرين حِينَئِذٍ جدا وَأَرْبَعَة أَوْلَاد لهارون عَلَيْهِ السَّلَام وعد أَوْلَاد يصهار فَذكر قورح وَإِخْوَته وَثَلَاثَة أَوْلَاد لقورح وَبَقِي سَائِر الْعدَد الْمَذْكُور من الألوف وَهِي ثَمَانِيَة آلَاف رجل وسِتمِائَة رجل لَا يعد فيهم بن أقل من شهر من بني قهاث خَاصَّة رَاجعا إِلَى أَوْلَاد حبرون وعزيئيل وأخوي قورح فَقَط هَذَا والصافان بَين عزيئيل حَيّ مقدم طبقته سوى النِّسَاء وَلَعَلَّ عددهن كعدد الرِّجَال وَهَذَا من أَحمَق الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَمن قلَّة الْحيَاء فِي الدرجَة الْعليا وَمن الْكَذِب الْبَحْث فِي الْمُقدمَة وَمن الْمحَال فِي الْمحل الْأَقْصَى وجار مجْرى الخرافات الَّتِي تقال عِنْد السمر بِاللَّيْلِ ولعمري لَو ضل بِتَصْدِيق هَذَا المهوس الْفَاجِر وَاحِد وَاثْنَانِ لَكَانَ عجبا فَكيف أَن يضل بِهِ عَالم عَظِيم وجيل بعد جيل مذ أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة عَام مذ كتب لَهُم عزّر الْوراق هَذَا السخام الَّذِي أضلهم بِهِ وَنَحْمَد الله على عَظِيم نعْمَته علينا كثيرا ونسأله الْعِصْمَة فِي بَاقِي أعمارنا مِمَّا امتحن بِهِ من شَاءَ ضلاله آمين آمين وَالْخَامِسَة قَوْله فِي سفر يُوشَع أَنه وَقع لبني هَارُون ثَلَاث عشرَة مَدِينَة والعازار بن هَارُون حَيّ قَائِم فيا للنَّاس أَفِي الْمحَال أَكثر من أَن يدْخل فِي عقل أحد أَن نسل هَارُون بعد مَوته بِسنة وَأشهر يبلغ عددا لَا يَسعهُ للسُّكْنَى إِلَّا ثَلَاث عشرَة مَدِينَة هَل لهَذَا الْحمق دَوَاء إِلَّا الغل والقيد والمجمعة وَمَا يتبع ذَلِك من الكي وَالسَّوْط ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وكذبة سادسة ظريفة جدا وَهِي انه ذكر فِي توراتهم أَن عدد ذُكُور بني جرشون بن لاوي من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة وَإِن عدد ذُكُور بني قهاث بن لاوي من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف وسِتمِائَة وَإِن عدد ذُكُور بني مراري بن لاوى من بن شهر فَصَاعِدا كَانُوا سِتَّة آلَاف وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قَالَ فَجَمِيع الذُّكُور من بني لاوي من ابْن شهر فَصَاعِدا اثْنَان وَعِشْرُونَ ألفا فَكَانَ هَذَا ظريفاً جدا أَو شَيْئا تندى مِنْهُ الاباط وَهل يجهل(1/135)
أحد أَن الْأَعْدَاد الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ يجْتَمع مِنْهَا وَاحِدًا وَعشْرين ألفا وَثَلَاث مائَة هَذَا أَمر لَا نَدْرِي كَيفَ وَقع أتراه بلغ المسخم الْوَجْه الَّذِي كتب لَهُم هَذَا الْكتاب الأحمق من الْجَهْل بِالْحِسَابِ هَذَا الْمبلغ إِن هَذَا لعجب وَلَقَد كَانَ الثور أهدي مِنْهُ وَالْحمار ابْنه مِنْهُ بِلَا شكّ أَتَرَى لم يَأْتِ بعده من الْيَهُود مذ أَزِيد من ألف عَام وَخَمْسمِائة عَام من تبين لَهُ أَن هَذَا خطاء وباطل وَلَا يُمكن أَن يَدعِي هُنَا غلط من الْكتاب وَلَا وهم من النَّاسِخ فِي بعض النّسخ لِأَنَّهُ لم يدعنا فِي لبس من ذَلِك وَلَا فِي شكّ من فَسَاد مَا أَتَى بِهِ بل أكد ذَلِك وَبَينه وفضحه وأوضحه بِأَن قَالَ إِن بكور ذُكُور بني إِسْرَائِيل كَانُوا اثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا وَمِائَتَيْنِ وَثَلَاثَة وَسبعين وَإِن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَأْخُذ بني لاوي الذُّكُور عَن بكور ذُكُور بني إِسْرَائِيل وَأَن يَأْخُذ عَن الْمِائَتَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَالسبْعين الزائدين من بكور بني إِسْرَائِيل عَن الِاثْنَيْنِ وَعشْرين ألفا من بني لاوي عَن كل رَأس خَمْسَة أشقال فضَّة فَاجْتمع من ذَلِك ألف شقل وثلثمائة شقل وَخَمْسَة وَسِتُّونَ شقلاً فارتفع الأشكال جملَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وتالله مَا سمعنَا قطّ بأخبث طِينَة وَلَا أفسد جبلة مِمَّن كتب لَهُم هَذَا الضلال إِلَّا من اتبعهُ وَصدق بضلاله فَهَذِهِ سِتّ كذبات فِي نسق لَو لم يكن فِي توراتهم مِنْهَا إِلَّا وَاحِد لَكَانَ برهاناً قَاطعا مُوجبا لليقين بِأَنَّهَا كتاب مَوْضُوع بِلَا شكّ مبدل محرف صَغِير مَكْذُوب فَكيف بِجَمِيعِ مَا أوردنا من ذَلِك ونورد إِن شَاءَ الله ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَيَتْلُو هَذَا كذبة شائعة بشيعة شنيعة وَهِي أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ابْن ابشاي بن عونيذ بن بوعز بن شلومون بن نخشون بن عمينا دَاب ابْن أرام بن حصرون لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن عوينيذ الْمَذْكُور جد دَاوُد أَبَا أَبِيه كَانَت أمه رَوْث العمونية الَّتِي لَهَا كتاب مُفْرد من كتب النُّبُوَّة وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن من خُرُوجهمْ من مصر إِلَى ولَايَة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت سِتّمائَة سنة وست وَسِتِّينَ وَفِي نَص التَّوْرَاة عِنْدهم وَبلا خلاف مِنْهُم أَن مقدم بني يهوذا إِذْ خَرجُوا من مصر كَانَ نحشون بن عمينا دَاب الْمَذْكُور وَأَنه أَخُو امْرَأَة هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي نَص توراتهم أَنهم قَالُوا قَالَ الله تَعَالَى أَنه لَا يدْخل الأَرْض المقدسة من خرج من مصر وَله عشرُون سنة فَصَاعِدا إِلَّا يهوشع بن نون الإفرايمي وكالب ابْن يفنة اليهوذاني فصح ضَرُورَة أَن نحشون مَاتَ فِي التيه وَأَن الدَّاخِل فِي أَرض الشَّام هُوَ ابْنه شلومون فَأَقْسَمُوا الْآن سِتّمائَة وست وَسِتِّينَ على أَربع ولادات فَقَط وَهَذِه ولادَة بوعز بن شلومون الدَّاخِل ثمَّ ولادَة عونيذ بن بوعز بن رَوْث العمونية ثمَّ ولادَة ابشاي بن عونيذ ثمَّ ولادَة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ ابشاسي ثمَّ لَا تخلف كتبهمْ فِي أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ولي وَله ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة عِنْد تَمام الستمائة سنة وست وَسِتِّينَ فَيَنْبَغِي أَن تسْقط سنو دَاوُد إِذْ ولي من الْعدَد الْمَذْكُور يكون الْبَاقِي خَمْسمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَسبعين سنة لثلاث ولادات وَهِي ولادَة أبشاي وولادة عونيذ وولادة بوعز فتأملوا ابْن كم كَانَ وَاحِد مِنْهُم إِذْ ولد لَهُ ابْنه الْمَذْكُور تعلمُوا أَنه كذب مُسْتَحِيل فِي نِسْبَة ذَلِك من أعمارهم يَوْمئِذٍ لِأَن فِي كتبهمْ نصا أَنه لم يَعش أحد بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي بني إِسْرَائِيل مائَة وَثَلَاثِينَ سنة إِلَّا يهوباراع الكوهن الهاروني وَحده(1/136)
بِالضَّرُورَةِ يجب أَن كل وَاحِد مِمَّن ذكرنَا كَانَ لَهُ أَزِيد من مائَة ونيف وَأَرْبَعين إِذْ ولد لَهُ ابْنه الْمَذْكُور وَهَذِه أَقْوَال يكذب بَعْضهَا بَعْضًا فصح ضَرُورَة لَا محيد عَنْهَا أَنَّهَا كلهَا مبدلة مستعملة محرفة مكذوبة ملعونة وَثَبت أَن ديانتهم الْمَأْخُوذَة من هَذِه الْكتب ديانَة فَاسِدَة مكذوبة من عمل الْفُسَّاق ضَرُورَة كالشيء الْمدْرك بالعيان واللمس وَنَحْمَد الله على السَّلامَة
فصل
ثمَّ وصف قيام بني إِسْرَائِيل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وطلبهم مِنْهُ اللَّحْم للْأَكْل وَذكروا شوقهم إِلَى القرع والقثاء والبصل والكراث والثوم الَّذِي تشبه رَائِحَته فِي الروائح عُقُولهمْ فِي الْعُقُول وَذكروا ضجرهم من الْمَنّ وَالله عز وَجل قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نقُول للعامة تقدسوا غَدا تَأْكُلُوا اللَّحْم هَا أَنا أسمعكم قائلين من ذَا يطعمنا أكل اللَّحْم قد كُنَّا بِخَير بِمصْر ليعطيكم السَّيِّد اللَّحْم فتأكلون لَيْسَ يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا خَمْسَة وَلَا عشرَة حَتَّى تكمل أَيَّام الشَّهْر حَتَّى يخرج على مناخركم ويصيبكم التخم لما تخليتم عَن السَّيِّد الَّذِي هُوَ فِي وسطكم ويبكون قدامه قائلين لماذا أخرجنَا من مصر فَقَالَ مُوسَى لله تَعَالَى هم سِتّمائَة ألف رجل وَأَنت تَقول أَنا أعطيهم اللحوم شهرا طعماً أَتَرَى تكْثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم فيقتاتون بهَا أم تجمع حيتان الْبَحْر مَعًا لتشبعهم فَقَالَ لَهُ الرب أَتَرَى يَد السَّيِّد عاجزة سترى أَن يوافيك كَلَامي أم لَا ثمَّ ذكر أَن الله تَعَالَى أرسل ريحًا فأت بالسماني من خلف الْبَحْر إِلَى بني إِسْرَائِيل فأكلوها وَدخل اللَّحْم بَين أضراسهم وأصابتهم التُّخمَة وَأَخذهم وباء شَدِيد مَاتَ مِنْهُم بِهِ كثير وَإِن هَذَا كَانَ فِي الشَّهْر الثَّانِي من خُرُوجهمْ من مصر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي اللله عَنهُ ذكر فِي هَذَا الْفَصْل آيَات من الله رب الْعَالمين وَمَا تَأتي لَهُ طامة أَلا تكَاد تنسي مَا قبلهَا فَأول ذَلِك إِخْبَار اللعين الْمُبدل للتوراة بِأَن الله تَعَالَى إِذْ قَالَ لمُوسَى غَدا تَأْكُلُونَ اللَّحْم إِلَى تَمام الشَّهْر قَالَ لَهُ مُوسَى هم سِتّمائَة ألف رجل وَأَنت تَقول أَنا أعطيهم اللحوم طَعَاما شهياً أَتَرَى تكْثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم يقتاتون بهَا أَو تجمع حيتان الْبَحْر مَعًا لتشبعهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ حاش لله أَن يُرَاجع رجل لَهُ من الْعقل مسكة ربه عز وَجل هَذِه الْمُرَاجَعَة وَأَن يشك فِي قوته على ذَلِك وعَلى مَا هُوَ أعظم مِنْهُ فَكيف رَسُول نَبِي أَتَرَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام دخله قطّ شكّ فِي أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يكثر بذبائح الْبَقر وَالْغنم حَتَّى يشبعهم أَو على أَن يَأْتِيهم من حيتان الْبَحْر بِمَا يشبعهم مِنْهُ حاش لله من ذَلِك أتراه خَفِي على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يرْزق جَمِيع بني آدم فِي شَرق الأَرْض وغربها اللَّحْم وَغير اللَّحْم وَأَنه تَعَالَى رَازِق سَائِر الْحَيَوَانَات كلهَا من الطَّائِر والعائم والمنساب والماشي على رجلَيْنِ وَأَرْبع وَأكْثر حَتَّى يستنكر أَن يشْبع شرذمة قَليلَة لَا قدر لَهَا من اللَّحْم حاش لَهُ من ذَلِك فَكيف يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام الأحمق حاش لَهُ من ذَلِك وَقبل ذَلِك بعام وَشهر وَبَعض آخر طلبُوا اللَّحْم فَأَتَاهُم بالسماني والمن وأكلوا ذَلِك بِنَصّ توراتهم أتراه نسي ذَلِك فِي هَذِه الْمدَّة الْيَسِيرَة أَو يظنّ أَنه قدر على الأولى ويعجز عَن الثَّانِيَة حاشا لَهُ من هَذَا الهوس
ثمَّ زِيَادَة فِي بَيَان هَذَا الْكَذِب أَن فِي توراتهم إِن بني إِسْرَائِيل إِذْ خَرجُوا من مصر مَعَ(1/137)
مُوسَى خَرجُوا بِجَمِيعِ مَوَاشِيهمْ من الْبَقر وَالْغنم وَأَن أهل بَيت مِنْهُم ذَبَحُوا جدياً أَو خروفاً فِي تللك اللَّيْلَة وَذكر فِي مَوَاضِع مِنْهَا أَنهم أهدوا الكباش والتيوس والخرفان والجديان وَالْبَقر والعجول إِلَى قبَّة الْعَهْد وَذكروا فِي آخرهَا أَن بني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط بني منشا كَانَ مَعَهم غنم كثير وَمن الْبَقر عدد لَا يُحْصى فِي حِين ابْتِدَاء قِتَالهمْ وفتحهم لأرض الشَّام فَأَي عِبْرَة فِي إشباعهم من اللَّحْم وَاللَّحم حَاضر مَعَهم كثير لَا قَلِيل ثَلَاثَة من الْغنم كَانَت تَكْفِي الْوَاحِد مِنْهُم شهرا كَامِلا وثور وَاحِد كَانَ يَكْفِي أَرْبَعَة مِنْهُم شهرا كَامِلا على أَن يَأْكُلُوا اللَّحْم قوتاً حَتَّى يشبعوا بِلَا خبز فَكيف إِذا تأدموا بِهِ فَأَي عجب فِي إشباعهم بِاللَّحْمِ حَتَّى يُرَاجع مُوسَى ربه تَعَالَى بإنكار ذَلِك من قُوَّة ربه عز وَجل فَهَل فِي الْعَالم أَحمَق مِمَّن كتب هَذِه الكذبة الشنيعة الْبَارِدَة السخيفة الممزوجة بالْكفْر اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على تسليمك لنا مِمَّا امتحنتهم بِهِ فَإِن قَالُوا إِن فِي كتابكُمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لزكريا {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى} الْآيَة وَأَن زَكَرِيَّا قَالَ لرَبه تَعَالَى {أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً وَقد بلغت من الْكبر عتياً قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} الْآيَة {قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سوياً} وَفِي كتابكُمْ أَيْضا أَن الْملك قَالَ لِمَرْيَم {أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً قَالَت أَنى يكون لي غُلَام} الْآيَة {قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} الْآيَة قُلْنَا لَيْسَ فِي جَوَاب زَكَرِيَّا وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام اعْتِرَاض على بشرى الْبَارِي عز وَجل لَهما كَمَا فِي كتابكُمْ عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا فِي كَلَام زَكَرِيَّا وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام إِنْكَار على أَن يعطيهما وَلدين وهما عقيم وَبكر إِنَّمَا سَأَلَا أَن يعرفا الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يكون الْوَلَد فَقَط لِأَن إِنِّي فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن بِلَا خلاف أَن مَعْنَاهَا من أَيْن فصح مَا قُلْنَا من أَنَّهُمَا سألاه أَن يعرفهما الله تَعَالَى من أَيْن يكون لَهما الْوَالِدَان أَو من أَي جِهَة أبنكاح زَكَرِيَّا لامْرَأَة أُخْرَى أم نِكَاح رجل لِمَرْيَم أم من اختراعه تَعَالَى وَقدرته فَإِنَّمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا الْآيَة ليظْهر صدقه عِنْد قومه وَلِئَلَّا يظنّ أَنَّهُمَا أخذاه وادعياه هَذَا هُوَ ظَاهر الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرنَا من الْقُرْآن دون تكلّف تَأْوِيل بِنَقْل لفظ أَو زِيَادَة أَو حذف بِخِلَاف مَا حكيتم عَن مُوسَى من الْكَلَام الَّذِي لَا يحْتَمل التَّكْذِيب فَقَط
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر قيام مَرْيَم وَهَارُون أخي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام معاندين لمُوسَى من أجل امْرَأَته الحبشية
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَكَيف تكون حبشية وَقد قَالَ فِي أول توراتهم أَنَّهَا بنت يثرون المدياني وَهُوَ بِلَا شكّ من ولد مَدين بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فأحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ يكذب الآخر
فصل
ذكر كَمَا ذكرنَا أَن فِي الشَّهْر الثَّانِي من السّنة الثَّانِيَة من خُرُوجهمْ من مصر كَانَ طَلَبهمْ اللَّحْم كَمَا ذكرنَا وَأَنه بعد ذَلِك وَقع لهارون وَمَرْيَم الشغب مَعَ مُوسَى(1/138)
أخيهما عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَأَن مَرْيَم مَرضت وأخرجت من المعسكر سَبْعَة أَيَّام حَتَّى بَرِئت ثمَّ رجعت وَأَن بعد ذَلِك وَجه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الاثْنَي عشر رجلا الَّذين كَانَ من جُمْلَتهمْ هوشع ابْن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني ليروا الأَرْض المقدسة وَذكر أَنهم طافوها فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ رجعُوا وخوفوا بني إِسْرَائِيل حاشا كالب وهوشع وَأَن الله تَعَالَى سخط عَلَيْهِم وأهلكهم وَأوحى إِلَى مُوسَى أما جيفكم فستكون ملقاة فِي المفاز وَيكون أَوْلَادكُم سابحين فِي المفاز أَرْبَعِينَ سنة على عدد الْأَرْبَعين يَوْمًا الَّتِي دوختم فِيهَا الْبَلَد اجْعَل لكم كل يَوْم سنة وتكافئون أَرْبَعِينَ سنة بخطاياكم وَأَنَّهُمْ بقوا فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة فَلَمَّا أَتموا أَمرهم الله عز وَجل بالحركة فتحركوا ثمَّ مَاتَت مَرْيَم أُخْت مُوسَى عَلَيْهَا السَّلَام ثمَّ مَاتَ هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ حَارب مُوسَى عوج وسحون الْملكَيْنِ واحذ بلادهما وَأعْطى بلادهما لبني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط منشا ثمَّ حَارب المدينتين وَقتل ملوكهما ثمَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام مَاتَ وَله مائَة سنة وَعِشْرُونَ سنة وَفِي صدر توراتهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ خرج عَن مصر كَانَ لَهُ ثَمَانُون سنة هَذَا كُله نَص توراتهم حرفا حرفا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب فَاحش وَقد قُلْنَا أَن الَّذِي عمل لَهُم التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم كَانَ قَلِيل الْعلم بِالْحِسَابِ ثقيل الْيَد فِيهِ جدا أَو عياراً مَاجِنًا مستخفاً لَا دين لَهُ سخر مِنْهُم بأمثال التيوس وَالْحمير لِأَنَّهُ إِذا أخرج وَله ثَمَانُون سنة وَبَقِي بعد خُرُوجه سنة وشهرا ثمَّ تاهوا أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ قَاتلُوا ملوكاً عدَّة وقتلوهم وَأخذُوا بِلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ فقد اجْتمع من ذَلِك ضَرُورَة زِيَادَة على الْمِائَة وَالْعِشْرين سنة أَكثر من سنة وَلَا بُد والأغلب أَنَّهُمَا سنتَانِ زائدتان فكذب وَلَا بُد فِي سنّ مُوسَى إِذْ مَاتَ أَو كذب الْوَعْد الَّذِي أخبر عَن الله تَعَالَى بتيههم أَرْبَعِينَ سنة حاشا للباري تَعَالَى أَن يكذب أَو أَن يغلط فِي دقيقة أَو أقل وحاشا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مثل ذَلِك وَصَحَّ أَنَّهَا مولودة مَوْضُوعَة
فصل
ثمَّ ذكر فِي السّفر الْخَامِس فَقَالَ إِن طلع فِيكُم نَبِي وَادّعى أَنه رأى رُؤْيا وأتاكم بِخَبَر مَا يكون وَكَانَ مَا وَصفه ثمَّ قَالَ لكم بعد ذَلِك اتبعُوا أَبنَاء إلهة الْأَجْنَاس فَلَا تسمعوا لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل شنعة من شنع الدَّهْر وتدسيس كَافِر مُبْطل للنبوات كلهَا لِأَنَّهُ أثبت النُّبُوَّة بقوله إِن طلع فِيكُم نَبِي ويصدقه فِي الْأَخْبَار بِمَا يكون ثمَّ أَمرهم بمعصيته إِذا دعاهم إِلَى اتِّبَاع آلِهَة الْأَجْنَاس وَهَذَا تنَاقض فَاحش وَلَئِن جَازَ أَن يكون نَبِي يصدق فِيمَا ينذر بِهِ يدعوا إِلَى الْبَاطِل وَالْكفْر فَلَعَلَّ صَاحب هَذِه الْوَصِيَّة من أهل هَذِه الصّفة وَمَا الَّذِي يؤمننا من ذَلِك وَهل هَا هُنَا يُوجب تَصْدِيقه(1/139)
واتباعه ويبينه من الْكَاذِبين إِلَّا مَا صَحَّ نبوته من المعجزات فَلَمَّا لَزِمت مَعْصِيَته إِذا أَمر بباطل فَإِن مَعْصِيّة مُوسَى لَازِمَة وَغير جَائِزَة فِي شَيْء مِمَّا أَمر بِهِ إِذْ لَعَلَّه أَمر بباطل إِذْ كَانَ فِي الْمُمكن أَن يكون نَبِي يَأْتِي بالمعجزات يَأْمر بباطل وحاش لله أَن يَقُول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام وَالله مَا قَالَه قطّ وَلَقَد كذب عَلَيْهِ الْكذَّاب الْمُبدل للتوراة وَكَذَلِكَ حاش لله أَن يظْهر آيَة على يَدي من يُمكن أَن يكذب أَو يَأْمر بباطل هَذَا هُوَ التلبيس من الله على عباده ومزج الْحق بِالْبَاطِلِ وخلطهما حَتَّى لَا يقوم برهَان على تَحْقِيق حق وَلَا إبِْطَال بَاطِل وَاعْلَمُوا أَن هَذَا الْفَصْل من توراتهم والفصل الملعون الَّذِي فِيهِ أَن السَّحَرَة عمِلُوا مثل بعض مَا عمل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُمَا مبطلان على الْيَهُود المصدقين بهما نبوة كل نَبِي يقرونَ لَهُ بنبوة قطعا لِأَنَّهُ لَا فرق فيهمَا بَين مُوسَى وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ وَبَين الْكَذَّابين والسحرة وحاش لله من هَذَا وَبِه تَعَالَى نَعُوذ من الخذلان
هَذَا مَعَ قَوْله بعد ذَلِك وَأَيّمَا نَبِي أحدث فِيكُم من ذَاته نبوة مِمَّا لم نأمر بِهِ وَلم أَعهد إِلَيْهِ بِهِ أَو تنبأ فِيكُم يَدْعُو للآلهة والأوثان فَاقْتُلُوهُ فَإِن قُلْتُمْ فِي أَنفسكُم من أَيْن يعلم أَنه من عِنْد الله أَو من ذَاته فَهَذَا علمه فِيكُم إِذا أنبأ بِشَيْء وَلم يكن فاعلموا أَنه من ذَاته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَلَام صَحِيح وَهَذَا مضاد للَّذي قبله من أَنه يُنبئ بالشَّيْء فَيكون كَمَا قَالَ وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَدْعُو إِلَى عبَادَة غير الله وَالْقَوْم مخذولون نقلوا دينهم عَن زنادقة مستخفين لَا مُؤنَة عَلَيْهِم أَن ينسبوا إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْكفْر والضلال وَالْكذب والعمد كَالَّذي ذكرنَا قبل وكنسبتهم إِلَى هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام أَنه هُوَ الَّذِي عمل الْعجل لبني إِسْرَائِيل وَبنى لَهُ مذبحاً وَقرب لَهُ القربان وجرد استاه قومه للرقص والغناء قُدَّام الْعجل عُرَاة وكما نسبوا إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قرب القرابين للأوثان على الكدي وَأَنه قتل يواب بن صوريا صَبر أَو هُوَ نَبِي مثله وكما نسبوا إِلَى شاول وَهُوَ نَبِي عِنْدهم يوحي إِلَيْهِ قتل النُّفُوس ظلما ونسبوا إِلَى بلعام با عابورا وَهُوَ نَبِي عِنْدهم يوحي الله تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ الْمَلَائِكَة العون على الْكفْر وَأَن مُوسَى وجيشه قَتَلُوهُ ثمَّ نسبوا النُّبُوَّة إِلَى منشابن حزقيا الْملك وَهُوَ بإقرارهم كَافِر مَلْعُون يعبد الْأَوْثَان وَيقتل الْأَنْبِيَاء وينسبون المعجزات إِلَى شمسون الدابي وَهُوَ عِنْدهم فَاسق مَشْهُور بِالْفِسْقِ متعشق للفواسق ملمٌّ بِهن وينسبون المعجزات إِلَى السَّحَرَة فاعجبوا الْعَظِيم بليتهم واحمدوا الله على السَّلامَة واسألوه الْعَافِيَة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
فصل
ثمَّ قَالَ آخر توراتهم فَتوفي مُوسَى عبد الله بذلك الْموضع فِي أَرض مؤاب مُقَابل بَيت فغور وَلم يعرف آدَمِيّ مَوضِع قَبره إِلَى الْيَوْم وَكَانَ مُوسَى يَوْم توفّي ابْن مائَة وَعشْرين سنة لم ينقص بَصَره وَلَا تحركت أَسْنَانه فنعاه بَنو إِسْرَائِيل فِي أوطنة مؤاب ثَلَاثِينَ يَوْمًا وأكملوا نعيه ثمَّ إِن يشوع بن نون امْتَلَأَ من روح الله إِذْ جعل مُوسَى يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسمع لَهُ بَنو إِسْرَائِيل وفعلوا مَا أَمر الله بِهِ مُوسَى وَلم يخلف مُوسَى فِي بني إِسْرَائِيل نَبِي مثله وَلَا من(1/140)
بِكَلِمَة الله مُوَاجهَة فِي جَمِيع عجائبه الَّتِي فعل على يَدَيْهِ بِأَرْض مصر فِي فِرْعَوْن مَعَ عبيده وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَلَا من صنع مَا صنع مُوسَى فِي جمَاعَة بني إِسْرَائِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا آخر توراتهم وتمامها وَهَذَا الْفَصْل شَاهد عدل وبرهان تَامّ وَدَلِيل قَاطع وَحجَّة صَادِقَة فِي أَن توراتهم مبدلة وَأَنَّهَا تَارِيخ مؤلف كتبه لَهُم من تحرض بجهله أَو تعمد بفكره وَأَنَّهَا غير منزلَة من عِنْد الله تَعَالَى إِذْ لَا يُمكن أَن يكون هَذَا الْفَصْل منزلا على مُوسَى فِي حَيَاته فَكَانَ يكون أَخْبَارًا عَنْهُمَا لم يكن بمساق مَا قد كَانَ وَهَذَا هُوَ مَحْض الْكَذِب تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَوله لم يعرف قَبره آدَمِيّ إِلَى الْيَوْم بَيَان لما ذكرنَا كَاف وَأَنه تَارِيخ ألف بعد دهر طَوِيل وَلَا بُد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَا هُنَا انْتهى مَا وجدنَا من التَّوْرَاة للْيَهُود الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الربانيون والعانانيون والعيسويون والصدوقيون مِنْهُم مَعَ النَّصَارَى أَيْضا بِلَا خلاف مِنْهُم فِيهَا من الْكَذِب الظَّاهِر فِي الْأَخْبَار وَفِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى ثمَّ عَن مَلَائكَته ثمَّ عَن رسله عَلَيْهِم السَّلَام من المناقضات الظَّاهِرَة وَالْفَوَاحِش المضافة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلَو لم يكن فِيهَا إِلَّا فصل وَاحِد من الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا لَكَانَ مُوجبا وَلَا بُد لكَونهَا مَوْضُوعَة محرفة مبدلة مكذوبة فَكيف وَهِي سَبْعَة وَخَمْسُونَ فصلا من جُمْلَتهَا فُصُول بِجمع الْفَصْل الْوَاحِد مِنْهَا سبع كذبات أَو مناقضات فَأَقل سوى ثَمَانِيَة عشر فصلا يتكاذب فِيهَا نَص توراة الْيَهُود مَعَ نَص تِلْكَ الْأَخْبَار بِأَعْيَانِهَا عِنْد النَّصَارَى وَالْكذب لائح وَلَا بُد فِي إِحْدَى الحكايتين فَمَا ظنكم بِمثل هَذَا الْعدَد من الْكَذِب والمناقضة فِي مِقْدَار توراتهم وَإِنَّمَا هِيَ مِقْدَار مائَة ورقة وَعشرَة أوراق فِي كل صفحة مِنْهَا من ثَلَاثَة وَعشْرين سطراً إِلَى نَحْو ذَلِك بِخَط هوإلى الِانْفِسَاخ أقرب يكون فِي السطر بضع عشرَة كلمة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنحن نصف إِن شَاءَ الله تَعَالَى حَال كَون التَّوْرَاة عِنْد نبى إِسْرَائِيل من أول دولتهم إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى انْقِرَاض دولتهم إِلَى رجوعهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَى أَن كتبهَا لَهُم عزّر الْوراق بِإِجْمَاع من كتبهمْ واتفاق من عُلَمَائهمْ دون خلاف يُوجد من أحد مِنْهُم فِي ذَلِك وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ من ذَلِك نبهنا عَلَيْهِ ليتيقن كل ذِي فهم أَنَّهَا محرفة مبدلة وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ دخل بَنو إِسْرَائِيل الْأُرْدُن وفلسطين والغور مَعَ يُوشَع بن نون مُدبر أَمرهم عَلَيْهِ السَّلَام إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ يُوشَع العازار بن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام صَاحب السرادق بِمَا فِيهِ وَعِنْده التَّوْرَاة لَا عِنْد أحد غَيره بإقرارهم فدبر يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم فِي استقامة وألزمهم للدّين إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة مذمات مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن مَاتَ يُوشَع ثمَّ دبرهم فيخاس بن العزر بن هَارُون وَهُوَ صَاحب السرادق والكوهن الْأَكْبَر والتوراة عِنْده لَا عِنْد أحد غَيره خمْسا وَعشْرين سنة فِي استقامة والتزام للدّين ثمَّ مَاتَ وَطَائِفَة مِنْهُم عَظِيمَة يَزْعمُونَ أَنه حَيّ إِلَى الْيَوْم وَثَلَاثَة أنفس إِلَيْهِ وهم الياس النَّبِي الهاروني عَلَيْهِ السَّلَام وملكيصيدق بن فالج بن عَامر بن ارفخشاذ بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَالْعَبْد الَّذِي بَعثه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليزوج إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام رفْقَة بنت بتوئيل بن ناخور أخي(1/141)
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا انْقَضتْ الْمدَّة الْمَذْكُورَة لفينحاس بن العزر كفر بَنو إِسْرَائِيل وَارْتَدوا كلهم وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة فملكهم كَذَلِك ملك صور وصيدا مُدَّة ثَمَانِيَة أَعْوَام على الْكفْر
ثمَّ دبر أَمرهم عثنيال بن قنار بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أَرْبَعِينَ سنة على الْإِيمَان ثمَّ مَاتَ فَكفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَارْتَدوا وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة فملكهم كَذَلِك عفلون ملك بني مؤاب ثَمَان عشرَة سنة على الْكفْر ثمَّ دبر أَمرهم أهوَ ذبن قارا قيل أَنه من سبط أفرايم وَقيل من سبط بنيامين وَاخْتلف أَيْضا فِي مُدَّة رياسته فَقيل ثَمَانُون سنة وَقيل خمس وَخَمْسُونَ سنة على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ دبرهم سمْعَان بن غاث بن سبط أَشَارَ خمْسا وَعشْرين سنة على الْإِيمَان ثمَّ مَاتَ فَكفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً فملكهم كَذَلِك مراش الكنعاني عشْرين سنة على الْكفْر ثمَّ دبرت أَمرهم دبور النبتية من سبط يهوذا وَكَانَ زَوجهَا رجلا يُسمى السدوث من سبط أفرايم إِلَى أَن مَاتَت وهم على الْإِيمَان فَكَانَ مُدَّة تدبيرها لَهُم أَرْبَعُونَ سنة فَلَمَّا مَاتَت كفر بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَارْتَدوا وعبدوا الْأَوْثَان جهارا فملكهم عوزبب وزاب ملك بني مَدين سبع سِنِين على الْكفْر ثمَّ دبر أَمرهم جدعون بن بواس من سبط أفرايم وَقيل بل سبط منشا وهم يصفونَ أَنه كَانَ نَبيا وَكَانَ لَهُ وَاحِد وَسَبْعُونَ ابْنا وكورا فملكهم على الْإِيمَان أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ مَاتَ وَولي ابْنه أَبُو ملك ابْن جدعون وَكَانَ فَاسِقًا خَبِيث السِّيرَة فَارْتَد جَمِيع بني إِسْرَائِيل وَكَفرُوا وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً وأعانه أَخْوَاله من أهل نابلس من بني إِسْرَائِيل من سبط يُوسُف بتسعين ديراً من بَيت ماعل الصَّنَم ومضوا مَعَه فَقتل جَمِيع إخْوَته حاشا وَاحِد مِنْهُم أفلت وَبَقِي كَذَلِك ثَلَاث سِنِين إِلَى أَن قتل ودبرهم بعده مولع بن قوا من سبط يساخر وَلم نجد بَيَانا هَل كَانَ على الْإِيمَان أَو على الْكفْر خمْسا وَعشْرين سنة ثمَّ مَاتَ ثمَّ دبر أَمرهم بعده بَابَيْنِ بن جلعاد من سبط منشا اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ لَهُ اثْنَان وَثَلَاثُونَ ولدا ذُكُورا قد ولي كل وَاحِد مِنْهُم مَدِينَة من مَدَائِن بني إِسْرَائِيل فَارْتَد بَنو إِسْرَائِيل كلهم بعد مَوته وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً وملكهم بَنو عمون ثَلَاث عشرَة سنة مُتَّصِلَة على الْكفْر ثمَّ قَامَ فيهم رجل من سبط منشا اسْمه هيلع بن جلعاد وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنه كَانَ ابْن زَانِيَة وَكَانَ فَاسِقًا خَبِيث السِّيرَة نذر إِن أظفره الله بعدوه أَن يقرب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أول من يلقاه من منزله فَأول من لقِيه ابْنَته وَلم يكن لَهُ ولد غَيرهَا فوفي بنذره وذبحها قرباناً وَكَانَ فِي عصره نَبِي فَلم يلْتَفت إِلَيْهِ وَأَنه قتل من بني أفرايم اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين ألف رجل فملكهم سِتّ سِنِين ثمَّ مَاتَ فوليهم بعده أفصات من سبط يهوذا من سكان بَيت لحم وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ ابْنا ذُكُورا فوليهم سبع سِنِين وَقيل سِتّ سِنِين ثمَّ مَاتَ وَالْأَظْهَر من حَاله على مَا توجبه أخبارهم الاسْتقَامَة ووليهم بعده إيلون من سبط زبلون عشر سِنِين إِلَى أَن مَاتَ وَولي بعده عبدون بن هِلَال من سبط أفرايم ثَمَانِي سِنِين على الْإِيمَان وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا ذُكُورا فَلَمَّا مَاتَ ارْتَدَّ بَنو إِسْرَائِيل كلهم وَكَفرُوا وعبدوا الْأَوْثَان جهاراً فملكهم الفلسطينيون وهم الكنعانيون وَغَيرهم أَرْبَعِينَ سنة على الْكفْر ثمَّ دبرهم شمشون بن مانوح من سبط داني وَكَانَ مَذْكُورا عِنْدهم بِالْفِسْقِ وَاتِّبَاع الزواني فدبرهم عشْرين سنة وينسبون إِلَيْهِ المعجزات ثمَّ أسر وَمَات فدبر بَنو إِسْرَائِيل(1/142)
بَعضهم بَعْضًا فِي سَلامَة وإيمان أَرْبَعِينَ سنة بِلَا رَئِيس يجمعهُمْ ثمَّ دبرهم الكاهن الهاروني على الْإِيمَان عشْرين سنة إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ دبرهم شمويل بن فتان النَّبِي من سبط أفرايم قيل عشْرين سنة وَقيل أَرْبَعِينَ سنة كل ذَلِك فِي كتبهمْ على الْإِيمَان وَذكروا أَنه كَانَ لَهُ ابْنَانِ قوهال وببايجو أَن فِي الحكم ويظلمان النَّاس وَعند ذَلِك رَغِبُوا إِلَى شمويل أَن يَجْعَل لَهُم ملكا فولى عَلَيْهِم شاول الدّباغ بن قيش بن انيل بن شارون بن بورات بن آسيا بن خس من سبط بنيامين وَهُوَ طالوت فوليهم عشْرين سنة وَهُوَ أول ملك كَانَ لَهُم ويصفونه بِالنُّبُوَّةِ وبالفسق وَالظُّلم والمعاصي مَعًا وَأَنه قتل من بني هَارُون نيفاً وَثَمَانِينَ إنْسَانا وَقتل نِسَاءَهُمْ وأطفالهم لأَنهم أطعموا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خبْزًا فَقَط فاعلموا الْآن أَنه كَانَ مذ دخلُوا الأَرْض المقدسة إِثْر موت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ولَايَة أول ملك لَهُم وَهُوَ شاول الْمَذْكُور سبع ردات فارقوا فِيهَا الْإِيمَان وأعلنوا بِعبَادة الْأَصْنَام فأولها بقوا فِيهَا ثَمَانِيَة أَعْوَام وَالثَّانيَِة ثَمَانِيَة عشر عَاما وَالثَّالِثَة عشْرين عَاما وَالرَّابِعَة سَبْعَة أَعْوَام وَالْخَامِسَة ثَلَاثَة أَعْوَام وَرُبمَا أَكثر وَالسَّادِسَة ثَمَانِيَة عشر عَاما وَالسَّابِعَة أَرْبَعِينَ عَاما فتأملوا أَي كتاب يبْقى مَعَ تمادي الْكفْر ورفض الْإِيمَان هَذِه المدد الطوَال فِي بلد صَغِير مِقْدَار ثَلَاثَة أَيَّام فِي مثلهَا فَقَط لَيْسَ على دينهم وَاتِّبَاع كِتَابهمْ أحد على ظهر الأَرْض غَيرهم ثمَّ مَاتَ شاول الْمَذْكُور مقتولاً وَولى أَمرهم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وهم ينسبون إِلَيْهِ الزِّنَا عَلَانيَة بِأم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنَّهَا ولدت مِنْهُ من الزِّنَا ابْنا مَاتَ قبل ولادَة سُلَيْمَان فعلى من يضيف هَذَا إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ألف ألف لعنة وينسبون إِلَيْهِ أَنه قتل جَمِيع أَوْلَاد شاول لذنب أَبِيهِم حاشا صَغِيرا مقْعدا كَانَ فيهم فَقَط وَكَانَت مدَّته عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ ولي سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَقد وصفوه بِمَا ذكرنَا قبل وَذكروا عَنهُ أَن نَفَقَته فَرضهَا على الأسباط لكل سبط شهر من السّنة وَأَن جنده كَانُوا اثْنَي عشر ألف فَارس على الْخَيل وَأَرْبَعين ألفا على الرمك خلافًا لما فِي التَّوْرَاة أَن لَا يكثروا من الْخَيل وَهُوَ الَّذِي بني الهيكل فِي بَيت الْمُقَدّس وَجعل فِيهِ السرادق والمذبح والمنارة الْآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هَارُون فَكَانَت ولَايَته أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام فافترق أَمر بني إِسْرَائِيل فَصَارَ بَنو يهوذ وَبَنُو بنيامين لبني سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فِي بَيت الْمُقَدّس وَصَارَ ملك الأسباط الْعشْرَة الْبَاقِيَة إِلَى ملك آخر مِنْهُم يسكن بنابلس على ثَمَانِيَة عشر ميلًا من بَيت الْمُقَدّس وبقوا كَذَلِك إِلَى ابْتِدَاء إدبار أَمرهم على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَذْكُر بحول الله تَعَالَى وقوته أَسمَاء مُلُوك بني سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وأديانهم ثمَّ نذْكر مُلُوك الأسباط الْعشْرَة وَبِاللَّهِ عز وَجل نتأيد ليرى كل وَاحِد كَيفَ كَانَت حَال التَّوْرَاة والديانة فِي أَيَّام دولتهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ولي أثر موت سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ابْنه رحبعام بن سُلَيْمَان وَله سِتّ عشرَة سنة وَكَانَت ولَايَته سَبْعَة عشر عَاما فأعلن الْكفْر طول ولَايَته وَعبد الْأَوْثَان جهاراً هُوَ وَجَمِيع رَعيته وجنده بِلَا خلاف مِنْهُم وَيَقُولُونَ أَن جنده كَانُوا مائَة ألف وَعشْرين ألف مقَاتل وَفِي أَيَّامه غزا ملك مصر فِي سَبْعَة آلَاف فَارس وَخَمْسَة عشر ألف رجل إِلَى بَيت(1/143)
الْمُقَدّس يَأْخُذهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ وهرب رجسام وانتهب ملك مصر الْمَدِينَة وَالْقصر والهيكل وَأخذ كل مَا فِيهَا وَرجع إِلَى مصر سالما غانماً ثمَّ مَاتَ رحبعام على الْكفْر فولي مَكَانَهُ ابْنه أَبَيَا وَله ثَمَان عشرَة سنة فَبَقيَ على الْكفْر هُوَ وجنده ورعيته وعَلى عبَادَة الْأَوْثَان عَلَانيَة وَكَانَت ولَايَته سِتّ سِنِين وَيَقُولُونَ قتل من الأسباط الْعشْرَة فِي حروبه مَعَهم خَمْسمِائَة ألف إِنْسَان ثمَّ ولي بعد مَوته ابْنه اسابن ابيا وَله عشر سِنِين وَكَانَ مُؤمنا فهدم بيُوت الْأَوْثَان وَأظْهر الْإِيمَان وَبَقِي فِي ولَايَته إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة على الْإِيمَان وَذكروا أَن جنده كَانُوا ثَلَاثمِائَة ألف مقَاتل من بني يهوذا واثنين وَخمسين ألفا من بني بنيامين وَمَات وَولي بعده ابْنه يَهو شافاط بن أسا وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة فَكَانَت ولَايَته خمْسا وَعشْرين سنة وَذكروا عَنهُ أَنه كَانَ على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ فولي ابْنه يهورام بن يَهو شافاط وَلم نجد أَمر سيرته وَدينه إِلَّا أَنه كَانَ مؤلفاً الْعِبَادَة والأوثان من مُلُوك سَائِر الأسباط وَولى وَله اثْنَان وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَت ولَايَته ثَمَانِيَة أَعْوَام وَمَات فولي مَكَانَهُ ابْنه أحزياهو وَله اثْنَان وَعِشْرُونَ سنة فأظهر الْكفْر وَعبادَة الْأَصْنَام فِي جَمِيع رَعيته وَكَانَت ولَايَته سنة وَقتل فوليت أمه عثلياهو بنت عمري ملك الْعشْرَة الأسباط فتمادت على أَشد مَا يكون من الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتلت الْأَطْفَال وَأمرت بإعلان الزِّنَا فِي الْبَيْت الْمُقَدّس وَجَمِيع عَملهَا وعهدت أَن لَا تمنع امْرَأَة مِمَّن أَرَادَ الزِّنَا مَعهَا وعهدت أَن لَا يُنكر ذَلِك أحد فَبَقيت كَذَلِك سِتّ سِنِين إِلَى أَن قتلت فولي ابْن ابْنهَا يؤاش بن احزياهو وَله سبع سِنِين فاتصلت ولَايَته أَرْبَعِينَ سنة وأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتل زَكَرِيَّا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْحِجَارَةِ ثمَّ قَتله غلمانه فولي بعده ابْنه أمصياهو بن يؤاش وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته فَبَقيَ كَذَلِك إِلَى أَن قتل وَهُوَ على الْكفْر وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة فِي أَيَّامه انتهب مُلُوك الأسباط الْعشْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس وأغاروا على كل مَا فِيهِ مرَّتَيْنِ ثمَّ ولي بعده عزياهو بن أمصياهو وَله سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته فَبَقيَ كَذَلِك إِلَى أَن قتل وَهُوَ على الْكفْر وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة وَفِي أَيَّامه انتهب مُلُوك الأسباط الْعشْرَة الْبَيْت الْمُقَدّس وأغاروا على كل مَا فِيهِ مرَّتَيْنِ ثمَّ ولي بعده عزيا هُوَ بن أمصياهو وَله سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع رَعيته إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَت ولَايَته اثْنَتَيْنِ وَخمسين سنة وَهُوَ قتل عاموص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الداوودي فولي بعده ابْنه يوثام ابْن عزيا هُوَ وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة وَلم نجد لَهُ سيرة وَكَانَت ولَايَته سِتّ عشرَة سنة فَمَاتَ فولي مَكَانَهُ ابْنه احاز بن يوثام وَله عشرُون سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَكَانَت ولَايَته سِتّ عشرَة سنة فأعلن الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ فولي بعده ابْنه حزقيا بن أحاز وَله خمس وَعِشْرُونَ سنة وَكَانَت ولَايَته تسعا وَعشْرين سنة فأظهر الْإِيمَان وَهدم بيُوت الْأَوْثَان وَقتل خدمتهما وَبَقِي على الْإِيمَان إِلَى أَن مَاتَ هُوَ وَجَمِيع رَعيته وَفِي السّنة السَّابِعَة من ولَايَته انْقَطع ملك الْعشْرَة الأسباط من بني إِسْرَائِيل وَغلب عَلَيْهِم سُلَيْمَان الأعسر ملك الْموصل وسباهم ونقلهم إِلَى أمد(1/144)
وبلاد الجزيرة وَسكن فِي بِلَاد الأسباط الْعشْرَة أهل أمد والجزيرة فأظهروا دين السامرة الَّذين هُنَاكَ إِلَى الْيَوْم ثمَّ مَاتَ حزقيا وَولي بعده ابْنه منشا بن حزقيا وَله ثنتا عشرَة سنة فَفِي السّنة الثَّالِثَة من ملكه أظهر الْكفْر وَبنى بيُوت الْأَوْثَان وَأظْهر عبادتها هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَقتل شعيا النَّبِي قيل نشره بِالْمِنْشَارِ من رَأسه إِلَى مخرجه وَقيل قَتله بِالْحِجَارَةِ وَأحرقهُ بالنَّار وَالْعجب كُله أَنهم يصفونَ فِي بعض كتبهمْ بِأَن الله أوحى إِلَيْهِ مَعَ ملك من الْمَلَائِكَة وَأَن ملك بابل كَانَ أسره وَحمله إِلَى بَلَده وَأدْخلهُ فِي ثَوْر نُحَاس وأوقد النَّار تَحْتَهُ فَدَعَا الله فَأرْسل إِلَيْهِ ملكا فَأخْرجهُ من الثور ورده إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَأَنه تَمَادى مَعَ ذَلِك كُله على كفره حَتَّى مَاتَ وَكَانَت ولَايَته خمْسا وَخمسين فَقولُوا يَا معشر السامعين بلد تعلن فِيهِ عبَادَة الْأَوْثَان وتبني هياكلها وَيقتل من وجد فِيهِ من الْأَنْبِيَاء كَيفَ يجوز أَن يبْقى فِيهِ كتاب الله سالما أم كَيفَ يُمكن هَذَا فَلَمَّا مَاتَ منشا ولي مَكَانَهُ ابْنه آمون بن منشا وَهُوَ ابْن اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما فَكَانَت ولَايَته سنتَيْن على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ فولي مَكَانَهُ ابْنه يوشيا بن آموز وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين فَفِي السّنة الثَّالِثَة من ملكه أعلن الْإِيمَان وَكسر الصلبان وأحرقها واستأصل هياكلها وَقتل خدامها وَلم يزل على الْإِيمَان إِلَى أَن قتل قَتله ملك مصر وَفِي أَيَّامه أَخذ أرميا النَّبِي السرادق والتابوت وَالنَّار وأخفاها حَيْثُ لَا يدْرِي أحد لعلمه بفوت ذهَاب أَمرهم ثمَّ ولي بعده ابْنه يهويا حوز بن يوشيا وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَعشْرين سنة فَرد الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان وَأخذ التَّوْرَاة من الكاهن الهاروني وَنشر مِنْهَا أَسمَاء لله حَيْثُ وجدهَا وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وأسره ملك مصر فولي مَكَانَهُ يهويا قيم بن نوشيا أَخُوهُ وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة فأعلن الْكفْر وَبنى بيُوت الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَقطع الدّين جملَة وَأخذ التَّوْرَاة من الهاروني فأحرقها بالنَّار وَقطع أَثَرهَا وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى عشرَة سنة وَمَات فولي مَكَانَهُ ابْنه يهويا كين بن يهويا قيم وتلقب بنخيا وَهُوَ بن ثَمَان عشرَة سنة فَأَقَامَ على الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثَة أشهر وأسرة بخْتنصر فولي مَكَانَهُ عَمه متنيا بن يوشيا وتلقب صدقا وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَعشْرين سنة فَثَبت على الْكفْر وأعلن عبَادَة الْأَوْثَان هُوَ وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته وَكَانَت ولَايَته إِحْدَى عشر سنة وأسره بخْتنصر وَهدم الْبَيْت وَالْمَدينَة واستأصل جَمِيع بني إِسْرَائِيل وأخلى الْبَلَد مِنْهُم وَحَملهمْ إِلَى بِلَاد بابل وَهُوَ آخر مُلُوك بني إِسْرَائِيل وَبني سُلَيْمَان جملَة فَهَذِهِ كَانَت صفة مُلُوك بني سُلَيْمَان بن دَاوُود عَلَيْهِمَا السَّلَام
فاعلموا الْآن أَن التَّوْرَاة لم تكن من أول دولتهم إِلَى انْقِضَائِهَا إِلَّا عِنْد الهاروني الكوهن الْأَكْبَر وَحده فِي الهيكل فَقَط وَأما مُلُوك الأسباط الْعشْرَة فَلم يكن فيهم مُؤمن قطّ وَلَا وَاحِد فَمَا فَوْقه بل كَانُوا كلهم معلنين بِعبَادة الْأَوْثَان مخيفين للأنبياء مانعين الْقَصْد إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يكن فيهم نَبِي قطّ إِلَّا مقتولاً أَو هَارِبا مخافاً
فَإِن قيل أَلَيْسَ قد قتل الياس جَمِيع أَنْبيَاء بابل لأجل الوثن الَّذِي كَانَ يعبده الْملك والنخلة الَّتِي كَانَت تعبدها بني إِسْرَائِيل وهم ثَمَانمِائَة وَثَمَانُونَ رجلا
قُلْنَا إِنَّمَا كَانَ بِإِقْرَار كتبهمْ فِي مشْهد وَاحِد ثمَّ هرب من وقته وطلبته امْرَأَة الْملك لتقتله وَمَا أبصره أحد فَأول مُلُوك الأسباط الْعشْرَة يربعام بن ناباط الافرايمي وليهم إِثْر موت سُلَيْمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم فَعمل من حِينه عجلين من ذهب وَقَالَ هَذَانِ إلاهاكم اللَّذَان خلصاكم من مصر وَبنى لَهما هيكلين وَجعل لَهما سدنة من غير بني لاوي وعبدهما هُوَ وَجَمِيع(1/145)
أهل مَمْلَكَته ومنعهم من الْمسير إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ كَانَ شريعتهم لَا شَرِيعَة لَهُم غير الْقَصْد إِلَيْهِ والقربان فِيهِ فَملك أَرْبعا وَعشْرين سنة ثمَّ مَاتَ وَولي ابْنه ناداب بن يربعام على الْكفْر الْمُعْلن سنتَيْن ثمَّ قَتله هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولى بعشا بن إيلا من بني يساخر على عبَادَة الْأَوْثَان عَلَانيَة أَرْبعا وَعشْرين سنة وَولى وَلَده أيلا بن بعشا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سنتَيْن إِلَى أَن قَامَ عَلَيْهِ رجل من قواده اسْمه زمري فَقتله وَجَمِيع أهل بَيته وَولى زمري سَبْعَة أَيَّام فَقتل وأحرق عَلَيْهِ دَاره وافترق أَمرهم على رجلَيْنِ أَحدهمَا يُسمى تبني بن جينة وَالْآخر عمري فبقيا كَذَلِك اثْنَتَيْ عشرَة عَاما ثمَّ مَاتَ تبني وَانْفَرَدَ بملكهم عمري فَبَقيَ كَذَلِك ثَمَانِيَة أَعْوَام على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ وَولي بعده ابْنه أحاب بن عمري على أَشد مَا يكون من الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِحْدَى وَعشْرين سنة وَفِي أَيَّامه كَانَ الياس النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام هَارِبا عَنهُ فِي الفلوات وَعَن امْرَأَته بنت ملك صيدا وهما يطلبانه للْقَتْل ثمَّ مَاتَ أحاب وَولى ابْنه أحزيا بن أحاب على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان ثَلَاث سِنِين ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ أَخُوهُ يهورام ابْن أحاب على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان اثْنَتَيْ عشرَة سنة إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَفِي أَيَّامه كَانَ اليسع عَلَيْهِ السَّلَام وَولي مَكَانَهُ يَا هُوَ بن نمشي من سبط منشيا فَكَانَ أقلهم كفرا هدم هياكل مَا على الوثن وَقتل سدنته إِلَّا أَنه لم ينقص قطع عبَادَة الْأَوْثَان بل ترك النَّاس عَلَيْهَا وَلم يظْهر الْإِيمَان فولي كَذَلِك ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَمَات وَولي مَكَانَهُ ابْنه يهويا حَاز بن ياهو سبع عشرَة سنة فَبنى بيُوت الْأَوْثَان وأعلن عبادتها هُوَ ورعيته إِلَى أَن مَاتَ وَفِي كتبهمْ أَن أَمر الأسباط الْعشْرَة ضعف فِي أَيَّامه حَتَّى لم يكن مَعَه من الْجند الاخمسون فَارِسًا وَعشرَة آلَاف رجل فَقَط لِأَن ملك دمشق غلب عَلَيْهِم وقتلهم وَولي مَكَانَهُ ابْنه يواش ابْن يهويا حازست عشرَة سنة على أَشد من كفر أَبِيه وَأخذ فِي عبَادَة الوثان وَهُوَ الَّذِي غزا بَيت الْمُقَدّس وأغار عَلَيْهِ وعَلى الهيكل وَأخذ كل مَا فِيهِ وَهدم من سور الْمَدِينَة أَرْبَعمِائَة ذِرَاع وهرب عَنهُ ملك يهوذ ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ ابْنه ياربعام بن يؤاش خمْسا وَأَرْبَعين سنة على مثل كفر أَبِيه وَعبادَة الْأَوْثَان وغزا أَيْضا بَيت الْمُقَدّس وهرب أَمَامه ملكهَا الداوودي فَأتبعهُ فَقتله ثمَّ مَاتَ وَولي مَكَانَهُ ابْنه زخريا بن يار بعام بن يؤاش بن يهويا حَاز بن يَا هُوَ بن نمشي سِتَّة أشهر على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولي مَكَانَهُ شلوم ابْن نامس من سبط نفتالي فَملك شهرا وَاحِدًا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان ثمَّ قتل وَولي بعده مياخيم بن قارا من سبط يساخر عشْرين سنة على عبَادَة الْأَوْثَان وَالْكفْر وَمَات وَولي مَكَانَهُ ابْنه محيا بن مياخيم على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سنتَيْن إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته وَولي مَكَانَهُ ناجح بن مَلِيًّا من سبط داني فَملك ثمانياً وَعشْرين سنة على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن قتل هُوَ وَجَمِيع أهل بَيته
وَفِي أَيَّامه أَجلي تباشر ملك الجزيرة بني رؤابين وَبني جادا وَنصف سبط منشيا من بِلَادهمْ بالغور وَحَملهمْ إِلَى بِلَاده(1/146)
وَسكن بِلَادهمْ قوما من بِلَاده ثمَّ ولي مَكَانَهُ هُوَ سيع بن إيلا من سبط جادا على الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان سبع سِنِين إِلَى أَن أسره كَمَا ذكرنَا سُلَيْمَان الأعسر ملك الْموصل وَحمله والتسعة الأسباط وَنصف سبط منشيا إِلَى بِلَاده أسرى وَسكن بِلَادهمْ قوما من أهل بَلَده وهم السامرية إِلَى الْيَوْم وَهُوَ سيع هَذَا آخر مُلُوك الأسباط الْعشْرَة وانقضى أَمرهم فبقايا المنقولين من أمد والجزيرة إِلَى بِلَاد بني إِسْرَائِيل هم الَّذين يُنكرُونَ التَّوْرَاة جملَة وَعِنْدهم توراة أُخْرَى غير هَذِه الَّتِي عِنْد الْيَهُود وَلَا يُؤمنُونَ بِنَبِي بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا يَقُولُونَ بِفضل بَيت الْمُقَدّس وَلَا يعرفونه وَيَقُولُونَ أَن الْمَدِينَة المقدسة هِيَ نابلس فَأمر توراة أُولَئِكَ أَضْعَف من توراة هَؤُلَاءِ لأَنهم لَا يرجعُونَ فِيهَا إِلَى نَبِي أصلا وَلَا كَانُوا هُنَالك أَيَّام دولة بني إِسْرَائِيل وَإِنَّمَا عَملهَا لَهُم رؤساهم أَيْضا فقد صَحَّ يَقِينا أَن جَمِيع أَسْبَاط بني إِسْرَائِيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين وَمن كَانَ بَينهم من بني هَارُون بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام مُدَّة مِائَتي عَام وَوَاحِد وَسبعين عَاما لم يظْهر فيهم قطّ إِيمَانًا وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا فَمَا فَوْقه وَإِنَّمَا كَانُوا عباد أوثان وَلم يكن قطّ فيهم نَبِي إِلَّا مخاف وَلَا كَانَ للتوراة عِنْدهم لَا ذكر وَلَا رسم وَلَا أثر وَلَا كَانَ عِنْدهم شيءٌ من شرائعها أصلا مضى على ذَلِك جَمِيع عامتهم وَجَمِيع مُلُوكهمْ وهم عشرُون ملكا قد سميناهم إِلَى أَن أوجلوا ودخلوا فِي الْأُمَم وتدينوا بدين الصابئين الَّذين كَانُوا بَينهم متملكين وَانْقطع رسم رميميهم إِلَى الْأَبَد فَلَا يعرف مِنْهُم عين أحد وَظهر يَقِينا أَن بني يهوذا وَبني بنيامين كَانَت مُدَّة ملكهم بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَرْبَعمِائَة سنة غير أَعْوَام على اخْتِلَاف من كتبهمْ فِي ذَلِك فِي بضعَة عشر عَاما وَقد قُلْنَا أَنَّهَا كتب مدخولة فَاسِدَة ملك هذَيْن السبطين فِي هَذِه الْمدَّة من بني سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام تِسْعَة عشر رجلا وَمن غَيرهم امْرَأَة تَمُّوا بهَا عشْرين ملكا قد سميناهم كلهم آنِفا كَانُوا كفَّارًا معلنين بِعبَادة الْأَوْثَان حاشا خَمْسَة مِنْهُم فَقَط كَانُوا مُؤمنين وَلَا مزِيد وهم اشا بن أساولي إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة وَابْنه يهوشا فاط بن أشاولي خمْسا وَعشْرين سنة فَهَذِهِ سِتَّة وَسِتُّونَ اتَّصل فيهم الْكفْر ظَاهرا وَعبادَة الْأَوْثَان ثمَّ ثَمَانِيَة أَعْوَام ليورام بن يهوشا فاط لم نجد لَهُ حَقِيقَة دين فحملناه على الْإِيمَان لسَبَب أَبِيه ثمَّ اتَّصل الْكفْر ظَاهرا وَعبادَة الْأَوْثَان فِي مُلُوكهمْ وعامتهم مائَة عَام وَسِتِّينَ عَاما مَعَ كفر سَائِر أسباطهم فعمهم الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان فِي أَوَّلهمْ وَآخرهمْ فَأَي كتاب أَو أَي دين يبْقى مَعَ هَذَا ثمَّ ولي حزقياً الْمُؤمن تسعا وَعشْرين سنة ثمَّ اتَّصل الْكفْر بعد فِي عامتهم وملوكهم وَعبادَة الْأَوْثَان سبعا وَخمسين سنة ثمولى يوشا الْمُؤمن الْفَاضِل إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة ثمَّ لم يل بعده إلأأ كَافِر معلن بِعبَادة الْأَوْثَان مُدَّة اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما وَسِتَّة أشهر مِنْهُم من نشر أَسمَاء الله من التَّوْرَاة وَمِنْهُم من أحرقها وَقطع أَثَرهَا وَلم نجد بعد هَؤُلَاءِ ظهر فيهم إِيمَان إِلَّا الْكفْر وَقتل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَى أَن انْقَطع أَمرهم جملَة بغارة بخْتنصر وَسبوا كلهم وَهدم الْبَيْت واستأصل أَثَره إِلَى غارات كَانَت على مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس وهيكلها الَّذِي لم تكن التَّوْرَاة عِنْد أحد إِلَّا فِيهِ لم يتْرك فِيهَا شَيْء مرّة أغار عَلَيْهِم صَاحب مصر أَيَّام رحبعام بن سُلَيْمَان ومرتين فِي أَيَّام أمصيا هُوَ الْملك(1/147)
من قبل صَاحب الْعشْرَة الأسباط إِلَى أَن أملهَا عَلَيْهِم من حفظه عزّر الْوراق الهاروني وهم مقرون أَنه وجدهَا عِنْدهم وفيهَا خللٌ كثير فأصلحه وَهَذَا يَكْفِي وَكَانَ كِتَابَة عزّر للتوراة بعد أَزِيد من سبعين سنة من خراب بَيت الْمُقَدّس وكتبهم تدل على أَن عزرا لم يَكْتُبهَا لَهُم وَلم يصلحها إِلَّا بعد نَحْو أَرْبَعِينَ عَاما من رجوعهم إِلَى الْبَيْت بعد السّبْعين عَاما الَّتِي كَانُوا فِيهَا خالين وَلم يكن فيهم حِينَئِذٍ نَبِي أصلا وَلَا الْقبَّة وَلَا التابوت وَاخْتلف فِي النَّار كَانَت عِنْدهم أم لَا وَمن ذَلِك الْوَقْت انتشرت التَّوْرَاة وَنسخت وَظَهَرت ظهوراً ضَعِيفا أَيْضا وَلم تزل تتداولها الْأَيْدِي مَعَ ذَلِك إِلَى أَن جعل أنطاكيوس الْملك الَّذِي بنى أنطاكية وثناً لِلْعِبَادَةِ فِي بَيت الْمُقَدّس وَأخذ بني إِسْرَائِيل بِعِبَادَتِهِ وَقربت الْخَنَازِير على مذبح الْبَيْت ثمَّ تولى أَمرهم قوم من بني هَارُون بعد مئتين من السنين وانقطعت القرابين فَحِينَئِذٍ انتشرت نسخ التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم وأحدث لَهُم أَحْبَارهم صلوَات لم تكن عِنْدهم جعلوها بَدَلا من القرابين وَعمِلُوا لَهُم دينا جَدِيدا ورتبوا لَهُم الْكَنَائِس فِي كل قَرْيَة بِخِلَاف حَالهم طول دولتهم وَبعد هَلَاك دولتهم بأزيد من أَرْبَعمِائَة عَام وأحدثوا لَهُم اجتماعاً فِي كل سبت على مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم بِخِلَاف مَا كَانُوا طول دولتهم فَإِنَّهُ لم يكن لَهُم فِي شَيْء من بِلَادهمْ بَيت عبَادَة وَلَا مجمع ذكر وَتعلم وَلَا مَكَان قرْبَان قربَة الْبَتَّةَ إِلَّا بَيت الْمُقَدّس وَحده وَمَوْضِع السرادق قبل بُنيان بَيت الْمُقَدّس فَقَط وبرهان هَذَا أَن فِي سفر يُوشَع بن نون بإقرارهم أَن بنى رؤا بَين وَبني جادا وَنصف سبط منشأ إِذا رجعُوا بعد فتح بِلَاد الْأُرْدُن وفلسطين إِلَى بِلَادهمْ بشرقي الْأُرْدُن بنوا مذبحاً فهم يُوشَع بن نون وَسَائِر بني إِسْرَائِيل بغزوهم من أجل ذَلِك حَتَّى أرْسلُوا إِلَيْهِ أننا لم نقمه لَا لقربان وَلَا لتقديس أصلا ومعاذ الله أَن نتَّخذ مَوضِع تقديس غير الْمُجْتَمع عَلَيْهِ الَّذِي فِي السرادق وَبَيت الله فَحِينَئِذٍ كف عَنْهُم فَفِي دون هَذَا كِفَايَة لمن عقل فِي أَنَّهَا كتاب مبدل مَكْذُوب مَوْضُوع وَدين مَعْمُول خلاف الدّين الَّذِي يقرونَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُم بِهِ وَمَا يزِيد الشَّيْطَان مِنْهُم أَكثر من هَذَا وَلَا فِي الضلال فَوق هَذَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَأَيْضًا فَإِن فِي التَّوْرَاة الَّتِي ترجمها السبعون شَيخا لبطليموس الْملك بعد ظُهُور التَّوْرَاة وفشوها مُخَالفَة للَّتِي كتبهَا لَهُم عزرا الْوراق وتدعي النَّصَارَى أَن تِلْكَ الَّتِي ترْجم السبعون شَيخا فِي اخْتِلَاف أَسْنَان الْآبَاء بَين آدم ونوح عَلَيْهِمَا السَّلَام الَّتِي من أجل ذَلِك الِاخْتِلَاف تولد بَين تَارِيخ الْيَهُود وتاريخ النَّصَارَى زِيَادَة ألف عَام ونيف على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن كَانَ هُوَ كَذَلِك فقد وضح الْيَقِين وَكذب السبيعن شَيخا وتعمدهم لنقل الْبَاطِل وهم الَّذين عَنْهُم أخذُوا دينهم وأفٍ أفٍ لدين أَخذ عَن مُتَيَقن كذبه
وايضاً فَإِن فِي السّفر الْخَامِس من أسفار التَّوْرَاة الَّذِي يسمونه التّكْرَار أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى اصْنَع لَو حِين على حَال الْأَوَّلين واصعد إِلَى الْجَبَل واعمل تابوتاً من خشب لأكتب فِي اللَّوْحَيْنِ الْعشْر كَلِمَات الَّتِي أسمعكم السَّيِّد فِي الْجَبَل من وسط اللهيب عِنْد اجتماعكم إِلَيْهِ وَيرى بهما إِلَيّ فَانْصَرَفت من الْجَبَل وجعلتهما فِي التابوت وهما فِيهِ إِلَى الْيَوْم وَفِي السّفر الْمَذْكُور أَيْضا بعد هَذَا الْفَصْل قَالَ وَمن بعد أَن كتب مُوسَى هَذِه العهود فِي مصحف واستوعبها أَمر نبى لاوي حاملي تَابُوت عهد الرب وَقَالَ لَهُم خُذُوا هَذَا الْمُصحف واجعلوه فِي المذبح وَاجْعَلُوا عَلَيْهِ تَابُوت عهد الرب إِلَهكُم ليَكُون عَلَيْكُم شَاهدا وَقَالَ قبل ذَلِك فِي السّفر الْمَذْكُور أَيْضا إِذا استجمعتم على تَقْدِيم ملك عَلَيْكُم على حَال مُلُوك الْأَجْنَاس فَلَا تقدمُوا إِلَّا(1/148)
من ارتضاء الرب من عدد إخوتكم وَلَا تقدمُوا أَجْنَبِيّا على أَنفسكُم إِلَى أَن قَالَ فَإِذا قعد على سَرِير ملكه فليكتب من هَذَا التّكْرَار فِي مصحف مَا يُعْطِيهِ الكوهن الْمُتَقَدّم من بني لاوي لما يشاكله وَيكون ذَلِك مَعَه فيقرأه كل يَوْم طول ولَايَته ليخاف الرب إلهه وَيذكر كِتَابه وَعَهده فَهَذَا كُله بَيَان وَاضح بِصِحَّة مَا قُلْنَا من أَن الْعشْر كَلِمَات ومصحف التَّوْرَاة إِنَّمَا كَانَ فِي الهيكل فَقَط تَحت تَابُوت الْعَهْد وَفِي التابوت فَقَط عِنْد الكوهن الْأَكْبَر وَحده لِأَنَّهُ بإجماعهم لم يكن يصل إِلَى ذَلِك الْموضع أحد سواهُ وَفِيه أَيْضا أَنه أَمر أَن يكْتب الكوهن الْمَذْكُور من السّفر الْخَامِس فَقَط شَيْئا يُمكن أَن يقرأه الْملك كل يَوْم وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَّا يَسِيرا جدا ورقة نَحْو أَو ذَلِك مَعَ أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنه لم يلْتَفت إِلَى ذَلِك أَلْبَتَّة بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أحد من مُلُوكهمْ إِلَّا أَرْبَعَة أَو خَمْسَة كَمَا قدمنَا فَقَط من جملَة أَرْبَعِينَ ملكا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ فِي السّفر الْمَذْكُور ثمَّ كتب مُوسَى هَذَا الْكتاب وَيرى بِهِ إِلَى الكهنة من بني لاوي الَّذين كَانُوا يحسنون عهد الرب وَقَالَ لَهُم مُوسَى إِذا اجْتَمَعْتُمْ للتقديس بَين يَدي الرب إِلَهكُم فِي الْموضع الَّذِي تخيره الرب فاقرؤا مَا فِي هَذَا الْمُصحف فِي جمَاعَة بني إِسْرَائِيل عِنْد اجْتِمَاعهم فَقَط يسمعوا مَا يلْزمهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي نَص تورانهم أَنهم كَانُوا لَا يلْزمهُم الْمَجِيء إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَّا ثَلَاث مَرَّات فِي كل سنة فَقَط فَإِنَّمَا أَمر بِنَصّ التَّوْرَاة كَمَا أوردنا أَن يقرأه عَلَيْهِم الكوهن الهاروني عِنْد اجْتِمَاعهم فَقَط فَثَبت أَنَّهَا لم تكن إِلَّا فِي الهيكل فَقَط عِنْد الكوهن الهاروني فَقَط لَا عِنْد أحد سواهُ وَقد أوضحنا قبل أَن الْعشْرَة الأسباط لم يدْخل قطّ بَيت الْمُقَدّس مِنْهُم أحد بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أَن انْقَطَعُوا وَأَن بني يهوذا وبنيامين لم يجتمعوا لم يجتمعوا إِلَيْهِ إِلَّا فِي عهد الْمُلُوك الْخَمْسَة الْمُؤمنِينَ فَقَط فَظهر بِهَذَا كل مَا قُلْنَا وَصَحَّ تبديلها بِيَقِين وَلَا شكّ فِي أَن تِلْكَ الْمدَّة الطَّوِيلَة الَّتِي هِيَ أَرْبَعمِائَة سنة غير شَيْء قد كَانَ فِي الكهنة الهارونين مَا كَانَ فِي غَيرهم من الْكفْر وَالْفِسْق وَعبادَة الْأَوْثَان كَالَّذي يذكرُونَ عَن ابْني الكوهن عالى الهاروني وَغَيرهمَا مِمَّن يقرؤن فِي كتبهمْ أَنهم خدموا الْأَوْثَان وبيوتها من بني هَارُون وَبني لاوي وَمن هَذِه صفته فَلَا يُؤمن عَلَيْهِ تَغْيِير مَا ينْفَرد بِهِ وَهَذِه كلهَا براهين أَضْوَأ من الشَّمْس على صِحَة تَبْدِيل توراتهم وتحريفها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ إِلَّا سُورَة وَاحِدَة ذكر فِي توراتهم أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَمر بِأَن تكْتب وَتعلم جَمِيع بني إِسْرَائِيل ليحفظوها ويقوموا بهَا وَلَا يمْتَنع أحد من نسلهم من حفظهَا وَهَذَا نَصهَا حرفا بِحرف اسمعي يَا سموات قولي وَتسمع الأَرْض كَلَامي يكثر كالمطر وبل كالرذاذ كَلَامي وَيكون كالمطر على العشب وكالرذاذ على الخصب لِأَنِّي أنادي باسم الرب فيعظمه الرب الهنا الَّذِي أكمل خليقته واعتدلت أَحْكَامه الله الْأمين الَّذِي لَا يجور الْعدْل القيوم أذْنب لَدَيْهِ غير أوليائه ومحت الْأمة العاصية المستحيلة وَهَذَا شكر للرب يَا أمة جاهلة قيمَة أما هُوَ أبوكم الَّذِي خَلقكُم ومليككم فتذكروا الْقَدِيم وفكروا فِي الْأَجْنَاس وسلوا آباكم فيعلمونكم وأكابركم فيعرفونكم إِذا كَانَ يقسم الْعلي الْأَجْنَاس ويميز بَين بني آدم جعل قسْمَة الْأَجْنَاس على حِسَاب بني إِسْرَائِيل فهم الرب أمته وَيَعْقُوب قسمته وجده(1/149)
فِي الأَرْض المقفرة وَفِي مَوضِع قَبِيح غير مسلوك فَأَطْلقهُ وَأَقْبل بِهِ وَحفظه كحفظ الشّعْر للعين وأطارهم كَمَا يستطير الْعقَاب بفراخها وتحوم عَلَيْهَا وتبسط جناحها حفظا لَهَا فَأقبل بهم وَحَملهمْ على مَنْكِبَيْه وَحده كَانَ فالرب وَحده كَانَ قائدهم وَلم يكن مَعَه إِلَه غَيره فجعلهم فِي أشرف أرضه ليأكلوا خبزها ويصيبوا عسل حجارتها وزيت جنادلها وَسمن مواشيها وَلبن ضأنها وشحوم خرفانها وكباش بني بِلِسَان وَلُحُوم التيوس ولباب البرودم الْعِنَب وتعاصوا سمنوا ودبروا وأشعوا ثمَّ تخلوا من الله خالقهم وَكَفرُوا بِاللَّه مسلمهم فألجوه لعبادتهم الْأَوْثَان إِلَى أَن سخط عَلَيْهِم ولسجودهم للشَّيْطَان لَا لله ولسجودهم لألهة بالأجناس كَانُوا يجهلونها وَلم يعدها قبلهم آباؤهم فتحلوا من الله الَّذِي ولدهم فنسوا الرب خالقهم فَبَصر الرب بِهَذَا وَغَضب لَهُ إِذْ تخلى بنوه وَبنَاته فَقَالَ اخفي وَجْهي عَنْهُم حَتَّى أعلم آخر أَمرهم فَإِنَّهَا أمة كَافِرَة عاصية وَقد أسخطوني بِعبَادة من لَيْسَ إِلَهًا وأغضبوني بفواحشهم وسأغيرهم على يَدي أمة ضَعِيفَة وأخف بهم على يَدي أمة جاهلة ويتقدم غَضَبي نَار تحرق إِلَى الْهَوَاء فتأتي على الأَرْض بمعاتسته وَتذهب أصُول الْجبَال فأجمع عَلَيْهِم بأسى وأثقبهم بنبلي وأهلكهم جوعا وأجعلهم طعماً للطير وأسلط عَلَيْهِم أَنْيَاب السبَاع وأعصب عَلَيْهِم الْحَيَاة فَإِن برزوا أهلكتهم رماحاً وَإِن تحَصَّنُوا أهلكت الشَّاب مِنْهُم والعذار والطفل وَالشَّيْخ رعْبًا حَتَّى أَقُول أَيْن هم فأقطع من الأَرْض ذكرهم لكني رفهت عَنْهُم لشدَّة حرد أعدائهم لِئَلَّا يزهوا ويقولوا أَيْدِينَا القوية فعلت لَا الرب فَهَذِهِ الْأمة لَا رأى لَهَا وَلَا تَمْيِيز فليتها عرفت وفهمت وأبصرت مَا يُدْرِكهَا فِي آخر أمرهَا كَيفَ يتبع وَاحِد مِنْهُم ألفا ويفر عَن اثْنَيْنِ عشرَة آلَاف أما هَذَا بِأَن رَبهم أسلمهم وربهم أعلق فيهم لَيْسَ إلهنا مثل آلِهَتهم وَصَارَ حكما كرمهم من كرم سدوم وعناقيدهم من أرباض عامورا فعناقيدهم عناقيد المرارة وشرابهم مرَارَة الثعابين وَمن السم الَّذِي لَا دَوَاء لَهُ أما هَذَا فِي علمي ومعروف فِي خزائني لي الانتقام وَأَنا أكافئ فِي وقته فترهق أَرْجُلكُم فَكَانَ قد حَان وَقت خرابهم وَإِلَى ذَلِك تسرع الْأَزْمِنَة سيحكم الرب على أمته وَيرْحَم عبيده إِذا أبصرهم قد ضعفوا وأغلق عَلَيْهِم وذهبوا وَذهب أواخرهم وَقَالَ أَيْن آلِهَتهم الَّتِي يَتَّقُونَ الَّتِي يَتَّقُونَ ويأكلون من قُرْبَانهمْ وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ فليقوموا وليغيثوهم فِي وَقت حَاجتهم فتبصروا تبصروا أَنا وحدي وَلَا إِلَه غَيْرِي أَنا أميت وَأَنا أحيي وَأَنا أمرض وأناأبرئ وَلَا يتَخَلَّص شيئ من يَدي فأرفع إِلَى السَّمَاء يَدي وَأَقُول بحياتي الدائمة لَئِن حددت رُمْحِي كالصاعقة وابتدأت يَمِيني بالجكم لَا كافاني أعدائي وَأهل السنان وَلَا سكرن نبلى دَمًا وَلَا قطعن برمحي لحوما فامدحوا يَا معشر الْأَجْنَاس أمة فَإِنَّهُ سيأخذ بدماء عبيده وينتقم من أعدائهم وَيرْحَم أَرضهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه السُّورَة الَّتِي أبيحت لَهُم وَأمرُوا بحفظها وكتابتها لَا مَا سواهَا بِنَصّ توراتهم بزعمهم وَقد بَينا قبل أَنهم لم يشتغلوا بعد موت سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لَا بِهَذِهِ السُّورَة وَلَا بغَيْرهَا إِلَّا مُدَّة الْمُلُوك الْخَمْسَة فَقَط لأَنهم قد عبدُوا كلهم الْأَوْثَان وَقتلُوا الْأَنْبِيَاء وأخافوهم وشردوهم هَذَا مَا لَا يشك فِيهِ كَافِر وَلَا مُؤمن
على أَن فِي هَذِه السُّورَة من الفضائح مَا لَا يجوز أَن ينْسب إِلَى الله عز وَجل مثل قَوْله إِن الله تَعَالَى هُوَ أبوهم الَّذِي ولدهم وَأَنَّهُمْ بنوه وَبنَاته حاش لله من هَذَا وَهل طرق لِلنَّصَارَى وَسَهل(1/150)
عَلَيْهِم أَن يجْعَلُوا لله ولدا إِلَّا مَا وجدوا فِي هَذِه الْكتب الملعونة المكذوبة المبدلة بأيدي الْيَهُود وَلَيْسَ فِي الْعجب أَكثر من أَن يجعلهم أنفسهم أَوْلَاد الله تَعَالَى وكل من عرفهم يعرف أَنهم أوضر الْأُمَم بزَّة وأبردهم طلعة وأغثهم مقاطع وأتمهم خبثاً وَأَكْثَرهم غشاً وأجبنهم نفوساً وأشدهم مهانة وأكذبهم لهدة وأضعفهم همة وأرعنهم شمائل بل حاش لله من هَذَا الاختبار الْفَاسِد
وَمثل قَوْله فِي هَذِه السُّورَة أَنه تَعَالَى حملهمْ على مَنْكِبَيْه
وَمثل قَوْله أَنه قسم الْأَجْنَاس من بني آدم وَجعل قسْمَة الْأَجْنَاس على حِسَاب بني إِسْرَائِيل وجعلهم سَهْمه فَهَذَا كذب ظَاهر حاش لله مِنْهُ لِأَن أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل اثْنَا عشر فعلى هَذَا يجب أَن يكون أَجنَاس بني آدم اثْنَي عشر وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن كَانَ عني من تناسل من بني إِسْرَائِيل فكذب حِينَئِذٍ أشنع وأبشع لِأَن عَددهمْ لَا يسْتَقرّ على قدر وَاحِد بل كل يَوْم يزِيدُونَ وينقصون بِالْولادَةِ وَالْمَوْت هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فَكل هَذِه براهين وَاضِحَة بِأَنَّهَا محرفة مبدلة مكذوبة فَإذْ هِيَ كَذَلِك فَلَا يجوز الْبَتَّةَ فِي عقل أحد أَن يشْهد فِي تَصْحِيح شَرِيعَة وَلَا فِي نقل معْجزَة وَلَا فِي إِثْبَات نبوة بِنَقْل مَكْذُوب مفتري مَوْضُوع هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ وَقد قُلْنَا أَو نقُول أَن نقل الْيَهُود فَاسد مَدْخُول لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى قوم أتبعوا من أخرجهم من الذل وَالْبَلَاء والسخرة والخدمة فِي عمل الطوب وَذبح أَوْلَادهم عِنْد الْولادَة وَمن حَال لَا يصبر عَلَيْهَا كلب مُطلق وَلَا حمَار مسيب إِلَى الْعِزّ والراحة والعافية والتملك للأموال وَأَن يَكُونُوا آمرين مخدومين آمِنين على أَوْلَادهم وأنفسهم وَلَا يُنكر فِي مثل هَذَا الْحَال أَن يشْهد المخلص للمخلص بِكُل مَا يُرِيد مِنْهُ وَمَعَ هَذَا كُله فَإِن انباءهم لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي أخرجهم من تِلْكَ الْحَالة إِلَى هَذِه الْأُخْرَى وطاعتهم لَهُ كَانَت مدخولة ضَعِيفَة مضطربة
وَقد ذكر فِي نَص توراتهم أَنهم إِذْ عمِلُوا الْعجل نادوا هَذَا إِلَه مُوسَى الَّذِي يخلصهم من مصر وَمرَّة أُخْرَى أَرَادوا قَتله وتصايحوا قدم على أَنْفُسنَا قائداً وَنَرْجِع إِلَى مصر وَمَعَ هَذَا كُله قَوْلهم إِن السَّحَرَة عمِلُوا مثل كثير مِمَّا عمل مُوسَى وَإِن كل ذَلِك بَيَان مُمكن بصناعة مَعْرُوفَة وَفِي هَذَا كِفَايَة وهم مقرون بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم أَنه لم يتتبع مُوسَى فِي أمة سواهُم وَلَا نقلت لَهُم معْجزَة وَطَائِفَة غَيرهم وأماالنصارى فَمنهمْ أخذُوا نبوة مُوسَى ومعجزاته وَأما سَائِر الْأُمَم والملل وَالْمَجُوس وَالْفرس وَالصَّابِئِينَ والسريانيين والمانية والسميئة والبراهمة والهند والصين وَالتّرْك فَلَا أصلا وَلَا على أَدِيم الأَرْض مُصدق بنبوة مُوسَى وبالتوراة الَّتِي بِأَيْدِيهِم والأهم وَمن هُوَ شُعْبَة مِنْهُم كالنصارى
وَأما نَحن الْمُسلمين فَإِنَّمَا قبلنَا نبوة مُوسَى وَهَارُون وَدَاوُد وَسليمَان والياس واليشع عَلَيْهِم السَّلَام وصدقنا بذلك وآمنا(1/151)
بهم وَإِن مُوسَى الَّذِي أنذر بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِحَّة نبوتهم ومعجزاتهم فَقَط وَلَوْلَا إخْبَاره عَلَيْهِ السَّلَام بذلك مَا كَانُوا عندنَا إِلَّا كشموال وإبراث وحداث وحقاي وحبقون وعدوا ويؤال وعاموص وعوبديا ومسيخا وناحوم وصفينا وملاخي وَسَائِر من تَفِر الْيَهُود بنبوته كإقرارهم بنبوة مُوسَى سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق بَين طرق نقلهم لنبوة لجميعهم وَنحن لَا نصدق نقل الْيَهُود فِي شَيْء من ذَلِك بل نقُول إِنَّه قد كَانَ لله تَعَالَى أَنْبيَاء فِي بني إِسْرَائِيل أخبر بذلك الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمنزل على نبيه الصَّادِق الْمُرْسل فَنحْن نقطع بنبوة من سمي لنا مِنْهُم ونقول فِي هَؤُلَاءِ الَّذين لم يسم لنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَسْمَاءَهُم الله عز وَجل أعلم إِن كَانُوا أَنْبيَاء فَنحْن نؤمن بهم وَإِن لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فلسنا نؤمن بهم آمنا بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَهَكَذَا نقر بنبوة صَالح وَهود وَشُعَيْب وَإِسْمَاعِيل وبأنهم رسل الله يَقِينا وَلَا نبالي بإنكار الْيَهُود لنبوتهم وَلَا بجهلهم بهم لِأَن الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام شهد برسالتهم وَأما التَّوْرَاة فَمَا وَافَقنَا قطّ عَلَيْهَا لأننا نَحن نقر بتوراةٍ حقٍ أنزلهَا الله تَعَالَى غلى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه لِأَنَّهُ تَعَالَى أخبرنَا بذلك فِي كِتَابه النَّاطِق على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّادِق ونقطع بِأَنَّهَا لَيست هَذِه الَّتِي بِأَيْدِيهِم بنصها بل حرف كثير مِنْهُم وَبدل وهم يقرونَ بِهَذِهِ الَّتِي بِأَيْدِيهِم وَلَا يعْرفُونَ الَّتِي نؤمن نَحن بهَا وَكَذَلِكَ لَا نصدق بشريعتهم الَّتِي هم عَلَيْهَا الْآن بل نقطع بِأَنَّهَا محرفة مبدلة مكذوبة وهم لَا يُؤمنُونَ بمُوسَى الَّذِي بشر بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرسالته وبأصحابه فاعلموا أننا لم نوافقهم قطّ على التَّصْدِيق بِشَيْء من دينهم وَلَا مِمَّا هم عَلَيْهِ وَلَا مِمَّا بِأَيْدِيهِم من الْكتاب وَلَا بِالنَّبِيِّ الَّذِي يذكرُونَهُ لما قد أوضحناه من فَسَاد نقلهم ووضوح الْكَذِب فِيهِ وَعُمُوم الدواخل فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى طرفا مِمَّا فِي سَائِر الْكتب الَّتِي عِنْدهم الَّتِي يضيفونها إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من الْفساد كَالَّذي ذكرنَا فِي توراتهم وَلَا خلاف فِي أَن اهتبالهم بِالتَّوْرَاةِ كَانَ أَشد وَأكْثر أضعافا مضاعفة من اهتبالهم بِسَائِر كتب أنبياءهم أما كتاب يُوشَع فَإِن فِيهِ براهين قَاطِعَة بِأَنَّهُ أَيْضا تَارِيخ أَلفه لَهُم بعض متأخريهم بِيَقِين وَأَن يُوشَع لم يَكْتُبهُ قطّ وَلَا عرفه وَلَا أنزل عَلَيْهِ
فَمن ذَلِك أَن فِيهِ نصا فَلَمَّا انْتهى ذَلِك إِلَى دوسراق ملك بيوس الَّتِي بنى فِيهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد بَيت الْمُقَدّس فعل أمرا ذكره
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يخبر يُوشَع أَن سُلَيْمَان بنى بَيت الْمُقَدّس ويوشع قبل سُلَيْمَان بِنَحْوِ سِتّمائَة سنة وَلم يَأْتِ هَذَا النَّص فِي كتاب يُوشَع الْمَذْكُور على سَبِيل الْإِنْذَار أصلا أئما مساقه بِلَا خلاف مِنْهُم مساق الْأَخْبَار عَمَّا قد مضى
وَفِيه قصَّة بشيعة جدا وَهِي أَن عخار بن كرمي بن شذان بن شيلة بن يهوذا بن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام غل من الْمغنم خيطاً أرجواناً وَحقّ ذهب فِيهِ خَمْسُونَ مِثْقَالا وَمِائَتَا دِرْهَم فضَّة فَأمر يُوشَع برجمه ورجم بنيه(1/152)
ورجم بَنَاته حَتَّى يموتوا كلهم بِالْحِجَارَةِ وَأمر بإحراق مواشيه كلهَا وحاش لله أَن يحكم نَبِي بِهَذَا الحكم فيعاقب بأغلظ الْعقُوبَة من لَا ذَنْب لَهُ من ذُرِّيَّة لم تجن شَيْئا بِجِنَايَة أَبِيهِم مَعَ أَن نَص التَّوْرَاة لَا يقتل الْأَب بذنب الابْن وَلَا الابْن بذنب الْأَب فَلَا بُد ضَرُورَة من أَن يَقُولُوا نسخ يُوشَع هَذَا الحكم فيثبتوا النّسخ من نَبِي لشريعة نَبِي قبله وَفِي شَرِيعَة مُوسَى أَيْضا أَو ينسبوا الظُّلم وَخلاف أَمر الله إِلَى يُوشَع فيجعلوه ظَالِما عَاصِيا لله مبدلا أَحْكَامه وَمَا فِيهَا حَظّ الْمُخْتَار مِنْهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَفِيه أَن كل من دخل من بني إِسْرَائِيل الأَرْض المقدسة فَإِنَّهُم كَانُوا مختونين وَفِيه أَبنَاء تِسْعَة وَخمسين عَاما وَأَقل وَإِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يختن مِمَّن ولد بعد خُرُوجه من مصر أحدا هَذَا مَعَ إقرارهم أَن الله تَعَالَى شدد فِي الْخِتَان وَقَالَ من لم يختتن فِي يَوْم أُسْبُوع وِلَادَته فلتنف نَفسه من أمته بِمَعْنى فليقتل فَكيف يضيع مُوسَى هَذِه الشَّرِيعَة الوكيدة حَتَّى يختنهم كلهم يُوشَع بعد موت مُوسَى بدهر وَلَقَد فضحت بِهَذَا وَجه بعض عُلَمَائهمْ فَقَالَ لي كَانُوا فِي التيه فِي حل وارتحال فَقلت لَهُ فَكَانَ مَاذَا فَكيف وَلَيْسَ كَمَا تَقولُونَ بل كَانُوا يبقون الْمدَّة الطَّوِيلَة فِي مَكَان وَاحِد وَفِي نَص كتاب يُوشَع بزعمكم أَنه إِنَّمَا خنهم إِذْ جازوا الْأُرْدُن قبل الشُّرُوع فِي الْحَرْب وَفِي أضيق وَقت وختنهم كلهم حِينَئِذٍ وهم رجال كهول وشبان وَتركُوا الْخِتَان إِذْ لَا مُؤنَة فِي ختانهم أطفالاً تحمله أمه مختوناً كَمَا تحمله غير مختون وَلَا فرق فَسكت مُنْقَطِعًا وَأما الْكتاب الَّذِي يسمونه الزبُور فَفِي المزمور الأول مِنْهُ قَالَ بِي الرب أَنْت ابْني أَنا الْيَوْم وَلدتك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَأَي شَيْء تُنْكِرُونَهُ على النَّصَارَى فِي هَذَا الْبَاب مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة وَفِيه أَيْضا أَنْتُم بَنو الله وَبَنُو الْعلي كلكُمْ وَهَذِه أَطَم من الَّتِي قبلهَا وَمثل مَا عِنْد النَّصَارَى أَو أنتن وَفِيه فِي المزمور الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ عرشك يَا الله فِي الْعَالم وَفِي الْأَبَد قضيب الْعدْل قضيب ملكك أَحْبَبْت الصّلاح وأبغضت الْمَكْرُوه من أجل ذَلِك دهنك إلهك بِزَيْت الْفَرح بَين إشراكك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه سوءة الْأَبَد ومضيعة الدَّهْر وقاصمة الظّهْر وَإِثْبَات إِلَه آخر على الله تَعَالَى دهنه بالزيت إِكْرَاما لَهُ ومجازاة لَهُ على محبته الصّلاح وَإِثْبَات إشراك لله تَعَالَى وَهَذَا دين النَّصَارَى بِلَا مُؤنَة وَلَكِن إِثْبَات إلهٍ دون الله وَقد ظهر عِنْد الْيَهُود هَذَا عَلَانيَة على مَا نذْكر بعد أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَبعده بِيَسِير يُخَاطب الله تَعَالَى وقفت زَوجتك عَن يَمِينك وعقاصها من ذهب أيتها الِابْنَة اسمعي وميلي بإذنيك وأبصري(1/153)
وآنسي عشيرتك وَبَيت أَبِيك فيهواك الْملك وَهُوَ الرب وَالله فاسجدي لَهُ طَوْعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا شَاءَ الله كَانَ أَنْكَرْنَا الْأَوْلَاد فَأتوا بِالزَّوْجَةِ والأختان تبَارك الله فَمَا نرى لَهُم على النَّصَارَى فضلا أصلا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِيه فِي المزمور الموفي مائَة وَسبعا قَالَ الرب لرَبي اقعد على يَمِيني حَتَّى أجعَل أعداك كرْسِي قَدَمَيْك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كَالَّذي قبله فِي الْجُنُون وَالْكفْر وَرب فَوق رب وَرب يقْعد عَن يَمِين رب وَرب يحكم على رب ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
وَفِيه فِي المزمور السَّادِس والثمانين مِنْهُ يَقُول روح الْقُدس لصهبون رجل وَرجل ولد فِيهَا وَهِي العلى أسسها الرب الَّذِي خلقهَا يعد عِنْد مكتبة الْأمة إِن هَذَا ولد هُنَاكَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا دين النَّصَارَى الَّذِي يشنعون بِهِ عَلَيْهِم من أَن الله ولد صهيون لَو انْهَدَمت الْجبَال من هَذَا مَا كَانَ عجبا
وَفِيه فِي المزمور السَّابِع وَالسبْعين مِنْهُ الرب قَامَ كالمنتبه من نَومه كالجبار الَّذِي يفر بِهِ إِثْر الْخمار كَمَا يقوم الجريش وَفِيه اتَّقوا ربكُم الَّذِي قوته كقوة الجريش
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ مَا سمع فِي الْحمق اللفيف وَلَا فِي الْكفْر السخيف بِمثل هَذَا الْفِعْل مرّة يشبه قيام الله تَعَالَى بالمنتبه من نَومه وَقد علمنَا أَنه لَا يكون الْمَرْء أكسل وَلَا أحْوج إِلَى التمدد وَلَا أثقل حَرَكَة مِنْهُ حِين قِيَامه مِنْهُ وَمرَّة يشبه بجبار ثمل وَمَا عهد للمرء وَقت يكون فِيهِ أنكد وَلَا أثقل عين وَلَا أَخبث نفسا وَلَا آلم صداعاً وَلَا أَضْعَف عويلاً مِنْهُ فِي حَان الْخمار وَمرَّة يمثله بالجريش وَمَا الجريش وَالله مَا هُوَ إِلَّا ثَوْر من الثيران بقرن فِي وسط رَأسه حاش لله من هَذِه النحوس الَّتِي حق من يُؤمن بهَا السَّوْط حَتَّى يعتدل الْعدْل دماغه أَو يحمق بِالْكُلِّ ويقذف النَّاس بِالْحِجَارَةِ وَيسْقط عَنهُ الْخطاب ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء
وَفِيه من المزمور الْحَادِي والثمانين قَامَ الله فِي مُجْتَمع الْآلهَة وقف إِلَه الْعِزَّة فِي وَسطهمْ يقْضِي وَهَذِه حَمَاقَة ممزوجة بِكفْر سمج مُجْتَمع الْآلهَة وَقيام الله بَينهم ووقوفه فِي وسط أَصْحَابه مَا شَاءَ الله كَانَ إِلَّا أَن هَذَا أَخبث من قَول النَّصَارَى لِأَن الْآلهَة عِنْد النَّصَارَى من ثَلَاثَة وهم عِنْد هَؤُلَاءِ السفلة الأرذال جمَاعَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
وَفِيه من المزمور الثَّامِن والثمانين من ذَا يكون مثل الله فِي جَمِيع بني الله وَبعده يَقُول إِن دَاوُد يدعوني والداً وَأَنا جعلته بكر بني وَبعده إِن عرش دَاوُد يبْقى ملكه سرمداً أبدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذِه كَالَّتِي قبلهَا صَارَت الْآلهَة قَبيلَة وَبني أَب وَكَانَ فيهم وَاحِد هُوَ سيدهم لَيْسَ فيهم مثله وَالْآخرُونَ فيهم نقص بِلَا شكّ تَعَالَى الله عَن ذَلِك ونحمده كثيرا على نعْمَة الْإِسْلَام مِلَّة التَّوْحِيد الصادقة الَّتِي تشهد الْعُقُول بِصِحَّتِهَا وَصِحَّة كل مَا فِيهَا مَعَ كذب الْوَعْد فِي بَقَاء ملك دَاوُد سرمداً وفيهَا مِمَّا يُوَافق قَول الْمُلْحِدِينَ الدهرية النَّاس كالعشب إِذا خرجت أَرْوَاحهم نسوا وَلَا يعلمُونَ مكانهم وَلَا يفهمون بعد ذَلِك(1/154)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَإِن دين الْيَهُود ليميل إِلَى هَذَا ميلًا شَدِيدا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي توراتهم ذكر الْمعَاد أصلا وَلَا الْجَزَاء بعد الْمَوْت وَهَذَا مَذْهَب الدهرية بِلَا كلفة فقد جمعُوا الدهرية وَالشَّكّ والتشبيه وكل حمق فِي الْعَالم على أَن فِيهِ بِمَا أطلعهم الله على تَبْدِيل مَا شَاءَ رَفعه من كِتَابهمْ وكف أَيْديهم عَمَّا شَاءَ ابقاءه حجَّة لنا عَلَيْهِم ومعجزة لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي المزمور الْحَادِي وَالسِّتِّينَ مِنْهُ أَن الْعَرَب وَبني سبا يؤدون إِلَيْهِ المَال ويتبعونه وَإِن الدَّم يكون لَهُ عِنْده ثمن وَهَذِه صفة الدِّيَة الَّتِي لَيست إِلَّا فِي ديننَا وَفِيه أَيْضا وَيظْهر من الْمَدِينَة هَكَذَا نصا وَهَذَا إنذار بَين برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الْكتب الَّتِي يضيفونها إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَهِيَ ثَلَاثَة أَحدهَا يُسمى شارهسير ثمَّ مَعْنَاهُ شعر الْأَشْعَار وَهُوَ على الْحَقِيقَة هوس الأهواس لِأَنَّهُ كَلَام أَحمَق لَا يعقل وَلَا يدْرِي أحد مِنْهُم مُرَاده إِنَّمَا هُوَ مرّة يتغزل بمذكر وَمرَّة يتغزل بمؤنث وَمرَّة يَأْتِي مِنْهُ بلغم لزج بِمَنْزِلَة مَا يَأْتِي بِهِ المصدوع وَالَّذِي فسد دماغه وَقد رَأَيْت بَعضهم يذهب إِلَى أَنه رموز على الكيمياء وَهَذَا وسواس آخر ظريف وَالثَّانِي يُسمى مثلا مَعْنَاهُ الْأَمْثَال فِيهِ مواعظ وَفِيه إِن قَالَ إِن يخلق الله شَيْئا فِي البدء من الْأَبَد أَنا صرت وَمن الْقَدِيم قبل أَن تكون الأَرْض وَقبل أَن تكون النُّجُوم أَنا قد كنت استلمت وَقد كنت ولدت وَلَيْسَ كَانَ خلق الأَرْض بعد وَلَا الْأَنْهَار وَإِذ خلق الله السَّمَوَات قد كنت حَاضرا وَإِذ كَانَ يَجْعَل للنجوم حدا صَحِيحا ويدق بهَا وَكَانَ يوثق السَّمَوَات فِي الْعُلُوّ وَيقدر عُيُون الْمِيَاه وَإِذ كَانَ يحدق على الْبَحْر بنجمه وَيجْعَل للمياه نحى لِئَلَّا تجَاوز جوزها وَإِذ كَانَ يعلق أساسات الأَرْض أَنا مَعَه كنت مهيئاً للْجَمِيع قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَل فِي الملحدة أَكثر من هَذَا وَهل يُضَاف هَذَا الْحمق إِلَى رجل معتدل فَكيف إِلَى بني إِسْرَائِيل وَهل هَذَا الْإِشْرَاك صَحِيح وحاش لله أَن يَقُول سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا الْكَلَام تالله مَا غبط أهل الْإِلْحَاد بإلحادهم إِلَّا هَذَا وَمثله وَرَأَيْت بَعضهم يخرج هَذَا على أَنه إِنَّمَا أَرَادَ علم الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلَا يعجز من لَا حَيَاء لَهُ عَن أَن يقلب كل كَلَام إِلَى مَا اشْتهى بِلَا برهَان وَوصف الْكَلَام عَن مَوْضِعه وَمَعْنَاهُ إِلَى معنى آخر لَا يجوز إِلَّا بِدَلِيل صَحِيح غير مُمْتَنع المُرَاد فِي اللُّغَة وَالثَّالِث يُسمى فوهلث مَعْنَاهُ الْجَوَامِع فِيهِ إِن قَالَ مُخَاطبا لله تَعَالَى اخترني أَمِيرا إِلَى أمتك وحا كَمَا على بنيك وبناتك وَهَذَا كَالَّذي سلف وحاش لله أَن يكون لَهُ بَنَات وبنون لَا سِيمَا مثل بني إِسْرَائِيل فِي كفرهم فِي دينهم وضعفهم فِي دنياهم ورذالتهم فِي أَحْوَالهم النفسية والجسدية وَفِي كتاب حزقيا يَقُول السَّيِّد حَامِد يَدي على بني عيسو وأذهب عَن أَرضهم الْآدَمِيّين والأنعام وأفقرهم وأنتقم مِنْهُم على يَدي أمتِي بني إِسْرَائِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا ميعاد قد ظهر كذبه يَقِينا لِأَن بني إِسْرَائِيل قد بادوا جملَة وَبَنُو عيسو باقون فِي بِلَادهمْ بِنَصّ كتبهمْ ثمَّ بعد ذَلِك باد بَنو عيسو فَمَا على أَدِيم الأَرْض مِنْهُم أحد يعرف أَنه مِنْهُم وَصَارَت بِلَادهمْ للْمُسلمين وسكانها لخم وَغَيرهم من الْعَرَب وَبَطل بذلك أَن يدعوا أَن هَذَا يكون فِي المستأنف وَفِي كتاب لشعيا أَنه رأى الله عزوجل شَيخا أَبيض الرَّأْس واللحية وَهَذَا تَشْبِيه حاشا لنَبِيّ أَن يَقُوله وَفِيه قَالَ الرب من سمع قطّ مثل هَذَا أَنا أعطي غَيْرِي أَن يلد وَلَا أَلد أَنا وَأَنا الَّذِي أرزق غَيْرِي أَنا أكون أَنا بِلَا ابْن(1/155)
قَالَ أبومحمد رَضِي الله عَنهُ هَذَا أَطَم مَا سمع بِهِ أَن يقيس الله عزوجل نَفسه فِي كَون الْبَنِينَ على خلقه وكل هَذَا أشنع من قَول النَّصَارَى فِي إِضَافَة الشّرك وَالْولد وَالزَّوْجَة إِلَى الله تَعَالَى ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لم نكتب مِمَّا فِي الْكتب الَّتِي يضيفونها إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِلَّا طرفا يَسِيرا دَالا على فضيحتها أَيْضا وتبديلها وَقد قُلْنَا أَنهم كَانُوا فِي بلد صَغِير محاط بِهِ ثمَّ لَا نَدْرِي كَيفَ يُمكنهُم اتِّصَال شيءٍ من ذَلِك إِلَى نَبِي من أَنْبِيَائهمْ لَا سِيمَا من لم يكن إِلَّا فِي أَيَّام كفرهم مخافاً ومقتولاً فصح بِلَا شكّ أَنَّهَا من توليد من عمل لَهُم الصَّلَوَات الَّتِي هم عَلَيْهَا والشرائع الَّتِي يقرونَ أَنَّهَا من عمل أَحْبَارهم الثَّابِتَة إِذْ ظهر دينهم وانتشرت بيُوت عِبَادَتهم فَصَارَت لَهُم مجامع يتعلمون فِيهَا دينهم وعلماء يعلمونهم فِي كل بلد بِخِلَاف مَا أوضحنا أَنهم كَانُوا عَلَيْهِ أَيَّام دولتهم الأولى من كَونهم كلهم كفَّارًا أُمِّيين من السنين وكونهم لَا مَسْجِد لَهُم أصلا إِلَّا بَيت الْمُقَدّس وَلَا مجمع بِعلم لَهُم أصلا وَلَا عَالما يعلمهُمْ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا جَامع لشيءٍ من كتبهمْ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَلَو تقصينا مَا فِي كتب أَنْبِيَائهمْ من المناقضات وَالْكذب لكثر ذَلِك جدا وَفِيمَا أوردناه كِفَايَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَقد اعْترض بَعضهم فِيمَا كَانَ يَدعِي عَلَيْهِم من تَبْدِيل التَّوْرَاة وكتبهم المضافة إِلَى الْأَنْبِيَاء قبل أَن يبين لَهُم أَعْيَان مَا فِيهَا من الْكَذِب البحت فَقَالَ قد كَانَ فِي مُدَّة دولتهم أَنْبيَاء وَبعد دولتهم وَمن الْمحَال أَن يقْرَأ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاء على تبديلها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فجواب هَذَا القَوْل أَن يُقَال إِن كَانَ يَهُودِيّا كذبت مَا فِي شيءٍ من كتبكم أَنه رَجَعَ إِلَى الْبَيْت مَعَ زربائيل بن صيلئال بن صدقيا الْملك ببني أصلا وَلَا كَانَ مَعَه فِي الْبَيْت نَبِي بإقرارهم أصلا وَكَانَ ذَلِك قبل أَن يَكْتُبهَا لَهُم عزرا الْوراق بدهر وَقبل رجوعهم إِلَى الْبَيْت مَعَ زربائيل بن صيلئال مَاتَ دانيال آحر أَنْبِيَائهمْ فِي أَرض بابل وَأما الْأَنْبِيَاء الَّذين كَانُوا فِي بني إِسْرَائِيل بعد سُلَيْمَان فكلهم كَمَا بَينا إِمَّا مقتول بأشنع الْقَتْل أَو مخاف مطرود منفي لَا يسمع مِنْهُم كلمة إِلَّا خُفْيَة حاشا مُدَّة الْمُلُوك الْمُؤمنِينَ الْخَمْسَة فِي بني يهوذا أَو بني بنيامين حاصة وَذَلِكَ قَلِيل تلاه ظُهُور الْكفْر وَحرق الثوراة وَقتل الْأَنْبِيَاء وَهُوَ كَانَ خَاتِمَة الْأَمر وعَلى هَذَا الْحَال وافاهم انْقِرَاض دولتهم وَأَيْضًا فَلَيْسَ كل نَبِي يبْعَث بتصحيح كتاب من قبله فيطل اعتراضهم بِكَوْن الْأَنْبِيَاء فيهم جملَة وَإِن كَانَ نَصْرَانِيّا يقر بالمسيح وزَكَرِيا وَيحيى عَلَيْهِم السَّلَام قيل لَهُ إِن الْمَسِيح بِلَا شكّ كَانَت عِنْده التَّوْرَاة الْمنزلَة كَمَا أنزلهَا الله تَعَالَى وَكَانَ عِنْده الْإِنْجِيل الْمنزل قَالَ الله تَعَالَى {ويعلمه الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل ورسولاً إِلَى بني إِسْرَائِيل} إِلَّا أَنه عرض فِي النَّقْل عَنهُ بعد رَفعه عَارض أَشد وأفحش من الْعَارِض فِي النَّقْل إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا كَافَّة فِي الْعَالم مُتَّصِلَة إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أصلا وَالنَّقْل إِلَيْهِ رَاجع إِلَى خَمْسَة فَقَط وهم مَتى وباطرة إِبْنِ نونا ويوحنا ابْن سبذاي وَيَعْقُوب ويهوذا أَبنَاء يُوسُف فَقَط ثمَّ لم ينْقل عَن هَؤُلَاءِ إِلَّا ثَلَاثَة فَقَط وَهُوَ لوقا الطَّبِيب الا نكا كى ومارقس الها روني وبولس البنياميني(1/156)
وَهَؤُلَاء كلهم كذابون قد وضح عَلَيْهِم الْكَذِب جهاراً على مَا نوضحه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وكل هَؤُلَاءِ مَعَ مَا صَحَّ من كذبهمْ وتدليسهم فِي الدّين فَإِنَّمَا كَانُوا متسترين بِإِظْهَار دين الْيَهُود وَلُزُوم السبت بِنَصّ كتبهمْ وَيدعونَ إِلَى التَّثْلِيث سرا وَكَانُوا مَعَ ذَلِك مطلوبين حَيْثُ مَا ظفروا بِوَاحِد مِنْهُم ظَاهر اقْتُل فَبَطل الْإِنْجِيل والتوراة بِرَفْع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بطلاناً كلياً وَهَذَا الْجَواب إِنَّمَا كَانَ يحْتَاج إِلَيْهِ قبل أَن يظْهر من كذب توارتهم وكتبهم مَا قد أظهرنَا وَأما بعد مَا أوضحنا من عَظِيم كذب هَذِه الْكتب بِمَا لَا حِيلَة فِيهِ فاعتراض سَاقِط لِأَن يَقِين الْبَاطِل لَا يُصَحِّحهُ شيءٌ أصلا كَمَا أَن يَقِين الْحق لَا يفْسد شيءٌ أبدا فاعلموا الْآن أَن مَا عورض بِهِ الْحق الْمُتَيَقن ليبطل بِهِ أَو عورض بِهِ دون الْكَذِب الْمُتَيَقن ليصحح بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ سغب وتمويه وإبهام وتحييل فَاسد بِلَا شكّ لِأَن يقينين لَا يُمكن الْبَتَّةَ فِي البنية أَن يتعارضا أبدا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فَإِن قيل فَإِنَّكُم تقرون بِالتَّوْرَاةِ والانجيل وتستشهدون على الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمَا فِيهَا من ذكر صِفَات نَبِيكُم وَقد اسْتشْهد نَبِيكُم بنصها فِي قصَّة الراجم للزاني الْمُحصن
وَرُوِيَ أَن عبد الله بن سَلام ضرب يَد عبد الله بن صوريا إِذْ وَضعهَا على آيَة الرَّجْم وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ التَّوْرَاة وَقَالَ آمَنت بِمَا فِيك وَفِي كتابكُمْ {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَفِيه أَيْضا {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفِيه أَيْضا {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} وَفِيه {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَفِيه {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} وَفِيه {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ} قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق كل هَذَا حق حاشا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام آمَنت بِمَا فِيك فَإِنَّهُ بَاطِل لم يَصح قطّ وَكله مُوَافق لقولنا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بتبديلهما وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ حجَّة لمن ادّعى أَنَّهُمَا بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمَا نزلا على مَا نبين الْآن إِن شَاءَ الله تَعَالَى بالبرهان الْوَاضِح قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أما إقرارنا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل فَنعم وَأي معنى لتمويهكم بِهَذَا وَنحن لم ننكرهما قطّ بل نكفر من أنكرهما إِنَّمَا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الزبُور على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الْإِنْجِيل على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَقًا وَأنزل الصُّحُف على إِبْرَاهِيم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام حَقًا وَأنزل كتبا لم يسم لنا على أَنْبيَاء لم يسموا لنا حَقًا نؤمن بِكُل ذَلِك قَالَ تَعَالَى {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} وَقُلْنَا ونقول إِن كفار بني إِسْرَائِيل بدلُوا التَّوْرَاة وَالزَّبُور فزادوا ونقصوا وَأبقى الله تَعَالَى بَعْضهَا حجَّة عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} {لَا معقب لحكمه} وَبدل كفار النَّصَارَى الْإِنْجِيل كَذَلِك فزادوا ونقصوا وَأبقى الله تَعَالَى بَعْضهَا حجَّة عَلَيْهِم كَمَا شَاءَ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فدرس مَا بدلُوا من الْكتب الْمَذْكُورَة(1/157)
وَرَفعه الله تَعَالَى كَمَا درست الصُّحُف وَكتب سَائِر الْأَنْبِيَاء جملَة فَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَا وَقد أوضحنا الْبُرْهَان على صِحَة مَا أوردنا من التبديل وَالْكذب فِي التَّوْرَاة وَالزَّبُور ونورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْإِنْجِيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد فَظهر فَسَاد تمويهم نأننا نقربالتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَلم ينتفعوا بذلك فِي تَصْحِيح مَا بِأَيْدِيهِم من الْكتب المكذوبة المبدلة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما استشهادنا على الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِمَا فيهمَا من الْإِنْذَار بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحق وَقد قُلْنَا آنِفا أَن الله تَعَالَى أطلعهم على تَبْدِيل مَا شَاءَ رَفعه من ذَيْنك الْكِتَابَيْنِ كَمَا أطلق أَيْديهم على قتل من أَرَادَ كرامته بذلك من الْأَنْبِيَاء الَّذين قتلوهم بأنواع الْمثل وكف أَيْديهم عَمَّا شَاءَ إبقاءه من ذَيْنك الْكِتَابَيْنِ حجَّة عَلَيْهِم كَمَا كف أَيْديهم الله تَعَالَى عَمَّن أَرَادَ أَيْضا كرامته بالنصر من أنبيائه الَّذين حَال بَين النَّاس وَبَين أذاهم وَقد أغرق الله تَعَالَى قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَقوم فِرْعَوْن نكالالهم وَأغْرقَ آخَرين شَهَادَة لَهُم وأملى لقوم ليزدادوا إِثْمًا وأملى لقوم آخَرين ليزدادوا فضلا هَذَا مَالا يُنكره أحد من أهل الْأَدْيَان جملَة وَكَانَ مَا ذكرنَا زِيَادَة فِي أَعْلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاضِحَة وبراهينه اللائحة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فَبَطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عَلَيْهِم بِمَا فِي كتبهمْ المحرفة من ذكر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما استشهاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّوْرَاةِ فِي أَمر رجم الزَّانِي الْمُحصن وَضرب بن سَلام رَضِي الله عَنهُ يَد ابْن صوريا إِذْ جعلهَا على آيَة الرَّجْم فَحق وَهُوَ مِمَّا قُلْنَا آنِفا أَن الله تَعَالَى أبقاه حزيا لَهُم وَحجَّة عَلَيْهِم وَإِنَّمَا يحْتَج عَلَيْهِم بِهَذَا كُله بعد إِثْبَات رسَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبراهين الْوَاضِحَة الباهرة بِالنَّقْلِ الْقَاطِع للْعُذْر على مَا قد بَينا ونبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ نورد مَا أبقاه الله تَعَالَى فِي كتبهمْ المحرفة من ذكره عَلَيْهِ السَّلَام إخزاء لَهُم وتبكيتاً وفضيحة لضلالهم لَا لحَاجَة منا الى ذَلِك اصلاو الْحَمد لله رب الْعَالمين وَأما الْخَبَر بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ التَّوْرَاة وَقَالَ آمَنت بِمَا فِيك فخبر مَكْذُوب مَوْضُوع لم يَأْتِ قطّ من طرق فِيهَا خير ولسنا نستحل الْكَلَام فِي الْبَاطِل لوصح فَهُوَ من التَّكَلُّف الَّذِي نهينَا عَنهُ كَمَا لَا يحل توهين الْحق وَلَا الِاعْتِرَاض فِيهِ وَأما قَول الله عزوجل {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} فَحق لامرية فِيهِ وَهَكَذَا نقُول وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِقَامَتهَا أبدا لرفع مَا أسقطوا مِنْهَا فليسوا على شَيْء إِلَّا بِالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيكونون حِينَئِذٍ مقيمين للتوراة وَالْإِنْجِيل كلهم يُؤمنُونَ حِينَئِذٍ بِمَا أنزل الله مِنْهُمَا وجد أَو عدم ويكذبون بِمَا بدل فيهمَا مِمَّا لم ينزله الله تَعَالَى فيهمَا وَهَذِه هِيَ إقامتهما حَقًا فلاح صدق قَوْلنَا مُوَافقا لنَصّ الْآيَة بِلَا تَأْوِيل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْله تَعَالَى {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} فَنعم إِنَّمَا هُوَ فِي كذب كذبوه ونسبوه إِلَى التَّوْرَاة على جاري عَادَتهم زَائِد على الْكَذِب الَّذِي وَضعه أسلافهم فِي توراتهم فبكتهم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الْكَذِب الْمُحدث بإحضار التَّوْرَاة إِن كَانُوا صَادِقين فَظهر كذبهمْ وَكم عرض لنا هَذَا مَعَ عُلَمَائهمْ فِي مناظراتنا لَهُم قبل أَن نقف على نُصُوص التَّوْرَاة فالقوم لَا مُؤنَة عَلَيْهِم من الْكَذِب حَتَّى الْآن اذا طمعوا بالتخلص من مجلسهم لَا يكون ذَلِك إِلَّا بِالْكَذِبِ وَهَذَا خلق حسيس وعار لَا يرضى بِهِ مصحح ونعوذ بِاللَّه من مثل هَذَا وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله}(1/158)
فَنعم هَذَا حق على ظَاهره كَمَا هُوَ وَقد قُلْنَا أَن الله تَعَالَى أنزل التَّوْرَاة وَحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا كموسى وَهَارُون وَدَاوُد سُلَيْمَان وَمن كَانَ بَينهم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن كَانَ فِي أزمانهم من الربانبين والأحبار الَّذين لم يَكُونُوا أَنْبيَاء بل كَانُوا حكاماً من قبل الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَمن كَانَ فِي أزمانهم من الربانيين والأحبار قبل حُدُوث التبديل هَذَا نَص قَوْلنَا وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة أَنَّهَا لم تبدل بعد ذَلِك أصلا بِنَصّ وَلَا بِدَلِيل وَأما من ظن لجهله من الْمُسلمين أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْيَهُود بَين اللَّذين زينا وهما مُحْصَنَانِ فقد ظن الْبَاطِل وَقَالَ بِالْكَذِبِ وَتَأَول الْمحَال وَخَالف الْقُرْآن لِأَن الله تَعَالَى قد نهى نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام عَن ذَلِك نصا بقوله {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمناً عَلَيْهِ فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجاً وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة} وَقَالَ عزوجل {وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَهَذَا نَص كَلَام الله عزوجل الَّذِي مَا خَالفه فَهُوَ بَاطِل وَأما قَوْله تَعَالَى {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} فَحق على ظَاهره لِأَن الله تَعَالَى أنزل فِيهِ الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتِّبَاع دينه وَلَا يكونُونَ أبدا حاكمين بِمَا أنزل الله تَعَالَى فِيهِ إِلَّا باتبَاعهمْ دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا أَمرهم الله تَعَالَى بالحكم بِمَا أنزل فِي الْإِنْجِيل الَّذِي ينتمون إِلَيْهِ فهم أَهله وَلم يَأْمُرهُم قطّ تَعَالَى بِمَا يُسمى إنجيلاً وَلَيْسَ بإنجيل وَلَا أنزلهُ الله تَعَالَى كَمَا هُوَ قطّ وَالْآيَة مُوَافقَة لقولنا وَلَيْسَ فِيهَا أَن الْإِنْجِيل لم يُبدل لَا بِنَصّ وَلَا بِدَلِيل إِنَّمَا فِيهِ إِلْزَام النَّصَارَى الَّذين يتسمون بِأَهْل الْإِنْجِيل أَن يحكموا بِمَا أنزل الله فِيهِ وهم على خلاف ذَلِك وَأما قَوْله تَعَالَى {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} فَحق كَمَا ذَكرْنَاهُ قبل وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِقَامَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل المنزلين بعد تبديلهما إِلَّا بِالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيكونون حِينَئِذٍ مقيمين للتوراة وَالْإِنْجِيل حَقًا لإيمانهم بالمنزل فيهمَا وجحدهم مَا لم ينزل فيهمَا وَهَذِه هِيَ إقامتهما حَقًا وَأما قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ} فَنعم هَذَا عُمُوم قَامَ الْبُرْهَان على أَنه مَخْصُوص وَأَنه تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ مُصدقا لما مَعكُمْ من الْحق لَا يُمكن غير هَذَا لأننا بِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَن مَعَهم حَقًا وباطلاً وَلَا يجوز تَصْدِيق الْبَاطِل أَلْبَتَّة فصح أَنه إِنَّمَا أنزلهُ تَعَالَى مُصدقا لما مَعَهم من الْحق وَقد قُلْنَا إِن الله تَعَالَى أبقى فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل حَقًا ليَكُون حجَّة عَلَيْهِم وزائد فِي خزيهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَبَطل تعلقهم بشيءٍ مِمَّا ذكرنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وبلغنا عَن قوم من الْمُسلمين يُنكرُونَ بجهلهم القَوْل بِأَن التَّوْرَاة والانجيل الَّذين بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى محرفان وَإِنَّمَا حملهمْ على هَذِه قلَّة اهتبالهم بنصوص الْقُرْآن وَالسّنَن أَتَرَى هَؤُلَاءِ مَا سمعُوا قَول الله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتمون الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَإِن فريقاً مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ}(1/159)
وَقَوله تَعَالَى {وَإِن مِنْهُم لفريقاً يلوون ألسنتهم بِالْكتاب لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} إِلَى آخر الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير جدا ونقول لمن قَالَ من الْمُسلمين إِن نقلهم نقل تَوَاتر يُوجب الْعلم وَتقوم بِهِ الْحجَّة لَا شكّ فِي أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مَا نقلوه من ذَلِك عَن مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لَا ذكر فِيهِ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصلا وَلَا إنذار بنبوته فَإِن صدقهم هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ فِي بعض نقلهم فَوَاجِب أَن يُصدقهُمْ فِي سائره أَحبُّوا أم كَرهُوا وَإِن كذبوهم فِي بعض نقلهم وصدقوهم فِي بعض فقد تناقضوا وَظَهَرت مكابرتهم وَظَهَرت مكابرتهم وَمن الْبَاطِل أَن يكون نقل واحدٌ جَاءَ مجيئاً وَاحِدًا بعضه حق وَبَعضه بَاطِل فقد تناقضوا وَمَا نَدْرِي كَيفَ يسْتَحل مُسلم إِنْكَار تَحْرِيف التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَهُوَ يسمع كَلَام الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضواناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار} وَلَيْسَ شيءٌ من هَذَا فِيمَا بأيدي الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِمَّا يدعونَ أَنه التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَلَا بُد لهَؤُلَاء الْجُهَّال من تَصْدِيق رَبهم جلّ وَعز أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى بدلُوا التَّوْرَاة والأنجيل وَألا يرجِعوا إِلَى الْحمق ويكذبوا رَبهم جلّ وَعز ويصدقوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى فيلحقوا بهم وَيكون السُّؤَال عَلَيْهِم كلهم حِينَئِذٍ وَاحِدًا فِيمَا أوصحناه من تَبْدِيل الْكِتَابَيْنِ وَمَا أوردناه مِمَّا فيهمَا من الْكَذِب الْمشَاهد عيَانًا مَا لم يَأْتِ نَص بِأَنَّهُم بدلوهما لعلمنا بتبديلهما يَقِينا كَمَا نعلم مَا نشهده بحواسنا مِمَّا نَص لَا نَص فِيهِ
وَقد اجْتمعت الْمُشَاهدَة وَالنَّص
حَدثنَا أَبُو سعيد الْجَعْفَرِي حَدثنَا أَبُو بكر الأرفوي مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ
حَدثنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل النّحاس
حَدثنَا أَحْمد بن شُعَيْب مُحَمَّد بن المثني عَن عُثْمَان بن عمر
حَدثنَا عَليّ هُوَ ابْن الْمُبَارك
حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن سَلمَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ
كَانَ أهل الْكتاب يقرؤن التَّوْرَاة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الْإِسْلَام بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تصدقوا أهل الْكتاب وَلَا تكذبوهم وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب لعالمين
مَا نزل الْقُرْآن وَالسّنة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتصديقه صدقنا بِهِ
وَمَا نزل النَّص بتكذيبه أَو ظهر كذبه كذبنَا لَهُ وَمَا لم ينزل نَص بتصديقه أَو تَكْذِيبه وَأمكن أَن يكون حَقًا أَو كذبا لم نصدقهم وَلم نكذبهم وَقُلْنَا مَا أمرنَا رَسُول اله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نقُوله كَمَا قُلْنَا فِي نبوة من لم يتنا باسمه نَص وَالْحَمْد لله رب العالميين حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد
حَدثنَا إبراهبم بنأحمد البلجي حَدثنَا العزيزي
حَدثنَا البُخَارِيّ
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف
حَدثنَا ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عتبَة بن مَسْعُود قَالَ ابْن عَبَّاس(1/160)
كَيفَ تسْأَلُون أهل الْكتاب عَن شَيْء وَكِتَابكُمْ الَّذِي أنزل على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث تقرؤنه مَحْضا لم يشب وَقد حَدثكُمْ أَن أهل الْكتاب بدلُوا كتاب الله تَعَالَى وغيروه وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم الْكتاب وَقد قَالُوا هُوَ من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا أصح إِسْنَاد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ نفس قَوْلنَا وَمَاله فِي ذَلِك من الصَّحَابَة مُخَالف
وَقد روينَا أَيْضا عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه أَتَاهُ كَعْب الحبر بسفر وَقَالَ لَهُ هَذِه التَّوْرَاة أفأقرؤها فَقَالَ لَهُ عمر بن الْخطاب إِن كنت تعلم أَنَّهَا الَّتِي أنزل الله على مُوسَى فاقرأها آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار فَهَذَا عمر لم يحققها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذْكر طرفا يَسِيرا من كثير جدا من كَلَام أَحْبَارهم الَّذين عَنْهُم أخذُوا كِتَابهمْ وَدينهمْ وإليهم يرجعُونَ فِي نقلهم لتوراتهم وَكتب الْأَنْبِيَاء وَجَمِيع شرائعهم ليرى كل ذِي فهم مقدارهم من الْفسق وَالْكذب فيلوح لَهُ أَنهم كَانُوا كَذَّابين مستخفين بِالدّينِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَلَقَد كَانَ يَكْفِي من هَذَا إقرارهم بِأَنَّهُم عمِلُوا لَهُم هَذِه الصَّلَوَات عوضا مِمَّا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من القرابين وَهَذَا تَبْدِيل الدّين جهاراً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ ذكر أَحْبَارهم وَهُوَ فِي كتبهمْ مَشْهُور لَا ينكرونه عِنْد من يعرف كتبهمْ أَن إخْوَة يُوسُف إِذْ باعوا أَخَاهُم طرحوا اللَّعْنَة على كل من بلغ إِلَى أَبِيهِم حَيَاة ابْنه يُوسُف وَلذَلِك لم يُخبرهُ الله عز وَجل بذلك وَلَا أحد من الْمَلَائِكَة فَأُعْجِبُوا لجنون أمة تعتقد أَن الله خَافَ أَن يَقع عَلَيْهِ لعنة قوم باعوا النَّبِي أَخَاهُم وعقوا النَّبِي أباهم أَشد العقوق وكذبوا أعظم الْكَذِب فوَاللَّه لَو لم يكن فِي كتبهمْ إِلَّا هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الْحمق وَهَذَا الْكفْر لكانوا بِهِ أَحمَق الْأُمَم وأكفرهم وأكذبهم فَكيف وَلَهُم مَا قد ذكرنَا وَنَذْكُر إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي بعض كتبهمْ أَن هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لله تَعَالَى إِذْ أَرَادَ أَن يسْخط على بني إِسْرَائِيل يَا رب لَا تفعل فلنا عَلَيْك ذمام وَحقّ لِأَن أخي وَأَنا أَقَمْنَا لَك مملكة عَظِيمَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه طامة أُخْرَى حاشا لهارون عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُول هَذَا الْجُنُون أَيْن هَذَا الهوس وَهَذِه الرعونة من الْحق النير إِذْ يَقُول تَعَالَى {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفِي بعض كتبهمْ أَن الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمر الله تَعَالَى مُوسَى أَن يصورهما على التابوت خلف الحجلة فِي السارداق إِنَّمَا كَانَتَا صُورَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَه تَعَالَى الله عَن كفرهم علوا كَبِيرا وَفِي بعض كتبهمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لبني إِسْرَائِيل من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عَيْني وَفِي بعض كتبهمْ أَن عِلّة تردد بني إِسْرَائِيل مَعَ مُوسَى فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة حَتَّى مَاتُوا كلهم إِنَّمَا كَانَت لِأَن فِرْعَوْن كَانَ بنى على طَرِيق مصر إِلَى الشَّام صنماً سَمَّاهُ باعل صفون وَجعله طلسماً لكل من هرب من مصر يحيره وَلَا يقدر على النَّفاذ فَأُعْجِبُوا لمن يُجِيز أَن يكون طلسم فِرْعَوْن يغلب الله تَعَالَى ويجيز بتيه مُوسَى وَمن مَعَه حَتَّى يموتوا فَأَيْنَ كَانَ فِرْعَوْن عَن هَذِه الْقُوَّة إِذْ غرق فِي الْبَحْر وَفِي بعض(1/161)
كبتهم أَن دينة بنت يَعْقُوب عَلَيْهَا السَّلَام إِذْ غصبهَا شكيم بن حمور وزنا بهَا حملت وَولدت ابْنة وَأَن عقَابا خطف تِلْكَ الفرخة من الزِّنَا وَحملهَا إِلَى مصر وَوَقعت فِي حجر يُوسُف فرباها وَتَزَوجهَا وَهَذِه تشبه الخرافات الَّتِي يتحدث بهَا النِّسَاء بِاللَّيْلِ إِذا غزلن وَفِي بعض كتبهمْ أَن يَعْقُوب إِنَّمَا قَالَ فِي ابْنه نفثال ايل مُطلق لِأَنَّهُ قطع من قَرْيَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الَّتِي بِقرب بَيت الْمُقَدّس إِلَى منف الَّتِي بِمصْر وَرجع إِلَى قَرْيَة الْخَلِيل فِي سَاعَة من النَّهَار لشدَّة سرعته لَا لِأَن الأَرْض طويت لَهُ وَمِقْدَار ذَلِك مسيرَة نَيف وَعشْرين يَوْمًا وَفِي بعض كتبهمْ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي صِحَّته أَن السَّحَرَة يحيون الْمَوْتَى على الْحَقِيقَة وَأَن هَهُنَا أَسمَاء لله تَعَالَى وَدُعَاء وكلاماً وَمن عرفه من صَالح أَو فَاسق أحَال الطبائع وأتى بالمعجزات وَأَحْيَا الْمَوْتَى وَإِن عجوزاً سَاحِرَة أحيت لشاول الْملك وَهُوَ طالوت شمؤال النَّبِي بعد مَوته فليت شعري إِذا كَانَ هَذَا حَقًا فَمَا يؤمنهم أَن مُوسَى وَسَائِر من يقرونَ بنبوته كَانُوا من أهل هَذِه الصّفة وَلَا سَبِيل إِلَى فرق بَين شَيْء من هَذَا أبدا
وَفِي بعض كتبهمْ أَن بعض أَحْبَارهم المعظمين عِنْدهم ذكر لَهُم أَنه رأى طَائِر يطير فِي الْهَوَاء وَأَنه باض بَيْضَة وَقعت على ثَلَاث عشرَة مَدِينَة فهدمتها كلهَا
وَفِي بعض كتبهمْ أَن الْمَرْأَة المدنية الَّتِي ذكر فِي التَّوْرَاة الَّتِي زنى بهَا زمري بن خالو من سبط شَمْعُون طعنه فينحاس بن العزار بن هَارُون برمحه فنفذه وَنفذ الْمَرْأَة تَحْتَهُ ثمَّ رفعهما فِي رمحه إِلَى السَّمَاء كَأَنَّهُمَا طائران فِي سفود وَقَالَ هَكَذَا نَفْعل بِمن عصاك قَالَ كَبِير من أَحْبَارهم مُعظم عِنْدهم أَنه كَانَ تكسير عجز تِلْكَ الْمَرْأَة مِقْدَار مزرعة مدى خَرْدَل وَفِي كتبهمْ أَن طول لحية فِرْعَوْن كَانَ سَبْعمِائة ذِرَاع وَهَذِه وَالله مضحكة تسلي الثكالى وَترد الأحزان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ عَن مثل هَؤُلَاءِ فلينقل الدّين وتباً لقوم أخذُوا كتبهمْ وَدينهمْ عَن مثل هَذَا الرقيع الْكذَّاب وأشباهه
وَفِي بعض كتبهمْ المعظمة أَن جباية سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي كل سنة كَانَت سِتّمائَة ألف قِنْطَار وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف قِنْطَار من ذهب وهم مقرون أَنه لم يملك قطّ إِلَّا فلسطين والأردن والغور فَقَط وَأَنه لم يملك قطّ رفح وَلَا غَزَّة وَلَا عسقلان وَلَا صور وَلَا صيدا وَلَا دمشق وَلَا عمان وَلَا البلقاء وَلَا مؤاب وَلَا جبال الشراة فَهَذِهِ الجباية الَّتِي لَو جمع كل الذَّهَب الَّذِي بأيدي النَّاس لم يبلغهَا من أَيْن خرجت وَقد قُلْنَا إِن الْأَحْبَار الَّذين عمِلُوا لَهُم هَذِه الخرافات كَانُوا ثفالا فِي الْحساب وَكَانَ الْحيَاء فِي وُجُوههم قَلِيلا جدا
وَذكروا أَنه كَانَ لمائدة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي كل سنة أحد عشر ألف ثَوْر وَخَمْسمِائة ثَوْر وَزِيَادَة وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف شَاة سوى الْإِبِل وَالصَّيْد فانظروا مَاذَا يَكْفِي لُحُوم من ذكرنَا من الْخبز وَقد ذكرُوا عددا مبلغه سِتَّة آلَاف مدى فِي الْعَام لمائدته خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن بِلَاد نَبِي إِسْرَائِيل تضيق عَن هَذِه النَّفَقَات هَذَا مَعَ قَوْلهم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يهدي كل سنة ثُلثي هَذَا(1/162)
الْعدَد من برٍ وَمثله من زَيْت إِلَى ملك صور فليت شعري لأي شَيْء كَانَ يهاديه بذلك هَل ذَلِك إِلَّا لِأَنَّهُ كفؤه وَنَظِيره فِي الْملك وَهَذِه كَلِمَات كذبات ورعونة لَا خَفَاء بهَا وأخبار متناقضة
وَذكروا أَنه كَانَت تُوضَع فِي قصر سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كل يَوْم مائَة مائدة ذهب على كل مائَة صفحة ذهب وثلاثمائة طبق ذهب على كل طبق ثَلَاثمِائَة كأس ذهب فاعجبوه لهَذِهِ الكذبات الْبَارِدَة
وَاعْلَمُوا أَن الَّذِي عَملهَا كَانَ ثقيل الذِّهْن فِي الْحساب مقصراً فِي علم المساحة لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكون قطر دَائِرَة الصفحة أقل من شبر وَإِن لم تكن كَذَلِك فَهِيَ صحيفَة لَا صَحْفَة طَعَام ملك فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن تكون مساحة كل مائدة من تِلْكَ الموائد عشرَة أشبار فِي مثلهَا لَا أقل سوى حاشيتها وأرجلها
وَاعْلَمُوا أَن مائدة من ذهب هَذِه صفتهَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يحركها إِلَّا فيل لِأَن الذَّهَب أرزن الْأَجْسَام وأثقلها وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون فِي كل مائدة من تِلْكَ الموائد أقل من ثَلَاثَة آلَاف رَطْل ذهب فَمن يرفعها وَمن يَضَعهَا وَمن يغسلهَا وَمن يمسحها وَمن يديرها فَهَذَا الذَّهَب كُله وَهَذِه الأطباق من أَيْن
فَإِن قيل أَنْتُم تصدقُونَ بِأَن الله تَعَالَى أَتَاهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَأَن الله سخر لَهُ الرّيح وَالْجِنّ وَالطير وَعلمه منطق الطير والنمل وَأَن الرّيح كَانَت تجْرِي بأَمْره وَأَن الْجِنّ كَانُوا يعْملُونَ لَهُ المحاريب والتماثيل والجفان والقدور
قُلْنَا نعم ونكفر من لم يُؤمن بذلك وَبَين الْأَمريْنِ فرق وَاضح وَهُوَ أَن الَّذِي ذكرت مِمَّا نصدق بِهِ نَحن هُوَ من المعجزات الَّتِي نأتي بِمِثْلِهَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام دَاخل كُله تَحت الْمُمكن فِي بنية الْعَالم وَالَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ خَارج عَن هَذَا الْبَاب دَاخل فِي حد الْكَذِب والامتناع فِي ينية الْعَالم
وَفِي بعض كتبهمْ المعظمة عِنْدهم إِن زارح ملك السودَان غزا بَيت الْمُقَدّس فِي ألف ألف مقَاتل وَأَن أسا بن ابْنا الْملك خرج إِلَيْهِ فِي ثَلَاثمِائَة ألف مقَاتل من بني يهوذا وَخمسين ألف مقَاتل من بني بنيامين فَهزمَ ملك السودَان
وَهَذَا كذب فَاحش مُمْتَنع لِأَن من أقرب مَوضِع من بلد السودَان وهم النّوبَة إِلَى مسْقط النّيل فِي الْبَحْر نَحْو مسيرَة ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَمن مسْقط النّيل إِلَى بَيت الْمُقَدّس نَحْو عشرَة أَيَّام صحارى ومفاوز ألف ألف مقَاتل لَا تحملهم إِلَّا الْبِلَاد المعمورة الواسعة وَأما الصحارى الجرد فَلَا ثمَّ فِي مصر جَمِيع أَعمال مصر فَكيف يخطوها إِلَى بَيت الْمُقَدّس هَذَا مُمْتَنع فِي رُتْبَة الجيوش وسيرة الممالك وَمن الْبعيد أَن يكون عِنْد ملك السودَان حَيْثُ يَتَّسِع بلدهم وَيكثر عَددهمْ اسْم بَيت الْمُقَدّس فَكيف أَن يتكلفوا غزوها لبعد تِلْكَ الْبِلَاد عَن النّوبَة وَأما بلد النّوبَة والحبشة والبجاة فصغير الخطة قَلِيل الْعدَد وَإِنَّمَا هِيَ خرافات مكذوبة بَارِدَة وَفِي كتاب لَهُم يُسمى شعر توما من كتاب التلموذ والتلموذ هُوَ معولهم وعمدتهم فِي فقههم وَأَحْكَام دينهم وشريعتهم وهم من أَقْوَال أَحْبَارهم بِلَا خلاف من أحد مِنْهُم فَفِي الْكتاب الْمَذْكُور أَن تكسير جبهة خالقهم من أَعْلَاهَا إِلَى أَنفه خَمْسَة آلَاف ذِرَاع حاش لله من الصُّور والمساحات وَالْحُدُود والنهايات
وَفِي كتاب آخر من التلموذ يُقَال لَهُ سادرناشيم وَمَعْنَاهُ تَفْسِير أَحْكَام الْحيض أَن فِي رَأس خالقهم تاجا فِيهِ ألف قِنْطَار من(1/163)
ذهب وَفِي اصبعه خَاتم تضيء مِنْهُ الشَّمْس وَالْكَوَاكِب وَأَن الْملك الَّذِي يخْدم ذَلِك التَّاج اسْمه صندلفون تَعَالَى الله عَن هَذِه الحماقات
وَمِمَّا أجمع عَلَيْهِ أَحْبَارهم لعنهم الله أَن من شتم الله تَعَالَى وَشتم الْأَنْبِيَاء يُؤَدب وَمن شتم الْأَحْبَار يَمُوت أَي يقتل
فاعجبوا لهَذَا وَاعْلَمُوا أَنهم ملحدون لَا دين لَهُم يفضلون أنفسهم على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وعَلى الله عز وَجل وَمن الْأَحْبَار فَعَلَيْهِم مَا يخرج من أسافلهم وَفِيمَا سمعنَا علماءهم يذكرُونَهُ وَلَا يتناكرونه معنى أَن أَحْبَارهم الَّذين أخذُوا عَنْهُم دينهم والتوراة وَكتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام اتَّفقُوا على أَن رشوا بولس البنياميني لَعنه الله وأمروه بِإِظْهَار دين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام اتَّفقُوا على أَن رشوا بولس البنياميني لَعنه الله وأمروه بِإِظْهَار دين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن يضل أتباعهم ويدخلهم إِلَى القَوْل بالإهيته وَقَالُوا لَهُ نَحن نتحمل إثمك فِي هَذَا فَفعل وَبلغ من ذَلِك حَيْثُ قد ظهر
وَاعْلَمُوا يَقِينا أَن هَذَا عمل لَا يستسهله ذُو دين أصلا وَلَا يخلوا أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد أُولَئِكَ الْأَحْبَار لعنهم الله من أَن يَكُونُوا على حق أَو على بَاطِل لَا بُد من أَحدهمَا
فَإِن كَانُوا عِنْدهم على حق فَكيف استحلوا ضلال قوم محقين وإخراجهم عَن الْهدى وَالدّين إِلَى الضلال الْمُبين هَذَا وَالله لَا يَفْعَله مُؤمن بِاللَّه تَعَالَى أصلا
وَإِن كَانُوا عِنْدهم على ضلال وَكفر فحسبهم ذَلِك مِنْهُم وَإِنَّمَا يسْعَى الْمُؤمن ليهدي الْكَافِر أَو الضال وَإِمَّا أَن يُقَوي بصيرته فِي الْكفْر وَيفتح لَهُ فِيهِ أبواباً أَشد وأفحش مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يَفْعَله أَيْضا من يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى قطعا وَلَا يَفْعَله إِلَّا ملحد يُرِيد أَن يسخر بِمن سواهُ فَعَن هَؤُلَاءِ أخذُوا دينهم وَكتب أَنْبِيَائهمْ بإقرارهم
فَأُعْجِبُوا لهَذَا وَهَذَا أَمر لَا نبعده عَنْهُم لأَنهم قد راموا ذَلِك فِينَا وَفِي ديننَا فَبعد عَلَيْهِم بُلُوغ إربهم من ذَلِك وَذَلِكَ بِإِسْلَام عبد الله بن سبأ الْمَعْرُوف بِابْن السوء الْيَهُودِيّ الْحِمْيَرِي لَعنه الله ليضل من أمكنه من الْمُسلمين فنهج لطائفة رذلة كَانُوا يتشيعون فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن يَقُولُوا بإلهية عَليّ كَمَا نهج بولس لاتباع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُولُوا بإلهيته وهم الباطنية والغالية إِلَى الْيَوْم وأخفهم كفرا الإمامية على جَمِيعهم لعائن الله تترى وأشنع من هَذَا كُله نقلهم الَّذِي لَا تمانع بَينهم فِيهِ عَن كثير من أَحْبَارهم الْمُتَقَدِّمين الَّذين عَنْهُم أخذُوا دينهم ونقولوا توراتهم وَكتب الْأَنْبِيَاء بِأَن رجلا اسْمه إِسْمَاعِيل كَانَ إِثْر خراب الْبَيْت الْمُقَدّس سمع الله تَعَالَى يَئِن كَمَا تَئِنُّ الْحَمَامَة ويبكي وَهُوَ يَقُول الويل لمن أخرب بَيته وضعضع رُكْنه وَهدم قصره وَمَوْضِع سكينته ويلي على مَا أخرجت من بَيْتِي ويلي على مَا فرقت من بني وبناتي قامتي منكسة حَتَّى أبني بَيْتِي وأرد إِلَيْهِ بني وبناتي
قَالَ هَذَا النذل الموسخ ابْن الأنذال إِسْمَاعِيل فَأخذ الله تَعَالَى بثيابي وَقَالَ لي أسمعتني يَا بني يَا إِسْمَاعِيل قلت لَا يَا رب فَقَالَ لي يَا بني إِسْمَاعِيل بَارك عَليّ قَالَ هَذَا الْكَلْب والجيفة المنتنة فباركت عَلَيْهِ ومضيت
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ لقد هان من بَالَتْ عَلَيْهِ الثعالب وَالله مَا فِي الموجودات أرذل وَلَا أنتن مِمَّن احْتَاجَ إِلَى بركَة هَذَا الْكَلْب الوضر فَأُعْجِبُوا لعَظيم مَا انتظمت هَذِه الْقِصَّة عَلَيْهِ من وُجُوه الْكفْر الشنيع
فَمِنْهَا أخباره عَن الله تَعَالَى أَن يَدْعُو على نَفسه(1/164)
بِالْوَيْلِ مرّة بعد مرّة الويل حَقًا على من يصدق بِهَذِهِ الْقِصَّة وعَلى الملعون الَّذِي أَتَى بهَا
وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بالندامة على مَا فعل وَمَا الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الندامة أتراه كَانَ عَاجِزا هَذَا عجب آخر وَإِذا كَانَ نَادِما على ذَلِك فَلم تَمَادى على تبديدهم وإلقاء النَّجس عَلَيْهِم حَتَّى يبلغ ذَلِك إِلَى إِلْقَاء الحكة فِي أدبارهم كَمَا نَص فِي آخر توراتهم مَا فِي الْعَالم صفة أَحمَق من صفة من يتمادى على من ينْدَم عَلَيْهِ هَذِه الندامة
وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بالبكاء والأنين
وَمِنْهَا وَصفه لرَبه تَعَالَى بِأَنَّهُ لم يدر هَل سَمعه أم لَا حَتَّى سَأَلَهُ عَن ذَلِك ثمَّ أظرف شَيْء إخْبَاره عَن نَفسه بِأَنَّهُ أجَاب بِالْكَذِبِ وَأَن الله تَعَالَى قنع بكذبه وَجَاز عِنْده وَلم يدر أَنه كَاذِب
وَمِنْهَا كَونه بَين الخرب وَهِي مأوى المجانين من النَّاس وخساس الْحَيَوَان كالثعالب والقطط الْبَريَّة وَنَحْوهمَا
وَمِنْهَا وَصفه الله تَعَالَى بتنكيس الْقَامَة
وَمِنْهَا طلبه الْبركَة من ذَلِك المنتن ابْن المنتنة والمنتن وَبِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا بلغ قطّ ملحد وَلَا مستخف هَذِه المبالغ الَّذِي بلغَهَا هَذَا اللعين وَمن يعظمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَلَوْلَا مَا وَصفه الله تَعَالَى من كفرهم وَقَوْلهمْ يَد الله مغلولة وَالله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء مَا انْطلق لنا لِسَان بِشَيْء مِمَّا أوردنا وَلَكِن سهل علينا حِكَايَة كفرهم مَا ذكره الله تَعَالَى لنا من ذَلِك وَلَا أعجب من أَخْبَار هَذَا الْكَلْب لَعنه الله عَن نَفسه بِهَذَا الْخَبَر فَإِن الْيَهُود كلهم يَعْنِي الربانيين مِنْهُم مجمعون على الْغَضَب على الله وعَلى تعييبه وتهوين أمره عز وَجل فَإِنَّهُم يَقُولُونَ لَيْلَة عيد الكبود وَهِي الْعَاشِرَة من تشرين الأول وَهِي أكتوبر يقوم الميططرون وَمعنى هَذِه اللَّفْظَة عِنْدهم الرب الصَّغِير تَعَالَى الله عَن كفرهم قَالَ وَيَقُول وَهُوَ قَائِم ينتف شعره ويبكي قَلِيلا تحليلا ويلي إِذْ خربَتْ بَيْتِي وأيتمت بني وبناتي قامتي منكسة لَا أرفعها حَتَّى أبني بَيْتِي وأرد إِلَيْهِ بني وبناتي ويردد هَذَا الْكَلَام
وَاعْلَمُوا أَنهم أفردوا عشرَة أَيَّام من أول أكتوبر يعْبدُونَ فِيهِ رَبًّا آخر غير الله عز وَجل فحصلوا على الشّرك الْمُجَرّد
وَاعْلَمُوا أَن الرب الصَّغِير الَّذِي أفردوا لَهُ الْأَيَّام الْمَذْكُورَة يعبدونه فِيهَا من دون الله عز وَجل هُوَ عِنْدهم صندلفون الْملك خَادِم التَّاج الَّذِي فِي رَأس معبودهم وَهَذَا أعظم من شرك النَّصَارَى
وَلَقَد وقفت بَعضهم على هَذَا فَقَالَ لي ميططرون ملك من الْمَلَائِكَة
فَقلت وَكَيف يَقُول ذَلِك الْملك ويلي على مَا خرجت من بَيْتِي وَفرقت بني وبناتي وَهل فعل هَذَا إِلَّا الله عز وَجل
فَإِن قَالُوا تولى ذَلِك الْملك ذَلِك الْفِعْل بِأَمْر الله تَعَالَى
قُلْنَا فَمن الْمحَال الْمُمْتَنع ندامة الْملك على مَا فعله بِأَمْر الله تَعَالَى هَذَا كفر من الْملك لَو فعله فَكيف إِن يحمد ذَلِك مِنْهُ وكل هَذَا إِنَّمَا تحيل مِنْهُم عِنْد صك وُجُوههم بذلك
وَإِلَّا فهم فِيهِ قِسْمَانِ
قسم يَقُول أَنه الله تَعَالَى نَفسه فيصغرونه ويحقرونه ويعيبونه
وَقسم يَقُول أَنه رب آخر دون الله تَعَالَى
وَاعْلَمُوا أَن الْيَهُود يقومُونَ فِي كنائسهم أَرْبَعِينَ لَيْلَة مُتَّصِلَة من إيلول وتشرين الأول وهما ستنبر وأكتوبر فيصيحون ويولولون بمصائب
مِنْهَا قَوْلهم لأي شيءٍ تسلمنا يَا الله هَكَذَا وَلنَا الدّين الْقيم والأثر الأول لم يَا الله تنصمم عَنَّا وَأَنت تسمع وتعمى وَأَنت مبصر هَذَا جَزَاء من تقدم إِلَى(1/165)
عبوديتك وَبدر إِلَى الْإِقْرَار بك لم ياالله لَا تعاقب من يكفر النعم وَلَا تجازي بِالْإِحْسَانِ ثمَّ تبخسنا حظنا وتسلمنا لكل مُعْتَد وَتقول إِن أحكامك عدلة
فَأُعْجِبُوا لَو غادة هَؤُلَاءِ الأوباش ولرذالة هَؤُلَاءِ الأنذال الممتنين على ربهمم عز وَجل المستخفين بِهِ وبملائكته وبرسله وتالله مَا بخسهم رَبهم حظهم وَمَا حظهم إِلَّا الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْخُلُود فِي النَّار فِي الْآخِرَة وَهُوَ تَعَالَى موفيهم نصِيبهم غير مَنْقُوص واحمدوا الله على عَظِيم منته علينا بِالْإِسْلَامِ الْملَّة الزهراء الَّتِي صححتها الْعُقُول وبالكتاب الْمنزل من عِنْده تَعَالَى بِالنورِ الْمُبين والحقائق الباهرة نسْأَل الله تثبيتنا على مَا منحنا من ذَلِك بمنه إِلَى أَن نَلْقَاهُ مُؤمنين غير مغضوب علينا وَلَا ضَالِّينَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هُنَا انْتهى مَا أخرجناه من توراة الْيَهُود وكتبهم من الْكَذِب الظَّاهِر والمناقضات اللائحة الَّتِي لَا شكّ مَعَه فِي أَنَّهَا كتب مبدلة محرفة مكذوبة وَشَرِيعَة مَوْضُوعَة مستعملة من أكابرهم وَلم يبْق بِأَيْدِيهِم بعد هَذَا شَيْء أصلا وَلَا بَقِي فِي فَسَاد دينهم شُبْهَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِيَّاكُم أَن يجور عَلَيْكُم تمويه من يعارضكم بخرافة أَو كذبة فإننا لَا نصدق فِي ديننَا بِشَيْء أصلا إِلَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن أَو مَا صَحَّ بِإِسْنَاد الثِّقَات ثِقَة عَن ثِقَة حَتَّى يبلغ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَمَا عدا هَذَا فَنحْن نشْهد أَنه بَاطِل وَاعْلَمُوا أننا لم نكتب من فضائحهم إِلَّا قَلِيلا من كثير وَلَكِن فِيمَا كتبناه كِفَايَة قَاطِعَة فِي بَيَان فَسَاد كل مَا هم عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق(1/166)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الْإِنْجِيل وَكتب النَّصَارَى فَنحْن إِن شَاءَ الله تَعَالَى موردون من الْكَذِب الْمَنْصُوص فِي أَنَاجِيلهمْ وَمن التَّنَاقُض الَّذِي فِيهَا أمرا لَا يشك كل من رَآهُ فِي أَنهم لَا عقول لَهُم وَأَنَّهُمْ مخذولون جملَة وَأما فَسَاد دينهم فَلَا إِشْكَال فِيهِ على من لَهُ مسكة عقل ولسنا نحتاج إِلَى تكلّف برهَان فِي أَن الأناجيل وَسَائِر كتب النَّصَارَى لَيست من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من عِنْد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا احتجنا إِلَى ذَلِك فِي التَّوْرَاة والكتب المنسوبة إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الَّتِي عِنْد الْيَهُود لِأَن جُمْهُور الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن التَّوْرَاة الَّتِي بِأَيْدِيهِم منزلَة من عِنْد الله عز وَجل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فاحتجنا إِلَى إِقَامَة الْبُرْهَان على بطلَان دَعوَاهُم فِي ذَلِك وَأما النَّصَارَى فقد كفونا هَذِه المؤونة كلهَا لأَنهم لَا يدعونَ أَن الأناجيل منزلَة من عِنْد الله على الْمَسِيح وَلَا أَن الْمَسِيح أَتَاهُم بهَا بل كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم أيوسيهم وملكيهم ونسطوريهم ويعقوبيهم ومارونيهم وبولقانيهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهَا أَرْبَعَة تواريخ (1) لفها أَرْبَعَة رجال معروفون فِي أزمان مُخْتَلفَة فأولها تَارِيخ لفه مَتى اللاواني(2/2)
تلميذ الْمَسِيح بعد تسع سِنِين من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَكتبه بالعبرانية فِي بلد يهوذا بِالشَّام يكون نَحْو ثَمَان وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط وَالْآخر تَارِيخ لفه مارقش الهاروني تلميذ شَمْعُون الصَّفَا بن توما الْمُسَمّى باطرة بعد اثْنَيْنِ وَعشْرين عَاما من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَكتبه باليونانية فِي بلد أنطاكية من بِلَاد الرّوم وَيَقُولُونَ أَن شَمْعُون الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي أَلفه ثمَّ محا اسْمه من أَوله وَنسبه إِلَى تلميذ مارقش يكون أَرْبعا وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط وشمعون الْمَذْكُور تلميذ الْمَسِيح
والتالث تَارِيخ أَلفه لوقا الطَّبِيب الْأَنْطَاكِي تلميذ شَمْعُون باطرة أَيْضا كتبه باليونانية فِي بلد أقاية بعد تأليف مارقش الْمَذْكُور يكون من قدر إنجيل مَتى وَالرَّابِع تَارِيخ أَلفه يوحنا ابْن سيذاي تلميذ الْمَسِيح بعد رفع الْمَسِيح ببضع وَسِتِّينَ سنة وَكتبه باليونانية فِي بلد اشينية يكون أَرْبعا وَعشْرين ورقة بِخَط متوسط ويوحنا هَذَا نَفسه هُوَ ترْجم إنجيل مَتى صَاحبه من العبرانية إِلَى اليونانية ثمَّ لَيْسَ لِلنَّصَارَى كتاب قديم يعظمونه بعد الأناجيل الْأَرْبَعَة إِلَّا فركسيس وَهُوَ كتاب أَلفه لوقا الطَّبِيب الْمَذْكُور فِي أَخْبَار الحواريين وأخبار صَاحبه بولس البنياميني وسيرهم وقتلهم يكون نَحْو خمسين ورقة بِخَط مَجْمُوع وَكتاب الْوَحْي والإعلان أَلفه يوحنا ابْن سيذاي الْمَذْكُور وَهُوَ كتاب فِي غَايَة(2/3)
السخف والركاكة ذكر فِيهِ مَا رَآهُ فِي الأحلام وَإِذ أسرِي بِهِ وخرافات بَارِدَة والرسائل القانونية وَهِي سبع رسائل فَقَط مِنْهَا ثَلَاث رسائل ليوحنا ابْن سيذاي الْمَذْكُور ورسالتان لباطرة شَمْعُون الْمَذْكُور ورسالة وَاحِدَة ليعنوب بن يُوسُف النجار وَالْأُخْرَى لِأَخِيهِ يهوذا بن يُوسُف تكون كل رِسَالَة من ورقة إِلَى ورقتين فِي غَايَة الْبرد والغثانة ورسائل بولس تلميذ شَمْعُون باطرة وَهِي خمس عشرَة رِسَالَة تكون كلهَا نَحْو أَرْبَعِينَ ورقة مَمْلُوءَة حمقاً ورعونة وَكفرا ثمَّ كل كتاب لَهُم بعد ذَلِك فَلَا خلاف بَينهم فِي أَنه من تأليف الْمُتَأَخِّرين من أساقفتهم وبطارقتهم كمجامع البطارقة والأساقفة الْكِبَار السِّتَّة وَسَائِر مجامعهم الصغار وفقههم فِي أحكامهم الَّذِي عمله ركديد الْملك وَبِه يعْمل نَصَارَى الأندلس ثمَّ لسَائِر النَّصَارَى أَحْكَام أَيْضا عَملهَا لَهُم من شَاءَ الله أَن يعملها من أساقفتهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا كُله أَنه كَمَا قُلْنَا ثمَّ أَخْبَار شهدائهم فَقَط
فَجَمِيع نقل النَّصَارَى أَوله عَن آخِره حَيْثُ كَانُوا فَهُوَ رَاجع إِلَى الثَّلَاثَة الَّذين سمينا فَقَط وَهُوَ بولس ومارقش ولوقا وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة لَا ينقلون إِلَّا عَن خَمْسَة فَقَط وهم باطرة وَمَتى ويوحنا وَيَعْقُوب ويهوذا وَلَا مزِيد وكل هَؤُلَاءِ أكذب الْبَريَّة وأخبثهم على مَا نبين بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن بولس حكى فِي الافركسيس وَفِي إِحْدَى رسائله أَنه لم يبْق مَعَ باطرة إِلَّا خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ لقِيه مرّة أُخْرَى بَقِي مَعَه أَيْضا يَسِيرا ثمَّ لقِيه الثَّالِثَة فَأخذ جَمِيعًا وصلبا إِلَى لعنة الله إِلَّا أَن الأناجيل الْأَرْبَعَة والكتب الَّتِي ذكرنَا أَن عَلَيْهَا معتمدهم فَإِنَّهَا عِنْد جَمِيع فرق النَّصَارَى فِي شَرق الأَرْض وغربها على نُسْخَة وَاحِدَة ورتبة وَاحِدَة لَا يُمكن أحد أَن يزِيد فِيهَا كلمة وَاحِدَة وَلَا ينقص مِنْهَا أُخْرَى إِلَّا افتضح عِنْد جَمِيع النَّصَارَى مبلغة كَمَا هِيَ إِلَى مارقش ولوقا ويوحنا لِأَن يوحنا هُوَ الَّذِي نقل إنجيل مَتى عَن مَتى ورسائل بولس مبلغة كَذَلِك إِلَى بولس وَاعْلَمُوا أَن أَمر النَّصَارَى أَضْعَف من أَمر الْيَهُود بِكَثِير لِأَن الْيَهُود كَانَت لَهُم مملكة وَجمع عَظِيم مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَبعده وَكَانَ فيهم أَنْبيَاء كثير ظاهرون آمرون مطاعون كموسى ويوشع وشموال وَدَاوُد وَسليمَان عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا دخلت الدَّاخِلَة فِي التَّوْرَاة بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ ظهر فيهم الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان وَقتل الْأَنْبِيَاء وَحرق التَّوْرَاة وَنهب الْبَيْت مرّة بعد مرّة فانصل كفر جَمِيعهم إِلَى أَن تلفت دولتهم على ذَلِك وَأما النَّصَارَى فَلَا خلاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا من غَيرهم فِي أَنه لم يُؤمن بالمسيح فِي حَيَاته إِلَّا مائَة وَعِشْرُونَ رجلا فَقَط هَكَذَا فِي الافركسيس ونسوة مِنْهُم امْرَأَة وَكيل هردوس وَغَيرهَا كن ينفقن عَلَيْهِ أموالهن هَكَذَا فِي نَص إنجيلهم وَإِن كل من آمن بِهِ فَإِنَّهُم كَانُوا مستترين مخافين فِي حَيَاته وَبعده يدعونَ إِلَى دينه سرا وَلَا يكْشف أحد مِنْهُم وَجهه إِلَى الدُّعَاء إِلَى(2/4)
مِلَّته وَلَا يظْهر دينه وكل من ظفر بِهِ مِنْهُم قتل إِمَّا بِالْحِجَارَةِ كَمَا قتل يَعْقُوب بن يُوسُف النجار واشطين الَّذِي يسمونه بكر الشُّهَدَاء وَغَيره وَإِمَّا صلب كَمَا صلب باطرة وأندرياس أَخُوهُ وشمعون أَخُو يُوسُف النجار وفليش وبولس وَغَيرهم أَو قتلوا بِالسَّيْفِ كَمَا قتل يَعْقُوب أَخُو يوحنا وطومار وبرتلوما ويهوذا بن يُوسُف النجار وَمَتى أَو بالسم كَمَا قتل يوحنا ابْن سيذاي فبقوا على هَذِه الْحَالة لَا يظهرون الْبَتَّةَ وَلَا لَهُم مَكَان يأمنون فِيهِ مُدَّة ثَلَاثمِائَة سنة بعد رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي خلال ذَلِك ذهب الْإِنْجِيل الْمنزل من عِنْد الله عز وَجل إِلَّا فصولا يسيرَة أبقاها الله تَعَالَى حجَّة عَلَيْهِم وخزياً لَهُم فَكَانُوا كَمَا ذكرنَا إِلَى أَن تنصر قسطنطين الْملك فَمن حِينَئِذٍ ظهر النَّصَارَى وكشفوا دينهم واجتمعوا وآمنوا وَكَانَ سَبَب تنصره أَن أمه هلاني كَانَت بنت نَصْرَانِيّ فعشقها أَبوهُ وَتَزَوجهَا فَولدت لَهُ قسطنطين فربته على النَّصْرَانِيَّة سرا فَلَمَّا مَاتَ أَبوهُ وَولي هُوَ أظهر النَّصْرَانِيَّة بعد أَعْوَام كَثِيرَة من ولَايَته وَمَعَ ذَلِك فَمَا قدر على إظهارها حَتَّى رَحل عَن رُومِية مسيرَة شهر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وبناها وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّمَا كَانَ أديوسيا هُوَ وَابْنه بعده يَقُولَانِ إِن الْمَسِيح عبد مَخْلُوق نَبِي الله تَعَالَى فَقَط وكل دين كَانَ هَكَذَا فمحال أَن يَصح فِيهِ نقل مُتَّصِل لِكَثْرَة الدواخل الْوَاقِعَة فِيمَا لَا يُؤْخَذ الإسرا تَحت السَّيْف لَا يقدر أَهله على حمايته وَلَا على الْمَنْع من تبديله ثمَّ لما ظهر دينهم بتنصر قسطنطين كَمَا ذكرنَا فَشَا فيهم دُخُول ألمانية بَغْتَة وَكَانَ فيهم غير مانية مداسون عَلَيْهِم فأمكنهم بِهَذَا أَن يُدْخِلُوهُمْ من الضلال فِيمَا أَحبُّوا وَلَا تمكنوا الْبَتَّةَ أَن ينْقل أحد عَن شَمْعُون باطرة وَلَا عَن يوحنا وَلَا عَن مَتى وَلَا عَن مارقش وَلَا عَن لوقا وَلَا عَن بولس آيَة ظَاهِرَة وَلَا معْجزَة باهرة لما ذكرنَا من أَنهم كَانُوا مستترين مختفين مظاهرين بدين الْيَهُود من الْتِزَام السبت وَغَيره طول حياتهم إِلَى أَن ظفر بهم فَقتلُوا فَكلما تضيفه النَّصَارَى إِلَى هَؤُلَاءِ من المعجزات فأكذوبات مَوْضُوعَة لَا يعجز عَن ادِّعَاء مثلهَا أحد كَالَّذي تَدعِي الْيَهُود لأحبارهم ورؤس مثانيهم وكالذي تدعيه ألمانية لماني سَوَاء بِسَوَاء وكالذي تدعيه الروافض لمن يعظمون وكالذي تدعيه طوائف من الْمُسلمين لقوم صالحين كإبراهيم بن أدهم وَأبي مُسلم الْخَولَانِيّ وشيبان الرَّاعِي وَغَيرهم وكل هَذَا كذب وإفك وتوليد لِأَن كل من ذكرنَا فَإِنَّمَا نَقله رَاجع إِلَى من لَا يدْرِي وَلَا يقوم بِكَلَامِهِ حجَّة وَلَا صَحَّ برهَان سَمْعِي وَلَا عَقْلِي يصدقهُ وَهَكَذَا كَانَ أَصْحَاب ماني مَعَ ماني إِلَّا أَنه ظهر نَحْو ثَلَاثَة أشهر إِذْ مكر بِهِ بهْرَام بن بهْرَام الْملك وأوهمه أَنه قد آمن بِهِ حَتَّى ظفر بِجَمِيعِ أَصْحَابه فصلب ماني وصلبهم كلهم إِلَى لعنة الله فَكل معْجزَة لم تنقل نقلا يُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ كَافَّة عَن كَافَّة حَتَّى يبلغ إِلَى الْمُشَاهدَة فالحجة لَا تقوم بهَا على أحد وَلَا يعجز عَن توليدها من لَا تقوم لَهُ(2/5)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مُعْتَمد النَّصَارَى كُله الَّذِي لَا مُعْتَمد لَهُم غَيره من قَوْلهم بالتثليث وَأَن الْمَسِيح لله وَابْن الله واتحاد اللاهوتية بالناسوتية والتحامه بِهِ إِنَّمَا هُوَ كُله على أَنَاجِيلهمْ وعَلى أَلْفَاظ تعلقوا بهَا مِمَّا فِي كتب الْيَهُود كالزبور وَكتاب أشميا وَكتاب أرميا وكلمات يسيرَة من التَّوْرَاة وَكتاب سُلَيْمَان وَكتاب زخريا وَقد نازعتهم الْيَهُود فِي تأولها فحصلت دَعْوَى مُقَابلَة لدعوى وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وموهوا بِأَن التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء بِأَيْدِيهِم وبأيدي الْيَهُود سَوَاء لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا ليصححوا نقل الْيَهُود لسواد تِلْكَ الْكتب ثمَّ يجْعَلُوا تِلْكَ الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا الْحجَّة لَهُم فِي دَعوَاهُم وتأويلهم لَيْسَ بِأَيْدِيهِم حجَّة غير هَذَا أصلا وَلَا جملَة سوى هَذِه وَقد أوضحنا بحول الله تَعَالَى وقوته فَسَاد أَعْيَان تِلْكَ الْكتب وأوضحنا أَنَّهَا مفتعلة مبدلة لِكَثْرَة مَا فِيهَا من الْكَذِب وأوضحنا أَيْضا فَسَاد نقلهَا وَانْقِطَاع الطَّرِيق مِنْهُم إِلَى من نسب إِلَيْهِ تِلْكَ الْكتب بِمَا لَا يُمكن أحدا دَفعه الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَبينا آنِفا بحول الله تَعَالَى وقوته فَسَاد نقل النَّصَارَى جملَة وإقرارهم بِأَن أَنا جيلهم لَيست منزلَة وَلكنهَا كتب مؤلفة لرجال ألفوها فَبَطل كل تعلق لَهُم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ نورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى تكذيبهم فِي دَعوَاهُم أَن التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود وَعِنْدهم سَوَاء ونورد مَا يخالفون فِيهِ نَص التَّوْرَاة الَّتِي بأيدي الْيَهُود حَتَّى يلوح لكل أحد كذب دَعوَاهُم الظَّاهِرَة من تصديقهم لنصوص التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود وَيرى تكذيبهم لنصوصها فَيبْطل بذلك تعلقهم بِمَا فِيهَا وَبِمَا فِي نقل الْيَهُود إِذْ لَا يَصح لأحد الِاحْتِجَاج بتصحيح مَا يكذب ثمَّ نذْكر بعون الله عز وَجل مناقضات الأناجيل وَالْكذب الْفَاحِش المفضوح الْمَوْجُود فِي جَمِيعهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فين تقع الْإِشْكَال فِي ذَلِك جملَة وَيَسْتَوِي فِي معرفَة بطلَان كل مَا بدى الطَّائِفَتَيْنِ كل من اغْترَّ بكتمانهم لما فضحناه منا وَمِنْهُم وَمن الْخَاصَّة والعامة وَمن سَائِر الْملَل أَيْضا وَيصِح عِنْد كل من طالع كلامنا هَذَا أَن الَّذين كتبُوا الأناجيل وألفوها كَانُوا كَذَّابين مجاهرين بِالْكَذِبِ لتكاذيبهم فِيمَا أوردوه فِيهَا من الْأَخْبَار وَأَنَّهُمْ كَانُوا مستخفين مهلكين لمن اغْترَّ بهم الْحَمد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا بِالْإِسْلَامِ السَّالِم من كل غش البريء من كل توليد الْوَارِد من عِنْد الله عز وَجل لَا من عِنْد أحد دونه
ذكر مَا تثبته النَّصَارَى بِخِلَاف نَص التَّوْرَاة وتكذيبهم لنصوصها الَّتِي بأيدي الْيَهُود وادعاء بعض عُلَمَاء النَّصَارَى أَنهم اعتمدوا فِي ذَلِك على التَّوْرَاة الَّتِي ترجمها السبعون شَيخا لبطليموس لَا على كتب عزراء الْوراق وَالْيَهُود مُؤمنُونَ بكلتي النسختين وَالْخلاف عِنْد النَّصَارَى مَوْجُود فِيهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي توراة الْيَهُود الَّتِي لَا اخْتِلَاف فِيهَا بَين الربانية والعانانية والعيسوية مِنْهُم لما عَاشَ آدم ثَلَاثِينَ سنة وَمِائَة سنة ولد لَهُ ولد كشبهه وجنسه وسماء شِيث وَعند(2/6)
النَّصَارَى بِلَا اخْتِلَاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا من جَمِيع فرقهم لما أَتَى على آدم مِائَتَان وَثَلَاثُونَ سنة ولد لَهُ شِيث وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا لما عَاشَ شِيث خمس سِنِين وَمِائَة سنة ولد أنيوش وَعند لنصارى كلهم لما عَاشَ شِيث ماءتي سنة وَخمْس سِنِين ولد أنيوش وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن أنيوش لما عَاشَ تسعين سنة ولد قينان وَعند النَّصَارَى كلهم أَن أنيوش لما عَاشَ تسعين سنة وَمِائَة سنة ولد قينان وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن قينان لما عَاشَ سبعين سنة ولد مهلال وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن مهلال لما بلغ خمْسا وَسِتِّينَ سنة ولد يارد وَعند النَّصَارَى كلهم أَن مهلال لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة ولد يارد واتفقت الطائفتان فِي عمر يارد إِذْ ولد لَهُ خنوخ وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن خنوخ لما بلغ خمْسا وَسِتِّينَ سنة ولد متوشالخ وَأَن جَمِيع عمر خنوخ كَانَ ثَلَاثمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن خنوخ لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة ولد متوشالخ وَأَن جَمِيع عمر خنوخ كَانَ خَمْسمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا سنّ خنوخ إِذْ ولد لَهُ متوشالخ وَالثَّانيَِة كمية عمر خنوخ واتفقت الطائفتان على عمر متوشالخ إِذْ ولد لَهُ لامخ وعَلى عمر لامخ إِذْ ولد لَهُ نوح وعَلى عمر نوح إِذْ ولد لَهُ سَام وَحَام وَيَافث وعَلى عمر سَام إِذْ ولد لَهُ أرفخشاذ وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن أرفخشاذ لما بلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شالخ وَأَن عمر أرفخشاذ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وخمساً وَثَلَاثِينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن أرفخشاذ لما بلغ مائَة سنة وخمساً وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ قينان وَأَن عمر أرفخشاذ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وخمساً وَسِتِّينَ سنة وَأَن قينان لما بلغ مائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شالخ فَبين الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذَا الْفَصْل وَحده اخْتِلَاف فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع احدها عمر أرفخشاذ جملَة وَالثَّانِي سنّ أرفخشاذ إِذْ ولد لَهُ وَلَده وَالثَّالِث زِيَادَة النَّصَارَى بَين أرفخشاذ وشالخ قينان وَإِسْقَاط الْيَهُود لَهُ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد اليهودكما ذكرنَا أَن شالخ لما بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ عَابِر وَأَن عمر شالخ كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن شالخ لما بلغ مائَة وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ عَابِر وَأَن عمر شالخ كُله كَانَ أَرْبَعمِائَة سنة وَسِتِّينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا سنّ شالخ إِذْ ولد لَهُ عَابِر وَالثَّانِي كمية عمر شالخ وَعند الْيَهُود كَمَا ذكرنَا فِي التَّوْرَاة أَن فالغ إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ (1) راغو وَعند النَّصَارَى كلهم أَن فالغ لما بلغ مائَة سنة وَثَلَاثِينَ ولد لَهُ رغو وَفِي توراة الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن راغو لما بلغ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ شاروع وَعند النَّصَارَى كلهم أَن راغو لما بلغ مائَة سنة واثنتين وَثَلَاثُونَ ولد لَهُ شاروع وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا(2/7)
ذكرنَا أَن شاروع إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة ولد لَهُ ناحور وَكَانَ عمر شاروع كُله مِائَتي عَام وَثَلَاثِينَ عَاما وَعند النَّصَارَى كلهم أَن شاروع إِذْ بلغ ثَلَاثِينَ سنة وَمِائَة سنة ولد لَهُ ناحور وَأَن عمر شاروع كُله كَانَ ثَلَاثمِائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة فَفِي هَذَا الْفَصْل بَين الطَّائِفَتَيْنِ تكاذب فِي موضِعين أَحدهمَا عمر شاروع جملَة وَالثَّانِي سنّ شاروع إِذْ ولد لَهُ ناحور وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن ناحور لما بلغ تسع وَعشْرين سنة ولد لَهُ نارخ وَأَن عمر ناحور كُله كَانَ مائَة سنة وثمانياً وَأَرْبَعين سنة وَعند النَّصَارَى كلهم أَن ناحور لما بلغ تسعا وَسبعين سنة ولد لَهُ تارخ وَأَن عمر ناحور كُله كَانَ مِائَتي عَام وَثَمَانِية أَعْوَام فَفِي هَذَا الْفَصْل تكاذب بَين الطَّائِفَتَيْنِ فِي موضِعين أَحدهمَا عمر ناحور كُله وَالثَّانِي سنّ ناحور إِذْ ولد لَهُ تارخ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود كَمَا ذكرنَا أَن تارخ كَانَ عمره كُله مِائَتي عَام وَخَمْسَة أَعْوَام وَعند النَّصَارَى كلهم أَن تارخ كَانَ عمره كُله مِائَتي عَام وَثَمَانِية أَعْوَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فتولد من الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور بَين الطَّائِفَتَيْنِ زِيَادَة عَن ألف عَام وثلاثمائة عَام وَخمسين عَاما عِنْد النَّصَارَى فِي تَارِيخ الدُّنْيَا على مَا هُوَ عِنْد الْيَهُود فِي تاريخها وَهِي تِسْعَة عشر موضعا كَمَا أوردنا فوضح اخْتِلَاف التَّوْرَاة عِنْدهم وَمثل هَذَا من التكاذب لَا يجوز أَن يكون من عِنْد الله عز وَجل أصلا وَلَا من قَول نَبِي الْبَتَّةَ وَلَا من قَول صَادِق عَالم من عرض النَّاس فَبَطل بِهَذَا بِلَا شكّ أَن تكون التَّوْرَاة وَتلك الْكتب منقولة نقلا يُوجب صِحَة الْعلم لَكِن نقلا فَاسِدا مَدْخُولا مضطربا وَلَا بُد لِلنَّصَارَى ضَرُورَة من أحد خَمْسَة أوجه لَا مخرج لَهُم عَن أَحدهَا إِمَّا أَن يصدقُوا نقل الْيَهُود للتوراة وَأَنَّهَا صَحِيحَة عَن مُوسَى عَن الله عز وَجل ولكتبهم وَهَذِه طريقتهم فِي الْحجَّاج والمناظرة فَإِن فعلوا فقد أقرُّوا على أنفسهم وعَلى أسلافهم الَّذين نقلوا عَنْهُم دينهم بِالْكَذِبِ إِذْ خالفوا قَول الله تَعَالَى وَقَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَو يكذبوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا نقل عَن الله عز وَجل وهم لَا يَفْعَلُونَ هَذَا أَو يكذبوا نقل الْيَهُود للتوراة ولكتبهم فَيبْطل تعلقهم بِمَا فِي تِلْكَ الْكتب مِمَّا يَقُولُونَ أَنه إنذار بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام اذلا يجوز لأحد أَن يحْتَج بِمَا لَا يَصح نَقله أَو يَقُولُوا كَمَا قَالَ بَعضهم إِنَّهُم إِنَّمَا عولوا فِيمَا عِنْدهم على تَرْجَمَة السّبْعين شيحا الَّذين ترجموا التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لبطليموس فَإِن قَالُوا هَذَا فَإِنَّهُم لَا يحلونَ ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَكُونُوا صَادِقين فِي ذَلِك أَو يَكُونُوا كاذبين فِي ذَلِك فَإِن كَانُوا كاذبين فِي ذَلِك فقد سقط أَمرهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين إِذْ لم يرجِعوا إِلَّا إِلَى المجاهرة بِالْكَذِبِ وَإِن كَانُوا صَادِقين فِي ذَلِك فقد حصلت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان توراة السّبْعين شَيخا وتوراة عزرا وَمن الْبَاطِل الْمُمْتَنع كَونهمَا جَمِيعًا حَقًا من عِنْد الله وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى كلهم مُصدق مُؤمن بِهَاتَيْنِ التوراتين مَعًا سوى توراة السامرية وَلَا بُد ضَرُورَة من ان تكون احدهما حَقًا(2/8)
وَالْأُخْرَى مكذوبة فَأَيّهمَا كَانَت المكذوبة فقد حصلت الطائفتان على الْإِيمَان بِالْبَاطِلِ ضَرُورَة وَلَا خير فِي أمة تؤمن بِيَقِين الْبَاطِل وَإِن كَانَت توراة السّبْعين شَيخا هِيَ المكذوبة فَلَقَد كَانُوا شُيُوخ سوء كَذَّابين ملعونين إِذْ حرفوا كَلَام الله تَعَالَى وبدلوه وَمن هَذِه صفته فَلَا يحل أَخذ الدّين عَنهُ وَلَا قبُول نَقله وَإِن كَانَت توراة عزرا هِيَ المكذوبة فقد كَانَ كذابا إِذْ حرف كَلَام الله تَعَالَى وَلَا يحل أَخذ شَيْء من الدّين عَن كَذَّاب وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ أَو يكون كِلَاهُمَا كذبا وَهَذَا هُوَ الْحق الْيَقِين الَّذِي لَا شكّ فِيهِ لما قدمنَا مِمَّا فِيهَا من الْكَذِب الفاضح الْمُوجب للْقطع بِأَنَّهَا مبدلة محرفة وَسَقَطت الطائفتان مَعًا وَبَطل دينهم الَّذِي إِنَّمَا مرجعه إِلَى تِلْكَ الْكتب المكذوبة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فتأملوا هَذَا الْفَصْل وَحده فَفِيهِ كِفَايَة فِي تَيَقّن بطلَان دين الطَّائِفَتَيْنِ فَكيف بِسَائِر مَا أوردنا إِذا استضاف إِلَيْهِ وَفِي التَّوْرَاة عِنْد الْيَهُود وَعند النَّصَارَى اخْتِلَاف آخر اكتفيا مِنْهُ بِهَذَا الْقدر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا بِالْإِسْلَامِ الْمَنْقُول نقل الكواف إِلَى رَسُول الله الْمَعْصُوم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البريء من كل كذب وَمن كل محَال الَّذِي تشهد لَهُ الْعُقُول بِالصِّحَّةِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
ذكر مناقضات الأناجيل الْأَرْبَعَة وَالْكذب الظَّاهِر الْمَوْضُوع فِيهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أول ذَلِك مبدأ الْخلق مبدأ إنجيل مَتى اللاواني الَّذِي هُوَ أول الأناجيل بالتأليف والرتبة فِي أول كلمة مِنْهُ مصحف نِسْبَة يسوع الْمَسِيح ابْن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم ولد إِسْحَاق وَإِسْحَق ولد يَعْقُوب وَيَعْقُوب ولد يهوذا وَإِخْوَته ويهوذا ولد من ثامار فارص وتارخ ثمَّ إِن فارص ولد حضروم وحضروم ولد آرام وآرام ولد عمينا ذاب وعمينا ذاب ولد نحشون الْخَارِج من مصر أَخُو زَوْجَة هَارُون ونحشون ولد شلمون وشلمون ولد لَهُ من راحاب بوعز وبوعز ولد لَهُ من راعوث عوبيذ وعوبيذ ولد لَهُ يشاي ويشاي ولد لَهُ دَاوُد الْملك وَولد دَاوُد الْملك شلمون وشلمون ولد رحبعام ورحبعام ولد أبيو وأبيو ولد أشا وأشا ولد يَهو شافاط ويهو شافاط ولد يهورام ويهورام ولد أحزياهو وأحزياهو ولد يوثام ويوثام ولد أحاز وأحاز ولد(2/9)
أحزيا وأحزيا ولد منشا ومنشا ولد أمون وأمون ولد يوشياهو ويوشياهو ولد يخنبا وَإِخْوَته وَقت الرحلة إِلَى بابل وَبعد ذَلِك ولد ليخنيا صلئيل وصلئيل ولد روبابيل وروبابيل ولد أبيوذ وأبيوذ ولد ألياخيم وألياخيم ولد أَزور وأزور ولد صادوق وصادوق ولد أخيم وأخيم ولد اليوذ واليوذ ولد أليعزار وأليعزار ولد متان ومتان ولد يَعْقُوب وَيَعْقُوب ولد يُوسُف خطيب مَرْيَم الَّتِي ولدت يسوع الَّذِي يدعى مسيحاً فَصَارَ من إِبْرَاهِيم إِلَى دَاوُد أَرْبَعَة عشر أَبَا وَمن دَاوُد إِلَى وَقت الرحلة أَرْبَعَة عشر أَبَا وَمن وَقت الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا فَجَمِيع المواليد من إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فَفِي هَذَا الْفَصْل خلاف لما فِي التَّوْرَاة وَكتب الْيَهُود الَّتِي هِيَ عِنْدهم فِي النَّقْل كالتوراة وهما كتاب ملاخيم وَكتاب وبراهياميم فَقَالَ هَاهُنَا تارخ بن يهوذا وَفِي التَّوْرَاة زارح بن يهوذا وَهَذَا اخْتِلَاف فِي الِاسْم وَكذب فِي أحد الْخَبَرَيْنِ والأنبياء لَا يكذبُون وَقَالَ هَا هُنَا أحزياهو بن يهورام وَفِي كتب الْيَهُود أحزيابن يورام وَهَذَا اخْتِلَاف فِي الْأَسْمَاء ووحي الله تَعَالَى لَا يحْتَمل هَذَا فأحد النقلين كَاذِب بِلَا شكّ وَقَالَ هَاهُنَا يومثام بن أحزياهو وَفِي كتب الْيَهُود الْمَذْكُور يوثام بن عزيا بن أمصيا بن أش بن أحزيا فأسقط ثَلَاثَة آبَاء مِمَّا فِي كتب الْيَهُود وَهَذَا عَظِيم جدا فَإِن صدقُوا كتب الْيَهُود وهم مصدقون بهَا فقد كذب مَتى وَجَهل وَإِن صدقُوا مَتى فَإِن كتب الْيَهُود كَاذِبَة لَا بُد من أحد ذَلِك فقد حصلوا على التَّصْدِيق بالشَّيْء وضده مَعًا وَقَالَ هَا هُنَا أحزياهو ابْن حَاز بن يوثام وَفِي كتب الْيَهُود الْمَذْكُورَة حزقيا بن أحاز بن يوثام وهذ اخْتِلَاف فِي الِاسْم وَالْوَحي لَا يحْتَمل هَذَا فأحد النقلين كَاذِب بِلَا شكّ وَقَالَ هَا هُنَا يخنيا بن يوشياهو بن أمون وَفِي كتب الْيَهُود الَّتِي ذكرنَا يخنيا بن الياقيم بن موشيا بن أموز فأسقط مَتى الياقيم وَخَالف فِي اسْم يوشيا بن آمون وهذ عَظِيم كَمَا قدمنَا من كذبهمْ وَلَا بُد إِذْ يصدقون بالشَّيْء والضد لَهُ مَعًا وهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مَتى رَسُول مَعْصُوم أجل عِنْد الله من مُوسَى وَمن سَائِر الْأَنْبِيَاء كلهم وَهُوَ قد قَالَ فِي أول كلمة من إنجيله مصحف نِسْبَة الْمَسِيح بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم ثمَّ لم يَأْتِ إِلَّا بِنسَب يُوسُف النجار زوج مَرْيَم الَّذِي عِنْدهم هُوَ ربيب إلههم زوج أمه فَكيف يَقُول أَنه يذكر نسب الْمَسِيح ثمَّ يَأْتِي بِنِسْبَة يُوسُف النجار والمسيح عِنْد هَذَا التيس البوال لَيْسَ هُوَ ولد يُوسُف أصلا فقد كذب هَذَا القذر كذبا لَا خَفَاء بِهِ وَلَا مدْخل للمسيح فِي هَذَا النّسَب أصلا(2/10)
بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا أَن يَجْعَلُوهُ ولد يُوسُف النجار وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَلَا نَحن وَلَا جُمْهُور الْيَهُود أما هم فَيَقُولُونَ أَنه ابْن الله من مَرْيَم وَأَنه إِلَه وَابْن إِلَه وَامْرَأَة تَعَالَى الله عَن هَذَا وَأما نَحن فَنَقُول والعيسوية من الْيَهُود مَعنا والأريوسية والبولقانية والمقدونية من النَّصَارَى أَنه عبد آدَمِيّ خلقه الله تَعَالَى فِي بطن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام من غير ذكر وَأما جُمْهُور الْيَهُود لعنهم الله فَيَقُولُونَ أَنه لغير رشدة حاشى لله من ذَلِك بل إِن طَائِفَة قَليلَة من الْيَهُود يَقُولُونَ أَنه ابْن يُوسُف النجار وَمَا نرى مَتى إِلَّا شَاهدا لقَولهم ومحققاً لَهُ وَإِلَّا فَكيف يبْدَأ بِأَنَّهُ يذكر نسب الْمَسِيح إِلَى دَاوُد ثمَّ لَا يذكر إِلَّا يُوسُف النجار إِلَى دَاوُد وَلَو أَنه ذكر نسب أمه مَرْيَم لَكَانَ لقَوْله مخرج ظَاهر لكنه لم يذكر نسب مَرْيَم أصلا ثمَّ لم يستحي النذل من أَن يُحَقّق مَا ابْتَدَأَ بِهِ فَبعد أَن أتم نسب يُوسُف النجار قَالَ من الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا فَجَمِيع المواليد من إِبْرَاهِيم إِلَى المسسيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً فأكد هَذَا الملعون كذبه وَأَن الْمَسِيح ولد يُوسُف وَلَا بُد ضَرُورَة من أَحدهمَا وَإِلَّا فَكيف يكون من الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشرا أَبَا والمسيح لَيْسَ هُوَ ابْنا لأَحَدهم ولاهم آبَاء لَهُ فَكيف يكون من إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مولوداً وَلَا مدْخل للمسيح فِي تِلْكَ الولادات إِلَّا كمدخله فِي ولادات أهل الصين وَأهل الْهِنْد وَأهل طلعة وسقر وسقرال وَلَا فرق هَذِه فضائح الدَّهْر وَمَا لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا أنجس الْبَريَّة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ثمَّ كذب آخر وَجَهل زَائِد وهما قَوْله فَبين إِبْرَاهِيم إِلَى دَاوُد أَرْبَعَة عشرَة أَبَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا كذب إِنَّمَا هم على مَا ذكر ثَلَاثَة عشر إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب ويهوذا وزارح وحضروم وآرام وعمينا ذاب ونحشون وشلمون وبوعز وعوبيذ ويشاي فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة عشر اباً ثمَّ دَاوُد وَلَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يعد دَاوُد فِي آبَاء نَفسه فَيجْعَل أَبَا لنَفسِهِ فَهَذِهِ ملحنة ثمَّ قَالَ وَمن دَاوُد إِلَى الرحلة أَرْبَعَة عشر اباً وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن يخنيا هُوَ الراحل بِنَصّ قَول مَتى وَأَنه لم يُولد لَهُ على قَوْله صلتيئيل إِلَّا بعد الرحلة فهم شلمون ورحبعام وأبيو وآشا ويهو شافاط ويهوررام وأحزياهو ويوثام وأحاز وأحزياهو ومنشا وآمون ويوشياهو ويخنيا وَقد عد دَاوُد قبل فَإِن عده هَا هُنَا فقد حققوا الْكَذِب فِي الْفَصْل الَّذِي قبله وَإِن عده هُنَاكَ فقد كذبُوا فِي هَذَا الْعدَد الثَّانِي أَو جعلُوا يخنيا أَبَا لنَفسِهِ وَهَذَا هوس ثمَّ قَالَ وَمن الرحلة إِلَى الْمَسِيح أَرْبَعَة عشر أَبَا وَهَذَا فصل جمع كذبتين عظيمتين أحداهما أَنه إِذا عد صلتيئيل ثمَّ من بعده إِلَى يُوسُف النجار فليسوا إِلَّا اثْنَي عشر رجلا فَقَط وهم صلتيئيل وروبابيل وابيوذ والياخيم وآزور وصادوق وأخيم(2/11)
واليوذ واليعازار وماثان وَيَعْقُوب ويوسف فَإِن عد فيهم يخنيا كَانُوا ثَلَاثَة عشر وَهُوَ يَقُول أَرْبَعَة عشر فاعجبوا لهَذَا الْحمق وَهَذَا الضلال واعجبوا لرعونة من جَازَ هَذَا عَلَيْهِ واعتقده دينا ثمَّ إِن كَانَ عني أَنهم آبَاء الْمَسِيح فيوسف وَالِد الْمَسِيح وكفي بِهَذَا عِنْدهم كفرا فقد كفر مَتى أَو كذب وَجَهل لَا بُد من أحد ذَلِك ثمَّ قَوْله فَمن إِبْرَاهِيم إِلَى الْمَسِيح اثْنَان وَأَرْبَعُونَ مَوْلُود فَهَذَا كذب فَاحش وَجَهل مفرط لِأَنَّهُ إِذا عد إِبْرَاهِيم وَمن بعده إِلَى يُوسُف وعد يُوسُف أَيْضا فَإِنَّمَا هم أَرْبَعُونَ فَقَط فَإِن عد الْمَسِيح وَجعله ولد يُوسُف لم يَكُونُوا أَيْضا إِلَّا وَاحِدًا وَأَرْبَعين فَقَط فاعجبوا مِمَّن يدين الله تَعَالَى بِهَذَا الْحمق واحمدوه على السَّلامَة هَذَا إِلَى الْكَذِب المفضوح الَّذِي فِي نسب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى نحشون بن عمينا ذاب لِأَن يحشون بِنَصّ توراتهم هُوَ الْخَارِج من مصر وَهُوَ مقدم بني يهوذا وَلم يدْخل بِنَصّ التَّوْرَاة أَرض الْبَيْت الْمُقَدّس لِأَن كل من خرج من مصر ابْن عشْرين سنة فَصَاعِدا مَاتُوا كلهم فِي التيه بِنَصّ التَّوْرَاة فَإِذا عدت الولادات من شلمون بن نحشون الَّذِي دخل أَرض الْبَيْت الْمُقَدّس إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وجدوا أَرْبَعَة فَقَط وهم دَاوُد بن يشاي بن عوبيذ بن بوعذ بن شلمون الدَّاخِل مصر الْمَذْكُور وَلَا يَخْتَلِفُونَ يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَعًا أَن من دُخُول شلمون الْمَذْكُور مَعَ يُوشَع وَبني إِسْرَائِيل الأَرْض المقدسة إِلَى مولد دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام خَمْسمِائَة سنة وَثَلَاثًا وَسبعين سنة فَيجب على هَذَا أَن يَقُول أَن شلمون لم يدْخل الأَرْض المقدسة إِلَّا وَهُوَ أقل من سنة وَأَنه لم يُولد لكل وَاحِد مِنْهُم وَلَده الْمَذْكُور إِلَّا وَله مائَة سنة ونيف وَأَرْبَعُونَ سنة وكتبهم تشهد ككتاب ملاخيم وبراهياميم وَغَيرهمَا وتقطع أَنه لم يَعش أحد من بني إِسْرَائِيل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مائَة سنة وَثَلَاثِينَ سنة إِلَّا يهوراع الكوهن الهاروني وَحده فكم هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الافتضاح فِيهِ وَهَذِه الشُّهْرَة الْعَظِيمَة لَا ينفكون من كذبة إِلَّا إِلَى أُخْرَى وَمن سوءة إِلَّا إِلَى سوءة ونعوذ بِاللَّه من الْبلَاء فاعجبوا لما افْتتح بِهِ هَذَا الْكذَّاب كِتَابه وتأليفه مَاذَا جمع هَذَا الْفَصْل على صغره وَأَنه أسطار يسيرَة من الْكَذِب وَالْجهل ... أحسن مَا فِي خَالِد وَجهه
فقس على الْغَائِب بِالشَّاهِدِ ...
ثمَّ ذكر لوقا الطَّبِيب فِي الْبَاب الثَّالِث مِنْهُ نسب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ أَنه كَانَ يظنّ أَنه ابْن يُوسُف النجار الْمَنْسُوب إِلَى عالى إِلَى ماثان إِلَى لاوي إِلَى ملكي إِلَى يمتاع إِلَى يُوسُف إِلَى متاثيا إِلَى حاموص إِلَى ماحوم إِلَى أشلا إِلَى أنجا إِلَى ماهاث إِلَى منيشا إِلَى شمعي إِلَى مصداق إِلَى يهندع(2/12)
إِلَى يوحنا إِلَى ريشا إِلَى زربائيل إِلَى صلتئيل إِلَى ينرى إِلَى ملكي إِلَى أدّى إِلَى أريع إِلَى قرصام إِلَى المودان إِلَى هار إِلَى يشوع إِلَى يونا إِلَى الياخيم إِلَى ملكا اياز إِلَى يمتاع إِلَى متاثا إِلَى ناثان إِلَى دَاوُد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ ذكر نسب دَاوُد كَمَا ذكره مَتى حرفا حرفا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فاعجبوا لهَذِهِ الْمُصِيبَة الْحَالة بهم مَا أفحشها وأوحشها وأقذرها وأوضرها وأرذلها وأنذلها مَتى الْكذَّاب ينْسب الْمَسِيح إِلَى يُوسُف النجار ثمَّ ينْسب يُوسُف إِلَى الْمُلُوك من ولد سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَبَا فأباً ولوقا ينْسب يُوسُف النجار إِلَى آبَاء غير الَّذِي ذكرهم مَتى حَتَّى يُخرجهُ إِلَى ناثان بن دَاوُد أخي سُلَيْمَان بن دَاوُد أَو لَا بُد ضَرُورَة من أَن يكون كلا النسبين كذبا فيكذب الملعونان جَمِيعًا وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون كلا النسبتين حَقًا ولوقا عِنْدهم لوق الله صورهم وألاق وجوهم ولقاهم الْبلَاء وَألقى عَلَيْهِم الدمار واللعنة فِي الْجَلالَة فَوق جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَهَذِهِ صفة أَنَاجِيلهمْ فاحمدوا الله تَعَالَى أَيَّاهُ الْمُؤْمِنُونَ على السَّلامَة والعصمة وَقَالَ بعض أكَابِر من سلف مِنْهُم من مضليهم أَن أحد هذَيْن النسبين هُوَ نسب الْولادَة وَالنّسب الآخر نسب إِلَى إِنْسَان تبناه على مَا قد كَانَ فِي قديم زمن بني إِسْرَائِيل من أَن من مَاتَ وَلَا ولد لَهُ وَتزَوج آخر امْرَأَته نسب إِلَى الْمَيِّت من ولدت من هَذَا الْحَيّ فَقُلْنَا لمن عَارَضنَا مِنْهُم بِهَذَا الهوس من لَك بِهَذَا وَأَيْنَ وجدته ألموقا أَو لمتى وَالدَّعْوَى لَا يعجز عَنْهَا أحد وَهِي بَاطِلَة إِلَّا أَن يعضدها برهَان وَبعد هَذَا فَأَي النسبين هُوَ نسب الْولادَة وَأيهمَا هُوَ نسب الْإِضَافَة لَا الْحَقِيقَة فَأَيّهمَا قَالَ قلب عَلَيْهِ قَوْله وَقيل لَهُ هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان فَإِن قَالَ أَن لوقا لم يقل أَن فلَانا ولد فلَانا كَمَا قَالَه مَتى لَكِن قَالَ الْمَنْسُوب إِلَى عالى قُلْنَا وَهَكَذَا قَالَ فِي آبَاء عالى أَبَا فأباً إِلَى دَاوُد ثمَّ إِلَى إِبْرَاهِيم ثمَّ إِلَى نوح ثمَّ إِلَى آدم سَوَاء بسواءٍ فِي اسْم بعد اسْم وَفِي أَب بعد أَب وَلَا فرق افترى نسب دَاوُد إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم إِلَى نوح ونوح إِلَى آدم كَانَ أَيْضا على الْإِضَافَة لَا على الْحَقِيقَة كَمَا قلت فِي نسب يُوسُف إِلَى عالى هَذَا عجب فَإذْ لَا سَبِيل إِلَى تَصْحِيح هَذِه الدَّعْوَى فَهِيَ كذب ووضح الْكَذِب فِي أحد النسبين ضَرُورَة عيَانًا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل مَتى فلحق يسوع يَعْنِي الْمَسِيح بالمفاز وَسَاقه الرّوح إِلَى هُنَالك ولبث فِيهِ ليقيس إِبْلِيس نَفسه فِيهِ فَلَمَّا أَن مضى أَرْبَعِينَ يَوْمًا بليالها جَاع فَوقف إِلَيْهِ الجساس وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فَأمر هَذِه الجنادل تصير لَك خبْزًا فَقَالَ(2/13)
يسوع قد صَار مَكْتُوبًا بِأَن عَيْش الْمَرْء لَيْسَ بالخبز وَحده وَلَكِن فِي كل كلمة تخرج من فَم الله تَعَالَى وَبعد هَذَا أقبل إِبْلِيس فِي الْمَدِينَة المقدسة وَهُوَ وَاقِف فِي أَعلَى بنيانها وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فترام من فَوق فَإِنَّهُ قد صَار مَكْتُوبًا بِأَنَّهُ سيبعث مَلَائِكَة يرفدونك ويدفعون عَنْك حَتَّى لَا يُصِيب قدمك مَكْرُوه فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ قه قد صا مَكْتُوبًا أَيْضا أَن لَا يقيس أحد العبيد إلهه ثمَّ عَاد إِلَيْهِ إِبْلِيس وَهُوَ فِي أَعلَى جبل منيف فأطهر لَهُ زِينَة جَمِيع الدُّنْيَا وشرفها وَقَالَ لَهُ إِنِّي سأملكك كل مَا ترى إِن سجدت لي فَقَالَ لَهُ يسوع اذْهَبْ يَا مُنَافِق مقهقراً فقد كتب أَن لَا يعبد أحد غير السَّيِّد إلهه وَلَا يخْدم سواهُ فتأيس عَنهُ إِبْلِيس عِنْد ذَلِك وَتَنَحَّى عَنهُ وَأَقْبَلت الْمَلَائِكَة وتولت خدمته وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا فَانْصَرف يسوع من الْأُرْدُن محشواً من روح الْقُدس وقاده الرّوح إِلَى القفار وَمكث فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وقايسه إِبْلِيس فِيهِ وَلم يَأْكُل شَيْئا فِي تِلْكَ الْأَرْبَعين يَوْمًا فَلَمَّا أكملها جَاع فَقَالَ لَهُ إِبْلِيس إِن كنت ابْن الله فَأمر هَذِه الْحجر أَن يصير خبْزًا فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد صَار مَكْتُوبًا أَنه لَيْسَ عَيْش الْآدَمِيّ فِي الْخبز وَحده إِلَّا فِي كل كلمة لله ثمَّ قَادَهُ إِبْلِيس إِلَى جبل منيف عَال وَعرض عَلَيْهِ وَملك جَمِيع الدُّنْيَا من وقته وَقَالَ لَهُ سأملكك هَذَا السُّلْطَان وأنزلك بعطمته لِأَنِّي قد ملكته وَأَنا أعْطِيه من وَافقنِي فَإِن سجدت لي كَانَ لَك أجمع فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد صَار مَكْتُوبًا أَن تعبد السَّيِّد إلهك وتخدمه وَحده ثمَّ سَاقه إِلَى برشام وصعده وَوَقفه على صَخْرَة الْبَيْت فِي أَعْلَاهُ وَقَالَ لَهُ إِن كنت ولد الله فتسبسب من هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَكْتُوب أَن يبْعَث مَلَائِكَة لحرزك وحملك فِي الأكف حَتَّى لَا تعثر بقدمك فِي حجر وَلَا يصيبك مَكْرُوه فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ قد كتب أَيْضا أَن لَا تقيس السَّيِّد إلهك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفضل عجائب لم يسمع بأطم مِنْهَا أَولهَا إِقْرَار الصَّادِق عِنْدهم بِأَن إِبْلِيس قاد الْمَسِيح مرّة إِلَى جبل منيف وانقاد لَهُ وَمضى مَعَه وقاده مرّة أُخْرَى إِلَى أَعلَى صَخْرَة فِي بَيت الْمُقَدّس فَمَا نرَاهُ إِلَّا ينقاد لإبليس حَيْثُ قَادَهُ وَلَا يخلوا من أَن يكون قَادَهُ فانقاد لَهُ مطيقا سَامِعًا فَمَا نرَاهُ نرَاهُ إِلَّا منصرفاً تَحت حكم الشَّيْطَان وَهَذِه وَالله منزلَة رذيلة جدا أَو يكون قَادَهُ كرها فَهَذِهِ منزلَة المصروعين الَّذين يتخبطهم الشَّيْطَان من الْمس حاشى الْأَنْبِيَاء من كلتا الصفتين فَكيف بإله وَابْن إِلَه بزعمهم وَمَا سمع قطّ بأحمق من هَذَا الهوس وَنَحْمَد الله على عَظِيم منته ثمَّ الطامة الْأُخْرَى كَيفَ يطْمع إِبْلِيس عِنْد هَؤُلَاءِ النوكي فِي أَن يسْجد لَهُ خالقه وَفِي أَن يعبده ربه وَفِي أَن يخضع لَهُ من فِيهِ روح اللاهوت أم كَيفَ يَدْعُو إِبْلِيس ربه وإلهه إِلَى أَن يعبده وَالله إِنِّي لأقطع أَن كفر إِبْلِيس وحمقه لم يبلغَا قطّ هَذِه الْمبلغ فَهَذِهِ آبدة الدَّهْر ثمَّ عجب آخر كَيفَ يمني إِبْلِيس رب الدُّنْيَا وخالقها ومالكها ومالكه وإلهنا وإلهه فِي أَن يملكهُ زِينَة الدُّنْيَا فَهَذِهِ(2/14)
كَمَا تَقول عامتنا أعْطه من خبزه كسيرة مَا هَذِه الوساوس الَّتِي لَا لَا ينْطق بهَا إِلَّا لِسَان من حَقه سُكْنى المارستان أَو عيار كَافِر مستخف بِقوم نوكي يوردهم وَلَا يصدرهم مَا شَاءَ الله كَانَ فَإِن قَالُوا إِنَّمَا دَعَا الناسوت وَحده وإياه عَنى إِبْلِيس وَحده قُلْنَا فَإِن اللاهوت والناسوت عنْدكُمْ متحدان بِمَعْنى أَنَّهُمَا صَارا شَيْئا وَاحِدًا والمسيح عنْدكُمْ إِلَه معبود وَقد قُلْتُمْ هَاهُنَا أَن إِبْلِيس قاد الْمَسِيح فانقاد لَهُ الْمَسِيح وَدعَاهُ إِبْلِيس إِلَى عِبَادَته وَالسُّجُود لَهُ ومناه إِبْلِيس بِملك الدُّنْيَا وَقَالَ للمسيح وَقَالَ لَهُ الْمَسِيح أَو قَالَ ليسوع وَقَالَ لَهُ يسوع وعَلى قَوْلكُم أَنه إِنَّمَا خَاطب الناسوت إِنَّمَا دَعَا نصف الْمَسِيح وَنصف يسوع وَإِنَّمَا مني بزينة الدُّنْيَا نصف الْمَسِيح فقد كذب لوقا وَمَتى على كل حَال وَأهل الْكَذِب هما فَكيف هَذَا وَيُوجب أَن إِبْلِيس إِنَّمَا دَعَا اللاهوت لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ إِن كنت ابْن الله فافعل كَذَا وَلَو لم يكن من هَذَا فِي الأناجيل إِلَّا هَذَا الْفَصْل الأبخر وَحده لكفى فَكيف وَله فِيهَا نَظَائِر جمة وَنَحْمَد الله على السَّلامَة
فصل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَذكر فِي الْفَصْل الَّذِي تكلمنا عَلَيْهِ أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام احتشى من روح الْقُدس وَفِي أول بَاب من إنجيل لوقا أَن يحيى بن زَكَرِيَّا احتشى من روح الْقُدس فِي بطن أمه وَأَن أم يحيى احتشت أَيْضا من روح الْقُدس فَمَا نرى للمسيح من روح الْقُدس إِلَّا كَالَّذي ليحيى ولأم يحيى من روح الْقُدس وَلَا فرق فَأَي فضل لَهُ عَلَيْهِمَا
فصل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل مَتى فَلَمَّا بلغه حبس يحيى بن زَكَرِيَّا تنحى إِلَى جلجال وتخلا من مَدِينَة ناصرة ورحل وَسكن فِي كفرنا حوم على السَّاحِل فِي زابلون ونفثالى ليتم قَول أشعيا النَّبِي حَيْثُ قَالَ أَرض زابلون ونفثالى وَطَرِيق الْبَحْر خلف الْأُرْدُن وجلجال الْأَجْنَاس وكل من كَانَ بهَا فِي ظلمَة يبصرون نورا عَظِيما وَمن كَانَ سَاكِنا فِي ظلل الْمَوْت بهَا يطلع النُّور عَلَيْهِم وَمن ذَلِك الْموضع ابْتَدَأَ يسوع بِالْوَصِيَّةِ وَقَالَ تُوبُوا فقد تدانى ملكوت السَّمَاء وَبينا هُوَ يمشي على ريف الْبَحْر بَحر جلجال إِذْ بصر بأخوين أَحدهمَا يدعى شَمْعُون الْمُسَمّى باطرة وَالْآخر أندرياس وهما يدخلَانِ شباكهما فِي الْبَحْر وَكَانَا صيادين فَقَالَ لَهما اتبعاني أجعلكما صيادي الْآدَمِيّين فتخليا وقتهما ذَلِك من شباكهما واتبعاه ثمَّ تحرّك من ذَلِك الْموضع وبصر بأخوين أَيْضا وهما يَعْقُوب ويوحنا بن سيذاي فِي مركب مَعَ أَبِيهِمَا يعدَّانِ شباكهما فدعاهما فتخليا ذَلِك الْوَقْت من شباكهما وَمن أَبِيهِمَا ومتاعهما واتبعاه هَذَا نَص كَلَام مَتى فِي إنجيله حرفا حرفا وَفِي أول بَاب من إنجيل(2/15)
مارقش قَالَ فَبعد أَن بلي يحيى أقبل يسوع إِلَى جلجال ملك الله وَقَالَ إِن الزَّمَان قد تمّ وتدانى ملك الله فتوبوا وتقبلوا الْإِنْجِيل فَلَمَّا خطر جوَار بَحر جلجال نظر إِلَى شَمْعُون وأندرياس وهما يدخلَانِ شبكتهما فِي الْبَحْر وَكَانَا صيادين فَقَالَ لَهما يسوع اتبعاني أجعلكما صيادين للآدميين فتركا ذَلِك الْوَقْت الشبكة واتبعاه ثمَّ تَمَادى قَلِيلا فأبصر يَعْقُوب بن زبدى وأخاه يوحنا وهما فِي الْمركب يهندمان شبكتهما فدعاهما فتركا ولدهما مَعَ العمالين بِأُجْرَة فِي الْمركب واتبعاه هَذَا نَص كَلَام مارقش فِي إنجيله حرفا حرفا وَقَالَ فِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا وبينما الْجَمَاعَات يَوْمًا تزدحم عَلَيْهِ رَغْبَة فِي اسْتِمَاع كَلَام الله وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت وَاقِفًا على ريف بحيرة بشيرات إِذْ بصر بمركبين فِي الْبحيرَة قد نزل عَنْهُمَا أصحابهما لغسل شباكهم فَدخل يسوع أَحدهمَا الَّذِي كَانَ لشمعون وَسَأَلَهُ أَن يتَنَحَّى بِهِ عَن الرِّيف قَلِيلا فَقعدَ فِي الْمركب وَجعل يُوصي الْجَمَاعَات مِنْهُ فَلَمَّا أمسك عَن الْوَصِيَّة قَالَ لشمعون تَنَح عَن العمق والقواجر أفاتكم للصَّيْد فَقَالَ لَهُ شَمْعُون يَا معلم قد عنينا طول اللَّيْل وَلم نصب شَيْئا وَلَكنَّا سنلقي الجرافة بِأَمْرك وقولك فَلَمَّا أَلْقَاهَا قبضت على حيتان كَثِيرَة جليلة فَكَادَتْ تقطع الجرافة من كثرتها فاستعانوا بأصحاب الْمركب الثَّانِي وسألوهم أَن يعينوهم على إخراجهم لَهَا فَاجْتمعُوا عَلَيْهَا وشحنوا مِنْهَا المركبين حَتَّى كادا أَن يغرقا فَلَمَّا بصر بذلك شَمْعُون الَّذِي يدعى باطرة سجد لسيوع وَقَالَ اخْرُج عني يَا سَيِّدي لِأَنِّي إِنْسَان مذنب وَكَانَ قد حَار وكل من كَانَ مَعَه لِكَثْرَة مَا أَصَابُوا من الْحيتَان وحار يَعْقُوب ويوحنا ابْنا زبدى فَقَالَ يسوع لشمعون لَا تخف فَإنَّك ستصطاد من الْيَوْم الْآدَمِيّين فَخَرجُوا إِلَى الرِّيف الآخر مركبهم وتخلوا من جَمِيع مَا كَانَ لَهُم واتبعوه هَذَا نَص كَلَام لوقا فِي إنجيله حرفا حرفا وَفِي أول بَاب من إنجيل يوحنا بن سيذاي قَالَ وَفِي يَوْم آخر كَانَ يحيى بن زَكَرِيَّا المعمدان وَاقِفًا وَمَعَهُ تلميذان من تلاميذه فَبَصر بيسوع مَا شيا فَقَالَ هَذَا خروف الله فَسمع ذَلِك مِنْهُ التلميذان واتبعا يسوع فَالْتَفت إِلَيْهِمَا يسوع إِذْ رآهما يتبعانه وَقَالَ لَهما مَا الَّذِي طلبتما قَالَا لَهُ يَا معلم أَيْن مسكنك فَقَالَ لَهما أَقبلَا فأبصرا فتوجها مَعَه ورأيا مَسْكَنه وباتا عِنْده ذَلِك الْيَوْم وَكَانَا فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة وَكَانَ أحد التلميذين اللَّذين اتبعاه أندرياس أَخُو شَمْعُون الْمُسَمّى باطرى أحد الاثْنَي عشر فلقي أَخَاهُ شَمْعُون وَهُوَ اُحْدُ الَّذين سمعا من يحيى واتبعاه إِذْ نظر إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ وجدنَا الْمَسِيح ثمَّ(2/16)
أقبل إِلَيْهِ بِهِ فَلَمَّا بصر بِهِ الْمَسِيح قَالَ لَهُ أَنْت شَمْعُون بن يوثا وَأَنت تسمى صفا وترجمته الْحجر وَهَذَا نَص كَلَام يوحنا فِي إنجيله حرفا حرفا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فاعجبوا لهَذِهِ الفضائح وتأملوها اتّفق مَتى وماقش على أَن أول مَا كَانَت صُحْبَة شَمْعُون باطره وأخيه أندرياش ابْني يوثا للمسيح فَإِنَّهَا كَانَت بعد أَن سجن يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ وجدهما الْمَسِيح وهما يدخلَانِ شبكتهما فِي الْبَحْر للصَّيْد وَقَالَ لوقا أَنه وجدهما أول مَا صحباه إِذْ وجدهما قد نزلا من الْمركب لغسل شباكهما وأنهما كَانَا قد تعبا طول اللَّيْل وَلم يصيدا شَيْئا وَقَالَ يوحنا إِن أول مَا صحباه إِذْ رَآهُ أندرياش أَخُو شَمْعُون باطره وَهُوَ وَاقِف مَعَ يحيى بن زَكَرِيَّا وَأَنه كَانَ تلميذاً ليحيى وَأَن يحيى حِينَئِذٍ كَانَ يعمد للنَّاس فَلَمَّا سمع أندرياش قَول يحيى إِذْ رأى الْمَسِيح هَذَا حُرُوف الله ترك يحيى وَصَحب الْمَسِيح وَذَلِكَ فِي السَّاعَة الْعَاشِرَة وَبَات عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ مضى إِلَى أَخِيه شَمْعُون باطره وَأخْبرهُ وأتى بِهِ إِلَى الْمَسِيح فصحبه وَهِي أول صحبته لَهُ فبعضهم يَقُول أول صُحْبَة باطره وأخيه أندرياش للمسيح كَانَت بعد سجن يحيى بن زَكَرِيَّا وَهُوَ قَول مَتى ومارقش وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أول صُحْبَة شَمْعُون باطو وأندرياش للمسيح كَانَت قبل أَن يسجن يحيى وَهُوَ قَول يوحنا وَبَعْضهمْ يَقُول أول صُحْبَة باطره وأندرياش للمسيح كَانَت إِذْ وجدهما يدخلَانِ شبكتهما للصَّيْد جميعأً فتركاها وصحباه من حِينَئِذٍ وَهُوَ قَول مَتى ومارقش وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أول صُحْبَة باطرة وأندرياش للمسيح كَانَت إِذْ رَآهُ أندرياش وَهُوَ وَاقِف مَعَ يحيى وَهُوَ تلميذ يحيى يَوْمئِذٍ فَرَأى الْمَسِيح مَاشِيا فَقَالَ يحيى هَذَا خروف الله فَترك أندرياش يحيى وَصَحب الْمَسِيح من حِينَئِذٍ ثمَّ مضى إِلَى أَخِيه شَمْعُون وعرفه أَنه قد وجد الْمَسِيح وأتى بِهِ إِلَيْهِ فصحبه من حِينَئِذٍ وَهُوَ قَول يوحنا فَهَذِهِ أَربع كذبات فِي نسق إِحْدَاهَا فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ ابْتَدَأَ صحبتهما للمسيح فِيهِ وَالْأُخْرَى فِي الْموضع الَّذِي كَانَت أول صحبتهما للمسيح فِيهِ وَالثَّالِثَة فِي رُتْبَة صحبتهما للمسيح امعاً أم أَحدهمَا قبل الثَّانِي وَالرَّابِعَة فِي صفة الْحَال الَّتِي وجدهما عَلَيْهَا أول مَا صحباه وبالضرورة نَدْرِي أَن أحد هَذِه الاختلافات الْأَرْبَعَة كذب بِلَا شكّ وَمثل هَذَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون من عِنْد الله عز وَجل وَلَا من عِنْد نَبِي وَلَا من عِنْد صَادِق بل من كَذَّاب عيار لَا يُبَالِي بِمَا حدث وَأغْرب شَيْء فِي ذَلِك قَوْلهم أَن يوحنا بن سيذاي هُوَ ترْجم إنجيل مَتى من العبرانية إِلَى اليونانية فَإِذا رأى هَذِه الْقَصَص فِي إنجيل مَتى بِخِلَاف مَا عِنْده فَلَا بُد ضَرُورَة من أَن يكون عرف أَن قَول مَتى كذب أَو عرف أَنه حق لَا بُد من أَحدهمَا ضَرُورَة فَإِن كَانَ قَول مَتى كذبا فقد(2/17)
استجاز يوحنا أَن يُورد الْكَذِب عَن صَاحبه الْمُقَدّس الَّذِي هُوَ عِنْدهم أكبر من مُوسَى وَمن سَائِر الْأَنْبِيَاء وَإِن كَانَ قَول مَتى حَقًا فقد قصد يوحنا لإيراد الْكَذِب فِيمَا أخبر هُوَ بِهِ فِي إنجيله لَا بُد من أَحدهمَا وَلَقَد كَانَت هَذِه وَحدهَا تَكْفِي فِي بَيَان أَن الأناجيل من عمل كَذَّابين ملعونين شَاهَت وُجُوههم وحاقت بهم لعنة الله
فصل
وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَا تحسبوا أَنِّي جِئْت لنقض التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا أتيت لإتمامها فَإِنِّي الْحق أَقُول لكم إِلَى أَن تبيد السَّمَاء وَالْأَرْض لَا تبيد بَاء وَاحِدَة وَلَا حرف وَاحِد من التَّوْرَاة حَتَّى يتم الْجَمِيع فَمن حلل عهدا من هَذِه العهود الصَّغِيرَة وَحمل النَّاس على تَحْلِيله فسيدعى فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا وَمن أتمه وحض النَّاس على إِتْمَامه فسيدعى فِي ملكوت السَّمَوَات عَظِيما وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى ستحول السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا يحول كَلَامي
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه نُصُوص تَقْتَضِي التأييد وتمنع من النّسخ جملَة ثمَّ لم يمض بعد الْفَصْل الأول الْمَذْكُور إِلَّا أسطار يسيرَة حَتَّى ذكر مَتى أَنه قَالَ لَهُم الْمَسِيح قد قيل من فَارق امْرَأَته فليكتب لَهَا كتاب طَلَاق قَالَ وَأَنا أَقُول لكم من فَارق امْرَأَته إِلَّا لزنا فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَا وَمن تزوج مُطلقَة فَإِنَّهُ يَزْنِي وَهَذَا نقض لحكم التَّوْرَاة الَّذِي ذكر أَنه لم يَأْتِ لنقضها لَكِن لإتمامها ثمَّ يحكون عَن بولس الملعون أَنه نهى عَن الْخِتَان وَهُوَ من أوكد شرائع التَّوْرَاة وَعَن شَمْعُون باطرة المسخوط أَنه أَبَاحَ أكل الْخِنْزِير وكل حَيَوَان وَطَعَام حرمته التوارة ثمَّ هم قد نقضوا شرائع التَّوْرَاة كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا من السبت وأعياد الْيَهُود وَغير ذَلِك وهم مَعَ هَذَا الْعَمَل لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن الْمَسِيح وَجَمِيع تلاميذه بعده لم يزَالُوا يلتزمون السبت وأعياد الْيَهُود وفصحهم إِلَى أَن مَاتُوا على ذَلِك وَأَن الْمَسِيح إِنَّمَا أَخذ لَيْلَة الفصح وَهُوَ يفصح على سنة الْيَهُود وشريعتهم فَكيف هَذَا فَلَا بُد لَهُم من أَن يضيفوا الْكَذِب إِلَى الْمَسِيح جهاراً إِذْ أخبر أَنه لم يَأْتِ لنقض التَّوْرَاة ثمَّ نقضهَا فصح أَنه أَتَى لما أخبر أَنه لم يَأْتِ لَهُ من نقضهَا وَهَذَا كذب(2/18)
لَا مزحل عَنهُ وَلَا بُد لَهُم من أَن يَفروا من أَن الْمَسِيح مسخوط يدعى فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا لَا عَظِيما لِأَنَّهُ هَكَذَا أخبر هُوَ عَمَّن حلل عهدا صَغِيرا من عهودها وَهُوَ قد حل عهوداً كبارًا من عهودها إِذْ حرم الطَّلَاق وَقد أباحته التَّوْرَاة وَنهى عَن الْقصاص الَّذِي جَاءَت بِهِ التَّوْرَاة فَقَالَ قد قيل الْعين بِالْعينِ وَالسّن بِالسِّنِّ وَأَنا أَقُول لَا تكافئوا أحدا بسيئة وَلَكِن من لطم خدك الْأَيْمن فانصب لَهُ الخد الْأَيْسَر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ أَو لَا بُد لَهُم من أَن يشْهدُوا على أنفسهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وسالفهم عَن خالفهم بِمَعْصِيَة الله تَعَالَى وَمُخَالفَة الْمَسِيح وَأَنَّهُمْ يدعونَ فِي ملكوت السَّمَوَات صغَارًا إِذْ نقضوا حكم التَّوْرَاة أَولهَا عَن آخرهَا وَلَا يُمكنهُم هَا هُنَا دَعْوَى النّسخ الْبَتَّةَ لأَنهم حكوا كَمَا أوردنا عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ أَقُول لكم إِلَى أَن تبيد السَّمَاء وَالْأَرْض لَا تبيد بَاء وَاحِدَة وَلَا حرف وَاحِد من التَّوْرَاة حَتَّى يتم الْجَمِيع فَمنع من النّسخ جملَة وَأَن فِي هَذَا لعجباً لَا نَظِير لَهُ وحمق وضلالاً مَا كُنَّا نصدق بِأَن أحدا يدين بِهِ لَوْلَا أَنا شاهدناهم ونسأل الله السَّلامَة ثمَّ ذكر فِي الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ للحواريين الاثْنَي عشر بأجمعهم وَمن جُمْلَتهمْ يهوذا الأسخريوطي الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما كل مَا حرمتموه فِي الأَرْض يكون محرما فِي السَّمَاء وكل مَا حللمتموه فِي الأَرْض يكون محللاً فِي السَّمَاء وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى أَنه قَالَ هَذَا القَوْل لباطره وَحده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا نَص تنَاقض عَظِيم كَيفَ يكون التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم للحواريين أَو لباطره مَعَ قَوْله أَنه لم يَأْتِ لتبديل التَّوْرَاة لَكِن لإتمامها وَأَنه من نقض من عهودها عهدا صَغِيرا دعِي فِي ملكوت السَّمَوَات صَغِيرا وَأَن السَّمَاء وَالْأَرْض تبيدان قبل أَن تبيد التَّوْرَاة بَاء وَاحِدَة أَو حرف وَاحِد لَئِن كَانَ صدق فِي هَذَا فَإِن فِي نَص التَّوْرَاة أَن الله تَعَالَى قد لعن من صلب فِي خَشَبَة وهم يَقُولُونَ أَنه صلب فِي خَشَبَة وَلَا شكّ فِي أَن باطرة شَمْعُون أَخا يُوسُف وأندرياش أَخُو باطرة وفليش وبولس صلبوا فِي الْخشب فعلى قَول الْمَسِيح لَا يبيد شَيْء من التَّوْرَاة حَتَّى يتم جَمِيعهَا فَكل هَؤُلَاءِ ملعونون بلعنة الله تَعَالَى فاعجبوا لضلال هَذِه الْفرْقَة المخذولة فَمَا سمع بأطم من هَذِه الفضائح أبدا(2/19)
فصل
وَفِي الرَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَنا أَقُول لكم كل من شخط على أَخِيه بِلَا سَبَب فقد اسْتوْجبَ الْقَتْل وَإِن أضرت إِلَيْك عَيْنك الْيُمْنَى فافقأها وأذهبها عَن نَفسك فذهابها عَنْك أحسن من إِدْخَال جسدك الْجَحِيم وَإِن أضرت إِلَيْك يدك الْيُمْنَى فابرأ مِنْهَا فذهابها مِنْك أحسن من إِدْخَال جسدك النَّار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَهَذِه شرائع يقرونَ أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَمرهم بهَا وكفهم عَنْهَا بِلَا خلاف بَين أحد مِنْهُم وَلَا يرَوْنَ الْقَضَاء بِشَيْء مِنْهَا فهم على مُخَالفَة الْمَسِيح بإقرارهم وهم لَا يرَوْنَ الْخِتَان والختان كَانَ مِلَّة الْمَسِيح وَكَانَ مختوناً والمسيح وتلاميذه لم يزَالُوا إِلَى أَن مَاتُوا يَصُومُونَ صَوْم الْيَهُود ويفصحون فصحهم ويلتزمون السبت إِلَى أَن مَاتُوا وهم قد بدلُوا هَذَا كُله وَجعلُوا مَكَان السبت الْأَحَد وأحدثوا صوما آخر بعد أَزِيد من مائَة عَام بعد رفع الْمَسِيح فَكفى بِهَذَا كُله ضلالا وَكفرا وَلَيْسَ مِنْهُم أحدا يقدر على إِنْكَار شَيْء من هَذَا فَإِن قَالُوا إِن الْمَسِيح أَمرهم بِاتِّبَاع أكابرهم قُلْنَا لَا عَلَيْكُم أَرَأَيْتُم لَو أَن بطارقتكم الْيَوْم أَجمعُوا على إبِْطَال مَا أحدثه بطارقتكم بعد مائَة عَام من رفع الْمَسِيح وأحدثوا لكم صياما آخر وَيَوْما آخر غير يَوْم الْأَحَد وفصحاً آخر وردوكم إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسِيح من تَعْظِيم السبت وَصَوْم الْيَهُود وفصحهم أَكَانَ يلزمكم اتباعهم فَإِن قَالُوا لَا قُلْنَا وَلم وَأي فرق بَين اتِّبَاع أُولَئِكَ وَقد خالفوا مَا نَص عَلَيْهِ الْمَسِيح والحواريون وَبَين اتِّبَاع هَؤُلَاءِ فِيمَا أحدثوه آنِفا فَإِن قَالُوا إِن أُولَئِكَ لعنُوا وَمنعُوا من تَبْدِيل مَا شرعوا قُلْنَا لَهُم وَأي لعن وَأي منع أعظم من منع الْمَسِيح من تَبْدِيل شَيْء من عهود التَّوْرَاة ثمَّ قد بدله من أطعتموه فِي تبديله لَهُ فقد صَار منع من بعد الْمَسِيح أقوى من منع الْمَسِيح وَإِن قَالُوا نعم كُنَّا نتبعهم أقرُّوا أَن دينهم لَا حَقِيقَة لَهُ وَإنَّهُ إِنَّمَا هُوَ اتِّبَاع مَا شرع أكابرهم من تَبْدِيل مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيُقَال لَهُم أَرَأَيْتُم إِن أحدث بعض بطارقتكم شرائع وأحدث الْآخرُونَ مِنْهُم أخر ولعنت كل طَائِفَة مِنْهُم من عمل بِغَيْر مَا شرعت فَكيف يكون الْحَال فَأَي دين أوسخ وأضل وأفسد من دين من هَذِه صفته وَلَقَد كَانَ لَهُم فِيمَا أوردنا من هَذَا الْفَصْل كِفَايَة فِي بطلَان كل مَا هم عَلَيْهِ وَلَو كَانَ لَهُم مسكة عقل وَحقّ لكل دين مرجعه إِلَى مَتى الشرطي ويوحنا المستخف وماقش الْمُرْتَد ولوقا الزنديق وباطره اللعين وبولس الموسوس الاضلال لَهُم فِي دينهم أَن تكون هَذِه صفته وَالْحَمْد لله على عَظِيم نعْمَته علينا
فصل
وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم ليكن دعائكم على مَا أصف لكم أَبَانَا السماوي تقدس اسْمك ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك وَقد علم أبوكم أَنكُمْ ستحتاجون إِلَى جَمِيع هَذَا وَفِي آخر الْإِنْجِيل أَنه قَالَ أَنا ذَاهِب إِلَى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم فَمَا(2/20)
نرى للمسيح من الْبُنُوَّة لله تَعَالَى إِلَّا مَا لسَائِر النَّاس وَلَا فرق فَمن أَيْن حصره بِأَنَّهُ ابْن الله عز وَجل دون سَائِرهمْ كلهم إِلَّا أَن كذبوه فِي هَذَا القَوْل فليختاروا أحد الْأَمريْنِ وَلَا بُد ثمَّ من أَيْن خصوا كل من سوى الْمَسِيح بِأَن الله تَعَالَى إلهه وَلم يَقُولُوا أَن الله إِلَه الْمَسِيح كَمَا قَالَ هُوَ بِلِسَانِهِ فَلَا بُد ضَرُورَة من الْإِقْرَار بِأَن الله هُوَ إِلَه الْمَسِيح وَأَن سَائِر النَّاس أَبنَاء الله تَعَالَى أَو يكذبوا الْمَسِيح فِي نصف كَلَامه وحسبك بِهَذَا فَسَادًا وضلالاً تَعَالَى الله عَن أَن يكون أَبَا لأحد أَو أَن يكون لَهُ ابْن لَا الْمَسِيح وَلَا غَيره بل هُوَ تَعَالَى إِلَه الْمَسِيح وإله كل من هُوَ غير الْمَسِيح
فصل
وَكَثِيرًا مَا يحكون فِي جَمِيع الأناجيل فِي غير مَا مَوضِع أَنه إِذا أخبر الْمَسِيح عَن نَفسه سمي نَفسه ابْن الْإِنْسَان وَمن الْمحَال والحمق أَن يكون الْإِلَه ابْن إِنْسَان أَو أَن يكون ابْن إِلَه وَابْن إِنْسَان مَعًا وَأَن يلد إِنْسَان إِلَهًا مَا فِي الْحمق والمحال وَالْكفْر أَكثر من هَذَا وتعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل مَتى فَبينا يسوع يَقُول هَذَا إِذْ أقبل إِلَيْهِ أحد أَشْرَاف ذَلِك الْموضع وَقَالَ لَهُ إِن ابْنَتي توفيت وَأَنا أَرغب إِلَيْك أَن تذْهب إِلَيْهَا وتمسها بِيَدِك لتحيا ثمَّ ذكر أَنه لما دخل بَيت الْقَائِد وَأبْصر بالنوائح والبواكي قَالَ لَهُنَّ اسكتن فَإِن الْجَارِيَة لم تمت وَلكنهَا رَاقِدَة فاستهزأت الْجَمَاعَة بِهِ وَلما خرجت الْجَمَاعَة عَنْهَا دخل عَلَيْهَا وَأخذ بِيَدِهَا ثمَّ أَقَامَهَا حَيَّة وَذكر هَذِه الْقِصَّة نَفسهَا فِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل لوقا إِلَّا أَنه قَالَ فِيهَا إِن أَبَاهَا قَالَ لَهُ قد أشرفت على الْمَوْت وَأَنه نَهَضَ مَعَه فَلَقِيَهُ رَسُول يُخبرهُ بِأَن الْجَارِيَة قد مَاتَت فَلَا تتعبه وَأَن(2/21)
الْمَسِيح قَالَ لأَبِيهَا لَا تخف وآمن فتحيا فَلَمَّا بلغا الْبَيْت لم يدْخل مَعَ نَفسه فِي الْبَيْت إِلَّا باطرة ويوحنا وَيَعْقُوب وَأَبُو الْجَارِيَة وَكَانَت الْجَمَاعَة تبْكي وتلتدم فَقَالَ لَهُم لَا تبكوا فَإِنَّهَا رَاقِدَة وَلَيْسَت ميتَة فاستهزؤا بِهِ معرفَة بموتها فَأخذ بِيَدِهَا ودعاها وَقَالَ يَا جَارِيَة قومِي فَعَادَت إِلَيْهَا روحها وَقَامَت من وَقتهَا وَأمر أَن تطعم طَعَاما وَجَاء أبواها وَأَمرهمَا أَن لَا يعلمَا أحدا بِمَا فعل وَذكر مثل هَذَا فِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مارقش
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل مصائب جمة أَحدهَا كَانَ يَكْفِي فِي أَنه إنجيل مَوْضُوع مَكْذُوب أَولهَا حكايتهم عَن الْمَسِيح أَنه كذب جهاراً إِذْ قَالَ لَهُم لم تمت إِنَّمَا هِيَ حَيَّة رَاقِدَة لَيست ميتَة فَإِن كَانَ صَادِقا فِي أَنَّهَا لَيست ميتَة فَلم يَأْتِ بِآيَة وَلَا بعجيبة وحاشى لله أَن يكذب نَبِي فَكيف إِلَه وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا أَن الْآيَة هِيَ إبراؤها من الْإِغْمَاء لِأَن فِي نَص إنجيلهم أَنه قَالَ لأَبِيهَا آمن فتحيا ابْنَتك فَلَا بُد من الْكَذِب فِي أحد الْقَوْلَيْنِ وَالثَّانيَِة أَن مَتى ذكر أَن أَبَاهَا جَاءَ إِلَى الْمَسِيح وَهِي قد مَاتَت وَأخْبرهُ بموتها وَدعَاهُ ليحيها ولوقا يَقُول إِن اباها أَتَى إِلَى الْمَسِيح وَهِي مَرِيضَة لم تمت وأتى بِهِ ليبرئها بعد وَأَن الرَّسُول لقِيه فِي الطَّرِيق وَقَالَ لَهُ لَا تتعبه فقد مَاتَت فأحد النذلين كَاذِب بِلَا شكّ فعلَيْهِمَا لعائن الله وَسخطه فَلَا يجوز أَخذ الدّين عَن كَذَّاب وَالثَّالِثَة انْفِرَاد الْمَسِيح عَن النَّاس عِنْد مَجِيئه بِهَذِهِ الْآيَة حاشى أَبَوَيْهَا وَثَلَاثَة من أَصْحَابه ثمَّ استكتامه إيَّاهُم ذَلِك والآيات لَا تطلب لَهَا الخلوات لَا تسترعن النَّاس وَفِي الأناجيل من هَذَا كثير من أَنه لم يقدر فِي بعض الْأَوْقَات على آيَة مرّة بِحَضْرَة بلاطس وَمرَّة بِحَضْرَة الْيَهُود وَأَنه قَالَ لمن طلب مِنْهُ آيَة إِنَّكُم لَا ترَوْنَ آيَة إِلَّا آيَة يُونُس إِذْ بَقِي فِي بطن الْحُوت ثَلَاثًا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَار مسترابة وكذبات مفتعلة وَنقل عَمَّن لَا خير فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح جمع إِلَى نَفسه اثْنَي عشر رجلا من تلاميذه وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانا على الْأَرْوَاح النَّجِسَة أَن ينفوها وَأَن يبرئوا من كل مرض وَهَذِه أَسمَاؤُهُم أَوَّلهمْ شَمْعُون الْمُسَمّى بباطرة وأندرياش أَخُوهُ وَيَعْقُوب بن سيذاي ويوحنا أَخُوهُ وفيلبس وبرثلوما وطوما وَمَتى الجابي وَيَعْقُوب ويهوذا أَخُوهُ وشمعون الكنعاني ويهوذا الأسخربوطي الَّذِي دلّ عَلَيْهِ بعد ذَلِك فَبعث يسوع هَؤُلَاءِ الاثْنَي عشر وَقَالَ لَهُم لَا تسلكوا فِي سَبِيل الْأَجْنَاس وَلَا تدْخلُوا فِي مَدَائِن السامريين وَلَكِن احتضروا إِلَى(2/22)
الضان التالعة من بني إِسْرَائِيل فَفِي هَذَا الْفَصْل طامتان إِحْدَاهمَا قَوْله أَنه أعْطى أُولَئِكَ الاثْنَي عشر وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ كلهم سُلْطَانا على الْأَرْوَاح النَّجِسَة وَأَن يبرئوا من كل مرض وسمى فيهم يهوذا وَلم يدع للإنكار وَجها بل صرح بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ بعد ذَلِك الْيَهُود حَتَّى أَخَذُوهُ وصلبوه بزعمهم وضربوه بالسياط ولطموه واستهزؤا بِهِ وَقد كذبُوا لعنهم الله فَكيف يجوز أَن يقرب الله تَعَالَى وَيُعْطِي السُّلْطَان على الْجِنّ وَالْإِبْرَاء من كل مرض من يدْرِي أَنه هُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَيكفر بعد ذَلِك هَذَا مَعَ قَول يوحنا فِي إنجيله أَن يهوذا الْمَذْكُور كَانَ سَارِقا وَأَنه كَانَ يخطف كل مَا كَانَ يهدى إِلَى المسيحح وَيذْهب بِهِ فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد وَجْهَيْن بِلَا ثَالِث أصلا إِمَّا أَن يكون الْمَسِيح اطلع على مَا اطلع عَلَيْهِ يوحنا من سَرقَة يهوذا وخبث بَاطِنه وَأَعْطَاهُ مَعَ ذَلِك الْآيَات والمعجزات وَجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين النَّاس وَجعل لَهُ أَن يحرم ويحلل فَيكون مَا حرم وحلل محرما ومحللاً فِي السَّمَوَات فَهَذِهِ مُصِيبَة وتوقيع بالكفار وَتَقْدِيم لمن لَا يسْتَحق وسخرية بِالدّينِ وَلَيْسَ هَذِه صفة الْإِلَه وَلَا من فِيهِ خير أَو يكون خَفِي على الْمَسِيح من خبث نِيَّة يهوذا مَا عرف غَيره فَهَذِهِ عَظِيمَة أَن يكون الْإِلَه يجهل مَا خلق فَهَل سمع قطّ بأحمق من هَذِه الْقَصَص وَمِمَّنْ يعتقدها حَقًا
وَالثَّانيَِة قَوْله لَا تسلكوا فِي سَبِيل الْأَجْنَاس وَلَا تدْخلُوا مداين السامرين واحتضروا إِلَى الضَّأْن المبددة التالغة من نسل بني إِسْرَائِيل وَأَنه لم يبْعَث إِلَّا إِلَى الضان التالفة من بني إِسْرَائِيل وَهَذَا إِنَّمَا أَمرهم بِأَن يكملوه بعد رَفعه بإقرارهم كلهم أَنه طول كَونه فِي الأَرْض لم يُفَارِقهُ أحد مِنْهُم وَلَا نهضوا داعين إِلَى بلد آخر الْبَتَّةَ فقد خالفوه وعصوه لأَنهم لم يذهبوا إِلَّا إِلَى الْأَجْنَاس فهم عصاة لله عز وَجل فساف بإقرارهم
فصل
وَفِي هَذَا الْبَاب نَفسه بإقرارهم أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه وَإِذا طلبتم فِي هَذِه الْمَدِينَة فاهربوا إِلَى أُخْرَى أَمِين أَقُول لكم لَا تستوعبون مَدَائِن بني إِسْرَائِيل حَتَّى يَأْتِي ابْن الْإِنْسَان يَعْنِي رُجُوعه إِلَى الدُّنْيَا ظَاهرا بعد رَفعه إِلَى جَمِيع النَّاس وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل مارقش وَفِي أول الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِن من هَؤُلَاءِ الْوُقُوف بعض قوم لَا يذوقون الْمَوْت حَتَّى يرَوا ملك الله مُقبلا بقدرة(2/23)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكذب هَذَا القَوْل قد ظهر عَلَانيَة فقد استوعبوا مَدَائِن بني إِسْرَائِيل وَغَيرهَا وَلم يرَوا مَا وعدهم بِهِ من رُجُوعه بِالْقُدْرَةِ عَلَانيَة قبل أَن يَمُوت كل من بِحَضْرَتِهِ يَوْمئِذٍ وحاش لله أَن يكذب نَبِي فَكيف إِلَه فَفِي هَذَا الْفَصْل وَحده كِفَايَة لَو كَانَ ثمَّ عَاقل فِي أَن الَّذين كتبُوا هَذِه الأناجيل كانو كَذَّابين قوم سوء فَإِن قَالُوا فَإِن فِي صَحِيح حديثكم أَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَأَشَارَ إِلَى غُلَام بِحَضْرَتِهِ من بني النجار أَن اسْتكْمل هَذَا عمره أدْرك السَّاعَة فَمَاتَ ذَلِك الْغُلَام فِي حد الصِّبَا وَأَنه كَانَ يَقُول للأعراب إِذا سَأَلُوهُ مَتى تقوم السَّاعَة فيشير إِلَى أَصْغَرهم وَيَقُول أَن يستكمل هَذَا عمره لم يَأْته الْمَوْت حَتَّى تقوم السَّاعَة قُلْنَا هَذَا لفظ غلط فِيهِ قَتَادَة ومعبد بن هِلَال فحدثا بِهِ عَن أنس على ماتوهماه من معنى الحَدِيث وَرَوَاهُ ثَابت بن أسلم الْبنانِيّ عَن أنس كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظِهِ فَقَالَ قَامَت عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ الثقاة أَيْضا عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا رَوَاهُ ثَابت عَن أنس وَقَالَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَن هَذَا لَا يَسْتَوْفِي عمره حَتَّى تقوم سَاعَتكُمْ يَعْنِي وَفَاة أُولَئِكَ المخاطبين لَهُ وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَلَا خلاف فِي أَن ثَابتا الْبنانِيّ أثقف لألفاظ الْأَخْبَار من قَتَادَة ومعبد فَكيف وَقد وافقته أم الْمُؤمنِينَ وَنحن لَا ننكر غلط الروَاة إِذا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَان أَنه خطأ وَقد صَحَّ فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الثَّابِتَة من طَرِيق عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَابْنه وَغَيرهمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يدْرِي مَتى تقوم السَّاعَة أحد إِلَّا الله وَلَو قَالَ النَّصَارَى وَالْيَهُود مثل هَذَا فِي نقلة كتبهمْ مَا عنفناهم وَلَا أَنْكَرْنَا عَلَيْهِم وجود الْغَلَط فِي نقلهم وَإِنَّمَا ننكر عَلَيْهِم أَن ينسبوا يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِلَى الله تَعَالَى الْكَذِب البحت ويقطعون أَنه من عِنْد الله تَعَالَى وننكر على النَّصَارَى أَن يجْعَلُوا من صَحَّ عَنهُ الْكَذِب مَعْصُوما يَأْخُذُونَ عَنهُ دينهم وَأَن يحققوا كل خبر متناقض وكل قَضِيَّة يكذب بَعْضهَا بَعْضًا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل
وَفِي هَذَا الْبَاب نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لَا تحسبوا أَنِّي جِئْت لَا دخل بَين أهل الأَرْض الصُّلْح لَا السَّيْف وَإِنَّمَا قدمت لأفرق بَين الْمَرْء وَابْنه وَبَين الِابْنَة وَأمّهَا وَبَين الكنة وختنتها وَأَن يعادي الْمَرْء أهل خاصته وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِنَّمَا قدمت لألقي فِي الأَرْض نَارا وَإِنَّمَا أَرَادَ لي إشعالها(2/24)
والتعطش فِيهَا جَمِيعهَا وَأَنا بذلك منتصب إِلَى إِتْمَامه أتظنون أَنِّي أتيت لأصلح بَين هَل الأَرْض لَا وَلَكِن لَا فرق بَينهم فَيكون خَمْسَة مفترقين فِي بيب ثَلَاثَة على اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ على ثَلَاثَة الْأَب على الْوَلَد وَالْولد على الْأَب والابنة على الْأُم وَالأُم على الِابْنَة والختنة على الكنة والكنة على الختنة فهذان فصلان كَمَا ترى وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قا لَهُم لم نبعث لتلف الْأَنْفس لَكِن لسلامتها وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل يوحنا أَن قَالَ من سمع كَلَامي وَلم يحفظه فلست أحكم أَنا عَلَيْهِ فَإِنِّي لم آتٍ لأحكم على الدُّنْيَا وأعقبها لَكِن إِلَى تَبْلِيغ أهل الدُّنْيَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَانِ الفصلان ضد الْفَصْلَيْنِ اللَّذين قبلهمَا وكل وَاحِد من الْمَعْنيين يكذب الآخر صراحاً
فَإِن قيل إِنَّه إِنَّمَا أَرَادَ أَنه لم يبْعَث لتلف الْأَنْفس الَّتِي آمَنت بِهِ قُلْنَا قد عَم وَلم يخص وبرهان بطلَان تأويلكم هَذَا من أَنه إِنَّمَا عني أَنه لم يبْعَث لتلف النُّفُوس المؤمنة بِهِ إِنَّمَا هُوَ نَص هَذَا الْفَصْل فِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل لوقا هُوَ كَمَا نورده إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ عَن الْمَسِيح أَنه بعث بَين يَدَيْهِ رسلًا وَجعلُوا طريقهم على السامرية ليعدوا لَهُ بهَا فَلم يقتلوه لتوجهه إِلَى برشلام فَلَمَّا رأى ذَلِك يوحنا وَيَعْقُوب قَالَا لَهُ يَا سيدنَا أيوافقك أَن تَدْعُو فتنزل عَلَيْهِم نَارا من السَّمَاء وَتحرق عامتهم كَمَا فعل الياس فَرجع إِلَيْهِم وانتهرهم وَقَالَ الَّذِي أَنْتُم لَهُ أَرْوَاح لم يبْعَث الْإِنْسَان لتلف الْأَنْفس لَكِن لسلامتها ثمَّ توجهوا إِلَى حصن آخر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فارتفع الْإِشْكَال وَصَحَّ أَنه لم يعن بالأنفس الَّتِي بعث لسلامتها بعض النُّفُوس دون بعض وَلَكِن عَنى كل نفس كَافِرَة بِهِ ومؤمنة بِهِ لَا كَمَا يسمعُونَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك إِذْ أَرَادَ أَصْحَابه هَلَاك الَّذين لم يقبلوه فَظهر تكاذب الْكَلَام الأول وحاشى لله أَن يكذب الرَّسُول الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لَكِن الْكَذِب بِلَا شكّ من الْفُسَّاق الْأَرْبَعَة الَّذين كتبُوا تِلْكَ الأناجيل المحرفة المبدلة
ثمَّ فِي هَذَا الْفَصْل نَص جلي على أَنه مَبْعُوث مَأْمُور فصح أَنه نَبِي كَمَا يَقُول أهل الْحق إِن كَانُوا أصدقوا فِي هَذَا الْفَصْل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ من قبل نَبيا على اسْم نَبِي فَإِنَّهُ يكافأ بِمثل أجر النَّبِي
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كذب ومحال لِأَنَّهُ لَا تفاضل للنَّاس عِنْد الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة إِلَّا بأجورهم الَّتِي يعطيهم الله تَعَالَى فَقَط لَا بِشَيْء آخر أصلا فَمن كَانَ أجره فَوق أجر غَيره فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ أفضل مِنْهُ وَالْآخر بِلَا شكّ دونه وَمن كَانَ أجره مثل أجر آخر فهما بِلَا شكّ دونه وَمن كَانَ أجره سَوَاء فِي الْفضل هَذَا يعلم ضَرُورَة بالحس فَلَو كَانَ كل من اتبع نَبيا لَهُ مثل أجر النَّبِي لَكَانَ أهل الْإِيمَان كلهم فِي الْآخِرَة سَوَاء لَا فضل لأحد على أحد عِنْد الله تَعَالَى وَهَذَا يعلم أَنه كذب ومحال بِالضَّرُورَةِ وَلَو كَانَ هَذَا لوَجَبَ أَن يكون أجر كل من النَّصَارَى مثل أجر باطر والتلاميذ(2/25)
وبولس ومارقش ولوقا وَلَيْسَ مِنْهُم أحد يَقُول بِهَذَا وَلَا يدْخلهُ فِي الْمُمكن فكلهم مُتَّفق على أَن إلههم كذب وحاشى لله من أَن يكذب نَبِي من أنبيائه أَو رجل صَادِق من أهل الْإِيمَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ وَقد ذكر يحيى بن زَكَرِيَّا أَنا أَقُول لكم أَنه أَكثر من نَبِي وَهُوَ الَّذِي قيل فِيهِ وَأَنا باعث ملكي بَين يَديك ليعد لَك طريقك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل كذب فِي موضِعين أَحدهمَا قَوْله فِي يحيى أَنه أَكثر من نَبِي وَهَذَا محَال لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو يحيى وَغير يحيى من النَّاس من أَن يكون أوحى إِلَيْهِ أَو لم يوحي إِلَيْهِ وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن كَانَ أوحى إِلَيْهِ فَهُوَ نَبِي وَلَا يُمكن وجود أَكثر من نَبِي فِي النَّاس إِلَّا أَن يكون رَسُولا نَبيا وَيحيى رَسُول الله بإجماعهم وَإِن كَانَ لم يُوح إِلَيْهِ فَهَذِهِ منزلَة يَسْتَوِي فِيهَا الْكَافِر وَالْمُؤمن وَلَا يجوز أَن يكون من لَا يوحي الله إِلَيْهِ مثل من استخلصه الله عز وَجل بِالْوَحْي إِلَيْهِ فَكيف أَن يكون أَكْثَرهَا مِنْهُ والكذبة الثَّانِيَة قَوْله أَن يحيى هُوَ الَّذِي قيل فِيهِ وَأَنا باعث ملكي بَين يَديك لِأَن يحيى على هَذَا القَوْل ملك وَهَذَا كذب بحت لِأَنَّهُ إِنْسَان ابْن رجل وَامْرَأَة عَاشَ إِلَى أَن قتل وَلَيْسَ هَذِه صفة الْملك وَيحيى لم يكن ملكا وَفِي هَذَا الْفَصْل لَكِن بعد هَذَا أَنه قَالَ أَن يحيى آدَمِيّ فَهَذَا القَوْل كذب على كل حَال وحاشا لله أَن يكذب نَبِي لَا وَلَا رجل فَاضل وَصَحَّ أَن مَتى الشرطي النذل هُوَ الَّذِي كذب فَعَلَيهِ مَا على الْكَذَّابين أَمْثَاله
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَمِين أَقُول لكم لم يُولد من الْآدَمِيّين أحد أشرف من يحيى المعمدان وَلَكِن من كَانَ صَغِيرا فِي ملكوت السَّمَاء فَهُوَ أكبر مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد تأملوا هَذَا الْفَصْل تروا مُصِيبَة الدَّهْر فيهم وقرة عُيُون الْأَعْدَاء وَهُوَ لَا يُمكن أَن يَقُوله وَلَا ينْطق بِهِ صبي يُرْجَى فلاحه وَلَا أمة وكعاء إِلَّا أَن تكون مدخولة الْعقل أئبت أَنه لم يُولد فِي الْآدَمِيّين أشرف من يحيى وَإِذا كَانَ كَمَا زعم أَن الصَّغِير فِي ملكوت السَّمَاء أكبر من يحيى فَكل من يدْخل ملكوت السَّمَاء ضَرُورَة فَهُوَ أكبر من يحيى فَوَجَبَ من هَذَا أَن كل مُؤمن من بني آدم فَهُوَ أفضل من يحيى وَأَن يحيى أرذل وأصغر من كل مُؤمن فَمَا هَذَا الهوس وَمَا هَذَا الْكَذِب وَمَا هَذِه الغباوة السمجة فِي الدّين وَكم هَذَا التَّنَاقُض وَالله مَا قَالَ الْمَسِيح قطّ شَيْئا من هَذِه الرعونة وَمَا قَالَهَا إِلَّا الْكذَّاب مَتى ونظراؤه عَلَيْهِم لعنة الله وَلَقَد كَانُوا فِي غَايَة الوقاحة وَالِاسْتِخْفَاف بِالدّينِ(2/26)
فصل
وَفِي الْبَاب المكور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم كل كتاب ونبوة فَإِن مُنْتَهَاهَا إِلَى يحيى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَفِي هَذَا الْفَصْل على صغره كذبتان أَحدهمَا قَوْله قيل أَن يحيى أكبر من نَبِي مَعَ مَا فِي الْإِنْجِيل من أَن يحيى سُئِلَ فَقيل لَهُ أَنَبِي أَنْت قَالَ لَا وَقَالَ هَهُنَا إِن كل نبوة فَإِن مُنْتَهَاهَا إِلَى يحيى فَمرَّة لَيْسَ هُوَ نَبيا وَمرَّة هُوَ نَبِي آخر الْأَنْبِيَاء وَمرَّة هُوَ أكبر من نَبِي تبَارك الله كم هَذَا التَّخْلِيط وَالْكذب الْفَاحِش وَالْأُخْرَى قَوْله فِيهِ إِن كل نبوة فمنتهاها إِلَى يحيى وَلَيْسَ بعد النِّهَايَة شَيْء فَهُوَ على هَذَا آخر الْأَنْبِيَاء
وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم إِنِّي باعث إِلَيْكُم أَنْبيَاء وعلماء ستقتلون مِنْهُم وتصلبون فقد كذب القَوْل بِأَن يحيى آخر الْأَنْبِيَاء ومنتهى النُّبُوَّة إِلَيْهِ وَالنَّصَارَى مقرون بِأَنَّهُ قد كَانَ بعده أَنْبيَاء وَأَن نَبيا أَتَى إِلَى بولس فأنذره بِأَنَّهُ سيصلب ذكر ذَلِك لوقا فِي الافركسيس فقد حصلوا على تَكْذِيب الْمَسِيح فِي قَوْله وَفِي بعض هَذَا كِفَايَة
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَتَاكُم يحيى وَهُوَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب فقلتم هُوَ مَجْنُون ثمَّ أَتَاكُم ابْن الْإِنْسَان يَعْنِي نَفسه يَأْكُل وَيشْرب فقلتم هَذَا صَاحب خوان شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْفَصْل كذب وَلَا وَخلاف لقَوْل النَّصَارَى أما الْكَذِب فَإِنَّهُ قَالَ هَاهُنَا أَن يحيى كَانَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب حَتَّى قيل فِيهِ أَنه مَجْنُون من أجل ذَلِك وَفِي الْبَاب الأول من إنجيل مارقش أَن يحيى بن زَكَرِيَّا هَذَا كَانَ طَعَامه الْجَرَاد وَالْعَسَل الصحرواي وَهَذَا تنَاقض وَأحد الْخَبَرَيْنِ كذب بِلَا شكّ وَأما خلاف قَول النَّصَارَى فَإِنَّهُ ذكر أَن يحيى كَانَ لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَأَن الْمَسِيح كَانَ يَأْكُل وَيشْرب وَبلا شكّ إِن من أغناه الله عز وَجل عَن الْأكل وَالشرب من النَّاس فقد أبانه وَرفع دَرَجَته عَمَّن لم يغنه عَن الْأكل وَالشرب مِنْهُم فيحيى أفضل من الْمَسِيح بِلَا شكّ على هَذَا وقصة ثَالِثَة وَهِي اعْتِرَاف الْمَسِيح على نَفسه بِأَنَّهُ يَأْكُل وَيشْرب وَهُوَ عِنْدهم إِلَه فَكيف يَأْكُل الْإِلَه وَيشْرب مَا فِي الهوس أَكثر من هَذَا فَإِن قَالُوا إِن الناسوت مِنْهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْكُل وَيشْرب قُلْنَا وَهَذَا كذب مِنْكُم على كل حَال لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْمَسِيح عنْدكُمْ لاهوتاً وناسوتاً مَعًا فَهُوَ شَيْئَانِ فَإِن كَانَ إِنَّمَا يَأْكُل الناسوت وَحده فَإِنَّمَا أكل الشَّيْء الْوَاحِد من جملَة الشَّيْئَيْنِ وَلم يَأْكُل لآخر فَقولُوا إِذا أكل نصف الْمَسِيح وَشرب نصف الْمَسِيح وَإِلَّا فقد(2/27)
كَذبْتُمْ بِكُل حَال وَكذب أسلافكم فِي قَوْلهم أكل الْمَسِيح ونسبتم إِلَى الْمَسِيح الْكَذِب بِخَبَرِهِ عَن نَفسه أَنه يَأْكُل وَإِنَّمَا يَأْكُل نصفه لَا كُله وَالْقَوْم أنذال بِالْجُمْلَةِ فصل وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَا يعلم غير الْأَب وَلَا يعلم الْأَب غير الْوَلَد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ هَذَا عجب جدا لِأَن الْمَسِيح عِنْدهم ابْن الله بِلَا خلاف بَينهم وَالله تَعَالَى عَن كفرهم هُوَ وَالِد الْمَسِيح وَأَبوهُ وَهَكَذَا يُطلق النذل باطرة فِي رسائله المنتنة مَتى ذكر الله فَإِنَّمَا يَقُول قَالَ الله وَالِد رَبنَا الْمَسِيح أمرا كَذَا وَكَذَا ثمَّ هَا هُنَا قَالَ إِن الْمَسِيح قَالَ إِنَّه لَا يعلم الْأَب إِلَّا الابْن وَلَا يعلم الابْن إِلَّا الْأَب فقد وَجب ضَرُورَة أَن التلاميذ وَسَائِر النَّصَارَى لَا يعلمُونَ الله تَعَالَى أصلا وَلَا يعْرفُونَ الْمَسِيح الْبَتَّةَ فهم جهلاء بِاللَّه تَعَالَى وبالابن وَمن جهل الله تَعَالَى وَلم يعرفهُ فَهُوَ كَافِر فهم كفار كلهم أسلافهم وأخلافهم أَو كذب الْمَسِيح فِي هَذَا الْكَلَام أَو كذب النذل مَتى وَلَا بُد وَالله من أَحدهمَا وَقد أعاذ الله تَعَالَى عَبده وَرَسُوله الْمَسِيح من الْكَذِب فَبَقيت الاثنتان وهما وَالَّذِي سمك السَّمَاء حق أَن النَّصَارَى جهال بِاللَّه تَعَالَى وَأَن الشرطي مَتى ملفق جَاهِل فعلى جَمِيعهم مَا يستحون من الله نعم وَفِي هَذَا القَوْل الملعون الَّذِي أضافوه إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام الْقطع بِأَن الْمَلَائِكَة والأنبياء السالفين كلهم لَيْسَ مِنْهُم أحد يعرف الله تَعَالَى فاعجبوا لعَظيم فسق هَذَا الأحمق مَتى وعظيم حَمَاقَة من قَلّدهُ فِي دينه وَنَحْمَد الله على السَّلامَة كثيرا
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن بعض التوراويين قَالَ للمسيح يَا معلم إِنَّا نُرِيد أَن تَأْتِينَا بِآيَة فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح يَا نسل السوء وَيَا نسل الزِّنَا تسأولون آيَة وَلَا ترَوْنَ مِنْهَا آيَة غير آيَة يُونُس النَّبِي فَكَمَا أَن يُونُس النَّبِي كَانَ فِي بطن الْحُوت ثَلَاثَة أَيَّام وَثَلَاث لَيَال كَذَلِك يكون ابْن الْإِنْسَان فِي جَوف الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله لَو لم يكن فِي إنجيلهم إِلَّا هَذَا الْفَصْل الملعون وَحده لكفى فِي بطلَان جَمِيع أَنَاجِيلهمْ وَجَمِيع دينهم فَإِنَّهُ قد جمع عظيمتين إِحْدَاهمَا تَحْقِيق أَنه لم يَأْتِ مخالفيه قطّ بِآيَة وَإِقْرَار الْمَسِيح بذلك بزعمهم وَأَن آيَاته الَّتِي يذكرُونَ إِنَّمَا كَانَت(2/28)
خُفْيَة وَفِي السِّرّ بِحَضْرَة النزر الْقَلِيل الَّذين اتَّبعُوهُ وَمثل هَذَا لَا تقوم بِهِ حجَّة على الْمُخَالف أَو تَحْقِيق الْكَذِب على الْمَسِيح فِي أَنه يخبر أَنهم لَا يرَوْنَ آيَة وَهُوَ يُرِيهم الْآيَات
لَا بُد من إِحْدَاهمَا
والفصل الثَّانِي وَهُوَ الطامة الْكُبْرَى حكايتهم عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ عَن نَفسه كَمَا بَقِي يُونُس فِي بطن الْحُوت ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها كَذَلِك يبْقى هُوَ فِي جَوف الأَرْض ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها وَهَذِه كذبة شنيعة لَا حِيلَة فِيهَا لأَنهم مجمعون وَفِي جَمِيع أَنَاجِيلهمْ أَنه دفن قرب مغيب الشَّمْس من يَوْم الْجُمُعَة مَعَ دُخُول لَيْلَة السبت وَقَامَ من الْقَبْر قبل الْفجْر من لَيْلَة الْأَحَد فَلم يبْق فِي جَوف الأَرْض إِلَّا لَيْلَة وَبَعض أُخْرَى وَيَوْما ويسيراً من يَوْم ثَان فَقَط وَهَذِه كذبة لَا خَفَاء بهَا فِيمَا أخبر بِهِ الْمَسِيح لَا بُد مِنْهَا أَو كذب أَصْحَاب الأناجيل وهم أهل الْكَذِب وحسبنا الله
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ يشبه ملكوت السَّمَاء بِحَبَّة خَرْدَل أَلْقَاهَا رجل فِي فدانه وَهِي أدق الزراريع كلهَا فَإِذا نَبتَت استعلت على جَمِيع الْبُقُول والزراريع حَتَّى ينزل فِي أَغْصَانهَا طير السَّمَاء ويسكن إِلَيْهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد حاشى للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُول هَذَا الْكَلَام لَكِن النذل الَّذِي قَالَه كَانَ قَلِيل البصارة بالفلاحة وَقد رَأينَا نَبَات الْخَرْدَل ورأينا من رأه فِي الْبِلَاد الْبَعِيدَة فَمَا رَأينَا قطّ ولاأخبرنا من رأى شَيْئا مِنْهُ يُمكن أَن يقف عَلَيْهِ طَائِر وَمثل هَذِه المسامحات لَا تقع لنَبِيّ أصلا فَكيف لله عز وَجل
فصل
وَفِي آخر الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح رَجَعَ إِلَى بِلَاده وَجعل يُوصي جَمَاعَتهمْ بوصايا يعْجبُونَ مِنْهَا وَكَانُوا يَقُولُونَ من أَيْن أُوتِيَ هَذِه الْعُلُوم وَهَذِه الْقُدْرَة أما هَذَا ابْن الْحداد وَأمه مَرْيَم وَإِخْوَته يَعْقُوب ويوسف وشمعون ويهوذا وأخوته أما هَؤُلَاءِ كلهم عندنَا فَمن أَيْن أُوتِيَ هَذَا وَكَانُوا يَشكونَ فِيهِ فَقَالَ لَهُم يسوع لَيْسَ يعْدم النَّبِي حرمته إِلَّا فِي بَيته وبلده ولتشككهم وكفرهم لم يطلع فِي ذَلِك الْموضع عجايب كَثِيرَة
وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل مارقش قَالَ وَكَانَت الْجَمَاعَة تسمع مِنْهُ وتعجب مِنْهُ الْعجب الشَّديد من وَصيته وَيَقُولُونَ من أَيْن أُوتِيَ هَذَا وَمَا هَذِه الْحِكْمَة الَّتِي رزقها وَمن أَيْن هَذِه الْأَعَاجِيب الَّتِي ظَهرت على يَدَيْهِ أَلَيْسَ هُوَ ابْن حداد وَابْن مَرْيَم أَخُو يُوسُف وَيَعْقُوب وشمعون ويهوذا أَلَيْسَ أخواته هن هَا هُنَا مَعنا وَكَانَ يَقُول لَهُم يسوع لَيْسَ(2/29)
يكون نَبِي بِغَيْر حُرْمَة إِلَّا فِي وَطنه وَبَين عشيرته وَفِي أهل بَيته وَلَيْسَ كَانَ يقوى أَن يفعل هُنَالك آيَة لَكِن وضع يَدَيْهِ على مرضى قَلِيل فأبرأهم وَفِي الْبَاب الثَّامِن من إنجيل لوقا فَلَمَّا دخل وَالِد الْمَسِيح الْبَيْت وَبعد هَذَا بِيَسِير قَالَ فَكَانَ يعجب مِنْهُ أَبوهُ وَأمه وَبعده بِيَسِير قَول مَرْيَم أمه لَهُ فقد طَلَبك أَبوك وَأَنا مَعَه وَفِي الْبَاب السَّابِع مِنْهُ أَقبلت إِلَيْهِ أمه وَإِخْوَته وَفِي الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل يوحنا وَبعد هَذَا نزل إِلَى كفرنا حوم وَمَعَهُ أمه وَإِخْوَته وتلاميذه
وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا وَكَانَ إخْوَته لَا يُؤمنُونَ بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث طوام نذكرها طامة طامة إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَولهَا اتِّفَاق الأناجيل الْأَرْبَعَة على أَنه كَانَ لَهُ وَالِد مَعْرُوف من النَّاس وإخوة وأخوات سمى الْإِخْوَة بِأَسْمَائِهِمْ وهم أَرْبَعَة رجال سوى الْأَخَوَات وَلَا يعول فِي ذَلِك إِلَّا على إِقْرَار أمه بِأَن لَهُ والداً طلبه مَعهَا وَهُوَ يُوسُف الْحداد أَو النجار فَأَما أمه فقد اتفقنا نَحن وَالْيَهُود وَجُمْهُور النَّصَارَى على أَنَّهَا حملت بِهِ حمل النِّسَاء وولدته كَمَا تَلد النِّسَاء أَوْلَادهنَّ إِلَّا طَائِفَة من النَّصَارَى قَالَت لم تحمل بِهِ وَلَكِن دخل من أذنها وَخرج من فرجهَا فِي الْوَقْت كَالْمَاءِ فِي الْمِيزَاب وَلَكِن بَقِي علينا أَن نَعْرِف كَيفَ تَقول أمه عَلَيْهَا السَّلَام عَن النجار أَو الْحداد أَنه أَبوهُ ووالده فَإِن قَالُوا إِن زوج الْأُم يُسمى فِي اللُّغَة أَبَا قُلْنَا هبكم أَن هَذَا كَذَلِك كَيفَ الْعَمَل فِي هَؤُلَاءِ الَّذين اتّفقت الأناجيل على أَنهم إخْوَته وأخواته وَإِنَّمَا هم أَوْلَاد يُوسُف النجار أَو الْحداد وَمَا وجد قطّ فِي اللُّغَة العبرانية أَن ولد الربيب من غير الْأُم يُسمى أَخا إِلَّا أَن يَقُولُوا إِن مَرْيَم ولدتهم من النجار فقد قَالَ هَذَا طَائِفَة من قدمائهم مِنْهُم يليان مطران طليطلة وَنحن نبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة أَن يكون لآله معبود أم أَو خَال أَو خَاله أَو ابْن خَالَة أَو ربيب أَو أَخ أَو أُخْت وتباً لعقول يدْخل هَذَا فِيهَا من أَن لله تَعَالَى ربيباً هُوَ زوج أمه وَلَيْسَ يُمكنهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا أَرَادَ كتاب الْإِنْجِيل أَنهم إخْوَته فِي الْإِيمَان وَالدّين لِأَن يوحنا قد رفع الْإِشْكَال فِي ذَلِك وَقَالَ وَمَعَهُ إخْوَته وتلاميذه فجعلهم طبقتين وَقَالَ أَيْضا إِن إخْوَته كَانُوا لَا يُؤمنُونَ بِهِ وتالله لَوْلَا أَنا شاهدنا النَّصَارَى مَا صدقنا أَن من يلْعَب بقذره وَمَا يخرج من سفله يصدق بِشَيْء من هَذَا الْحمق وَلَكِن تبَارك من أرانا بِهَذَا أَنه لَا ينْتَفع أحد ببصره وَلَا بسمعه وَلَا بتمييزه إِلَّا أَن يهديه خَالق الْهدى والضلال نسْأَل الله الَّذِي هدَانَا لملة الْإِسْلَام الْبَيْضَاء الْوَاضِحَة السليمة من كل مَا ينافره الْعقل أَن لَا يضلنا بعد إِذْ هدَانَا حَتَّى نَلْقَاهُ على مِلَّة الْحق ونحلة الْحق وَمذهب الْحق ناجين من خلل الْكفْر وَنحل الضلال ومذاهب الْخَطَأ وَفِي كل مَا أوردناه بَيَان وَاضح فِي أَن الَّذين ألفوا الأناجيل كَانُوا عيارين مستخفين بِمن أضلوه متلاعبين بِالدّينِ والطامة الثَّانِيَة إقرارهم بِأَن الْمَسِيح لم يكن(2/30)
يقوى فِي ذَلِك الْمَكَان على آيَة وَلَو كَانَ لَهُم عقل لعلموا أَن هَذِه لَيست صفة آله يفعل مَا يَشَاء بل صفة عبد مَخْلُوق مُدبر لَا يملك من أمره شَيْئا كَمَا قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَالثَّالِثَة إقرارهم أَن الْمَسِيح سمعهم ينسبونه إِلَى ولادَة الْحداد وَأَنه أَبوهُ وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم فقد حققوا عَلَيْهِ أحد شَيْئَيْنِ لَا ثَالِث لَهما الْبَتَّةَ إِمَّا أَنه سمع الْحق من ذَلِك فَلم يُنكره وَفِي هَذَا مَا فِيهِ من خلاف قَوْلهم جملَة وَإِمَّا أَنه سمع الْبَاطِل وَالْكذب فَأقر عَلَيْهِ وَلم يُنكره وَهَذِه صفة سوء وتلبيس فِي الدّين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذِه الْفُصُول مِمَّا لم يُطلق الله تَعَالَى أَيْديهم على تبديله من الْحق قَوْله لَا يعْدم النَّبِي حرمته إِلَّا فِي وَطنه وَأهل بَيته فيا عقول الْأَطْفَال وَيَا أدمغة الإوز لَو عقلتم أما كَانَ يكفيكم أَن تَقولُوا فِيهِ مَا قَالَ فِي نَفسه وَمَا شهد العيان بصدقه وَصِحَّته فِيهِ وتتركوا الرعونة الَّتِي لم تقدروا مُنْذُ ألف عَام على بَيَان مَا تعتقدونه مِنْهَا بقلوبكم وَلَا قدرتكم على الْعبارَة عَنْهَا بألسنتكم وَكلما رمتم وَجها من وُجُوه النوك انفتق عَلَيْكُم بَاب مِنْهُ لَا قبل لكم بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَفِي الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة إِلَيْك أَبْرَأ بمفاتيح السَّمَوَات فَكل مَا حرمته فِي الأَرْض يكون محرما فِي السَّمَوَات وكل مَا أحللته على الأَرْض يكون حَلَالا فِي السَّمَوَات وَبعد هَذَا الْكَلَام بأَرْبعَة أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة نَفسه مُتَّصِلا بالْكلَام الْمَذْكُور تَبِعنِي يَا مُخَالف وَلَا تعارضني فَإنَّك جَاهِل بمرضاة الله وَإِنَّمَا تَدْرِي مرضاة الْآدَمِيّين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل على قلته وَأَنه قَلِيل ومنتن كبعض مَا يُشبههُ مِمَّا نكره ذكره سؤتان عظيمتان إِحْدَاهمَا أَنه برْء إِلَى باطرة النذل بمفاتيح السَّمَوَات وولاه خطة الألوهية الَّتِي لَا تجوز لغير الله تَعَالَى وَحده لَا شريك لَهُ من أَن كل مَا حرمه فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وكل مَا حلله فِي الأَرْض كَانَ حَلَال فِي السَّمَوَات وَالثَّانيَِة أَنه إِثْر بَرَاءَته إِلَيْهِ بمفاتيح السَّمَوَات وتوليته خطة الربوبية إِمَّا شَرِيكا لله تَعَالَى فِي التَّحْرِيم والتحليل وَإِمَّا مُنْفَردا دونه عز وَجل بِهَذِهِ الصّفة قَالَ لَهُ فِي الْوَقْت أَنه مُخَالف معَارض لَهُ جَاهِل بمرضاة الله عز وَجل لَا يدْرِي إِلَّا مرضاة الْآدَمِيّين فوَاللَّه لَئِن كَانَ صدق فِي الْآخِرَة لقد خرق فِي الأولى إِذْ ولي مَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا لله تَعَالَى جَاهِلا بمرضاة الله مُخَالفا لَهُ لَا يدْرِي إِلَّا رِضَاء النَّاس وَأَن هَذِه لسوءة الْأَبَد إِذْ من هَذِه صفته لَا يصلح أَن يبرأ إِلَيْهِ بمفاتيح كنيف أَو بَيت زبل وَلَئِن كَانَ صدق وَأصَاب فِي الأولى لقد كذب فِي الثَّانِيَة وَوَاللَّه مَا قَالَ الْمَسِيح قطّ شَيْئا مِمَّا ذكرُوا عَنهُ فِي الأولى لِأَنَّهَا مقَالَة كَافِر شَرّ خلق الله عز وَجل وَمَا يبعد أَنه(2/31)
قَالَ لَهُ الْكَلَام الثَّانِي فَهُوَ وَالله كَلَام حق يشْهد بِهِ الْمُنَافِق على اللعين باطرة شاه وَجهه وَعَلِيهِ سخط الله وغضبه ثمَّ عجب ثَالِث أننا قد ذكرنَا قبل أر فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح أشرك مَعَ باطرة فِي هَذِه الخطة الَّتِي أفرده بهَا هَا هُنَا سَائِر الاثْنَي عشر تلميذاً وَفِي جُمْلَتهمْ السَّارِق الْكَافِر الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما أَخذهَا مِنْهُم وَأَنه قَالَ لجميعهم مَا حرمتموه فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وَمَا حللمتموه فِي الأَرْض كَانَ حَلَالا فِي السَّمَاء فيا لَيْت شعري كَيفَ يكون الْحَال إِن اخْتلفُوا فِيمَا ولاهم من ذَلِك فأحل بَعضهم شَيْئا وَحرمه آخر مِنْهُم كَيفَ يكون الْحَال فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض لقد يَقع أهلهما مَعَ هَؤُلَاءِ السفلة فِي شغل وَفِي حُرْمَة وَحل مَعًا فَإِن قيل لَا يجوز أَن يَخْتَلِفُوا قُلْنَا سُبْحَانَ الله وَأي خلاف أعظم من تَحْلِيل يهوذا إِسْلَامه إِلَى الْيَهُود وَأَخذه ثَلَاثِينَ درهما رشوة على ذَلِك إِلَّا أَن كَانَ عَزله عَن خطة الإلهية بعد أَن ولاه إِيَّاهَا فلعمري إِن من قدر أَن يوليها أَنه لقادر على الْعَزْل عَنْهَا ولعمري لقد رذلت هَذِه الْمنزلَة عِنْد هَؤُلَاءِ الأرذال حَقًا إِذْ يَليهَا السراق وَمن لَا خير فِيهِ ثمَّ يعزلون عَنْهَا بِلَا مؤونة تَعَالَى الله وَالله لَو دكت الْجبَال وَالْأَرْض دكاً وخرت السَّمَوَات الْعلَا وصعق كل ذِي روح عِنْد سَماع كفر هَؤُلَاءِ الخساس لما كَانَ ذَلِك بكبير وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا يَخْلُو هَذَا القَوْل من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَنه أَرَادَ أَن باطرة والتلاميذ المولين هَذِه الخطة لَا يحللون شَيْئا وَلَا يحرمُونَ إِلَّا بِوَحْي من الله عز وَجل فَإِن كَانَ هَذَا فقد كذب فِي قَوْله الَّذِي ذكرنَا قبل أَن كل نبوة فمنتهاها إِلَى يحيى بن زَكَرِيَّا لِأَن هَؤُلَاءِ أَنْبيَاء على هَذَا القَوْل
وَإِمَّا أَنه أَرَادَ أَنه جعل لباطرة وَأَصْحَابه ابْتِدَاء الحكم فِي التَّحْرِيم والتحليل من عِنْد أنفسهم بِلَا وَحي من الله تَعَالَى فَيجب على هَذَا أَنهم مَتى حرمُوا شَيْئا حرمه الله تَعَالَى اتبَاعا لتحريمهم وَمَتى حللوا شَيْئا حلله الله تَعَالَى اتبَاعا لتحليلهم فلئن كَانَ هَكَذَا فَإِنَّهَا لخطة خسف ونرى باطرة النذل وَأَصْحَابه الأوغاد قد صَارُوا حكاماً على الله تَعَالَى وَلَقَد صَار عز وَجل تَابعا لَهُم وحاشى لله تَعَالَى من هَذَا كُله وَمَا نرى باطرة المنتن وَأَصْحَابه الرذلة حصلوا من مَفَاتِيح السَّمَوَات وَمن خطة الألهية إِلَّا على حلق اللحى بالنتف وعَلى ضرب الظُّهُور بالسياط والصلب أما باطرة فدبره إِلَى فَوق وَرَأسه إِلَى أَسْفَل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ليعلم كل مُسلم أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يسمونهم النَّصَارَى ويزعمون أَنهم كَانُوا حواريين للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام كباطرة وَمَتى الشرطي ويوحنا وَيَعْقُوب ويهوذا الاخساء(2/32)
لم يَكُونُوا قطّ مُؤمنين فَكيف حواريين بل كَانُوا كَذَّابين مستخفين بِاللَّه تَعَالَى أما مقرين بالالهية الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام معتقدين لذَلِك غالين فِيهِ كغلو السبئية وَسَائِر فرق الغالية فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ وكقول الخطابية بالالهية أبي الْخطاب وَأَصْحَاب الحلاج بإلهية الحلاج وَسَائِر كفار الباطنية عَلَيْهِم اللَّعْنَة من الله وَالْغَضَب وَإِمَّا مدسوسين من قبل الْيَهُود كَمَا تزْعم الْيَهُود لإفساد ديث أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وإضلالهم كانتصاب عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي وَالْمُخْتَار ابْن أبي عبيد وَأبي عبد الله العجاني وَأبي زَكَرِيَّا الْخياط وَعلي النجار وَعلي بن الْفضل الجندي وَسَائِر دعاة القرامطة والمشارقة لإضلال شيعَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فوصلوا من ذَلِك إِلَى حَيْثُ عرف وَسلم الله من ذَلِك من لم يكن من الشِّيعَة وَأما الحواريون الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم فَأُولَئِك أَوْلِيَاء الله حَقًا ندين لله عز وَجل بحبهم وَلَا نَدْرِي أسمائهم لِأَن الله تَعَالَى لم يسمهم لنا إِلَّا إننا نبت ونوقن ونقطع بِأَن باطرة الْكذَّاب وَمَتى الشرطي ويوحنا المستخف ويهوذا وَيَعْقُوب النذلين ومارقس الْفَاسِق ولوقا الْفَاجِر وبولس الْجَاهِل مَا كَانُوا قطّ من الحواريون لَكِن من الطَّائِفَة الَّتِي قَالَ الله فِيهَا وكفرت طَائِفَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي آخر الْبَاب السَّادِس عشر من إنجيل مَتى وَأعلم يسوع من ذَلِك الْوَقْت تلاميذه بِمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَفْعَله من دُخُول برشلام وَحمل الْعَذَاب من أكَابِر أَهلهَا وعلمائهم وقتلهم لَهُ وقيامه فِي الثَّالِث فخلابه باطرة وَقَالَ لَهُ تعفى عَن هَذَا يَا سَيِّدي وَلَا يصيبك مِنْهُ شَيْء وَفِي الْبَاب السَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه سيبلى ابْن الْإِنْسَان فِي أَيدي النَّاس وَيقتل ويحيا فِي الثَّالِث يَعْنِي نَفسه فحزنزا لذَلِك حزنا شَدِيدا وَفِي أول الْبَاب الثَّامِن من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه إِن ابْن الْإِنْسَان سيبلى(2/33)
فِي أَيدي الْآدَمِيّين فيقتلونه فَإِذا قتل يقوم فِي الْيَوْم الثَّالِث وَأما هم فَلم يفهموا مُرَاده بِهَذَا الْكَلَام وَفِي قرب آخر الْبَاب الثَّامِن من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ للاثني عشر تلميذاً أَنا متصعد إِلَى برشلام ونكمل كل مَا نبأت بِهِ الْأَنْبِيَاء عَن ابْن الْإِنْسَان ويسيرون بِهِ إِلَى الْأَجْنَاس يستهزؤن بِهِ ويجلدونه ويبصقون فِيهِ وَبعد جلدهمْ إِيَّاه يقتلونه ويحيا فِي الْيَوْم الثَّالِث فَلم يفهموا عَنهُ مِمَّا ألقِي إِلَيْهِم شَيْئا وَكَانَ هَذَا عِنْدهم معقداً لَا يفهمونه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث كذبات من طوام الْكَذِب أَحدهَا اتِّفَاق الأناجيل الْمَذْكُورَة كَمَا أوردنا على أَن الْمَسِيح أخْبرهُم عَن نَفسه أَنه يقتل وَجَمِيع الأناجيل الْأَرْبَعَة متفقة عِنْد ذكرهم لصلبه على أَنه مَاتَ على الْخَشَبَة حتف أَنفه وَلم يقتل أصلا إِلَّا أَن فِي بَعْضهَا أَنه طعنه بعد مَوته أحد الشَّرْط بِرُمْح فِي جنبه فَخرج من الطعنة دم وَمَاء وَفِي هَذَا إِثْبَات الْكَذِب على الْمَسِيح لاتفاقهم كَمَا أوردنا على أَنه أخْبرهُم بِأَنَّهُ يقتل واتفاقهم كلهم على أَنه لم يقتل وَهَذِه سوءة جدا وحاشى لله أَن يكذب نَبِي أَو ينذر بباطل هَذِه عَلامَة الْكَذَّابين لَا عَلامَة أهل الصدْق وَثَانِيها اتِّفَاق الأناجيل الْمَذْكُورَة كَمَا أوردنا على أَنه قَالَ وَيقوم فِي الثَّالِث ثمَّ اتّفقت الأناجيل كلهَا على أَنه لم يحيى وَلَا قَامَ إِلَّا فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ دفن فِي آخر يَوْم الْجُمُعَة مَعَ دُخُول لَيْلَة السبت وحسبك أَنهم ذكرُوا أَنه لم يحنط استعجالاً لِئَلَّا تدخل عَلَيْهِم لَيْلَة السبت وَأَنه أَقَامَ لَيْلَة الْأَحَد قبل الْفجْر وَهَذِه كذبة فَاحِشَة نسبوها إِلَى الْمَسِيح وحاشى لَهُ من مثلهَا وكذبة ثَالِثَة وَهِي إِخْبَار مَتى أَنهم فَهموا مُرَاده بِهَذَا القَوْل وَأَنَّهُمْ حزنوا حزنا شَدِيدا لذَلِك وَأَن باطرة قَالَ لَهُ تعفى عَن هَذَا يَا سَيِّدي وَلَا يصيبك مِنْهُ شَيْء وإخبار مارقس ولوقا أَنهم لم يفهموا مُرَاده بِهَذَا الْكَلَام وَهَذَا تكاذب فَاحش لَا يجوز أَن يَقع من صَادِقين فَكيف من معصومين فلاح يَقِينا عَظِيم الْكَذِب من الَّذين وضعُوا هَذِه الأناجيل وَأَنَّهُمْ كَانُوا فساقاً لَا خير فيهم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَفِي الْبَاب السَّابِع عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَئِن كَانَ لكم إِيمَان على قدر حَبَّة الْخَرْدَل لتقولن للجبل ارحل من هُنَا فيرحل وَلَا يتعاصى عَلَيْكُم شَيْء وَقَبله مُتَّصِلا بِهِ أَن تلاميذه عجزوا عَن إِبْرَاء رجل بِهِ جن وَأَن الْمَسِيح أَبرَأَهُ وَأَن تلاميذه قَالُوا لَهُ لم عجزنا نَحن عَن إبرائه قَالَ لتشككم وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح دَعَا على شَجَرَة تين خضراء فيبست من وَقتهَا فَعجب التلاميذ فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح أَمِين أَقُول لكم لَئِن آمنتم وَلم تَشكوا لَيْسَ تَفْعَلُونَ هَذَا فِي التينة وَحدهَا لَكِن مَتى قُلْتُمْ هَذَا لجبل انقلع وانطرح فِي الْبَحْر تمّ لكم وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا(2/34)
أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه من آمن بِي سيفعل الأفاعيل الَّتِي أَفعَلهَا أَنا وسيفعل أعظم مِنْهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ فِي هَذِه الْفُصُول ثَلَاث طوام من الْكَذِب عَظِيمَة لَا يخلوا لتلاميذ الْمَذْكُورين ثمَّ هَؤُلَاءِ الأشقياء بعدهمْ إِلَى الْيَوْم من أَن يَكُونُوا مُؤمنين بالمسيح أَو غير مُؤمنين وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن كَانُوا مُؤمنين فقد كذب الْمَسِيح فِيمَا وعدهم بِهِ فِي هَذِه الْفُصُول جهاراً وحاشى لَهُ من الْكَذِب وَمَا مِنْهُم أحد قطّ قدر أَن تأتمر لَهُ ورقة فَكيف على قلع جبل وإلقائه فِي الْبَحْر وَإِن كَانُوا غير مُؤمنين بِهِ فهم بإقرارهم هَذَا كفار وَلَا خير فِي كَافِر وَلَا يجوز أَن يصدق كَافِر وَلَا أَن يُؤْخَذ الدّين عَن كَافِر وَلَا بُد لَهُم من أَن يجيبوا إِذْ سألناهم أَفِي قُلُوبكُمْ مِقْدَار حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان أم لَا وتؤمنون بالمسيح أم لَا فَإِن قَالُوا نعم نَحن مُؤمنُونَ بِهِ وَالْإِيمَان فِي قُلُوبنَا قُلْنَا كذب الْمَسِيح بَقينَا فِيمَا أخبر بِهِ من أَن من فِي قلبه مِقْدَار حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان يَأْمر الْجَبَل بِأَن ينقلع فينقلع وَالله مَا مِنْكُم أحد يقدر على تيبيس شَجَرَة بدعائه وَلَا على قلع جبل من مَوْضِعه وَإِن قَالُوا لَيْسَ فِي قُلُوبنَا قدر حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان وَلَا نَحن مُؤمنُونَ بِهِ قُلْنَا صَدقْتُمْ وَالله حَقًا انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون صدق الله عز وَجل وأنبياؤه وَكذب مَتى وباطرة ويوحنا ومارقش ولوقا وَسَائِر النَّصَارَى وَهُوَ الكذابون وَلَقَد قلت هَذَا لبَعض عُلَمَائهمْ فَقَالَ لي إِنَّمَا عَنى شَجَرَة الْخَرْدَل الَّتِي تعلو على جَمِيع الزراريع حَتَّى يسكن الطير فِيهَا فَقلت لَهُ لم يقل فِي الأناجيل مثل شجر الْخَرْدَل إِنَّمَا قَالَ مثل حَبَّة الْخَرْدَل وَقد وصفهَا الْمَسِيح بإقرارهم بِأَنَّهَا أدق الزراريع وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُؤمن أَو كَافِر وَأما الشاك فَإِنَّهُ مَتى دخل الْإِيمَان شكّ بَطل وَحصل صَاحبه فِي الْكفْر فَكيف وَلم يدعنا الْمَسِيح بإقرارهم فِي شكّ من هَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد بل زَعَمُوا أَنه قَالَ لَهُم لتشككم لَئِن كَانَ لكم إِيمَان قدر حَبَّة الْخَرْدَل لتقولن للجبل وَقَالَ فِي إنجيل يوحنا كَمَا أوردنا لَئِن آمنتم وَلم تَشكوا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِيَقِين بِهَذِهِ النُّصُوص التَّصْدِيق الَّذِي هُوَ خلاف الشَّك لَا غَايَة الْعَمَل الصَّالح وَقَالَ كَمَا أوردنا فِي إنجيل يوحنا من آمن بِي سيفعل الأفاعيل الَّتِي أفعل أَنا فَعَن هَذَا الْإِيمَان بِهِ سألناكم أَفِي قُلُوبكُمْ هُوَ أم لَا فَقولُوا مَا بدا لكم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما أَنا فَلَو سَمِعت هَذَا القَوْل مِمَّن يَدعِي النُّبُوَّة لما ترددت فِي الْيَقِين بِأَنَّهُ كَذَّاب وَوَاللَّه مَا قَالَهَا الْمَسِيح قطّ وَلَا اخترع هَذَا الْكَذِب إِلَّا أُولَئِكَ السفلة مَتى ويوحنا وأمثالهم وَالْعجب كُله إِقْرَار مَتى فِي الْفَصْل الْمَذْكُور كَمَا أوردنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُ ولأصحابه أَنهم إِنَّمَا عجزوا عَن إِبْرَاء الْمَجْنُون لشكهم فَشهد عَلَيْهِم بِالشَّكِّ وَأَنه لَو كَانَ لَهُم إِيمَان لم يعْجزُوا عَن ذَلِك فَلَا يَخْلُو الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا حكوا عَنهُ من الْكَذِب أَن يكون كَاذِبًا أَو صَادِقا فَإِن كَانَ كَاذِبًا فَهَذِهِ صفة سوء والكاذب لَا يكون نَبيا فَكيف إِلَهًا وَإِن كَانَ صَادِقا فَإِن(2/35)
الَّذين أخذُوا عَنْهُم دينهم ويسمونهم تلاميذ وَأَنَّهُمْ فَوق الْأَنْبِيَاء كفار شكاك فَكيف يَأْخُذُونَ دينهم عَن كفار شكاك لَا مخرج لَهُم من أَحدهمَا وَلَو لم تكن إِلَّا هَذِه فِي أَنَاجِيلهمْ كلهَا لكفت فِي إِبْطَالهَا وَإِبْطَال جَمِيع مَا هم عَلَيْهِ من دينهم المنتن ثمَّ الْعجب كُله كَيفَ يشْهد عَلَيْهِم بِالشَّكِّ وهم يحكون أَنه قد ولاهم خطة الالهية وولاهم رُتْبَة الربوبية فِي أَن كلما حرمُوهُ فِي الأَرْض كَانَ حَرَامًا فِي السَّمَوَات وَكلما حللوه فِي الأَرْض كَانَ حَلَالا فِي السَّمَوَات فَكيف يجْتَمع هَذَا مَعَ هَذَا وَهل يَأْتِي بِهَذَا التَّنَاقُض من دماغه سَالم أَو فِيهِ آفَة يسيرَة بل هَذَا وَالله توليد أفاك كَاذِب واختراع عيار متلاعب ونعوذ بِاللَّه عز وَجل من الخذلان
فصل
فِي قرب آخر الْبَاب الثَّامِن عشر من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه إِذا اجْتمع اثْنَان مِنْكُم على أَمر فَلَيْسَ يسألان شَيْئا على الأَرْض إِلَّا أجابهم إِلَيْهِ أبي السماوي وَحَيْثُ اجْتمع اثْنَان أَو ثَلَاثَة على اسْمِي فَأَنا متوسطهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل ظريف جدا وَكذب لَا يمطل ظُهُوره وَلَا يَخْلُو أَن يكون عني بِهَذِهِ المخاطبة تلاميذه خَاصَّة أَو كل من آمن بِهِ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فَهُوَ كذب ظَاهر وَمَا يشك أحد فِي أَن تلاميذه سَأَلُوا أَن يُجِيبهُمْ من دَعوه إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ من دينهم وَأَن يتَخَلَّص من فتن من أَصْحَابه فَمَا أَعْطَاهُم شَيْئا من ذَلِك الَّذِي سَمَّاهُ أَبَاهُ السماوي
فَإِن قيل لم يسْأَلُون قطّ شَيْئا من ذَلِك قُلْنَا هَذِه طامة أُخْرَى لَئِن كَانَ هَذَا فهم غاشون للنَّاس غير مريدين لصلاحهم بل ساعون فِي هلاكهم هَيْهَات هَذِه منزلَة مَا أَعْطَاهَا الله تَعَالَى قطّ أحدا من خلقه صدق الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أخبرنَا أَن ربه تَعَالَى قَالَ لَهُ
سواءٌ عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لن يغْفر الله لَهُم وَأخْبرنَا عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دَعَا أَن يَجْعَل بأسنا بَيْننَا بعده فَلم يجبهُ الله تَعَالَى إِلَى ذَلِك
هَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا مزِيد فِيهِ وَالْقَوْل الَّذِي صَحبه الصدْق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين لم يفخر بِمَا لم يُعْط قطّ وَلَا أنزل نَفسه فَوق قدرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم وَإِن أَسَاءَ إِلَيْك أَخُوك الْمُؤمن(2/36)
فَعَاتَبَهُ وَحدك فِيمَا بَيْنك وَبَينه فَإِن سمع مِنْك فقد ربحته وَإِن لم يسمع فَخذ إِلَى نَفسك رجلا أَو رجلَيْنِ لكيما تثبت كل كلمة بِشَهَادَة شَاهِدين أَو ثَلَاثَة فَإِن لم يسمع فَاعْلَم بِخَبَرِهِ الْجَمَاعَة فَإِن لم يسمع من الْجَمَاعَة فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة الْمَجُوسِيّ والمستخرج ثمَّ بعده بأسطار يسيرَة قَالَ وَعند ذَلِك تداني إِلَيْهِ باطرة وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي فَإِن أَسَاءَ إِلَيّ أخي أتأمرني أَن أَغفر لَهُ سبعا فَقَالَ لَهُ يسوع لست أَقُول لَك سبعا وَلَكِن سبعين فِي سَبْعَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه ضد قَوْله فِي الثَّالِثَة فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة الْمَجُوسِيّ والمستخرج وَلَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَينهمَا
فصل
وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل مَتى إِن أم ابْني سبدى أَقبلت إِلَيْهِ مَعَ ولديها فحنت ورغبت إِلَيْهِ فَقَالَ لَهَا مَا تريدين فَقَالَت أحب أَن تقعد ابْني هذَيْن أَحدهمَا عَن يَمِينك وَالْآخر عَن شمالك فِي ملكك فَقَالَ يسوع تجهلان السُّؤَال أتصبران على شرب الكأس الَّتِي اشرب فَقَالَا نصبر فَقَالَ لَهما ستشربان بكأسي وَلَيْسَ إِلَى تجليسكما عَن يَمِيني وشمالي إِلَّا لمن وهب ذَلِك إِلَى أبي
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل بَيَان أَنه لَيْسَ إِلَيْهِ من الْأَمر شَيْء وَأَنه غير الْأَب كَمَا يَقُولُونَ بِخِلَاف دينهم فَإذْ هُوَ غير الْأَب وَكِلَاهُمَا إِلَه فهما إلهان اثْنَان متغايران أَحدهمَا قوي وَالْآخر ضَعِيف لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ لَيْسَ لَهُ قدرَة على تقريب أحد إِلَّا من وهب لَهُ ذَلِك الَّذِي يسمونه أَبَا وليت شعري كَيفَ يجْتَمع مَا ينسبون إِلَيْهِ هَهُنَا من الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِ أَن يجلس أحد عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله وَإِنَّمَا هُوَ بيد الله تَعَالَى مَعَ مَا ينسبون إِلَيْهِ من أَنه قدر على إِعْطَاء مَفَاتِيح السَّمَوَات وَالْأَرْض لأنذل من وجد وَهُوَ باطرة وَأَنه يفعل كل مَا يَفْعَله الْأَب وَأَن الله تَعَالَى قد تَبرأ إِلَيْهِ من الحكم وَأَن الله تَعَالَى لَيْسَ يحكم بعد على أحد وَسَائِر تِلْكَ الفضائح الْمهْلكَة مَعَ تكاذبها وتدافعها وشهادتها بِأَنَّهَا لَيست من عِنْد الله وَلَا من عِنْد نَبِي أصلا لَكِن توليد كَذَّاب كَافِر ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى
فصل
وَفِي الْبَاب الْحَادِي وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى فَلَمَّا تداني الْمَسِيح من برشلام وَكَانَ فِي مَوضِع يُقَال لَهُ بَيت فاجي جوَار جبل الزَّيْتُون بعث رجلَيْنِ من تلاميذه وَقَالَ لَهما امضيا إِلَى الْحصن الَّذِي يقابلكما وستجدان فِيهِ حمارة مربوطة بفلوها(2/37)
فحلا عَنْهُمَا وأقبلا إِلَيّ بهما فَإِن تعرضكما أحد فقولا إِن السَّيِّد يُرِيدهُمَا فيدعكما من وقته وَكَانَ ذَلِك ليتم بِهِ قَول النَّبِي الْقَائِل قُولُوا لِابْنِهِ صهيون سيأتيك ملكك متواضعاً على حمارة وَابْن أتان فَتوجه التلميذان وفعلا كَمَا أَمرهمَا بِهِ وَأَقْبل بالحمارة وفولها وألقيا ثيابهما عَلَيْهِمَا وأجلساه من فَوْقهمَا وَفِي الْبَاب التَّاسِع من آخر إنجيل مارقش فَلَمَّا بلغ الْمَسِيح بَيت فاجي عِنْد جبل الزَّيْتُون أرسل اثْنَيْنِ من تلاميذه وَقَالَ لَهما اذْهَبَا إِلَى الْحصن الَّذِي بحيالكما فَإِذا دخلتما ستجدان فَلَو مربوطا لم يركبه بعد أحد من الْآدَمِيّين حلاه واقبلا بِهِ إِلَيّ فَإِن قَالَ لَكمَا أحد مَا هَذَا الَّذِي تفعلان فقولا لَهُ إِن السَّيِّد الْمَسِيح يحْتَاج إِلَيْهِ فيخليه لَكمَا فَانْطَلقَا ووجدا الفلو مربوطاً قبالة رحبة الْبَاب فِي زقاقين فحلاه فقالى لَهما بعض الْوُقُوف هُنَالك مَا لَكمَا تحلان الفلو فَقَالَا لَهُ كَالَّذي أَمرهمَا يسوع فَتَرَكُوهُ لَهما وساقا الفلو إِلَى يسوع فحملا عَلَيْهِ ثيابهما وَركب من فَوق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فهاتان قضيتان كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تكذب الْأُخْرَى مَتى يَقُول ركب حمارة وفلوها ومارقش يَقُول ركب فلواً وَالْعجب كُله من اسشتهادهم لذَلِك بقول النَّبِي يَأْتِيك ملكك رَاكِبًا على حمارة وَابْن أتان وَمَا كَانَ الْمَسِيح قطّ ملك برشلام فَهَذِهِ كذبة أُخْرَى وأظرف شَيْء إسشهادهم لصِحَّة أمره بركوبه حمارة أثراه لم يدْخل قطّ برشلام إِنْسَان على حمارة سواهُ هَذِه وَالله مضحكة من مضاحك السخفاء وَلَقَد أَخْبرنِي الْحُسَيْن ابْن بَقِي صاحبنا نور الله وَجهه أَنه وقف عَالما من عُلَمَائهمْ على هَذَا الْفَصْل قَالَ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِه رمز والحمارة هِيَ التَّوْرَاة قَالَ فأضحكني قَوْله وَقلت لَهُ فالإنجيل هُوَ الفلو قَالَ فَسكت وَعلم أَنه أَتَى بِمَا يُوجب السخرية مِنْهُ
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى أَن يسوع قَالَ لَهُم إِذا قَامَ النَّاس من الْأَمْوَات لَا يَتَزَوَّجُونَ وَلَا يتناكحون لكِنهمْ يكونُونَ كأمثال مَلَائِكَة الله فِي السَّمَاء وَفِي(2/38)
الْبَاب السَّادِس وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى وَأَيْضًا فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أَخذه لَا شربت بعْدهَا من نسل الزرجون حَتَّى أشربها مَعكُمْ جَدِيدَة فِي ملكوت الله وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ للحواريين الاثْنَي عشر أَنْتُم الَّذين صَبَرْتُمْ معي فِي جَمِيع مصائبي فَإِنِّي ألخص لكم الْوَصِيَّة على مَا لخصها لي أبي لتطعموا وتشربوا على مائدتي فِي ملكوتي وتجلسوا على عروش حاكمين على اثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي الْفَصْل الأول أَن النَّاس فِي الْآخِرَة لَا يتناكحون وَفِي الْفُصُول الثَّلَاثَة بعده أَن فِي الْجنَّة أكلا وشرباً للخبز وَالْخمر على الموائد وَالنَّصَارَى يُنكرُونَ كل هَذَا وَلَا مؤونة عَلَيْهِم فِي تكذيبهم للمسيح مَعَ إقرارهم بعبادتهم لَهُ وَأَنه رَبهم لَا سِيمَا وَفِي الْفَصْل الأول أَن النَّاس فِي الْجنَّة كالملائكة وَفِي التَّوْرَاة الَّتِي يصدقون بهَا أَن الْمَلَائِكَة أكلت عِنْد لوط وَعند إِبْرَاهِيم الفطاير وَاللَّحم وَاللَّبن وَالسمن وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة يَأْكُلُون وَالنَّاس فِي الْجنَّة مثلهم فَالنَّاس فِي الْجنَّة يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ بِلَا شكّ بِمُوجب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَلَا سِيمَا وَقد أخبروا أَن الْمَسِيح بعد أَن مَاتَ وَرجع إِلَى الدُّنْيَا وَلَقي تلاميذه طلب مِنْهُم مَا يَأْكُل فَأتوهُ بحوت مشوي فَأكل مَعَهم وَشرب شراب عسل بعد مَوته فَإِذا كَانَ الْإِلَه يَأْكُل الْحيتَان المشوية وَيشْرب عَلَيْهَا الْعَسَل فَأَي فكرة فِي شرب النَّاس وأكلهم فِي الْجنَّة وَإِذا كَانَ الله تَعَالَى عِنْدهم اتخذ ولدا من امْرَأَة اصطفاها فَأَي عجب فِي اتِّخَاذ النَّاس النِّسَاء فِي الْجنَّة وَهَذَا هُوَ طبعهم الَّذِي بناهم الله عَلَيْهِ إِلَّا أَن فِي رعونة هَؤُلَاءِ النوكي لعبرة لمن اعْتبر وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَعجب آخر وَهُوَ وعده الاثْنَي عشر تلميذاً بِأَنَّهُم يَقْعُدُونَ على عروش حاكمين على الاثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل فَيُوجب ضَرُورَة كَون يهوذا الأسخريوطى فيهم وَلَا يجوز أَن يُخَاطب بِهَذَا أَصْحَابه دونه لِأَنَّهُ قد أوضح أَنهم اثْنَا عشر على اثْنَي عشر سبطاً من بني إِسْرَائِيل فَوَجَبَ ضن ورة كَونه فيهم وَهُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْيَهُود برشوة ثَلَاثِينَ درهما فَلَا بُد من أَنه لم يُذنب فِي ذَلِك وَهَذَا كذب لِأَنَّهُ قد قَالَ فِي مَكَان آخر ويل لذَلِك الْإِنْسَان الَّذِي كَانَ أحب إِلَيْهِ لَو لم يخلق أَو كذب الْمَسِيح فِي هَذَا الْوَعْد الْمَذْكُور لَا بُد من أَحدهمَا(2/39)
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّالِث وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح كاشف عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَقَالَ مَا تَقولُونَ فِي الْمَسِيح وَابْن من هُوَ قَالُوا هُوَ ابْن دَاوُد فَقَالَ لَهُم كَيفَ يُسَمِّيه دَاوُد بِالروحِ إِلَهًا حَيْثُ كتب قَالَ الله لالهي اقعد على يَمِيني حَتَّى أجعَل من أعدائك كرسيا بقدميك فَإِن كَانَ دَاوُد يَدعُوهُ إِلَهًا فَكيف يكون هُوَ وَلَده فَلم يقدر مِنْهُم أحد على مُرَاجعَته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْحق من قَول الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَلَقَد أنكرها عَلَيْهِ السَّلَام الْمُنكر حَقًا وَالْعجب أَن هَؤُلَاءِ الأنذال المنتمين إِلَى أَتْبَاعه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الِاحْتِجَاج بِهَذَا الْفَصْل الْمَذْكُور وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام قد أنكر أَن يكون الْمَسِيح ابْن دَاوُد وهم يسمونه فِي الأناجيل كلهَا بِأَنَّهُ ابْن دَاوُد فاعجبوا
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه أَنْتُم إخْوَان وَلَا تنتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض فَإِن أَبَاكُم السماوي وَاحِد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل فضيحتان عظيمتنان احدهما إخْبَاره أَن الله تَعَالَى هُوَ أَبُو التلاميذ فتراهم مثله سَوَاء بِسَوَاء فَلم خصّه النَّصَارَى بِأَن يَقُولُوا أَنه ابْن الله دون أَن يَقُولُوا عَن تلاميذه مَتى ذكروهم أَنهم أَبنَاء الله تَعَالَى الله عَن هَذَا الْكفْر وَعَن أَن يكون أَبَا أَو ابْنا وَالْأُخْرَى قَوْله لَهُم لَا تنتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض وَالنَّصَارَى والأناجيل يطلقون أَن شَمْعُون بن يوثا وَيَعْقُوب ويوحنا ابْنا سَيِّدي ويهوذا وَيَعْقُوب ابْنا يُوسُف فقد أقرُّوا بثباتهم على مَعْصِيّة الْمَسِيح إِذْ نَهَاهُم أَن ينتسبوا إِلَى أَب على الأَرْض وهم ملازمون مُخَالفَة أمره فِي ذَلِك متدينون بعصيانه
فصل
وَفِي الْبَاب الرَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح أنذر تلاميذه بِمَا يكون فِي آخر الزَّمَان من الزلازل وَالْبَلَاء وَقَالَ لَهُم فَادعوا أَن لَا يكون هروبكم فِي شتاء وَلَا فِي سبت
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا بَيَان وَاضح بلزومهم حفظ السبت إِلَى انْقِضَاء أَمرهم وَإِلَى حُلُول الزلازل بهم وهم على خلاف ذَلِك هَذِه أمة لَا عقول لَهُم
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم سيثور مسحاء كذبة وأنبياء(2/40)
كذبة ويعطون الْعَجَائِب الْعَظِيمَة والآيات حَتَّى يغلط من يظنّ بِهِ الصّلاح وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مارقش سيقوم مسيحون كذابون وأنبياء كذابون ويأتون بِالْآيَاتِ والبدائع ليخدعوا إِن أمكن أَيْضا المختارين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل مَعَ الْفَصْل الْأَخير الَّذِي فِي توراة الْيَهُود فِي السّفر الْخَامِس الَّذِي نَصه إِن طلع فِيكُم نَبِي وَادّعى أَنه رأى رُؤْيا وأتاكم بِخَبَر مَا يكون وَكَانَ مَا وَصفه ثمَّ قَالَ لكم بعد اتبعُوا إلهة الْأَجْنَاس فَلَا تسمعوا لَهُ مَعَ الْفَصْل الَّذِي فِيهِ من التَّوْرَاة إِن السَّحَرَة عمِلُوا مثل مَا عمل مُوسَى فِي قلب الْعَصَا حَيَّة وإحالة المَاء دَمًا والمجيء بالضفادع كَاف فِي إبِْطَال مَا أَتَى بِهِ مُوسَى والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام وكل نَبِي يقرونَ بنبوته لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يَأْتِي نَبِي كَاذِب بالمعجزات وَأمكن أَن يكذب النَّبِي الصَّادِق فِيمَا ينذر بِهِ وَأمكن أَن يعْمل السَّحَرَة مثل شَيْء من آيَات نَبِي فقد امتزج الْحق بِالْبَاطِلِ وَلم يكن إِلَى تَمْيِيز أَحدهمَا من الآخر طَرِيق أصلا وَهَذَا إِفْسَاد الْحَقَائِق وَإِبْطَال مُوجب الْحق وَتَكْذيب الْحَواس وَإِذا أمكن عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَا ذَكرْنَاهُ مِمَّا فِي توراتهم وَأَنَاجِيلهمْ فَمَا الَّذِي يؤمنهم من أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام والمسيح وَسَائِر أَنْبِيَائهمْ إِنَّمَا كَانُوا سحرة وكاذبين شَهِدنَا بِاللَّه شَهَادَة الْحق أَن هَذِه الْفُصُول الْمَذْكُورَة من عمل برهمي مكذب بِالنُّبُوَّةِ جملَة أَو مَا فِي مكذب بنبوة الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يَقُولَا قطّ شَيْئا مِمَّا فِي هَذِه الْفُصُول الخبيثة الملعونة وَأما نَحن فَلَا نجيز الْبَتَّةَ أَن يكذب نَبِي وَلَا أَن يَأْتِي غير نَبِي بمعجزة وَلَا سَاحر وَلَا كَذَّاب وَلَا صَالح الصِّنَاعَة فَإِن قيل أَنكُمْ تَقولُونَ أَن الدَّجَّال يَأْتِي بالمعجزات قُلْنَا حاش لله من هَذَا وَمَا الدَّجَّال إِلَّا صَاحب عجائب كَأبي الْعَجَائِب وَلَا فرق إِنَّمَا هُوَ محيل يتحيل بحيل مَعْرُوفَة كل من عرفهَا عمل مثل عمله وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة سَأَلَهُ هَل مَعَ الدَّجَّال نهر مَاء وخبز وَنَحْو ذَلِك فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَهْون على الله من ذَلِك وَصَحَّ أَيْضا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن الدَّجَّال صَاحب شبه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
فصل
وَفِي الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ وَأما ذَلِك الْيَوْم وَذَلِكَ الْوَقْت لَا يدْرِي أحد بهما لَا الْمَلَائِكَة وَلَا أحد غير الْأَب وَحده وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مارقش(2/41)
أَن الْمَسِيح قَالَ السَّمَوَات وَالْأَرْض تذْهب وكلامي لَا يبيد أبدا وَأما ذَلِك الْيَوْم وَتلك السَّاعَة فَلَا يدْرِي أحد بهما وَلَا الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء وَلَا ابْن الْإِنْسَان مَا عد الْأَب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل يُوجب ضَرُورَة أَن الْمَسِيح هُوَ غير الله تَعَالَى لِأَنَّهُ أخبر إِن هَا هُنَا شَيْئا يُعلمهُ الله تَعَالَى وَلَا يُعلمهُ هُوَ وَإِذا كَانَ بِنَصّ إنجيلهم الابْن لَا يعلم مَتى السَّاعَة وَالْأَب يعلم مَتى هِيَ فبالضرورة القاطعة نعلم أَن الابْن غير الْأَب وَإِذا كَانَ كَذَلِك فهما اثْنَان متغايران أَحدهمَا يجهل مَا لَا يجهله الآخر وَهَذَا الشّرك الَّذِي عَلَيْهِ يحومون وَهَذَا مَا يُبطلهُ الْعقل أَن يكون إلهان أَحدهمَا نَاقص فصح ضَرُورَة أَن من هُوَ غير الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق مربوب وَبَطل هوسهم وتخليطهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أَو يكذبوا الْمَسِيح فِي هَذَا الْفَصْل وَلَا بُد
فصل
وَفِي الْبَاب السَّادِس وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة لَيْلَة أَخذ أَمِين أَقُول لَك ستجحدني هَذِه اللَّيْلَة قبل صرخة الديك ثَلَاثًا فَقَالَ باطرة لَا يكون هَذَا وَلَو بلغت الْقَتْل وَفِي الْبَاب الرَّابِع عشر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة أَمِين أَقُول لَك إِنَّك أَنْت الْيَوْم فِي هَذِه اللَّيْلَة قبل أَن يرفع الديك صَوته مرَّتَيْنِ ستجحدني ثَلَاثًا فَكَانَ باطرة يُعِيد القَوْل حَتَّى لَو أمكنني أَن أَمُوت مَعَك لست أجحدك وَفِي الْبَاب الثَّانِي وَالْعِشْرين من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ لباطرة أَنا أعلمك أَنه لَا يصْرخ الديك هَذِه اللَّيْلَة حَتَّى تجحدني ثَلَاثًا وَأَنَّك لم تعرفنِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَمِين أَقُول لَك لَا يصْرخ الديك اللَّيْلَة حَتَّى تجحدني ثَلَاثًا فاتفق مَتى ومرقس ولوقا ويوحنا على أَنه قَالَ لَهُ أَنَّك تجحدني ثَلَاث مَرَّات قبل أَن يصْرخ الديك وَهَكَذَا وصف كل وَاحِد مِنْهُم عَن باطرة أَنه هَكَذَا فعل أَمَام الْغُلَام وَالْأمة وَالْقَوْم الَّذين كَانُوا يصطلون على النَّار وَقَالَ مارقش أَنه قَالَ لَهُ قبل أَن يصْرخ الديك مرَّتَيْنِ تجحدني ثَلَاث مَرَّات وَهَكَذَا وصف مارقش عَن باطرة وَأَنه فعل ليلتئذٍ فَإِن خادمه الكوهن قَالَت لَهُ أَنْت من أَصْحَاب يسوع فَجحد ثمَّ صرخَ الديك ثمَّ قَالَت للحاضرين الواقفين هُنَالك هَذَا من أُولَئِكَ فَجحد ثَانِيَة ثمَّ قَالَ لَهُ الواقفون هُنَالك حَقًا أَنْت مِنْهُم فَجحد ثَالِثَة أَيْضا ثمَّ صرخَ الديك ثَانِيَة فعلى قَول مارقش كذب مَتى ولوقا ويوحنا لِأَن الديك صرخَ قبل أَن يجحده ثَلَاث مَرَّات أَو كذب الْمَسِيح فِي إخْبَاره بذلك إِن كَانَ هَؤُلَاءِ صدقُوا لَا بُد من أَحدهمَا وعَلى قَول مَتى ولوقا ويوحنا كذب مارقش أَيْضا كَذَلِك لِأَن الديك صرخَ قبل أَن يجحده ثَلَاث(2/42)
مَرَّات أَو كذب الْمَسِيح وَلَا بُد من أَحدهمَا وَالْكذب وَاقع فِي أحد الْخَبَرَيْنِ وَلَا بُد ثمَّ طامة أُخْرَى وَهِي اتِّفَاق مَتى ومارقش على أَن الْمَسِيح أخبر باطرة بِأَنَّهُ سيجحده تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَن باطرة رد خَبره وَقَالَ لَهُ لَا يكون هَذَا فلولا أَن الْمَسِيح كَانَ عِنْد باطرة مِمَّن يكذب فِي خَبره مَا كذبه مُوَاجهَة مرّة بعد مرّة أَو كفر باطرة إِذْ كذب ربه أَو نَبيا لَا بُد من أَحدهمَا فَإِن كَانَ كفر باطرة فَكيف يُعْطي مَفَاتِيح السَّمَوَات لمرتد كَافِر مكذب لله تَعَالَى أَو لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء جهاراً أم كَيفَ تولي مرتبَة التَّحْرِيم والتحليل من يكذب الله تَعَالَى أَو نبيه أَو كَيفَ يُؤْخَذ الدّين عَمَّن كذب ربه أَو كذب خبر نَبِي عَن الله تَعَالَى جهاراً فِي آخر سَاعَة كَانَ فِيهَا مَعَه وَختم بذلك عمله مَا سمعنَا بأوسخ عقولاً من أمة هَذِه صفة دينهم وكتابهم وأئمتهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَفِي الْبَاب السَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَن الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا الْمَسِيح أَخذ لحملها سخرة سيمون وَفِي الْبَاب الْخَامِس عشر من إنجيل مارقش أَن تِلْكَ الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهِ يسوع أَخذ لحملها سيمون القيرواني وَالِد الكسندرس وروفس وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا أَنه سخر لحمل تِلْكَ الْخَشَبَة شَمْعُون القيرواني وَفِي الْبَاب التَّاسِع عشر من إنجيل يوحنا أَن يسوع نَفسه هُوَ الَّذِي حملت عَلَيْهِ الْخَشَبَة الَّتِي صلب فِيهَا وَهَذَا خلاف مَا حكى أَصْحَابه وَلَقَد قررت بعض عُلَمَائهمْ على هَذَا فَقَالَ لي كَانَت طَوِيلَة جدا فحملها هُوَ وشمعون الْمَذْكُور فَقلت لَهُ وَمن أَيْن لَك هَذَا وَأَيْنَ وجدته وَسِيَاق أَخْبَار مُؤَلَّفِي الْإِنْجِيل لَا تدل على هَذَا وَلَو قلت أَنه مُمكن أَن يسخر كل وَاحِد مِنْهُمَا لحملها بعض الطَّرِيق لَكَانَ أَدخل فِي سِيَاق الْخَبَر
فصل
وَفِي الْبَاب السَّابِع وَالْعِشْرين من إنجيل مَتى أَنه صلب مَعَه مَعَه لصان أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَكَانَا يشتمانه ويتناولانه محركين رؤسهما ويقولان يَا من يهدم الْبَيْت ويبنيه فِي ثَلَاث سلم نَفسك إِن كنت ابْن الله فَانْزِل عَن الصلب
وَفِي الْبَاب الْخَامِس عشر من إنجيل مارقش أَنه صلب مَعَه لصان أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله واللذان(2/43)
صلبا مَعَه كَانَا يستعجزانه وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا وَكَانَ أحد اللصين المصلوبين مَعَه يسبه وَيَقُول إِن كنت أَنْت الْمَسِيح فَسلم نَفسك وَسلمنَا فَأَجَابَهُ الآخر وكشر عَلَيْهِ وَقَالَ أما تخَاف الله وَأَنت فِي آخر عمرك وَفِي هَذِه الْعقُوبَة أما نَحن فكوفئنا بِمَا استوجبنا وَهَذَا لَا ذَنْب لَهُ ثمَّ قَالَ ليسوع يَا سَيِّدي اذْكُرْنِي إِذا نلْت ملكوتك فَقَالَ لَهُ يسوع أَمِين أَقُول لَك الْيَوْم تكون معي فِي الْجنَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِحْدَى القضيتين كذب بِلَا شكّ لِأَن مَتى ومارقش أخبر بِأَن اللصين جَمِيعًا كَانَا يسبانه ولوقا يخبر بِأَن أَحدهمَا كَانَ يغبه وَالْآخر كَانَ يُنكر على الَّذِي يسبه ويؤمن بِهِ والصادق لَا يكذب فِي مثل هَذَا وَلَيْسَ يُمكن هَا هُنَا إِن يَدعِي أَن أحد اللصين سبه فِي وَقت وآمن بِهِ فِي آخر لِأَن سِيَاق خبر لوقا يمْنَع من ذَلِك ويخبر أَنه أنكر على صَاحبه سبه إِنْكَار من لم يساعده قطّ على ذَلِك وَكلهمْ مُتَّفق على أَن كَلَام اللصين وهم ثَلَاثَتهمْ مصلوبون على الْخشب فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن لوقا كذب أَو كذب من أخبرهُ أَو أَن مَتى كذب وَكذب مارقش أَو الَّذِي أخبرهُ وَلَا بُد
فصل
وَفِي آخر إنجيل مَتى بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وإنزاله برغبة يُوسُف الراماوي العريف وَدَفنه فِي قبر جَدِيد محفور فِي صَخْرَة وغطاه بصخرة عَظِيمَة وَفِي آخر إنجيل مارقش بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وإنزاله برغبة يُوسُف الراماوي العريف وَدَفنه فِي قبر عشَاء الْجُمُعَة والسبت دَاخل وَفِي آخر إنجيل لوقا بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وَأَن يُوسُف الراماوي أَتَى أول اللَّيْل فَرغب فِيهِ فَأَجَابَهُ بلاطش إِلَى إنزاله فأنزله وَجعله فِي قبر جَدِيد وَفِي آخر إنجيل يوحنا بعد أَن ذكر صلب الْمَسِيح وَأَن يوحنا الراماوي رغب فِيهِ وأنزله فِي قبر فِي بُسْتَان ثمَّ قَالَ مَتى وَعند الْعشَاء لَيْلَة السبت الَّتِي تصح فِي يَوْم الْأَحَد اقبلت مَرْيَم المجدلانية وَمَرْيَم الْأُخْرَى لمعاينة الْقَبْر فتزلزل بهما الْموضع زَلْزَلَة عَظِيمَة ثمَّ نزل ملك السَّيِّد من السَّمَاء وَأَقْبل وَرفع الصَّخْرَة وَقعد عَلَيْهَا وَكَانَ منظره كمنظر الْبَرْق وثيابه أنصع بَيَاضًا من الثَّلج فَمن خَوفه صقع الحرس(2/44)
وصاروا كالأموات فَقَالَ الْملك للمرأتين لَا تخافا قد علمت أنكما أردتما يسوع المصلوب لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا لِأَنَّهُ قد حيى وَقد تقدمكم إِلَى جلجال كَمَا قَالَ فانظروا إِلَى الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ السَّيِّد مُضْطَجعا وانهضا إِلَى تلاميذه وقولا لَهُم أَنه قد حيى وَهَا هُوَ يسبقكم إِلَى جلجال وَفِيه تَرَوْنَهُ فنهضتا مسرعتين بفرح عَظِيم وأقبلتا إِلَى التلاميذ وأخبرتاهم الْخَبَر فتلقاهما يسوع وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُمَا فوقفتا وترامتا إِلَى رجلَيْهِ وسجدتا لَهُ فَقَالَ لَهما يسوع لَا تخافا واذهبا أعلما إخْوَانِي ليتوجهوا إِلَى جلجال وَفِيه يرونني فَأقبل بعض الحرس إِلَى الْمَدِينَة وَأعلم قواد القسيسين بِمَا أَصَابَهُم فرشوهم بِمَال عَظِيم ليقول الحرس إِن تلاميذه طرقوهم لَيْلًا وسرقوه وذهبوا بِهِ وهم رقود فَفَعَلُوا وانتشر الْخَبَر فِي الْيَهُود إِلَى الْيَوْم وَتوجه الْأَحَد عشر تلميذاً إِلَى جلجال إِلَى الْجَبَل الَّذِي كَانَ دلهم عَلَيْهِ يسوع فَلَمَّا بصروا بِهِ خنعوا لَهُ وَبَعْضهمْ شكوا فِيهِ وَقَالَ مارقش فَلَمَّا خلا يَوْم السبت اشترت مَرْيَم المجدلانية وَمَرْيَم أم يَعْقُوب وشلوما حنوطاً ليانين بِهِ ويدهنه فأقبلن يَوْم الْأَحَد بكرَة جدا إِلَى الْقَبْر وبلغن هُنَالك وَقد طلعت الشَّمْس وَهن يقلن من يحول لنا الْحجر عَن الْقَبْر فنظرن فَإِذا بِالْحجرِ قد حول فدخلن فِي الْقَبْر فأبصرن فَتى جَالِسا عَن الْيَمين متغطياً بِثَوْب أَبيض فَقَالَ لَهُنَّ لَا تفزعن فَإِن يسوع الناصري الْمَطْلُوب قد قَامَ وَلَيْسَ هُوَ هَا هُنَا فانطلقن وقلن لتلاميذه ولباطرة أَنه قد حيى وَقد تقدمكم إِلَى جلجال وهنالك تلقونه فَقَامَ بكرَة يَوْم الْأَحَد وتراءى لِمَرْيَم المجدلانية فمضت وأعلمت الَّذين كَانُوا مَعَه فَلم يصدقوها وَبعد هَذَا تظاهر لاثْنَيْنِ مِنْهُم وهما مسافران إِلَى قَرْيَة فِي صفة أُخْرَى فأخبرا سَائِرهمْ فَلم يصدقُوا أَيْضا وَآخر الْأَمر بَيْنَمَا الْأَحَد عشر تلميذاً متكئين إِذْ تظاهر لَهُم ووبخ كفرهم وقسوة قُلُوبهم وَقَالَ لوقا فَلَمَّا انفجر الصُّبْح يَوْم الْأَحَد بكرَة جدا أقبل النسْوَة إِلَى الْقَبْر يحملن حنوطاً فوجدن الْحجر مقلوعاً عَن الْقَبْر فدخلن فِيهِ فَلم يجدن السَّيِّد فِيهِ فتحيرن فَوقف إلَيْهِنَّ رجلَانِ فِي ثِيَاب بيض فَقَالَا لَهُنَّ لَا تَطْلُبن حَيا بَين أموات قد قَامَ لَيْسَ هُوَ هَا هُنَا فانصرفن وأعلمن الْأَحَد عشر تلميذاً وَمن كَانَ مَعَهم فَلم يصدقوهن فَقَامَ باطرة مسرعاً إِلَى الْقَبْر فَرَأى الْكَفَن وَحده فَعجب وَانْصَرف ثمَّ ترَاءى الْمَسِيح لِرجلَيْنِ مِنْهُم كَانَا ناهضين إِلَى حصن يُقَال لَهُ أماوس على سَبْعَة أَمْيَال وَنصف من اوراشلم فَلم يعرفاه حَتَّى ارْتَفع عَنْهُمَا وَغَابَ فانصرفا فِي الْوَقْت إِلَى أورشليم وَوجد الْأَحَد عشر تلميذاً مُجْتَمعين مَعَ أَصْحَابهم فأخبراهم بالْخبر فَبَيْنَمَا هم يَخُوضُونَ فِي هَذَا وقف يسوع فِي وَسطهمْ(2/45)
فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم أَنا هُوَ فَلَا تخافوا فجزعوا وظنوه شَيْطَانا فَقَالَ لَهُم لم فزعتم أبصروا قدمي ويدي أَنا هُوَ فَإِن الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ لحم وَلَا عِظَام ثمَّ قَالَ أعندكم شَيْء يُؤْكَل فَأتوهُ بِقِطْعَة حوت مشوي وشربة عسل فَأكل وبرىء إِلَيْهِم بالبقية ثمَّ أوصاهم وارتفع عَنْهُم وَقَالَ يوحنا فَفِي يَوْم الْأَحَد اقبلت مَرْيَم صباحاً والظلمات لم تنجل بعد إِلَى الْقَبْر فرأت الصَّخْرَة مقلوعة عَن الْقَبْر فَرَجَعت إِلَى شَمْعُون باطرة وَإِلَى التلميذ الآخر يَعْنِي يوحنا بِهَذَا نَفسه وَقَالَت لَهما نزع سَيِّدي من الْقَبْر وَلَا أَدْرِي أَيْن وضعوه فَنَهَضَ باطرة والتلميذ الآخر إِلَى الْقَبْر فوجدا الأكفان مَوْضُوعَة ثمَّ رجعُوا فوقفت مَرْيَم باكية إِلَى الْقَبْر فرأت ملكَيْنِ منتصبين فَقَالَا لَهَا من تريدين فظنت أَنه البستاني فَقَالَت لَهُ يَا سَيِّدي إِن كنت أَنْت أَخَذته فَقل لي أَيْن وَضعته فَقَالَ لَهَا يَا مَرْيَم فالتفتت وَقَالَت معلمي فَقَالَ لَهَا يسوع لَا تمسيني لم أصعد بعد إِلَى أبي اذهبي إِلَى إخوتي وَقَوْلِي لَهُم إِنِّي صاعد إِلَى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم قَالَت فَأَخْبَرتهمْ ثمَّ بَيْنَمَا التلاميذ مجتمعون أقبل يسوع ووقف فِي وَسطهمْ وَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَعرض عَلَيْهِم يَدَيْهِ وجنبه ثمَّ ذكر أَن طوما أحد الاثْنَي عشر تلميذاً لم يكن حَاضرا فيهم فِي هَذَا الظُّهُور فَلَمَّا أَتَى وَأَخْبرُوهُ فَقَالَ لَئِن لم أبْصر فِي يَدَيْهِ الصاق المسامير وَلم أَدخل اصبعي فِي مَوضِع المسامير فِي جنبه لَا آمَنت فَلَمَّا كَانَ بعد ثَمَانِيَة أَيَّام اجْتَمعُوا كلهم والأبواب مغلقة فَأقبل يسوع ووقف وَسطهمْ وَقَالَ لطوما أَدخل اصبعك وَأبْصر كفي وهات يدك وأدخلها إِلَى جَنْبي وَلَا تكن كَافِرًا بل كن مُؤمنا فَقَالَ لَهُ طوما سَيِّدي وإلهي ثمَّ ترَاءى عِنْد بحيرة طبرية لشمعون باطرة وطوما ونثنائيل وَابْني سَيِّدي واثنين من التلاميذ سواهُم وهم يصيدون فِي مركب فِي الْبَحْر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فاعجبوا لهَذِهِ الْقِصَّة وَمَا فِيهَا من الْكَذِب والشنع يَقُول مَتى إِن مَرْيَم وَمَرْيَم أتتا إِلَى الْقَبْر عشَاء لَيْلَة السبت الَّتِي تصبح فِي يَوْم الْأَحَد فوجدتاه قد قَامَ وَيَقُول مارقش إِن مَرْيَم وَمَرْيَم وَغَيرهمَا أتين إِلَى الْقَبْر بعد طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد فوجدنه قد قَامَ والظلمة لم تنْحَل بعد فَهَذِهِ كذبات مِنْهُم فِي وَقت بلوغهن إِلَى الْقَبْر وفيمن جَاءَ إِلَى الْقَبْر أمريم وَحدهَا أم مَرْيَم وَمَرْيَم أُخْرَى مَعهَا أم كلتاهما ومعهما نسْوَة أخر وَيَقُول مَتى إِن مَرْيَم وَمَرْيَم رأتا الْملك إِذْ نزل من السَّمَاء وَرفع الصَّخْرَة بحضرتهما بزلزلة عَظِيمَة وصعق الحرس وَقَالَ الْملك للمرأتين لَا تخافا إِنَّه قد قَامَ وَيَقُول مارقش إِن النسْوَة وجدن الصَّخْرَة قد قلعت بعد وَأَنه وقف إلَيْهِنَّ رجلَانِ مبيضان فاخبراهن بقيامه وَيَقُول يوحنا أَن مَرْيَم وَحدهَا أَتَت وَوجدت الصَّخْرَة قد قلعت وَلم تَرَ أحدا وَرجعت حائرة فَأخْبرت شَمْعُون ويوحنا حاكي(2/46)
الْقِصَّة فنهضا مَعًا إِلَى الْقَبْر فَلم يجدا فِيهِ أحدا وانصرفا فالتفتت هِيَ فَإِذا بالمسيح نَفسه وَاقِفًا وَسلم عَلَيْهَا وأخبرها بقيامه فَهَذَا كذب آخر فِي وَقت قلع الصَّخْرَة وَهل وجد عِنْد الْقَبْر ملك وَاحِد أَو ملكان اثْنَان أم لم يُوجد فِيهِ أحد أصلا وَيَقُول مَتى إِن الْمَرْأَتَيْنِ أتتاهم بوصيته فصدقوهما وَأَنَّهُمْ نهضوا كلهم إِلَى جلجال وهنالك اجْتَمعُوا مَعَه وَيَقُول مارقش أَنه ترَاءى لِمَرْيَم وَأَخْبَرتهمْ وَلم يصدقوها ثمَّ ترَاءى لاثْنَيْنِ فأخبراهم فَلم يصدقوهما ثمَّ نزل عَلَيْهِم كلهم وَيَقُول لوقا إِنَّهُم لم يصدقُوا النِّسَاء وَأَن باطرة نَهَضَ إِلَى الْقَبْر وَلم يجد شَيْئا وَلَا رأى أحدا وَأَنه نزل بَينهم بأورشليم فَرَأَوْا حينئذٍ وَأكل مَعَهم الْحُوت المشوي وَهَذِه صفة من لم يَقْصِدهُ إِلَيْهِم إِلَّا الْجُوع وَطلب الْأكل وَيَقُول يوحنا أَنه ترَاءى لعشرة مِنْهُم حاشى طوما ترَاءى لَهُم ولطوما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمثل هَذَا الِاخْتِلَاف فِي قصَّة وَاحِدَة عَن مقَام وَاحِد كذب لَا شكّ فِيهِ لَا يُمكن أَن يَقع من معصومين فصح أَنهم كذابون لَا يتحرون الصدْق فِيمَا حدثوا بِهِ وَمَا كتبوه ثمَّ فِي هَذِه الْقِصَّة قَول مارقش عَن الْمَسِيح أَنه بعد مَوته قبح كفر تلاميذه وقسوة قُلُوبهم فَإِذا شهد الْمَسِيح على تلاميذه بعد رَفعه بالْكفْر وقسوة الْقُلُوب فَكيف يجوز أَخذ الدّين عَنْهُم أم كَيفَ يجوز أَن يُعْطي الْإِلَه مَفَاتِيح السَّمَوَات ويولي منزلَة التَّحْرِيم والتحليل كَافِرًا قاسي الْقلب فَكل هَذَا برهَان وَاضح على أَن أَنَاجِيلهمْ كتب مفتراة من عمل كَذَّابين كفار ثمَّ فِي الْقِصَّة أَن مَرْيَم والتلاميذ كلهم كَانُوا يلتزمون بعد الْمَسِيح صِيَانة السبت وتعظيمه وَترك الْعَمَل فِيهِ وَكَذَلِكَ آخر حمل الحنوط إِلَيْهِ حِين دخل يَوْم الْأَحَد فقد صَحَّ يَقِينا أَن هَؤُلَاءِ المخاذيل لَيْسُوا على دين الْمَسِيح وَلَا على مَا مضى عَلَيْهِ تلاميذه بل على دين آخر فسحقاً لَهُم وبعداً وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على عَظِيم نعْمَته علينا معشر الْإِسْلَام
فصل وَفِي الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لتلاميذه أَن دُخُول الْجمل فِي سم الْخياط أيسر من دُخُول المثري فِي ملكوت الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا قطع من كَلَامه بِأَن كل غَنِي فَإِنَّهُ لَا يدْخل الْجنَّة أبدا وَفِي اتِّبَاعه أَغْنِيَاء كثير وَمَا رَأينَا قطّ أمة أحرص على جمع المَال من الدَّرَاهِم وَغير ذَلِك وادخاره وَمنعه دون أَن ينتفعوا مِنْهُ بِشَيْء وَلَا أَن يتصدقوا مِنْهُ بِشَيْء من الأصاقفة والقسيسين والرهبان فِي كل دير وكل كَنِيسَة فِي كل بلد وكل وَقت فعلى مُوجب كَلَام إلاههم أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط فَهَذَا وَالله حق وَأَنا على ذَلِك من الشَّاهِدين
فصل وَفِي الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن باطرة قَالَ ليسوع الْمَسِيح هَا نَحن قد خلينا الْجَمِيع واتبعناك فَأَجَابَهُ يسوع وَقَالَ لَهُ أَمِين أَقُول لكم لَيْسَ من أحد ترك بَيْتا أَو إخْوَة(2/47)
وأخوات أووالدا ووالدة أَو امْرَأَة أَو أَوْلَاد أَو فدادين لأجلي أَو لَا يعْطى مائَة ضعف مثله الْآن فِي هَذَا الزَّمَان من الْبيُوت والأخوة وَالْأَخَوَات والأمهات وَالْأَوْلَاد والفدادين مَعَ التَّبعَات وَفِي الْعَالم الْآتِي الْحَيَاة الدائمة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا موعد كَاذِب مَضْمُون لَا يُمكن الْوَفَاء بِهِ وهبك أَنهم يخرجُون هَذَا على أَنه يعوض هَذَا من أهل دينه أَوْلَادًا وإخوة وأخوات وَأُمَّهَات كَيفَ الْحِيلَة فِي وعده من آمن بِهِ وَترك مَاله أَن يعوض عَن الفدان الَّذِي يتْركهُ مائَة فدان وَعَن الْبَيْت مائَة بَيت الْآن عَاجلا فِي الدُّنْيَا سوى مَاله فِي الْآخِرَة وَهَذَا كَمَا ترى
فصل وَفِي الْبَاب الْعَاشِر من إنجيل مارقش أَن رجلا قَالَ للمسيح أَيهَا الْمعلم الصَّالح فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح لم تَقول لي صَالح الله هُوَ الصَّالح وَحده وَفِي التَّاسِع من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا الرَّاعِي الصَّالح فَمرَّة ينكران يكون صَالحا وَأَن لَا صَالحا إِلَّا الله وَمرَّة يَقُول أَنه صَالح وكل هَذَا كذب عَلَيْهِ من توليد هَؤُلَاءِ الأنذال
فصل فِي آخر إنجيل مارقش أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه اذْهَبُوا إِلَى جَمِيع الدُّنْيَا وبشروا جَمِيع الْخَلَائق بالإنجيل فَمن آمن وَاعْتمد يكون سالما وَمن لم يُؤمن يُعَاقب وَهَذِه الْآيَات تصْحَب الَّذين يُؤمنُونَ وَهِي سِيمَاهُمْ على أسمى ينفون الْجِنّ ويتكلمون باللغات الجديدة ويقلعون الثعابين وَإِن شربوا شربة قتالة لن تَضُرهُمْ ويضعون أَيْديهم على المرضى فينقهون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل أعجوبتان من الْكَذِب إِحْدَاهمَا قَوْله بشروا بالإنجيل فَدلَّ هَذَا على إنجيل أَتَاهُم بِهِ الْمَسِيح وَلَيْسَ هُوَ عِنْدهم الْآن وَإِنَّمَا عِنْدهم أناجيل أَرْبَعَة مُتَغَايِرَة من تأليف أَرْبَعَة رجال معروفين لَيْسَ مِنْهَا إنجيل الا ألف بعد رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بأعوام كَثِيرَة ودهر طَوِيل فصح أَن ذَلِك الْإِنْجِيل الَّذِي أخبر الْمَسِيح بِأَنَّهُ أَتَاهُم بِهِ وَأمرهمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ قد ذهب عَنْهُم لأَنهم لَا يعرفونه أصلا هَذَا مَا لَا يُمكن سواهُ والفصل الثَّانِي قَوْلهم أَنه وعد كل من آمن بِدُعَاء التلاميذ فَإِنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ بلغات لم يعرفوها وَأَنَّهُمْ ينفون الْجِنّ عَن المجانين وَأَنَّهُمْ يضعون أَيْديهم على المرضى فينقهون وَأَنَّهُمْ يقلعون الثعابين وَإِن شربوا شربة قتالة لَا تَضُرهُمْ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا وعد ظَاهر الْكَذِب جهاراً مَا مِنْهُم أحد يتَكَلَّم بلغَة لم يعلمهَا وَلَا مِنْهُم أحد يَنْفِي جنياً وَلَا مِنْهُم أحد يضع يَده على مَرِيض فَيبرأ وَلَا مِنْهُم أحد يقْلع ثعباناً وَلَا مِنْهُم أحد يسْقِي السم فَلَا يُؤْذِيه وهم معترفون بِأَن يوحنا صَاحب الْإِنْجِيل قتل بالسم وحاشى لله أَن يَأْتِي نَبِي بمواعيد خاسئة كَاذِبَة فَكيف إِلَه فاعلموا أَن الأنذال الَّذين كتبُوا هَذِه الأناجيل كَانَ أسهل شَيْء عَلَيْهِم نِسْبَة الْكَذِب إِلَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام
فصل وَبعد هَذَا الْفَصْل مُتَّصِلا بِهِ والرب لما أَن تكلم بِهَذَا قبض إِلَى السَّمَاء وَجلسَ(2/48)
عَن يَمِين الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا شرك أَحمَق رب يقبض أَن هَذَا الْعجب وَرب يجلس عَن يَمِين الله هَذَانِ ربان وإلهان الْوَاحِد أجل من الثَّانِي لِأَن المقعود عَن يَمِينه أَسْنَى مرتبَة من المقعد على الْيَمين بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل وَفِي أول إنجيل لوقا أَن نَفرا قبلنَا راموا وصف الْأَشْيَاء الَّتِي كملت فِينَا كَالَّذي دلنا عَلَيْهِ معشر الَّذين عاينوا الْأَمر وَكَانُوا حَملَة الحَدِيث فَرَأَيْت أَن أقفوا آثَارهم من أَوله على التجويد وأكتبه لَك أَيهَا الْكَرِيم لِأَن تفهم حق الْكَلَام الَّذِي عَلمته واطلعت عَلَيْهِ وَأَنت بِهِ ماهر هَذَا يبين أَن الأناجيل تواريخ مؤلفة كَمَا ترى بِنَصّ كَلَام لوقا
فصل وَفِي أول إنجيل لوقا الَّذِي هُوَ تَارِيخه الْمُؤلف فِي أَخْبَار الْمَسِيح قَالَ لوقا كَانَ بعد هردوس وَالِي بلد يهود كوهن يَدعِي زَكَرِيَّا من دولة أبجا وَزَوجته من بَنَات هَارُون تسمى اليشبات ثمَّ ذكر كلا مَا فِيهِ مَجِيء جِبْرَائِيل الْملك عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام أم الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه قَالَ لَهَا فِي جملَة كَلَام كثير وَقد حبلت اليشبات قرينتك على تقدمها فِي السن وعقرها فَأخْبر أَن اليشبات هارونية وَأَنَّهَا قريبَة لِمَرْيَم فعلى هَذَا فمريم أَيْضا هارونية وَالنَّصَارَى كلهم متفقون على مَا فِي جَمِيع الأناجيل من إِن الْمَسِيح هُوَ ابْن دَاوُد من نسل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْهَا يورثه الله ملك أَبِيه دَاوُد وَأَن الْعمي والمباطين والمرضى والمجانين وَالْجِنّ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ يَا بن دَاوُد فَلَا يُنكر ذَلِك عَلَيْهِم وَلَا يخْتَلف النَّصَارَى وَالْيَهُود فِي أَن الْمَسِيح المنتظر هُوَ من ولد دَاوُد والمسيح مَعَ هَذَا كُله قد أنكر فِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل مَتى كَمَا أوردنا قبل أَن يكون الْمَسِيح من ولد دَاوُد فَكيف هَذَا الِاخْتِلَاط والتلون وَمَعَ هَذَا كُله فَلَا نرى على مَا ذكرنَا أَن تنسبه النَّصَارَى إِلَّا إِلَى أَنه ولد يُوسُف النجار الداوودي الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه كَانَ زوج مَرْيَم وَهَذِه طامة وسوءة لَا يدارى لَهَا وَجه أَن ينسبوه إِلَى رجل لم يلده(2/49)
وَأَقل مَا فِي هَذَا الْكَذِب الَّذِي هُوَ فِي الدُّنْيَا عَار وبرهان على الضلال وَفِي الْآخِرَة نَار ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّانِي من إنجيل لوقا فَلَمَّا دخل أَبُو الْمَسِيح بِهِ الْبَيْت ليقربا عَنهُ مَا أمرا بِهِ أَخذه شَمْعُون فِي يَدَيْهِ وَبعد ذَلِك فِي الْبَاب الْمَذْكُور وَكَانَ أَبَوَاهُ مُخْتَلفين إِلَى أورشلام كل سنة أَيَّام الفصح فَلَمَّا بلغ ثِنْتَيْ عشرَة سنة وَصعد إِلَى أورشلام على حَال سنتهما فِي يَوْم الْعِيد وَهَبَطَ عِنْد انقراضه بَقِي يسوع فِي أورشلام وَجَهل ذَلِك أَبَوَاهُ وظناه فِي الطَّرِيق مُقبلا فسارا يومهم وهما يطلبانه عِنْد الْأَقَارِب والإخوان فَلَمَّا لم يجداه انصرفا إِلَى أورشلام طَالِبين لَهُ فوجداه فِي الثَّالِث قَاعِدا مَعَ الْعلمَاء فِي الْبَيْت وَهُوَ يسمع مِنْهُم ويكاشفهم فَكَانَ يعجب مِنْهُ كل من سَمعه وَمن يرَاهُ من حسن حَدِيثه وَحسن مُرَاجعَته فَقَالَت لَهُ أمه لم أشخصتنا يَا بني وَقد طَلَبك أَبوك وَأَنا مَعَه محزونين فَقَالَ لَهما لم طلبتماني أتجهلان أَنه يجب عَليّ مُلَازمَة أَمر أبي فَلم يفهما عَنهُ جَوَابه فَانْطَلق مَعَهُمَا إِلَى ناصرة وَكَانَ يطوع لَهما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَيفَ يُطلق لوقا وَهُوَ عِنْدهم أجل من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُوسُف النجار وَالِد الْمَسِيح فِي غير مَوضِع ويكرر ذَلِك كَأَنَّهُ يحدث بِحَدِيث مَعْهُود أم كَيفَ تَقول مَرْيَم لابنها طَلَبك أَبوك تَعْنِي زَوجهَا بزعمكم وَكَيف يكون أَبَاهُ وَلَا أَب لَهُ وَإِنَّمَا يُطلق هَذَا الْإِطْلَاق مني الربيب فِيمَن يعرف أَبوهُ فَيُقَال لَهُ أَبوك عَن ربيبه بِمَعْنى كافله لِأَنَّهُ لَا إِشْكَال فِيهِ وَأما من لَا أَب لَهُ من بني آدم فإطلاق الْأُبُوَّة فِيهِ على زوج أمه إِشْكَال وتلبيس وتطريق إِلَى الْبلَاء أم كَيفَ تبقى مَرْيَم الْعَذْرَاء مَعَ زَوجهَا بزعمهم فض الله أَفْوَاههم أَزِيد من ثَلَاث عشرَة سنة كَمَا يبقي الرجل مَعَ امْرَأَته يغلقان عَلَيْهِمَا بَابا وَاحِدًا أم كَيفَ يَصح مَعَ هَذَا عِنْد هَؤُلَاءِ أَنه مَوْلُود من غير ذكر أَيْن هَذَا الزُّور المفتري من النُّور المقتفي قَول الله حَقًا فِي وحيه النَّاطِق إِلَى رَسُوله الصَّادِق الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه حَيْثُ قَالَ {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سوياً قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقياً قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكياً قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغياً قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين ولنجعله آيَة للنَّاس وَرَحْمَة منا وَكَانَ أمرا مقضياً فَحَملته فانتبذت بِهِ مَكَانا قصياً فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسياً منسياً} إِلَى قَوْله {قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فرياً يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوءٍ وَمَا كَانَت أمك بغياً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا}(2/50)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْحق الْوَاضِح الَّذِي يصدق بعضه بَعْضًا لَا الْكَذِب المتناقض وَهَذَا الَّذِي لَا يُمكن سواهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَهَا زوج لم يُنكر أحد وِلَادَتهَا وَلَو لم يقم برهَان بِكَلَامِهِ فِي المهد لما جَازَ عندنَا وَلَا عِنْد أحد من النَّاس أَنَّهَا حملت بِهِ من غير ذَلِك ولكان ذَلِك دَعْوَى كَاذِبَة لَا يجوز أَن يصدقها أحد لَا سِيمَا مَعَ زعمهم أَنَّهَا سكنت مَعَ زَوجهَا أَزِيد من ثَلَاثَة عشر عَاما فِي بَيت وَاحِد يهديان عِنْد وِلَادَته مَا يهدي الأبوان من الْيَهُود بِحكم التَّوْرَاة عَن ابنيهما وَتقول لَهُ أمه هَذَا أَبوك وَفعل أَبوك ثمَّ أَطَم من هَذَا إقرارهم بِأَن لَهُ أَرْبَعَة إخْوَة ذُكُور شَمْعُون ويهوذا وَيَعْقُوب ويوسف وأخوات ثمَّ لَا يذكرُونَ للنجار امْرَأَة غير مَرْيَم تكون هَؤُلَاءِ الْأَوْلَاد للنجار من تِلْكَ الْمَرْأَة وَهَذِه فضيحة الدَّهْر وقاصمة الظّهْر وَمُطلق السّنة الْقَائِلين أَنَّهَا أَتَت بِهِ من زوج أَو من عهر وحاشا لله من ذَلِك يصحح هَذَا كُله أَنهم مدسوسون من عِنْد الْيَهُود لإفساد مذاهبهم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
فصل
وَفِي الْبَاب الرَّابِع من إنجيل لوقا وَكَانَت الْعَامَّة تشهد لَهُ وتعجب لقَوْله وَمَا كَانَ يوصيهم بِهِ وَكَانَت تَقول أما هَذَا ابْن يُوسُف النجار فَقَالَ لَهُم نعم قد علمت أَنكُمْ ستقولون لي يَا طَبِيب داو نَفسك وَافْعل فِي موضعك كَمَا بلغنَا أَنَّك فعلته بِكفْر ناحوم أَمِين أَقُول لكم أَنه لَا يقبل أحد من الْأَنْبِيَاء فِي مَوْضِعه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل ثَلَاث عظائم أَحدهَا قَوْلهم لَهُ أما هَذَا ابْن يُوسُف فَقَالَ نعم فَهَذَا تَحْقِيق أَنه ولد النجار وحاشى لله من ذَلِك وَالثَّانيَِة اعترافه واتفاقهم على أَنه لم يَأْتِ بِآيَة بِحَضْرَة الْجَمَاعَة وَإِنَّمَا ذكر أَنه أَتَى بِالْآيَاتِ فِي القفار وَالثَّالِثَة وَهِي الْحق قَوْله لَهُم أَنه نَبِي وَهَذَا الَّذِي أفلت من تبديلهم وأبقاه الله عز وَجل حجَّة عَلَيْهِم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل لوقا أَن الْمَسِيح قَالَ من قَالَ شَيْئا فِي ابْن الْإِنْسَان يغْفر لَهُ وَمن سبّ روح الْقُدس لَا يغْفر لَهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا إبِْطَال لقَولهم كَاف لِأَن ابْن الْإِنْسَان عِنْد هَؤُلَاءِ هُوَ روح الْقُدس نَفسه وَنَصّ كَلَام الْمَسِيح هَاهُنَا يبين أَنَّهُمَا شيئآن متغايران أَحدهمَا يغْفر لمن سبه وَالْآخر لَا يغْفر لمن سبه وَهَذَا بَيَان رَافع للإشكال جملَة فَإِن كَانَ الْمَسِيح هُوَ ابْن الْإِنْسَان فَلَيْسَ هُوَ روح(2/51)
الْقُدس أصلا بِنَصّ كَلَامه وَإِن كَانَ هُوَ روح الْقُدس فَلَيْسَ هُوَ ابْن الْإِنْسَان كَذَلِك أَيْضا وَلَئِن كَانَ ابْن الْإِنْسَان هُوَ روح الْقُدس فقد كذب الْمَسِيح إِذْ فرق بَينهمَا فَجعل أَحدهمَا يغْفر لمن سبه وَالْآخر لَا يغْفر لمن سبه وَفِي هَذَا كِفَايَة
فصل
وَفِي الْبَاب الموفى عشْرين من إنجيل لوقا فَلَمَّا بلغُوا إِلَى الْموضع الَّذِي يَدعِي الأجرد صلبوه فِيهِ وصلبوا مَعَه السارقين العائثين عَن يَمِينه وشماله فَقَالَ يسوع يَا أبتاه اغْفِر لَهُم لأَنهم يجهلون مَا يصنعون وَلَا يَدْرُونَ فعلهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل شنعتان عظيمتان على النَّصَارَى كافيتان فِي وساخة دينهم وَبَيَان فَسَاد كل مَا هم عَلَيْهِ جهاراً أَولهَا أَن نسألهم فَنَقُول لَهُم الْمَسِيح إِلَه عنْدكُمْ أم لَا فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَإلَى من دَعَا وَرفع طلبته فَإِن كَانَ دَعَا غَيره فَهُوَ إِلَه يَدْعُو إِلَهًا آخر وَهَذَا شرك وتغاير بَين الْآلهَة وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَإِن كَانَ دَعَا نَفسه فَهَذَا هوس إِنَّمَا حكمه أَن يَقُول قد غفرت لكم وَهُوَ يصرحون فِي الأناجيل بِأَنَّهُ يغْفر ذنُوب من شَاءَ فَأَيْنَ كَانَ عَن هَذِه الصّفة إِذْ دَعَا إِلَهًا غَيره وَالثَّانيَِة أَن يُقَال لَهُم هَل أجيبت دَعوته هَذِه أم لَا فَإِن قَالُوا لم تجب دَعوته قُلْنَا فَلَيْسَ فِي الخزي أَكثر من إِلَه يَدْعُو فَلَا يُسْتَجَاب لَهُ وَلَا فِي النحس فَوق هَذَا وعَلى هَذَا فَمَا بِيَدِهِ من الربوبية إِلَّا كذنب ثَوْر شارد فِي جدور كَمَا بيد سَائِر المخلوقين يَدْعُو فيجاب مرّة وَلَا يُجَاب مرّة وَإِن قَالُوا بل أجيبت دَعوته قُلْنَا لَهُم فاعلموا أَنكُمْ وأسلافكم كلكُمْ فِي سبكم الْيَهُود الَّذين صلبوه ظَالِمُونَ لَهُم وَكَيف يسْتَحلُّونَ سبّ قوم قد غفر لَهُم إلههم وَأسْقط عَنْهُم الْمَلَامَة فِي صلبهم لَهُ أما لكم عقول تعرفُون بهَا مِقْدَار مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الضلال الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَالم أحد على مثله بل كل ضَلَالَة فَهِيَ دونه فَإِن قيل وَمَا أنكرتم من هَذَا وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى دَعَا الْكفَّار إِلَى الْإِيمَان فَلم يُجِيبُوهُ قُلْنَا نعم فَكَانُوا عصاة وَالله تَعَالَى لم يرد كَون الْإِيمَان مِنْهُم إِنَّمَا أَمرهم أَمر تعجيز فأخبرونا أَنْتُم من هُوَ الْمَدْعُو لَهُم ليغفر لَهُم فنجيبه أَو نعصيه وَلَا مخلص من هَذَا
فصل
وَفِي آخر إنجيل لوقا أَنه بعد صلبه ترَاءى لِرجلَيْنِ من تلاميذه وهما لَا يعرفانه فَقَالَ لَهما مَا هَذَا الَّذِي تخوضان فِيهِ وتحزنان لَهُ فَقَالَ أَحدهمَا وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّي كلوباش أَنْت وَحدك غَرِيب بيرشلام إِذْ تجْهَل مَا كَانَ بهَا هَذِه الْأَيَّام فَقَالَ لَهما وَمَا ذَلِك فَقَالَا لَهُ من خبر يسوع الناصري الَّذِي كَانَ نَبيا مقتدراً فِي أَفعاله وَكَلَامه عِنْد الله وَعند النَّاس وَكَيف اجْتمع قواد القسيسين على قَتله وصلبه إِلَى آخر كَلَامهمَا وَأَنه قَالَ لَهما يَا جهال وَيَا من عجزت عَن فهم(2/52)
مقَالَة الْأَنْبِيَاء قُلُوبهم أما كَانَ هَذَا وَاجِبا أَن يلقاه الْمَسِيح وَبعد ذَلِك يبلغ إِلَى عَظمته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابه يَقُولُونَ أَنه كَانَ نَبيا عِنْد الله وَعند النَّاس وَهُوَ يسمع بزعمهم وَلَا يُنكر ذَلِك فَهَلا قَالُوا فِيهِ هَكَذَا لقد طمس الشَّيْطَان أبصار قُلُوبهم ولوي ألسنتهم عَن أَن يَقُولُوا ذَلِك وَلَا مرّة فِي الدَّهْر بل يكذبونه أَشد التَّكْذِيب وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
فصل
وَفِي إنجيل مَتى ومارقش ولوقا أَنه قبل أَخذه سجد ودعا وَقَالَ يَا أبي كل شَيْء عنْدك مُمكن فاعفني من هَذِه الكأس لَكِن لَا أسأَل إرادتي لَكِن إرادتك زَاد لوقا فِي إنجيله قَالَ فتراءى لَهُ ملك السَّيِّد معزيا لَهُ فَأطَال صلَاته حَتَّى سَالَ الْعرق مِنْهُ وتساقطت نقطه كتساقط نقط الدَّم إِذا انسكب فِي الأَرْض وَفِي إنجيل مَتى ومارقش أَنه صَاح بِأَعْلَى صَوته وَهُوَ مصلوب إلهي إلهي لم اسلمتني ثمَّ فاضت نَفسه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فيا للنَّاس أهذه صفة إِلَه وَهل يحْتَاج الْإِلَه إِلَى ملك يعزيه وَهل يَدْعُو الْإِلَه فِي أَن يصرف عَنهُ كأس الْمنية وإله يعرق من صعوبة الْحَال إِذا أَيقَن بِالْمَوْتِ وإله يُسلمهُ إِلَه أَفِي الْحمق شَيْء يفوق هَذَا فَإِن قَالُوا لنا إِنَّمَا هَذَا كُله خبر عَن الطبيعة الناسوتية قُلْنَا لَهُم أَنْتُم تَقولُونَ فِي كل هَذَا فعل الْمَسِيح وَقَالَ الْمَسِيح والمسيح عنْدكُمْ طبيعتان ناسوتية ولاهوتية وَعند اليعقوبية مِنْكُم طبيعة وَاحِدَة وكلكم تَقولُونَ أَن اللاهوت اتَّحد بالناسوت فَأنْتم كَذبْتُمْ وَأَنْتُم طرقتم إِلَى هَذَا وَأَنْتُم أضفتم كل هَذَا إِلَى اللاهوت وَإِنَّمَا كَانَ الْحق على أصلكم هَذَا الملعون أَن تَقولُوا فعل نصف الْمَسِيح وَقَالَ نصف الْمَسِيح فعلى كل حَال فعلى كل حَال قد كَذبْتُمْ وسخفتم فِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل
فصل
وَفِي أول إنجيل يوحنا وَهُوَ أعظم الأناجيل كفرا وأشدها تناقضاً وأتمها رعونة فَأول كلمة فِيهِ فِي البدء كَانَت الْكَلِمَة والكلمة كَانَت عِنْد الله وَالله كَانَ الْكَلِمَة بهَا خلقت الْأَشْيَاء وَمن دونهَا لم يخلق شَيْء فَالَّذِي خلق فَهُوَ حَيَاة فِيهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع بأعظم سخفاً وَأتم تناقضاً من هَذَا الْكَلَام كَيفَ تكون الْكَلِمَة هِيَ الله وَتَكون عِنْد الله فَالله إِذا كَانَ عِنْد نَفسه ثمَّ قَوْله أَن الَّذِي خلق بِالْكَلِمَةِ هُوَ حَيَاة فِيهَا فعلى هَذَا حَيَاة الله مخلوقة فَروح الْقُدس على نَص كَلَام هَذَا الرجل مَخْلُوق لِأَن روح الْقُدس عِنْد جَمِيعهم هُوَ حَيَاة الله وَهَذَا خلاف قَول جَمِيع النَّصَارَى لِأَن الْحَيَاة الَّتِي فِي الْكَلِمَة مخلوقة بِنَصّ كَلَام يوحنا وَالله بِنَصّ كَلَام يوحنا هُوَ الْكَلِمَة وَهَذَا هدم لملة النَّصَارَى من قرب أَطَم من هَذَا كُله إِذْ كَانَت حَيَاة الْكَلِمَة مخلوقة والكلمة هِيَ الله فَالله حَامِل لأعراض مخلوقة فِيهِ فاعجبوا ثمَّ اعجبوا وَبعد هَذَا الْفَصْل على مَا نورد إِن شَاءَ الله تَعَالَى والكلمة كَانَت بشرا مَعَ قَوْله الْكَلِمَة هِيَ الله فَالله بشر على نَص كَلَام هَذَا النذل يوحنا عَلَيْهِ من الله اللعائن المتواترة(2/53)
فصل
وَبعد ذَلِك ذكر الْمَسِيح فَقَالَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَبِه خلقت الدُّنْيَا وَلم يعرفهُ أهل الدُّنْيَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا من الْحمق المزور كَيفَ يكون فِي الدُّنْيَا وَبِه خلقت الدُّنْيَا لَئِن كَانَ إِلَهًا كَمَا يَقُولُونَ فَهُوَ خلق الدُّنْيَا وَلَا يجوز أَن تخلق بِهِ وَإِن كَانَ إِنَّمَا بِهِ خلقت الدُّنْيَا وَلم يخلقها هُوَ فَلَيْسَ هُوَ إلاهاً وَلَا خَالِقهَا وَإِنَّمَا هُوَ آلَة من الْآلَات خلقت الدُّنْيَا بِهِ وحاشى لله أَن يخلق بِآلَة لَكِن كَمَا قَالَ فِي وحيه النَّاطِق إِلَى رَسُوله الصَّادِق الَّذِي لَا يتناقض كَلَامه وَلَا يتعارض اخباره {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَأَيْنَ يجْتَمع قَوْله هَاهُنَا إِن بِهِ خلقت الدُّنْيَا مَعَ الْكَذِب الَّذِي يضيفونه إِلَى الْمَسِيح من أَنه قَالَ بزعمهم أَنا أخلق وَأبي يخلق وَإِن لم أعمل كَمَا يعْمل أبي فَلَا تصدقوني حاشى لله من أَن يَقُول نَبِي هَذَا الْكَذِب وَهَذَا الْحمق إِذا كَانَ يكونَانِ إِلَهَيْنِ متغايرين اثْنَيْنِ كل وَاحِد مِنْهُمَا غير الآخر وكل وَاحِد مِنْهُمَا يخلق كَمَا يخلق الْأُخْرَى ثمَّ مرّة هُوَ إِلَه يخلق وَمرَّة آلَة يخلق بِهِ أَلا هَذَا هُوَ الضلال الْمُبين والخبال المتين
فصل
وَبعد ذَلِك قَالَ فَمن يقلهُ مِنْهُم وآمن باسمه أَعْطَاهُم سُلْطَانا أَن يَكُونُوا أَوْلَاد الله أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الَّذين لم يتوالدوا من دم وَلَا من شَهْوَة اللَّحْم وَلَا باءة رجل لَكِن تَوَالَدُوا من الله فالتحمت الْكَلِمَة والكلمة كَانَت بشرا وسكنت فِينَا ورأينا عظمتها كعظمة ولد الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا الْفَصْل من الْكفْر مَا لَو انْهَدَمت الْجبَال مِنْهُ لَكَانَ غير نَكِير نسْأَل الله الْعَافِيَة أَيهَا النَّاس فتأملوا قَول هَذَا النذل أَن الْمُؤمنِينَ بالمسيح هم أَوْلَاد الله فالنصارى إِذا كلهم أَوْلَاد الله فَأَي منزلَة للمسيح عَلَيْهِم إِذْ هُوَ ولد الله وهم أَوْلَاد الله ثمَّ اعجبوا لقَوْل هَذَا المستخف المستهزئ بالسفلة الَّذين قلدوا دينهم مثله إِن الْمُؤمنِينَ بالمسيح لم يتوالدوا من دم وَلَا من شَهْوَة لحم وَلَا باءة الرجل لَكِن تَوَالَدُوا من الله هَكَذَا هم هَكَذَا فَكيف تولد يوحنا من سيذاي وَامْرَأَته الْأَحْيَاء مَا هَذَا إِلَّا من عَظِيم المجاهرة بِالْبَاطِلِ وَالْكذب فَإِن قَالُوا هَذَا مجَاز قُلْنَا مجَاز فِي مَاذَا بل هُوَ الْكَذِب البحت الْبَارِد والحمق وَهَذَا نَفسه قُلْتُمْ عَن الْمَسِيح فَمَا الْفرق بَين الْقَوْلَيْنِ وَلَعَلَّ ذَلِك أَيْضا مجَازًا كَمَا هُوَ مجَاز مَا رَأينَا قطّ أَحمَق من هَؤُلَاءِ وَلَا أوقح من خدودهم ثمَّ اعجبوا لقَوْله فالتحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فَكيف تصير الْكَلِمَة لَحْمًا وَقد قَالَ إِنَّهَا هِيَ الله فَالله إِذا صَار لَحْمًا ودماً وَسكن فِي أُولَئِكَ الأقذار وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
فصل
ثمَّ قَالَ إِثْر هَذَا إِن الله لم يره أحد قطّ مَا عدا مَا وصف عَنهُ الْوَلَد الَّذِي هُوَ فِي حجر أَبِيه(2/54)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا عجب آخر قد قَالَ آنِفا إِن الْكَلِمَة هِيَ لله وَأَنَّهَا التحمت وَصَارَت لَحْمًا ودما وسكنت فيهم فَالله عز وَجل على قَوْلهم صَار لَحْمًا وَسكن فيهم فَكيف لم يره أحد ثمَّ قَوْله إِلَّا مَا وصف عَنهُ الْوَلَد الْفَرد الَّذِي هُوَ فِي حجر أَبِيه فَوَجَبَ من هَذَا أَن الْوَلَد هُوَ غير الْأَب لِأَن من الْمحَال الْمُمْتَنع أَن يكون الله فِي حجر نَفسه فصح ضَرُورَة أَن الابْن عِنْدهم على نُصُوص الأناجيل هُوَ غير الْأَب وهم لَا يثبتون على هَذَا بل مرّة هُوَ وَالْأَب عِنْدهم شَيْء وَاحِد وكل هَذَا مَنْصُوص فِي أَنَاجِيلهمْ وكل قَضِيَّة مِنْهَا تكذب الْأُخْرَى فَكلهَا كذب بِلَا شكّ ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَفِي الْبَاب الأول من إنجيل يوحنا إِذْ ذكر شهاه يحيى بن زَكَرِيَّا إِذْ بعث إِلَيْهِ الْيَهُود من برشلام الكهنة واللاوانيين وكاشفوه عَن نَفسه فَأقر وَلم يجْحَد وَقَالَ لَهُم لست أَنا الْمَسِيح قَالُوا أيراك الياس قَالَ لَا قَالُوا فَأَنت نَبِي قَالَ لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كَيفَ يكون هَذَا مَعَ قَول الْمَسِيح فِي إنجيل مَتى ومارقش كَمَا أوردنا قبل أَن كل نبوة وكل كتاب فمنتهاها إِلَى يحيى وَقَوله فِيهِ أَنه أَكثر من نَبِي فَمرَّة هُوَ نَبِي وانتهت إِلَيْهِ كل نبوة وَمرَّة هُوَ أَكثر من نَبِي وَمرَّة يَقُول هُوَ عَن نَفسه أَنه لَيْسَ نَبيا فَلَا بُد ضَرُورَة من الْكَذِب فِي إِحْدَى هَذِه الْأَقْوَال وحاشى لله أَن يكذب الْمَسِيح وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام لَكِن كذب وَالله النذلان مَتى الشرطي ويوحنا الْعيار
فصل
وَبعده فِي الْبَاب نَفسه قَالَ وَيَوْما آخر رأى يحيى الْمَسِيح مُقبلا إِلَيْهِ فَقَالَ هَذَا صَار خروف الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه طامة أُخْرَى بَيْنَمَا كَانَ كلمة الله وَابْن الله وإلهاً يخلق صَار خروف الله وحاشى لله أَن يُضَاف إِلَيْهِ خروف إِلَّا على سَبِيل الْخلق وَالْملك إِنَّمَا يُضَاف الخروف إِلَى من يَتَّخِذهُ للْأَكْل أَو الذّبْح أَو لمن يربيه للعجلة أَو لصبي يلْعَب بِهِ ويصبغه بالحنا وَتَعَالَى الله عز وَجل عَن كل هَذَا فصح أَنَّهَا من عمل عيار مستخف ونعوذ بِاللَّه من الضلال
فصل
وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب نَفسه أَن يحيى بن زَكَرِيَّا قَالَ عَن عِيسَى شهِدت بِأَن هَذَا سليل الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد شهِدت أَنا بنفسي وعقلي وجسدي بِشَهَادَة الله التَّامَّة أَن هَذِه كذبة كذبهَا اللعين يوحنا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَابْن رَسُوله يحيى بن زَكَرِيَّا وَأَن الله تَعَالَى وَجل عَن أَن يكون لَهُ سليل وأعجب شَيْء نسبتهم إِلَى يحيى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي الْمَسِيح هَذَا خروف الله هَذَا سليل الله وَإِنَّمَا الخروف سليل النعجة والكبش اللَّهُمَّ الْعَن هَؤُلَاءِ الأنتان فَمَا سمعنَا بأعظم اسْتِخْفَافًا بِاللَّه تَعَالَى وبرسله عَلَيْهِم السَّلَام مِنْهُم(2/55)
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل يوحنا أَن يحيى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ عَن الْمَسِيح قد رَضِي الْأَب عَن الْوَلَد وبرىء إِلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاء وَفِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل يوحنا أَيْضا وَلِهَذَا كَانَت الْيَهُود تُرِيدُ قَتله لِأَنَّهُ لَيْسَ كَانَ يفْسخ عَلَيْهِم سنة السبت فَقَط لكنه كَانَ يَدعِي الله أَبَا وَيُسَوِّي نَفسه بِهِ وَبعده بِيَسِير أَن الْمَسِيح قَالَ كَمَا يحيي الْأَب الْمَوْتَى ويقيمهم كَذَلِك يحيي الابْن من وَافقه وَمَا يحكم الْأَب على أحد لِأَنَّهُ يرد الحكم إِلَى سليله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه الطامة أنست كل طامة سلفت وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه كَيفَ ينْطَلق لِسَان أحد بِهَذَا الْكفْر الْفَاحِش الفظيع من أَن الله تَعَالَى قد اعتزل الحكم فَلَا يحكم على أحد لِأَنَّهُ برىء بالحكم وبجميع الْأَشْيَاء إِلَى وَلَده حاش لله من هَذَا إِنَّمَا عهدنا هَذَا من فعل الْمُلُوك إِذا شاخوا وضعفوا وَأَرَادُوا الِانْفِرَاد لراحاتهم ولذاتهم وترتيب الْأَمر لأولادهم لِئَلَّا ينازعهم الْأَمر بعدهمْ غَيرهم فَحِينَئِذٍ يسلمُونَ الْأَمر إِلَيْهِم فِي الظَّاهِر وَأما فِي الْبَاطِن فَلَا هَذَا كفر مَا قَدرنَا أحد أَن ينْطَلق بِهِ لِسَانه حَتَّى سمعناه من قبل هَذَا الْكَافِر يوحنا لَعنه الله وَالْحَمْد لله على عَظِيم نعْمَته علينا كثيرا
فصل
وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب الْخَامِس من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ فَكَمَا احتوى الْأَب الْحَيَاة فِي ذَاته كَذَلِك ملك وَلَده الاحتواء على الْحَيَاة فِي ذَاته وَأَعْطَاهُ سُلْطَانا وَملكه الْحُكُومَة وَالسُّلْطَان والحياة كَمَا هِيَ للْأَب لِأَنَّهُ ابْن الْإِنْسَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع قطّ بأسخف من هَذِه الْمقَالة إِذْ أخبر أَن من أجل إِن الْمَسِيح هُوَ ابْن الْإِنْسَان ساواه الله بِنَفسِهِ وَهَذَا كُله يُوجب أَنه غير الله وَلَا بُد لِأَن الْمُعْطِي المملك هُوَ غير الْمُعْطِي المملك بِلَا شكّ
فصل
وَبعده بِيَسِير فِي الْبَاب نَفسه أَن الْمَسِيح قَالَ وَلَا أقوى أَن أفعل من ذاتي شَيْئا لَكِن أحكم بِمَا اسْمَع وحكمي عدل لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي إِلَّا إِرَادَة أبي الَّذِي بَعَثَنِي فَإِن كنت أشهد لنَفْسي فَإِن شهادتي غير مَقْبُولَة وَلَكِن غَيْرِي يشْهد لي وَفِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ إِنَّمَا نزلت من السَّمَاء لأتم إِرَادَة أبي الَّذِي بَعَثَنِي لَا إرادتي وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَنه قَالَ الْمَسِيح لَيْسَ علمي لي لَكِن للَّذي بَعَثَنِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لَو أجبتموني لعرجتم بمسيري إِلَى الْأَب لِأَن الْأَب أكبر مني
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل فِي الْعُبُودِيَّة والتذلل بِالْحَقِّ لله تَعَالَى أَكثر من هَذَا وَكَيف يجْتَمع هَذ الْكَلَام مَعَ الَّذِي قبله بأسطار من من أَنه مسَاوٍ لله وَأَن الله لَا يحكم بعد على أحد لَكِن يبرأ بالحكم كُله إِلَى وَلَده أما فِي هَذِه المناقضات السخيفة عِبْرَة لمن اعْتبر ثمَّ عجب آخر قَوْله هَاهُنَا إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي غير مَقْبُولَة ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب السَّابِع من إنجيل(2/56)
يوحنا إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي حق فاعجبوا لهَذَا الِاخْتِلَاط وَهَكَذَا ذكر فِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَن جمَاعَة من تلاميذه لما سمعُوا هَذِه الْأَقْوَال المختلطة ارْتَدُّوا وفارقوه كَمَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل
وَفِي الْبَاب السَّادِس من إنجيل يوحنا أَنه لما أطْعم الْخَمْسَة آلَاف إِنْسَان من خمس خبز وحوتين وَفضل من شبعهم اثْنَتَا عشرَة سلة من خبز قَالَ الْجَمَاعَة هَذَا النَّبِي حَقًا فيا للعجب هلا قَالُوا فِيهِ مثل هَذَا القَوْل وَلَو مرّة وَاحِدَة
فصل
ثمَّ ذكر فِي السَّادِس الْمَذْكُور أَنه أَتَى بِكَلَام كثير لَا يعقل من جملَته أَنه قَالَ لَهُم أَمِين أَقُول لكم لَئِن لم تَأْكُلُوا لحم ابْن الْإِنْسَان وتشربوا دَمه لن تنالوا الْحَيَاة الدائمة فِيكُم فَمن أكل لحمي وَشرب دمي ينَال الْحَيَاة الدائمة وَأَنا أقيمه يَوْم الْقِيَامَة فلحمي هُوَ طَعَام صَادِق وَدمِي شراب صَادِق فَمن أكل لحمي وَشرب دمي كَانَ فِي وَكنت فِيهِ ثمَّ ذكر يوحنا أَنه قَالَ جمَاعَة من التلاميذ هَذَا كَلَام شاق وَمن أجل ذَلِك ارْتَدَّ جمَاعَة من التلاميذ وذهبوا عَنهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا الْكَلَام وسواس صَحِيح لَا يَقُوله إِلَّا مختلط وَقد أعاذ الله نبيه مِنْهُ
فصل
وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَن إخْوَة يسوع قَالُوا اذْهَبْ إِلَى بلد يهوذا وَأخرج من هَاهُنَا تلاميذك عجايبك الَّتِي تطلع فَلَيْسَ يختفي أحد بِفعل يُرِيد أَن يطلع عَلَيْهِ فَإِذا كنت تُرِيدُ لتعاين هَذَا فَاطلع عَليّ نَفسك أهل الدُّنْيَا وَكَانُوا إخْوَته لَا يُؤمنُونَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَفِي هَذَا أَنه كَانَ يختفي بمعجزاته كَمَا نرى
فصل
وَفِي الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَنه أَتَى إِلَى الْمَسِيح بِامْرَأَة قد زنت فَلم يُوجب عَلَيْهَا شَيْئا وأطلقها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم على خلاف هَذَا فقد زوروا الْمَسِيح وجوروه أَو فليشهدوا على أنفسهم بالجور وَالظُّلم
فصل
وَفِي آخر الْبَاب السَّابِع من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا لَا أحكم على أحد وَإِن حكمت فحكمي عدل لِأَنِّي لست وحيداً وَلَكِنِّي أَنا وَأبي الَّذِي بَعَثَنِي وَقيل فِي توراتكم أَن شَهَادَة رجلَيْنِ مَقْبُولَة فَإِنِّي أؤدي الشَّهَادَة عَن نَفسِي وَيشْهد لي الَّذِي بَعَثَنِي
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَيْت شعري كَيفَ يجْتَمع هَذَا الْفَصْل مَعَ الَّذِي أوردنا فِي الْبَاب الثَّالِث من إنجيل يوحنا أَيْضا من أَن الله تَعَالَى لَا يحكم بعد على أحد لِأَنَّهُ قد برأَ بالحكم كُله إِلَى وَلَده الْمَسِيح
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّامِن من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم أَنا رجل أتيت إِلَيْكُم الْحق الَّذِي سمعته عَن الله فَهَذَا إِقْرَاره بِأَنَّهُ رجل يُؤَدِّي مَا سمع فَقَط مَعَ استشهادهم فِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل مَتى بقول شعيا النَّبِي فِي الْمَسِيح من أَن الله تَعَالَى قَالَ فِيهِ هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي تخيرته فصح أَنه نَبِي من الْأَنْبِيَاء وَعبد الله(2/57)
فصل
وَفِي الْبَاب التَّاسِع من إنجيل يوحنا أَن الْيَهُود قَالُوا الْمَسِيح لسنا نرجمك لعمل صَالح إِلَّا للشتيمة ولادعائك الربوبية وَأَنت إِنْسَان فَقَالَ لَهُم الْمَسِيح أما قد كتب فِي كتابكُمْ الزبُور حَيْثُ يَقُول أما قُلْتُمْ آلِهَة وَبَنُو الْعلي كلكُمْ فَإِن كَانَ سمى الله الَّذِي كَلمهمْ آلِهَة وَلَا سَبِيل إِلَى تَحْرِيف الْكتاب وتبديله فَلم تَقولُونَ فِيمَن بَارك الله عَلَيْهِ وَبَعثه إِلَى الدُّنْيَا أَنه شتم إِذا قلت أَنِّي ابْن الله إِن كنت لَا أفعل أَفعَال أبي فَلَا تصدقوني إِلَى قَوْله لِتَعْلَمُوا أَنِّي فِي الْأَب وَالْأَب فِي وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا أَن بلش الْحوَاري قَالَ للمسيح يَا سيدنَا أرنا الْأَب وَيَكْفِينَا فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح طول هَذَا الزَّمَان كنت مَعكُمْ وَلم تعرفوني يَا بلش من رَآنِي فقد رأى الْأَب فَكيف تَقول أَنْت أرنا الْأَب أَلَيْسَ تؤمن أَنِّي أَنا فِي الْأَب وَأَن الْأَب هُوَ فِي فَكيف هَذَا مَعَ قَول يوحنا الَّذِي ذكرنَا فِي أول إنجيله أَن الْأَب لم يره أحد قطّ
فصل
وَفِي الْبَاب الْحَادِي عشر من إنجيل يوحنا الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه أَنا فِي أبي وَأَنْتُم فِي وَأَنا فِيكُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِذا كَانَ هُوَ فِي الْأَب وَالْأَب فِيهِ وَهُوَ فِي التلاميذ والتلاميذ فِيهِ فالأب فِي التلاميذ والتلاميذ فِي الْأَب ضَرُورَة فَأَي مزية لَهُ عَلَيْهِم وَهل هُوَ وهم إِلَّا سَوَاء فِي كَونه وكونهم فِي الله وَكَون الله فيهم وَفِيه ثمَّ هَذَا الْكَلَام لَا يعقل وَلَا يفهم مِنْهُ إِلَّا الاستخفاف وَالْكفْر فَقَط لِأَنَّهُ إِن كَانَ فيهم بِذَاتِهِ فقد صَارُوا لَهُ مَكَانا وَصَارَ تَعَالَى محدوداً وَهَذِه صفة الْمُحدث وَإِن كَانَ فيهم بتدبيره فَهَكَذَا يدبر فِي كل حَيّ وميت وكل جماد وكل عرض وَلَا فرق وَلَا فَضِيلَة فِي هَذَا أصلا
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّانِي عشر من إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ لَهُم لست أسميكم بعد عبيد الْآن العَبْد لَا يدْرِي مَا يصنع سَيّده قد سميتكم إخْوَانًا وَفِي آخر الْبَاب الْمَذْكُور أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا من الله خرجت وَمن الْأَب انبثقت فَفِي أحد هذَيْن الْفَصْلَيْنِ أَن التلاميذ قد أعتقوا من عبودية الْبَارِي وَأَنَّهُمْ إخوانه وَهُوَ خرج من الله وَمِنْه انبثق فهم كَذَلِك أَيْضا فَأَي مزية لَهُ عَلَيْهِم مَعَ سخف هَذَا الْكَلَام وَأَنه لَا يدْرِي هَذَا الانبثاق معنى أصلا والانبثاق لَا يكون إِلَّا من الْأَجْسَام ضَرُورَة
فصل
وَفِي الْبَاب الثَّالِث عشر من إنجيل يوحنا فِي أَوله أَن الْمَسِيح قَالَ رَافعا عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا أبتاه قد آن الْوَقْت فشرف ولدك لكيما يشرفك ولدك ويعده بِيَسِير أَن الْمَسِيح قَالَ لله أَنا شرفتك على الأَرْض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه مُصِيبَة الدَّهْر لم يقنعوا للمسيح بنبوة الله حَتَّى وصفوه بمساواته لله تَعَالَى ثمَّ لم يقنعوا بمساواته لله تَعَالَى حَتَّى قَالُوا أَن الله تَعَالَى قد أنزل لَهُ عَن الحكم وَلَيْسَ يحكم على أحد وَأَنه قد برِئ بِالْملكِ وَالْحكم كُله إِلَى الْمَسِيح ثمَّ لم يقنعوا لَهُ بالعزلة والخمول حَتَّى جعلُوا الْمَسِيح يشرف الله(2/58)
تَعَالَى يَا للنَّاس هَل سَمِعْتُمْ بأعظم من هَذَا الْكفْر وَالله وَالله قطعا مَا قَالَ هَذَا الْكَلَام قطّ مُؤمن بِاللَّه أصلا وَمَا كَانُوا إِلَّا دهرية مستخفين رقعاء فَعَلَيْهِم أَضْعَاف كل لعنة لعنها الله تَعَالَى من سواهُم من الْكَفَرَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي إنجيل يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ أَنا أميت نَفسِي وَأَنا أحييها فليت شعري كَيفَ يُمكن ان يحي نَفسه وَهُوَ ميت قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ سَبْعُونَ فصلا فِي أَنَاجِيلهمْ من كذب بحت ومناقضة لَا حِيلَة فِيهَا وَمِنْهَا فُصُول يجمع الْفَصْل مِنْهَا ثَلَاث كذبات فاقل على قلَّة مِقْدَار أَنَاجِيلهمْ وَجُمْلَة أَمرهم فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه مرّة بِنَصّ أَنَاجِيلهمْ ابْن الله وَمرَّة هُوَ ابْن يُوسُف وَابْن دَاوُد وَابْن الْإِنْسَان وَمرَّة هُوَ إِلَه يخلق ويرزق وَمرَّة هُوَ خروف الله وَمرَّة هُوَ فِي الله وَالله فِيهِ وَمرَّة هُوَ فِي تلاميذه فِيهِ وَمرَّة هُوَ علم الله وَقدرته وَمرَّة لَا يحكم على أحد وَلَا ينفذ إِرَادَته وَمرَّة هُوَ نَبِي وَغُلَام الله وَمرَّة أسلمه الله إِلَى أعدائه وَمرَّة قد انْعَزل الله لَهُ عَن الْملك وتولاه هُوَ وَصَارَ يشرف الله تَعَالَى وَيُعْطِي مَفَاتِيح السَّمَوَات لباطرة ويولي أَصْحَابه خطة التَّحْرِيم ولتحليل فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمرَّة يجوع وَيطْلب مَا يَأْكُل ويعطش وَيشْرب ويعرق من الْخَوْف ويلعن الشَّجَرَة إِذا لم يجد فِيهَا تيناً يَأْكُلهُ ويفشل ويركب حِمَاره وَيُؤْخَذ ويلطم وَجهه وَيضْرب رَأسه بالقصبة ويزق فِي وَجهه وَيضْرب ظَهره بالسياط ويميته الشَّرْط ويتهكمون بِهِ ويسقي الْخلّ فِي الحنظل ويصلب بَين سارقين ويسمر يَدَاهُ وَمَات فِي السَّاعَة وَدفن ثمَّ يحيى بعد الْمَوْت وَلم يكن لَهُ هم إِذْ حيى بعد الْمَوْت وَاجْتمعَ بِأَصْحَابِهِ إِلَّا طلب مَا يَأْكُل فأطعموه الْخبز والحوت المشوي وسقوه الْعَسَل ثمَّ انْطلق إِلَى شغله هَذَا كُله نَص أَنَاجِيلهمْ وهم قد اقتصروا فِي دينهم من هَذَا كُله على أَنه آلَة معبود فَقَط وهم ينفون من إِلَه مَعَ الله وَأَنَاجِيلهمْ وأماناتهم توجب أَن الْمَسِيح آلَة آخر غير الله بل يقْعد عَن يَمِين الله وَأَنه أكبر مِنْهُ وَهُوَ يخلق كَمَا يخلق وَيحيى كَمَا يحي الله والضرورة توجب أَنهم قَائِلُونَ بآلهين وَلَا بُد متغايرين ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
ذكر بعض مَا فِي كتبهمْ غير الأناجيل من الْكَذِب وَالْكفْر والهوس
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ يوحنا بن سيذاي فِي إِحْدَى رسائله الثَّلَاث يَا أحبائي نَحن الْآن أَوْلَاد الله وَلم يظْهر بعد مَا نَحن كائنون وَقد نعلم أَنه إِذا ظهر سَيكون أَمْثَالًا لَهُ لأننا نرَاهُ كَمَا هُوَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَفِي الْكفْر أعظم من كفر هَذَا الْكذَّاب أَنهم أَوْلَاد الله وَأَنَّهُمْ سيكونون مثل الله إِذا ظهر وَقَالَ هَذَا الْمعِين فِي كتاب الْوَحْي والإعلان أَنه رأى الله عز وَجل شَيخا أَبيض الرَّأْس واللحية وَرجلَاهُ من لاطون والمسيح يقْرَأ بَين يَدَيْهِ فِي كتاب من ذهب وَالْمَلَائِكَة يَقُولُونَ هَذَا خروف الرب والأسواق قَائِمَة بَين يَدَيْهِ الْقَمْح كَذَا وَكَذَا قَفِيزا(2/59)
بِدِينَار وَالْخمر كَذَا وَكَذَا قسطاً بِدِينَار وَالزَّيْت كَذَا وَكَذَا قسطاً بِدِينَار فَهَل هَذَا إِلَّا هزل وعيارة وتماجن وتطايب وَقَالَ شَمْعُون فِي إِحْدَى رسائله يَوْمئِذٍ يَأْتِي الرب كمجيء اللص فلعمري لقد شبه ربه تشبها هُوَ أولى بِهِ وَلَا مُؤنَة على هذَيْن الكلين وعَلى يهوذا وَيَعْقُوب اللعينين فِي رسائلهم الفارغة من كل خير الْبَارِدَة المملوءة من كل كفر وهوس أَن يَقُولُوا قَالَ الله وَالِد رَبنَا الْمَسِيح وَفعل الله وَالِد سيدنَا الْمَسِيح كَأَنَّهُمْ وَالله إِنَّمَا يخبرون عَن نسب من الْأَنْسَاب وولادة من الولادات وَقَالَ بولس اللعين فِي إِحْدَى رسائله وَهِي الَّتِي إِلَى أهل غلاربه فِي الْبَاب السَّادِس نشْهد لكل إِنْسَان يختن أَنه يلْزمه أَن يحفظ شرايع التَّوْرَاة كلهَا وَقَالَ أَيْضا قبل ذَلِك إِن اختتنتم فَإِن الْمَسِيح لَا ينفعكم فاعجبوا لهَذَا وَاعْلَمُوا أَنه قد ألزمهم دينين أما من كَانَ مختوناً فَإِن شرايع التَّوْرَاة كلهَا تلْزمهُ وَلَا يَنْفَعهُ الْمَسِيح وَأما من كَانَ غير مختون فالمسيح بنفعه وَلَا يلْزمه شراءع التَّوْرَاة وَهُوَ وَسَائِر التلاميذ كَانُوا بِإِجْمَاع من النَّصَارَى مختونين كلهم فَوَجَبَ أَن الْمَسِيح لَا ينفهم وَأَن شرائع الْيَهُود كلهَا لَهُم لَازِمَة وَأكْثر من بَين أظهر الْمُسلمين مِنْهُم الْيَوْم مختونون وَإِن كَانَ بولس صَادِقا فَإِن الْمَسِيح لَا يَنْفَعهُمْ وَأَن شرائع التَّوْرَاة كلهَا لَهُم لَازِمَة وَإِن كَانَ بولس كَاذِبًا فِي ذَلِك فَكيف يَأْخُذُونَ دينهم عَن الْكذَّاب وَلَا بُد من إِحْدَاهمَا وَقَالَ أَيْضا فِي إِحْدَى رسائله أَن يوحنا بن سيذاي وَيَعْقُوب بن يُوسُف النجار وباطرة أَمرُوهُ أَن يكون هُوَ يَدْعُو إِلَى ترك الْخِتَان وَيَكُونُونَ هم يدعونَ إِلَى الْخِتَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا غير طَرِيق التَّحْقِيق فِي الدُّعَاء إِلَى الدّين وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَة حِيلَة وإضلال مينية لَا حَقِيقَة لَهَا وَقَالَ بولس إِن يَعْقُوب ابْن يُوسُف النجار كَانَ مرائياً يتحفظ من مداخلة الْأَجْنَاس بِحَضْرَة الْيَهُود وَأَن بولس واجهه بذلك فِي أنطاكية وعنفه على ذَلِك أفيجوز أَخذ الدّين عَن مراء مُدَلّس وَقَالَ هَذَا اللعين بولس أَيْضا فِي إِحْدَى رسائله أَن يسوع بَيْنَمَا كَانَ فِي صُورَة الله لم يغتنم أَن يكون مُسَاوِيا لله بل أذلّ نَفسه وَلبس صُورَة عبد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل سمع قطّ بأوحش من هَذَا الْكفْر وأحمق من هَذَا الْكَلَام أَو أسخف من هَذَا الِاخْتِيَار وَهل يتذلل الْإِنْسَان وَيحمل كل بلَاء فِي الدُّنْيَا إِلَّا ليصل إِلَى رضى الله تَعَالَى فَقَط فليت شعري هَل بعد الْوُصُول إِلَى مُسَاوَاة الله تَعَالَى عِنْد هَؤُلَاءِ الأقذار منزلَة تبتغي فيرفضها الْمَسِيح لينال أَعلَى مِنْهَا اللَّهُمَّ قد ذكرنَا تِلْكَ الْمنزلَة وَهِي الَّتِي وصفهَا يوحنا اللعين فِي إنجيله من أَن الله تَعَالَى عَن كفرهم اعتزل عَن الْملك وَالْحكم وولاهما الْمَسِيح وتبرأ إِلَيْهِ بِكُل شَيْء ثمَّ إِن الْمَسِيح شرفه الله تَعَالَى عَن ذَلِك اللَّهُمَّ الْعَن عقولاً يجوز فِيهَا هَذَا الْحمق وَقَالَ هَذَا النذل فِي بعض رسائله إِنِّي كنت أَتَمَنَّى أَن أكون محروماً من الْمَسِيح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَيْت شعري من ضغطه وَمَا الْمَانِع لَهُ من أَن يكفر بالمسيح فَيبلغ مناه وَيصير محروماً مِنْهُ وَوَاللَّه أَنه لمرحوم مِنْهُ بِلَا شكّ وَقَالَ هَذَا النذل بولس أَيْضا فِي بعض رسائله(2/60)
الخسيسة الْيَهُود يطْلبُونَ الْآيَات واليونانيون يطْلبُونَ الْحِكْمَة وَنحن نشرع أَن الْمَسِيح صلب وَهَذَا القَوْل عِنْد الْيَهُود فتْنَة وَعند الْأَجْنَاس جهل وَنقص وَعند المختنين من الْيَهُود واليونانيين أَن الْمَسِيح علم الله وَقدرته لِأَن مَا كَانَ جهلا عِنْد الله هُوَ أحكم مَا يكون عِنْد النَّاس وَمَا هُوَ ضَعِيف عِنْد الله هُوَ أقوى مَا يكون عِنْد النَّاس
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَل فِي بَيَان قحة هَذَا النذل وسخريته لمن اتبعهُ وَتَحْقِيق مَا تدعيه الْيَهُود من أَن أسلافهم دسوا هَذَا الرذل بولس لإضلال أَتبَاع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر من هَذَا القَوْل فِي إِبْطَاله الْآيَات وَالْحكم وَقَوله إِن أحكم مَا يكون عِنْد النَّاس هُوَ الْجَهْل عِنْد الله فمحصول هَذَا الْكَلَام اتْرُكُوا الْعقل وموجبه واطلبوا الْحمق وتدينوا بِهِ نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَقَالَ بولس أَيْضا فِي بعض رسائله إِنَّه لَا تبقى دَعْوَة كَاذِبَة فِي الدّين أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُوَ عِنْدهم لعنهم الله أصدق من مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن كَانَ صَادِقا فَمَا يحْتَاج مَعَهم إِلَى برهَان فِي صِحَة دين الْإِسْلَام ونبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى هَذَا فَإِن لهَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعمِائَة عَام ونيفاً وَخمسين عَاما ظَاهِرَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فيلزمهم أَن يرجِعوا إِلَى الْحق أَو يكذبوا بولس بشيرهم وَقَالَ بعض من يعظمونه من أسلافهم وَهُوَ يوحنا فَم الذَّهَب بطريارك الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي كتاب لَهُ مَعْرُوف عِنْدهم أَن الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم وبسببها أخرج من الْجنَّة كَانَت شَجَرَة تين وَأَن الله تَعَالَى أنزل تِلْكَ الشَّجَرَة بِعَينهَا إِلَى الأَرْض وَهِي الَّتِي دَعَا الْمَسِيح عَلَيْهَا فيبست إِذْ طلب فِيهَا تيناً يَأْكُلهُ فَلم يجده وَهِي نَفسهَا الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا قَالَ وبرهان ذَلِك أَنَّك لَا تَجِد غاراً إِلَّا وعَلى فَمه شَجَرَة تين نابتة فاعجبوا لهَذَا الْهزْل والعيارة والمجون والبرهان البديع وَاعْلَمُوا أَنهم بأجمعهم متفقون على أَن يصوروا فِي كنائسهم صُورَة يَقُولُونَ هِيَ صُورَة الْبَارِي عز وَجل وَعلا وَأُخْرَى صُورَة الْمَسِيح وَأُخْرَى صُورَة مَرْيَم وَصُورَة باطرة وَصُورَة بولس والصليب وَصُورَة جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل وَصُورَة إسْرَافيل ثمَّ يَسْجُدُونَ للصورة سُجُود عبَادَة وَيَصُومُونَ لَهَا تديناً وَهَذَا هُوَ عبَادَة الْأَوْثَان بِلَا شكّ والشرك الْمَحْض وهم يُنكرُونَ عبَادَة الْأَوْثَان ثمَّ يعبدونها عَلَانيَة وحجتهم فِي هَذَا حجَّة عبَادَة نفسا وَهِي أَنهم يَتَقَرَّبُون بذلك إِلَى أَصْحَاب تِلْكَ الصُّور لَا إِلَى الصُّور بِأَعْيَانِهَا وَاعْلَمُوا أَنهم لم يزَالُوا بعد الْمَسِيح بأزيد من مائَة عَام يَصُومُونَ فِي شهر كانون الآخر إِثْر عيد الحجيج أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُتَّصِلَة ثمَّ يفطرون ثمَّ يعيدون الفصح مَعَ الْيَهُود اقْتِدَاء بالمسيح إِلَى أَن أبطل ذَلِك عَلَيْهِم خَمْسَة من البطاركة أَجمعُوا على ذَلِك ونقلوا صِيَامهمْ وفصحهم إِلَى مَا هم عَلَيْهِ الْيَوْم فَكيف ترَوْنَ هَذَا الدّين وَلعب أَهله بِهِ وحكمهم بِأَن مَا مضى عَلَيْهِ الْمَسِيح والحواريون ضلال وَكفر وَلَا يَخْتَلِفُونَ أصلا فِي أَن شرائعهم كلهَا إِنَّمَا هِيَ من عمل أساقفتهم وملوكهم عَلَانيَة فَهَل تطيب نفس من بِهِ مسكة عقل(2/61)
على أَن يبْقى سَاعَة على دين هَذِه صفته فَكيف أَن يلقى الله تَعَالَى على دين يقر بِلِسَانِهِ وَيعلم بِقَلْبِه أَنه لَيْسَ من عِنْد الله تَعَالَى وَلَا مِمَّا أَتَى بِهِ نَبِي ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَمن عَظِيم هوسهم وَقَوْلهمْ كلهم أَن الْمَسِيح أَتَى ليَأْخُذ بجراحته آلامنا وبكلومه ذنوبنا وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة السخف لَيْت شعري أَي ألم أَخذ بجراحته أم كَيفَ تُؤْخَذ ذنُوب النَّاس بكلوم الْمَسِيح مَا نراهم إِلَّا يألمون ويذنبون كَمَا يألم غَيرهم وَلَا فرق وَمن فضائحهم دَعوَاهُم أَن هلاني وَالِدَة قسطنطين أول من تنصر من مُلُوك الرّوم وَذَلِكَ بعد أَزِيد من ثلاثماية عَام من رفع الْمَسِيح وجدت الْخَشَبَة الَّتِي صلب فِيهَا الْمَسِيح والشوك الَّذِي جعل على رَأسه وَالدَّم الَّذِي طَار من جنبه والمسامير الَّتِي ضربت فِي يَده فليت شعري أَيْن وجدوا هَذَا السخام كُله وَأهل ذَلِك الدّين كُله مطرودون مقتولون حَيْثُ وجدوا وَالْمَدينَة خَالِيَة أَزِيد من مِائَتي عَام لَا أنيس بهَا ثمَّ من لَهُم بِأَنَّهَا تِلْكَ وَأَيْنَ يبْقى أثر الدَّم ومسامير وَشَوْك وخشبة تِلْكَ الْمدَّة الْعَظِيمَة فِي الْبِلَاد الخالية المقفرة وَلَا شكّ فِي أَنه إِذْ صلب كَمَا يَقُولُونَ كَانَ أَصْحَابه مختفين وأعداؤه لَا يلتفتون إِلَى أمره أَيكُون فِي السخف أعظم من هَذَا وَمَا عُقُولهمْ إِلَّا كعقول من يصدق بالعنقاء وَبِكُل مَا لَا يُمكن وَاعْلَمُوا أَن كل مَا يَدعُونَهُ لباطرة ويوحنا ومرقش وبولس من المعجزات فَإِنَّهَا أكذوبات مَوْضُوعَة لِأَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لم يَكُونُوا من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام ومذ تنصر بولس إِلَّا مطلوبين مشردين مضروبين كالزنادقة مستترين وَقد ذكر بولس عَن نَفسه أَن الْيَهُود ضربوه خمس مَرَّات بالقضبان كل مرّة تسعا وَثَلَاثِينَ جلدَة وَأَنه رجم بِالْحِجَارَةِ فِي جمع عَظِيم وتدلى من سُورَة دمشق فِي قفة خوف الْقَتْل وَمَعَ ذَلِك تظاهروا بدين الْيَهُود إِلَى أَن صلبوا وَقتلُوا إِلَى لعنة الله وَلَا يجوز أَن تصح معْجزَة إِلَّا بِنَقْل كَافَّة عَن مثلهَا مِمَّن شَاهد ذَلِك ظَاهرا وَلَكِن دَعْوَى النَّصَارَى ذَلِك لمن ذكرنَا ولغيرهم من أسلافهم معْجزَة كدعوى المانية لماني بِسَوَاء فَإِنَّهُ لم يزل مسترا إِلَّا شهوراً يسيرَة إِذْ اختدعه بهْرَام بن بهْرَام الْملك حَتَّى ظفر بِهِ وبأصحابه فَقَتلهُمْ كلهم وكدعوى الْيَهُود لأحبارهم السالفين ولرؤس السبت المعجزات بالصناعات وكدعوى أَصْحَاب الحلاج للحلاج وكدعوى طوائف من الْمُسلمين مثل ذَلِك من المعجزات لشيبان الرَّاعِي ولإبراهيم بن أدهم وَلأبي مُسلم الْخَولَانِيّ ولعَبْد الله ابْن الْمُبَارك رَحْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم من الصَّالِحين وكل ذَلِك كذب وتوليد من لَا خير فِيهِ وإحالة على أَشْيَاء مغيبة لَا يعجز عَن ادِّعَاء مثلهَا أحد وكل طَائِفَة مِمَّن ذكرنَا تعَارض دَعْوَاهَا بِدَعْوَى سَائِر الطوائف وَلَا سيبل إِلَى الْفرق بَين شَيْء من هَذِه الدعاوي وَقد قُلْنَا لَا يُمكن الْبَتَّةَ وجود معْجزَة إِلَّا لنَبِيّ فَقَط ثمَّ لَا تصح إِلَّا بِنَقْل يقطع الْعذر وَيُوجب الْعلم للْكَافِرِ وَالْمُؤمن إِلَّا من كَابر حسه وغالط نَفسه وَقَالَ هَذَا سحر فَقَط وَكَذَلِكَ مَا اغْترَّ بِهِ كثير من جهالهم مِمَّا(2/62)
رَأَوْا من عظم اجْتِهَاد رهبانهم أَصْحَاب الصوامع والديارات والمطوس عَلَيْهِم أَبْوَاب الْبيُوت فليعلموا أَنه لَيْسَ عِنْدهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة إِلَّا جُزْء من أَجزَاء كَثِيرَة مِمَّا عِنْد المنانية وَشدَّة اجتهادهم وَالَّذِي عِنْد الصابئين من ذَلِك أعظم فَإِنَّهُ يبلغ الْأَمر بهم إِلَى أَن يخصي الْوَاحِد نَفسه ويسمل عَيْني نَفسه اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَة وَالَّذِي عِنْد الهنود أَكثر من هَذَا كُله فَإِنَّهُم لَا يزالون يحرقون أنفسهم فِي النَّار تقرباً إِلَى البد وَلَا يزالون يرْمونَ أنفسهم من أعالي الْجبَال كَذَلِك فَأَيْنَ اجتهادٍ من اجْتِهَاد وَعباد الْهِنْد لَا يَمْشُونَ إِلَّا عُرَاة وَلَا يلتبسون من الدُّنْيَا بِشَيْء أصلا فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا لَو عقلوا وَلم ير قطّ أَشد جريمة من جَاهِل مقلد لَا سِيمَا إِذا اتّفق أَن يكون سوداوياً ضَعِيفا وَإِن شِئْت فَتَأمل أساقفة النَّصَارَى وقسيسيهم وجتالقتهم تجدهم جفلة أفسق الْخلق وأزناهم وأجمعهم لِلْمَالِ لَا سَبِيل إِلَى أَن تَجِد مِنْهُم وَاحِدًا بِخِلَاف هَذَا وَكَذَلِكَ إِن اغتروا بصبر أوائلهم للْقَتْل على دينهم حَتَّى عمِلُوا لَهُم الشائنات إِلَى الْيَوْم فَإِن ذَلِك لَا يتَجَزَّأ من صَبر المنانية على الْقَتْل فِي الثَّبَات على دينهم وَمن صَبر دعاة القرامطة على الْقَتْل أَيْضا وكل هَذَا لَا يتعلل بِهِ إِلَّا جَاهِل سخيف مقلد متهالك وَإِنَّمَا الْحمق فِيمَا أوجبته براهين الْعُقُول الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى فِينَا لتمييز الْحق من الْبَاطِل ونبا بهَا عَن البهايم فَقَط ثمَّ فِي الِاعْتِدَال والاقتصار على مَا جَاءَ بِهِ صَاحب الشَّرِيعَة الَّتِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهَا عَن الله عز وَجل وجماع ذَلِك مَا جرى عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وَبعده عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبَقِي لَهما اعتراضان نذكرهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَحدهمَا إِن قَالُوا قَالَ الله عز وَجل فِي كتابكُمْ حِكَايَة عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ
من أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين
وَقَالَ تَعَالَى أَيْضا مُخَاطبا للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} قُلْنَا نعم هَذَا خبر حق ووعد صدق وَإِنَّمَا أخبر تَعَالَى عَن الْمُؤمنِينَ وَلم يسمهم وَلَا شكّ فِي أَن من ثَبت عَلَيْهِ الْكَذِب من باطرة ويوحنا وَمَتى ويهوذا وَيَعْقُوب لَيْسُوا مِنْهُم لكِنهمْ من الْكفَّار المدعين لَهُ الربوبية كذبا وَكفرا وَأما الموعودون بالنصر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْمُؤْمِنُونَ بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام فهم نَحن الْمُسلمُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ حَقًا وبنبوته ورسالته لَا من كفر بِهِ وَقَالَ أَنه كَذَّاب وَقَالَ أَنه إِلَه أَو ابْن إِلَه تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَالثَّانِي إِن قَالُوا إِن فِي كتابكُمْ {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَفِيه {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر} فَهَلا قُلْتُمْ فِيمَا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل كَمَا تَقولُونَ فِيمَا فِي كتابكُمْ قُلْنَا بَين الْأَمريْنِ فرق بَين كَمَا بَين قطبي الْفلك وَذَلِكَ أَن الَّذِي فِي الْقُرْآن ظَاهر لَا يحْتَاج فِيهِ(2/63)
إِلَى تَأْوِيل إِنَّمَا معنى وَجَاء رَبك ويأتيهم الله هُوَ أَمر مَعْلُوم فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن مشهود فِيهَا تَقول جَاءَ الْملك وأتانا الْملك وَإِنَّمَا أَتَى جَيْشه وسطوته وَأمره فَلَيْسَ فِيمَا تلوتم أَمر يُنكر وَلَيْسَ كَذَلِك مَا كتبنَا فِي توراتكم وأناجيلكم من التكاذب والتناقض وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واعترضوا أَيْضا بِأَن قَالُوا كَيفَ تحققون نقلكم لكتابكم وَأَنْتُم مُخْتَلفُونَ أَشد الِاخْتِلَاف فِي قراءتكم لَهُ وبعضكم يزِيد حروفاً كَثِيرَة وبعضكم يُسْقِطهَا فَهَذَا بَاب وَأَيْضًا فَإِنَّكُم تروون بأسانيد عنْدكُمْ فِي غَايَة الصِّحَّة أَن طوائف من أَصْحَاب نَبِيكُم عَلَيْهِ السَّلَام وَمن تابعيهم الَّذين تعظمون وتأخذون دينكُمْ عَنْهُم قرؤا الْقُرْآن بِأَلْفَاظ زَائِدَة ومبدلة لَا تستحلون أَنْتُم الْقِرَاءَة بهَا وَإِن مصحف عبد الله بن مَسْعُود خلاف مصحفكم وَأَيْضًا فَإِن طوائف من علمائكم الَّذين تعظمون وتأخذون عَنْهُم دينكُمْ يَقُولُونَ إِن عُثْمَان بن عَفَّان أبطل قراءات كَثِيرَة صَحِيحَة وأسقطها إِذْ كتب الْمُصحف الَّذِي جمعكم عَلَيْهِ وعَلى حرف وَاحِد من الأحرف السَّبْعَة الَّتِي أنزل بهَا الْقُرْآن عنْدكُمْ وَأَيْضًا فَإِن الروافض يَزْعمُونَ أَن أَصْحَاب نَبِيكُم بدلُوا الْقُرْآن وأسقطوا مِنْهُ وَزَادُوا فِيهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد كل هَذَا لَا مُتَعَلق لَهُم بِشَيْء مِنْهُ على مَا نبين بِمَا لَا إِشْكَال فِيهِ على أحد من النَّاس وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
أما قَوْلهم إننا مُخْتَلفُونَ فِي قِرَاءَة كتَابنَا فبعضنا يزِيد حروفاً وبعضنا يُسْقِطهَا فَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافا بل هُوَ اتِّفَاق منا صَحِيح لِأَن تِلْكَ الْحُرُوف وَتلك الْقرَاءَات كلهَا مبلغ بِنَقْل الكواف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا نزلت كلهَا عَلَيْهِ فَأَي تِلْكَ الْقرَاءَات قَرَأنَا فَهِيَ صَحِيحَة وَهِي محصورة كلهَا مضبوطة مَعْلُومَة لَا زِيَادَة فِيهَا وَلَا نقص فَبَطل التَّعَلُّق بِهَذَا الْفَصْل وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَأما قَوْلهم أَنه قد روى بأسانيد صِحَاح عَن طَائِفَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن التَّابِعين الَّذين نعظم ونأخذ ديننَا عَنْهُم قرءوا فِي الْقُرْآن قراءات لَا نستحل نَحن الْقِرَاءَة بهَا فَهَذَا حق وَنحن وَإِن بلغنَا الْغَايَة فِي تَعْظِيم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورضوان الله عَلَيْهِم وتقربنا إِلَى الله عز وَجل بمحبتهم فلسنا نبعد عَنْهُم الْوَهم وَالْخَطَأ وَلَا نقلدهم فِي شَيْء مِمَّا قَالُوهُ إِنَّمَا نَأْخُذ عَنْهُم مَا أخبرونا بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا هُوَ عِنْدهم بِالْمُشَاهَدَةِ وَالسَّمَاع لما ثَبت من عدالتهم وثقتهم وَصدقهمْ وَأما عصمتهم من الْخَطَأ فِيمَا قَالُوهُ برأى وبظن فَلَا نقُول بذلك وَلَو أَنكُمْ أَنْتُم فَعلْتُمْ كَذَلِك بأحباركم وأساقفتكم الَّذين بَيْنكُم وَبَين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَا عنفنا كم بل كُنْتُم على صَوَاب وَهدى متبعين للحق الْمنزل مجانبين للخطأ المهمل لَكِن لم تَفعلُوا هَكَذَا بل قلدتموهم فِي كل مَا شرعوه لكم فهلكتم فِي الدُّنْيَا والاخرة وَتلك الْقرَاءَات الَّتِي ذكرْتُمْ إِنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَة على الصاحب أَو التَّابِع فَهِيَ ضَرُورَة وهم من الصاحب وَالوهم لَا يعري(2/64)
مِنْهُ أحد بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَو وهم مِمَّن دونه فِي ذَلِك وَأما قَوْلهم أَن مصحف عبد الله ابْن مَسْعُود خلاف مصحفنا فَبَاطِل وَكذب وإفك مصحف عبد الله بن مَسْعُود إِنَّمَا فِيهِ قِرَاءَته بِلَا شكّ وقراءته هِيَ قِرَاءَة عَاصِم الْمَشْهُورَة عِنْد جَمِيع أهل الْإِسْلَام فِي شَرق الدُّنْيَا وغربها نَقْرَأ بهَا كَمَا ذكرنَا وبغيرها قد صَحَّ أَنه كُله منزل من عِنْد الله تَعَالَى فَبَطل تعلقهم بِهَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم إِن طَائِفَة من عُلَمَائِنَا الَّذين أَخذنَا عَنْهُم ديننَا ذكرُوا إِن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ إِذْ كتب الْمُصحف الَّذِي جمع النَّاس عَلَيْهِ أسقط سِتَّة أحرف من الأحرف الْمنزلَة وَاقْتصر على حرف مِنْهَا فَهُوَ مِمَّا قُلْنَا وَهُوَ ظن ظَنّه ذَلِك الْقَائِل أَخطَأ فِيهِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بل كل هَذَا بَاطِل ببرهان كَالشَّمْسِ وَهُوَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يَك إِلَّا وجزيرة الْعَرَب كلهَا مَمْلُوءَة بِالْمُسْلِمين والمصاحف والمساجد والقراء يعلمُونَ الصّبيان وَالنِّسَاء وكل من دب وهب واليمن كلهَا وَهِي فِي أَيَّامه مدن وقرى الْبَحْرين كَذَلِك وعمان كَذَلِك وَهِي بِلَاد وَاسِعَة مدن وقرى وملكها عَظِيم وَمَكَّة والطائف وَالْمَدينَة وَالشَّام كلهَا كَذَلِك والجزيرة كَذَلِك ومصر كلهَا كَذَلِك والكوفة وَالْبَصْرَة كَذَلِك فِي كل هَذِه الْبِلَاد من الْمَصَاحِف والقراء مَا لَا يحصي عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وَحده فَلَو رام عُثْمَان مَا ذكرُوا مَا قدر على ذَلِك أصلا وَأما قَوْلهم أَنه جمع النَّاس على مصحف فَبَاطِل مَا كَانَ يقدر على ذَلِك لما ذكرنَا وَلَا ذهب عُثْمَان قطّ إِلَى جمع النَّاس على مصحف كتبه إِنَّمَا خشِي رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْتِي فَاسق يسْعَى فِي كيد الدّين أَو أَن يهم وهم من أهل الْخَيْر فيبدل شَيْئا من الْمُصحف يفعل ذَلِك عمدا وَهَذَا وهما فَيكون اخْتِلَاف يُؤَدِّي إِلَى الضلال فَكتب مصاحف مجتمعاً عَلَيْهَا وَبعث إِلَى كل أفق مُصحفا لكَي إِن وهم واهم أَو بدل مبدل رَجَعَ إِلَى الْمُصحف الْمُجْتَمع عَلَيْهِ فانكشف الْحق وَبَطل الكيد وَالوهم فَقَط وَأما قَول من قَالَ أبطل الأحرف السِّتَّة فقد كذب من قَالَ ذَلِك وَلَو فعل عُثْمَان ذَلِك أَو أَرَادَهُ لخرج عَن الْإِسْلَام وَلما مطل سَاعَة بل الأحرف السَّبْعَة كلهَا مَوْجُودَة عندنَا قَائِمَة كَمَا كَانَت مثبوتة فِي الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة المأثورة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم فِي دَعْوَى الروافض تَبْدِيل الْقرَاءَات فَإِن الروافض لَيْسُوا من الْمُسلمين إِنَّمَا هِيَ فرق حدث أَولهَا بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخمْس وَعشْرين سنة وَكَانَ مبدؤها إِجَابَة من خذله الله تَعَالَى لدَعْوَة من كَاد الْإِسْلَام وَهِي طَائِفَة تجْرِي مجْرى الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الْكَذِب وَالْكفْر وَهِي طوائف أَشَّدهم غلواً يَقُولُونَ بإلهية عَليّ بن أبي طَالب والآلهية جمَاعَة مَعَه وَأَقلهمْ غلواً يَقُولُونَ إِن الشَّمْس ردَّتْ على عَليّ بن أبي طَالب مرَّتَيْنِ فقوم هَذَا أقل مَرَاتِبهمْ فِي الْكَذِب أيستشنع مِنْهُم كذب يأْتونَ بِهِ وكل من يزجره عَن الْكَذِب ديانَة أَو نزاهة نفس أمكنه أَن يكذب مَا شَاءَ وكل دَعْوَى بِلَا برهَان فَلَيْسَ يسْتَدلّ بهَا عَاقل سَوَاء كَانَت لَهُ أَو عَلَيْهِ وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نأتي بالبرهان الْوَاضِح الفاضح لكذب الروافض فِيمَا افتعلوه من ذَلِك(2/65)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِسْلَام قد انْتَشَر وَظهر فِي جَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من مُنْقَطع الْبَحْر الْمَعْرُوف ببحر القلزم ماراً إِلَى سواحل الْيمن كلهَا إِلَى بَحر فَارس إِلَى مُنْقَطِعَة ماراً إِلَى الْفُرَات ثمَّ على ضفة الْفُرَات إِلَى مُنْقَطع الشَّام إِلَى بَحر القلزم وَفِي هَذِه الجزيرة من المدن والقرى مَا لَا يعرف عدده إِلَّا الله عز وَجل كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مُضر وَرَبِيعَة وقضاعة والطائف وَمَكَّة كلهم قد أسلم وبنوا الْمَسَاجِد لَيْسَ مِنْهَا مَدِينَة وَلَا قَرْيَة وَلَا حلَّة لأعراب إِلَّا قد قَرَأَ فِيهَا الْقُرْآن فِي الصَّلَوَات وَعلمه الصّبيان وَالرِّجَال وَالنِّسَاء وَكتب وَمَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون كَذَلِك لَيْسَ بَينهم اخْتِلَاف فِي شَيْء أصلا بل كلهم أمة وَاحِدَة وَدين وَاحِد ومقالة وَاحِدَة ثمَّ ولي أَبُو بكر سنتَيْن وَسِتَّة أشهر فغزى فَارس وَالروم وَفتح الْيَمَامَة وزادت قِرَاءَة النَّاس لِلْقُرْآنِ وَجمع النَّاس الْمَصَاحِف كَأبي عمر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد وَأبي زيد وَابْن مَسْعُود وَسَائِر النَّاس فِي الْبِلَاد فَلم يبْق بلد إِلَّا وَفِيه الْمَصَاحِف ثمَّ مَاتَ رَضِي الله عَنهُ والمسلمون كَمَا كَانُوا لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي شَيْء اصر أمة وَاحِدَة ومقالة وَاحِدَة إِلَّا مَا حدث فِي آخر حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسسلم وَأول خلَافَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ من ظُهُور الْأسود الْعَنسِي فِي جِهَة صنعاء ومسيلمة فِي الْيَمَامَة يدعيان النُّبُوَّة وهما فِي ذَلِك مقران بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معلنان بذلك وَمن انقسام الْعَرَب وَمن بِالْيمن من غَيرهم أَرْبَعَة أَقسَام إِثْر مَوته عَلَيْهِ السَّلَام فطائفة ثبتَتْ على مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْإِسْلَام لم تبدل ولزمت طَاعَة أبي بكر وهم الْجُمْهُور وَالْأَكْثَر وَطَائِفَة بقيت على الْإِسْلَام أَيْضا إِلَّا أَنهم قَالُوا نُقِيم الصَّلَاة وشرايع الْإِسْلَام إِلَّا أَنا لَا نُؤَدِّي الزَّكَاة إِلَى أبي بكر وَلَا نعطي طَاعَة لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ هَؤُلَاءِ كثيرا إِلَّا أَنهم دون من ثَبت على الطَّاعَة وَيبين هَذَا قَوْله الحطيئة الْعَبْسِي ... أَطعْنَا رَسُول الله إِذْ كَانَ بَيْننَا ... فيالهفانا مَا بَال دين أبي بكر
أيورثها بكرا إِذا مَاتَ بعده ... فَتلك لعمر الله قاصمة الظّهْر
وَإِن الَّتِي طالبتم فمنعتم ... لكالتمر أَو أحلى لذِي من التَّمْر ...
يَعْنِي الزَّكَاة ثمَّ ذكر الْقَبَائِل الثَّابِتَة على الطَّاعَة فَقَالَ
... فباست بني سعد واسناه طيٌ ... وباست بني دودان حاشي بَين النَّضر ...
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَكِن وَالله باستاه بني نضر وباست الحطيئة حلت الدائرة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَطَائِفَة ثَالِثَة أعلنت بالْكفْر وَالرِّدَّة كأصحاب طليحة وسجاح وَسَائِر من ارْتَدَّ وهم قَلِيل بِالْإِضَافَة إِلَى من ذكرنَا إِلَّا أَن فِي كل قَبيلَة من الْمُؤمنِينَ من يُقَاوم الْمُرْتَدين فقد كَانَ بِالْيَمَامَةِ تمامة بن أَثَال الحتفي فِي طوايف من الْمُسلمين محاربين لمُسَيْلمَة وَفِي قوم الْأسود(2/66)
أَيْضا كَذَلِك وَفِي بني تَمِيم وَبني أَسد الْجُمْهُور من الْمُسلمين وَطَائِفَة رَابِعَة توقفت فَلم تدخل فِي أحد من الطوائف الْمَذْكُورَة وبقوا يتربصون لمن تكون الْغَلَبَة كمالك بن نُوَيْرَة وَغَيره فَأخْرج إِلَيْهِم أَبُو بكر الْبعُوث فَقتل مُسَيْلمَة وَقد كَانَ فَيْرُوز وذاذوية الفارسيان الفاضلان رَضِي الله عَنْهُمَا قتلا الْأسود الْعَنسِي فَلم يمض عَام وَاحِد حَتَّى رَاجع الْجَمِيع الْإِسْلَام أَوَّلهمْ عَن آخِرهم وَأسْلمت سجَاح وطليحة وَغَيرهم وَإِنَّمَا كَانَت نزغة من الشَّيْطَان كنار اشتعلت فأطفأها الله للْوَقْت ثمَّ مَاتَ أَبُو بكر وَولي عمر ففتحت بِلَاد الْفرس طولا وعرضاً وَفتحت الشَّام كلهَا والجزيرة ومصر كلهَا وَلم يبْق إِلَّا وبنيت فِيهِ الْمَسَاجِد وَنسخت فِيهِ الْمَصَاحِف وَقَرَأَ الْأَئِمَّة الْقُرْآن وَعلمه الصّبيان فِي الْمكَاتب شرفا وغرباً وَبَقِي كَذَلِك عشرَة أَعْوَام وأشهراً والمؤمنون كلهم لَا اخْتِلَاف بَينهم فِي شَيْء بل مِلَّة وَاحِدَة ومقالة وَاحِدَة وَإِن لم يكن عِنْد الْمُسلمين إِذْ مَاتَ عمر مائَة ألف مصحف من مصر إِلَى الْعرَاق إِلَى الشَّام إِلَى الْيمن فَمَا بَين ذَلِك فَلم يكن أقل ثمَّ ولي عُثْمَان فزادت الْفتُوح واتسع الْأَمر فَلَو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الْإِسْلَام مَا قدر وَبَقِي كَذَلِك اثْنَي عشر عَاما حَتَّى مَاتَ وبموته حصل الِاخْتِلَاف وَابْتِدَاء أَمر الروافض وَاعْلَمُوا أَنه لَو رام الْيَوْم أحد أَن يزِيد فِي شعر النَّابِغَة أَو شعر زُهَيْر كلمة أَو ينقص أُخْرَى مَا قدر لِأَنَّهُ كَانَ يفتضح الْوَقْت وتخالفه النّسخ المثبوتة فَكيف الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف وَهِي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودَان إِلَى آخر السَّنَد وكابل وخراسان وَالتّرْك والصقالبة وبلاد الْهِنْد فَمَا بَين ذَلِك فَظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بِالْكَذِبِ وَمِمَّا يبين كذب الروافض فِي ذَلِك أَن عَليّ بن أبي طَالب الَّذِي هُوَ عِنْد أَكْثَرهم إِلَه خَالق وَعند بَعضهم نَبِي نَاطِق وَعند سَائِرهمْ إِمَام مَعْصُوم مَفْرُوضَة طَاعَته ولي الْأَمر وَملك فَبَقيَ خَمْسَة أَعْوَام وَتِسْعَة أشهر خَليفَة مُطَاعًا ظَاهر الْأَمر سَاكِنا بِالْكُوفَةِ مَالِكًا للدنيا حاشى الشَّام ومصر إِلَى الْفُرَات وَالْقُرْآن يقْرَأ فِي الْمَسَاجِد فِي كل مَكَان وَهُوَ يؤم النَّاس بِهِ والمصاحف مَعَه وَبَين يَدَيْهِ فَلَو رأى فِيهِ تبديلاً كَمَا تَقول الرافضة وَكَانَ يقرهم على ذَلِك ثمَّ إِلَى ابْنه الْحسن هُوَ عِنْدهم كأبيه فَجرى على ذَلِك فَكيف يسوغ لهَؤُلَاء النوكي أَن يَقُولُوا أَن فِي الْمُصحف حرفا زَائِدا أَو نَاقِصا أَو مبدلاً مَعَ هَذَا وَلَقَد كَانَ جِهَاد من حرف الْقُرْآن وَبدل الْإِسْلَام أوكد عَلَيْهِ من قتال أهل الشَّام الَّذين إِنَّمَا خالفوه فِي رَأْي يسير رَأَوْهُ ورأي خلَافَة فَقَط فلاح كذب الرافضة ببرهان لَا محيد عَنهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذْكر صفة وُجُوه النَّقْل الَّذِي عِنْد الْمُسلمين لكتابهم وَدينهمْ لما نقلوه عَن أئمتهم حَتَّى يقف عَلَيْهِ الْمُؤمن وَالْكَافِر والعالم وَالْجَاهِل عيَانًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فيعرفون أَيْن نقل سَائِر الْأَدْيَان من نقلهم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن نقل الْمُسلمين لكل مَا ذكرنَا يَنْقَسِم أقساماً سِتَّة أَولهَا شَيْء يَنْقُلهُ أهل الْمشرق وَالْمغْرب عَن أمثالهم جيلاً جيلاً لَا يخْتَلف فِيهِ مُؤمن وَلَا كَافِر منصف غير معاند للمشاهد وَهُوَ الْقُرْآن الْمَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف فِي شَرق الأَرْض وغربها لَا يَشكونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب أُتِي بِهِ وَأخْبر أَن الله(2/67)
عز وَجل أوحى بِهِ إِلَيْهِ وَأَن من اتبعهُ أَخذه عَنهُ كَذَلِك ثمَّ أَخذ عَن أُولَئِكَ حَتَّى بلغ إِلَيْنَا وَمن ذَلِك الصَّلَوَات الْخمس فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا يشك أحد أَنه صلاهَا بِأَصْحَابِهِ كل يَوْم وَلَيْلَة فِي أَوْقَاتهَا الْمَعْهُودَة وصلاها كَذَلِك كل من اتبعهُ على دينه حَيْثُ كَانُوا كل يَوْم هَكَذَا إِلَى الْيَوْم لَا يشك أحد فِي أَن أهل السَّنَد يصلونها كَمَا يُصليهَا أهل الأندلس وَأَن أهل الأرمنية يصلونها كَمَا يُصليهَا أهل الْيمن وكصيام شهر رَمَضَان فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف كَافِر وَلَا مُؤمن وَلَا يشك أحد فِي أَنه صَامَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصامه مَعَه كل من اتبعهُ فِي كل بلد كل عَام ثمَّ كَذَلِك جيلاً جيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا وكالحج فَإِنَّهُ لَا يخْتَلف مُؤمن وَلَا كَافِر وَلَا يشك أحد فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حج مَعَ أَصْحَابه وَأقَام الْمَنَاسِك ثمَّ حج الْمُسلمُونَ من كل أفق من إِلَّا فاق كل عَام فِي شهر وَاحِد مَعْرُوف إِلَى الْيَوْم وكجملة الزَّكَاة وكسائر الشَّرَائِع الَّتِي فِي الْقُرْآن من تَحْرِيم القرائب وَالْميتَة وَالْخِنْزِير وَسَائِر شرائع الْإِسْلَام وكآياته من شقّ الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود الَّتِي تمنى الْمَوْت وَسَائِر مَا هُوَ فِي نَص الْقُرْآن مقروء ومنقول وَلَيْسَ عَن الْيَهُود وَلَا عِنْد النَّصَارَى فِي هَذَا النَّقْل شَيْء أصلا لِأَن نقلهم لشريعة السبت وَسَائِر شرائعهم إِنَّمَا يرجعُونَ فِيهَا إِلَى التَّوْرَاة وَيقطع نقل ذَلِك وَنقل التَّوْرَاة إطباقهم على أَن أوائلهم كفرُوا بأجمعهم وبرؤا من دين مُوسَى وعبدوا الْأَوْثَان عَلَانيَة دهوراً طوَالًا وَمن الْمحَال أَن يكون ملك كَافِر عَابِد أوثان هُوَ وَأمته كلهَا مَعَه كَذَلِك يقتلُون الْأَنْبِيَاء ويخنقونهم وَيقْتلُونَ من دعى إِلَى الله تَعَالَى يشتغلون بِسَبَب أَو بشريعة مُضَافَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ تَعَالَى عَن هَذَا الْكَذِب الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَيقطع بالنصارى عَن مثل هَذَا عدم نقلهم إِلَّا عَن خَمْسَة رجال فَقَط وَقد وضح الْكَذِب عَلَيْهِم إِلَى مَا أوضحنا من الْكَذِب الَّذِي فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل القَاضِي بتبديلهما بِلَا شكّ وَالثَّانِي شء نقلته الكافة عَن مثلهَا حَتَّى يبلغ الْأَمر كَذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ككثير من آيَاته ومعجزاته الَّتِي ظَهرت يَوْم الخَنْدَق وَفِي تَبُوك بِحَضْرَة الْجَيْش وككثير من مَنَاسِك الْحَج وكزكاة التَّمْر وَالْبر وَالشعِير وَالْوَرق وَالْإِبِل وَالذَّهَب وَالْبَقر وَالْغنم ومعاملته أهل خَيْبَر وَغير ذَلِك مِمَّا يخفى على الْعَامَّة وَإِنَّمَا يعرفهُ كواف أهل الْعلم فَقَط وَلَيْسَ عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى من هَذَا لنقل شَيْء أصلا لِأَنَّهُ يقطع بهم دونه وَمَا قطع بهم دون النَّقْل الَّذِي ذكرنَا قبل من أطباقهم على الْكفْر الدهور الطوَال وَعدم إِيصَال الكافة إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَالثَّالِث مَا نَقله الثِّقَة عَن الثِّقَة كَذَلِك حَتَّى يبلغ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخبر كل وَاحِد مِنْهُم باسم الَّذِي أخبرهُ وَنسبه وَكلهمْ مَعْرُوف الْحَال وَالْعين وَالْعَدَالَة وَالزَّمَان وَالْمَكَان على أَن أَكثر مَا جَاءَ هَذَا الْمَجِيء فَإِنَّهُ مَنْقُول نقل الكواف إِمَّا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَإِمَّا إِلَى الصاحب وَإِمَّا إِلَى التَّابِع وَإِمَّا إِلَى أَمَام أَخذ عَن التَّابِع يعرف ذَلِك من كَانَ من أهل الْمعرفَة بِهَذَا الشَّأْن وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَذَا نقل خص الله تَعَالَى بِهِ المسملين دون سَائِر أهل الْملَل كلهَا وبناه عِنْدهم غضاً جَدِيدا على(2/68)
قديم الدهور مد أَرْبَعمِائَة عَام وَخمسين عَاما فِي الْمشرق وَالْمغْرب والجنوب وَالشمَال يرحل فِي طلبه من لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا خالقهم إِلَى الْآفَاق الْبَعِيدَة ويواظب على تَقْيِيده من كَانَ النَّاقِد قَرِيبا مِنْهُ قد تولى الله تَعَالَى حفظه عَلَيْهِم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَا تفوتهم ذلة فِي كلمة فَمَا فَوْقهَا فِي شيءٍ من النَّقْل إِن وَقعت لأَحَدهم وَلَا يُمكن فَاسق أَن يقحم فِيهِ كلمة مَوْضُوعَة وَللَّه تَعَالَى الشُّكْر وَهَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الَّتِي نَأْخُذ ديننَا مِنْهَا وَلَا نتعداها إِلَى غَيرهَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَالرَّابِع شَيْء نَقله أهل الْمشرق وَالْمغْرب أَو الكافة أَو الْوَاحِد الثِّقَة عَن أمثالهم إِلَى أَن يبلغ من لَيْسَ بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَاحِد فَأكْثر فَسكت ذَلِك المبلوغ إِلَيْهِ عَمَّن أخبرهُ بِتِلْكَ الشَّرِيعَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يعرف من هُوَ فَهَذَا نوع يَأْخُذ بِهِ كثير من الْمُسلمين ولسنا نَأْخُذ بِهِ الْبَتَّةَ وَلَا نضيفه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لم نَعْرِف من حدث بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد يكون غير ثِقَة وَيعلم مِنْهُ غير الَّذِي رُوِيَ عَنهُ مَا لم يعرف مِنْهُ الَّذِي رُوِيَ عَنهُ وَمن هَذَا النَّوْع كثير من نقل الْيَهُود بل هُوَ أَعلَى مَا عِنْدهم إِلَّا أَنهم لَا يقربون فِيهِ من مُوسَى كقربنا فِيهِ من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل يقفون وَلَا بُد حَيْثُ بَينهم وَبَين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَزِيد من ثَلَاثِينَ عصراً فِي أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة عَام وَإِنَّمَا يبلغون بِالنَّقْلِ إِلَى هِلَال وشماني ومرعقيما وأمثالهم وأظن أَن لَهُم مَسْأَلَة وَاحِدَة فَقَط يروونها عَن حبر من أَحْبَارهم عَن نَبِي من متأخري أَنْبِيَائهمْ أَخذهَا عَنهُ مشافهة فِي نِكَاح الرجل ابْنَته إِذا مَاتَ عَنْهَا أَخُوهُ وَأما النَّصَارَى فَلَيْسَ عِنْدهم من صفة هَذَا النَّقْل إِلَّا تَحْرِيم الطَّلَاق وَحده فَقَط على أَن مخرجه من كَذَّاب قد صَحَّ كذبه وَالْخَامِس شَيْء نقل كَمَا ذكرنَا إِمَّا بِنَقْل أهل الْمشرق وَالْمغْرب أَو كَافَّة عَن كَافَّة أَو ثِقَة عَن ثِقَة حَتَّى يبلغ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن فِي الطَّرِيق رجلا مجروحاً بكذب أَو غَفلَة أَو مَجْهُول الْحَال فَهَذَا أَيْضا يَقُول بِهِ بعض الْمُسلمين وَلَا يحل عندنَا القَوْل بِهِ وَلَا تَصْدِيقه وَلَا الْأَخْذ بِشَيْء مِنْهُ وَهَذِه صفة نقل الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا أضافوه إِلَى أَنْبِيَائهمْ لِأَنَّهُ يقطع بِأَنَّهُم كفار بِلَا شكّ وَلَا مرية وَالسَّادِس نقلٌ نقل بِأحد الْوُجُوه الَّتِي قدمنَا إِمَّا بِنَقْل من بَين الْمشرق وَالْمغْرب أَو بالكافة أَو بالثقة عَن الثِّقَة حَتَّى يبلغ ذَلِك إِلَى صَاحب أَو تَابع أَو إِمَام دونهمَا أَنه قَالَ كَذَا أَو حكم بِكَذَا غير مُضَاف ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَفعل أبي بكر فِي سبي أهل الرِّدَّة وكصلاة الْجُمُعَة صدر النَّهَار وكضرب عمر الْخراج وإضعافه الْقيمَة على رَقِيق حَاطِب وَغير ذَلِك كثير جدا فَمن الْمُسلمين من يَأْخُذ بِهَذَا وَمِنْهُم من لَا يَأْخُذ بِهِ وَنحن لَا نَأْخُذ بِهِ أصلا لِأَنَّهُ لَا حجَّة فِي فعل أحد دون من أمرنَا الله تَعَالَى باتباعه وأرسله إِلَيْنَا بِبَيَان دينه وَلَا يَخْلُو فَاضل من وهم وَلَا حجَّة فِيمَن يهم وَلَا يَأْتِي الْوَحْي بِبَيَان وهمه وَهَذَا الصِّنْف من النَّقْل هُوَ صفة جَمِيع نقل الْيَهُود لشرائعهم الَّتِي هم عَلَيْهَا الْآن مِمَّا لَيْسَ فِي التَّوْرَاة وَهُوَ صفة جَمِيع نقل النَّصَارَى حاشى تَحْرِيم الطَّلَاق إِلَّا أَن الْيَهُود لَا يُمكنهُم أَن يبلغُوا فِي ذَلِك إِلَى صَاحب نَبِي أصلا وَلَا إِلَى تَابع لَهُ وَأَعْلَى من يقف عِنْده النَّصَارَى(2/69)
شَمْعُون ثمَّ بولس ثمَّ أساقفهم عصراً عصراً هَذَا أَمر لَا يقدر أحد مِنْهُم على إِنْكَاره وَلَا إِنْكَار شَيْء مِنْهُ إِلَّا أَن يَدعِي أحد مِنْهُم كذبا عِنْد من يطْمع فِي تجويزه عَلَيْهِ مِمَّن يظنّ بِهِ جهلا بِمَا عِنْده فَقَط وَأما إِذا قررهم على ذَلِك من يَدْرُونَ أَنه يعرف كتبهمْ فَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِنْكَاره اصلاً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنقل الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من إِعْلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالإنذار بالغيوب وشق الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وَالنَّصَارَى إِلَى المباهلة وَجَمِيع الْعَرَب إِلَى الْمَجِيء بِمثل الْقُرْآن وبتوبيخهم بِالْعَجزِ عَنهُ وبتوبيخ الْيَهُود بِأَنَّهُم لَا يتمنون الْمَوْت وقصة الطير الأبابيل ورميها أَصْحَاب الْفِيل بحجارة من سجيل وَكثير من الشَّرَائِع وَكثير من السّنَن فَإِنَّهُ نقل كل ذَلِك الْيَمَانِيّ والمضري والربيعي والقضاعي وَكلهمْ أَعدَاء متباينون متحاربون يقتل بَعضهم بَعْضًا لَيْسَ هُنَاكَ شيءٌ يَدعُوهُم إِلَى الْمُسَامحَة فِي نقلهم لَهُ ثمَّ نَقله عَن هَؤُلَاءِ من بَين الْمشرق وَالْمغْرب وَكَانَت الْعَرَب بِلَا خلاف قوما لقاحاً لَا يملكهم أحد كمضر وَرَبِيعَة وإياد وقضاعة أَو ملوكاً فِي بِلَادهمْ يتوارثون الْملك كَابِرًا عَن كَابر كملوك الْيمن وعمان وَشهر بن بارام ملك صفا وَالْمُنْذر بن سَاوَى ملك الْبَحْرين وَالنَّجَاشِي ملك الْحَبَشَة وجعفر وعياذا بني الجلندي ملكي عمان فانقادوا كلهم لظُهُور الْحق وبهوره وآمنوا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَوْعًا وهم آلَاف آلَاف وصاروا إخْوَة كبني أَب وَأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عَن ملكه مِنْهُم إِلَى رسله طَوْعًا بِلَا خوف غَزْو وَلَا إِعْطَاء مَال وَلَا يطْمع فِي عز بل كلهم أقوى جَيْشًا من جَيْشه وَأكْثر مَالا وسلاحا مِنْهُ وأوسع بَلَدا من بَلَده كذي الكلاع وَكَانَ ملكا متوجاً ابْن مُلُوك متوجين تسْجد لَهُ جَمِيع رَعيته يركب أَمَامه ألف عبد من عبيده سوى بني عَمه من حمير وَذي طليم وَذي زود وَذي مران وَذي عَمْرو وَغَيرهم كلهم مُلُوك متوجون فِي بِلَادهمْ هَذَا كُله أَمر لَا يجهله أحد من حَملَة الْأَخْبَار بل هُوَ مَنْقُول كنقل كَون بِلَادهمْ فِي موَاضعهَا وَهَكَذَا كَانَ إِسْلَام جَمِيع الْعَرَب أَوَّلهمْ كالأوس والخزرج ثمَّ سَائِرهمْ قَبيلَة قَبيلَة لما ثَبت عِنْدهم من آيَاته وبهرهم من معجزاته وَمَا اتبعهُ الْأَوْس والخزرج إِلَّا وَهُوَ فريد طريد قد نابذه قومه حسدا لَهُ إِذا كَانَ فَقِيرا لَا مَال لَهُ يَتِيما لَا أَب وَلَا أَخ وَلَا ابْن أَخ وَلَا ولد أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب نَشأ فِي بِلَاد الْجَهْل يرْعَى غنم قومه بِأُجْرَة يتقوت بهَا فَعلمه الله تَعَالَى الْحِكْمَة دون معلم وَعَصَمَهُ من كل من أَرَادَهُ بِلَا حرس وَلَا حَاجِب وَلَا بواب وَلَا قصر يمْتَنع فِيهِ على كَثْرَة من أَرَادَ قَتله من شجعان الْعَرَب وفتاكهم كعامر بن الطُّفَيْل واربد بن جزءٍ وغورث بن الْحَارِث وَغَيرهم مَعَ إِقْرَار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة وَالْأسود وَهُوَ مكذب لَهُم فَهَل بعد هَذَا برهَان أَو بعد هَذِه الْكِفَايَة من الله تَعَالَى كِفَايَة وَهُوَ لَا يَبْغِي دينا وَلَا يمني بهَا من اتبعهُ بل أنذر الْأَنْصَار بالأثرة عَلَيْهِم بعده وتابعوه على الصَّبْر على ذَلِك قَامَ لَهُ أَصْحَابه على قدم فَمَنعهُمْ وَأنكر ذَلِك عَلَيْهِم وأعلمهم أَن الْقيام لله تَعَالَى لَا لخلقه وَرَضوا بِالسُّجُود لَهُ فاستعظم ذَلِك وَأنْكرهُ إِلَّا لله وَحده وَلَا شكّ فِي أَن هَذِه لَيست صفة طَالب دنيا قطّ أصلا وَلَا صفة رَاغِب فِي غَلَبَة وَلَا بعد صَوت بل هَذِه حَقِيقَة النُّبُوَّة الْخَالِصَة لمن(2/70)
كَانَ لَهُ أدنى فهم فَهَذَا هُوَ الْحق لَا مَا تدعيه النَّصَارَى من الْكَذِب البحت فِي أَن الْمُلُوك دخلُوا دينهم طَوْعًا وَقد كذبُوا فِي ذَلِك لِأَن أول ملك تنصر قسطنطين باني الْقُسْطَنْطِينِيَّة بعد نَحْو ثَلَاثمِائَة عَام من رفع الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَأَي معْجزَة صحت عِنْده بعد هَذِه الْمدَّة وَإِنَّمَا نصرته أمه لِأَنَّهَا كَانَت نَصْرَانِيَّة بنت نَصْرَانِيّ تعشقها أَبوهُ فَتَزَوجهَا هَذَا أَمر لَا تناكر بَين النَّصَارَى فِيهِ والنشأة لَا خَفَاء بِمَا تؤثره فِي الْإِنْسَان وَأما من اتبع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم اتَّبعُوهُ إِذْ بَلغهُمْ خَبره فِي حَيَاته عَلَيْهِ السَّلَام للآيات الَّتِي كَانَت لَهُ بِحَضْرَة جَمِيع أَصْحَابه كإعجاز الْقُرْآن وانشقاق الْقَمَر وَدُعَاء الْيَهُود إِلَى تمني الْمَوْت وإخبارهم بعجزهم عَن ذَلِك وَأَنَّهُمْ لَا يتمنونه أصلا والإنذار بالغيوب ونبعان عين تَبُوك فَهِيَ كَذَلِك إِلَى الْيَوْم ونبعان المَاء من بَين أَصَابِعه بِحَضْرَة الْعَسْكَر وإطعامه النَّفر الْكثير من طَعَام يسير مرَارًا جمة بِحَضْرَة الجموع وإخباره يَأْكُل الأرضة كل مَا فِي الصَّحِيفَة الْمَكْتُوبَة على بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب حاشى أَسمَاء الله تَعَالَى فَقَط وأنظاره بمصارع أهل بدر بِحَضْرَة الْجَيْش موضعا موضعا ولنور الْوَاقِع فِي سَوط الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسي وحنين الْجذع بِحَضْرَة جَمِيعهم وَدفع أَرْبَد عَنهُ قَضَاء غُرَمَاء جَابر من تمر يسير مَشى بجنبه وتزويد عمر وَأَرْبَعمِائَة رَاكب من تمر يسير بَقِي بجنبه ورميه هُوَ إِذن بِتُرَاب عَم عيونهم وَخُرُوجه بِحَضْرَة مائَة من قُرَيْش وهم لَا يرونه وَدخُول الْغَار وهم عَلَيْهِ لَا يرونه وَفتح الْبَاب فِي حجر صلد فِي جنب الْغَار لم يكن فِيهِ قطّ وَلَو كَانَ هُنَالك يَوْمئِذٍ لما أمكنه الاختفاء فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الْبَابَيْنِ إِلَّا أقل من ثَمَانِيَة أَذْرع وَهُوَ ظَاهر إِلَى الْيَوْم كل عَام وكل حِين يزوره أهل الأَرْض من الْمُسلمين وَلَو رام الْبَاب الثَّانِي فِي ذَلِك الْحجر أهل الأَرْض مَا قدرُوا على إزاحته سالما عَن مَكَانَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك الْبَاب هُنَالك يَوْمئِذٍ لرآه الطالبون لَهُ بِلَا مؤونة لأَنهم لم يَكُونُوا إِلَّا جموع قُرَيْش لَعَلَّهُم ميثون كَثِيرَة وآثار رَأسه الْمُقَدّس فِي ذَلِك الْحجر وآثار كَتفيهِ ومعصمه وَظَاهر يَده بَاقٍ إِلَى الْيَوْم فعل الله تَعَالَى مَنْقُول نقل الكواف جيلاً عَن جيل وَرمي الْجمار الَّذِي ترميه مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله تَعَالَى كل عَام ثمَّ لَا يزِيد حجمه فِي ذَلِك الْموضع وَرمى الله تَعَالَى جَيش أَبْرَهَة صَاحب الْفِيل إِذْ غزا مَكَّة عَام مولده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحِجَارَةِ الْمُنكرَة بأيدي طير مُنكرَة وَنزلت فِي ذَلِك سُورَة من الْقُرْآن متلوة إِلَى الْيَوْم وَكَانَ ذَلِك ببركته عَلَيْهِ السَّلَام وإنذاراته وشكوى الْبَعِير إِلَيْهِ وإبراء عَيْني عَليّ من الرمد بِحَضْرَة الْجَمَاعَات فِي سَاعَة وسوخ قَوَائِم فرس سراقَة إِذْ تبعه ودور الشَّاة الَّتِي لَا لبن لَهَا مرَارًا وتسبيح الطَّعَام وَكَلَام الذِّئْب ومجيئه وَقَوله للْحكم إِذْ حُكيَ مشيته كن كَذَلِك فَلم يزل يرتعش إِلَى أَن مَاتَ وعائه للمطر قاتي للْوَقْت وَفِي الصحو فانجلى للْوَقْت وَظُهُور جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مرَّتَيْنِ مرّة فِي صُورَة دحْيَة ثمَّ أَتَى دحْيَة بِحَضْرَة النَّاس وَأُخْرَى فِي صُورَة رجل لم يعرفهُ أحد وَلَا رُؤِيَ بعْدهَا وَقَوله إِذْ خطب بنت ابْن عَوْف بن الْحَارِث ابْن عَوْف بن أبي حارسة الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ أَبوهَا أَن بهَا بَيَاضًا فَقَالَ لتكن كَذَلِك فبرصت فِي الْوَقْت وَهِي أم شبيب بن البرصاء الشَّاعِر الْمَشْهُور غير هَذَا كثير جدا مَعَ مَا ذكرنَا من أَن أول من تنصر(2/71)
من الْمُلُوك قسطنطين بعد نَحْو ثَلَاثمِائَة سنة من رفع الْمَسِيح فو الله مَا قدر على إِظْهَار النصراينة حَتَّى رَحل عَن رُومِية مسيرَة شهر وَبني برنطية وَهِي قسطنطينية ثمَّ أجبر النَّاس على النصراينة بِالسَّيْفِ وَالعطَاء وَكَانَ من عهوده المحفوظة أَن لَا يولي ولَايَة إِلَّا من تنصر من النَّاس سراع إِلَى الدُّنْيَا نافرون عَن الْأَدْنَى وَكَانَ مَعَ هَذَا كُله على مَذْهَب أريوس لَا على التَّثْلِيث وَلَكِن هَذَا من دَعْوَى النَّصَارَى وكذبهم مُضَاف إِلَى مَا يَدعُونَهُ من أَنهم بعد هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة وَبعد خراب بَيت الْمُقَدّس مرّة بعد أُخْرَى وبقائه خراباً لَا سَاكن فِيهِ نَحْو مِائَتي عَام وَسبعين عَاما وجدوا الشوك وضع الَّذِي على رَأس الْمَسِيح بزعمهم والمسامير الَّتِي ضربت فِي يَدَيْهِ وَالدَّم الَّذِي طَار من جنبه والخشبة الَّتِي صلب عَلَيْهَا فَلَا أَدْرِي مِمَّن الْعجب أممن اخترع مثل هَذِه الكذبة الغثة المفضوحة أم مِمَّن قبلهَا وَصدق بهَا ودان باعتقادها وصلب وَجهه للْحَدِيث بهَا لَيْت شعري أَيْن بَقِي ذَلِك الشوك وَذَلِكَ الدله سَالِمين وَتلك المسامير وَتلك الْخَشَبَة طول تِلْكَ الْمدَّة وَأهل ذَلِك مطرودون مقتولون كَقَتل من تستر بالزندقة الْيَوْم وَتلك الْمَدِينَة خراب الدهور الطوَال لَا يسكنهَا أحد إِلَّا السبَاع والوحش وَقد شاهدنا ملوكاً جلت لَهُم الأتباع ولأولاد الشيع والأقارب صلبوا فَمَا مَضَت مُدَّة يسيرَة حَتَّى لم يبْقى لتِلْك الْخشب أثر فَكيف أَمر لَا طَالب لَهُ وبدول قد انْقَطَعت وبلاد قد أقفرت وخلت ونسيت أَخْبَارهَا وَهَذِه الْبردَة الَّتِي كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقصعة وَالسيف على أَن الدولة مُتَّصِلَة لم تتخرم مُنْذُ حِينَئِذٍ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين قد دخلت الدَّاخِلَة فِي الْقَصعَة وَالسيف حَتَّى لَا يَقِين عندنَا مِنْهُمَا الْيَوْم وَلَوْلَا تداول الْخُلَفَاء للباس الْبردَة أبدا الآبد فينقل أمرهَا جيلاً بعد جيل والمنبر كَذَلِك لما قَطعنَا عَلَيْهِمَا وَلَكِن التداول لَهما أمة بعد أمة وهما قائمان ظاهران للنَّاس هُوَ أوجب الْيَقِين بهما وَرفع الشَّك فيهمَا وَكَذَلِكَ كل مَا جرى هَذَا المجرى ثمَّ لم يلبث دين النَّصَارَى أَن مَاتَ قسطنطين أول من تنصر من مُلُوك الدُّنْيَا ثمَّ مَاتَ ابْنه قسطنطين وَولي ملك تِلْكَ النصراينة وَرجع إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ ولي رجل من أقَارِب قسطنطين فَرجع إِلَى النصراينة وَأما ديانَة الْيَهُود فَمَا صفت فِيهَا نَبَات بني إِسْرَائِيل ومُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيّ بَين أظهرهم وَمَا زَالُوا مائلين إِلَى إِظْهَار عبَادَة الْأَوْثَان ثمَّ تكذيبهم كلهم بالشريعة الَّتِي أَتَاهُم بهَا بعد مَوته عَلَيْهِ السَّلَام طبقَة بعد طبقَة إِلَى انْقِطَاع دولتهم فَكيف إِن يتبعهُ غَيرهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ لمن تدبره حسي لَا محيد عَنهُ وَهُوَ أَنه لَا خلاف بَين أحد من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْملَل فِي أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا بِمصْر فِي أَشد عَذَاب يُمكن أَن يكون من ذبح أَوْلَادهم تسخيرهم فِي عمل الطوب بِالضَّرْبِ الْعَظِيم والذل الَّذِي لَا يصبر عَلَيْهِ كلب مُطلق فَأَتَاهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَدعُوهُم إِلَى فِرَاق هَذَا الْأسر الَّذِي قتل النَّفس أخف مِنْهُ وَإِلَى الْحُرِّيَّة وَالْملك وَالْغَلَبَة والأمن مَضْمُون مِمَّن هُوَ فِي أقل من تِلْكَ الْحَال أَن يُسَارع إِلَى كل من يطْمع على يَدَيْهِ بالفرج وَأَن يستجيب لَهُ إِلَى كل مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَإِن أَكثر من فِي هَذَا الْبلَاء يستخير عبَادَة(2/72)
من أخرجه مِنْهُ لَا سِيمَا إِلَى الْعِزّ وَالْحُرْمَة وَكَانُوا أَيْضا أهل عَسْكَر مُجْتَمع وَبني عمر يُمكنهُم التواطؤ ثمَّ كَانُوا أهل بلد صَغِير جدا قد تكنفهم الْأَعْدَاء من كل جَانب وَأما عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا اتبعهُ إِلَّا نَحْو اثْنَي عشر رجلا معروفين وَنسَاء قَلِيل وَعدد لَا يبلغ جَمِيعهم وَفِي جُمْلَتهمْ الاثنا عشر إِلَّا مائَة وَعشْرين فَقَط هَكَذَا فِي نَص إنجيلهم وَكَانُوا مشردين مطرودين غير ظَاهِرين وَلَا يقوم بِمثل هَؤُلَاءِ ضَرُورَة يَقِين الْعلم وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يخْتَلف أحد فِي مشرق الأَرْض وغربها أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى إِلَى قوم لقاح لَا يقرونَ بِملك وَلَا يطيعون لأحد وَلَا ينقادون لرئيس نَشأ على هَذَا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم مُنْذُ أُلُوف من الأعوام قد سرى الْفَخر والعز والنخوة وَالْكبر وَالظُّلم والأنفة فِي طباعهم وهم أعداد عَظِيمَة قد ملؤا جَزِيرَة الْعَرَب وَهِي نَحْو شَهْرَيْن فِي شَهْرَيْن قد صَارَت طباعهم طباع السبَاع وهم أُلُوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بَعضهم لبَعض أبدا فَدَعَاهُمْ بِلَا مَال وَلَا اتِّبَاع بل خذله قومه إِلَى أَن ينحطوا من ذَلِك الْعِزّ إِلَى غرم الزَّكَاة وَمن الْحُرِّيَّة وَالظُّلم إِلَى جري الْأَحْكَام عَلَيْهِم وَمن طول الْأَيْدِي بقتل من أَحبُّوا وَأخذ مَال من أَحبُّوا إِلَى الْقصاص من النَّفس وَمن قطع الْأَعْضَاء وَمن اللَّطْمَة من أجل من فيهم لأَقل علج غَرِيب دخل فيهم وَإِلَى إِسْقَاط الأنفة وَالْفَخْر إِلَى ضرب الظُّهُور بالسياط أَو بالنعال إِن شربوا خمرًا أَو قذفوا إنْسَانا وَإِلَى الضَّرْب بِالسَّوْطِ وَالرَّجم بِالْحِجَارَةِ إِلَى أَن يموتوا إِن زنوا فانقاد أَكْثَرهم لكل ذَلِك طَوْعًا بِلَا طمع وَلَا غَلَبَة وَلَا خوف مَا مِنْهُم أحد أَخذ بِغَلَبَة إِلَّا مَكَّة وخيبر فَقَط وَمَا غزا قطّ غَزْوَة يُقَاتل فِيهَا إِلَّا تسع غزوات بَعْضهَا عَلَيْهِ وَبَعضهَا لَهُ فصح ضَرُورَة أَنهم إِنَّمَا آمنُوا بِهِ طَوْعًا لَا كرها وتبدلت طبعائهم بقدرة الله تَعَالَى من الظُّلم إِلَى الْعدْل وَمن الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الْفسق وَالْقَسْوَة إِلَى الْعدْل الْعَظِيم الَّذِي لم يبلغهُ أكَابِر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم طلب الثأر وَصَحب الرجل مِنْهُم قَاتل ابْنه وَأَبِيهِ وأعدى النَّاس لَهُ صُحْبَة الْأُخوة المتحابين دون خوف يجمعهُمْ وَلَا رياسة ينفردون بهَا دون من أسلم من غَيرهم وَلَا مَال يتعجلونه فقد علم النَّاس كَيفَ كَانَت سيرة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَيف كَانَت طَاعَة الْعَرَب لَهما بِلَا رزق وَلَا عَطاء وَلَا غَلَبَة فَهَل هَذَا إِلَّا بِغَلَبَة من الله تَعَالَى على نُفُوسهم وقره عز وَجل لطباعهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم} ثمَّ بَقِي عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك بَين أظهرهم بِلَا حارس وَلَا ديوَان جند وَلَا بَيت مَال محروساً مَعْصُوما وَهَكَذَا نقلت آيَاته ومعجزاته فَإِنَّمَا يَصح من أَعْلَام الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين مَا نقل عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِصِحَّة الطَّرِيق إِلَيْهِ وارتفاع دواعي الْكَذِب والعصبية جملَة عَن اتِّبَاعه فِيهِ فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنهم بدنيا وَلَا وعدهم بِملك وَهَذَا لَا يُنكره أحد من النَّاس وَأَيْضًا فَإِن سيرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن تدبرها تَقْتَضِي تَصْدِيقه ضَرُورَة وَتشهد لَهُ بِأَنَّهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا فَلَو لم تكن لَهُ معْجزَة غير سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكفى وَذَلِكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَشأ كَمَا قُلْنَا فِي بِلَاد الْجَهْل لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلَا خرج عَن(2/73)
تِلْكَ الْبِلَاد قطّ إِلَّا خرجتين أَحدهمَا إِلَى الشَّام وَهُوَ صبي مَعَ عَمه إِلَى أول أَرض الشَّام وَرجع وَالْأُخْرَى أَيْضا إِلَى أول الشَّام وَلم يطلّ بهَا الْبَقَاء وَلَا فَارق قومه قطّ ثمَّ أوطأ الله تَعَالَى رِقَاب الْعَرَب كلهَا فَلم تغير نَفسه وَلَا حَالَتْ سيرته إِلَى أَن مَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة فِي شعير لقوت أَهله أصواع لَيست بالكثيرة وَلم يبت قطّ فِي ملكه دِينَار وَلَا دِرْهَم وَكَانَ يَأْكُل على الأَرْض مَا وجد ويخصف نَعله بِيَدِهِ ويرقع ثَوْبه ويؤثر على نَفسه وَقتل رجل من أفاضل أَصْحَابه مثل فَقده يهد عَسْكَر اقْتُل بَين أظهر أعدائه من الْيَهُود فَلم يتسبب إِلَى أَذَى أعدائه بذلك إِذْ لم يُوجب الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك وَلَا توصل بذلك إِلَى دِمَائِهِمْ وَلَا إِلَى ذمّ وَاحِد مِنْهُم وَلَا إِلَى أَمْوَالهم بل فدَاه من عِنْد نَفسه بِمِائَة نَاقَة وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال مُحْتَاج إِلَى بعير وَاحِد يتقوى بِهِ وَهَذَا أَمر لَا تسمح بِهِ نفس ملك من مُلُوك الأَرْض وَأهل الدُّنْيَا من أَصْحَاب بيُوت الْأَمْوَال بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَيْضا ظَاهر السِّيرَة والسياسة فصح يَقِينا بِلَا شكّ أَنه إِنَّمَا كَانَ مُتبعا مَا أَمر بِهِ ربه عز وَجل كَانَ ذَلِك مضراً بِهِ فِي دُنْيَاهُ غَايَة الْإِضْرَار أَو كَانَ غير مُضر بِهِ وَهَذَا عجب لمن تدبره ثمَّ حَضرته الْمنية وأيقن بِالْمَوْتِ وَله عَم أَخُو أَبِيه هُوَ أحب النَّاس إِلَيْهِ وَابْن عَم هُوَ من أخص النَّاس بِهِ وَهُوَ أَيْضا زوج ابْنَته الَّتِي لَا ولد لَهُ غَيرهَا وَله مِنْهَا أبان ذكران وكلا الرجلَيْن الْمَذْكُورين عَمه وَابْن عَمه عِنْده من الْفضل وَالدّين والسياسة فِي الدُّنْيَا والبأس والحلم وخلال الْخَيْر مَا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقا بسياسة الْعَالم كُله فَلم يحابهما وهما من أَشد النَّاس عناء عَنهُ ومحبة فِيهِ وَهُوَ من أحب النَّاس فيهمَا إِذْ كَانَ غَيرهمَا مُتَقَدما لَهما فِي الْفضل وَإِن كَانَا بعيد النّسَب مِنْهُ بل فوض الْأَمر إِلَيْهِ قَاصِدا إِلَى مر الْحق وَاتِّبَاع مَا أَمر بِهِ وَلم يُورث ورثته ابْنَته ونساءه وَعَمه فلسًا فَمَا فَوْقه وهم كلهم أحب النَّاس إِلَيْهِ وأطوعهم لَهُ وَهَذِه أُمُور لمن تأملها كَافِيَة مغنية فِي أَنه إِنَّمَا تصرف بِأَمْر الله تَعَالَى لَا بسياسة وَلَا بهوى فوضح بِمَا ذكرنَا وَالله الْحَمد كثيرا أَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق وَأَن شَرِيعَته الَّتِي أَتَى بهَا هِيَ الَّتِي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إِلَى تصديقها وَالْقطع على أَنَّهَا الْحق الَّذِي لَا حق سواهُ وَأَنَّهَا دين الله تَعَالَى الَّذِي لَا دين لَهُ فِي الْعَالم غَيره وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عدد خلقه ورضاء نَفسه وزنة عَرْشه ومداد كَلِمَاته على مَا وفقنا إِلَيْهِ من الْملَّة الإسلامية ثمَّ على مَا يسرنَا عَلَيْهِ من النحلة الجماعية السّنيَّة ثمَّ على مَا هدَانَا لَهُ من التدين وَالْعَمَل بِظَاهِر الْقُرْآن وبظاهر السّنَن الثَّابِتَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن باعثه عز وَجل وَلم يجعلنا مِمَّن يُقَلّد أسلافه وأحباره دون برهَان قَاطع وَحجَّة قاهرة وَلَا مِمَّن يتبع الْأَهْوَاء المضلة الْمُخَالفَة لقَوْله وَقَول نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا مِمَّن يحكم بِرَأْيهِ وظنه دون هدى من الله وَرَسُوله اللَّهُمَّ كَمَا ابتدأتنا بِهَذِهِ النِّعْمَة الجليلة فأتمها علينا وأصحابنا إِيَّاهَا وَلَا تخَالف بهَا عَنَّا حَتَّى تقبضنا إِلَيْك وَنحن متمسكون بهَا فنلقاك بهَا غير مبدلين وَلَا مغيرين اللَّهُمَّ آمين رب الْعَالمين وصل اللَّهُمَّ على مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك وخليلك وَخَاتم أنبيائك خَاصَّة وعَلى أنبيائك عَامَّة وعَلى ملائكتك كَافَّة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم(2/74)
ذكر فُصُول يعْتَرض بهَا جهلة الْمُلْحِدِينَ على ضعفة الْمُسلمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِنَّا لما تدبرنا أَمر طائفتين مِمَّن شاهدنا فِي زَمَاننَا هَذَا ووجدناهما قد تفاقم الدَّاء بهما فَأَما إِحْدَاهمَا فقد جلت الْمُصِيبَة فِيهَا وَبهَا وهم قوم افتتحوا عنفوان فهمهم وابتدؤا دُخُولهمْ إِلَى المعارف بِطَلَب علم الْعدَد وابروته وطبائعه ثمَّ تدرجوا إِلَى تَعْدِيل الْكَوَاكِب وهيئة الأفلاك وَكَيْفِيَّة قطع الشَّمْس وَالْقَمَر والدراري الْخَمْسَة وتقاطع فلكي النيرين وَالْكَلَام فِي الأجرام العلوية وَفِي الْكَوَاكِب الثَّابِتَة وانتقالها وإبعاد كل ذَلِك وإعظامه وَفِيمَا دون ذَلِك من الطَّيِّبَات وعوارض الجو ومطالعة شَيْء من كتب الْأَوَائِل وحدودها الَّتِي نصبت فِي الْكَلَام وَمَا مازج بعض مَا ذكرنَا من آراء الفلاسفة فِي الْقَضَاء بالنجوم وَأَنَّهَا ناطقة مُدبرَة وَكَذَلِكَ الْفلك فَأَشْرَفت هَذِه الطَّائِفَة من أَكْثَرهَا مَا طالعت مِمَّا ذكرنَا على أَشْيَاء صِحَاح براهينها ضَرُورِيَّة لائحة وَلم يكن مَعهَا من قُوَّة الْمِنَّة وجودة القريحة وصفاء النّظر مَا تعلم بِهِ إِن من أصَاب فِي عشرَة آلَاف مَسْأَلَة مثلا فَجَائِز أَن يُخطئ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لَعَلَّهَا أسهل من الْمسَائِل الَّتِي أصَاب فِيهَا فَلم تفرق هَذِه الطَّائِفَة بَين مَا صَحَّ مِمَّا طلعوه بِحجَّة برهانية وَبَين مَا فِي أثْنَاء ذَلِك وتضاعيفه مِمَّا لم يَأْتِ عَلَيْهِ من ذكره من الْأَوَائِل إِلَّا بإقناع أَو بشغب وَرُبمَا بتقليد لَيْسَ مَعَه شَيْء مِمَّا ذكرنَا فحملوا كل مَا أشرفوا عَلَيْهِ محملًا وَاحِدًا وقبلوه قبولاً مستويا فسرى فيهم الْعجب وتداخلهم الزهو وظنوا أَنهم قد حصلوا على مباينة الْعَالم فِي ذَلِك وللشيطان موالج خُفْيَة ومداخل لَطِيفَة كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فتوصل إِلَيْهِم من بَاب غامض نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهُوَ أَنهم كَمَا ذكرنَا أصفار من كل شَيْء من عُلُوم الدّيانَة الَّتِي هِيَ الْغَرَض الْمَقْصُود من من كل ذِي لب بدوي وَالَّتِي هِيَ نتيجة الْعُلُوم الَّتِي طالعوا لَو عقلوا سبلها ومقاصدها فَلم يعبؤا بِآيَة من كتاب الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ جَامع علو الْأَوَّلين والآخرين وَالَّذِي لم يفرط فِيهِ من شَيْء وَالَّذِي من فهمه كَفاهُ وَلَا بِسنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي هِيَ بَيَان الْحق وَنور الْأَلْبَاب وَلم تلق هَذِه الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة من حَملَة الدّين إِلَّا أَقْوَامًا لَا عناية عِنْدهم بِشَيْء مِمَّا قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا عنيت من الشَّرِيعَة بِأحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا بِأَلْفَاظ ينقلون ظَاهرهَا وَلَا يعْرفُونَ مَعَانِيهَا وَلَا يهتمون بفهمها وَإِمَّا بمسائل من الْأَحْكَام لَا يشتغلون بديلها ومنبعثها وَإِنَّمَا حسبهم مِنْهَا مَا أَقَامُوا بِهِ جاههم وحالهم وَأما بخرافات منقولة عَن كل ضَعِيف وَكَذَّاب وساقط لم يهتموا قطّ بِمَعْرِِفَة صَحِيح مِنْهَا من سقيم وَلَا مُرْسل من مُسْند وَلَا مَا نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا نقل عَن كَعْب الْأَحْبَار أَو وهب بن مُنَبّه عَن أهل الْكتاب فَنَظَرت الطَّائِفَة الأولى من هَذِه الْآخِرَة بِعَين الاستهجان والاحتقار والاستهجان فَتمكن الشَّيْطَان مِنْهُم وَحل فيهم حَيْثُ أحب فهلكوا وَضَلُّوا واعتقدوا أَن دين الله تَعَالَى لَا يَصح مِنْهُ شَيْء وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل فاعتقدوا أَكْثَرهم الْإِلْحَاد والتطعيل وسلك بَعضهم طَرِيق الاستخفاف والإهمال وإطراح ثقل الشَّرَائِع وَاسْتِعْمَال الْفَرَائِض والعبادات وآثروا الراحات وركوب(2/75)
اللَّذَّات من أَنْوَاع الْفَوَاحِش الْمُحرمَات من الْخُمُور وَالزِّنَا واللواطة والبغاء وَترك الصَّلَوَات وَالصِّيَام وَالزَّكَاة وَالْحج وَالْغسْل وقصدوا كسب المَال كَيفَ تيَسّر وظلم الْعباد وَاسْتِعْمَال الأهزال وَترك الْجد وَالتَّحْقِيق وَتَدين الْأَقَل مِنْهُم بتعظيم الْكَوَاكِب فأسفت نفس الْمُسلم الناصح لهَذِهِ الْملَّة وَأَهْلهَا على هَلَاك هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين وخروجهم عَن جملَة الْمُؤمنِينَ بعد أَن غذوا بلبان الْإِسْلَام ونشؤا فِي حجور أَهله نسْأَل الله الْعِصْمَة من الضلال لنا ولأبنائنا وَلكُل إِخْوَاننَا من الْمُسلمين ونسأله تدارك من زلت قدمه وهوت نَقله أَنه على كل شَيْء قدير وَأما الطَّائِفَة الثَّانِيَة فهم قوم ابتدؤا الطّلب لحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزِيدُوا على طلب علو الْإِسْنَاد وَجمع الغرائب دون أَن يهتموا بِشَيْء مِمَّا كتبُوا أَو يعملوا بِهِ وَإِنَّمَا تَحملُوهُ حملا لَا يزِيدُونَ على قِرَاءَته دون تدبر مَعَانِيه وَدون أَن يعلمُوا أَنهم المخاطبون بِهِ وَأَنه لم يَأْتِ هملاً وَلَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبَثا بل أمرنَا بالتفقه فِيهِ وَالْعَمَل بِهِ بل أَكثر هَذِه الطَّائِفَة لَا يعْمل عِنْدهم إِلَّا مَا جَاءَ من طَرِيق مقَاتل بن سُلَيْمَان وَالضَّحَّاك بن مُزَاحم وَتَفْسِير الْكَلْبِيّ وَتلك الطَّبَقَة وَكتب البذي الَّتِي إِنَّمَا هِيَ خرافات مَوْضُوعَات وأكذوبات مفتعلات وَلَدهَا الزَّنَادِقَة تدليساً على الْإِسْلَام وَأَهله فأطلقت هَذِه الطَّائِفَة كل اخْتِلَاط لَا يَصح من أَن الأَرْض على حوت والحوت على قرن ثَوْر والثور على صَخْرَة والصخرة على عاتق ملك وَالْملك على الظلمَة والظلمة على مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل وَهَذَا يُوجب أَن جرم الْعَالم غير متناه وَهَذَا هُوَ الْكفْر بِعَيْنِه فنافرت هَذِه الطَّبَقَة الَّتِي ذكرنَا كل برهَان وَلم يكن عِنْدهَا أَكثر من قَوْلهم نهينَا عَن الْجِدَال فليت شعري من نَهَاهُم عَنهُ وَالله عز وَجل يَقُول فِي كِتَابه الْمنزل على نبيه الْمُرْسل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَأخْبر تَعَالَى عَن قوم نوح أَنهم قَالُوا {يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا} وَقد نَص تَعَالَى فِي غير مَوضِع من كِتَابه على أصُول الْبَرَاهِين وَقد نبهنا عَلَيْهَا فِي غير مَا مَوضِع من كتَابنَا هَذَا وحض تَعَالَى على التفكير فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا يَصح الِاعْتِبَار فِي خلقهما إِلَّا بِمَعْرِِفَة هيآتهما وانتقال الْكَوَاكِب فِي أفلاكهما وَاخْتِلَاف حركاتها فِي التَّغْرِيب والتشريق وأفلاك تداويرها وتعارض تِلْكَ الأدوار على رُتْبَة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ معرفَة الدَّوَائِر والمنطقة والميل والاستواء وَكَذَلِكَ معرفَة الطبائع وامتزاج العناصر الْأَرْبَعَة وعوارضها وتركيب أَعْضَاء الْحَيَوَان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه واتصال أَعْضَائِهِ بَعْضهَا بِبَعْض وَقواهُ المركبة فَمن أشرف على ذَلِك وَعلمه رَأْي عَظِيم الْقُدْرَة وتيقن أَن كل ذَلِك صَنْعَة ظَاهِرَة وَإِرَادَة خَالق مُخْتَار لِأَن اخْتِلَاف تِلْكَ الحركات يضْطَر إِلَى الْمعرفَة بِأَن شَيْئا مِنْهَا لَا يقوم بِنَفسِهِ دون مُمْسك مُدبر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَلَا خَالق سواهُ وَلَا مُدبر حاشاه وَلَا فَاعل مخترع إِلَّا هُوَ ثمَّ زَاد قوم مِنْهُم فَأتوا بالأفيكة الَّتِي تقشعر مِنْهَا الذوائب وَهِي إِن أطْلقُوا أَن الدّين لَا يُؤْخَذ بِحجَّة فأقروا عُيُون الْمُلْحِدِينَ وشهدوا أَن الدّين لَا يثبت إِلَّا بالدعاوى وَالْغَلَبَة وَهَذَا خلاف قَوْله عز وَجل {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَقَوله تَعَالَى {فانفذوا لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} هَذَا قَول الله عز وَجل وَمَا جَاءَ بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ(2/76)
وَسلم وَفِي ذَلِك الْكِفَايَة والغنا عَن قَول كل قَائِل بعده وَقد حَاج ابْن عَبَّاس الْخَوَارِج وَمَا علمنَا أحدا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم نهى عَن الِاحْتِجَاج فَلَا معنى لرأي من جَاءَ بعدهمْ فَكَانَ كَلَام هَذِه الطَّائِفَة مغرياً للطائفة الأولى بكفرها ومغطا لَهُم لشركهم إِذْ لم يرَوا فِي خصومهم فِي الْأَغْلَب إِلَّا من هَذِه صفته ثمَّ زَادَت هَذِه الطَّائِفَة الثَّانِيَة غلواً فِي الْجُنُون فعابوا كتبنَا لَا علم لَهُم بهَا وَلَا طالعوها وَلَا رَأَوْا مِنْهَا كلمة وَلَا قراؤها وَلَا أخْبرهُم عَن مَا فِيهَا ثِقَة كالكتب الَّتِي فِيهَا هَيْئَة الأفلاك ومجاري النُّجُوم والكتب الَّتِي جمعهَا أرسطاطاليس فِي حُدُود الْكَلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْكتب كلهَا كتب سَالِمَة مفيدة دَالَّة على تَوْحِيد الله عز وَجل وَقدرته عَظِيمَة الْمَنْفَعَة فِي انتقاد جَمِيع الْعُلُوم وَعظم مَنْفَعَة الْكتب الَّتِي ذكرنَا فِي الْحُدُود فَفِي مسَائِل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بهَا يعْتَرف كَيفَ التَّوَصُّل إِلَى الاستنباط وَكَيف تُؤْخَذ الْأَلْفَاظ على مقتضاها وَكَيف يعرف الْخَاص من الْعَام والمجمل من الْمُفَسّر وَبِنَاء الْأَلْفَاظ بَعْضهَا على بعض وَكَيف تَقْدِيم الْمُقدمَات وإنتاج النتائج وَمَا يَصح من ذَلِك صِحَة ضَرُورِيَّة أبدا وَمَا يَصح مرّة وَمَا يبطل أُخْرَى وَمَا لَا يَصح الْبَتَّةَ وَضرب الْحُدُود الَّتِي من شَذَّ عَنْهَا كَانَ خَارِجا عَن أَصله وَدَلِيل الْخطاب وَدَلِيل الاستقراء وَغير ذَلِك مِمَّا لَا غناء بالفقيه الْمُجْتَهد لنَفسِهِ وَلأَهل مِلَّته عَنهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَلَمَّا رَأينَا عَظِيم المحنة فِيمَا تولد فِي الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرنَا رَأينَا من عَظِيم الْأجر وَأفضل الْعَمَل بَيَان هَذَا الْبَاب الْمُشكل بحول الله تَعَالَى وَقدرته وتأييده فَنَقُول وَبِه عز وَجل نتأيد ونستعين إِن كل مَا صَحَّ ببرهان أَي شَيْء كَانَ فَهُوَ فِي الْقُرْآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْصُوص مسطور يُعلمهُ كل من أحكم النّظر وأيده الله تَعَالَى بفهم وَأما كل مَا عدا ذَلِك مِمَّا لَا يَصح ببرهان وَإِنَّمَا هُوَ إقناع أَو شغب فالقرآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ خاليان وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ومعاذ الله أَن يَأْتِي كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَلَام نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يُبطلهُ عيان أَو برهَان إِنَّمَا ينْسب هَذَا إِلَى الْقُرْآن وَالسّنة من لَا يُؤمن بهما وَيسْعَى فِي إبطالهما {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ولسنا من تَفْسِير الْكَلْبِيّ الْكذَّاب وَمن جرى مجْرَاه فِي شَيْء وَلَا نَحن من نقل المتهمين فِي شَأْن إِنَّمَا نحتج بِمَا نَقله الْأَئِمَّة الثقاة الْأَثْبَات من رُؤَسَاء الْمُحدثين مُسْندًا فَمن فتش الحَدِيث الصَّحِيح وجد فِيهِ كل مَا قُلْنَاهُ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَإِنَّمَا الْبَاطِل مَا ادَّعَتْهُ الطَّائِفَة الأولى من نطق الْكَوَاكِب وتدبيرها وَهَذَا كفر لَا حجَّة عِنْدهم على مَا قَالُوهُ مِنْهُ أَكثر من أَن المحتج لَهُم قَالَ لما كُنَّا نعقل وَكَانَت الْكَوَاكِب تدبرنا كَانَت أولى بِالْعقلِ منا وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْكَوَاكِب وَإِن كَانَ لَهَا تَأْثِير فِي الْعَالم ظَاهر فَلَيْسَ تأثيرها تَأْثِير ملك وَاخْتِيَار يدل على ذَلِك مَا قد ذَكرْنَاهُ فِي كتَابنَا هَذَا من الدَّلَائِل على أَن الْكَوَاكِب مضطرة لَا مختارة وَإِنَّمَا تأثيرها كتأثير النَّار بالإحراق وَالْمَاء بالتبريد والسم بإفساد المزاج وَالطَّعَام بالتغذية(2/77)
والفلفل بحذو الْإِنْسَان والإهليلج بِالْقَبْضِ للفم وَمَا جرى هَكَذَا من سَائِر مَا فِي الْعَالم وكل ذَلِك غير نَاطِق وَالْكَوَاكِب والأفلاك جَارِيَة هَذَا المجرى لِأَن تأثيرها وَاحِد لَا يخْتَلف وحركتها حَرَكَة وَاحِدَة لَا تخْتَلف وَلَيْسَ كَذَلِك المختارة وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم وَقد عارضته بِهَذَا أَن الْمُخْتَار الْفَاضِل يلْزم أفضل الحركات فَلَا يتعداها وَتلك الْحَرَكَة الدورية هِيَ أفضل الحركات فَقلت لَهُ وَمَا دليلك على أَن تِلْكَ الْحَرَكَة أفضل الحركات وَمن أَيْن صَارَت الْحَرَكَة من شَرق إِلَى غرب أَو من غرب إِلَى شَرق أفضل من الْحَرَكَة من جنوب إِلَى شمال وَمن شمال إِلَى جنوب وَكَيف يكون عنْدكُمْ أفضل الحركات والأفلاك الثَّمَانِية تنْتَقل من غرب إِلَى شَرق وَالتَّاسِع من شَرق إِلَى غرب فَأَي هَاتين الحركتين قُلْتُمْ أَنَّهَا أفضل عنْدكُمْ وَقد اختا الآخر الْحَرَكَة الَّتِي لَيست أفضل فَظهر فَسَاد هَذَا القَوْل بِيَقِين وَهَذِه دعاوي مُجَرّدَة بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فقد سقط وَلَا فرق بَيْنك وَبَين من قَالَ بل الْحَرَكَة علو أفضل أَو على خطّ مُسْتَقِيم سائرة وراجعة وَنحن نجد تِلْكَ الأجرام تسفل فِي بعض ممراتها وتشرف فِي بعض وَتسقط فِي بعض على قَوْلكُم وتوافق بزعمكم بِروح نحس مظْلمَة وَأُخْرَى نيرة سعيدة وَبَعض الأفلاك يقطع من غرب إِلَى شَرق وَهُوَ حَرَكَة جَمِيعهَا إِلَّا الْأَعْلَى مِنْهَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّك من شَرق إِلَى غرب فَلَيْسَتْ هَذِه أفضل الحركات فَبَطل قَوْلهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ مَا ذكره من ذكر ذَلِك مِنْهُم من الكرور عِنْد انْتِهَاء آلَاف من الأعوام ذكروها وانتصاب الْكَوَاكِب الثَّابِتَة على نصبٍ مَا من قطعهَا لفلكها فَهَذَا أَيْضا كذب مُجَرّد وَدَعوى سَاقِطَة لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا يعجز عَن مثلهَا أحد وَلم يَأْتُوا على شيءٍ من ذَلِك بشغب وَلَا بإقناع فَكيف ببرهان وَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيد لبَعض قدماء الصائبين فَمثل هَذِه الحماقات والخرافات هِيَ الَّذِي دَفعته الشَّرِيعَة الإسلامية وأبطلته وَأما مَا قَامَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين فَهُوَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة مَوْجُود نَصه واستدلالاً ضَرُورِيًّا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
مطلب بَيَان كروية الأَرْض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حِين نَأْخُذ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ذكر بعض مَا اعْترضُوا بِهِ وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الْبَرَاهِين قد صحت بِأَن الأَرْض كروية والعامة تَقول غير ذَلِك وجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين الْمُسْتَحقّين لاسم الْإِمَامَة بِالْعلمِ رَضِي الله عَنْهُم لم ينكروا تكوير الأَرْض وَلَا يحفظ لأحد مِنْهُم فِي دَفعه كلمة بل الْبَرَاهِين من الْقُرْآن وَالسّنة قد جَاءَت بتكويرها قَالَ الله عز وَجل {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} وَهَذَا أوضح بَيَان فِي تكوير بَعْضهَا على بعض مَأْخُوذ من كور الْعِمَامَة وَهُوَ إدارتها وَهَذَا نَص على تكوير الأَرْض ودوران الشَّمْس كَذَلِك وَهِي الَّتِي مِنْهَا يكون ضوء النَّهَار بإشراقها وظلمة اللَّيْل بمغيبها وَهِي آيَة النَّهَار بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة} فَيُقَال لمن أنكر مَا جهل من ذَلِك من الْعَامَّة ألبس إِنَّمَا افْترض الله عز وَجل علينا أَن نصلي الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس فَلَا بُد من نعم فَيسْأَلُونَ عَن معنى زَوَال الشَّمْس(2/78)
فَلَا بُد من أَنه إِنَّمَا هُوَ انْتِقَال الشَّمْس عَن مُقَابلَة من قَابل بِوَجْهِهِ القرص واستقبل بِوَجْهِهِ وَأَنْفه وسط الْمسَافَة الَّتِي بَين مَوضِع طُلُوع الشَّمْس وَبَين مَوضِع غُرُوبهَا فِي كل زمَان وكل مَكَان وَأَخذهَا إِلَى جِهَة حَاجِبه الَّذِي يَلِي مَوضِع غرُوب الشَّمْس وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي أول النّصْف الثَّانِي من النَّهَار وَقد علمنَا أَن المداين من معمور الأَرْض آخذة على أديمها من مشرق إِلَى مغرب وَمن جنوب إِلَى شمال فَيلْزم من قَالَ أَن الأَرْض منتصبة إِلَّا على غير مكورة أَن كل من كَانَ سَاكِنا فِي أول الْمشرق أَن يُصَلِّي الظّهْر فِي أول النَّهَار ضَرُورَة وَلَا بُد إِثْر صَلَاة الصُّبْح بِيَسِير لِأَن الشَّمْس بِلَا شكّ تَزُول عَن مُقَابلَة مَا بَين حاجبي كل وَاحِد مِنْهُم فِي أول النَّهَار ضَرُورَة وَلَا بُد أَن كَانَ الْأَمر على مَا تَقولُونَ وَلَا يحل لمُسلم أَن يَقُول إِن صَلَاة الظّهْر تجوز أَن تصلى قبل نصف النَّهَار ويلزمهم أَيْضا أَن من كَانَ سَاكِنا فِي آخر الْمغرب إِن الشَّمْس لَا تَزُول عَن مُقَابلَة مَا بَين حاجبي كل وَاحِد مِنْهُم إِلَّا فِي آخر النَّهَار فَلَا يصلونَ الظّهْر إِلَّا فِي وَقت لَا يَتَّسِع لصَلَاة الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَهَذَا خَارج عَن حكم دين الْإِسْلَام وَأما من قَالَ بتكويرها فَإِن كل من على ظهر الأَرْض لَا يُصَلِّي الظّهْر إِلَّا إِثْر انتصاف نَهَاره أبدا على كل حَال وَفِي كل زمَان وَفِي كل مَكَان وَهَذَا بَين لَا خَفَاء فِيهِ وَقَالَ عز وَجل {سبع سماوات طباقاً} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق} وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان من قبل كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر بعض الدراري لبَعض على أَنَّهَا سبع سموات وعَلى أَنَّهَا طرائق وَقَوله تَعَالَى طرائق يَقْتَضِي متطرقاً فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَهَذَا نَص مَا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَان من انطباق بَعْضهَا على بعض وإحاطة الْكُرْسِيّ بالسموات السَّبع وبالأرض وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن وَقَالَ تَعَالَى الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى وَأخْبر هَذَانِ النصان بِأَن مَا على الْعَرْش هُوَ منتهي الْخلق وَنِهَايَة الْعلم وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظاً من كل شَيْطَان مارد} وَهَذَا هُوَ نَص مَا قَامَ الْبُرْهَان عَلَيْهِ من أَن الْكَوَاكِب المرمي بهَا هِيَ دون سَمَاء الدُّنْيَا لِأَنَّهَا لَو كَانَت فِي السَّمَاء لَكَانَ الشَّيَاطِين يصلونَ إِلَى السَّمَاء أَو كَانَت هِيَ تخرج عَن السَّمَاء وَإِلَّا فَكَانَت تِلْكَ الشهب لَا تصل إِلَيْهِم إِلَّا بذلك وَقد صَحَّ أَنهم ممنوعون من السَّمَاء بالرجوم فصح أَن الرجوم دون السَّمَاء وَأَيْضًا فَإِن تِلْكَ الرجوم لَيست نجوماً مَعْرُوفَة أصلا وَإِنَّمَا هِيَ شهب ونيازك من نَار تتكوكب وتشتعل وتطفأ وَلَا نَار فِي السَّمَوَات أصلا فَلم نجد الِاخْتِلَاف إِلَّا فِي الْأَسْمَاء لاخْتِلَاف اللُّغَات وَقد اعْترض القَاضِي مُنْذر بن سعيد فِي هَذَا فَجعل الأفلاك غير السَّمَوَات
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا برهَان على مَا ذكر إِلَّا أَنه قَالَ إِن السَّمَوَات هِيَ فَوق الأَرْض فَلَو كَانَت السَّمَوَات مُحِيطَة بِالْأَرْضِ لَكَانَ بعض السَّمَوَات تَحت الأَرْض وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن التحت والفوق من بَاب الْإِضَافَة لَا يُقَال فِي شَيْء تَحت إِلَّا وَهُوَ فَوق لشَيْء آخر حاشى مَرْكَز الأَرْض فَإِنَّهُ تَحت مُطلق لَا تَحت لَهُ الْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ كل مَا قيل فِيهِ أَنه فَوق فَهُوَ أَيْضا تَحت لشَيْء آخر حاشى الصفحة الْعليا من(2/79)
الْفلك إِلَّا على الْمَقْسُوم بقسمة البروج فَهِيَ فَوق لَا فَوق لَهَا الْبَتَّةَ فالأرض على هَذَا الْبُرْهَان الشَّاهِد هِيَ مَكَان التحت فِي السَّمَوَات ضَرُورَة فَمن حَيْثُ كَانَت السَّمَاء فَهِيَ فَوق الأَرْض وَمن حَيْثُ قابلتها الأَرْض فَهِيَ تَحت السَّمَاء وَلَا بُد وَحَيْثُ مَا كَانَ ابْن آدم فرأسه إِلَى السَّمَاء وَرجلَاهُ إِلَى الأَرْض وَقد قَالَ الله عز وَجل {ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سماوات طباقاً وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا} وَقَالَ تَعَالَى {جعل فِي السَّمَاء بروجاً وَجعل فِيهَا سِرَاجًا وقمراً منيراً} فَأخْبر الله تَعَالَى أَخْبَار لَا يردهُ إِلَّا كَافِر بِأَن الْقَمَر فِي السَّمَاء وَأَن الشَّمْس أَيْضا فِي السَّمَاء ثمَّ قد قَامَ الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ الْمشَاهد بالعيان على دورانها حول الأَرْض من مشرق إِلَى مغرب ثمَّ من مغرب إِلَى مشرق فَلَو كَانَ على مَا يظنّ أهل الْجَهْل لكَانَتْ الشَّمْس وَالْقَمَر إِذْ دَارا بِالْأَرْضِ وصارا فِيمَا يُقَابل صفحة الأَرْض الَّتِي لسنا عَلَيْهَا قد خرجا عَن السَّمَاء وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى فصح بِهَذَا أَنه لَا يجوز أَن يقارق الشَّمْس وَالْقَمَر السَّمَوَات وَلَا أَن يخرجَا عَنْهَا لِأَنَّهُمَا كَيفَ دَارا فهما فِي السَّمَوَات فصح ضَرُورَة أَن السَّمَوَات مُطَابقَة طباقاً على الأَرْض وَأَيْضًا فقد نَص تَعَالَى كَمَا ذكرنَا على أَن الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم فِي السَّمَوَات ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وكلٌ فِي فلك يسبحون} وبالضرورة علمنَا أَنه لَا يُمكن أَن يكون جرم فِي وَقت وَاحِد فِي مكانين فَلَو كَانَت السَّمَوَات غير الأفلاك وَكَانَت الشَّمْس وَالْقَمَر بِنَصّ الْقُرْآن فِي السَّمَوَات وَفِي الْفلك لكانا فِي مكانيين فِي وَقت غير متداخلين وَاحِد وَهَذَا محَال مُمْتَنع وَلَا ينْسب القَوْل بالمحال إِلَى الله عز وَجل إِلَّا أعمى الْقلب فصح أَن الشَّمْس فِي مَكَان وَاحِد وَهُوَ سَمَاء وَهُوَ فلك وَهَكَذَا القَوْل فِي الْقَمَر وَفِي النُّجُوم وَقَوله تَعَالَى وكلٌ فِي فلك يسبحون نَص جلي على الاستدارة لِأَنَّهُ أخبر تَعَالَى أَن الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم سابحة فِي الْفلك وَلم يخبر تَعَالَى أَن لَهَا سكوناً فَلَو لم تستدر لكَانَتْ على أباد الدهور بل فِي الْأَيَّام الْيَسِيرَة تغيب عَنَّا حَتَّى لَا نرَاهَا أبدا لَو مشت على طَرِيق وَاحِد وَخط وَاحِد مُسْتَقِيم أَو معوج غير مستدير لَكنا أمامها أبدا وَهَذَا بَاطِل فصح بِمَا نرَاهُ من كرورها من شَرق إِلَى عرب وَغرب إِلَى شَرق أَنَّهَا دَائِرَة ضَرُورَة وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سُئِلَ عَن قَول الله تَعَالَى {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقرٍ لَهَا} فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مستقرها تَحت الْعَرْش وَصدق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهَا أبدا تَحت الْعَرْش إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد علمنَا أَن مُسْتَقر الشَّيْء هُوَ مَوْضِعه الَّذِي يلْزم فِيهِ وَلَا يخرج عَنهُ وَإِن مَشى فِيهِ من جَانب إِلَى جَانب حَدثنَا أَحْمد بن عمر بن أنس العذري ثَنَا عبد الله بن أَحْمد الْهَرَوِيّ حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حمويه السَّرخسِيّ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن خُزَيْمٌ ثَنَا عبد بن حميد حَدثنِي سُلَيْمَان بن حَرْب الواسحي ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن اياسي بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ قَالَ السَّمَاء مقببة هَكَذَا على الأَرْض وَبِه إِلَى عبد بن حميد ثَنَا يحيى بن عبد الحميد عَن يَعْقُوب عَن جَعْفَر هُوَ ابْن أبي وحشية عَن سعيد بن حبير قَالَ جَاءَ رجل إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ أَرَأَيْت قَول الله عز وَجل {سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ} قَالَ ابْن عَبَّاس هن ملتويات بَعضهنَّ على بعض(2/80)
حَدثنَا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي ثَنَا مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي حَدثنَا أَبُو يحيى زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي الْبَصْرِيّ قَالَ أَنبأَنَا عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن الْمثنى وَسَلَمَة بن صبيب قَالُوا كلهم ثَنَا وهب بن جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْحَاق يحدث عَن يَعْقُوب ين عتبَة وَجبير بن مُحَمَّد بن جنير بن مطعم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله جهدت الْأَنْفس وَضاع الْعِيَال ونهكت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْأَنْعَام فاستسق الله لنا فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للأعرابي وَيحك تَدْرِي مَا الله إِن عَرْشه على سمواته وأرضه هَكَذَا وَقَالَ بأصابعه مثل الْقبَّة وَوصف لَهُم ابْن جرير بِيَدِهِ وأمال كَفه وأصابعه الْيُمْنَى وَقَالَ هَكَذَا حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد بن نَبَات ثَنَا أَحْمد بن عون الله وَأحمد بن عبد الْبَصِير قَالَا جَمِيعًا أَنبأَنَا قَاسم بن اصبع ثَنَا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الخثني ثَنَا مُحَمَّد بن بشار بنْدَار ثَنَا عبد الصَّمد الْوَارِث التنوري ثَنَا شُعْبَة عَن الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان ابْن مُسلم البطين عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كل فِي فلك يسبحون فلك كفلك المغزل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا أَيْضا قَول لله عز وَجل عَن ذِي القرنين وجدهَا تغرب فِي عين حمئة وقريء أَيْضا حامية قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق بِلَا شكّ وَذُو القرنين هُوَ كَانَ فِي الْعين الحمئة الحامية حمئة من حماتها حامية من استحرارها كَمَا تَقول رَأَيْتُك فِي الْبَحْر تُرِيدُ أَنَّك إِذْ رَأَيْته كنت أَنْت فِي الْبَحْر وبرهان هَذَا أَن مغرب الشَّمْس لَا يجهل مِقْدَار عَظِيم مساحته إِلَّا جَاهِل وَمِقْدَار مَا بَين أول مغْرِبهَا الشتوي إِذا كَانَت من آخر رَأس الجدي إِلَى آخر مغْرِبهَا الصيفي إِذا كَانَت من رَأس السرطان مرئيٌّ مشَاهد ومقداره ثَمَان وَأَرْبَعُونَ دَرَجَة من الْفلك وَهُوَ يوازي من الأَرْض كلهَا بالبرهان الهندسي أقل من مِقْدَار السُّدس يكون من الأميال نَحْو ثَلَاثَة آلَاف ميل ونيف وَهَذِه المساحة لَا يَقع عَلَيْهَا فِي اللُّغَة اسْم عين الْبَتَّةَ لَا سِيمَا أَن تكون عينا حمئة حامية وباللغة الْعَرَبيَّة خوطبنا فَلَمَّا تَيَقنا أَنَّهَا عين بِإِخْبَار الله عز وَجل الصَّادِق الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه علمنَا يَقِينا أَن ذَا القرنين انْتهى بِهِ السّير فِي الْجِهَة الَّتِي مَشى فِيهَا من المغارب إِلَى الْعين الْمَذْكُورَة وَانْقطع لَهُ إِمْكَان الْمَشْي بعْدهَا لاعتراض الْبحار لَهُ هُنَالك وَقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن ذَا القرنين وَغَيره من النَّاس لَيْسَ يشغل من الأَرْض إِلَّا مِقْدَار مساحة جِسْمه فَقَط قَائِما أَو قَاعِدا أَو مُضْطَجعا وَمن هَذِه صفته فَلَا يجوز لَهُ أَن يُحِيط بَصَره من الأَرْض بِمِقْدَار مَكَان المغارب كلهَا لَو كَانَ مغيبها فِي عين من الأَرْض كَمَا يظنّ أهل الْجَهْل وَلَا بُد من أَن يلقى خطّ بَصَره من حدبة الأَرْض أَو من نثر من أنشازها مَا يمْنَع الْخط من التَّمَادِي إِلَى أَن يَقُول قَائِل إِن تِلْكَ الْعين هِيَ الْبَحْر فَلَا يجوز أَن يُسمى الْبَحْر فِي اللُّغَة عينا حمئة وَلَا حامية وَقد أخبر الله عز وَجل أَن الشَّمْس تسبح فِي الْفلك وَأَنَّهَا إِنَّمَا هِيَ من الْفلك سراج وَقَول الله تَعَالَى هُوَ الصدْق الَّذِي لَا يجوز أَن يخْتَلف وَلَا يتناقض فَلَو غَابَتْ فِي عين فِي الأَرْض كَمَا يظنّ(2/81)
أهل الْجَهْل أَو فِي الْبَحْر لكَانَتْ الشَّمْس قد زَالَت عَن السَّمَاء وَخرجت عَن الْفلك وَهَذَا هُوَ الْبَاطِل الْمُخَالف لكَلَام الله عز وَجل حَقًا نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك فصح يَقِينا بِلَا شكّ أَن ذَا القرنين كَانَ هُوَ فِي الْعين الحمئة الحامية حِين انْتهى من آخر فِي الْبر وَفِي المغارب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَا سِيمَا مَعَ مَا قَامَ الْبُرْهَان عَلَيْهِ من أَن جرم الشَّمْس أكبر من جرم الأَرْض وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وبرهان آخر قَاطع وَهُوَ قَول الله عز وَجل {وجدهَا تغرب فِي عين حامية} وقري {حمئة} وَوجد عِنْدهَا قوما فصح ضَرُورَة أَنه وجد الْقَوْم عِنْد الْعين لَا عِنْد الشَّمْس وَقَالَ الله عز وَجل {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقد صَحَّ الْإِجْمَاع وَالنَّص على أَن أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم فِي الْجنَّة إِلَّا فِي قَول من لَا يعد من جملَة أهل الْإِسْلَام مِمَّن يَقُول بِفنَاء الْأَرْوَاح وَأَنَّهَا أَعْرَاض وَكَذَلِكَ أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي الْجنَّة وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رَآهُمْ لَيْلَة أسرِي بِهِ فِي السَّمَوَات سَمَاء سَمَاء آدم فِي سَمَاء الدُّنْيَا وَعِيسَى وَيحيى فِي الثَّانِيَة ويوسف فِي الثَّالِثَة وَإِدْرِيس فِي الرَّابِعَة وَهَارُون فِي الْخَامِسَة ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة صلى الله على جَمِيعهم وَسلم فصح ضَرُورَة أَن السَّمَوَات هِيَ الجنات وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء طير أَخْضَر تعلق فِي ثمار الْجنَّة وَمن الْمحَال الْمُمْتَنع الَّذِي لَا يَظُنّهُ مُسلم أَن تكون أَرْوَاح الشُّهَدَاء طيور خضر فِي الْجنَّة وأرواح الْأَنْبِيَاء فِي غير الْجنَّة إِذْ هم أولى بِكُل فضل وَلَا مَكَان أفضل من الْجنَّة حَدثنَا أَحْمد ابْن عمر بن أنس العذري حَدثنَا أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَنا أَحْمد بن عَبْدَانِ الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي بالأهواز أَنا مُحَمَّد بن سهل الْمقري حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مؤلف الصَّحِيح أَنا أَبُو عَاصِم النَّبِيل أَنا عبد الله بن أُميَّة بن عبد الله بن خَالِد بن أسيد أَنا مُحَمَّد بن جُبَير عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبَحْر من جَهَنَّم أحَاط بِهِ سرادقها حَدثنَا يُونُس بن عبد الله ابْن مغيث أَنا أَحْمد بن عبد الله بن عبد الرَّحِيم حَدثنَا أَحْمد بن خَالِد أَنا مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي حَدثنَا مُحَمَّد ابْن بشار حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عُثْمَان بن غياث عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس عَن كَعْب قَالَ وَالْبَحْر الْمَسْجُور يسجر فَيكون جَهَنَّم حَدثنَا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِي أَنا عبد الله بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْأَسدي أَنا أَحْمد ابْن خَالِد حَدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز أَنا الْحجَّاج بن الْمنْهَال السّلمِيّ أَنا مهْدي بن مَيْمُون عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن أبي يَعْقُوب الضَّبِّيّ عَن بشر هُوَ ابْن سعاف قَالَ كُنَّا مَعَ عبد الله بن سَلام يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ وَإِن الْجنَّة فِي السَّمَاء وَالنَّار فِي الأَرْض وَذكر كلَاما كثيرا وَبِه إِلَى الْحجَّاج بن الْمنْهَال حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن دَاوُد عَن سعيد بن الْمسيب أَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ ليهودي أَيْن جَهَنَّم قَالَ فِي الْبَحْر قَالَ عَليّ بن أبي طَالب مَا أَظُنهُ إِلَّا قد صدق حَدثنَا الْمُهلب الْأَسدي حَدثنَا ابْن عَبَّاس حَدثنَا بن مسرور حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى(2/82)
حَدثنَا عبد الله ابْن وهب عَن شبيب بن سعيد عَن الْمنْهَال عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن بن مَسْعُود قَالَ الأَرْض كلهَا يَوْمئِذٍ نَار وَالْجنَّة من وَرَائِهَا وأولياء الله فِي ظلّ عرش الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله تَعَالَى {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} فَبين الله تَعَالَى أَن الشَّمْس أَبْطَأَ من الْقَمَر وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان بالرصد أَن الشَّمْس تقطع السَّمَاء فِي سنة وَالْقَمَر يقطعهَا فِي ثَمَانِيَة وَعشْرين يَوْمًا ثمَّ نَص تَعَالَى على أَن اللَّيْل لَا يسْبق النَّهَار فَبين تَعَالَى بِهَذَا الحكم الْحَرَكَة الثَّانِيَة الَّتِي للفلك الْكُلِّي وَهِي الَّتِي تتمّ فِي كل يَوْم وَلَيْلَة دورة وتتساوى فِيهَا جَمِيع الدراري وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَقَالَ تَعَالَى {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب} وَأخْبر تَعَالَى أَن أَرْوَاح الْكَافرين {لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة} فصح أَن من فتحت لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء دخل الْجنَّة وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم وَأَن لَهَا نفسين نفسا فِي الشتَاء ونفساً فِي الصَّيف وَإِن ذَلِك أَشد مَا نجد من الْحر وَالْبرد وَإِن نارنا هَذِه أبرد من نَار جَهَنَّم بتسع وَسِتِّينَ دَرَجَة وَهَكَذَا نشاهد من فعل الصَّوَاعِق فَإِنَّهَا تبلغ من الإحراق والأذى فِي مِقْدَار اللمحة مَا لَا تبلغه نارنا فِي المدد الطوَال وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن آخر أهل الْجنَّة دُخُولا فِيهَا بعد خُرُوجه من النَّار يعْطى مثل الدُّنْيَا عشر مَرَّات روينَاهُ من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ مُسْندًا وَصَحَّ أَيْضا مُسْندًا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة كاصبع فِي اليم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي نِسْبَة الْمسَافَة لَا فِي نِسْبَة الْمدَّة لِأَن مُدَّة الْآخِرَة لَا نِهَايَة لَهَا وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ فَلَا ينْسب مِنْهُ شَيْء الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْأَوْجه وَلَا هُوَ أَيْضا نِسْبَة من السرُور واللذة وَلَا من الْحزن وَالْبَلَاء فَإِن سرُور الدُّنْيَا مشوب بألم ومتناه منقض وسرور الْآخِرَة وحزنها خالصان غير متناهيين وَهَكَذَا قَامَ الْبُرْهَان من قبل رويتنا لنصب السَّمَاء أبدا على أَنه لَا نِسْبَة للْأَرْض عِنْد السَّمَاء وَلَا قدر وَقَالَ عز وَجل {وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {وجني الجنتين دَان} وَذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن للجنة ثمانة أَبْوَاب وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فاسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن فصح يَقِينا أَنَّهُمَا جنتان أَحدهمَا كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْأُخْرَى عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض وَقَوله تَعَالَى {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} إِنَّمَا هُوَ خبر عَن الْجَمِيع أَن لَهُم هَاتين الجنتين فالتي عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ السَّمَوَات السَّبع لِأَن عرض الشَّيْء مِنْهُ بِلَا شكّ وكل جرم كرْسِي فَإِن جَمِيع إبعاده عرُوض فَقَط وَذكرت الأَرْض هُنَا لدخولها(2/83)
فِي جملَة مساحة السَّمَوَات ولإحاطة السَّمَوَات بهَا وَالَّتِي عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض هِيَ الْكُرْسِيّ الْمُحِيط بالسموات وَالْأَرْض قَالَ الله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فصح ان عرضه كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض مُضَافا بعض ذَلِك إِلَى بعض فصح أَن لَهَا ثَمَانِيَة أَبْوَاب فِي كل سَمَاء بَاب وَفِي الْكُرْسِيّ بَاب وَصَحَّ أَن الْعَرْش فَوق أعلا الْجنَّة وَهُوَ مَحل الْمَلَائِكَة وموضعها لَيْسَ من الْجنَّة فِي شَيْء بل هُوَ فَوْقهَا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} بَيَان جلي على أَن الْعَرْش جرما آخر فِيهِ الْمَلَائِكَة وَقد ذكر أَن الْبُرْهَان يقوم بذلك من أحكم النّظر فِي الْهَيْئَة وَهَذِه نُصُوص ظَاهِرَة جلية دون تكلّف تَأْوِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَوله تَعَالَى كعرض السَّمَاء ذكر لجنس السَّمَوَات لِأَن السَّمَوَات اسْم للْجِنْس يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمثل هَذَا كثير مِمَّا إِذا تدبره المتدبر دلّ على صِحَة مَا قُلْنَاهُ من أَن كل مَا ثَبت ببرهان فَهُوَ مَنْصُوص فِي الْقُرْآن وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطلب بَيَان كذب من ادّعى لمُدَّة الدُّنْيَا عددا مَعْلُوما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما اخْتِلَاف النَّاس فِي التَّارِيخ فَإِن الْيَهُود يَقُولُونَ للدنيا أَرْبَعَة آلَاف سنة ونيف وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ للدنيا خَمْسَة آلَاف سنة وَأما نَحن فَلَا نقطع على عدد مَعْرُوف عندنَا وَأما من ادّعى فِي ذَلِك سَبْعَة آلَاف سنة أَو أَكثر أَو أقل فقد كذب وَقَالَ مَا لم يَأْتِ قطّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ لَفْظَة تصح بل صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام خِلَافه بل نقطع على أَن للدنيا أمرا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَنْتُم فِي الْأُمَم قبلكُمْ إِلَّا كالشعرة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود أَو كالشعرة السَّوْدَاء فِي الثور الْأَبْيَض هَذَا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام ثَابت وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا عين الْحق وَلَا يسامح بِشَيْء من الْبَاطِل وَهَذِه نِسْبَة من تدبرها وَعرف مِقْدَار أعداد أهل الْإِسْلَام وَنسبَة مَا بِأَيْدِيهِم من معمور الأَرْض وَأَنه إِلَّا كثر علم أَن للدنيا عددا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله الْخَالِق تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعثت أَنا والساعة كهاتين وَضم اصبعيه المقدستين السبابَة وَالْوُسْطَى وَقد جَاءَ النَّص بِأَن السَّاعَة لَا يعلم مَتى تكون إِلَّا الله عز وَجل لَا أحد سواهُ فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عني شدَّة الْقرب لَا فضل طول الْوُسْطَى على السبابَة إِذْ لَو أَرَادَ فضل ذَلِك لأخذت نِسْبَة مَا بَين الاصبعين وَنسب ذَلِك من طول الْوُسْطَى فَكَانَ يعلم بذلك مَتى تقوم السَّاعَة وَهَذَا بَاطِل وَأَيْضًا فَكَانَ تكون نسبته عَلَيْهِ السَّلَام إيانا إِلَى من قبلنَا بِأَنَّهُ كالشعرة فِي الثور كذبا ومعاذ الله من ذَلِك فصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا أَرَادَ شدَّة الْقرب وَله عَلَيْهِ السَّلَام مذ بعث أَرْبَعمِائَة عَام ونيف وَالله أعلم بِمِقْدَار مَا بَقِي من(2/84)
عمر الدُّنْيَا فَإِذا كَانَ هَذَا الْعدَد الْعَظِيم لَا نِسْبَة لَهُ عِنْد مَا سلف لقلته وتفاهته بِالْإِضَافَة إِلَى مَا مضى فَهَذَا الَّذِي قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام من أننا فِيمَن مضى كالشعرة فِي الثور أَو الرَّقْمَة فِي ذِرَاع الْحمار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد رَأَيْت بِخَط الْأَمِير أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الناصري رَحمَه الله قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْقرشِي أَنه رأى بِالْهِنْدِ بداله اثْنَان وَسَبْعُونَ ألف سنة وَقد وجد مَحْمُود بن سبكتكين بِالْهِنْدِ مَدِينَة يؤرخونها بأربعمائة ألف سنة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِلَّا أَن لكل لَك ذَلِك أَولا ومبدأ وَلَا بُد من نِهَايَة لم يكن شَيْء من الْعَالم مَوْجُودا قبلهَا وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد وَمِمَّا اعْترض بِهِ بَعضهم إِن قَالَ أَنْتُم تَقولُونَ أَن أهل الْجنَّة يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ وَيلبسُونَ ويطأون النِّسَاء وَأَن هُنَاكَ جرارى أَبْكَارًا خَلقهنَّ لَهُم وَذَلِكَ الْمَكَان لَا فَسَاد فِيهِ وَلَا اسْتِحَالَة وَلَا مزاج وَهَذِه أَشْيَاء كوائن فواسد فَكيف الْأَمر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أَن هَاهُنَا ثَلَاثَة أجوبة أَحدهَا برهَان ضَرُورِيّ سَمْعِي وَالثَّانِي برهَان نَظَرِي مشَاهد وَالثَّالِث إقناعي خَارج على أصُول الْمعَارض لنا فَالْأول وَهُوَ الَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ وَهُوَ أَن الْبُرْهَان الضَّرُورِيّ قد قدمْنَاهُ على أَن الله عز وَجل خلق الْأَشْيَاء وابتدعها مخترعاً لَهَا لَا من شَيْء وَلَا على أصل مُتَقَدم وَإِذ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَيْسَ شَيْء متوهم أَو مسئول يتَعَذَّر من قدرَة الْخَالِق عز وَجل إِذْ كل مَا شَاءَ تكوينه كَونه وَلَا فرق بَين خلقه عز وَجل كل ذَلِك فِي هَذِه الدَّار وَبَين خلقه كَذَلِك فِي الدَّار الْآخِرَة وَقد أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قَامَت الْبَرَاهِين الضرورية على أَن الله عز وَجل بَعثه إِلَيْنَا ووسطه للتبليغ عَنهُ وعَلى صدقه فَمَا أخبر بِهِ أَن الْأكل وَالشرب واللباس والوطيء هُنَالك وَكَانَ هَذَا الْخَبَر الَّذِي اُخْبُرْنَا بِهِ الصَّادِق عَلَيْهِ السَّلَام دَاخِلا فِي حد الْمُمكن لَا فِي الْمُمْتَنع ثمَّ لما أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحَّ الْوَاجِب علمنَا بِهِ ضَرُورَة فَبَان أَنه فِي حد وَأما الْجَواب الثَّانِي فَهُوَ أَن الله عز وَجل خلق أَنْفُسنَا ورتب جواهرها وطباعها الذاتية رُتْبَة لَا تستحيل الْبَتَّةَ على التذاذ المطاعم والمشارب والروائح الطّيبَة والمناظر الْحَسَنَة والأصوات المطربة والملابس المعجبة على حسب مُوَافقَة كل ذَلِك لجوهر أَنْفُسنَا هَذَا مَالا مدفع فِيهِ وَلَا شكّ فِي أَن النُّفُوس هِيَ الملتذة بِكُل مَا ذكرنَا وَأَن الْحَواس الجسدية هِيَ المنافذ الموصلة لهَذِهِ الملاذ إِلَى النُّفُوس وَكَذَلِكَ المكاره كلهَا وَأما الْجَسَد فَلَا حس لَهُ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ طبيعة جَوْهَر أَنْفُسنَا الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى وجودهَا دونهَا إِذا جمع الله يَوْم الْقِيَامَة بَين أَنْفُسنَا وَبَين الأجساد المركبة لَهَا وعادت كَمَا كَانَت جوزيت هُنَالك ونعمت بملاذها وَبِمَا تستدعيه طباعها الَّتِي لم تُوجد قطّ إِلَّا كَذَلِك وَلَا لَهَا لَذَّة سواهَا إِلَّا أَن الطَّعَام الَّذِي هُنَالك غير مَعَاني ينار وَلَا ذُو آفَات وَلَا مُسْتَحِيل قذراً ودماً وَلَا ذبح هُنَالك وَلَا آلام وَلَا تغير وَلَا موت وَلَا فَسَاد وَقد قَالَ الله تَعَالَى {لَا يصدعون عَنْهَا وَلَا ينزفون}(2/85)
وَتلك الملابس غير محوكة بنسج وَلَا فانية وَلَا متغيرة وَلَا تقبل الْبلَاء وَتلك الأجساد لَا كدر فِيهَا وَلَا خلط وَلَا دم وَلَا أَذَى وَتلك النُّفُوس لَا رذيلة فِيهَا من غل وَلَا حسد وَلَا حرص قَالَ الله تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا} وَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المخرجين من النَّار أَنهم يطرحون فِي نهر على بَاب الْجنَّة فَإِذا نقوا وهذبوا هَذَا نَص لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ بعد التنقية أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم حِينَئِذٍ يصيرون إِلَى الْجنَّة فصح أَن الملاذ من هَذِه الْأَشْيَاء والمتناولات تصل إِلَى النُّفُوس هُنَالك على حسب اخْتِلَاف وجود النَّفس لَهَا وتغاير أَنْوَاع التذاذها بهَا وأوقعت عَلَيْهَا الْأَسْمَاء لإفهامها الْمَعْنى المُرَاد وَقد روينَا عَن ابْن عَبَّاس مَا حدّثنَاهُ يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن مَسْعُود حَدثنَا قَاسم بن أصْبع حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْعَبْسِي حَدثنَا وَكِيع بن الْجراح أَنبأَنَا الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الْجنَّة مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاء وَهَذَا سَنَد فِي غَايَة الصِّحَّة وَهُوَ أول حَدِيث فِي قِطْعَة وَكِيع الْمَشْهُورَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الوطىء فَهُوَ هُنَالك كَمَا هُوَ عندنَا هَهُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُؤنَة وَلَا اسْتِحَالَة وَإِنَّمَا هُوَ التذاذ النَّفس بمداخلة بعض الْجَسَد الْمُضَاف إِلَيْهَا لجسد آخر فَقَط وَأما الْجَواب الثَّالِث الإقناعي وَهُوَ مُوَافق لأصولهم ولسنا نعتمد عَلَيْهِ فَهُوَ قدماء الْهِنْد قد ذكرُوا فِي كَلَامهم فِي الأفلاك والبروج ووجوه الْمطَالع أَنه يطلع مَعَ كل وَجه من وُجُوه البروج صور وصفوها وَذكروا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم الْأَدْنَى صُورَة إِلَّا وَهِي فِي الْعَالم الأعلا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِيجَاب مِنْهُم أَن هُنَالك ملابس ومشارب ومطاعم ووطئا وأنهارا وأشجارا أَو غير ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وعارضني يَوْمًا نَصْرَانِيّ كَانَ قَاضِيا على نَصَارَى قرطبة فِي هَذَا وَكَانَ يتَكَرَّر على مجلسي فَقلت لَهُ أَو لَيْسَ فِيمَا عنْدكُمْ فِي الْإِنْجِيل أَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أكل مَعَهم الفصح وفيهَا أَخذ بزعمهم وَقد سقاهم كأساً من خمر وَقَالَ إِنِّي لَا أشربها مَعكُمْ أبدا حَتَّى تشربوها معي فِي الملكوت عَن يَمِين الله تَعَالَى وَقَالَ فِي قصَّة الْفَقِير الْمُسَمّى العاذار الَّذِي كَانَ مطرحاً على بَاب الْغَنِيّ تلحس الْكلاب جراح قروحه وَأَن ذَلِك الْغَنِيّ نظر إِلَيْهِ فِي الْجنَّة مُتكئا فِي حجر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فناداه وَهُوَ فِي النَّار يَا أبي يَا إِبْرَاهِيم ابْعَثْ إِلَى العاذار بِشَيْء من مَاء يبل بِهِ لساني وَهَذَا نَص على أَن فِي الْجنَّة شرابًا من مَاء وخمر فَسكت النَّصْرَانِي وَانْقطع والتوراة الَّتِي بأيدي الْيَهُود فَلَيْسَ ذكر مَا لنعيم الْآخِرَة أصلا وَلَا لجزاء بعد الْمَوْت الْبَتَّةَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي أكل أهل النَّار وشربهم سَوَاء بِسَوَاء كَمَا ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق(2/86)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْأَرْض أَيْضا سبع طباق منطبقة بَعْضهَا على بعض كإطباق السَّمَوَات لإخبار خالقنا بذلك وَلَيْسَ ذَلِك قبل الْخَبَر فِي حد الْمُمْتَنع بل فِي حد الْمُمكن وَذكر قوم قَول الله تَعَالَى {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات} فَقُلْنَا قَول الله هَذَا حَقًا وَقد قَالَ عز وَجل {وَفتحت السَّمَاء فَكَانَت أبوابا} قَالَ عز وَجل {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ وَتَكون الْجبَال كالعهن} وَقَالَ تَعَالَى {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكةً وَاحِدَة فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية وَالْملك على أرجائها} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا السَّمَاء انشقت} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا الأَرْض مدت وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا السَّمَاء انفطرت وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت وَإِذا الْبحار فجرت} وَقَالَ تَعَالَى {إِذا الشَّمْس كورت وَإِذا النُّجُوم انكدرت وَإِذا الْجبَال سيرت} وَقَالَ تَعَالَى {أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقاً ففتقناهما} وَقَالَ تَعَالَى {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعلين} وَقَالَ تَعَالَى وَذكر أهل الْجنَّة {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ} فَكل كَلَامه تَعَالَى حق لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعضه دون بعض فصح يَقِينا أَن تَبْدِيل السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيل أحوالها لَا إعدامها لَكِن إخلاؤها من الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والنجوم وتفتيحها أبواباً وَكَونهَا كَالْمهْلِ وتشققها ووهيها وانفطارها وتدكدك الأَرْض وَالْجِبَال وَكَونهَا كالعهن المنفوش وتسييرها وتسجير الْبحار فَقَط وَبِهَذَا تتألف الْآيَات كلهَا وَلَا يجوز عَن هَذَا أصلا وَمن اقْتصر على آيَة التبديل كذب كل مَا ذكرنَا وَهَذَا كفر مِمَّن فعله وَمن جمعهَا كلهَا فقد آمن بجميعها وَصدق الله تَعَالَى فِي كل مَا قَالَ وَهنا يُوجب مَا قُلْنَاهُ ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد أكملنا وَالْحَمْد لله كثير الْكَلَام على الْملَل الْمُخَالفَة لدين الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ دين الله تَعَالَى على عباده الَّذِي لَا دين لَهُ فِي الأَرْض غَيره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وأوضحنا بعون الله تَعَالَى وتأييده الْبَرَاهِين الضرورية على إِثْبَات الْأَشْيَاء ووجودها ثمَّ على حدوثها كلهَا جواهرها وأعراضها بعد إِن لم تكن ثمَّ على أَن لَهَا مُحدثا وَاحِدًا مُخْتَارًا لم يزل وَحده لَا شَيْء مَعَه وَأَنه فعل لَا لعِلَّة وَترك لَا لعِلَّة بل كَمَا شَاءَ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ثمَّ على صِحَة النبوات ثمَّ على صِحَة نبوة مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن مِلَّته هِيَ الْحق وكل مِلَّة سواهَا بَاطِل وَأَنه آخر الْأَنْبِيَاء وملته آخر الْملَل فنبدأ الْآن بعون الله تَعَالَى وتأييده فِي ذكر نحل الْمُسلمين وافتراقهم فِيهَا وَبَيَان الْحق فِي كل وَبِاللَّهِ نستعين(2/87)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم رَضِي الله عَنهُ إِذْ قد أكملنا بعون الله الْكَلَام فِي الْملَل فلنبدأ بحول الله عز وَجل فِي ذكر الله عز وَجل نحل أهل الْإِسْلَام وافتراقهم فِيهَا وإيراد مَا شغب بِهِ من شغب مِنْهُم فِيمَا غلط فِيهِ من نحلته وإيراد الْبَرَاهِين الضرورية على إِيضَاح نحلة الْحق من تِلْكَ النَّحْل كَمَا فعلنَا فِي الْملَل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كثيرا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فرق المقرين بِملَّة الْإِسْلَام خَمْسَة وهم أهل السّنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج ثمَّ افْتَرَقت كل فرقة من هَذِه على فرق وَأكْثر افْتِرَاق أهل السّنة فِي الْفتيا ونبذ يسيرَة من الاعتقادات سننبه عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ سَائِر الْفرق الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرنَا فَفِيهَا مَا يُخَالف أهل السّنة الْخلاف الْبعيد وَفِيهِمْ مَا يخالفهم الْخلاف الْقَرِيب فأقرب فرق المرجئة إِلَى أهل السّنة من ذهب مَذْهَب أبي حنيفَة الْفَقِيه إِلَى أَن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِاللِّسَانِ وَالْقلب مَعًا وَأَن الْأَعْمَال إِنَّمَا هِيَ شرائع الْإِيمَان وفرائضه فَقَط وأبعدهم أَصْحَاب جهم بن صَفْوَان والأشعري وَمُحَمّد بن كرام السجسْتانِي فَإِن جهماً والأشعري يَقُولُونَ أَن الْإِيمَان عقد بِالْقَلْبِ فَقَط وَإِن أظهر الْكفْر والتثليث بِلِسَانِهِ وَعبد(2/88)
الصَّلِيب فِي دَار الْإِسْلَام بِلَا تقية وَمُحَمّد بن كرام يَقُول هُوَ القَوْل بِاللِّسَانِ وَإِن اعْتقد الْكفْر بِقَلْبِه وَأقرب فرق الْمُعْتَزلَة إِلَى أهل السّنة أَصْحَاب الْحُسَيْن بن مُحَمَّد النجار وَبشر ابْن غياث المريسي ثمَّ أَصْحَاب ضرار بن عَمْرو وأبعدهم أَصْحَاب أبي الهزيل وَأقرب مَذَاهِب الشِّيعَة إِلَى أهل السّنة المنتمون إِلَى أَصْحَاب الْحسن بن صَالح بن حَيّ الهمزاني الْفَقِيه الْقَائِلُونَ بِأَن الْإِمَامَة فِي ولد عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَالثَّابِت عَن الْحسن بن صَالح رَحمَه الله هُوَ قَوْلنَا أَن الْإِمَامَة فِي جَمِيع قُرَيْش وَتَوَلَّى جَمِيع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا أَنه كَانَ يفضل عليا على جَمِيعهم وأبعدهم الإمامية وَأقرب فرق الْخَوَارِج إِلَى أهل السّنة أَصْحَاب عبد الله بن يزِيد الأباضي الفزازي الْكُوفِي وأبعدهم الْأزَارِقَة وَأما أَصْحَاب أَحْمد بن حابط وَأحمد بن مالوس وَالْفضل الْحَرَّانِي والغالية من الروافض والمتصوفة والبيطحية أَصْحَاب أبي إِسْمَاعِيل البطيحي وَمن فَارق الْإِجْمَاع من العجاردة وَغَيرهم فليسوا من أهل الْإِسْلَام بل كفار بِإِجْمَاع الْأمة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان ذكر مَا اعتمدت عَلَيْهِ كل فرقة من هَذِه الْفرق مِمَّا اخْتصّت بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما المرجئة فعمدتهم الَّتِي يتمسكون بهَا الْكَلَام فِي الْإِيمَان وَالْكفْر مَا هما وَالتَّسْمِيَة بهما والوعيد وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلفت غَيرهم وَأما الْمُعْتَزلَة فعمدتهم الَّتِي يتمسكون بهَا الْكَلَام فِي التَّوْحِيد وَمَا يُوصف بِهِ الله تَعَالَى ثمَّ يزِيد بَعضهم الْكَلَام فِي الْقدر وَالتَّسْمِيَة بِالْفِسْقِ أَو الْإِيمَان والوعيد وَقد يُشَارك الْمُعْتَزلَة فِي الْكَلَام فِيمَا يُوصف الله تَعَالَى بِهِ جهم بن صَفْوَان وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان والأشعرية وَغَيرهم من المرجئية وَهِشَام بن الحكم وَشَيْطَان الطاق واسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر الْكُوفِي وَدَاوُد الْحوَاري وَهَؤُلَاء كلهم شيعَة إِلَّا أننا اختصصنا الْمُعْتَزلَة بِهَذَا الأَصْل لِأَن كل من تكلم فِي هَذَا الأَصْل فَهُوَ غير خَارج عَن قَول أهل السّنة أَو قَول الْمُعْتَزلَة حاشا هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين من المرجئة والشيعة فَإِنَّهُم انفردوا بأقوال خَارِجَة عَن قَول أهل السّنة والمعتزلة وَأما الشِّيعَة فعمدة كَلَامهم فِي الْإِمَامَة والمفاضلة بَين أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلف غَيرهم وَأما الْخَوَارِج فعمدة مَذْهَبهم الْكَلَام فِي الْإِيمَان وَالْكفْر مَا هما وَالتَّسْمِيَة بهما والوعد والإمامة وَاخْتلفُوا فِيمَا عدا ذَلِك كَمَا اخْتلف غَيرهم وَإِنَّمَا خصصنا هَذِه الطوائف بِهَذِهِ الْمعَانِي لِأَن من قَالَ إِن أَعمال الْجَسَد إِيمَان فَإِن الْإِيمَان يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية وَإِن مُؤمنا يكفر بِشَيْء من أَعمال الذُّنُوب وَإِن مُؤمنا بِقَلْبِه وبلسانه يخلد فِي النَّار فَلَيْسَ مرجئياً وَمن وافقهم على أَقْوَالهم هَا هُنَا وَخَالفهُم فِيمَا عدا ذَلِك من كل مَا اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيهِ فَهُوَ مرجيء وَمن خَالف الْمُعْتَزلَة فِي خلق الْقُرْآن والرؤية والتشبيه وَالْقدر وَأَن صَاحب الْكَبِيرَة لَا مُؤمن وَلَا كَافِر لَكِن فَاسق فَلَيْسَ مِنْهُم وَمن وافقهم فِيمَا ذكرنَا فَهُوَ مِنْهُم وَإِن خالفهم فِيمَا سوى مَا ذكرنَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَمن وَافق(2/89)
الشِّيعَة فِي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحقهم بِالْإِمَامَةِ وَولده من بعده فَهُوَ شيعي وَإِن خالفهم فِيمَا عدا ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ فَإِن خالفهم فِيمَا ذكرنَا فَلَيْسَ شِيعِيًّا وَمن وَافق الْخَوَارِج من إِنْكَار التَّحْكِيم وتكفير أَصْحَاب الْكَبَائِر وَالْقَوْل بِالْخرُوجِ على أَئِمَّة الْجور وَإِن أَصْحَاب الْكَبَائِر مخلدون فِي النَّار وَأَن الْإِمَامَة جَائِزَة فِي غير قُرَيْش فَهُوَ خارجي وَإِن خالفهم فِيمَا عدا ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ خالفهم فِيمَا ذكرنَا فَلَيْسَ خارجياً
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأهل السّنة الَّذين نذكرهم أهل الْحق وَمن عداهم فَأهل الْبِدْعَة فَإِنَّهُم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وكل من سلك نهجهم من خِيَار التَّابِعين رَحْمَة الله عَلَيْهِم ثمَّ أَصْحَاب الحَدِيث وَمن اتبعهم من الْفُقَهَاء جيلاً فجيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو من اقْتدى بهم من الْعَوام فِي شَرق الأَرْض وغربها رَحْمَة الله عَلَيْهِم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تسمى باسم الْإِسْلَام من أجمع جَمِيع فرق الْإِسْلَام على أَنه لَيْسَ مُسلما مثل طوائف من الْخَوَارِج غلوا فَقَالُوا إِن الصَّلَاة رَكْعَة بِالْغَدَاةِ وركعة بالْعَشي فَقَط وَآخَرُونَ استحلوا نِكَاح بَنَات الْبَنِينَ وَبَنَات الْبَنَات وَبَنَات بني الْإِخْوَة وَبَنَات بني الْأَخَوَات وَقَالُوا إِن سُورَة يُوسُف لَيست من الْقُرْآن وَآخَرُونَ مِنْهُم قَالُوا يحد الزَّانِي وَالسَّارِق ثمَّ يستتابون من الْكفْر فَإِن تَابُوا وَإِلَّا قتلوا وَطَوَائِف كَانُوا من الْمُعْتَزلَة ثمَّ غلوا فَقَالُوا بتناسم الْأَرْوَاح وَآخَرُونَ مِنْهُم قَالُوا إِن شَحم الْخِنْزِير ودماغه حَلَال وَطَوَائِف من المرجئية قَالُوا إِن إِبْلِيس لم يسْأَل الله قطّ النظرة وَلَا أقرّ بِأَن خلقه من نَار وَخلق آدم من تُرَاب وَآخَرُونَ قَالُوا إِن النُّبُوَّة تكتسب بِالْعَمَلِ الصَّالح وَآخَرُونَ كَانُوا من أهل السّنة فغلوا فَقَالُوا قد يكون فِي الصَّالِحين من هُوَ أفضل من الْأَنْبِيَاء وَمن الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَأَن من عرف الله حق مَعْرفَته فقد سَقَطت عَنْهُم الْأَعْمَال والشرائع وَقَالَ بَعضهم بحلول الْبَارِي تَعَالَى فِي أجسام خلقه كالحلاج وَغَيره وَطَوَائِف كَانُوا من الشِّيعَة ثمَّ غلوا فَقَالَ بَعضهم بحلول الْبَارِي تَعَالَى فِي أجسام خلقه كالحلاج وَغَيره وَطَوَائِف كَانُوا من الشِّيعَة ثمَّ غلوا فَقَالَ بَعضهم بالآلهية عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام وَالْأَئِمَّة بعده وَمِنْهُم من قَالَ بنبوته وبتناسخ الْأَرْوَاح كالسيد الْحِمْيَرِي الشَّاعِر وَغَيره وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم بآلهية أبي الْخطاب مُحَمَّد بن أبي زَيْنَب مولى بني أَسد وَقَالَت طَائِفَة بنبوة الْمُغيرَة بن أبي سعيد مولي نَبِي بجلة وبنبوة أبي مَنْصُور الْعجلِيّ وبزيع الحايك وَبَيَان ابْن سمْعَان التَّمِيمِي وَغَيرهم وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم برجعة عَليّ إِلَى الدُّنْيَا وامتنعوا من القَوْل بِظَاهِر الْقُرْآن وَقَالُوا إِن لظاهره تأويلات فَمِنْهَا أَن قَالُوا السَّمَاء مُحَمَّد وَالْأَرْض أَصْحَابه وَأَن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة أَنَّهَا هِيَ فُلَانَة يَعْنِي أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَقَالُوا الْعدْل وَالْإِحْسَان هُوَ عَليّ والخبث والطاغوت فلَان وَفُلَان يعنون أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالُوا الصَّلَاة هِيَ دُعَاء الإِمَام وَالزَّكَاة هِيَ مَا يُعْطي الإِمَام وَالْحج الْقَصْد إِلَى الإِمَام وَفِيهِمْ خناقون ورضاخون وكل هَذِه الْفرق لَا تتَعَلَّق بِحجَّة أصلا وَلَيْسَ(2/90)
بِأَيْدِيهِم إِلَّا دَعْوَى الإلهام والقحة والمجاهرة بِالْكَذِبِ وَلَا يلتفتون إِلَى مناظرة وَيَكْفِي من الرَّد عَلَيْهِم أَن يُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من ادّعى أَنه ألهم بطلَان قَوْلكُم وَلَا سَبِيل إِلَى الانفكاك من هَذَا وَأَيْضًا فَإِن جَمِيع فرق الْإِسْلَام متبرئة مِنْهُم مكفرة لَهُم مجمعون على أَنهم على غير الْإِسْلَام نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْأَصْل فِي أَكثر خُرُوج هَذِه الطوائف عَن ديانَة الْإِسْلَام أَن الْفرس كَانُوا من سَعَة الْملك وعلو الْيَد على جَمِيع الْأُمَم وجلالة الخطير فِي أنفسهم حَتَّى أَنهم كَانُوا يسمون أنفسهم الْأَحْرَار وَالْأَبْنَاء وَكَانُوا يعدون سَائِر النَّاس عبيد لَهُم فَلَمَّا امتحنوا بِزَوَال الدولة عَنْهُم على أَيدي الْعَرَب وَكَانَت الْعَرَب أقل الْأُمَم عِنْد الْفرس خطراً تعاظمهم الْأَمر وتضاعفت لديهم الْمُصِيبَة وراموا كيد الْإِسْلَام بالمحاربة فِي أَوْقَات شَتَّى فَفِي كل ذَلِك يظْهر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحق وَكَانَ من قائمتهم ستقادة واستاسيس وَالْمقنع وبابك وَغَيرهم وَقيل هَؤُلَاءِ رام ذَلِك عمار الملقب بخداش وابو سلم السراج فَرَأَوْا أَن كَيده على الْحِيلَة أنجع فأظهر قوم مِنْهُم الْإِسْلَام واستمالوا أهل النشيع بِإِظْهَار محبَّة أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسشناع ظلم عَليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ سلكوا بهم مسالك شَتَّى حَتَّى أخرجوهم عَن الْإِسْلَام فقوم مِنْهُم أدخلوهم إِلَى القَوْل بِأَن رجلا ينْتَظر يدعى الْمهْدي عِنْده حَقِيقِيَّة الدّين إِذْ لَا يجوز أَن يُؤْخَذ الدّين من هَؤُلَاءِ الْكفَّار إِذْ نسبوا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْكفْر وَقوم خَرجُوا إِلَى نبوة من ادعوا إِلَه النُّبُوَّة وَقوم سلكوا بهم المسلك الَّذِي ذكرنَا من القَوْل بالحلول وَسُقُوط الشَّرَائِع وَآخَرُونَ تلاعبوا فأوجبوا عَلَيْهِم خمسين صَلَاة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وَآخَرُونَ قَالُوا بل هِيَ سبع عشر صَلَاة فِي كل صَلَاة خَمْسَة عشر رَكْعَة وَهَذَا قَول عبد الله بن عَمْرو بن الْحَرْث الْكِنْدِيّ قبل أَن يصير خارجياً صغرياً وَقد سلك هَذَا المسلك أَيْضا عبد الله بن سبأ الْحِمْيَرِي الْيَهُودِيّ فَإِنَّهُ لَعنه الله أظهر الْإِسْلَام لكيد أَهله فَهُوَ كَانَ أصل إثارة النَّاس على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وأحرق عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهُم طوائف أعْلنُوا بالإلهية وَمن هَذِه الْأُصُول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة وهما طَائِفَتَانِ مجاهرتان بترك الْإِسْلَام جملَة قائلتان بالمجوسية الْمَحْضَة ثمَّ مَذْهَب مردك الموبذ الَّذِي كَانَ على عهد أنوشروان بن قيمًا ملك الْفرس وَكَانَ يَقُول بِوُجُوب تأسي النَّاس فِي النِّسَاء وَالْأَمْوَال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا بلغ النَّاس إِلَى هذَيْن الشعبين أَخْرجُوهُ عَن الْإِسْلَام كَيفَ شاؤا إِذْ هَذَا هُوَ غرضهم فَقَط فَالله الله عباد الله اتَّقوا الله فِي أَنفسكُم وَلَا يَغُرنكُمْ اهل الْكفْر والإلحاد من موه كَلَامه بِغَيْر برهَان لَكِن بتمويهات وَوعظ على خلاف مَا أَتَاكُم بِهِ كتاب ربكُم وَكَلَام نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا خير فِيمَا سواهُمَا وَاعْلَمُوا أَن دين الله تَعَالَى ظَاهر لَا بَاطِن فِيهِ وجهر لَا سر تَحْتَهُ كُله برهَان لَا مُسَامَحَة فِيهِ واتهموا كل من يدعونَ أَن يتبع بِلَا برهَان وكل من ادّعى للديانة سرا وَبَاطنا فَهِيَ دعاوي ومخارق وَاعْلَمُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتم من الشَّرِيعَة كلمة فَمَا فَوْقهَا وَلَا(2/91)
أطلع أخص النَّاس بِهِ من زَوْجَة أَو ابْنة أَو عَم أَو ابْن عَم أَو صَاحب على شَيْء من الشَّرِيعَة كتمه عَن الْأَحْمَر وَالْأسود ورعاة الْغنم وَلَا كَانَ عِنْده عَلَيْهِ السَّلَام السِّرّ وَلَا رمز وَلَا بَاطِن غير مَا دعِي النَّاس كلهم إِلَيْهِ وَلَو كتمهم شَيْئا لما بلغ كَمَا أَمر وَمن قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِر فإياكم وكل قَول لم يبين سَبيله وَلَا وضح دَلِيله وَلَا تعوجاً عَن مَا مضى عَلَيْهِ نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أوضحنا شنع جَمِيع هَذِه الْفرق فِي كتاب لنا لطيف اسْمه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أَقْوَال أهل الْبدع من الْفرق الْأَرْبَع الْمُعْتَزلَة والمرجئية والخوارج والشيع ثمَّ أضفناه إِلَى آخر كلامنا فِي النَّحْل من كتَابنَا هَذَا وَجُمْلَة الْخَيْر كُله أَن تلزموا مَا نَص عَلَيْهِ ربكُم تَعَالَى فِي الْقُرْآن بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين لم يفرط فِيهِ من شَيْء تبياناً لكل شَيْء وَمَا صَحَّ عَن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِوَايَة الثقاة من أَئِمَّة أَصْحَاب الحَدِيث رَضِي الله عَنْهُم مُسْند إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام فهما طريقتان يوصلانكم إِلَى رضى ربكُم عز وَجل وَنحن نبتديء من هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْمعَانِي الَّتِي هِيَ عُمْدَة مَا افترق الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَهِي التَّوْحِيد وَالْقدر وَالْإِيمَان والوعيد والإمامة والمفاضلة ثمَّ أَشْيَاء تسميها المتكلمون اللطائف ونورد كل مَا احْتَجُّوا بِهِ ونبين بالبراهين الضرورية أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَجه الْحق من كل ذَلِك كَمَا فعلنَا فِيمَا خلا بعون الله تَعَالَى لنا وتأييده وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَأول ذَلِك
الْكَلَام فِي التَّوْحِيد وَنفي التَّشْبِيه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب طَائِفَة إِلَى القَوْل بِأَن الله تَعَالَى جسم وحجتهم فِي ذَلِك أَنه لَا يقوم فِي الْمَعْقُول إِلَّا جسم أَو عرض فَلَمَّا بَطل أَن يكون تَعَالَى عرضا ثَبت أَنه جسم وَقَالُوا إِن الْفِعْل لَا يَصح إِلَّا من جسم والباري تَعَالَى فَاعل فَوَجَبَ أَنه جسم وَاحْتَجُّوا بآيَات من الْقُرْآن فِيهَا ذكر الْيَد وَالْيَدَيْنِ وَالْأَيْدِي وَالْعين وَالْوَجْه وَالْجنب وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاء رَبك ويأتيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وتجليه تَعَالَى وبأحاديث للجبل فِيهَا ذكر الْقدَم وَالْيَمِين وَالرجل والأصابع والتنزل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلِجَمِيعِ هَذِه النُّصُوص وُجُوه ظَاهِرَة بَيِّنَة خَارِجَة على خلاف مَا ظنوه وتأولوه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَانِ الاستدلالان فاسدان أما قَوْلهم أَنه لَا يقوم فِي الْمَعْقُول إِلَّا جسم أَو عرض فَإِنَّهَا قسْمَة نَاقِصَة وَإِنَّمَا الصَّوَاب أَنه لَا يُوجد فِي الْعَالم إِلَّا جسم أَو عرض وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي بطبيعته وجود مُحدث لَهُ فالبضرورة لعلم أَنه لَو كَانَ محدثها جسماً أَو عرضا لَكَانَ يَقْتَضِي فَاعِلا فعله وَلَا بُد فَوَجَبَ بِالضَّرُورَةِ أَن فَاعل الْجِسْم وَالْعرض لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَهَذَا برهَان يضْطَر إِلَيْهِ كل ذِي حس بضرورة الْعقل وَلَا بُد وَأَيْضًا فَلَو كَانَ الْبَارِي تَعَالَى عَن إلحادهم جسماً لاقتضى ذَلِك ضَرُورَة أَن يكون لَهُ زمَان وَمَكَان هما غَيره وَهَذَا إبِْطَال التَّوْحِيد وَإِيجَاب الشّرك مَعَه تَعَالَى لشيئين سواهُ وَإِيجَاب أَشْيَاء مَعَه غير مخلوقة وَهَذَا كفر وَقد تقدم إفسادنا(2/92)
لهَذَا القَوْل وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يعقل الْبَتَّةَ جسم إِلَّا مؤلف طَوِيل عريض عميق ونظارهم وَهُوَ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا فَإِن قَالُوهُ لَزِمَهُم أَن لَهُ مؤلفاً جَامعا مخترعاً فَاعِلا فَإِن منعُوا من ذَلِك لَزِمَهُم أَن لَا يوجبوا لما فِي الْعَالم من التَّأْلِيف لَا مؤلفاً وَلَا جَامعا إِذْ الْمُؤلف كُله كَيْفَمَا وجد يَقْتَضِي مؤلفاً ضَرُورَة فَإِن قَالُوا هُوَ جسم غير مؤلف قيل لَهُم هَذَا هُوَ الَّذِي لَا يعقل حَقًا وَلَا يتشكل فِي النَّفس الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا لَا فرق بَين فولنا شَيْء وَبَين قَوْلنَا جسم قيل لَهُم هَذِه دَعْوَى كَاذِبَة على اللُّغَة الَّتِي بهَا يَتَكَلَّمُونَ وَأَيْضًا فَهُوَ بَاطِل لِأَن الْحَقِيقَة أَنه لَو كَانَ الشَّيْء والجسم بِمَعْنى وَاحِد لَكَانَ الْعرض جسماً لِأَنَّهُ شَيْء وَهَذَا بَاطِل يتَعَيَّن والحقيقة هِيَ أَنه لَا فرق بَين قَوْلنَا شَيْء وَقَوْلنَا مَوْجُود وَحقّ وَحَقِيقَة ومثبت فَهَذِهِ كلهَا أَسمَاء مترادفة على معنى وَاحِد لَا يخْتَلف وَلَيْسَ مِنْهَا اسْم يَقْتَضِي صفة أَكثر من أَن الْمُسَمّى بذلك حق وَلَا مزِيد وَأما لَفْظَة جسم فَإِنَّهَا فِي اللُّغَة عبارَة عَن الطَّوِيل العريض العميق الْمُحْتَمل للْقِسْمَة ذِي الْجِهَات السِّت الَّتِي هِيَ فَوق وَتَحْت ووراء وأمام وَيَمِين وشمال وَرُبمَا عدم وَاحِدَة مِنْهَا وَهِي الفوق هذاحكم هَذِه الْأَسْمَاء فِي اللُّغَة الَّتِي هَذِه الْأَسْمَاء مِنْهَا فَمن أَرَادَ أَن يُوقع شَيْئا مِنْهَا على غير موضوعها فِي اللُّغَة فَهُوَ مَجْنُون وقاح وَهُوَ كمن أَرَادَ أَن يُسَمِّي الْحق بَاطِلا وَالْبَاطِل حَقًا وَأَرَادَ أَن يُسَمِّي الذَّهَب خشباً وَهَذَا غَايَة الْجَهْل والسخف إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِنَقْل اسْم مِنْهَا عَن مَوْضُوعه إِلَى معنى آخر فَيُوقف عِنْده وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يلْزم كل مناظر يُرِيد معرفَة الْحَقَائِق أَو التَّعْرِيف بهَا أَن يُحَقّق الْمعَانِي الَّتِي يَقع عَلَيْهَا الِاسْم ثمَّ يخبر بعد بهَا أرعنها بِالْوَاجِبِ وَأما مزج الْأَشْيَاء وقلبها عَن موضوعاتها فِي اللُّغَة فَهَذَا فعل السوفسطائية الوقحاء الْجُهَّال الغابنين لعقولهم وأنفسهم فَإِن قَالُوا لنا إِنَّكُم تَقولُونَ إِن الله عز وَجل حَيّ لَا كالأحياء وَعَلِيم لَا كالعلماء وقادر لَا كالقادرين وَشَيْء لَا كالأشياء فَلم منعتم القَوْل بِأَنَّهُ جسم لَا كالأجسام قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَوْلَا النَّص الْوَارِد بتسميه تَعَالَى بِأَنَّهُ حَيّ وقدير وَعَلِيم مَا سميناه بِشَيْء من ذَلِك لَكِن الْوُقُوف عِنْد النَّص فرض وَلم يَأْتِ نَص بتسميته تَعَالَى جسماً وَلَا قَامَ الْبُرْهَان بتسميته جسماً بل الْبُرْهَان مَانع من تَسْمِيَته بذلك تَعَالَى وَلَو أَتَانَا نَص بتسميته تَعَالَى جسماً لوَجَبَ علينا القَوْل بذلك وَكُنَّا حِينَئِذٍ نقُول أَنه لَا كالأجسام كَمَا قُلْنَا فِي عليم وقدير وَحي وَلَا فرق وَأما لَفْظَة شَيْء فالنص أَيْضا جَاءَ بهَا والبرهان أوجبهَا على مَا نذْكر بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم أَنه تَعَالَى نورا وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يَخْلُو النُّور من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون جسماً وَإِمَّا أَن يكون عرضا وَأيهمَا كَانَ فقد قَامَ الْبُرْهَان أَنه تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا وَأما قَوْله تَعَالَى الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هدى الله بتنوير النُّفُوس إِلَى نور الله تَعَالَى فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وبرهان ذَلِك أَن الله عز وَجل أَدخل الأَرْض فِي جملَة مَا أخبر أَنه نور لَهُ فَلَو كَانَ(2/93)
الْأَمر على أَنه النُّور المضيء الْمَعْهُود لما خبأ الضياء سَاعَة من ليل أَو نَهَار الْبَتَّةَ فَلَمَّا رَأينَا الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك علمنَا أَنه بِخِلَاف مَا ظنوه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيبْطل قَول من وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ جسم وَقَول من وَصفه بحركة تَعَالَى الله عَن ذَلِك إِن الضَّرُورَة توجب أَن كل متحرك فذو حَرَكَة وَأَن الْحَرَكَة لمتحرك بهَا وَهَذَا من بَاب الْإِضَافَة وَالصُّورَة فِي المتصور لمتصور وَهَذَا أَيْضا من بَاب الْإِضَافَة فَلَو كَانَ كل مُصَور متصوراً وكل محرك متحركا كالوجب وجوب أَفعَال لأوائل لَهَا وَهَذَا قد أبطلناه فِيمَا خلا من كتَابنَا بعون الله تَعَالَى لنا وتأييده إيانا فَوَجَبَ ضَرُورَة وجود محرك لَيْسَ متحركاً ومصور لَيْسَ متصوراً ضَرُورَة وَلَا بُد وَهُوَ الْبَارِي تَعَالَى محرك المتحركات ومصور المصورات لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وكل جسم فَهُوَ ذُو صُورَة وكل ذِي حَرَكَة فَهُوَ ذُو عرض مَحْمُول فِيهِ فصح أَنه تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا متحركاً وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فقد قدمنَا أَن الْحَرَكَة والسكون مُدَّة والمدة زمَان وَقد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا أَن الزَّمَان مُحدث فالحركة محدثة وَكَذَلِكَ السّكُون والباري تَعَالَى لَا يلْحقهُ الْحَدث إِذْ لَو لحقه مُحدثا لحقه مُحدثا فالباري تَعَالَى غير متحرك وَلَا سَاكن ولفضا فَإِن الْجِسْم إِنَّمَا يفعل آثاراً فِي الْجِسْم فَقَط وَلَا يفعل الْأَجْسَام فالباري إِذن تَعَالَى على قَول المجسمة إِنَّمَا هُوَ فَاعل آثَار فِي الْأَجْسَام فَقَط لَا فَاعل أجسام الْعَالم تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا فَإِن قَالُوا فَإِنَّكُم تسمونه فَاعِلا وتسمون أَنفسكُم فاعلين وَهَذَا تَشْبِيه قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَا يُوجب لَك تَشْبِيها لِأَن التَّشْبِيه إِنَّمَا يكون بِالْمَعْنَى الْمَوْجُود فِي كلا المشتبهين لَا بالأسماء وَهَذِه التَّسْمِيَة إِنَّمَا هِيَ اشْتِرَاك فِي الْعبارَة فَقَط لِأَن الْفَاعِل من متحرك بِاخْتِيَار أَو باضطرار أَو عَارِف أَو شَاك أَو مُرِيد أَو كَانَ بِاخْتِيَار أَو ضمير أَو اضطرار كَذَلِك فَكل فَاعل منا فمتحرك وَذُو ضمير وكل متحرك فذو حَرَكَة تحركه وأعراض الضمائر انفعالات فَكل متحرك فَهُوَ منفعل وكل منفعل فلفاعل ضَرُورَة وَأما الْبَارِي تَعَالَى ففاعل بِاخْتِيَار واختراع لَا بحركة وَلَا بضمير فَهَذَا اخْتِلَاف لَا اشْتِبَاه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَكَذَلِكَ الْعرض لَيْسَ جسماً والجسم لَيْسَ عرضا والباري تَعَالَى لَيْسَ جسماً وَلَا عرضا فهذان الحكمان لَا يوجبان اشتباهاً أصلا بل هَذَا عين الِاخْتِلَاف لَكِن الِاشْتِبَاه إِنَّمَا يكون بِإِثْبَات معنى فِي المشتبهين بِهِ اشتبها وَلَو أوجب مَا ذكرنَا اشتباهاً لوَجَبَ أَن يكون لشبه الْجِسْم فِي الجسمية لِأَنَّهُ لَيْسَ عرضا وَإِن يكون لشبه الْعرض فِي العرضية لِأَنَّهُ لَيْسَ جسماً فَكَانَ يكون جسماً فَكَانَ يكون جسماً لَا جسماً عرضا لَا عرضا مَعًا وَهَذَا محَال فصح أَن بِالنَّفْيِ لَا يجب الِاشْتِبَاه أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن قَالَ أَن الله تَعَالَى جسم لَا كالأجسام فَلَيْسَ مشتبهاً لكنه الْحَد فِي أَسمَاء الله تَعَالَى إِذْ سَمَّاهُ عز وَجل بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه وَأما من قَالَ أَنه تَعَالَى كالأجسام فَهُوَ ملحد(2/94)
فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى ومشبه مَعَ ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما إِطْلَاق لفظ الصِّفَات لله تَعَالَى عز وَجل فمحال لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى لم ينص قطّ فِي كَلَامه الْمنزل على لَفْظَة الصِّفَات وَلَا على لفظ الصّفة وَلَا حفظ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن لله تَعَالَى صفة أَو صِفَات نعم وَلَا جَاءَ قطّ ذَلِك عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَا عَن أحد من خِيَار التَّابِعين وَلَا عَن أحد من خِيَار تَابِعِيّ التَّابِعين وَمن كَانَ هَكَذَا فَلَا يحل لأحد أَن ينْطق بِهِ وَلَو قُلْنَا أَن الْإِجْمَاع قد تَيَقّن على ترك هَذِه اللَّفْظَة لصدقنا فَلَا يجوز القَوْل بِلَفْظ الصِّفَات وَلَا اعْتِقَاده بل هِيَ بِدعَة مُنكرَة فال الله تَعَالَى أَن هِيَ الْأَسْمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِنَّمَا اخترع لفظ الصِّفَات الْمُعْتَزلَة وَهِشَام ونظراؤه من رُؤَسَاء الرافضة وسلك سبيلهم قوم من أَصْحَاب الْكَلَام سلكوا غير مَسْلَك السّلف الصَّالح لَيْسَ فيهم أُسْوَة وَلَا قدرَة وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه وَرُبمَا أطلق هَذِه اللَّفْظَة من متأخري الْأَئِمَّة من القهاء من لم يُحَقّق النّظر فِيهَا فَهِيَ وهلة من فَاضل وذلة عَالم وَإِنَّمَا الْحق فِي الدّين مَا جَاءَ عَن الله تَعَالَى نصا أَو عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك أَو صَحَّ إِجْمَاع الْأمة كلهَا عَلَيْهِ وَمَا عدا هَذَا فضلال وكل محدثة بِدعَة فَإِن اعْترضُوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي روينَاهُ من طَرِيق عبد الله بن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن أبي الرَّجَاء مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أمه عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي الرجل الَّذِي كَانَ يقْرَأ قل هُوَ الله أحد فِي كل رَكْعَة مَعَ سُورَة أُخْرَى وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يسْأَل عَن ذَلِك فَقَالَ هِيَ صفة الرَّحْمَن فَأَنا أحبها فَأخْبرهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يُحِبهُ فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن هَذِه اللَّفْظَة انْفَرد بهَا سعيد بن أبي هِلَال وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ قد ذكره بالتخطيط يحيى وَأحمد بن حَنْبَل وَأَيْضًا فَإِن احتجاج خصومنا بِهَذَا لَا يصوغ على أصولهم لِأَنَّهُ خبر وَاحِد لَا يُوجب عِنْدهم الْعلم وَأَيْضًا فَلَو صَحَّ لما كَانَ مُخَالفا لقولنا لأننا إِنَّمَا أَنْكَرْنَا قَول من قَالَ إِن أَسمَاء الله تَعَالَى مُشْتَقَّة من صِفَات ذَاته فَأطلق لذَلِك على الْعلم وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة وَالْكَلَام أَنَّهَا صِفَات وعَلى من أطلق إِرَادَة وسمعاً وبصراً وحياة وَأطلق أَنَّهَا صِفَات فَهَذَا الَّذِي أنكرناه غَايَة الْإِنْكَار وَلَيْسَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَلَا فِي غَيره شَيْء من هَذَا أصلا وَإِنَّمَا فِيهِ أَن قل هُوَ الله أحد خَاصَّة صفة الرَّحْمَن وَلم ننكر هَذَا نَحن بل هُوَ خلاف لقَولهم وَحجَّة عَلَيْهِم لأَنهم لَا يخصون قل هُوَ الله أحد بذلك دون سَائِر الْقُرْآن وَدون الْكَلَام وَالْعلم وَغير ذَلِك وَفِي هَذَا الْخَبَر تَخْصِيص لقَوْله قل هُوَ الله أحد وَحدهَا بذلك وَقل هُوَ الله أحد خبر عَن الله تَعَالَى بِمَا هُوَ الْحق فَنحْن نقُول فِيهَا هِيَ صفة الرَّحْمَن لِمَعْنى أَنَّهَا خبر عَنهُ تَعَالَى حق فَظهر أَن هَذَا الْخَبَر حجَّة عَلَيْهِم لنا وَأَيْضًا فَمن أعجب الْبَاطِل أَن يحْتَج بِهَذَا الْخَبَر فِيمَا لَيْسَ(2/95)
فِيهِ مِنْهُ شيءٌ من يُخَالِفهُ ويعصيه فِي الحكم الَّذِي ورد فِيهِ من اسْتِحْسَان قِرَاءَة قل هُوَ الله أحد فِي كل رَكْعَة مَعَ سُورَة أُخْرَى فلهذه الفضائح فلتعجب أهل الْعُقُول وَأما الصّفة الَّتِي يطلقونهم فَإِنَّمَا هِيَ فِي اللُّغَة وَاقعَة على عرض فِي جَوْهَر لَا على غير ذَلِك أصلا وَقد قَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} فَأنْكر تَعَالَى إِطْلَاق الصِّفَات جملَة فَبَطل تمويه من موه بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور ليستحل بذلك مَا لَا يحل من إِطْلَاق لَفْظَة الصِّفَات حَيْثُ لم يَأْتِ بإطلاقها فِيهِ نَص وَلَا إِجْمَاع أصلا وَلَا أثر عَن السّلف وَالْعجب من اقتصارهم على لَفْظَة الصِّفَات ومنعهم من القَوْل بِأَنَّهَا نعوت وسمات وَلَا فرق بَين هَذِه الْأَلْفَاظ لَا فِي لُغَة وَلَا فِي معنى وَلَا فِي نَص وَلَا فِي إِجْمَاع
القَوْل فِي الْمَكَان والاستواء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كل مَكَان وَاحْتَجُّوا بقول الله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وَقَوله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَول الله تَعَالَى يجب حمله على ظَاهره مَا لم يمْنَع من حمله على ظَاهره نَص آخر أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة حس وَقد علمنَا أَن كل مَا كَانَ فِي مَكَان فَإِنَّهُ شاغل لذَلِك الْمَكَان وَمَالِي لَهُ ومتشكل بشكل الْمَكَان وَالْمَكَان متشكل بشكله وَلَا بُد من أحد الْأَمريْنِ ضَرُورَة وَعلمنَا أَن مَا كَانَ فِي مَكَان فَإِنَّهُ متناه بتناهي مَكَانَهُ وَهُوَ ذُو جِهَات سِتّ أَو خمس متناهية فِي مَكَانَهُ وَهَذِه كلهَا صِفَات الْجِسْم فَلَمَّا صَحَّ مَا ذكرنَا علمنَا أَن قَوْله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم} وَقَوله تَعَالَى {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} إِنَّمَا هُوَ التَّدْبِير لذَلِك والإحاطة بِهِ فَقَط ضَرُورَة لانْتِفَاء مَا عدا ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن قَوْلهم فِي كل مَكَان خطأ لِأَنَّهُ يلْزم بِمُوجب هَذَا القَوْل أَنه يمْلَأ الْأَمَاكِن كلهَا وَأَن يكون مَا فِي الْأَمَاكِن فِيهِ الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَهَذَا محَال فَإِن قَالُوا هُوَ فِيهَا بِخِلَاف كَون المتمكن فِي الْمَكَان قيل لَهُم هَذَا لَا يعقل وَلَا يقوم عَلَيْهِ دَلِيل وَقد قُلْنَا أَنه لَا يجوز إِطْلَاق اسْم على غير مَوْضُوعه فِي اللُّغَة إِلَّا أَن يَأْتِي بِهِ نَص فيقف عِنْده وندري حِينَئِذٍ أَنه مَنْقُول إِلَى ذَلِك الْمَعْنى الآخر وَإِلَّا فَلَا فَإذْ قد صَحَّ مَا قد ذكرنَا فَلَا يجوز أَن يُطلق القَوْل بِأَن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان لَا على تَأْوِيل وَلَا غَيره لِأَنَّهُ حكم بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْكِنَة لَكِن يُطلق القَوْل بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعنا فِي كل مَكَان وَيكون قَوْلنَا حينئذٍ فِي كل مَكَان إِنَّمَا هُوَ من صلَة الضَّمِير الَّذِي هُوَ النُّون وَالْألف اللَّذَان فِي مَعنا لَا مِمَّا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ معنى قَوْله {هُوَ مَعَهم أَيْن مَا كَانُوا} وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم وَذهب قوم إِلَى أَن الله تَعَالَى فِي مَكَان دون مَكَان وَقَوْلهمْ هَذَا يفْسد بِمَا ذكرنَا آنِفا وَلَا فرق وَاحْتج هَؤُلَاءِ بقوله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تَأَول الْمُسلمُونَ فِي هَذِه الْآيَة تأويلات أَرْبَعَة أَحدهَا قَول المجسمة وَقد(2/96)
أبنا بحول الله فَسَاده وَالْآخر قالته الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ استولى وأنشدوا قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لما كَانَ الْعَرْش أولى بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ من سَائِر الْمَخْلُوقَات ولجاز لنا أَن نقُول الرَّحْمَن على الأَرْض اسْتَوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مستولٍ عَلَيْهَا وعَلى كل مَا خلق وَهَذَا لَا يَقُوله أحد فَصَارَ هَذَا القَوْل دَعْوَى مُجَرّدَة بِلَا دَلِيل فَسقط وَقَالَ بعض أَصْحَاب بن كلاب أَن الاسْتوَاء صفة ذَات وَمَعْنَاهُ نفي الاعوجاج
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل فِي غَايَة الْفساد لوجوه أَحدهَا أَنه تَعَالَى لم يسم نَفسه مستوياً وَلَا يحل لأحد أَن يسم الله تَعَالَى بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه لِأَن من فعل ذَلِك فقد ألحد فِي أَسْمَائِهِ حُدُود الله أَي مَال عَن الْحق وَقد حد الله تَعَالَى فِي تَسْمِيَته حدوداً فَقَالَ تَعَالَى {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَثَانِيها أَن الْأمة مجمعة على أَنه لَا يَدْعُو أحد فَيَقُول يَا مستوي ارْحَمْنِي وَلَا يُسَمِّي ابْنه عبد المستوي وَثَالِثهَا أَنه لَيْسَ كل مَا نفي عَن الله عز وَجل وَجب أَن يُوقع عَلَيْهِ ضِدّه لأننا ننفي عَن الله تَعَالَى السّكُون وَلَا يحل أَن يُسمى الله متحركاً وننفي عَنهُ الْحَرَكَة وَلَا يجوز أَن يُسمى سَاكِنا وننفي عَنهُ الْجِسْم وَلَا يجوز أَن يُسمى سَاكِنا وَنفي عَنهُ النّوم وَلَا يجوز أَن يُسمى يقظاناً وَلَا منتبهاً وَلَا أَن يُسمى لنفي الانحناء عَنهُ مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ كل صفة لم يَأْتِ بهَا النَّص فَكَذَلِك الاسْتوَاء والاعوجاج منفيان عَنهُ مَعًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك لِأَن كل ذَلِك من صِفَات الْأَجْسَام وَمن جملَة الْإِعْرَاض وَالله قد تَعَالَى عَن الْأَعْرَاض وَرَابِعهَا أَنه يلْزم من قَالَ بِهَذَا القَوْل الْفَاسِد أَن يكون الْعَرْش لم يزل تَعَالَى الله عَن ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى علق الاسْتوَاء بالعرش فَلَو كَانَ الاسْتوَاء لم يزل لَكَانَ الْعَرْش لم يزل وَهَذَا كفر وخامسها أَنه لَو كَانَ الاسْتوَاء هَهُنَا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذَلِك إِلَى الْعَرْش معنى ولكان كلَاما فَاسِدا لاوجه لَهُ فَإِن اعْترضُوا فَقَالُوا إِنَّكُم تسمونه سميعاً بَصيرًا وَأَنه لم يزل كَذَلِك فيلزمكم على هَذَا أَن المسموعات والمبصرات لم تزل قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد هَذَا لَا يلْزمنَا لأننا لَا نسمي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَنَقُول قَالَ الله تَعَالَى السَّمِيع الْبَصِير فَقُلْنَا بذلك أَنه لم يزل وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير بِذَاتِهِ كَمَا هُوَ وَلَا نقُول لَا يسمع وَلَا يبصر فنزيد على مَا أَتَى بِهِ النَّص شَيْئا وَنحن نقُول أَنه تَعَالَى لم يزل سمعيا للمسموعات بَصيرًا بالمبصرات يرى المرئيات وَيسمع المسموعات وَمعنى هَذَا كُله أَنه عَالم بِكُل ذَلِك كَمَا قَالَ الله تَعَالَى إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى
وَهَذَا كُله معنى الْعلم الَّذِي لَا يَقْتَضِي وجود المعلومات لم تزل لَكِن يعلم مَا يكون أَنه سَيكون على حَقِيقَته وَيعلم مَا هُوَ كَمَا هُوَ وَيعلم مَا قد كَانَ كَمَا قد كَانَ وَهَذَا نجده حسا ومشاهدة وضرورة لأننا فِيمَا بَيْننَا قد نعلم أَن زيدا سيموت وَمَوته لم يَقع وَلَيْسَ هَكَذَا قَوْلهم فِي الاسْتوَاء لِأَنَّهُ مُرْتَبِط بالعرش فَإِن قَالُوا لنا فَإِذن معنى سميع بَصِير هُوَ بعد(2/97)
معنى عليم فَقولُوا أَنه تَعَالَى يبصر المسموعات وَيسمع المرئيات قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَا يمْنَع من هَذَا وَلَا ننكره بل هُوَ صَحِيح لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا قَالَ أسمع وَأرى فَهَذَا إِطْلَاق لَهُ على كل شَيْء على عُمُومه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَالْقَوْل الرَّابِع فِي معنى الاسْتوَاء هُوَ أَن معنى قَوْله تَعَالَى على الْعَرْش اسْتَوَى أَنه فعل فعله فِي الْعَرْش وَهُوَ انْتِهَاء خلقه إِلَيْهِ فَلَيْسَ بعد الْعَرْش شَيْء وَيبين ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر الجنات وَقَالَ فسألوا الله الفردوس الْأَعْلَى فَإِنَّهُ وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وَفَوق ذَلِك عرش الرَّحْمَن فصح أَنه لَيْسَ وَرَاء الْعَرْش خلق وَأَنه نِهَايَة جرم الْمَخْلُوقَات الَّذِي لَيْسَ خَلفه خلاء وَلَا ملاء وَمن أنكر أَن يكون للْعَالم نِهَايَة من المساحة وَالزَّمَان وَالْمَكَان فقد لحق بقول الدهرية وَفَارق الْإِسْلَام والاستواء فِي اللُّغَة يَقع على الِانْتِهَاء قَالَ الله تَعَالَى {وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلماً} أَي فَمَا انْتهى إِلَى الْقُوَّة وَالْخَيْر وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} أَي أَن خلقه وَفعله انْتهى إِلَى السَّمَاء بعد أَن رتب الأَرْض على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا هُوَ الْحق وَبِه نقُول لصِحَّة الْبُرْهَان بِهِ وَبطلَان مَا عداهُ فَأَما القَوْل الثَّالِث فِي الْمَكَان فَهُوَ أَن الله تَعَالَى لَا فِي مَكَان وَلَا فِي زمَان أصلا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من أهل السّنة وَبِه نقُول وَهُوَ الَّذِي لَا يجوز غَيره لبُطْلَان كل مَا عداهُ وَلقَوْله تَعَالَى {أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط} فَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَنه تَعَالَى لَا فِي مَكَان إِذْ لَو كَانَ فِي الْمَكَان لَكَانَ الْمَكَان محيطاً بِهِ من جِهَة مَا أَو من جِهَات وَهَذَا مُنْتَفٍ عَن الْبَارِي تَعَالَى بِنَصّ الْآيَة المذكروة وَالْمَكَان شَيْء بِلَا شكّ فَلَا يجوز أَن يكون شَيْء فِي مَكَان وَيكون هُوَ محيطاً بمكانه هَذَا محَال فِي الْعقل يعلم امْتِنَاعه ضَرُورَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فِي مَكَان إِلَّا مَا كَانَ جسماً أَو عرضا فِي جسم هَذَا الَّذِي لَا يجوز سواهُ وَلَا يتنكل فِي الْعقل وَالوهم غَيره الْبَتَّةَ وَإِذا انْتَفَى أَن يكون الله عز وَجل جسما أَو عرضا فقد انْتَفَى أَن يكون فِي مَكَان أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} فَقَوله الْحق نؤمن بِهِ يَقِينا وَالله أعلم بمراده فِي هَذَا القَوْل وَلَعَلَّه عَنى عز وَجل السَّمَوَات السَّبع والكرسي فَهَذِهِ ثَمَانِيَة أجرام هِيَ يَوْمئِذٍ والآن بَيْننَا وَبَين الْعَرْش ولعلهم أَيْضا ثَمَانِيَة مَلَائِكَة وَالله أعلم نقُول مَا قَالَ رَبنَا تَعَالَى ونقطع أَنه حق يَقِين على ظَاهره وَهُوَ أعلم بِمَعْنَاهُ وَمرَاده وَأما الخرافات فلسنا مِنْهَا فِي شَيْء وَلَا يَصح فِي هَذَا خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكنَّا نقُول هَذِه غيوب لَا دَلِيل لنا على المُرَاد بهَا لَكنا نقُول {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} وكل مَا قَالَه الله تَعَالَى فَحق لَيْسَ مِنْهُ شَيْء منافياً للمعقول بل هُوَ كُله قبل أَن يخبرنا الله تَعَالَى فِي حد الْإِمْكَان عندنَا ثمَّ إِذا أخبر بِهِ عز وَجل صَار وَاجِبا حَقًا يَقِينا وَقد قَالَ تَعَالَى {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} فصح يَقِينا أَن للعرش حَملَة وهم الْمَلَائِكَة المنقادون لأَمره تَعَالَى كَمَا نقُول أَنا أحمل هَذَا الْأَمر أَي أقوم بِهِ وأتولاه وَقد قَالَ تَعَالَى أَنهم يَفْعَلُونَ مَا يؤمرون(2/98)
وَأَنَّهُمْ يتنزلون بِالْأَمر وَأما الْحَامِل للْكُلّ والممسك للْكُلّ فَهُوَ الله عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده}
الْكَلَام فِي الْعلم
قَالَ الله عز وَجل {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} فَأخْبر تَعَالَى أَنه لَهُ علما ثمَّ اخْتلف النَّاس فِي علم الله تَعَالَى فَقَالَ جُمْهُور الْمُعْتَزلَة إِطْلَاق الْعلم لله عز وَجل إِنَّمَا هُوَ مجَاز لَا حَقِيقَة وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه تَعَالَى لَا يجهل وَقَالَ سَائِر النَّاس أَن الله تَعَالَى علما حَقِيقَة لَا مجَاز ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ جهم بن صَفْوَان وَهِشَام بن الحكم وَمُحَمّد بن عبد الله ابْن سيرة وأصحابهم أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وَهُوَ مُحدث مَخْلُوق سمعنَا ذَلِك مِمَّن جالسنا مِنْهُم وناظرناهم عَلَيْهِ وَقَالَت طوائف من أهل السّنة علم الله تَعَالَى غير مَخْلُوق لم يزل وَلَيْسَ هُوَ الله وَلَا هُوَ غير الله وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ فِي أحد قوليه لَا يُقَال هُوَ الله وَلَا هُوَ غير الله وَقَالَ فِي قَول لَهُ آخر وَافقه عَلَيْهِ الباقلاني وَجُمْهُور أَصْحَابه أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله وَخلاف الله وَأَنه مَعَ ذَلِك غير مَخْلُوق لم يزل وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف وَأَصْحَابه علم الله لم يزل وَهُوَ الله وَقَالَت طوائف من أهل السّنة علم الله لم يزل وَهُوَ غير مَخْلُوق وَلَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا نقُول هُوَ الله وَكَانَ هِشَام ابْن عمر القوطي أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة لَا يُطلق القَوْل بِأَن الله لم يزل عَالما بالأشياء قبل كَونهَا لَيْسَ لِأَنَّهُ لَا يعلم مَا يكون قبل أَن يكون بل كَانَ يَقُول إِن الله تَعَالَى لم يزل عَالما بِأَنَّهُ سَتَكُون الْأَشْيَاء إِذا كَانَت
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما من أنكر أَن يكون لله تَعَالَى علم فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يَخْلُو لَو كَانَ الله تَعَالَى علم من أَن يكون غَيره أَو يكون هُوَ هُوَ فَإِن كَانَ غَيره فَلَا يَخْلُو من أَن يكون مخلوقا أَو لم يزل وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فَهُوَ فَاسد فَإِن كَانَ هُوَ الله فَالله علم وَهَذَا فَاسد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما نفس قَوْلهم فِي أَن لَيْسَ لله تَعَالَى علم فمخالف لِلْقُرْآنِ وَمَا خَالف الْقُرْآن فَبَاطِل وَلَا يحل لأحد أَن يُنكر مَا نَص الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه لَهُ علما فَمن أنكرهُ فقد اعْترض على الله تَعَالَى وَأما اعتراضاتهم الَّتِي ذكرنَا ففاسدة كلهَا وسنوضح فَسَادهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي إفسادنا لقَوْل الْجَهْمِية والأشعرية لِأَن هَذِه الاعتراضات هِيَ اعتراضات هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد احْتج جهم بن صَفْوَان بِأَن قَالَ لَو كَانَ علم الله تَعَالَى لم يزل لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَن لَا يكون هُوَ الله وَهُوَ غَيره فَإِن كَانَ علم الله غير الله وَهُوَ لم يزل فَهَذَا تشريك لله تَعَالَى وايجاب الأزلية لغيره تَعَالَى مَعَه وَهَذَا كفر وَإِن كَانَ هُوَ الله فَالله علم وَهَذَا إلحاد وَقَالَ نسْأَل من أنكر أَن يكون علم الله تَعَالَى هُوَ غَيره فَنَقُول أخبرونا إِذا قُلْنَا الله ثمَّ قُلْنَا إِنَّه عليم فَهَل فهمتم من قَوْلنَا عليم شَيْئا زايداً غير مَا فهمتم من قَوْلنَا الله أم لَا فَإِن قُلْتُمْ لَا أحلتم وَإِن قُلْتُمْ نعم أثبتم معنى آخر هُوَ غير الله وَهُوَ علمه وَهَكَذَا قَالُوا فِي قدير وَقَوي وَفِي سَائِر مَا دعوا فِيهِ الصِّفَات وَقَالَ أَيْضا إننا نقُول أَن الله تَعَالَى عَالم بِنَفسِهِ وَلَا نقُول أَنه قَادر على نَفسه فصح أَن علمه(2/99)
تَعَالَى هُوَ غير قدرته وَإِذا هُوَ غَيرهَا فهما غير الله تَعَالَى وَقد يعلم الله تَعَالَى قَادِرًا من لَا يُعلمهُ عَالما ويعلمه عَالما من لَا يُعلمهُ قَادِرًا فصح أَن كل ذَلِك معَان مُتَغَايِرَة وَاحْتج بِهَذَا كُله أَيْضا من رأى أَنه علم الله تَعَالَى لم يزل وَأَنه مَعَ ذَلِك غير الله تَعَالَى وَأَنه غير قدرته أَيْضا وَاحْتج بآيَات من الْقُرْآن مثل قَوْله تَعَالَى {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ} وَمثل هَذِه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد من قَالَ بحدوث الْعلم فَإِنَّهُ قَول عَظِيم جدا لِأَنَّهُ نَص بِأَن الله تَعَالَى لم يعلم شَيْئا حَتَّى أحدث لنَفسِهِ علما وَإِذا ثَبت أَن الله تَعَالَى يعلم الْآن الْأَشْيَاء فقد انْتَفَى عَنهُ الْجَهْل بهَا يَقِينا فَلَو كَانَ يَوْمًا من الدَّهْر لَا يعلم شَيْئا مِمَّا سَيكون فقد ثَبت لَهُ الْجَهْل بِهِ وَلَا بُد من هَذَا ضَرُورَة وَإِثْبَات الْجَهْل لله تَعَالَى كفر بِلَا خلاف لِأَنَّهُ وَصفه تَعَالَى بِالنَّقْصِ وَوَصفه يَقْتَضِي لَهُ الْحُدُوث وَلَا بُد وَهَذَا بَاطِل مِمَّا قدمنَا من انْتِفَاء جَمِيع صِفَات الْحُدُوث عَن الْفَاعِل تَعَالَى وَلَيْسَ هَذَا من بَاب نفي الضدين عَنهُ كنفينا عَنهُ تَعَالَى الْحَرَكَة والسكون لِأَن نفي جَمِيع الضدين مَوْجُود عَمَّا لَيْسَ فِيهِ أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا وَأما إِذا ثَبت للموصوف بعض نوع من الصِّفَات وانتفى عَنهُ بعض ذَلِك النَّوْع فَلَا بُد هَهُنَا ضَرُورَة من إِثْبَات ضِدّه مِثَال ذَلِك الْحجر انْتَفَى عَنهُ الْعلم وَالْجهل وَأما الْإِنْسَان إِذا ثَبت لَهُ الْعلم بِشَيْء وانتفى عَنهُ الْعلم بِشَيْء آخر فقد وَجب ضَرُورَة إِثْبَات الْجَهْل لَهُ بِمَا لم يُعلمهُ وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فَإِذا قد صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِب النّظر فِي إِفْسَاد احتجاجهم فَأَما قَوْلهم لَو كَانَ علم الله لم يزل وَهُوَ غير الله تَعَالَى لَكَانَ ذَلِك شركا فَهُوَ قَول صَحِيح وَاعْتِرَاض لَا يرد وَأما قَوْلهم لَو كَانَ هُوَ الله لَكَانَ الله علما فَهَذَا لَا يلْزم على مَا نبين بعد هَذَا إِن شَاءَ الله وَجُمْلَة ذَلِك أننا لَا نسمي الله عز وَجل إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلم يسم نَفسه علما وَلَا قدرَة فَلَا يحل لأحد أَن يسمه بذلك وَأما قَوْله هَل يفهم من قَول الْقَائِل الله كَالَّذي يفهم من قَوْله عَالم فَقَط أَو يفهم من قَوْله عَالم معنى غير مَا يفهم من قَوْله الله فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أننا لَا نفهم من قَوْلنَا قدير وعالم إِذا أردنَا بذلك الله تَعَالَى إِلَّا مَا نفهم من قَوْلنَا الله فَقَط لِأَن كل ذَلِك أَسمَاء أَعْلَام لَا مُشْتَقَّة من صفة أصلا لَكِن إِذا قُلْنَا هُوَ الله تَعَالَى بِكُل شَيْء عليم وَيعلم(2/100)
الْغَيْب فَإِنَّمَا يفهم من كل ذَلِك أَن هَهُنَا لَهُ تَعَالَى مَعْلُومَات وَأَنه لايخفى عَلَيْهِ شَيْء وَلَا يفهم مِنْهُ الْبَتَّةَ أَن لَهُ علما هُوَ غَيره وَهَكَذَا نقُول فِي يقدر وَفِي غير ذَلِك كُله وَأما قَوْلهم أننا نقُول أَنه تَعَالَى عَالم بِنَفسِهِ وَلَا نقُول أَنه قَادر على نَفسه فقد كذب من قَالَ ذَلِك وإفك بل كل ذَلِك سَوَاء وَهُوَ تَعَالَى قَادر على نَفسه كَمَا هُوَ عَالم بهَا وَلَا فرق بَين ذَلِك وَقد سقط عَن هَذَا السُّؤَال جملَة وَقد تكلمنا على تَفْصِيل هَذَا السُّؤَال بعد هَذَا ويلزمهم ضَرُورَة إِذْ قَالُوا أَنه تَعَالَى غير قَادر على نَفسه أَنه عَاجز عَن نَفسه وَإِطْلَاق هَذَا كفر صَرِيح وَأما قَوْلهم أَنه قد يعلم الله تَعَالَى قَادِرًا من لَا يُعلمهُ عَالما ويعلمه عَالما من لَا يُعلمهُ قَادِرًا فَلَا حجَّة فِي ذَلِك لِأَن جهل من جهل الْحق لَيْسَ بِحجَّة على الْحق وَقد نجد من يعلم الله عز وَجل ويعتقد فِيهِ أَنه عز وَجل جسم فَلَيْسَتْ الظنون حجَّة فِي إبِْطَال حق وَلَا فِي تَحْقِيق بَاطِل فصح أَن علم الله تَعَالَى حق وَقدرته حق وقوته حق وكل ذَلِك لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا الْعلم غير الْقُدْرَة وَلَا الْقُدْرَة غير الْعلم إِذْ لم يَأْتِ دَلِيل بِغَيْر هَذَا لَا من عقل وَلَا من سمع وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وحهم بن صَفْوَان سمرقندي يكنى أَبَا مُحرز مولى لبني راسب من الأزد وَكَانَ كالبا لِلْحَارِثِ ابْن شُرَيْح التَّمِيمِي أَيَّام قِيَامه بخراسان وظفر مُسلم بن أحوز التَّمِيمِي بجهم فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَضرب عُنُقه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمعنى كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من الْآيَات الَّتِي ذكرُوا هُوَ مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى بحوله عز وَجل
هُوَ أَنه لما أخبرنَا الله عز وَجل بِأَن أهل النَّار لَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَأخْبرنَا عز وَجل بِأَنَّهُ يعلم مَتى تقوم السَّاعَة وَأخْبرنَا مَا تَقول أهل الْجنَّة وَأهل النَّار قبل أَن يَقُولُوا أَو سَائِر مَا فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصادقة عَمَّا لم يكن بعد علمنَا بذلك إِن علمه تَعَالَى بالأشياء كلهَا مقدم لوجودها ولكونها ضَرُورَة وَعلمنَا أَن كَلَامه عز وَجل لَا يتناقض وَلَا يتدافع وَأَن المُرَاد بقوله تَعَالَى حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَسَائِر مَا فِي الْقُرْآن من مثل هَذَا إِنَّمَا هُوَ على ظَاهره دون تكلّف تَأْوِيل بل على الْمَعْهُود بَيْننَا كَقَوْلِه تَعَالَى {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} فَمَا هُوَ كُله على حسب إِدْرَاك لمخاطب وَمعنى ذَلِك أَي حَتَّى نعلم من يُجَاهد مِنْكُم مُجَاهدًا ونعلم من يصير مِنْكُم صَابِرًا وَهَذَا لَا يكون إِلَّا فِي حِين جهادهم وَحين صبرهم وَأما قبل أَن يجاهدوا ويصبروا فَإِنَّمَا علمهمْ غير مجاهدين وَغير صابرين وَأَنَّهُمْ سيجاهدون ويصبرون فَإِذا جاهدوا علمهمْ حينئذٍ مجاهدين وَإِنَّمَا الزَّمَان فِي كل هَذَا للعلوم وَأما علمه تَعَالَى فَفِي غير زمَان وَلَيْسَ هَهُنَا تبدل علم وَإِنَّمَا يتبدل الْمَعْلُوم فَقَط وَالْعلم بِكُل ذَلِك لم يزل غير متبدل فَإِن قَالُوا مَتى علم الله زيدا مَيتا(2/101)
فَإِن قُلْتُمْ لم يزل يُعلمهُ مَيتا وَجب أَن زيدا لم يزل مَيتا وَهَذَا محَال وَإِن قُلْتُمْ لم يُعلمهُ مَيتا حَتَّى مَاتَ فَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلكُم فَالْجَوَاب عَن هَذَا أننا لَا نقُول شَيْئا مِمَّا ذكر ولكننا نقُول أَن الله عز حجل لم يزل يعلم أَنه سيخلف زيدا وَأَنه سيعيش كَذَا وَكَذَا وَأَنه سيموت فِي وَقت كَذَا فَعلم الله تَعَالَى بِكُل ذَلِك وَاحِد لَا يتبدل وَلَا يَسْتَحِيل وَلَا زَاد فِيهِ تبدل الْأَحْوَال الَّتِي للمعلوم شَيْئا وَلَا نقص مِنْهُ عدمهَا شَيْئا وَلَا أحدث لَهُ حُدُوث ذَلِك علما لم يكن وَإِنَّمَا تغاير المعلومات لَا الْعلم وَلَا الْعَلِيم وَلَا الْقُدْرَة وَلَا الْقَدِير وَالْفرق بَين القَوْل مَتى علم الله زيدا مَيتا وَبَين القَوْل مَتى علمت زيدا مَيتا فرق بَين وَهُوَ أَن علمي بِأَن زيدا مَاتَ هُوَ عرض حدث فِي النَّفس بحدوث موت زيد وَهُوَ غير علمي بِأَن زيدا حَيّ وَأَنه سيموت لِأَن علمي بِأَن زيدا سيموت إِنَّمَا هُوَ علم بِأَنَّهُ ستحدث حَال مقتضية لمَوْته يَوْمًا مَا لَا علمنَا بِوُجُود الْمَوْت وَعلمِي بِأَن زيدا ميت علم بِوُجُود الْمَوْت فَهُوَ غير الْعلم الأول وَكِلَاهُمَا عرض مَخْلُوق فِي النَّفس وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ شَيْئا غير الله عز وَجل وَلَو كَانَ علم الله مُحدثا لوَجَبَ ضَرُورَة أَن يكون على حكم سَائِر المحدثات وبضرورة الْعقل نعلم أَن الْعلم كَيْفيَّة عرض وَالْعرض لَا يقوم الْبَتَّةَ إِلَّا فِي جسم ومحال أَن يكون الْعلم مَحْمُولا فِي غير الْعَالم بِهِ فَكَانَ يجب من هَذَا القَوْل بالتجسيم وَهَذَا قَول قد بَطل بِمَا قدمنَا من الْبَرَاهِين على وجوب حُدُوث كل جسم وَعرض فَإِن قَالَ قَائِل علم الله تَعَالَى عرض حَادث فِي الْمَعْلُوم قَائِم بِهِ لَا بالباري عز وَجل وَلَا بِنَفسِهِ قُلْنَا لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق بِنَصّ الْقُرْآن علمنَا أَن الله عز وَجل عِنْده علم السَّاعَة وَعلم مَا لَا يكون أبدا إِن لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون إِذْ يَقُول تَعَالَى {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} وَلقَوْله تَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلَام {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} وَأخْبر تَعَالَى أَنهم مغرقون فَلَو كَانَ علم الله تَعَالَى عرضا قَائِما فِي الْمَعْلُوم والمعلوم الَّذِي هُوَ السَّاعَة غير مَوْجُود بعد وَالْعلم مَوْجُود بِيَقِين فَلَا بُد ضَرُورَة من أحد أَمريْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا أَن يكون الْمَعْلُوم مَوْجُودا لوُجُود الْعلم بِهِ وَهَذَا بَاطِل بضرورة الْحس لِأَن الْمَعْلُوم الَّذِي ذكرنَا مَعْدُوم فَيكون مَعْدُوما مَوْجُودا فِي حِين وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة أَو يكون الْعلم الْمَوْجُود قَائِما بِمَعْلُوم مَعْدُوم فَيكون عرض مَوْجُود مَحْمُولا فِي حَامِل مَعْدُوما وَهَذَا تَخْلِيط ومحال فَاسد الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كلامنا هَذَا مَعَ أهل ملتنا المقرين بِالْقُرْآنِ وَأما سَائِر الْملَل فَلَيْسَ نكلمهم فِي هَذَا لِأَنَّهَا نتيجة مُقَدمَات سوالف وَلَا يجوز الْكَلَام فِي النتيجة إِلَّا بعد إِثْبَات الْمُقدمَات فَإِن ثَبت الْمُقدمَات ثبتَتْ النتيجة والبرهان لَا يُعَارضهُ برهَان فَكل مَا ثَبت ببرهان فعورض بِشَيْء فَإِنَّمَا هُوَ شغب بِلَا شكّ وَإِن لم تصح الْمُقدمَات فالنتيجة بَاطِلَة دون تكلّف دَلِيل ومقدمات مَا ذكرنَا هِيَ إِثْبَات التَّوْحِيد وحدوث الْعَالم وَنقل الكواف لنبوة مُحَمَّد صلى(2/102)
الله عَلَيْهِ وَسلم وللقرآن فَإِن ذكرُوا الْآيَات الَّتِي فِي الْقُرْآن مثل {لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} لَعَلَّكُمْ تؤمنون {لَعَلَّكُمْ تشكرون} {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّمَا هِيَ كلهَا بِمَعْنى لَام الْعَاقِبَة أَي ليتذكر ولتؤمنوا وليشكروا وليتذكروا وليخشى على ظَاهر الْأَمر عندنَا من إِمْكَان كل ذَلِك منا كَمَا قَالَ عز وَجل {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقَالَ عز وَجل {ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} فَهَذَا أَيْضا على الْإِمْكَان مِمَّن عَاشَ وَالْأول على الْمُمكن من النَّاس عِنْد الْخطاب وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن بِلَفْظَة أَو فَإِنَّمَا هُوَ على أحد وَجْهَيْن أما على الشَّك من المخاطبين لَا من الله تَعَالَى وَأما بِمَعْنى التَّخْيِير فِي الْكل كَقَوْل الْقَائِل جَالس الْحسن أَو ابْن سِرين برهَان ذَلِك وُرُود النَّص بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يضل وَلَا ينسى وَأَنه قد علم أَن فِرْعَوْن لَا يُؤمن حَتَّى يرى الْعَذَاب وكما قَالَ تَعَالَى أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص كلهَا فَلم يبْق لأهل القَوْل بحدوث الْعلم إِلَّا أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى خلق شَيْئا مَا كَانَ حَامِلا لعلمه بالساعة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من السخف مَا هُوَ من الْعلم لِأَن علم الْعَالم لَا يقوم بِغَيْرِهِ وَلَا يحملهُ سواهُ هَذَا أَمر يعلم بِالضَّرُورَةِ والحس فَمن ادّعى دَعْوَى لَا يَأْتِي عَلَيْهَا بِدَلِيل فَهِيَ بَاطِلَة فَكيف إِذا أبطلها الْحس وضرورة الْعقل وَيبين مَا قُلْنَا نصا قَوْله تَعَالَى حاكياً عَن نبيه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لبني إِسْرَائِيل {عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} هَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عباداً لنا أولي بَأْس شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أَكثر نفيراً إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة ليسوؤوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة وليتبروا مَا علوا تتبيراً عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا} فَهَذَا نَص قَوْلنَا أَنه قد علم تَعَالَى مَا يَفْعَلُونَ وَأخْبر بذلك ثمَّ مَعَ هَذَا أخرج الْخطاب بالمعهود عندنَا بِلَفْظ عِيسَى وفينظر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد صَحَّ مَا كرنا فقد ثَبت ضَرُورَة إِن قَول الْقَائِل مَتى علم الله زيدا مَيتا سُؤال فَاسد بِالضَّرُورَةِ لِأَن مَتى سُؤال عَن زمَان وَعلم الله تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَقد مضى الْبُرْهَان على أَن الله تَعَالَى لَيْسَ فِي زمَان وَلَا فِي مَكَان وَإِنَّمَا الزَّمَان وَالْمَكَان للمعلوم فَقَط بِمَا بَينا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} فَقَالَ إِن من للتَّبْعِيض وَلَا يَتَبَعَّض إِلَّا مُحدث مَخْلُوق وَلَا يحاط إِلَّا بمخلوق مُحدث وَقد نَص الله تَعَالَى أَنه يحاط بِمَا شَاءَ من علمه فَوَجَبَ أَن علمه مَخْلُوق لِأَنَّهُ محاط بِبَعْضِه وَهُوَ متبعض فَالْجَوَاب وَبِاللَّهِ تَعَالَى(2/103)
التَّوْفِيق أَن كَلَام الله تَعَالَى وَاجِب أَن يحمل على ظَاهره وَلَا يُحَال عَن ظَاهره الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة حس على أَن شَيْئا مِنْهُ لَيْسَ على ظَاهره وَأَنه قد نقل عَن ظَاهره إِلَى معنى آخر فالانقياد وَاجِب علينا لما أوجبه ذَلِك النَّص وَالْإِجْمَاع أَو الضَّرُورَة لِأَن كَلَام الله تَعَالَى وإخباره وأوامره لَا تخْتَلف وَالْإِجْمَاع لَا يَأْتِي إِلَّا بِحَق وَالله تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق وكل مَا أبْطلهُ برهَان ضَرُورِيّ فَلَيْسَ بِحَق فَإِن هَذَا كَمَا قُلْنَا وَقد ثَبت ضَرُورَة أَن علم الله تَعَالَى لَيْسَ عرضا وَلَا جسماً أصلا لَا مَحْمُولا فِيهِ وَلَا فِي غَيره وَلَا هُوَ شَيْء غير الْبَارِي عز وَجل فبالضرورة نعلم أَن معنى قَوْله عز وَجل وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِنَّمَا المُرَاد الْعلم الْمَخْلُوق الَّذِي أعطَاهُ عباده وَهُوَ عرض فِي الْعَالمين مَحْمُول فيهم وَهُوَ مُضَاف إِلَى الله عز وَجل بِمَعْنى الْملك وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمنَا قَالَ الله عز وَجل {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يُرِيد تَعَالَى مَا خلق من الْعُلُوم وبثها فِي عباده كَمَا قَالَ الْخضر لمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنِّي على علم من علم الله لَا تعلمه أَنْت وَأَنت على علم من علم الله لَا أعلمهُ أَنا وَمَا نقص علمي وعلمك من علم الله إِلَّا كَمَا نقص هَذَا العصفور من الْبَحْر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ إِضَافَة الْملك وكما قَالَ تَعَالَى فِي عِيسَى أَنه روح الله وَهَذَا كُله إِضَافَة الْملك فها معنى قَوْله تَعَالَى وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وَقد نفى الله تَعَالَى الْإِحَاطَة من الْخلق بِهِ فَقَالَ عز وَجل وَلَا يحيطون بِهِ علما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيخرج أَيْضا على ظَاهره أحسن خُرُوج دون تَأْوِيل ولاتكلف فَيكون معنى قَوْله تَعَالَى وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ أَي من الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وَهَذَا حق لَا شكّ فِيهِ لأننا لَا نحيط من الْعلم بِهِ تَعَالَى إِلَّا بِمَا علمنَا فَقَط قَالَ تَعَالَى وَلَا يحيطون بِهِ علما فَيكون معنى من علمه أَي من مَعْرفَته فَإِن قَالُوا فَمَا معنى دعائكم الله فِي الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة وَهل يَخْلُو أَن يكون سبق علمه بِالرَّحْمَةِ فَأَي معنى للدُّعَاء فيمالا بُد مِنْهُ وَهل هُوَ إِلَّا كمن دعِي فِي طُلُوع الشَّمْس غَدا أَو فِي أَن يَجْعَل إنْسَانا إنْسَانا أَو فِي أَن تكون الأَرْض أَرضًا وَإِن كَانَ سبق فِي علمه تَعَالَى حلاف ذَلِك فَأَي معنى فِي الدُّعَاء فِيمَا لَا يكون وَهل هُوَ إِلَّا كمن دعى فِي أَن لَا تقوم السَّاعَة أَو فِي أَن لَا يكون النَّاس نَاسا فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق الدُّعَاء عمل أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ لَا على أَنه يرد قدرا وَلَا أَنه يكون من أَجله مَالا يكون لَكِن الله تَعَالَى قد جعل فِي سَابق علمه الدُّعَاء الَّذِي سبق فِي علمه قبُوله يكون سَببا لما سبق فِي علمه كَونه كَمَا جعل فِي سَابق علمه الغذا بِالطَّعَامِ وَالشرَاب سَببا لبلوغ الْأَجَل الَّذِي سبق فِي علمه الْبلُوغ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْمَال وَقد نَص تَعَالَى على أَنه تَعَالَى يعلم آجال الْعباد قَالَ تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَمَعَ ذَلِك فقد جعل تَعَالَى الْأكل وَالشرب سَببا إِلَى اسْتِيفَاء ذَلِك الْمِقْدَار وكل ذَلِك سَابق فِي علمه عز وَجل وَالدُّعَاء(2/104)
هَكَذَا وَكَذَلِكَ التَّدَاوِي على سَبِيل الطِّبّ وَلَا فرق وَقد أخبرنَا تَعَالَى أَنه يُصَلِّي على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمرنا مَعَ ذَلِك بِالدُّعَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى قل رب احكم بِالْحَقِّ فَأمرنَا بِالدُّعَاءِ بذلك وَقد علمنَا أَنه تَعَالَى لَا يحكم إِلَّا بِالْحَقِّ فصح مَا قُلْنَا من أَن الدُّعَاء عمل أمرنَا بِهِ فَنحْن نعمله حَيْثُ أمرنَا عز وَجل بِهِ وَلَا نعمله حَيْثُ لم نؤمر بِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِذا قد بَطل بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وَهُوَ مَخْلُوق فلنتكلم بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله وَهُوَ مَخْلُوق فلنتكلم بعون الله تَعَالَى وتأييده على قَوْله من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله تَعَالَى وخلافه وَأَنه لم يزل مَعَ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا قَول لَا يحْتَاج فِي رده إِلَى أَكثر من أَنه شرك مُجَرّد وَإِبْطَال للتوحيد لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَعَ الله تَعَالَى شَيْء غَيره لم يزل مَعَه فقد بَطل أَن يكون الله تَعَالَى كَانَ وَحده بل قد صَار لَهُ شريك فِي أَنه لم يزل وَهَذَا كفر مُجَرّد ونصرانية مَحْضَة مَعَ أَنَّهَا دَعْوَى سَاقِطَة بِلَا دَلِيل أصلا وَمَا قَالَ بِهَذَا أحد قطّ من أهل الْإِسْلَام قبل هَذِه الْفرْقَة المحدثة بعد الثلاثمائة عَام فَهُوَ خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَترك للْإِجْمَاع الْمُتَيَقن وَقد قلت لبَعْضهِم إِذْ قُلْتُمْ أَنه لم يزل مَعَ الله تَعَالَى شَيْء آخر هُوَ غَيره وخلافه وَلم يزل مَعَه فلماذا أنكرتم على النَّصَارَى فِي قَوْلهَا أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة فَقَالَ لي مُصَرحًا مَا أَنْكَرْنَا على النَّصَارَى إِلَّا اقتصارهم على الثَّلَاثَة فَقَط وَلم يجْعَلُوا مَعَه تَعَالَى أَكثر من ذَلِك فَأَمْسَكت عَنهُ إِن صرح بِأَن قَوْلهم أَدخل فِي الشّرك من قَول النَّصَارَى وَقَوْلهمْ هَذَا رد لقَوْل الله عز وَجل قل هُوَ الله أحد فَلَو كَانَ مَعَ الله غير الله لم يكن الله أحد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمَا كُنَّا نصدق من أَن ينتمي إِلَى الْإِسْلَام يَأْتِي بِهَذَا أَنا شاهدناهم وناظرناهم ورأينا ذَلِك صراخا فِي كتبهمْ ككتاب السمناني قَاضِي الْموصل فِي عصرنا هَذَا وَهُوَ من أكابرهم وَفِي كتاب الْمجَالِس للأشعري وَفِي كتب لَهُم أخر(2/105)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْعجب مَعَ هَذَا كُله تَصْرِيح الباقلاني وَابْن فورك فِي كتبهما فِي الْأُصُول وَغَيرهَا بِأَن علم الله تَعَالَى وَاقع مَعَ علمنَا تَحت حد وَاحِد وَهَذِه حَمَاقَة ممزوجة بهوس إِذْ جعلُوا مَا لم يزل محدوداً بِمَنْزِلَة المحدثات وكل مَا أدخلْنَاهُ على المنانية وَالنَّصَارَى وَمن يبطل التَّوْحِيد فَهُوَ دَاخل على هَذِه الْفرْقَة حرفا بِحرف فأغنانا أَن نحيل على ذَلِك عَن تكراره ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا مَعَ قَوْلهم إِن التغاير لَا يكون إِلَّا فِيمَا جَازَ أَن يُوجد أَحدهمَا دون الآخر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه غَايَة السخافة لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان عَلَيْهَا لَا من قُرْآن وَلَا سنة وَلَا مَعْقُول وَلَا لُغَة أصلا وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل ويلزمهم على هَذَا أَن الْخلق لَيْسُوا غير الْخَالِق تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُوجد الْخلق دون الْخَالِق فَإِن قَالُوا جَائِز أَن يُوجد الْخَالِق دون الْخلق قُلْنَا نعم فَمن أَيْن لكم أَن أحد التغاير هُوَ أَنه لَا يجوز أَن يُوجد أَحدهمَا أَيهمَا كَانَ دون الآخر وَهَذَا مَا لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ ويلزمهم لُزُوما لَا ينفكون عَنهُ إِن الْإِعْرَاض لَيست غير الْجَوَاهِر لِأَنَّهُ لَا يجوز الْبَتَّةَ وَلَا يُمكن وَلَا يتَوَهَّم وجود أَحدهمَا دون الآخر جملَة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وحد التغاير الصَّحِيح هُوَ مَا شهِدت لَهُ اللُّغَة وضرورة الْحس وَالْعقل وَهُوَ أَن كل مسميين جَازَ أَن يخبر عَن أَحدهمَا بِخَبَر من لَا يخبر بِهِ عَن الآخر فهما غير أَن لَا بُد من هَذَا وَبِالْجُمْلَةِ مَا لم يكن غير الشَّيْء نَفسه فَهُوَ غَيره وَمَا لم يكن غير الشَّيْء فَهُوَ نَفسه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِذا قد بَطل بعون الله تَعَالَى وتأييده قَول من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى هُوَ غير الله ثمَّ جعله مخلوقا أَو جعله لم يزل فلنقل سَائِر الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله عز وَجل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد من قَالَ أَن علم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ الله تَعَالَى وَلَا هُوَ غَيره لكنه صفة ذَات لم يزل فَكَلَام فَاسد محَال متناقض يبطل بعضه بَعْضًا لأَنهم إِذْ قَالُوا علم الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ لله فقد أوجبوا بِهَذَا القَوْل ضَرُورَة أَنه غَيره ثمَّ إِذْ قَالُوا وَلَا هُوَ غَيره فقد أبطلوا الغيرية وأوجبوا بِهَذَا القَوْل ضَرُورَة أَنه هُوَ فصح أَنه سَوَاء قَول الْقَائِل هُوَ هُوَ ولاغيره وَقَول الْقَائِل هُوَ هُوَ وَهُوَ غَيره(2/106)
فَإِن معنى هَاتين القضيتين وَاحِد لايختلف وكلا العبارتين بَاطِل مُنَاقض لَا يعقل نفي وَإِثْبَات مَعًا وَهَذَا تَخْلِيط الممرورين نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان وَالْعجب من احتجاج بَعضهم فِي هَذَا الْبَاطِل بِأَن قَالَ إِن الطول لَيْسَ هُوَ الطَّوِيل وَلَا هُوَ غَيره
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من أَطَم مَا يكون من الْجَهْل والمكابرة إِذْ لَا يدْرِي هَذَا الْقَائِل أَن الطَّوِيل جَوْهَر جسم قَائِم بِنَفسِهِ حَامِل لطوله ولسائر أعراضه وَإِن الطَّوِيل عرض من الْأَعْرَاض مَحْمُول فِي الطَّوِيل غير قَائِم بِنَفسِهِ فَمن جهل أَن الْمَحْمُول غير الْحَامِل وَأَن الْقَائِم بِنَفسِهِ هُوَ غير مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ فَهُوَ عديم حس وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يعلم قبل أَن يهدر وَنحن نريه الطين الطَّوِيل يَدُور فَيذْهب الطول والتربيع وَيَأْتِي التدوير وَالَّذِي كَانَ طَويلا بَاقٍ بحسه فَهَل يخفى على سَالم التَّمْيِيز أَن الذَّاهِب غير الْآتِي وَأَن الفاني غير الْبَاقِي فبالضرورة نعلم أَن الطول غير الطَّوِيل ثمَّ نقُول لمن تعلق بِهَذِهِ الْعبارَة الْفَاسِدَة أخبرونا هَل يَخْلُو كل اسْمَيْنِ متغايرين من أحد وَجْهَيْن ضَرُورَة لَا ثَالِث لَهَا الْبَتَّةَ أما أَن يكون الاسمان واقعين مَعًا على شَيْء وَاحِد يعبر بذينك الاسمين على ذَلِك الشَّيْء الَّذِي علق عَلَيْهِ وَأما أَن يكون الاسمان واقعين مَعًا على شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ يعبر بِكُل اسْم مِنْهُمَا على حِدته عَن الشَّيْء الَّذِي علق عَلَيْهِ ذَلِك الِاسْم هَذَانِ وَجْهَان لَا بُد من أَحدهمَا ضَرُورَة لكل اسْمَيْنِ وَأي هذَيْن كَانَ فَهُوَ مُبْطل لتخليط من قَالَ لَا هُوَ هُوَ وَلَا غَيره وَقد زَاد بَعضهم فِي الشعوذة والسفسطة وإفساد الْحَقَائِق فَأتى بِدَعْوَى فَاسِدَة وَذَلِكَ أَن قَالَ لَا يكون الشَّيْء غير الشَّيْء إِلَّا إِذا أمكن أَن ينْفَرد أَحدهمَا عَن الآخر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة بِلَا دَلِيل فَلَو لم يكن إِلَّا هَذَا لسقط هَذَا التمويه فَكيف وَهِي قَضِيَّة فَاسِدَة لِأَنَّهَا توجب أَن كُلية الْإِعْرَاض لَيست غير كُلية الْجَوَاهِر لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى انْفِرَاد الْجَوَاهِر عَن الْإِعْرَاض وَلَا انْفِرَاد الْإِعْرَاض عَن الْجَوَاهِر فَكفى فَسَادًا بِكُل هذيان أدّى إِلَى مثل هَذَا التَّخْلِيط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد حد التغاير فِي الغيرين هُوَ أَن كل شَيْء أخبر عَنهُ بِخَبَر مَا لَا يكون ذَلِك الْوَقْت خَبرا عَن الشَّيْء الآخر فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ غير مَا لَا يُشَارِكهُ فِي ذَلِك الْخَبَر وَلَيْسَ فِي كل مَا يعلم وَيُوجد شَيْئَانِ يخلوان من هَذَا الْوَصْف بِوَجْه من الْوُجُوه وَهَذَا مُقْتَضى لَفْظَة الْغَيْر فِي اللُّغَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعَ أَن هَذَا أَمر يعلم بضرورة الْحس وَالْعقل وحد الهوية هُوَ أَن كل مَا لم يكن غير الشَّيْء فَهُوَ هُوَ بِعَيْنِه إِذْ لَيْسَ بَين الهوية والغيرية وسيطة يَعْقِلهَا أحد الْبَتَّةَ فَمَا خرج عَن أَحدهمَا دخل فِي الآخر وَلَا بُد وَأَيْضًا فَكل اسْمَيْنِ مُخْتَلفين(2/107)
لَا يخبر عَن مُسَمّى أَحدهمَا بِشَيْء إِلَّا كَانَ ذَلِك الْخَبَر خَبرا عَن مُسَمّى الِاسْم الآخر وَلَا بُد أبدا فمسماهما وَاحِد بِلَا شكّ فَإِذا قد صَحَّ فَسَاد هَذَا القَوْل فلنقل بعون الله تَعَالَى أَنه لم يزدْ فِي هَذِه الْعبارَة على أَن قَالَ لَا يُقَال فِي هَذَا شَيْء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ لِأَنَّهُ لَا بُد ضَرُورَة من أحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ فَسقط هَذَا القَوْل أَيْضا إِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَان الْحَقِيقَة وَأما قَول أبي الْهُذيْل أَن علم الله هُوَ الله فَإِنَّهُ تَسْمِيَة مِنْهُ للباري تَعَالَى باستدلال وَلَا يجوز أَن يخبر عَن الله تَعَالَى وَلَا أَن يُسمى باستدلال الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ بِخِلَاف كل مَا خلق فَلَا دَلِيل يُوجب تَسْمِيَته بِشَيْء من الْأَسْمَاء الَّتِي يُسمى بهَا شَيْء من خلقه وَلَا أَن يُوصف بِصفة يُوصف بهَا شَيْء من خلقه وَلَا أَن يخبر عَنهُ بِمَا يخبر بِهِ عَن شَيْء من خلقه إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِشَيْء من ذَلِك فَيُوقف عِنْده فَمن وَصفه تَعَالَى بِصفة يُوصف بهَا شَيْء من خلقه أَو سَمَّاهُ باسم يُسَمِّي بِهِ شَيْء من خلقه اسْتِدْلَال لَا على ذَلِك بِمَا وجد فِي خلقه فقد شبهه تَعَالَى بخلقه وألحد فِي أَسْمَائِهِ وافترى الْكَذِب وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى وَلَا أَن يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه أَو أخبر بِهِ عَن نَفسه فِي كِتَابه أَو على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو صَحَّ بِهِ إِجْمَاع جَمِيع أهل الْإِسْلَام الْمُتَيَقن وَلَا مزِيد وَحَتَّى وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا فَلَا يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ تَعَالَى اللَّفْظ وَقد علمنَا يَقِينا أَن الله عز وَجل بني السَّمَاء قَالَ تَعَالَى {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} وَلَا يجوز أَن يُسمى بِنَاء وَأَنه تَعَالَى خلق أصباغ النَّبَات وَالْحَيَوَان وَأَنه تَعَالَى قَالَ {صبغة الله} وَلَا يجوز أَن يُسمى صباغاً وَهَكَذَا كل شَيْء لم يسم بِهِ نَفسه وَلَيْسَ يجب أَن يُسمى الله تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ علمه وَإِن صَحَّ يَقِينا أَن لَهُ علما لَيْسَ هُوَ غَيره لما ذكرنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقد صَحَّ أَن ذَات الله تَعَالَى لَيست غَيره وَأَن وَجهه لَيْسَ غَيره وَأَن نَفسه لَيست غَيره وَأَن هَذِه الْأَسْمَاء لَا يعبر بهَا إِلَّا عَنهُ تَعَالَى لَا عَن شَيْء غَيره تَعَالَى الْبَتَّةَ وَلَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى ذَات وَلَا أَنه وَجه وَلَا أَنه نفس وَلَا أَنه علم وَلَا أَنه قدرَة وَلَا أَنه قُوَّة لما ذكرنَا من امْتنَاع أَن يُسمى عَالم بِهِ نَفسه عَن رجل وَأما علم لمخلوقين فَهُوَ شَيْء غَيرهم بِلَا شكّ لِأَنَّهُ يذهب ويعاقبه جهل والباري تَعَالَى لَا يُشبههُ غَيره فِي شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء الْبَتَّةَ بل هُوَ تَعَالَى خلاف خلقه فِي كل وَجه فَوَجَبَ أَن علمه تَعَالَى لَيْسَ غَيره وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ لنا قَائِل إِذْ الْعلم عنْدكُمْ لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَأَن قدرته لَيست غَيره وَأَن قوته لَيست غَيره تَعَالَى فَأنْتم إِذا تَعْبدُونَ الْعلم وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة فجوابنا فِي ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إننا إِنَّمَا نعْبد الله تَعَالَى بِالْعَمَلِ الَّذِي أمرنَا بِهِ لَا بِمَا سواهُ وَلَا نَدْعُوهُ إِلَّا كَمَا أمرنَا تَعَالَى قَالَ عز وَجل {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فَنحْن لَا نعْبد إِلَّا الله كَمَا أمرنَا وَلَا نقُول أننا نعْبد الْعلم لِأَن الله تَعَالَى لم يُطلق لنا أَن نطلق هَذَا اللَّفْظ وَلَا أَن نعتقده(2/108)
ثمَّ نسألهم عَمَّا سألونا عَنهُ بِعَيْنِه فَنَقُول لَهُم أَنْتُم تقرون أَن وَجه الله وَعين الله وَيَد الله وَنَفس الله لَيْسَ شَيْء من ذَلِك غير الله تَعَالَى بل ذَلِك عنْدكُمْ هُوَ الله فَأنْتم إِذا تَعْبدُونَ الْوَجْه وَالْيَد وَالْعين والذات فَإِن قَالُوا نعم قُلْنَا لَهُم فَقولُوا فِي دعائكم يَا يَد الله ارحمينا وَيَا عين الله ارضي عَنَّا وَيَا ذَات الله اغفري لنا إياك نعْبد وَقُولُوا نَحن خلق وَجه الله وَعبيد عين الله فَإِن جسروا على ذَلِك فَنحْن لَا نجيز الْإِقْدَام على مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلَا نتعدى حُدُوده فَإِن شهدُوا فَلَا نشْهد مَعَهم {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} وَالَّذِي ألزمونا من هَذَا فَهُوَ لَازم لَهُم لِأَنَّهُ سُؤال رضوه وصححوه وَمن رَضِي شَيْئا لزمَه وَنحن لم نرض هَذَا السُّؤَال وَلَا صححناه فَلَا يلْزمنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي سميع بَصِير وَفِي قديم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأجْمع الْمُسلمُونَ على القَوْل بِمَا جَاءَ بِهِ نَص الْقُرْآن من أَن الله تَعَالَى سميع بَصِير ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَت طَائِفَة من أهل السّنة والأشعرية وجعفر بن حَرْب من الْمُعْتَزلَة وَهِشَام ابْن الحكم وَجَمِيع المجسمة نقطع أَن الله سميع بسمع بَصِير ببصر وَذَهَبت طوائف من أهل السّنة مِنْهُم الشَّافِعِي وَدَاوُد بن عَليّ وَعبد الْعَزِيز بن مُسلم الْكِنَانِي رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم إِلَى أَن الله تَعَالَى سميع بَصِير وَلَا نقُول بسمع وَلَا يبصر لِأَن الله تَعَالَى لم يقلهُ وَلَكِن سميع بِذَاتِهِ وبصير بِذَاتِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَبِهَذَا نقُول وَلَا يجوز إِطْلَاق سمع وَلَا بصر حَيْثُ لم يَأْتِ بِهِ نَص لما ذكرنَا آنِفا من أَنه لَا يجوز أَن يخبر عَنهُ تَعَالَى مَا لم يخبر عَن نَفسه وَاحْتج من أطلق على الله تَعَالَى السّمع وَالْبَصَر بِأَن قَالَ لَا يعقل السَّمِيع إِلَّا بسمع وَلَا يعقل الْبَصِير إِلَّا ببصر وَلَا يجوز أَن يُسمى بَصِير إِلَّا من لَهُ بصر وَلَا يُسمى سميعاً إِلَّا من لَهُ سمع وَاحْتَجُّوا أَيْضا فِي هَذَا وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من أَن الصِّفَات مُتَغَايِرَة بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى يسمع المبصرات وَلَا أَنه يبصر المسموعات من الْأَصْوَات وَقَالُوا هَذَا لَا يعقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ شغبي فاسدٌ أما قَوْلهم لَا يعقل السَّمِيع إِلَّا بسمع وَلَا يعقل الْبَصِير إِلَّا ببصر فَيُقَال لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أما فِيمَا بَيْننَا فَنعم وَكَذَلِكَ أصلا لم نجد قطّ فِي شَيْء من الْعَالم الَّذِي نَحن فِيهِ سميعاً إِلَّا بسمع وَلَا وجد فِيهِ بَصيرًا إِلَّا ببصر فَإِنَّهُ لم يُوجد قطّ أَيْضا فِيهِ سميع إِلَّا بجارحة يسمع بهَا وَلَا وجد قطّ فِيهِ عَالم إِلَّا بضمير فلزمهم أَن يجرو على الله تَعَالَى هَذِه الْأَوْصَاف وَتَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وهم لَا يَقُولَن هَذَا وَلَا يستجيزونه وَأما المجسمة فَإِنَّهُم أطْلقُوا هَذِه وجوزوه وَقد مضى نقض قَوْلهم بعون الله وتأييده وَيلْزم الطَّائِفَتَيْنِ كلتيهما إِذا قطعُوا بِاللَّه تَعَالَى سمعا وبصراً لِأَنَّهُ سميع بَصِير وَلَا يُمكن أَن يكون سميع بَصِير إِلَّا إِذا سمع وبصر لَا سِيمَا وَقد صَحَّ النَّص بِأَن لَهُ تَعَالَى عينا وَأَعْيُنًا أَن يَقُولُوا أَنه ذُو حدقة وناظر وطباق فِي الْعين وَذُو أشفار وأهداب لأننا نشاهد(2/109)
فِي الْعَالم وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن تكون عين الَّذِي عين يرى بهَا ويبصر إِلَّا هَكَذَا وَإِلَّا فَهِيَ عين ذَات عاهة أَو كعيون بعض الْحَيَوَان الَّتِي لَا يطبقها وَكَذَلِكَ لَا يكون فِي الْمَعْهُود وَلَا يُمكن الْبَتَّةَ أَن يكون سميع فِي الْعَالم إِلَّا بِإِذن ذَات صماخ فيلزمهم أَن يثبتوا هَذَا كُله وَإِلَّا فقد أبطلوا استدلالهم وزودوا استشهادهم بالمعهود والمعقول فَإِن أطْلقُوا هَذَا كُله تركُوا مَذْهَبهم وَخَرجُوا إِلَى أقبح قَول المجسمة وَقد ذكرنَا فَسَاد قَوْلهم قبل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِذا جوزوا أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى سميعاً بَصيرًا بِغَيْر جارحة وَهَذَا خلاف مَا عهدوا فِي الْعَالم وجوزا أَن يكون لَهُ تَعَالَى عين بِلَا حدقة وَلَا نَاظر وَلَا إطباق وَلَا أهداب وَلَا أشفار وَهَذَا أَيْضا خلاف مَا عهدوا فِي الْعَالم فَلَا ينكروا قَول من قَالَ إِنَّه سميع لَا بسمع بَصِير لَا ببصر وَإِن كَانَ ذَلِك خلاف مَا عهدوا واما عهدوا فِي الْعَالم على أَن بَين الْقَوْلَيْنِ فرقا حرَام وَاضحا وَهُوَ أننا نَحن لم نلتزم أَن نحل تَسْمِيَته عز وَجل قِيَاسا على مَا عهدنا بل ذَلِك حرامٌ لَا يجوز وَلَا يحل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء يُشبههُ عز وَجل فيقاس عَلَيْهِ قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَقُلْنَا نعم إِنَّه سميع بَصِير لَا كشيء من البصراء وَلَا السامعين مِمَّا فِي الْعَالم وكل سميع وبصير فِي الْعَالم فَهُوَ ذُو سمع وبصر فَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك بِنَصّ الْقُرْآن فَهُوَ سميع كَمَا قَالَ لَا يسمع كالسامعين وبصير كَمَا قَالَ لَا يبصر كالمبصرين لَا يُسَمِّي رَبنَا تَعَالَى إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلَا يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه فَقَط كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَقُلْنَا نعم هُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَلم يقل تَعَالَى إِن لَهُ سمعا وبصرا فَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِن لَهُ سمعا وبصراً فَيكون قَائِلا على الله تَعَالَى بِلَا علم وَهَذَا لَا يحل وَبِاللَّهِ تَعَالَى نعتصم وَأما خصومنا فَإِنَّهُم أطْلقُوا أَنه لَا يكون إِلَّا كَمَا عهدوا من كل سميع وبصير فِي أَنه ذُو سمع وبصر فيلزمهم ضَرُورَة أَن لَا يكون إِلَّا كَمَا عهدوا من كل سميع وبصير فِي أَنه ذُو جارحة يسمع بهَا ويبصر بهَا وَلَا بُد وَلَوْلَا تِلْكَ الْجَارِحَة مَا سمي أحد من الْعَالم سميعاً وَلَا بَصيرًا وَلَا أبْصر أحد شَيْئا فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هَذِه الْآيَة أعظم حجَّة عَلَيْكُم لِأَن الله تَعَالَى نَص فِيهَا على أَنهم لم يرَوا بعيونهم مَا يتعظون بِهِ وَلَا سمعُوا بآذانهم مَا يقبلونه من الْهدى فَلَمَّا كَانَت الْعُيُون والآذان لَا ينْتَفع بهَا اسْتحق الذَّم والنكال فلولا أَن الْعين وَالْأُذن بهما يكون السّمع وَالْبَصَر ضَرُورَة وَلَا بُد لَا بِشَيْء دونهمَا مَا اسْتحق الذَّم من رزق أذنا وعيناً سالمتين فَلم يسمع بهما ويبصر مَا يَهْتَدِي بِهِ بعون الله عز وَجل لَهُ وَمَا كَانَ يكون معنى لذكر الله عز وَجل الْعين وَالْأُذن فِي السّمع وَالْبَصَر بهَا لَو جَازَ أَن يكون سمع وبصر دونهمَا فَبَطل قَوْلهم بِالْقُرْآنِ ضَرُورَة وبالحس وبديهة الْعقل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(2/110)
أما مان وموهوا بِهِ من قَوْلهم أَنه لَوْلَا أَنه لَهُ سمعا وبصرا لجَاز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى يسمع الألوان وَيرى الْأَصْوَات فَهَذَا كَلَام لَا يُطلق فِي كل شَيْء على عُمُومه لأننا إِنَّمَا خوطبنا بلغَة الْعَرَب فَلَا يجوز أَن نستعمل غَيرهَا فِيمَا خوطبنا بِهِ وَالَّذِي ذكرْتُمْ من رِوَايَة الْأَصْوَات وَسَمَاع الألوان لَا يُطلق فِي اللُّغَة الَّتِي خوطبنا فِيمَا بَيْننَا فَلَيْسَ لنا أَن ندخل فِي اللُّغَة مَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا أَن يَأْتِي بذلك نَص فنقلبه على اللُّغَة ثمَّ نقُول أَنه لَو قَالَ قَائِل أَنه تَعَالَى سميع للألوان بَصِير بالأصوات بِمَعْنى عَالم بهَا لَكَانَ ذَلِك جَائِزا وَلما منع من ذَلِك برهَان فَنحْن نقُول سَمِعت الله عز وَجل يَقُول كَذَا وَكَذَا ورأينا الله تَعَالَى يَقُول كَذَا وَكَذَا وَيَأْمُر بِكَذَا وَيفْعل كَذَا بِمَعْنى علمنَا فَهَذَا لَا يُنكره أحد وَلَا فرق بَين هَذَا وَبَين مَا سَأَلُوا عَنهُ وَأَيْضًا فَإِن الله عز وَجل يَقُول {أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شيءٍ بَصِير} وَهَذَا عُمُوم لكل شَيْء كَمَا قُلْنَا فَلَا يجوز أَن يخص بِهِ شَيْء دون شَيْء إِلَّا بِنَصّ آخر أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة وَلَا سَبِيل إِلَى شَيْء من هَذَا فصح مَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {يعلم السِّرّ وأخفى} فصح أَنِّي بَصيرًا وسميعاً وعليماً بِمَعْنى وَاحِد ثمَّ نقُول لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّه تَعَالَى بِإِجْمَاع منا ومنكم هُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَهُوَ أحد غير متكئن وَلَا نقُول أَنه السَّمِيع للألوان الْبَصِير بالأصوات إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا وَلَيْسَ ذَلِك يُوجب أَن السَّمِيع غير الْبَصِير فَالَّذِي أردتم إِلْزَامه ساقطه وَإِنَّمَا اخْتلفت معلوماته وَإِنَّمَا هُوَ تَعَالَى وَاحِد وَعلمه بهَا كلهَا وَاحِد يعلمهَا كلهَا بِذَاتِهِ لَا يعلم هُوَ غَيره الْبَتَّةَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ قَائِل أتقولون أَن الله عز وَجل لم يزل سميعاً بَصيرًا قُلْنَا نعم لم يزل الله تَعَالَى سميعاً بَصيرًا عفوا غَفُورًا عَزِيزًا قَدِيرًا رحِيما وَهَذَا كُله مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن لَكَانَ الله كَمَا جَاءَ كَانَ الله سميعاً بَصيرًا وَنَحْو ذَلِك لِأَن قَوْله كَانَ إِخْبَار عَمَّا لم يزل إِذا أخبر بذلك عَن نَفسه لَا عَمَّن سواهُ فَإِن قَالُوا أتقولون لم يزل الله خَالِقًا خلاقاً رازقاً قُلْنَا لَا نقُول هَذَا لِأَن الله تَعَالَى لم ينص على أَنه كَانَ خَالِقًا خلاقاً رازقاً لَكنا نقُول لم يزل الخلاق الرَّزَّاق وَلم يزل الله تَعَالَى لَا يخلق وَلَا يرْزق ثمَّ خلق ورزق من خلق وَهَذَا يُوجب ضَرُورَة أَنَّهَا أَسمَاء أَعْلَام لَا مشتقه لِأَنَّهُ لَو كَانَ خَالق ورازق مشتقين من خلق ورزق لَكَانَ لم يزل ذَا خلق يخلقه وَيَرْزقهُ فَإِن قيل فَإِن السَّمِيع والبصير والرحمن والرحيم وَالْعَفو وَالْملك كل ذَلِك يَقْتَضِي مسموعاً ومبصراً ومرحوماً ومغفوراً لَهُ وعفوا عَنهُ عَدو مَمْلُوكا قُلْنَا الْمَعْنى فِي سميع وبصير عَن الله تَعَالَى هُوَ الْمَعْنى فِي عليم وَلَا فرق وَلَيْسَ مَا يظنّ أهل الْعلم من أَن لَهُ تَعَالَى(2/111)
سمعا وبصراً مختصين بالمسموع والمبصر تَشْبِيها بخلقه سوى عَمه لِأَن الله تَعَالَى لم ينص على ذَلِك فلزمنا أَن نقُوله وَلَا يجوز أَن يخبر عَن الله بِغَيْر مَا أخبر عَن نَفسه لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله من السامعين بَصِير فصح أَنه تَعَالَى سميع لَيْسَ كمثله من السامعين بَصِير لَا كمثله شَيْء من البصراء فَإِن قَالَ قَائِل أتقولون أَن الله عز وَجل لم يزل يسمع وَيرى ويدر قُلْنَا نعم لِأَن الله عز وَجل قَالَ {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} وَقَالَ تَعَالَى {وَالله يسمع تحاوركما} وَصَحَّ الْإِجْمَاع بقول سمع الله لمن حَمده وَصَحَّ النَّص فَمَا أذن الله لشَيْء اذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ فَنَقُول إِن يسمع وَيرى وأسمع وَأرى وَيدْرك كل ذَلِك بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ معنى يعلم وَلَا فرق وَأما الاذن لنَبِيّ حسن الصَّوْت فَهِيَ من الاذن بِمَعْنى الْقبُول كَمَا يَأْذَن الْحَاجِب لمأذون لَهُ فِي الدُّخُول وَلَيْسَ من الْأذن الَّتِي هِيَ الْجَارِحَة وَلَو كَانَ كَمَا تظنون لَكَانَ يبصره للمبصرات وسَمعه للمسموعات مُحدثا ولكان غير سميع حَتَّى سمع وَغير بَصِير حَتَّى أبْصر وَلم يدْرك وحاشا لَهُ تَعَالَى من هَذَا فَكل هَذَا بِمَعْنى الْعلم وَلَا مزِيد فَإِن قيل فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} قُلْنَا نعم وَخلق الله تَعَالَى فعل لَهُ مُحدث واختياره تَعَالَى هُوَ خلقه لَا غَيره وَلَيْسَ هَذَا من يسمع ويبصر وَيرى وَيدْرك فِي شَيْء لِأَن معنى كل هَذَا وَمعنى الْعلم سَوَاء وَلَا يجوز أَن يكون معنى يخلق ويختار معنى الْعلم وَأما الْعَفو والغفور والرحيم والحليم وَالْملك فَلَا يَقْتَضِي شَيْء من هَذَا وجود مَرْحُوم مَعَه وَلَا مَعْفُو عَنهُ مغْفُور لَهُ مَعَه وَلَا مَمْلُوك محلوم عَنهُ مَعَه بل هُوَ تَعَالَى رَحِيم بِذَاتِهِ عَفْو بِذَاتِهِ غَفُور بِذَاتِهِ ملك بِذَاتِهِ مَعَ النَّص الْوَارِد بِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ كَذَلِك وَهِي أَسمَاء أَعْلَام لَهُ عز وَجل فَإِن ذكرُوا الحَدِيث الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَينهم وَبَين أَن يروه الاداء الْكِبْرِيَاء على وَجهه لَو كشفه لأحرقت سبحات وَجهه مَا انْتهى إِلَيْهِ بَصَره فَفِي هَذَا الْخَبَر إبِْطَال لقَولهم لِأَن فِيهِ أَن الْبَصَر مِنْهُ ذُو نِهَايَة وكل ذِي نِهَايَة مَحْدُود مُحدث وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا لَكِن مَعْنَاهُ أَن الْبَصَر قد يسْتَعْمل فِي اللُّغَة بِمَعْنى الْحِفْظ قَالَ النَّابِغَة ... رَأَيْتُك ترعاني بِعَين بَصِيرَة
وتبعث حراساً عَليّ وناظرا ...
فَمَعْنَى هَذَا الْخَبَر لَو كشف تَعَالَى السّتْر الَّذِي جعل دون سطوته لأحرقت عَظمته مَا انْتهى إِلَيْهِ حفظه ورعايته من خلقه وَكَذَلِكَ قَول عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا الْحَمد لله الَّذِي وسع سَمعه الْأَصْوَات إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى أَن علمه وسع كل ذَلِك يعلم السِّرّ وأخفى ثمَّ نزيد بَيَانا بعون الله تَعَالَى فَنَقُول إِن قَوْلكُم لَا يعقل سميع إِلَّا بسمع وَلَا بَصِير إِلَّا ببصر فَإِن كل هَذَا صَحِيحا يُوجب أَن يُقَال إِن لله سمعا وبصراً فَإِنَّهُ لَا يعقل من لَهُ مكر إِلَّا وَهُوَ ماكر وَلَا من كَانَ(2/112)
من الماكرين إِلَّا وَهُوَ ماكر وَلَا يعقل أحد مِمَّن يستهزئ إِلَّا وَهُوَ مستهزئ وَلَا يعقل أحد مِمَّن يكيد إِلَّا وَهُوَ كياد وَلَا يعقل من لَهُ كيد ومكر إِلَّا وَهُوَ كياد ومكار وَلَا يكون خَادع إِلَّا يُسمى الخادع الخداع وَذُو خدائع وَلَا يعقل من نسي إِلَّا وَهُوَ ناسٍ وَذُو نِسْيَان هَذَا هُوَ الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى أَن يُوجد فِي الْعَالم خِلَافه وَقد قَالَ تَعَالَى {وأكيد كيداً} وَقَالَ تَعَالَى {الله يستهزئ بهم} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ خادعهم} وَقَالَ تَعَالَى {أفأمنوا مكر الله} وَقَالَ تَعَالَى {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} وَقَالَ تَعَالَى {قبلهم فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {نسوا الله فنسيهم} وَقَالَ تَعَالَى {سخر الله مِنْهُم} فيلزمهم إِذا سمعُوا رَبهم تَعَالَى ووصفوا من طَرِيق استدلالهم قياسهم وَمَا شاهدوه فِي الْحَاضِر عِنْدهم أَن يسموه مَاكِرًا فيقولوا يَا ماكر ارحمنا ويسموا بَينهم عبد الماكر وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الكياد والمستهزئ وَالْخداع وَالنَّاسِي والساخر وَإِلَّا فقد تناقضوا وتلاعبوا بِصِفَات رَبهم تَعَالَى وبدينهم فَإِن قَالُوا إِن هَذِه الصِّفَات ذمٌ وعيب وَإِنَّمَا نصفه تَعَالَى بِصِفَات الْمَدْح لَزِمَهُم مصيبتان عظيمتان أَحدهمَا إِطْلَاقهم أَن الله عز وَجل أخبر عَن نَفسه فِي هَذِه الْآيَات بِصِفَات الذَّم وَالْعَيْب وَهَذَا كفر وَالثَّانيَِة أَن يصفوا رَبهم بِكُل صفة مدح وَحمد فِيمَا بَينهم وَإِن لم يَأْتِ بهَا نَص وَإِلَّا فقد تناقضوا وَقصرُوا فيصفوه بِأَنَّهُ عَاقل وَأَنه شُجَاع جلد سخي حسن الْأَخْلَاق نزيه النَّفس تَامّ الْمُرُوءَة كَامِل الْفَضَائِل ذُو هَيْئَة نبيل نعم الْمَرْء ويقولوا أَنه تياه قِيَاسا على أَنه تَعَالَى جَبَّار متكبر ويقولوا أَنه مستكبر فَهُوَ والمتكبر فِي اللُّغَة سَوَاء وَذُو تيه وَعجب وَذي هُوَ وَلَا فرق بَين هَذَا وَبَين الْمَكْر والكبرياء فِيمَا بَيْننَا فَإِن فعلوا هَذَا خَرجُوا عَن الْإِسْلَام بِالْإِجْمَاع إِلَّا أَن يعذروا بِشدَّة الْجَهْل وظلمته وعماه وَأَن يَفروا عَن ذَلِك تركُوا مَا قد دانوا بِهِ من تَسْمِيَة الله تَعَالَى وَوَصفه بِأَن لَهُ سمعا وبصراً وَسَائِر مَا وصفوه تَعَالَى بِهِ بآرائهم الْفَاسِدَة مِمَّا لم يَأْتِ بِهِ نصٌ كَقَوْلِهِم قديم ومتكلم ومريد وَأَن لَهُ إِرَادَة لم تزل وَسَائِر مَا اجترؤا عَلَيْهِ بِغَيْر برهَان من الله عز وَجل وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الصِّفَات الَّتِي منعُوا مِنْهَا لِأَنَّهَا بزعمهم صِفَات ذمّ فَإِن السّمع وَالْبَصَر والحياة أَيْضا صِفَات نقص لِأَنَّهَا أَعْرَاض دَالَّة على الْحُدُوث فِيمَن هِيَ فِيهِ فَإِن قَالُوا لَيست لله تَعَالَى كَذَلِك قيل لَهُم وَلَا تِلْكَ الصِّفَات أَيْضا إِذا أطلقتموها عَلَيْهِ أَيْضا صِفَات ذمّ وَلَا فرق وَلَقَد قَالَ لي بَعضهم إِنَّمَا قُلْنَا أَن الله تَعَالَى يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى وَهُوَ خادعهم على معنى أَنه تَعَالَى يقارضهم على هَذِه الْأَفْعَال مِنْهُم بجزاء يُسمى بأسمائها فَقلت لَهُم نعم هَكَذَا نقُول وَلم ننازعك فِي هَذَا فتستريح إِلَيْهِ بل قُلْنَا لكم سموهُ تَعَالَى مستهزئاً وكياداً وخداعاً وماكراً وناسياً وساخراً على معنى أَنه مقارض لَهُم على هَذِه الْأَفْعَال مِنْهُم بجزاء يُسمى بأسمائها كَمَا قُلْتُمْ فِي يكيد ويستهزئ وينسى وَهُوَ خادعهم سَوَاء بِسَوَاء وَلَا فرق وَقد قُلْتُمْ إِن الْأَفْعَال توجب لفاعلها أَسمَاء فعلهَا فَسكت خاسئاً وَهَذَا مَا لَا انفكاك مِنْهُ وَبِهَذَا وَبِمَا ذكرنَا يُعَارض كل من قَالَ إننا سمينا الله تَعَالَى عَالما لنفي الْجَهْل وقادراً لنفي الْعَجز ومتكلماً لنفي الخرس وَحيا(2/113)
لنفي الْمَوْت فَإِنَّهُم لَا ينفكون من هَذَا الْبَتَّةَ وَأما نَحن فلولا النَّص الْوَارِد بعليم وقدير وعالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وقادر على أَن يخلق مثلهم والحي لما جَازَ أَن يُسمى الله تَعَالَى بِشَيْء من هَذَا أصلا وَلَا يجوز أَن يُقَال حَيّ بحياة الْبَتَّةَ فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون حَيّ بِلَا حَيَاة قُلْنَا لَهُم وَكَيف يكون حَيّ غير حساس وَلَا متحرك بِإِرَادَة وَلَا سَاكن بِإِرَادَة هَذَا مَالا يعقل الْبَتَّةَ وَلَا يعرف وَلَا يتَوَهَّم وهم يجرونَ عَلَيْهِ تَعَالَى الْحس وَلَا الْحَرَكَة وَلَا السّكُون فَإِن قَالُوا إِن تسميتنا إِيَّاه حكيماً يُغني عَن عَاقل وكريماً يُغني عَن سخي وجباراً متكبراً يُغني عَن متجبر ومستكبر وتياه وزاه وقوياً يُغني عَن شُجَاع وَجلد قُلْنَا هَذَا ترك مِنْكُم لما أصلتموه من إِطْلَاق السّمع وَالْبَصَر والحياة والإرادة وَأَنه مُتَكَلم واحتجاجكم بِأَن من كَانَ سميعا فَلَا بُد لَهُ من سمع وَمن كَانَ بَصيرًا فَلَا بُد لَهُ من بصر وَمن كَانَ حَيا فَلَا بُد لَهُ من حَيَاة وَمن كَانَ مرِيدا فَلَا بُد لَهُ من إِرَادَة وَمن كَانَ لَهُ كَلَام فَهُوَ مُتَكَلم فأطلقتم كل هَذَا على الله عز وَجل بِلَا برهَان فَإِن نَاب عنْدكُمْ مَا ورد بِهِ النَّص من حَكِيم وَقَوي وكريم ومتكبر وجبار عَن عَاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر وتياه وزاه فَلم تجيزوا أَن تسموا الْبَارِي عز وَجل بشيءٍ من هَذَا فَكَذَلِك فَقولُوا كَمَا قُلْنَا نَحن أَن سمعيا وبصيراً وَحيا وَله كَلَام وَيُرِيد يُغني عَن تَجْوِيز ذكر السّمع وَالْبَصَر والإرادة ومتكلم وَلَا فرق هَذَا على أَن قَوْلكُم إِن قَوِيا يُغني عَن شُجَاع خطأ فَرب قويٌّ غير شُجَاع وشجاع غير قوي وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ الرَّحْمَن يُغني عَن رَحِيم والخالق يُغني عَن الْبَارِي وَعَن المصور فَإِن قَالُوا لَا يجوز الِاقْتِصَار على بعض مَا أُتِي بِهِ النَّص وَلَا يجوز التَّعَدِّي إِلَى مَا لم يَأْتِ بِهِ النَّص قُلْنَا لَهُم قد اهْتَدَيْتُمْ ووفقتم لرشدكم ولقيتم ربكُم تَعَالَى بِحجَّة ظَاهِرَة فِي أَنكُمْ لم تتعدوا حُدُوده وَلَا ألحدتم فِي أَسْمَائِهِ وَلَا حالفتم مَا أَمركُم بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعَ أَن الَّذِي ألزمناهم هُوَ ألزم لَهُم مِمَّا التزموه لِأَن بِالضَّرُورَةِ نعلم نَحن وهم أَن الْفِعْل لَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَا بُد لَهُ ضَرُورَة من أَن يُضَاف إِلَى فَاعله فَلَا بُد أَيْضا من إِضَافَة الْفَاعِل إِلَيْهِ على معنى وَصفَة بِأَن فعله هَذَا مَا لَا يقوم فِي الْعقل وجود شئ فِي الْعَالم بِخِلَاف هَذِه الرُّتْبَة وَقد وجدنَا فِي الْعَالم أَشْيَاء كَثِيرَة لَا تحْتَاج إِلَى وصفهَا بِصفة لتنفي عَنْهَا ضد تِلْكَ الصّفة كالسماء وَالْأَرْض لَا يجوز أَن يُوصف مِنْهَا شئ بالبصر لنفي الْعمي وَلَا بالعمي لنفي الْبَصَر فَإِذا لم نضطر إِلَى ذَلِك فِي وصف الْأَشْيَاء فِيمَا بَيْننَا بَطل قياسهم الْبَارِي تَعَالَى على بعض مَا فِي الْعَالم وَكَانَ إِطْلَاق شئ من جَمِيع الصِّفَات على خَالق الصِّفَات والموصوفين أبعد وَأَشد امتناعاً إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه فَنقرَ بذلك وندري أَنه حق وَلَا نتعداه إِلَى مَا سواهُ فَلَا يستحي من الْتزم إِذا وجد أَشْيَاء من الْعَالم تُوصَف بِالْحَيَاةِ لنفي الْمَوْت وبالبصر لنفي الْعمي وَلم يجر على قِيَاسه هَذَا الْفَاسِد من أَن يَأْتِي بتسميته مستهزئاً وكياداً وَقد قَالَ تَعَالَى أَنه يستهزئ ويكيد فَهَلا إِذْ وَفقه الله تَعَالَى للإمساك عَن تصريف الْفِعْل هَاهُنَا جري على ذَلِك التَّوْفِيق فَلم يزدْ على نَص الله تَعَالَى من سميع وبصير وَحي شَيْئا أصلا وَلَكِن التَّنَاقُض سهل من لم يعتصم(2/114)
بِكِتَاب الله عز وَجل وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَاسْتعْمل رَأْيه وَقِيَاسه فِي دينه وَفِيمَا يجريه على الله تَعَالَى نَعُوذ بِاللَّه من الضلال والخذلان وَبِهَذَا يبطل إِلْزَام من أَرَادَ من الْمُعْتَزلَة إلزامنا أَن نسمي الله تَعَالَى مسياه لخلقه السَّيِّئَات وشرير الشرور لخلقه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد شغب بَعضهم فِيمَا ادعوهُ من أَن كل صفة أضافوها إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ غير سَائِر صِفَاته بِأَن الله تَعَالَى مَوْصُوف بِأَنَّهُ يعلم نَفسه وَلَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على نَفسه قَالُوا فَلَو كَانَ الْعلم وَالْقُدْرَة وَاحِدًا لجريا فِي الأطلاق وَاحِدًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد بَينا بطلَان هَذَا فِي كلامنا قبل بعون الله عز وَجل ونزيد بعون الله عز وَجل بَيَانا فَنَقُول وَبِه نتأيد التغاير إِنَّمَا يَقع فِي المعلومات والمقدورات لَا فِي الْقَادِر وَلَا فِي الْعَالم وَلَا شكّ عندنَا وَعِنْدهم فِي أَن الْعلم والقدير وَاحِد وَهُوَ تَعَالَى عليم بِنَفسِهِ وَلَا يُقَال عِنْدهم قدير على نَفسه فَإِذا لم يُوجب هَذَا الحكم أَن يكون الْقَدِير غير الْعَلِيم فَهُوَ غير مُوجب أَن يكون الْعلم غير الْقُدْرَة بِلَا شكّ ثمَّ نقُول لَهُم أخبرونا عَن علم الله تَعَالَى بحياة زيد قبل مَوته وبإيمانه قبل كفره هَل هُوَ الْعلم بِكُفْرِهِ وَمَوته أَو هُوَ غير الْعلم بذلك فَإِن قَالُوا إِن الْعلم بِمَوْت زيد هُوَ غير الْعلم بحياته وَعلمه بإيمانه هُوَ غير علمه بِكُفْرِهِ لَزِمَهُم تغاير الْعلم وَالْقَوْل بحدوثه وهم لَا يَقُولُونَ هَذَا وَإِن قَالُوا علمه تَعَالَى بِإِيمَان زيد هُوَ علمه بِكُفْرِهِ وَعلمه بحياة زيد هُوَ علمه بِمَوْتِهِ قيل فَإِذا تغاير الْمَعْلُوم تَحت الْعلم لَا يُوجب تغاير الْعلم فِي ذَاته عنْدكُمْ فَمن أَيْن أوحيتم أَن تغاير الْمَعْلُوم والمقدور مُوجب لتغاير الْعلم وَالْقُدْرَة والحقيقة من كل ذَلِك أَنه لَا حَقِيقَة أصلا إِلَّا الْخَالِق تَعَالَى وخلقه وَأَن كل مَا لم ينص الله تَعَالَى عَلَيْهِ من وَصفه لنَفسِهِ وَمن أَسْمَائِهِ فَلَا يحل لأحد أَن يخبر عَنهُ تَعَالَى وَإِن كل مَا نَص الله عز وَجل عَلَيْهِ من أَسْمَائِهِ وَمَا أخبر بِهِ تَعَالَى عَن نَفسه فَهُوَ حق ندين الله تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ ونعلم أَن المُرَاد بِكُل ذَلِك هُوَ الله لَا شريك لَهُ وَأَنَّهَا كلهَا أَسمَاء يعبر بهَا عَنهُ تَعَالَى وَلَا يرجع مِنْهَا شئ إِلَى غير الله تَعَالَى الْبَتَّةَ تَعَالَى الله أَن يكون مَعَه شئ آخر غَيره وَأقر بَعضهم بحضرتي أَن مَعَ الله تَعَالَى سَبْعَة عشر شَيْئا مُتَغَايِرَة كلهَا قديم لم تزل وَكلهَا غير الله تَعَالَى وَرَأَيْت فِي كتاب لبَعْضهِم أَنَّهَا خَمْسَة عشر تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَذكروا أَن تِلْكَ الْأَشْيَاء هِيَ السّمع وَالْبَصَر وَالْعين وَالْيَد وَالْوَجْه وَالْكَلَام وَالْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة والعزة وَالرَّحْمَة وَالْأَمر وَالْعدْل والحياة والصدق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لقد قصروا من طَرِيق النَّص وَمن طَرِيق الْعقل أَيْضا عَن أصولهم فَأَيْنَ هم عَن النَّفس والجلال وَالْإِكْرَام والجبروت والكبرياء وَالْيَدَيْنِ والأعين وَالْأَيْدِي والقدم وَالْحَمْد وَالْقُوَّة فَهَذِهِ كلهَا مَنْصُوص عَلَيْهَا كَالْعلمِ والقدوة وَأَيْنَ هم عَن الْحلم من حَلِيم وَالْكَرم من كريم وَالْعَظَمَة من عَظِيم وَالتَّوْبَة من تواب وَالْهِبَة من وهاب والقرب من قريب(2/115)
واللطف من لطيف وَالسعَة من وَاسع وَالشُّكْر من شَاكر وَالْمجد من مجيد والود من ودود وَالْقِيَام من قيوم وَهَذَا كثير جدا ويتجاوز أَضْعَاف الْأَعْدَاد الَّتِي اقتصروا عَلَيْهَا بتحكيمهم بالضلال والإلحاد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل وَقد زَاد بَعضهم فِيمَا ادعوهُ من صِفَات الذَّات الأستوى والتكليم والقدم والبقاء وَرَأَيْت للأشعري فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالموجز أَن الله تَعَالَى إِذْ قَالَ إِنَّك بأعيننا إِنَّمَا أَرَادَ عينين وَبِالْجُمْلَةِ فَكل من لم يخف الله عز وَجل فِيمَا يَقُول وَلم يستحي من الْبَاطِل لم يبال بِمَا يَقُول وَقد قُلْنَا أَنه لم يَأْتِ نَص بِلَفْظ الصّفة قطّ بِوَجْه من الْوُجُوه لَكِن الله تَعَالَى أخبرنَا بِأَن لَهُ علما وَقُوَّة وكلاماً وقدرة فَقُلْنَا هَذَا كُله حق لَا يرجع مِنْهُ شَيْء إِلَى غير الله تَعَالَى أصلا وَبِه تَعَالَى نتأيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لمن قَالَ إِنَّمَا سمي الله تَعَالَى عليماً لِأَنَّهُ لَهُ علما وحكيماً لِأَن لَهُ حِكْمَة وَهَكَذَا فِي سَائِر أَسْمَائِهِ وَادّعى أَن الضَّرُورَة توجب أَنه لَا يُسمى عَالما إِلَّا من لَهُ علم وَهَكَذَا فِي سَائِر الصِّفَات إِذا قسم الْغَائِب بزعمكم تُرِيدُونَ الله عز وَجل على الْحَاضِر مِنْكُم فبالضرورة نَدْرِي أَنه لَا علم عندنَا إِلَّا مَا كَانَ فِي ضمير ذِي خواطر وفكر تعرف بِهِ الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِن وصفتم ربكُم تَعَالَى بذلك الْحَد تمّ وَلَا خلاف فِي هَذَا من أحد وتركتم أقوالكم وَإِن منعتم من ذَلِك تركْتُم أصلكم فِي اشتقاق أَسْمَائِهِ تَعَالَى من صِفَات فِيهِ وَأَيْضًا فَإِن عليماً وحكيماً ورحيماً وقديراً وَسَائِر مَا جرى هَذَا المجرى لَا يُسمى فِي اللُّغَة إِلَّا نعوتاً وأوصافاً وَلَا تسمى أَسمَاء الْبَتَّةَ وَأما إِذا سمي الْإِنْسَان حَلِيمًا أَو حكيماً أَو رحِيما أَو حَيا وَكَانَ ذَلِك اسْما لَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَسمَاء أَعْلَام غير مُشْتَقَّة بِلَا خلاف من أحد وكل هَذِه فَإِنَّمَا هِيَ لله عز وَجل أَسمَاء بِنَصّ الْقُرْآن وَنَصّ السّنة وَالْإِجْمَاع من جَمِيع أهل الْإِسْلَام قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن أياً مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة إِلَّا وَاحِدًا من أحصاها دخل الْجنَّة إِنَّه وتر يحب الْوتر وَلم يخْتَلف أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَنَّهَا أَسمَاء لله تَعَالَى وَلَا فِي أَنَّهَا لَا يُقَال أَنَّهَا نعوت لَهُ عز وَجل وَلَا أَوْصَاف الله وَلَو وجد فِي الْمُتَأَخِّرين من يَقُول ذَلِك لَكَانَ قولا بَاطِلا وَمُخَالفَة لقَوْل الله تَعَالَى وَلَا حجَّة لأحد فِي الدّين دون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا لَا شكّ فِيمَا قُلْنَا فَلَيْسَتْ مُشْتَقَّة من صفة أصلا وَيُقَال لَهُم إِذا قُلْتُمْ إِنَّهَا مُشْتَقَّة فَقولُوا لنا من اشتقها فَإِن قَالُوا أَن الله تَعَالَى اشتقها لنَفسِهِ قُلْنَا لَهُم هَذَا هُوَ القَوْل على الله تَعَالَى بِالْكَذِبِ الَّذِي لم يخبر بِهِ عَن نَفسه وقفوتم فِي ذَلِك مَا لم يأتكم بِهِ علم وَإِن قَالُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشتقها قُلْنَا كَذبْتُمْ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/116)
وَلَقَد سمى الله بهَا نَفسه قبل أَن يخلق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوحِي بهَا إِلَيْهِ فَقَط فصح يَقِينا أَن القَوْل بِأَنَّهَا مُشْتَقَّة فِرْيَة على الله تَعَالَى وَكذب عَلَيْهِ ونعوذ بِاللَّه من ذَلِك وَصَحَّ بِهَذَا الْبُرْهَان الْوَاضِح أَنه لَا يدل حِينَئِذٍ عليم على علم وَلَا قدير على قدرَة وَلَا حَيّ على حَيَاة وَهَكَذَا فِي سَائِر ذَلِك وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة والعزة بنصوص أخر يجب الطَّاعَة لَهَا وَالْقَوْل بهَا وَوجدنَا الْمُتَأَخِّرين من الأشعرية كالباقلاني وَابْن فورك وَغَيرهمَا قَالُوا إِن هَذِه الْأَسْمَاء لَيست لله تَعَالَى وَلكنهَا تسميات لَهُ وَأَنه لَيْسَ لله إِلَّا اسْم وَاحِد لكنه قَول إلحاد ومعارضة لله عز وَجل بالتكذيب بِالْآيَاتِ الَّتِي تلونا وَمُخَالفَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا نَص عَلَيْهِ من عدد الْأَسْمَاء وهتك لإِجْمَاع أهل الْإِسْلَام عَامهمْ وخاصهم قبل أَن تحدث هَذِه الْفرْقَة وَمِمَّا حَدثهُ أهل الْإِسْلَام فِي أَسمَاء الله عز وَجل الْقَدِيم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا يجوز الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لم يَصح بِهِ نَص الْبَتَّةَ وَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه وَقد قَالَ تَعَالَى وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم فصح أَن الْقَدِيم من صِفَات المخلوقين فَلَا يجوز أَن يُسمى الله تَعَالَى بذلك وَإِنَّمَا يعرف الْقَدِيم فِي اللُّغَة من القدمية الزمانية أَي إِن هَذَا الشَّيْء أقدم من هَذَا بِمدَّة محصورة وَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل وَقد أغْنى الله عز وَجل عَن هَذِه التَّسْمِيَة بِلَفْظَة أول فَهَذَا هُوَ الِاسْم الَّذِي لَا يُشَارِكهُ تَعَالَى فِيهِ غَيره وَهُوَ معنى أَنه لم يزل وَقد قُلْنَا بالبرهان أَن الله تَعَالَى لَا يجوز أَن يُسمى بالاستدلال وَلَا فرق بَين من قَالَ أَنه يُسَمِّي ربه جسماً إِثْبَاتًا للوجود ونفياً للعدم وَبَين من سَمَّاهُ قَدِيما إِثْبَاتًا لِأَنَّهُ لم يزل ونفياً للحدوث لِأَن كلا اللفظتين لم يَأْتِ بِهِ نَص فَإِن قَالَ من سَمَّاهُ جسماً ألحد لِأَنَّهُ جعله كالأجسام قيل لَهُ وَمن سَمَّاهُ قَدِيما قد ألحد فِي أَسْمَائِهِ لِأَنَّهُ جعله كالقدماء فَإِن قَالَ لَيْسَ فِي الْعَالم قدماء أكذبه الْقُرْآن بِمَا ذكرنَا وأكذبته اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن إِذْ يَقُول كل قَائِل فِي اللُّغَة هَذَا الشَّيْء أقدم من هَذَا وَهَذَا أَمر قديم وزمان قديم وَشَيخ قديم وَبِنَاء قديم وَهَكَذَا فِي كل شَيْء وَأما نفي خلق الْإِيمَان فَهَذَا أعجب مَا أَتَوا بِهِ وَهل الْإِيمَان إِلَّا فعل الْمُؤمن الظَّاهِر مِنْهُ يزِيد وَينْقص وَيذْهب الْبَتَّةَ وَهُوَ خلق الله تَعَالَى وَهَذِه صِفَات الْحُدُوث نَفسهَا فَإِن قَالُوا إِن الله هُوَ الْمُؤمن قُلْنَا لَهُم نعم هُوَ الْمُؤمن الْمُهَيْمِن المصور فأسماؤه بذلك أَعْلَام لَا مُشْتَقَّة من صِفَات مَحْمُولَة فِيهِ عز وَجل تَعَالَى الله عَن ذَلِك إِلَّا مَا كَانَ مُسَمّى لَهُ عز وَجل لفعل فعله فَهَذَا ظَاهر كالخالق والمصور فَإِن قُلْتُمْ فِي هَذَا أَيْضا أَنَّهَا صِفَات لم تزل لزمكم أَنه تَعَالَى المصور بتصوير لم يزل وَهَذَا قَول أهل الدَّهْر الْمُجَرّد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بَعضهم إِن قَوْلنَا سميع بَصِير يسمع بَصِير ببصر حَيّ بحياة لَا يُوجب تشابهاً وَلَا(2/117)
يكون الشئ شبها للشيئ إِلَّا إِذا نَاب منا بِهِ وسد مسده
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة السخافة لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا برهَان لَا من شَرِيعَة وَلَا من طبيعة وَمَا اخْتلفت قطّ اللُّغَات والطبائع والأمم فِي أَن النِّسْبَة بَين المشبهات إِنَّمَا هُوَ بصفاتها فِي الْأَجْسَام وبذوابها فِي الْإِعْرَاض وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} فليت شعري هَل قَالَ ذُو مسكة من عقل أَن الْحمير وَالْكلاب والخنافس تنوب منابنا أَو تسدنا وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَنهم قَالُوا إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ فَهَل قَالَ قطّ مُسلم أَن الْكفَّار ينوبنا عَن الْأَنْبِيَاء ويسدون مسدهم وَقَالَ تَعَالَى كأنهن الْيَاقُوت والمرجان فَهَل قَالَ ذُو مسكة من عقل إِن الْيَاقُوت يَنُوب مناب الْحور الْعين ويسد مسدهن وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير جدا وَفِي كَلَام كل أمة وَالْعجب أَنهم بعد أَن أَتَوا بِهَذِهِ الْعَظِيمَة نسوا نفسهم فَجعلُوا التشابه فِي بعض الْأَحْوَال يُوجب شرع الشَّرَائِع قِيَاسا وَهَذَا دين لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فهم أبدا فِي الشَّيْء وضده وَالْبناء وَالْهدم ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحَقِيقَة التَّمَاثُل والتشابه هُوَ أَن كل جسمين اشتبها فَإِنَّمَا يشتبهان بِصفة مَحْمُولَة فيهمَا وكل عرضين فَإِنَّمَا يشتبهان بوقوعهما تَحت نوع وَاحِد كالحمرة والحمرة أَو الْحمرَة والخضرة وَهَذَا أَمر يدْرك بالعيان وَأول الْحس وَالْعقل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْحَيَاة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالُوا أَن الدَّلِيل أوجب أَن الْبَارِي تَعَالَى حَيّ لِأَن أَفعَال الْحِكْمَة لَا تقع إِلَّا من الْحَيّ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يعقل إِلَّا حَيّ أَو ميت قُلْنَا إِمْكَان وُقُوع الْفِعْل من الْمَيِّت صَحَّ وُقُوعه من الْحَيّ وَلَا بُد ثمَّ انقسم هَؤُلَاءِ قسمَيْنِ فطائفة قَالَت هُوَ تَعَالَى حَيّ لَا بحياة وَطَائِفَة قَالَت بل هُوَ تَعَالَى حَيّ بحياة واحتجت أَنه لَا يعقل أحد حَيا إِلَّا بحياة وَلم يكن الْحَيّ حَيا إِلَّا لِأَن لَهُ حَيَاة وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن حَيا قَالُوا وَلَو جَازَ أَن يكون حَيّ لَا بحياة لجَاز أَن يكون حَيَاة لَا بحي وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى لم يكن الْحَيّ حَيا لِأَن لَهُ حَيَاة لَكِن لِأَنَّهُ فَاعل فَقَط عَالم قَادر وَلَا يكون الْعَالم الْقَادِر الْفَاعِل إِلَّا حَيا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكلا الْقَوْلَيْنِ فِي غَايَة الْفساد لِاتِّفَاق الطَّائِفَتَيْنِ على أَن سموا رَبهم تَعَالَى حَيا من طَرِيق الِاسْتِدْلَال إِمَّا لنفي الْمَوْت والجمادية عَنهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ فَاعل قَادر عَالم وَلَا يكون الْفَاعِل الْقَادِر الْعَالم إِلَّا حَيا يلْزمهُم أَن يطردوا استدلالهم هَذَا وَإِلَّا فهم متناقضون وَإِذا طردوا استدلالهم هَذَا لَزِمَهُم وَلَا بُد أَن يَقُولُوا أَنه تَعَالَى جسم لأَنهم لم يعقلوا قطّ فَاعِلا وَلَا حكيماً وَلَا عَالما وَلَا قَادِرًا إِلَّا جسماً فَإِذا لم يكن هَذَا دَلِيلا على أَنه جسم فَلَيْسَ دَلِيلا على أَنه حَيّ وَأَيْضًا فَإِن اتِّفَاقهم على مَا ذكرنَا مُوجب على الطَّائِفَة الأولى أَن يطردوا أَيْضا استدلالهم وَإِلَّا فَهُوَ فَاسد فَنَقُول أَنه لَا يكون الْقَادِر الْعَالم(2/118)
فِيمَا بَيْننَا إِلَّا ذَا حَيَاة وَلَا يكون حَيا إِلَّا بحياة لَا يعقل غير هَذَا أصلا وَيُقَال لَهُم مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من عكس قَوْلكُم فَقَالَ إِذا كَانَ الْحَيّ لَا يجب أَن يُقَال إِن لَهُ حَيَاة من أجل أَنه حَيّ وَلَا أَنه إِذا كَانَ حَيا وَجب أَن يكون لَهُ حَيَاة وَلَا أَنه سمى الْحَيّ حَيا لِأَن لَهُ حَيَاة فَكَذَلِك لم يجب أَن يكون الْفَاعِل فَاعِلا لِأَنَّهُ حَيّ لَكِن لِأَن لَهُ فعلا فَقَط وَلَا وَجب أَن يكون الْفِعْل فَاعِلا لِأَنَّهُ عَالم قَادر لَكِن لِأَن لَهُ فعلا وَكَذَلِكَ الْمُؤلف لم يسم مؤلفاً لِأَن فِيهِ تأليفاً وَلَا سمي الْحَكِيم حكيما لإحكامه الْفِعْل وَلَا وَجب الْمُؤلف أَن يكون مُحدثا للتأليف الَّذِي فِيهِ على أَن من قَالَ بعض هَذِه القضايا فَهُوَ أصح قولا مِمَّن قَالَ أَن يكون الْحَيّ حَيا لَا يَقْتَضِي بذلك الِاسْتِدْلَال أَن يكون لَهُ حَيَاة لأننا لم نجد قطّ حَيا إِلَّا بحياة وَلَا توهمنا ذَلِك إِلَّا بِالْعقلِ وَلَا يتشكل فِي الْعقل الْبَتَّةَ وَلَا يدْخل فِي الْمُمكن بِدَلِيل وَقد وجدنَا العنكبوت والنحل والخطاف تحكم أفعالها وبنائها بالطين وبالشمع مسدساً على رُتْبَة وَاحِدَة وبالنسج ثمَّ لَا يجوز أَن يُسمى شئ مِنْهَا حكيماً فَإِن قَالَ إِنَّمَا أَقُول أَنه حَيّ اسْتِدْلَالا بِأَنَّهُ لَا يَمُوت فَقَط كَانَ قد أَتَى بأسخف قَول وَذَلِكَ يلْزمه أَن يَقُول أننا لسنا أَحيَاء لأننا نموت وَأَنه لَا حَيّ فِي الْعَالم لِأَن من قَول هَذَا الْقَائِل أَن الْمَلَائِكَة تَمُوت فَلَيْسَ فِي الْعَالم حَيّ على قَوْله وَقد أَتَى بَعضهم بهذيان ظريف فَقَالَ قد وجدنَا شَيْئا فِيهِ حَيَاة وَلَيْسَ حَيا هُوَ يَد الْإِنْسَان وَرجله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لمن هَذَا مِقْدَاره من الْجَهْل أَن يتَعَلَّم قبل أَن يتَكَلَّم أما علم لجَاهِل أَن الْحَيَاة إِنَّمَا هِيَ للنَّفس لَا للجسد وَأَن الْحَيّ إِنَّمَا هِيَ النَّفس لَا الْجَسَد أما سمع قَول الله عز وَجل {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} وليت شعري لَو عكس عَلَيْهِ هَذَا السخف فَقيل لَهُ بل يَد الْإِنْسَان حَيَّة وَلَا حَيَاة فِيهَا بِمَاذَا كَانَ ينْفَصل من هَذَا الْجُنُون المطابق لجنونه ثمَّ إِذْ قد بَطل قَول هَؤُلَاءِ فَنَقُول بحول الله تَعَالَى وقوته للطائفة الْأُخْرَى الَّتِي قَالَت أَنه تَعَالَى حَيّ بحياة اسْتِدْلَالا بِالشَّاهِدِ مَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من قَالَ هُوَ تَعَالَى جسم لِأَن الْأَفْعَال لَا تقع إِلَّا من جسم وَعرض فَلَمَّا بَطل إِمْكَان الْفِعْل من الْعرض صَحَّ وُقُوعه من الْجِسْم فَقَط وَلَا بُد وَلما صَحَّ أَن الْعَالم لَا يكون إِلَّا جسماً ذَا ضمير صَحَّ أَنه تَعَالَى جسم ذُو ضمير وَلما صَحَّ أَنه قَادر والقادر لَا يكون إِلَّا جسماً صَحَّ أَنه جسم فَبِأَي شَيْء راموا الِانْفِصَال بِهِ عكس عَلَيْهِم مثله سَوَاء بِسَوَاء فِي استدلالهم وَمَا التزموه لَزِمَهُم فَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى أخبر أَنه حَيّ وَلم يخبر أَنه جسم قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَإِن الله تَعَالَى لم يخبر بِأَن لَهُ حَيَاة فَإِن قَالُوا إِن الْحَيّ يَقْتَضِي أَن لَهُ حَيَاة قُلْنَا لَهُم والحي يَقْتَضِي أَنه جسم وَهَكَذَا أبدا فَإِن قَالُوا أَنه تَعَالَى قَالَ {وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت} فَوَجَبَ أَن يكون حَيا بحياة قيل لَهُم وَإِن وَجب هَذَا فَقَالَ تَعَالَى لَا نَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم فَقولُوا أَنه تَعَالَى يقظان فَإِن قَالُوا لم ينص تَعَالَى على أَنه يقظان قيل لَهُم وَلَا نَص تَعَالَى على(2/119)
أَن لَهُ حَيَاة فَإِن قَالُوا الْحَيّ يَقْتَضِي حَيَاة قيل لَهُم وَمن لَيْسَ نَائِما وَلَا وَسنَان فَهُوَ يقظان وَلَا فرق وَيُقَال لَهُم أخبرونا مَاذَا نفيتم عَنهُ تَعَالَى بِإِيجَاب الْحَيَاة لَهُ أنفيتم عَنهُ بذلك الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة أم موتا غير مَعْهُود ومواتية غير معهودة وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا نَفينَا عَنهُ الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة قُلْنَا لَهُم إِن الْمَوْت الْمَعْهُود والمواتية الْمَعْهُودَة لَا ينتفيان الْبَتَّةَ إِلَّا لحياة الْمَعْهُودَة الَّتِي هِيَ الْحس وَالْحَرَكَة والسكون الإراديان وَهَذَا خلاف قَوْلكُم وَلَو قلتموه لأبطلنا قَوْلكُم بِمَا أبطلنا بِهِ قَول المجسمة وَإِن قَالُوا مَا نَفينَا عَنهُ تَعَالَى إِلَّا موتا غير مَعْهُود ومواتية غير معهودة قُلْنَا لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا قَامَ بِهِ دَلِيل وَلَا يجوز أَن يَنْتَفِي مَا ذكرْتُمْ بحياة يقتضيها اسْم الْحَيّ الْمَعْقُول وَهَكَذَا نقُول فِي قَوْلهم سميناه تَعَالَى سميعاً لنفي الصمم وبصيراً لنفي الْعَمى ومتكلماً لنفي الخرس فنسألهم هَل نفيتم بذلك كُله الخرس الْمَعْهُود والصمم الْمَعْهُود والعمى الْمَعْهُود أم صمماً لَا يعْهَد وعمى غير الْمَعْهُود وخرساً غير الْمَعْهُود فَإِن قَالُوا نَفينَا الْمَعْهُود من كل ذَلِك قُلْنَا إِن الصمم الْمَعْهُود لَا يَنْفِي إِلَّا بِالسَّمْعِ الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ بِإِذن سَالِمَة والعمى الْمَعْهُود لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالبصر الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ حدقة سَالِمَة والخرس الْمَعْهُود لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالْكلَام الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ صَوت من لِسَان وحنك وشفتين فَإِن قَالُوا بل نَفينَا من كل ذَلِك غير الْمَعْهُود قُلْنَا هَذَا لَا يعقل وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يَصح بِهِ دَلِيل وَلَا يَنْتَفِي بِمَا أردتم نَفْيه بِهِ وَأَيْضًا فَإِن الْبَارِي تَعَالَى لَو كَانَ حَيا بحياة لم يزل وَهِي غَيره لوَجَبَ ضَرُورَة أَن يكون تَعَالَى مؤلفاً مركبا من ذَاته وحياته وَسَائِر صِفَاته ولكان كثير إِلَّا وَاحِدًا وَهَذَا إبِْطَال الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَوْلهم إِنَّمَا خاطبنا الله بِمَا نعقل ودعواهم أَن فِي بديهة الْعُقُول أَن الْفَاعِل لَا يكون إِلَّا عَالما بِعلم هُوَ غَيره حَيا بحياة هِيَ غَيره قَادِرًا بقدرة هِيَ غَيره متكلماً بِكَلَام هُوَ غَيره سميعاً بسمع هُوَ غَيره بَصيرًا ببصر هُوَ غَيره فَإنَّا نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتايدان هَذِه الْقَضِيَّة كَمَا ذكرُوا مَا لم برهَان على خلاف ذَلِك ثمَّ نسألهم هَل عقلتم قسط أَو توهمتم نَارا محرقة تنْبت فِي الشّجر المثمر وَهَذِه صفة جَهَنَّم الَّتِي إِن أنكرتموها كَفرْتُمْ وَهل عقلتم قطّ طيراً حَيا يُؤْكَل دون أَن يَمُوت أَو يعاني بِنَار وَهَذِه صفة الْجنَّة الَّتِي إِن أنكرتموها كَفرْتُمْ وَمثل هَذَا كثير وَإِنَّمَا الْحق أَن لَا نخرج عَمَّا عهدناه وَمَا عَقَلْنَاهُ إِلَّا أَن يَأْتِي برهَان فَإِن قنعوا بِهَذَا الْقدر من الدَّعْوَى فليقنعوا بِمثل هَذَا من المجسمة إِذْ قَالُوا إِنَّمَا خاطبنا الله تَعَالَى بِمَا نفهم ونعقل لَا بِمَا لَا يعقل وَقد أخبرنَا الله تَعَالَى أَن لَهُ عينا ويداً ووجهاً وَأَنه ينزل وَيَجِيء فِي ظلل من الْغَمَام قَالُوا فَكل هَذَا مَحْمُول على مَا عقلنا من أَنَّهَا جوارح وحركات وَأَنَّهَا جسم وأقنعوا بِهِ مِنْهُم أَيْضا إِذْ قَالُوا ببديهة الْعقل وأوله عرفنَا وَوَجَب أَنه لَا يكون الْفَاعِل إِلَّا جسماً فِي مَكَان وبضرورة الْعقل علمنَا أَنه لَا شَيْء إِلَّا بجسم أَو عرض وَمَا لم يكن كَذَلِك فَهُوَ عدم وَإِن مَا لم يكن(2/120)
عرضا فَهُوَ جسم والباري تَعَالَى لَيْسَ عرضا فَهُوَ جسم وَلَا بُد وأقنعوا بِمثل هَذَا من الْمُعْتَزلَة إِذْ قَالُوا فِي إبِْطَال الرُّؤْيَة بضرورة الْعقل عرفنَا أَنه لَا يرى إِلَّا جسم ملون وَمَا كَانَ فِي حيّز وَإِذ قَالُوا بضرورته وبديهته علمنَا أَن كل من فعل شَيْئا فَإِنَّمَا يُوصف بِهِ وينسب إِلَيْهِ فَلَو أَنه تَعَالَى خلق الشَّرّ وَالظُّلم المنسب إِلَيْهِ وَوصف بهما واقنعوا بِهَذَا من الدهرية إِذْ قَالُوا بضرورة الْعقل علمنَا أَنه لَا يكون شَيْئا إِلَّا من شَيْء أَو فِي شَيْء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَكل طَائِفَة من هَذِه الطوائف تَدعِي الْبَاطِل على الْعُقُول والحقيقة فِي هَذَا هُوَ أَن كل من ادّعى فِي شَيْء مَا أَنه يعرف ببديهة الْعقل وضرورته وأوله أَن ينظر فِي تِلْكَ الدَّعْوَى فَإِن كَانَت مِمَّا ترجع إِلَى الْحَواس الْمُشَاهدَة فَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَة فَاسِدَة لِأَن الْعُقُول توجب أَشْيَاء لَا تشكل فِي الْحَواس كالألوان الَّتِي لَا يتوهمها الْأَعْمَى وَلَا يتشكلها بحاسة وَهُوَ موقن بهَا بضرورة عقله لصِحَّة الْخَبَر وتواتره عَلَيْهِ بوجودها وكالصوت الَّذِي لَا يتوهمه الْبَتَّةَ وَلَا يشكله من ولد أَصمّ أصلع وَهُوَ موقن بعقله بِصِحَّة الْأَصْوَات لتواتر الْخَبَر عَلَيْهِ بِصِحَّتِهَا وَإِن كَانَت تِلْكَ الدَّعْوَى ترجع إِلَى مُجَرّد الْعقل دون توَسط لحواس فَهِيَ دَعْوَى صَادِقَة وَهَذِه الدعاوي الَّتِي ذكرنَا عَن الأشعرية والمجسمة والمعتزلة والدهرية فَإِنَّمَا غلطوا فِيهَا لأَنهم نسبوا إِلَى أول الْعقل مَا أدركوه بحواسهم وَقد قُلْنَا أَن الْعقل يُوجب وَلَا بُد معرفَة أَشْيَاء لَا تدْرك بالحواس وَلَا سِيمَا دَعْوَى الدهرية فَإِنَّهَا تعَارض ممثلها من أَن بضرورة الْعقل وأوله علمنَا أَنه لَا يُمكن وجود جسم وَعرض فِي زمَان لَا أول لَهُ وَهَذَا هُوَ الْحق لَا دَعوَاهُم الَّتِي عولوا فِيهَا على مَا شاهدوا بحواسهم فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُم إِذا سميتموه حَيا لنفي الْمَوْت والمواتية عَنهُ تَعَالَى وقادراً لنفي الْعَجز وعالماً لنفي الْجَهْل فيلزمكم وَلَا بُد أَن تسموه حساساً لنفي الخدر عَنهُ وسماماً لنفي الْجِسْم عَنهُ ومتحركاً لنفي السّكُون والجمادية عَنهُ وعاقلاً لنفي ضد الْعقل عَنهُ وشجاعاً لنفي الْجُبْن عَنهُ فَإِن امْتَنعُوا من ذَلِك كَانُوا قد ناقضوا فِي استدلالهم فِي تسميتهم إِيَّاه حَيا عَالما قَادِرًا جواداً فَإِن قَالُوا أَنه لَا يجوز أَن يُسَمِّي بشئ مِمَّا ذكرنَا لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ نَص قيل لَهُم وَكَذَلِكَ لم يَأْتِ نَص بِأَن لَهُ تَعَالَى حِين وَلَا بِأَنَّهُ إِنَّمَا سمي حَيا عَالما قَادِرًا لنفي أضداد هَذِه الصِّفَات عَنهُ لَكِن لما جَاءَ النَّص بِأَنَّهُ تَعَالَى يُسَمِّي الْحَيّ الْعَالم الْقَدِير سميناه بذلك وَلَوْلَا النَّص مَا جَازَ لأحد أَن يُسمى الله تَعَالَى بشئ من ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يكون مشبهاً لَهُ بخلقه لَا سِيمَا وَلَفْظَة الْحَيّ تقع فِي اللُّغَة على الْعَالم الْمُمَيز بالحقائق قَالَ تَعَالَى {لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين} فَأَرَادَ بالحي هَاهُنَا الْعلم الْمُمَيز بِالْإِيمَان الْمقر بِهِ وَأَيْضًا مِنْهُم يدعونَ أَنهم يُنكرُونَ التَّشْبِيه ثمَّ يركبونه أتم ركُوب فَيَقُولُونَ لما لم يكن الفعال عندنَا إِلَّا حَيا عَالما قَادِرًا وَجب أَن يكون الْبَارِي الْفَاعِل للأشياء حَيا عَالما وَهَذَا نَص قياسهم لَهُ على الْمَخْلُوقَات وتشبيهه تَعَالَى بهم وَلَا يجوز عِنْد الْقَائِلين(2/121)
بِالْقِيَاسِ أَن يُقَاس الشَّيْء إِلَّا على نَظِيره وَأما أَن يُقَاس الشَّيْء على خِلَافه من كل جِهَة وعَلى مَا لَا يُشبههُ فِي شَيْء الْبَتَّةَ فَهَذَا مَا لَا يجوز أصلا عِنْد أحد فَكيف وَالْقِيَاس كُله بَاطِل لَا يجوز وَأَيْضًا فَإِن الْحَيَاة الَّتِي لَا يعرف أحد بِالْعقلِ حَيَاة غَيرهَا إِنَّمَا هِيَ الْحس وَالْبركَة الإرادية وَلَا يعرف أحد الْحَيّ إِلَّا بالإحساس المتحرك بِإِرَادَة وَهَذَا أَمر يعرف بِالضَّرُورَةِ فَمن أنكر ذَلِك فقد أنكر الْحس والمشاهدة والضرورة وَخرج عَن أَن يكلم فَإِن قَالَ قَائِل مِنْهُم إِن الْموَات قد يَتَحَرَّك فَلم يزدْ على أَن أبان عَن قُوَّة جَهله لِأَنَّهُ إِنَّمَا قُلْنَا الْحَرَكَة الإرادية فَإِذا لم يفرق هَذَا الْجَاهِل بَين الْحَرَكَة الإرادية والاضطرارية فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يتَعَلَّم قبل أَن يتَكَلَّم وكل حَرَكَة ظَهرت من غير حَيّ فَلَيْسَتْ حَرَكَة إرادية لَهُ لَكِنَّهَا تَحْرِيك المحرك لَهُ إِمَّا الْبَارِي تَعَالَى وَإِمَّا من دونه وَمِمَّا يبطل قَوْلهم ضَرُورَة أَنه إِنَّمَا سمي تَعَالَى حَيا لِأَنَّهُ عَالم فَأَرَادَ وجودنا أَحيَاء كَثِيرَة لَيْسُوا عُلَمَاء وَلَا قَادِرين كالأطفال حِين ولادتهم وكالنائم المستقل وكالمخدور من المجانين وكضعاف الدُّود والصوداب وَمَا لَا ينْتَقل عَن مَحَله كالوصل وَغَيره وكالمريض من سَائِر الْحَيَوَان فَهَذِهِ كلهَا أَحيَاء لَيْسَ شَيْء مِنْهَا عَالما وَلَا قَادِرًا فصح ضَرُورَة أَنه لَا معنى للحياة يرتبط بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة لمن الْحق فِي ذَلِك أَن بعض الْأَحْيَاء عَالم قَادر وَلَيْسَ كل حَيّ عَالما قَادِرًا وَلَا سَبِيل إِلَى وجود حَيّ غير حساس وَلَا متحرك بِإِرَادَة فَإِن ذكرُوا الْمَعْنى عَلَيْهِ فَذَلِك عَائِد عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَيْسَ عَالما وَلَا قَادِرًا وَأما الْحس فَفِيهِ بِالضَّرُورَةِ وَلَو جش جشاً قَوِيا لتألم ولأخبر بذلك عِنْد انتباهه وَكَذَلِكَ الْحس وَالْحَرَكَة الإرادية باقيان لَا بُد فِي بعض أَعْضَاء المخدور والمغمى عَلَيْهِ وَلَا بُد وَقد بَينا الْوَاجِب فِي هَذَا وَهُوَ أَنه لَا يُسمى الله عز وَجل وَلَا نخبر عَنهُ من طَرِيق الِاسْتِدْلَال باسم يُشَارِكهُ فِيهِ شَيْء من خلقه وَلَا بِخَبَر يُشَارِكهُ فِيهِ شَيْء من خلقه وَلَكنَّا نقُول أَنه تَعَالَى لَا يجهل شَيْئا أصلا وَهَذِه صفة لَا يَسْتَحِقهَا أحد دونه تَعَالَى ونقول لَا يغْفل الْبَتَّةَ وَلَا يضل وَلَا يسهو وَلَا ينَام وَلَا يتحير وَلَا ينْحل وَلَا يخفى عَلَيْهِ متوهم وَلَا يعجز عَن مسئول عَنهُ وَلَا ينسى وكل هَذَا فَلَا يسْتَحقّهُ مَخْلُوق دونه تَعَالَى أصلا ثمَّ نفر بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنَن كَمَا جَاءَ لَا نزيد وَلَا ننقص مِنْهُ وَلَا نحيله فنؤمن بِأَنَّهُ بِخِلَاف الْمَعْهُود فِيمَا يَقع عَلَيْهِ ذَلِك اللَّفْظ من خلقه وَأما لفظ الصّفة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَفِي جَمِيع اللُّغَات فَإِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن معنى مَحْمُول فِي الْمَوْصُوف بهَا لَا معنى للصفة غير هَذَا الْبَتَّةَ وَهَذَا أَمر لَا يجوز إِضَافَته إِلَى الله تَعَالَى الْبَتَّةَ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بِشَيْء أخبر الله تَعَالَى بِهِ عَن نَفسه فَيُؤمن بِهِ وندري حِينَئِذٍ أَنه اسْم علم لَا مُشْتَقّ من صفة أصلا وَأَنه خبر عَنهُ تَعَالَى لَا يُرَاد بِهِ غَيره عز وَجل وَلَا يرجع مِنْهُ إِلَى سواهُ الْبَتَّةَ وَالْعجب كل الْعجب لَهُم يسمون الله حَيا لأَنهم لم يَجدوا الْفِعْل يَقع إِلَّا من حَيّ ثمَّ يَقُولُونَ أَنه لَا كالأحياء فعادوا إِلَى دليلهم فأفسدوه لأَنهم إِذا أوجبوا وُقُوع الْفِعْل من حَيّ لَيْسَ كالأحياء الَّذين لَا تقع الْأَفْعَال إِلَّا مِنْهُم فقد أبطلوا أَن يكون ظُهُور الْأَفْعَال دَلِيلا على أَنَّهَا من حَيّ كَمَا عهدوه(2/122)
وَقد علمنَا يَقِينا أَن الْقُدْرَة من كل قَادر فِي الْعَالم فَإِنَّمَا هِيَ عرض فِيهِ وَأَن الْحَيَاة فِي الْحَيّ الْمَعْهُود بضرورة الْعقل عرض فِيهِ أَيْضا وَإِن الْعلم فِي كل عَالم فِي الْعَالم كَذَلِك وَقد وافقونا على أَن الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك فَإذْ قد بَطل أَن يكون هَذَا مَوْصُوفا بِصفة الْقَادِر فِيمَا بَيْننَا والعالم منا الَّتِي لولاها لم يكن الْعَالم عَالما والقادر قَادِرًا فَإِن الْفِعْل فِيمَا بَيْننَا لَا يَقع إِلَّا من أهل تِلْكَ الصّفة فقد بَطل ضَرُورَة أَن يُسمى الْبَارِي تَعَالَى بإسم قَادِرًا وعالم أَو حَيّ اسْتِدْلَالا بِأَن الْفِعْل فِيمَا بَيْننَا لَا يَقع إِلَّا من عَالم قَادر وَإِذ قد جوزوا وجود علم لَيْسَ عرضا وحياة لَيست عرضا وَهَذَا أَمر غير مَعْقُول أصلا فَلَا ينكروا وجود حَيّ لَا بحياة وَسميع لَا بسمع وبصير لَا ببصر وكل هَذَا خُرُوج عَن الْمَعْهُود وَلَا فرق وَإِنَّمَا يستجاز الْخُرُوج عَن الْمَعْهُود إِذا جَاءَ بِهِ نَص من الْخَالِق عز وَجل أَو قَامَ بِهِ برهَان ضَرُورِيّ وَإِلَّا فَلَا وَلم يَأْتِ نَص قطّ بِلَفْظ الْحَيَاة وَلَا الْإِرَادَة وَلَا السّمع وَلَا الْبَصَر وَاحْتج بَعضهم فِي مُعَارضَة من قَالَ إِن الْحَيّ لَا يكون إِلَّا حساساً متحركاً بِإِرَادَة لأننا لم نشاهد قطّ حَيا إِلَّا حساساً متحركاً بِإِرَادَة فَقَالَ هَذَا الْمُعْتَرض إِن من اتّفق لَهُ أَن لَا يرى نباتاً إِلَّا أَخْضَر وَلَا أَخْضَر إِلَّا نباتاً فَقطع بِأَن كل أَخْضَر فَهُوَ نَبَات فقد أَخطَأ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأول مَا يُقَال لَهُ قل هَذَا لنَفسك فِي استدلالك بأنك لم تَرَ قطّ فعالاً إِلَّا حَيا عَالما قَادِرًا وَلَا فرق ثمَّ نعود بعون الله تَعَالَى إِلَى بَيَان مَا شغبوا بِهِ مِمَّا لَا يعْرفُونَ الْفرق بَينه وَبَين مَا يَقع عَلَيْهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْأَعْرَاض تَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا ذاتي لَا يتَوَهَّم بُطْلَانه بِبُطْلَان حامله كالحس وَالْحَرَكَة الإرادية للحي وَكَذَلِكَ احْتِمَال الْمَوْت للْإنْسَان مَعَ امكانية التَّمْيِيز للعلوم وَالتَّصَرُّف فِي الصناعات وَمَا أشبه هَذَا وَمن هَذِه الْأَعْرَاض تقوم فُصُول الْأَشْيَاء وحدودها الَّتِي تفرق بَينهَا وَبَين غَيرهَا من الْأَنْوَاع الَّتِي تقع مَعهَا تَحت جنس وَاحِد فَهَذَا الْقسم مَقْطُوع على وجوده فِي كل مَا وَقع اسْم حامله عَلَيْهِ وَالْقسم الثَّانِي غَيْرِي وَهُوَ مَا يتَوَهَّم بُطْلَانه وَلَا يبطل بذلك مَا هُوَ فِيهِ كاجترار الْبَعِير وحلاوة الْعَسَل وَسَوَاد الْغُرَاب فَإِن وجد عسل مر وَقد وَجَدْنَاهُ لم يبطل بذلك أَن يكون عسلاً وَكَذَلِكَ لَو وجد غراب أَبيض وَقد وجد لم يبطل بذلك أَن يكون غراباً فَمثل هَذَا الْقسم لَا يقطع على أَنه مَوْجُود وَلَا بُد أبدا فَهَذَا الْفرق بَين مَا شغب بِهِ من النَّبَات لِأَنَّهُ إِن توهم النَّبَات أَحْمَر أَو أصفر لم يبطل أَن يُسمى نباتاً وَلكنه إِن توهم أَن يكون النَّبَات غير نَام من الأَرْض وَلَا متغذ برطوباتها منجذباً بَحر الْهَوَاء ورطوبته فَإِنَّهُ لَا يكون نباتاً أصلا وَأَيْضًا فقد قَالَ بَعضهم أَنه قد يعرفهُ الْبَارِي حَيا من لَا يعرفهُ حساساً متحركاً بِإِرَادَة قيل لَهُ وَقد يعرفهُ حَيا من لَا يعرف أَن لَهُ حَيَاة وَقد يعرفهُ جسماً من لَا يعرفهُ مؤلفاً وَلَا مُحدثا وَلَيْسَ توهم الْجُهَّال لما توهموه من الحماقات حجَّة على أهل الْعُقُول والعلوم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وبرهان ضَرُورِيّ وَهُوَ أَن كل صفة فِي الْعَالم فَهِيَ ضَرُورَة وَلَا بُد عرض(2/123)
بَين الطَّرفَيْنِ أَو أحد أذينك الطَّرفَيْنِ وَإِمَّا ذَات ضد فحاملها بِالضَّرُورَةِ قَابل للأضداد فَلَا عَالم فِي الْعَالم إِلَّا وَالْجهل مِنْهُ متوهم وَلَا قَادر فِي الْعَالم إِلَّا وَالْعجز مِنْهُ متوهم وَلَا حَيّ فِي الْعَالم إِلَّا والسكون وَالْحَرَكَة والحس والحذر متوهمات كلهَا مِنْهُ وَقد علمنَا أَن الله تَعَالَى أرْحم الرَّاحِمِينَ حَقًا لَا مجَاز من أنكر هَذَا فَهُوَ كَافِر حَلَال دَمه وَمَاله وَهُوَ تَعَالَى يَبْتَلِي الْأَطْفَال بالجدري واواكل وَالْجِنّ والذبحة والأوجاع حَتَّى يموتوا وبالجوع حَتَّى يموتوا كَذَلِك ويفجع الْآبَاء بالأبناء وَكَذَلِكَ الْأُمَّهَات والأحباء بَعضهم بِبَعْض حَتَّى يهْلكُوا ثكلاً ووجداً وَكَذَلِكَ الطير بألاودها وَلَيْسَت هَذِه صفة الرَّحْمَة بَيْننَا فصح يَقِينا أَنَّهَا أَسمَاء الله تَعَالَى سمى الله تَعَالَى بهَا نَفسه غير مُشْتَقَّة من صفة مَحْمُولَة فِيهِ تَعَالَى حاشا لَهُ من ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن الْعَالم الْقَادِر الْحَيّ الأول الرَّحِيم بِخِلَاف هَذَا قيل لَهُم صَدقْتُمْ وَهَذَا إبِْطَال مِنْكُم لاستدلالكم بِالشَّاهِدِ بَيْنكُم على تَسْمِيَة الْبَارِي وَصِفَاته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما وَصفنَا الْبَارِي تَعَالَى بِأَنَّهُ الْوَاحِد الأول الْحق الْخَالِق من طَرِيق الِاسْتِدْلَال فَإِنَّهُ لَا يلْزمنَا فِي ذَلِك شَيْء مِمَّا ألزمناه خصومنا لِأَنَّهُ قد قَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ خَالق مَا سواهُ وَلَيْسَ فِي الْعَالم خَالق الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد قَامَ الْبُرْهَان على أَنه تَعَالَى وَاحِد لَا وَاحِد فِي الْعَالم غَيره الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وكل مَا فِي الْعَالم فمتكثر بِاحْتِمَال الْقِسْمَة والتحري وَقد قَامَ الْبُرْهَان على أَنه تَعَالَى الأول وَالْأول فِي الْعَالم الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه كل مَا فِي الْعَالم يُنَافِي الأمل وَقَامَ الْبُرْهَان بِأَنَّهُ تَعَالَى الْحق بِذَاتِهِ وَإِن كل مَا فِي الْعَالم فَإِنَّمَا هُوَ مُحَقّق لَهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ حَقًا بالباري جلّ وَعز لولاه لم يكن حَقًا فَهَذَا هُوَ الْبُرْهَان الصَّحِيح الثَّابِت الَّذِي لَا يُعَارض ببرهان الْبَتَّةَ وَهَذَا هُوَ نفي التَّشْبِيه ثمَّ إننا ننفي عَن الْبَارِي تَعَالَى جَمِيع صِفَات الْعَالم فَنَقُول أَنه تَعَالَى لَا يجهل أصلا وَلَا يغْفل الْبَتَّةَ وَلَا يسهو وَلَا ينَام وَلَا يحس وَلَا يخفى عَلَيْهِ متوهم وَلَا يعجز عَن مسئول عَنهُ لأننا قد بَينا فِيمَا خلا من كتَابنَا هَذَا إِن الله تَعَالَى بِخِلَاف خلقه من كل وَجه فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَوَاجِب نفي كل مَا يُوصف بِهِ شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم عَنهُ تَعَالَى على الْعُمُوم وَأما إِثْبَات الْوَصْف أَو التَّسْمِيَة لَهُ تَعَالَى فَلَا يجوز إِلَّا بِنَصّ ونخبر عَنهُ تَعَالَى بأفعاله عز وَجل فَنَقُول أَنه تَعَالَى مُحي الْمَوْتَى ومميت الْأَحْيَاء إِلَّا أَن لَا يثبت إِجْمَاع فِي إِبَاحَة شَيْء من ذَلِك وَلَوْلَا الْإِجْمَاع على إِبَاحَة إِطْلَاق بعض ذَلِك هَا هُنَا لما أجزناه ونقول أَنه تَعَالَى بِكُل شَيْء عليم لم يزل كَذَلِك وَالْمعْنَى فِي هَذَا أَنه لم يزل يعلم أَنه سيخلق الْأَشْيَاء على حسب هَيْئَة كل مَخْلُوق مِنْهَا لَا على أَن الْأَشْيَاء لم تزل مَوْجُودَة فِي علمه معَاذ الله من هَذَا وَلَكِن نقُول لم يزل تَعَالَى يعلم أَنه سيحدث كل مَا يكون شَيْئا إِذا أحدثه على مَا يكون عَلَيْهِ إِذا كَانَ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونجمع إِن شَاءَ الله تَعَالَى هَا هُنَا بَيَان الرَّد على من أقدم أَن يُسمى الله تَعَالَى(2/124)
بِغَيْر نَص لَكِن بِمَا دله عَلَيْهِ عقله وظنه أَنه حسن ومدح أَو اسْتِدْلَالا بِمَا سمى بِهِ تَعَالَى نَفسه أَو تصريفاً من ذَلِك أَو قِيَاسا على مَا شَاهد من خلقه فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى سمى نَفسه الرَّحْمَن الرَّحِيم فسمه أَنْت الرَّقِيق من رقة النَّفس الَّتِي هِيَ الرَّحْمَة فَإِن قَالَ الرَّحِيم يُغني عَن ذَلِك قيل لَهُ نقصت أصلك لِأَن الْحَيّ يُغني عَن هَذَا عَن أَن يُقَال لَهُ حَيَاة وَأَيْضًا فَإِن الرَّحْمَن يُغني عَن الرَّحِيم فَإِن قَالَ قد ورد النَّص بِهِ قيل لَهُ صدقت وَلَا تتعد مَا جَاءَ بِهِ النَّص وامنع مَا سواهُ وسمى نَفسه الْعَلِيم فسمه الدَّارِيّ الحبر الْفَهم الذكي الْعَارِف النَّبِيل فَكل هَذَا مدح وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَة بِمَعْنى عليم وَلَا فرق وسمى نَفسه الْكَرِيم فسمه السخي والجواد وسمى نَفسه الْحَكِيم فسمه النَّاقِد الْعَاقِل وسمى نَفسه الْعَظِيم فسمه الفخم الضخم وسمى نَفسه الْحَلِيم فسمه الْمُحْتَمل الصابر الصبور الصبار وَأخْبر أَنه قريب فسمه الداني المجاور الْمُبَاشر وسمى نَفسه الْوَاسِع فسمه الرحب العريض وسمى نَفسه الْعَزِيز فسمه الرئيس وَأخْبر أَنه شَاكر وشكور فسمه الحامد الحماد وسمى نَفسه القهار فسمه الظافر وسمى نَفسه الآخر فسمه الثَّانِي والتالي والخاتم وسمى نَفسه الظَّاهِر فسمه الْعَارِف والداري وسمى نَفسه الْكَبِير فسمه الرئيس والمتقدم وسمى نَفسه الْقَدِير فسمه المطيق والمستطيع وسمى نَفسه الْعلي فسمه العالي والرفيع والسامي وسمى نَفسه الْبَصِير فسمه المعاين وسمى نَفسه الْجَبَّار فسمه المتجبر الزاهي التياه وسمى نَفسه المتكبر فسمه المستكبر المتعاظم المتنحي وسمى نَفسه الْبر الزاكي المتواصل وسمى نَفسه المتعالي فسمه المتعظم المترفع وسمى نَفسه الْغَنِيّ فسمه الْمُوسر الملي المكثر الوافر وسمى نَفسه الْوَلِيّ فسمه الصّديق المصادق الْوَالِي الحبيب وسمى نَفسه الْقوي فسمه الْجلد النجد الشجاع الجليد الشَّديد الباطش وسمى نَفسه الْحَيّ وَأخْبر أَن لَهُ نفسا فسمه المتحرك الحساس واقطع لَهُ روحاً بِمَعْنى النَّفس وسمى نَفسه السَّمِيع الْبَصِير فسمه الشمام الذواق وسمى نَفسه الْمجِيد فسمه الشريف الْمَاجِد وسمى نَفسه الحميد فسمه المحمد الْمَحْمُود والممدوح وسمى نَفسه الْوَدُود فسمه الواد الْمُحب الحبيب الوديد وسمى نَفسه الصَّمد فسمه المصمت وسمى نَفسه الْحق فسمه الصَّحِيح الثَّابِت وسمى نَفسه اللَّطِيف فسمه الْخَفِيف وَذكر تَعَالَى أَن لَهُ مكراً وكيداً فَقل إِن لَهُ دهاء ونكراً وحساً تحليلا وخدائع فَهَذَا كُله فِي اللُّغَة وَفِيمَا بَيْننَا سَوَاء وسمى نَفسه الْمُبين فسمه الْوَاضِح الْبَين اللائح البادي وسمى نَفسه الْمُؤمن فسمه الْمُسلم الْمُصدق وسمى نَفسه الْبَاطِن فسمه الْخَفي الْغَائِب المتغيب وسمى نَفسه الْملك والمليك فسمه السُّلْطَان وَصَحَّ بِالسنةِ أَنه يُسمى جميلاً فسمه الصبيح الْحسن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن أَبى من كل هَذَا نقص أَصله وَكَذَلِكَ إِن قَالَ إِن بعض ذَلِك يُغني عَن بعض لزمَه إِسْقَاط الْحَيَاة لِأَن الْحَيّ يُغني عَن ذكر الْحَيَاة على هَذَا الأَصْل وَلَزِمَه أَن لَا يَقُول أَنه(2/125)
مُتَكَلم لِأَن الْكَلَام مغن عَن ذَلِك وَلَزِمَه أَيْضا إِسْقَاط السّمع وَالْبَصَر لِأَنَّهُ اسْتغنى بالسميع والبصير وَلَزِمَه أَيْضا إِسْقَاط مَا جَاءَ بِهِ النَّص إِذا كَانَ بعضه يُغني عَن بعض وَالْملك يُغني عَن مليك أَو أحد يُغني عَن وَاحِد وجبار يُغني عَن متكبر وخالق يُغني عَن الْبَارِي وَهَكَذَا يُسمى الله عز وَجل الْقَدِيم وَلَا الحنان وَلَا المنان وَلَا الْفَرد وَلَا الدايم وَلَا الْبَاقِي وَلَا الخالد الْعَالم وَلَا الداني وَلَا الرَّائِي وَلَا السَّامع وَلَا المعتلي وَلَا العالي وَلَا المتبارك وَلَا الطَّالِب وَلَا الْغَالِب وَلَا الضار وَلَا النافع وَلَا الْمدْرك وَلَا المبدىء وَلَا المعيد وَلَا النَّاطِق وَلَا الْقَادِر وَلَا الْوَارِث وَلَا الْبَاعِث وَلَا القاهر وَلَا الْجَلِيل وَلَا الْمُعْطِي وَلَا الْمُنعم وَلَا المحسن وَلَا الحكم وَلَا الْحَاكِم وَلَا الْوَاهِب وَلَا الْغفار وَلَا المضل وَلَا الْهَادِي وَلَا الْعدْل وَلَا الرضي وَلَا الصَّادِق وَلَا المتطول وَلَا المتفضل وَلَا المنان وَلَا الْخَبِير وَلَا الْحَافِظ وَلَا البديع وَلَا إِلَّا لَهُ وَلَا الْمُجْمل وَلَا المحي وَلَا المميت وَلَا الْمنصف وَلَا بِشَيْء لم يسم بِهِ نَفسه أصلا وَإِن كَانَ فِي غَايَة الْمَدْح عندنَا أَو كَانَ متصرفاً من أَفعاله تَعَالَى إِلَى أَن نخبر عَنهُ بِكُل هَذَا الَّذِي ذكرنَا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا نذْكر مَعَ الْوَصْف حِينَئِذٍ والإخبار عَن فعله تَعَالَى فَهَذَا جَائِز حِينَئِذٍ فَيجوز أَن يُقَال عَالم الخفيات عَالم بِكُل شَيْء عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة غَالب على امْرَهْ غَالب على كل من طَغى وَنَحْو هَذَا الْقَادِر على مَا يَشَاء القاهر للملوك وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا الْمُعْطِي لكل مَا بِأَيْدِينَا الْوَاهِب لنا كل مَا عندنَا الْمُنعم على خلقه المحسن إِلَى أوليائه الْحَاكِم بِالْحَقِّ المبدي لخلقه المعيد لَهُ المضل لأعدائه الْهَادِي لأوليائه الْعدْل فِي حكمه الصَّادِق فِي قَوْله الراضي عَمَّن أطاعه الغضبان على من عَصَاهُ الساخط على أعدائه الكاره لما نهى عَنهُ بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَه الْخلق مُحي الْأَحْيَاء والموتى مميت الْأَحْيَاء والموتى الْمنصف مِمَّن ظلم باني الدُّنْيَا وداحيها ومسويها وَنَحْو هَذَا لِأَن كل هَذَا إِخْبَار عَن فعله تَعَالَى وَهَذَا مُبَاح لنا بِالْإِجْمَاع وَهُوَ من تَعْظِيمه تَعَالَى وَمن دُعَائِهِ عز وَجل وَلَيْسَ لنا أَن نُسَمِّيه إِلَّا بِنَصّ وَكَذَلِكَ نقُول إِن لله تَعَالَى كيداً ومكراً وكبرياء وَلَيْسَ هَذَا من الْمَدْح فِيمَا بَيْننَا بل هُوَ فِيمَا بَيْننَا ذمّ وَلَا يحل أَن نقُول إِن لله تَعَالَى عقلا وشجاعا وعفة ودهاء وفهماً وذكاء وَهَذَا غَايَة الْمَدْح فِيمَا بَيْننَا فَبَطل أَن يُرَاعِي فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى مَا هُوَ مدح عندنَا أَو مَا هُوَ ذمّ عندنَا بل النَّص فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان على هَذَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِدَة من أحصاها دخل الْجنَّة فَلَو كَانَت هَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي منعنَا مِنْهَا جَائِزا أَن تطلق لكَانَتْ أَسمَاء الله تَعَالَى أَكثر من مائَة ونيف وَهَذَا بَاطِل لِأَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة غير وَاحِد مَانع من أَن يكون لَهُ أَكثر من ذَلِك وَلَو(2/126)
جَازَ ذَلِك لَكَانَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كذبا وَهَذَا كفر مِمَّن أجَازه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} فأسماؤه بِلَا شكّ كَمَا هِيَ دَاخِلَة فِيمَا علمه آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَتَخْصِيص كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يحل فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فَمن هُوَ الَّذِي اشتقها من الصِّفَات فَإِن قَالُوا هُوَ اشتقها كذبُوا على الله تَعَالَى جهاراً إِذْ أخبروا عَنهُ بِمَا لم يخبر بِهِ تَعَالَى عَن نَفسه وَهَذَا عَظِيم نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهَذِه كلهَا براهين كَافِيَة لمن عقل وَبِاللَّهِ تعال التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْكَلَام فِي الْوَجْه وَالْيَد وَالْعين وَالْجنب والقدم والتنزل والعزة وَالرَّحْمَة وَالْأَمر وَالنَّفس والذات وَالْقُوَّة وَالْقُدْرَة والأصابع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله عز وَجل {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} فَذَهَبت المجسمة إِلَى الِاحْتِجَاج بِهَذَا فِي مَذْهَبهم وَقَالَ الْآخرُونَ وَجه الله تَعَالَى إِنَّمَا يُرَاد بِهِ الله عز وَجل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي قَامَ الْبُرْهَان بِصِحَّتِهِ لما قدمنَا من إبِْطَال القَوْل بالتجسيم وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل وَجه الله هُوَ الله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يُطلق لِأَنَّهُ تَسْمِيَة وَتَسْمِيَة الله تَعَالَى لَا يجوز إِلَّا بِنَصّ وَلَكنَّا نقُول وَجه الله لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى وَلَا نرْجِع مِنْهُ إِلَى شَيْء سوى لله تَعَالَى برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى حاكياً عَمَّن رَضِي قَوْله {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} فصح يَقِينا أَنهم لم يقصدوا غير الله تَعَالَى وَقَوله عز وَجل {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} إِنَّمَا مَعْنَاهُ ثمَّ الله تَعَالَى بِعِلْمِهِ وقبوله لمن توجه إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {يَد الله فَوق أَيْديهم} وَقَالَ تَعَالَى {لما خلقت بيَدي} وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّا عملت أَيْدِينَا أنعاماً} وَقَالَ {بل يَدَاهُ مبسوطتان} قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يمبن الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فَذَهَبت المجسمة إِلَى مَا ذكرنَا مِمَّا قد سلف من بطلَان قَوْلهم فِيهِ وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الْيَد النِّعْمَة وَهُوَ أَيْضا لَا معنى لَهُ لِأَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ إِن المُرَاد بقول الله تَعَالَى أَيْدِينَا إِنَّمَا مَعْنَاهُ اليدان وَإِن ذكر الْأَعْين إِنَّمَا مَعْنَاهُ عينان وَهَذَا بَاطِل مدْخل فِي قَول المجسمة بل نقُول إِن هَذَا إِخْبَار عَن الله تَعَالَى لَا يرجع من ذكر الْيَد إِلَى شَيْء سواهُ تَعَالَى ونقر إِن لله تَعَالَى كَمَا قَالَ يدا ويدين وأيدي وَعين وَأَعْيُنًا كَمَا قَالَ عز وَجل {ولتصنع على عَيْني} وَقَالَ تَعَالَى {فَإنَّك بأعيننا} وَلَا يجوز لأحد أَن يصف الله عز وَجل بل لَهُ(2/127)
عينين لِأَن النَّص لم يَأْتِ بذلك ونقول إِن المُرَاد بِكُل مَا ذكرنَا الله عز وَجل لَا شَيْء غَيره وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن قَول قَائِل قَالَ يَا حسرنا على مَا فرطت فِي جنب الله وَهَذَا مَعْنَاهُ فِيمَا يقْصد بِهِ إِلَى الله عز وَفِي حنب عِبَادَته وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلنَا يَدَيْهِ يَمِين وَعَن يَمِين الرَّحْمَن فَهُوَ مثل قَوْله {وَمَا ملكت أَيْمَانكُم} يُرِيد وَمَا ملكتم وَلما كَانَت الْيَمين فِي لُغَة الْعَرَب يُرَاد بهَا الْحَظ للأفضل كَمَا قَالَ الشماخ ... إِذا مَارِيَة رفعت لمحمدٍ
تلقاها عرابه بِالْيَمِينِ ...
يُرِيد أَن يتلقاها بالسعي إِلَّا على كَانَ قَوْله وكلتا يَدَيْهِ يَمِين أَي كل مَا يكون مِنْهُ تَعَالَى من الْفَصْل فَهُوَ إِلَّا عَليّ وَكَذَلِكَ صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن جَهَنَّم لَا تملأ حَتَّى يضع فِيهَا قدمه وَصَحَّ أَيْضا فِي الحَدِيث حَتَّى يضع فِيهَا رجله وَمعنى هَذَا مَا قد بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث آخر صَحِيح أخبر فِيهِ أَن الله تَعَالَى بعد يَوْم الْقِيَامَة يخلق خلقا يدخلهم الْجنَّة وَأَنه يَقُول للجنة وَالنَّار لكل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا فَمَعْنَى الْقدَم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} يُرِيد سالف صدق مَعْنَاهُ الْأمة الَّتِي تقدم فِي علمه تَعَالَى أَنه يمْلَأ بهَا جَهَنَّم وَمعنى رجله نَحْو ذَلِك لِأَن الرجل الْجَمَاعَة فِي اللُّغَة أَي يضع فِيهَا الْجَمَاعَة الَّتِي قد سبق فِي علمه تَعَالَى أَنه يمْلَأ جَهَنَّم بهَا وَكَذَلِكَ الحَدِيث الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن قلب الْمُؤمن بَين اصبعين من أَصَابِع الله عز وَجل أَي بَين تدبيرين ونعمتين من تَدْبِير الله عز وَجل ونعمه إِمَّا كِفَايَة تسرهُ وَإِمَّا بلَاء يأجره عَلَيْهِ وبالأصح فِي اللُّغَة النِّعْمَة وقلب كل أحد بَين توفيق الله وجلاله وَكِلَاهُمَا حكمه عز وَجل وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يَبْدُو لَهُ مُؤمن يَوْم الْقِيَامَة فِي غير الصُّورَة الَّتِي عرفوها وَهَذَا ظَاهر بَين وَهُوَ أَنهم يرَوْنَ صُورَة الْحَال من الهول والمخافة غير الَّتِي يظنون فِي الدُّنْيَا وبرهان صِحَة هَذَا القَوْل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور غير الَّذِي عرفتموه بهَا وبالضرورة نعلم أننا لم نعلم لله عز وَجل فِي الدُّنْيَا صُورَة أصلا فصح مَا ذَكرْنَاهُ يَقِينا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الحَدِيث الثَّابِت خلق الله آدم على صورته فَهَذِهِ إِضَافَة ملكٍ يُرِيد الصُّورَة الَّتِي تخيره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليَكُون آدم مصورا عَلَيْهَا وكل فَاضل فِي طبقته فَإِنَّهُ ينْسب إِلَى الله عز وَجل كَمَا يَقُول بَيت الله تَعَالَى عَن الْكَعْبَة والبيوت كلهَا بيُوت الله تَعَالَى وَلَكِن لَا يُطلق على شَيْء مِنْهَا هَذَا الِاسْم كَمَا يطبق على الْمَسْجِد الْحَرَام وكما نقُول فِي جِبْرِيل وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام روح لله والأرواح كلهَا لله عز وَجل ملك لَهُ وكالقول فِي نَاقَة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ لله والنوق كلهَا لله عزوجل فعلى هَذَا الْمَعْنى قيل على صُورَة الرَّحْمَن والصور كلهَا لله تَعَالَى هِيَ ملك لَهُ وَخلق لَهُ وَقد رَأَيْت لِابْنِ فورك وعيره من لَا أشعرية فِي الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث أَنهم قَالُوا فِي معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله خلق(2/128)
آدم على صورته إِنَّمَا هُوَ على صفة الرَّحْمَن من الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار واجتماع صِفَات الْكَمَال فِيهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته كَمَا أسجدهم لنَفسِهِ وَجعل لَهُ الْأَمر وَالنَّهْي على ذُريَّته كَمَا كَانَ لله كل ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا نَص كَلَام أبي جَعْفَر السَّمْعَانِيّ عَن شُيُوخه حرفا حرفا وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا مرية فِيهِ لِأَنَّهُ سوى (1) بَين الله عز وَجل وآدَم فِي الْحَيَاة وَالْعلم والاقتدار واجتماع صِفَات الْكَمَال فيهمَا وَالله يَقُول لَيْسَ كمثله شَيْء ثمَّ لم يقنعوا بهَا حَتَّى جعلُوا سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم كسجودهم لله عز وَجل وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن سجودهم لله تَعَالَى سُجُود عبَادَة ولآدم سُجُود تَحِيَّة وإكرام وَمن قَالَ إِن الْمَلَائِكَة عبدت آدم كَمَا عبدت الله عز وَجل فقد اشرك ثمَّ زَاد فِي الْأَمر وَالنَّهْي لآدَم على ذُريَّته كَمَا هُوَ الله تَعَالَى وَهَذَا شرك لَا خَفَاء بِهِ وَلَوَدِدْنَا أَن نَعْرِف مَا هِيَ صِفَات الْكَمَال الَّتِي ذكر هَذَا الْإِنْسَان أَنَّهَا اجْتمعت فِي آدم كَمَا اجْتمعت فِي الله عز وَجل أَن هَذَا الْإِلْحَاد وَالِاسْتِخْفَاف بِاللَّه تَعَالَى لَا نَدْرِي كَيفَ تكلم وأنطق لِسَانه من يعرف أَن الله تَعَالَى لم يكن لَهُ كفوا أحد وَوَاللَّه إِن صِفَات الْكَمَال فِي الْمَلَائِكَة لأكْثر مِنْهَا فِي آدم وَإِن صِفَات الِاثْنَيْنِ الَّتِي شاركوا فِيهَا آدم عَلَيْهِ السَّلَام كصفات الْجِنّ وَلَا فرق بَين الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُوَّة والتناسل وَغير ذَلِك فَالْكل على هَذَا على صُورَة الله تَعَالَى هَذَا القَوْل الملعون قائلة ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَكَذَلِكَ مَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يَوْم الْقِيَامَة أَن الله عز جلّ يكْشف عَن سَاق فَيَخِرُّونَ سجدا فَهَذَا كَمَا قَالَ الله عز وَجل فِي الْقُرْآن
يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَار عَن شدَّة الْأَمر وَهُوَ الْمَوْقُوف كَمَا تَقول الْعَرَب قد شمرت الْحَرْب عَن سَاقهَا قَالَ جرير ... الْأَدَب سامي الطّرف من آل مَازِن ... إِذا شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا ... وَالْعجب مِمَّن يُنكر هَذِه الْأَخْبَار الصاح وَإِنَّمَا جات بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن نصا وَلَكِن من ضَاقَ علمه أنكر مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَقد عَابَ الله هَذَا فَقَالَ
بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله
وَاخْتلف النَّاس فِي الْأَمر وَالرَّحْمَة والعزة فَقَالَ قوم هِيَ صِفَات ذَات لم تزل وَقَالَ آخَرُونَ لم يزل الله تَعَالَى الله الْعَزِيز لرحمن الرَّحِيم بِذَاتِهِ وَأما الرَّحْمَة وَالْأَمر فمخلوقان(2/129)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالرُّجُوع عِنْد الِاخْتِلَاف إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْقُرْآن وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَفَعَلْنَا فَوَجَدنَا الله تَعَالَى يَقُول {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} وَالْمَفْعُول مَخْلُوق بِلَا خلاف وَقَالَ تَعَالَى {وَالله غَالب على أمره} وَبلا شكّ فِي أَن المغلوب عَلَيْهِ مَخْلُوق وَأَنه غير الْغَالِب عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} وَهَذَا بَيَان جلي لَا إِشْكَال فِيهِ على أَن الْأَمر مُحدث وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله يحدث من أمره مَا شَاءَ فصح بِيَقِين أَن أَمر الله تَعَالَى مُحدث مَخْلُوق وَقَالَ الأشعرية لم يزل الله تَعَالَى آمُر الْكل من أمره بِمَا يَأْمُرهُ بِهِ إِذا وجد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل مُتَيَقن لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ الله تَعَالَى لم يزل آمراً لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يزل آمرنا بِأَن لَا نصلي إِلَى بَيت الْمُقَدّس لَكِن إِلَى الْكَعْبَة فَيكون آمُر بِالْفِعْلِ للشَّيْء وَالتّرْك لَهُ مَعًا وَهَذَا تَخْلِيط جلّ الله تَعَالَى عَنهُ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلْزمهُم فِي نهي الله تَعَالَى عَمَّا نهى عَنهُ أَنه لم يزل لِأَنَّهُ لَا فرق بَين أمره تَعَالَى وَبَين نَهْيه فَإِن قَالُوا بل نَهْيه مُحدث وَأمره قديم قُلْنَا لَهُم مَا قَوْلكُم فِيمَن عكس عَلَيْكُم فَقَالَ بل نَهْيه لم يزل وَإِمَّا أمره فمحدث وكلا الْقَوْلَيْنِ تَخْلِيط وَأَيْضًا فَإِنَّهُم مقرون بِأَن الْقَدِيم لَا يتَغَيَّر وَلَا يبطل وَقد صَحَّ أمره تَعَالَى لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ قد بَطل الْأَمر بذلك وَعدم وَانْقطع فَلَو كَانَ أمره تَعَالَى لم يزل لوَجَبَ أَن لَا يبطل وَلَا يعْدم وَهَذَا كفر مُجَرّد مِمَّن أجَازه وَإِن قَالُوا إِن أمره تَعَالَى لنا بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس بَاقٍ أبدا لم يسْقط وَلَا نسخ وَلَا بَطل وَلَا أَحَالهُ تَعَالَى بِأَمْر آخر كفرُوا بِلَا خلاف وَالَّذِي يدْخل على هَذَا القَوْل الْفَاسِد أَكثر من هَذَا وَقَالَ تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} فَلَو كَانَ الْأَمر غير مَخْلُوق وَلم يزل لَكَانَ الرّوح كَذَلِك لِأَنَّهُ مِنْهُ ومعاذ الله من هَذَا وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي أَن أَرْوَاحهم مخلوقة وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَهِي معذبة فِي النَّار أَو منعمة فِي الْجنَّة وَقَالَ {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليهوسلم سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والمربوب مَخْلُوق بِلَا شكّ فَإِن اعْترض معترض بقول الله عز وَجل {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} ورام بِهَذَا إِثْبَات أَن الْخلق غير الْأَمر فَلَا حجَّة لَهُ فِي هَذَا لِأَن الله عز وَجل قَالَ {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} فقد فرق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة بَين الْخلق والتسوية وَالتَّعْدِيل والتصوير وَلَا خلاف فِي أَن كل هَذَا خلق مَخْلُوق وَقَالَ تَعَالَى {خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} فعطف تَعَالَى الرزق وَالْأَمَانَة والإحياء على الْخلق بِلَفْظَة ثمَّ فَلَو كل عطف الْأَمر على الْخلق دَلِيلا على أَن الْأَمر غير الْخلق لوَجَبَ وَلَا بُد أَن يكون الرزق وَالْأَمَانَة والإحياء والتصوير كلهَا غير الْخلق وَغير(2/130)
مخلوقات وَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم فَبَطل استدلالهم على أَن الْأَمر غير مَخْلُوق لعطفه على الْخلق وَقد عطف تَعَالَى جِبْرِيل على الْمَلَائِكَة فَلَيْسَ الْعَطف على الشَّيْء مخرجا لَهُ عَنهُ إِذا قَامَ برهَان على أَنه دَاخل فِيهِ وَقد قَامَ برهَان النَّص بِأَن أَمر لله تَعَالَى مَخْلُوق وَأَنه قدر مَقْدُور مفعول وَأما إِذا لم يَأْتِ برهَان يدْخل الْمَعْطُوف فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَهُوَ غَيره بِلَا شكّ هَذَا حكم اللُّغَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما الْعِزَّة فقد قَالَ الله تَعَالَى {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والمربوب مَخْلُوق بِلَا شكّ وَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى {فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} بِمُوجب أَن الْعِزَّة لن تزل لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} وَقَالَ تَعَالَى {قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا} وَلَيْسَ هَذَانِ النصان بِلَا خلاف موجبين أَن الشَّفَاعَة غير مَخْلُوق إِلَّا إِن هَا هُنَا عزة لَيست غير الله تَعَالَى فَهِيَ غير مخلوقة وَهِي الَّتِي صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حلف بهَا فَقَالَ وَعزَّتك فِي حَدِيث خلق الْجنَّة وَالنَّار
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن الْبَاطِل أَن يحلف جِبْرِيل بِغَيْر الله عز وَجل وَأما الرَّحْمَة فقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله خلق مائَة رَحْمَة فقسم فِي عباده رَحْمَة وَاحِدَة فِيهَا يتراحمون وَرفع التِّسْعَة وَتِسْعين ليَوْم الْقِيَامَة يرحم بهَا عباده أَو كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا رفع للإشكال جملَة فِي أَن الرَّحْمَة مخلوقة وَلَا خلاف بَين أحد من الْأمة فِي أَن إِدْخَال الله عز وَجل الْجنَّة من أدخلهُ فِيهَا برحمته تَعَالَى وَأَن بعثته مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة لمن آمن بِهِ وكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ وَأما الْقُدْرَة وَالْقُوَّة فقد قَالَ عز وَجل {أولم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة} وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن خَالِد الهمذاني حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْبَلْخِي حَدثنَا الْفربرِي حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا معن بن عِيسَى حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي الموال سَمِعت مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر يحدث عبد الله بن الْحسن قَالَ أَخْبرنِي جَابر بن عبد الله قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم أَصْحَابه الاستخارة فَذكر الحَدِيث وَفِيه اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْقَوْل فِي الْقُدْرَة وَالْقُوَّة كالقول فِي الْعلم سَوَاء بِسَوَاء فِي اخْتِلَاف النَّاس على تِلْكَ الْأَقْوَال وَتلك الْحجَّاج وَلَا فرق وَقَوْلنَا فِي هَذَا هُوَ مَا قُلْنَاهُ هُنَالك من أَن الْقُدْرَة وَالْقُوَّة لله تَعَالَى حَقًا وليستا غير الله تَعَالَى وَلَا يُقَال هما الله تَعَالَى وَقَالَ تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَقَالَ تَعَالَى {ويحذركم الله نَفسه} فَنَفْس الله تَعَالَى إِخْبَار عَنهُ لَا عَن شَيْء غَيره أصلا فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه يَقُول لرَبه تَعَالَى {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب} قُلْنَا هَذَا على ظَاهره وعَلى الْحَقِيقَة لِأَن كل غيب فَهُوَ مَعْلُوم فِي علم الله الْعَلِيم بِكُل شَيْء فَجرى الْكَلَام على مَا يتخاطب بِهِ النَّاس مِمَّا لَا يتوصلون(2/131)
إِلَى الْعبارَة عَمَّا يُرِيدُونَ إِلَّا بِهِ وَهَذَا مَعْهُود من القَوْل أَن يَقُول الْقَائِل نفس الشَّيْء وَحَقِيقَته يُرَاد بذلك الشَّيْء لَا مَا سواهُ وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الذَّات وَلَا فرق فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا شكّ وَلَا أعلم مَا عنْدك وَمَا فِي عَلَيْك وَصَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر أَن الله تَعَالَى ينزل كل لَيْلَة إِذا بَقِي ثلث اللَّيْل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فعل يَفْعَله الله تَعَالَى فِي سَمَاء الدُّنْيَا من الْفَتْح لقبُول الدُّعَاء وَإِن تِلْكَ السَّاعَة من مظان الْقبُول والإجابة وَالْمَغْفِرَة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وَهَذَا مَعْهُود فِي اللُّغَة تَقول نزل فلَان عَن حَقه بِمَعْنى وهبه لي وتطول بِهِ عَليّ وَمن الْبُرْهَان على أَنه صفة فعل لَا صفة ذَات أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علق التنزل الْمَذْكُور بِوَقْت محدد فصح أَنه فعل مُحدث فِي ذَلِك مفعول حينئذٍ وَقد علمنَا أَن مَا لم يزل فَلَيْسَ مُتَعَلقا بِزَمَان الْبَتَّةَ وَقد بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور مَا ذَلِك الْفِعْل وَهُوَ أَنه ذكر عَلَيْهِ السَّلَام أَن الله يَأْمر مَالِكًا يُنَادي فِي ذَلِك الْوَقْت بذلك وَأَيْضًا فَإِن ثلث اللَّيْل مُخْتَلف فِي الْبِلَاد باخْتلَاف الْمطَالع والمغارب يعلم ذَلِك ضَرُورَة من بحث عَنهُ فصح ضَرُورَة أَنه فعل يَفْعَله رَبنَا تَعَالَى فِي ذَلِك الْوَقْت لأهل كل أفق وَأما من جعل ذَلِك نقلة فقد قدمنَا بطلَان قَوْله فِي إبِْطَال القَوْل بالجسم بعون الله وتأييده وَلَو انْتقل تَعَالَى لَكَانَ محدوداً مخلوقاً مؤلفاً شاغلاً لمَكَان وَهَذِه صفة المخلوقين تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَقد حمد الله إِبْرَاهِيم خَلِيله وَرَسُوله وَعَبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ بَين لِقَوْمِهِ بنقلة الْقَمَر أَنه لَيْسَ رَبًّا فَقَالَ {فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين} وكل منتقل عَن مَكَان فَهُوَ آفل عَنهُ تَعَالَى الله عَن هَذَا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَقَوله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر} فَهَذَا كُله على مَا بَينا من أَن الْمَجِيء والإتيان يَوْم الْقِيَامَة فعل يَفْعَله الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْيَوْم يُسمى ذَلِك الْفِعْل مجيئاً وإتياناً وَقد روينَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله أَنه قَالَ وَجَاء رَبك إِنَّمَا مَعْنَاهُ وَجَاء أَمر رَبك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لَا تعقل الصّفة وَالصِّفَات فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نزل بهَا الْقُرْآن وَفِي سَائِر اللُّغَات وَفِي وجود الْعقل وَفِي ضَرُورَة الْحس إِلَّا أعراضاً مَحْمُولَة فِي الموصوفين فَإِذا جوزوها غير أَعْرَاض بِخِلَاف الْمَعْهُود فقد تحكموا بِلَا دَلِيل إِذْ إِنَّمَا يُصَار إِلَى مثل هَذَا فِيمَا ورد بِهِ نَص وَلم يرد قطّ نَص بِلَفْظ الصِّفَات وَلَا بِلَفْظ الصّفة فَمن الْمحَال أَن يُؤْتى بِلَفْظ لَا نَص فِيهِ يعبر بِهِ عَن خلاف الْمَعْهُود وَقَالَ تَعَالَى {للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} فَلَو ذكرُوا الْأَمْثَال مَكَان الصِّفَات لذكر الله تَعَالَى لَفْظَة الْمثل لَكَانَ أولى ثمَّ قد بَين الله تَعَالَى غَايَة الْبَيَان فَقَالَ فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال وَقد أخبر الله تَعَالَى بِأَن لَهُ الْمثل الْأَعْلَى فصح ضَرُورَة أَنه لَا يضْرب لَهُ مثل إِلَّا مَا أخبر بِهِ تَعَالَى فَقَط وَلَا يحل أَن يُزَاد على ذَلِك سيء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي المائية
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب طوائف من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا مائية لَهُ وَذهب أهل السّنة وَضِرَار بن عَمْرو إِلَى إِن لله تَعَالَى مائية قَالَ ضرار لَا يعلمهَا غَيره(2/132)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن لَهُ مائية هِيَ أنيته نَفسهَا وَأَنه لَا جَوَاب لمن سَأَلَ مَا هُوَ الْبَارِي إِلَّا مَا أجَاب بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ سَأَلَهُ فرعونة وَمَا رب الْعَالمين ونقول أَنه لَا جَوَاب هَا هُنَا لَا فِي علم الله تَعَالَى وَلَا عندنَا إِلَّا مَا أجَاب بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الله تَعَالَى حمد ذَلِك مِنْهُ وَصدق فِيهِ وَلَو لم يكن جَوَابا صَحِيحا تَاما لَا نقص فِيهِ لما حَمده الله وَاحْتج من أنكر المائية بِأَن قَالَ لَا تَخْلُو المائية من أَن تكون هِيَ الله أَو تكون غَيره فَإِن كَانَت غَيره والمائية لم يزل فَلم يزل مَعَ الله تَعَالَى غَيره وَهَذَا شرك وَكفر قَالُوا وَإِن كَانَت هُوَ هِيَ وَكُنَّا لَا نعلمها فقد صرنا لَا نعلم الله عز وَجل وَهَذَا إِقْرَار بأننا نجهله وَالْجهل بِاللَّه تَعَالَى كفر بِهِ وَقَالُوا لَو أمكن أَن تكون لَهُ مائية لكَانَتْ لَهُ كيفة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا من جهلهم بحدود الْكَلَام وبمواقع الْأَسْمَاء على المسميات إِذْ مائية الشَّيْء إِنَّمَا هِيَ الْجَواب فِي سُؤال السَّائِل بِمَا هُوَ وَهَذَا سُؤال عَن حَقِيقَة الشَّيْء وذاته فَمن أبطل المائية فقد أبطل حَقِيقَة الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ بِمَا هُوَ لَكِن أول مَرَاتِب الْإِثْبَات فِيمَا بَيْننَا هِيَ الْآنِية وَهِي إِثْبَات وجود الشَّيْء فَقَط وَهَذَا أَمر قد علمناه وأحطنا بِهِ وَلَا يَتَبَعَّض الْعلم بذلك فَيعلم بعضه ويجهل بعضه ثمَّ يَتْلُو الْآنِية الَّتِي هِيَ جَوَاب السَّائِل فَهَل فِيمَا بَيْننَا السُّؤَال بِمَا هُوَ وَأما فِي الْبَارِي تَعَالَى فالسؤال بِمَا هُوَ هُوَ السُّؤَال بهل وَهُوَ وَالْجَوَاب فِي كليهمَا وَاحِد فَنَقُول هُوَ حق وَاحِد أول خَالق لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَإِنَّمَا اخْتلفت الْآنِية والمائية فِي غير الله تَعَالَى لاخْتِلَاف الْأَعْرَاض فِي الْمَسْئُول عَنهُ وَلَيْسَ الله تَعَالَى كَذَلِك وَلَا هُوَ حَامِل أعراضاً أصلا هَاهُنَا نقف وَلَا نعلم أَكثر وَلَا هَاهُنَا أَيْضا شَيْء غير هَذَا إِلَّا مَا علمنَا رَبنَا تَعَالَى من سَائِر أَسْمَائِهِ كالعليم والقدير وَالْمُؤمن والمهيمن وَسَائِر أَسْمَائِهِ وَقد أخبر تَعَالَى على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَهُ تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مائَة غير وَاحِد قَالَ تَعَالَى {وَلَا يحيطون بِهِ علما}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام صَحِيح على ظَاهره إِذْ كل مَا أحَاط بِهِ الْعلم فَهُوَ متناه مَحْدُود وَهَذَا منفي عَن الله عز وَجل وواجب فِي غَيره لوُقُوع الْعدَد المحاط بِهِ فِي إِعْرَاض كل مَا دونه تَعَالَى وَلَا يحاط بِمَا لَا حُدُود لَهُ وَلَا عدد لَهُ فصح يَقِينا أننا نعلم الله عز وَجل حَقًا وَلَا نحيط بِهِ علما كَمَا قَالَ تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فالآنية فِي الله تَعَالَى هِيَ المائية الَّتِي أنكرها أهل الْجَهْل بحقائق الْأُمُور وَبِالْقُرْآنِ وبالسنن نحمد الله عز وَجل على مَا من بِهِ علينا من تيسير الإتباع كِتَابه وتدبره وَطلب سنَن نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْوُقُوف عِنْدهمَا ومعرفتهما بِأَن الْعقل لَا يحكم بِهِ على خالقه لَكِن يفهم بِهِ أوامره تَعَالَى ويميز بِهِ حقائق مَا خلق فَقَط وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَأما قَوْلهم لَو كَانَت لَهُ مائية لكَانَتْ لَهُ كَيْفيَّة فَكَلَام قوم جهال بالحقائق وَقد بَينا وَبَان لكل ذِي عقل أَن السُّؤَال بِمَا هُوَ الشَّيْء غير السُّؤَال يكيف هُوَ الشَّيْء وَأَن المسؤل عَنهُ بِإِحْدَى اللفظتين المذكورتين غير المسؤل عَنهُ بِالْأُخْرَى وَأَن الْجَواب عَن إِحْدَاهمَا غير الْجَواب عَن الْأُخْرَى وَبَيَان ذَلِك أَن السُّؤَال بِمَا هُوَ إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَن ذَاته واسْمه وَأَن السُّؤَال بكيف هُوَ إِنَّمَا سُؤال عَن حَاله وأعراضه وَهَذَا لَا يجوز أَن يُوصف بِهِ الْبَارِي تَعَالَى فلاح الْفرق ظَاهرا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق(2/133)
مسَائِل فِي السخط وَالرِّضَا وَالْعدْل والصدق وَالْملك والخلق والجود والإرادة والسخاء وَالْكَرم وَمَا يخبر عَنهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَكَيف يَصح السُّؤَال فِي ذَلِك كُله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد نقُول لم يزل الله تَعَالَى عَالما بِأَنَّهُ سيسخط على الْكفَّار وسيرضى على الْمُؤمنِينَ وسيعذب بالنَّار من عَصَاهُ وسينعم بِالْجنَّةِ من أطاعه وسيعدل إِذا حكم وسيصدق إِذا أخبر وَلم يزل عَالما بِأَنَّهُ سيخلق مَا يخلق وَأَنه رب مَا يخلق من الْعَالمين وَمَالك كل شَيْء وَيَوْم الدّين وَأَن لَهُ ملك كل مَا يخلق لِأَن كل مَا ذكرنَا يَقْتَضِي وجود كل مَا علق بِهِ وكل مَا علق بِهِ مُحدث لم يكن ثمَّ كَانَ وَلم يزل تَعَالَى عليماً بِكُل ذَلِك وَأَنه سَيكون كل مَا يكون على مَا هُوَ كَائِن عَلَيْهِ إِذا كَونه وَأما الْإِرَادَة فقد أثبتها قوم من صِفَات الذَّات وَقَالُوا لم تزل الْإِرَادَة وَلم يزل الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا خطأ لبرهانين ضرورين أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى لم ينص على أَنه مُرِيد وَلَا على أَن لَهُ إِرَادَة وَقد قدمنَا الْبُرْهَان فِيمَا سلف من كتَابنَا على أَنه لَا يجوز أَن يشتق لله أَسمَاء وَلَا صِفَات وأوردنا من ذَلِك أَنه لَا يُقَال أَنه تَعَالَى متبارك وَيُقَال تبَارك الله وَلَا يُقَال أَنه مستهزئ وَيُقَال الله يستهزئ بهم وَلَا أَنه عافل وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُقَال أَنه تَعَالَى بَاقٍ وَلَا دَائِم وَلَا ثَابت وَلَا سخي وَلَا جواد لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يسم بِهِ نَفسه لَكِن يُقَال المتعالي كَمَا قَالَ تَعَالَى وَيُقَال هُوَ الْكَرِيم الْغَنِيّ وَلَا يُقَال الْمُوسر وَيُقَال هُوَ الْقوي وَلَا يُقَال الْجلد وَيُقَال لم يزل وَلَا زَالَ هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَلَا يُقَال هُوَ الْخَفي وَلَا الْغَائِب وَلَا البارز وَلَا المشتهر وَيُقَال هُوَ الْغَالِب على أمره وَلَا يُقَال هُوَ الظافر والمعني فِي كل مَا ذكرنَا من اللُّغَة وَاحِد فَمن أطلق عَلَيْهِ تَعَالَى بعض هَذِه الصِّفَات والأسماء وَمنع من بَعْضهَا فقد ألحد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل وأقدم إقداماً عَظِيما نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَأَيْضًا فَإِن الْإِرَادَة من الله تَعَالَى (1) لَو كَانَت لم تزل لَكَانَ المُرَاد لم يزل بِنَصّ الْقُرْآن لأ الله عز وَجل قَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَأخْبر تَعَالَى أَنه إِذا أَرَادَ الشَّيْء كَانَ وَأجْمع الْمُسلمُونَ على تصويب قَول من قَالَ مَا شَاءَ الله كَانَ والمشيئة هِيَ الْإِرَادَة فصح بِمَا ذكرنَا صِحَة لَا شكّ فِيهَا أَن الْوَاجِب أَن يُقَال أَرَادَ الله كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِذا أَرَادَ شَيْئا} ونقول أَنه تَعَالَى يُرِيد مَا أَرَادَ وَلَا يُرِيد مَا لم يرد كَمَا قَالَ تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم} {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً} فَنحْن نقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى أَرَادَ وَيُرِيد وَلم يرد وَلَا يُرِيد وَلَا نقُول أَن لَهُ إِرَادَة وَلَا أَنه مُرِيد لِأَنَّهُ لم يَأْتِ نَص من الله تَعَالَى بذلك وَلَا من رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا جَاءَ قطّ من أحد من السّلف رَضِي الله عَنْهُم وَإِنَّمَا أطلق هَذَا الْإِطْلَاق الْفَاحِش قوم من الْخَوَالِف المسمين بالمتكلمين الْخَوْف عَلَيْهِم أقوى من رَجَاء(2/134)
السَّلامَة لَهُم لَا قدم صدق لَهُم فِي الاسلام وَلَا فِي الْوَرع وَلَا فِي الِاجْتِهَاد فِي الْخَيْر وَلَا فِي الْعلم بِالْقُرْآنِ وَلَا بسنن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بِمَا أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا بِمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَلَا بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلَا بحدود الْكَلَام وحقائق مائيات الْمَخْلُوقَات وكيفياتها فهم يتبعُون مَا ترآى لَهُم ويقتحمون المهالك بِلَا هدى من الله عز وَجل نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} فنص تَعَالَى على أَن من لم يرد مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى كِتَابه وَإِلَى كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى إِجْمَاع الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم أجميعن وَلَا من سلك سبيلهم بعدهمْ فَلم يعلم مَا استنبطه بظنه ورأيه وَلَيْسَ ننكر الْحَاجة على الْقَصْد إِلَى تَبْيِين الْحق وتبيينه بل هَذَا هُوَ الْعَمَل الْفضل الْحسن وَإِنَّمَا ننكر الْإِقْدَام فِي الدّين بِغَيْر برهَان من قُرْآن أَو سنة أَو إِجْمَاع بعد أَن أوجبه برهَان الْحس وَأول بديهة الْعقل والنتائج الثَّابِتَة من مقدماته الصَّحِيحَة من صِحَة التَّوْحِيد والنبوة فَإِذا ثبتا بِمَا ذكرنَا فضرورة الْعقل توجب الْوُقُوف عِنْد جَمِيع مَا قَالَه الرَّسُول الَّذِي بَعثه الله تَعَالَى إِلَيْنَا وأمرنا بِطَاعَتِهِ وَأَن لَا يعْتَرض عَلَيْهِ بالظنون الكاذبة والآراء الْفَاسِدَة والقياسات السخيفة والتقليد المهلك فَإِن قَالَ قَائِل وَمَا الَّذِي يمْنَع من أَن نقُول لم يزل الله مرِيدا لما أَرَادَ كَونه إِذا كَونه قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق يمْنَع من ذَلِك أَن الله عز وَجل أخبر نصا بِأَنَّهُ إِذا أَرَادَ شَيْئا كَونه فَكَانَ فَلَو كَانَ تَعَالَى لم يزل مرِيدا لَكَانَ لم يزل مَا يُرِيد وَهَذَا إلحاد وَيُقَال لَهُم أَيْضا وَمَا الْفرق بَيْنكُم وَبَين من عكس قَوْلكُم فَقَالَ لم يزل الله تَعَالَى غير مُرِيد لِأَن يخلق حَتَّى خلق وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن قَائِلا يَقُول أَن الْخلق هُوَ المُرَاد كَونه من الله تَعَالَى فَهُوَ مُرَاد الله تَعَالَى وَهُوَ الْإِرَادَة نَفسهَا وَأَنه لَا إِرَادَة لَهُ إِلَّا مَا خلق لما أَنْكَرْنَا ذَلِك وَإِنَّمَا ننكر قَول من يَجْعَل الْإِرَادَة صفة ذَات لم تزل لِأَنَّهُ يصف الله تَعَالَى بِمَا لم يصف الله تَعَالَى بِهِ نَفسه وَقَول من يَجْعَلهَا صفة فعل وَأَنَّهَا غير الْخلق لِأَنَّهُ يلْزمه أَن تِلْكَ الْإِرَادَة إِمَّا مُرَادة مخلوقة وَإِمَّا غير مُرَادة وَلَا مخلوقة فَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة مخلوقة قيل لَهُ أَهِي مُرَادة بِإِرَادَة هِيَ غَيرهَا ومخلوقة بِخلق هُوَ غَيرهَا أم لَا بِإِرَادَة وَلَا بِخلق فَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة بِلَا إِرَادَة أَتَى بالمحال الَّذِي يُبطلهُ الْعقل وَلم يَأْتِ بِهِ نَص فَيلْزمهُ الْوُقُوف عِنْده وَكَذَلِكَ قَوْله مخلوقة بِغَيْر خلق وَإِن قَالَ هِيَ مُرَادة بِإِرَادَة هِيَ غَيرهَا ومخلوقة بِخلق هُوَ غَيرهَا لزمَه فِي إِرَادَة الْإِرَادَة وَخلق خلقهَا مَا ألزمناه فِي الْإِرَادَة وَفِي خلقهَا وَهَكَذَا أبدا وَهَذَا يُوجب وجود محدثات لَا نِهَايَة لعددها وَهَذَا هُوَ قَول الدهرية الَّذِي أبْطلهُ الله تَعَالَى بضرورة الْعقل وَالنَّص على مَا بَينا فِي صدر كتَابنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالَ إِن الْإِرَادَة لَيست مُرَادة وَلَا مخلوقة أَتَى بقول يُبطلهُ ضَرُورَة الْعقل لِأَن القَوْل بِإِرَادَة غير مُرَادة محَال غير مَوْجُودَة لَا بحس فِيمَا بَيْننَا وَلَا بِدَلِيل فِيمَا غَابَ عَنَّا فَهُوَ قَول بِمُجَرَّد الدَّعْوَى فَهُوَ بَاطِل ضَرُورَة وَكَذَلِكَ يلْزمه إِن قَالَ أَنَّهَا محدثة غير مخلوقة مَا يلْزم من قَالَ إِن الْعَالم مُحدث لَا مُحدث لَهُ وَقد تقدم بطلَان هَذَا القَوْل بالبراهين الضرورية وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما تَسْمِيَة الله عز وَجل جواداً سخياً أَو صفته تَعَالَى بِأَن لَهُ تَعَالَى جوداً وسخاءً فَلَا يحل ذَلِك الْبَتَّةَ وَلَو أَن الْمُعْتَزلَة المقدمين على تَسْمِيَة رَبهم جواداً يكون لَهُم علم بلغَة الْعَرَب أَو يحقيقة الْأَسْمَاء ووقوعها على المسميات أَو بمعاني الْأَسْمَاء وَالصِّفَات مَا أقدموا على هَذِه الْعَظِيمَة وَلَا وَقَعُوا فِي الائتساء(2/135)
بالكفار الْقَائِلين أَن عِلّة خلق الله تَعَالَى لما خلق إِنَّمَا هِيَ جودة حَتَّى أوقعهم ذَلِك فِي القَوْل بِأَن الْعَالم لم يزل وَلَكِن الْمُعْتَزلَة معذورون بِالْجَهْلِ عزرا يبعدهم عَن الْكفْر وَلَا يخرجهم عَن الْإِيمَان لَا عرزا يسْقط عَنْهُم الْمَلَامَة لِأَن التَّعَلُّم لَهُم معروض مُمكن وَلَكِن لَا هادي لمن أضلّ الله تَعَالَى ونعوذ الله من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْمَانِع من ذَلِك وَجْهَان أَحدهمَا أَنه تَعَالَى لم يسم بذلك وَلَا رصف بِهِ نَفسه وَلَا يحل لأحد أَن يتَعَدَّى حُدُود الله لَا سِيمَا فِيمَا لَا دَلِيل فِيهِ إِلَّا النَّص فَقَط وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْجُود والسخاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَبهَا نتفاهم مرادنا إِنَّمَا هما لفظان واقعان على بذل الْفضل عَن الْحَاجة لَا يعبر بِلَفْظ الْجُود والسخاء إِلَّا عَن هَذَا الْمَعْنى وَهَذَا الْمَعْنى مبعد عَن الله عز وَجل لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء فَيكون لَهُ فضل يبذله فيسمى ببذله لَهُ سخيا وجودا ويوصف من أجل بذله بجود وسخاءٍ أَو يكون بِمَنْعه بَخِيلًا أَو شحيحاً أَو مَوْصُوفا ببخل أَو شح
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا يخْتَلف اثْنَان من كل من فِي الْعَالم فِي أَن أمره لَهُ مَاء عذب حَاضر لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَطَعَام عَظِيم فَاضل لَا حَاجَة بِهِ إِلَيْهِ وَرَأى رجلا من عرض النَّاس أَو عبدا من عبيده يَمُوت جوعا وعطشاً فَلم يسقه وَلَا أطْعمهُ فَإِنَّهُ فِي غَايَة الْبُخْل وَالشح وَالْقَسْوَة وَالظُّلم وَالله تَعَالَى يرى كثيرا من عباده وَأَطْفَالًا من أطفالهم لَا ذَنْب لَهُم وهم يموتون جوعا وعطشاً وَعِنْده مخادع السَّمَاوَات وخزائن الأَرْض وَلَا يرحمهم بِنُقْطَة مَاء وَلَا لقْمَة طَعَام حَتَّى يموتوا كَذَلِك وَلَا يُوصف من أجل ذَلِك بشح وَلَا بخل وَلَا ظلم وَلَا قسوة بل هُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ والرحيم الْكَرِيم وَالَّذِي لَا يظلم وَلَا يجور كَمَا سمى نَفسه فَبَطل قياسهم الْفَاسِد فِي الصِّفَات الْغَائِب عِنْدهم على الشَّاهِد وَبَطل أَن يُوصف الله عز وَجل بشيءٍ من ذَلِك وَلَيْسَ لأحد أَن يحِيل الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة إِلَّا أَن يَأْتِي نَص بإحالة شيءٍ من ذَلِك فَيُوقف عِنْده وَمن تعدى هَذَا الحكم فَإِنَّهُ مُبْطل للتفاهم كُله نعم وللحقائق بأسرها إِلَّا أَنه لَا يعجز أحد عَن أَن يُسَمِّي الْبَاطِل حَقًا وَالْحق بَاطِلا وَأَن يحِيل الْأَسْمَاء كلهَا عَن موَاضعهَا وَهَذَا خُرُوج عَن الشَّرَائِع والمعقول ولكننا نقُول أَنه كريم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا يبعد عَنَّا أَن تسمى نعم الله على عباده كرماً وَأَن الله تَعَالَى كَرِيمًا نستحسن إِطْلَاق ذَلِك ونسميها أَيْضا فضلا
قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك فضل الله} وَقد ثَبت النَّص بِأَن لَهُ تَعَالَى كرماً وَحدثنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن خَالِد أَنا إِبْرَاهِيم بن أَحْمد أَنبأَنَا الْفربرِي أَنا البُخَارِيّ قَالَ لي خَليفَة بن خياط أَنا يزِيد بن زُرَيْع أَنا سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك وَعَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان سَمِعت أبي يحدث عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يزَال يلقى فِيهَا وَتقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين قدمه فيزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَتقول قد قد بعزتك وكرمك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد اضْطربَ النَّاس فِي السؤل عَن أَشْيَاء ذكروها وسألوا هَل يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهَا أم لَا واضطربوا أَيْضا فِي الْجَواب عَن ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن مينوم بحول الله وقوته وَجه تَحْقِيق السُّؤَال عَن ذَلِك وَتَحْقِيق الْجَواب فِيهِ دون تَخْلِيط وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن السُّؤَال إِذا حقق(2/136)
بِلَفْظ يفهم السَّائِل مِنْهُ مُرَاد نَفسه وَيفهم المسؤل مُرَاد السَّائِل عَنهُ فَهُوَ سُؤال صَحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ لَازم وَمن أجَاب عَنهُ بِأَن هَذَا سُؤال فَاسد وَأَنه محَال فَإِنَّمَا هُوَ جَاهِل بِالْجَوَابِ مُنْقَطع متسلل عَنهُ وَأما السُّؤَال الَّذِي يفْسد بعضه بَعْضًا وَينْقص آخِره أَوله فَهُوَ سُؤال فَاسد لم يُحَقّق بعد وَمَا لم يُحَقّق السُّؤَال عَنهُ فَلم يسائل عَنهُ وَمَا لم يسْأَل عَنهُ فَلَا يلْزم عَنهُ جَوَاب على مثله فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان فِي هَذَا الْمَعْنى لَا يشد عَنْهُمَا شَيْء مِنْهُ إِلَّا أَنه لَا بُد من جَوَاب بَيَان حوالته لَا على تَحْقِيقه وَلَا على تشكله وَلَا على توهمه وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
ثمَّ نحد المسؤل عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب بِحَدّ جامح بحول الله تَعَالَى وقوته فيرتفع الْإِشْكَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِه نتأيد أَن الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب إِن كَانَ إِنَّمَا سَأَلَ السَّائِل عَن الْقُدْرَة على إِحْدَاث فعل مُبْتَدأ أَو على إعدام فعل مُبْتَدأ فالمسئول عَنهُ مَقْدُور عَلَيْهِ وَلَا تحاشى شَيْئا وَالسُّؤَال صَحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ بنعم لَازم وَإِن كَانَ المسؤل عَنهُ مَا لَا ابْتِدَاء لَهُ فالسؤال عَن تَغْيِيره أَو إحداثه أَو عدامه سُؤال متفاسد لَا يُمكن السَّائِل عَنهُ فهم معنى سُؤَاله وَلَا تَحْقِيق سُؤَاله وَمَا كَانَ هَكَذَا لَا يلْزم الْجَواب عَنهُ على تَحْقِيقه وَلَا على تشكله لِأَن الْجَواب عَن التشكل لَا يكون إِلَّا عَن سُؤال وَلَيْسَ هَا هُنَا سُؤال أصلا ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد أَن من الْوَاجِب أَن نبين بحول الله تَعَالَى وقوته مَا الْمحَال وعَلى أَي معنى تقع هَذِه اللَّفْظَة وعماذا يعبر بهَا عَنهُ فَإِن من قَامَ بِشَيْء وَلم يعرف تَحْقِيق مَعْنَاهُ فَهُوَ فِي غَمَرَات من الْجَهْل فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن الْمحَال يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام لَا خَامِس لَهَا أَحدهَا محَال بِالْإِضَافَة وَالثَّانِي محَال فِي الْوُجُود وَالثَّالِث محَال فِيمَا بَيْننَا فِي بنية الْعقل عندنَا وَالرَّابِع محَال مُطلق فالمحال بِالْإِضَافَة مثل نَبَات اللِّحْيَة لِابْنِ ثَلَاث سِنِين وإحباله امْرَأَة وَكَلَام الأبله الغبي فِي دقائق الْمنطق وصوغه الشّعْر العجيب وَمَا أشبه هَذَا فَهَذِهِ الْمعَانِي مَوْجُودَة فِي الْعَالم مِمَّن هِيَ مُمكنَة مِنْهُ ممتنعة من غَيرهم وَأما الْمحَال فِي الْوُجُود فكا نقلاب الجماد حَيَوَانا وَالْحَيَوَان جماداً أَو حَيَوَانا آخر وكنطق الْحجر واختراع الْأَجْسَام وَمَا أشبه هَذَا فَإِن هَذَا كُله لَيْسَ مُمكنا عندنَا الْبَتَّةَ وَلَا مَوْجُودا وَلكنه متوهم فِي الْعقل متشكل فِي النَّفس كَيفَ كَانَ يكون لَو كَانَ وبهذين الْقسمَيْنِ تَأتي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي معجزاتهم الدَّالَّة على صدقهم فِي النُّبُوَّة وَأما الْمحَال فِيمَا بَيْننَا فِي بنية الْعقل فكون الْمَرْء قَائِما قَاعِدا مَعًا فِي حِين وَاحِد وكسؤال السَّائِل هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يَجْعَل الْمَرْء قَاعِدا لَا قَاعِدا مَعًا وَسَائِر مَا لَا يتشكل فِي الْعقل فِيمَا يَقع فِيهِ التَّأْثِير لَو أمكن فِيمَا دون الْبَارِي عز وَجل فَهَذِهِ الْوُجُوه الثَّلَاثَة من سَأَلَ عَنْهَا أيقدر الله تَعَالَى عَلَيْهَا فَهُوَ سُؤال صَحِيح مَفْهُوم مَعْرُوف وَجهه يلْزم الْجَواب عَنهُ بنعم إِن الله قَادر على ذَلِك كُله إِلَّا أَن الْمحَال فِي بنية الْعقل فِيمَا بَيْننَا لَا يكون الْبَتَّةَ فِي هَذَا الْعَالم لَا معْجزَة لنَبِيّ وَلَا بِغَيْر ذَلِك الْبَتَّةَ هَذَا وَاقع فِي النَّفس بِالضَّرُورَةِ وَلَا يبعد أَن يكون الله تَعَالَى يفعل هَذَا فِي عَالم لَهُ آخر وَأما الْمحَال الْمُطلق فَهُوَ كل سُؤال أوجب على ذَات الْبَارِي تغييراً فَهَذَا هُوَ الْمحَال لعَينه الَّذِي ينْقض بعضه بَعْضًا وَيفْسد آخِره أَوله وَهَذَا النَّوْع لم يزل محالاً فِي علم الله تَعَالَى وَلَا هُوَ مُمكن فهمه لَا حد وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ سؤالاً وَلَا سَأَلَ سائله عَن معنى أصلا وَإِذا لم يسْأَل فَلَا يَقْتَضِي جَوَابا على تَحْقِيقه أَو توهمه لَكِن يَقْتَضِي جَوَابا بنعم أَو لَا لِئَلَّا ينْسب بذلك إِلَى وصقه تَعَالَى بِعَدَمِ الْقُدْرَة الَّذِي هُوَ الْعَجز بِوَجْه أصلا وَإِن كُنَّا موقنين بضرورة الْعقل بِأَن الله تَعَالَى لم يَفْعَله(2/137)
قطّ وَلَا يَفْعَله أبدا وَهَذَا مثل من سَأَلَ أيقدر الله تَعَالَى على نَفسه أَو على أَن يجهل أَو على أَن يعجز أَو على أَن يحدث مثله أَو على إِحْدَاث مَالا أول لَهُ فَهَذِهِ سُؤَالَات تفْسد بَعْضهَا بَعْضًا تشبه كَلَام الممرورين والمجانين وَكَلَام من لَا يفهم وَهَذَا النَّوْع لم يزل الله تَعَالَى يُعلمهُ محالاً مُمْتَنعا بَاطِلا قبل حُدُوث الْعقل وَبعد حُدُوثه أبدا وَأما الْمحَال فِي الْعقل وَهُوَ الْقسم الثَّالِث الَّذِي ذكرنَا قبل فَإِن الْعقل مَخْلُوق مُحدث خلقه الله تَعَالَى بعد أَن لم يكن وَإِنَّمَا هُوَ قُوَّة من قوى النَّفس عرض مَحْمُول فِيهَا أحدثه الله تَعَالَى وأحدث رتبه على مَا هِيَ عَلَيْهِ مُخْتَارًا لذَلِك تَعَالَى وبضرورة الْعقل نعلم أَن من اخترع شَيْئا لم يكن قطّ لَا على مِثَال سلف وَلَا عَن ضَرُورَة أوجبت عَلَيْهِ اختراعه لَكِن اخْتَار أَن يَفْعَله فَإِنَّهُ قَادر على ترك اختراعه قَادر على اختراع غَيره مثله أَو خِلَافه وَلَا فرق بَين قدرته على بعض ذَلِك وَبَين قدرته على سائره فَكل مَا خلقه الله تَعَالَى محالاً فِي الْعقل فَقَط فَإِنَّمَا كَانَ محالاً مذ جعله الله تَعَالَى محالاً وَحين أحدث صُورَة الْعقل لَا قبل ذَلِك فَلَو شَاءَ تَعَالَى أَن لَا يَجعله محالاً لما كَانَ محالاً وَكَذَلِكَ من سَأَلَ هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يَجْعَل شَيْئا مَوْجُودا مَعْدُوما مَعًا فِي وَقت وَاحِد أَو جسماً فِي مكانين أَو جسمين فِي مَكَان وكل مَا أشبه هَذَا فَهُوَ سُؤال صَحِيح وَالله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك لَو شَاءَ أَن يكونه لكَونه وَمن الْبُرْهَان على ذَلِك مَا نرَاهُ فِي منامنا مِمَّا لَا شكّ فِيهِ أَنه محَال فِي حل الْيَقَظَة مُمْتَنع يَقِينا ونراه فِي منامنا مُمكنا محسوساً مرئياً ببصر النَّفس مسموعاً بسمعها فبالضرورة يدْرِي كل ذِي حس أَن الَّذِي حعل الْمحَال مُمكنا فِي النّوم كَانَ قَادِرًا على أَن يوجده مُمكنا فِي الْيَقَظَة وَكَذَلِكَ من سَأَلَ هَل الله تَعَالَى قَادر على أَن يتَّخذ ولدا فَالْجَوَاب أَنه تَعَالَى قَادر على ذَلِك (1) وَقد نَص عز وَجل على ذَلِك فِي الْقُرْآن قَالَ الله تَعَالَى {لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء} وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن لم يُطلق أَن الله عز وَجل يقدر على ذَلِك وَحسن قَوْله بِأَن قَالَ لَا يُوصف الله بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك فقد قطع بِأَن الله عز وَجل لَا يقدر إِذْ لَا وَاسِطَة فِيمَن يُوصف بِالْقُدْرَةِ على شَيْء مَا ثمَّ وصف فِي شَيْء آخر بِأَنَّهُ لَا يقدر عَلَيْهِ فقد خرج من أَنه لَا يقدر عَلَيْهِ وَإِذا وَجب أَن لَا يقدر فقد ثَبت أَنه عَاجز ضَرُورَة عَمَّا لَا يقدر عَلَيْهِ وَلَا بُد وَمن وصف الله تَعَالَى بِالْعَجزِ فقد كفر وَأَيْضًا فَإِن من قَالَ لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال فقد جعل قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متناهية وَجعل قوته عز وَجل مُنْقَطِعَة محدودة وملزومة بذلك ضَرُورَة أَن قوته تَعَالَى متناهية عرض وَأَنه تَعَالَى فَاعل بطبيعة فِيهِ متناهية وَهَذَا تَحْدِيد للباري عز وَجل وَكفر بِهِ مُجَرّد وادخال لَهُ فِي جملَة المخلوقين وَمعنى قَوْلنَا إِن لله تَعَالَى يقدر على الْمَعْدُوم وعَلى الْمحَال إِنَّمَا هُوَ مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ أَن سُؤال السَّائِل عَن الْمحَال وَعَن الْمَعْدُوم هُوَ بِلَا شكّ سُؤال مَوْجُود مسموع ملفوظ بِهِ فجوابنا(2/138)
هُوَ أَنا حققنا أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يخلق لذَلِك اللَّفْظ معنى يوجده وَهَذَا جَوَاب صَحِيح مَعْقُول وَهَذَا قَوْلنَا وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا القَوْل وَقَول على الأسواري الَّذِي يَقُول أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على غير مَا علم أَنه يَفْعَله جمله وَأما من خَالَفنَا وَخَالف الأسواري فَلَا بُد لَهُ من الرُّجُوع إِلَى قَوْلنَا أَو الْوُقُوع فِي قَول الأسواري وَإِن زعم لِأَنَّهُ مَتى مَا وصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على شَيْء لم يَفْعَله من إِبْرَاء مَرِيض أَو خلق شَيْء أَو تَحْرِيك شَيْء سَاكن فَإِنَّهُ قدر وَصفه بِالْقُدْرَةِ على إِحَالَة علمه وَتَكْذيب حكمه وَهَذَا هُوَ الْمحَال فقد قَالَ بقولنَا وَلَا بُد أَو يَقُول الأسواري وَلَا بُد وأمل كل سُؤال أدّى إِلَى القَوْل فِي ذَاته عز وَجل فإننا نقُول ن كل مَا سَأَلَ عَنهُ سَائل لَا نحاشي شَيْئا فَإِن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ غير عَاجز عَنهُ إِلَّا أَن من السؤالات سُؤَالَات لَا يسْتَحل سماعهَا وَلَا يسْتَحل النُّطْق بهَا وَلَا يحل الْجُلُوس حَيْثُ يلفظ بهَا وَهِي كل مَا فِيهَا كفر بالباري تَعَالَى واستخفاف بِهِ أَو بِنَبِي من أنبيائه أَو بِملك من مَلَائكَته أَو بِآيَة من آيَاته عز وَجل قَالَ عز وَجل {إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} وَقَالَ عز وَجل {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَو أَن سَائِلًا سالنا هَل الله قَادر على أَن يمسخ هَذَا الْكَافِر قردا وكلبا لقلنا نعم وَلَو أَنه أَرَادَ أَن يسألنا هَذَا السُّؤَال فِيمَن يلْزمنَا تعظيه من ملك أَو نَبِي أَو صَاحب نَبِي أَو مُسلم فَاضل لم يحل لنا الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ وَلَكنَّا قد أجبناه جَوَابا كَافِيا لِأَن الله تَعَالَى قَادر على كل مَا يسْأَل عَنهُ لَا نحاشي شَيْئا فَمن تَمَادى بعد هَذَا الْجَواب الْكَافِي فَإِنَّمَا غَرَضه التشنيع فَقَط والتمويه وَهَذَانِ من دَلَائِل الْعَجز عَن المناظرة والانقطاع وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب على أَقسَام فمبدؤها قَول من قَالَ لَا يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على غير مَا يفعل وَهُوَ قَول على الأسواري أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَاعْلَمُوا أَنه لَا بُد لكل من منع من أَن يقدر الله تَعَالَى على محَال أَو على شَيْء بِمَا يسال عَنهُ السَّائِل فَلَا بُد ضَرُورَة من الْمصير إِلَى هَذَا القَوْل أَو ظُهُور تناقضه وتفاسد قَوْله وَخُرُوجه إِلَى الْمحَال البحت الَّذِي فر عَنهُ بِزَعْمِهِ على مَا نبينه بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قَالَت طَائِفَة بِمَعْنى هَذَا القَوْل إِلَّا أَنَّهَا استشنعت عبارَة الأسواري فَقَالَت إِن الله تَعَالَى قَادر على كل شَيْء وَلَكِن إِن سَأَلنَا سَائل فَقَالَ أيقدر الله تعاى على أَمر كَذَا مَعَ تقدم علمه بِأَنَّهُ لَا يكون قَالُوا فَالْجَوَاب أَنه تَعَالَى لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لإخفاء لأَنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شَيْء وَاحِد وَهُوَ الْبَاطِل بِلَا خَفَاء وَقَالَت طَائِفَة إِن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل إِلَّا أَنه لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على أصلح مِمَّا فعل بعباده وَهُوَ قَول جُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَقَالَت طَائِفَة إِن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل إِلَّا أَنه لَا يقدر على الظُّلم وَلَا على الْجور وَلَا على اتِّخَاذ الْوَلَد وَلَا على إِظْهَار معْجزَة على يَد كَذَّاب وَلَا على شَيْء من الْمحَال وَلَا على نسخ التَّوْحِيد وَهَذَا قَول النظام وَأَصْحَابه والأشعرية وَإِن كَانُوا مُخْتَلفين فِي مائية الظُّلم وَقَالَت طَائِفَة أَن الله تَعَالَى قَادر على غير مَا فعل وعَلى الْجور وَالظُّلم وَالْكذب إِلَّا أَنه لَا يقدر على الْمحَال مثل أَن يَجْعَل الشَّيْء(2/139)
مَعْدُوما مَوْجُودا مَعًا وَقَائِمًا قَاعِدا مَعًا أَو فِي مكانين مَعًا وَهَذَا قَول الْبَلْخِي وَطَوَائِف من الْمُعْتَزلَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل الْإِسْلَام كلهم وَمن سلف من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ قبل أَن تحدث هَذِه الضلالات وَهَذَا الْإِقْدَام الشنيع الَّذِي لَوْلَا ضلال من ضل بِهِ مَا انْطَلَقت ألسنتنا بِهِ وَلَا سمحت أَيْدِينَا بكتابته وَلَكنَّا نحكيه حِكَايَة الله ضلال من ضل فَقَالَ الْمَسِيح ابْن الله والعزيز إِبْنِ الْوَلِيد وَيَد الله مغلولة وَالله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء وَإِذ قَالَ للْإنْسَان اكفر وكما أنذر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن النَّاس لَا يزالون يتساءلون فِيمَا بَينهم حَتَّى يَقُولُوا هَذَا الله خلق الْخلق فَمن خلق الله فَقَوْل أهل الْإِسْلَام عامتهم وخاصتهم قبل مَا ذكرنَا هُوَ أَن الله تَعَالَى فعال لما يَشَاء وعَلى كل شَيْء قدير وَبِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وكل مسئول عَنهُ وَإِن بلغ الْغَايَة من الْمحَال فهم أَو لم يفهم فَالله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ لي بَعضهم أَن الْقُرْآن نما جَاءَ بِأَن الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَنحن لَا ننكر هَذَا وَإِنَّمَا نمْنَع من أَن يُوصف الله تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على مَا لَا يَشَاء وبالقدرة على مَا لَيْسَ بِشَيْء فَقلت لَهُ قد قَالَ الله تَعَالَى يرْزق من يَشَاء وَيقدر فَعم عز وَجل وَلم يخص فَلَا يحل لأحد تَخْصِيص قدرته تَعَالَى أصلا وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} وَقَالَ تَعَالَى {نَحن بمسبوقين على أَن نبدل أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم بلَى} وَقَالَ تَعَالَى عَن نوح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جناتٍ وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} قَالَ تَعَالَى {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} وَقَالَ تَعَالَى {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَهَذَا نَص على أَن يفعل خلاف مَا سبق علمه من هدى من علم أَن لَا يهديه وَمن تَعْذِيب من علم أَنه لَا يعذب أبدا وتبديل أَزوَاج قد علم أَنه لَا يبدلهن أبدا وكل هَذَا نَص على قدرته على إبِْطَال علمه الَّذِي لم يزل وعَلى تَكْذِيب قَوْله الَّذِي لَا يكذب أبدا وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير فَمن أعجب قولا وَأتم ضَلَالَة مِمَّن يُوجب بقوله إِن الله تَعَالَى كذب وَأَنه تَعَالَى مَعَ ذَلِك غير قَادر على الْكَذِب مَعَ قَوْله تَعَالَى {عِنْد مليك مقتدر} وَقَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الْعَلِيم الْقَدِير} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّه كَانَ عليماً قَدِيرًا} فَأطلق تَعَالَى لنَفسِهِ الْقُدْرَة وَعم وَلم يخص فَلَا يجوز تَخْصِيص قدرته بوحه من الْوُجُوه قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا يؤمنكم إِذْ هُوَ تَعَالَى قَادر على الظُّلم وَالْكذب والمحال من أَن يكون قد فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَتبْطل الْحَقَائِق كلهَا وَلَا تصح وَيكون كل مَا أخبرنَا بِهِ كذبا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وجوابنا فِي هَذَا هُوَ أَن الَّذِي أمننا من ذَلِك ضَرُورَة الْمعرفَة الَّتِي قد وصفهَا الله تَعَالَى فِي نفوسنا كمعرفتنا أَن ثَلَاثَة أَكثر من اثْنَيْنِ وَأم الْمُمَيز مُمَيّز والأحمق أَحمَق وَأَن النَّحْل لَا يحمل زيتوناً(2/140)
وَأَن الْحمير لَا تحمل جمالاً وَأَن البغال لَا تَتَكَلَّم فِي النَّحْو وَالشعر والفلسفة وَسَائِر مَا اسْتَقر فِي النُّفُوس علمه ضَرُورَة وَإِلَّا فليخبرونا مَا الَّذِي أَمنهم مَا ذكرنَا وَلَعَلَّه قد كَانَ أَو سَيكون وَلَا فرق فَإذْ قد صَحَّ إطباق كل من يقر بِاللَّه من جَمِيع الْملَل أَن هَذَا الْعَالم لَيْسَ فِي بنيته كَون الْمحَال الْمَذْكُور فِيهِ مَعَ مُوَافَقَته أَكثر الْمُخَالفين لنا على أَن هَذَا كُله فَإِن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ وَلَكِن لَا يَفْعَله فَالَّذِي أَمنهم من أَنه تَعَالَى يَفْعَله هُوَ الَّذِي أمننا من أَن نَفْعل مَا قَالُوا لنا فِيهِ لَعَلَّه قد فعله أَو سيفعله وَلَا فرق وَإِن هَذَا الْعَالم لَيْسَ فِي بنيته كَون الْمحَال الْمَذْكُور فِيهِ وَأَنه تَعَالَى لَا يجور وَلَا يكذب وبالضرورة الْمُوجبَة علمنَا القَوْل بحدوث الْعَالم وَبِأَن لَهُ صانعاً لَا يُشبههُ لم يزل وَبَان مَا ظهر من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَمن عِنْده تَعَالَى وَأَن تِلْكَ المعجزات مُوجبَة تصديقهم وهم أخبرونا أَن الله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يظلم وَأَنه تَعَالَى قد أخبرنَا بِأَنَّهُ قد تمت كَلِمَاته صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته وَأَنه تَعَالَى قَادر وَلَيْسَ كل مَا يقدر عَلَيْهِ يَفْعَله فَإِن كَانَ السَّائِل من هَذَا متديناً بدين الْإِسْلَام أَو النَّصَارَى أَو الْيَهُود أَو الْمَجُوس أَو الصابئين أَو البراهمة أَو كل من يدين بِأَن الله حق فَإِنَّهُم مجمعون على أَنه تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يظلم وكل من نفى الْخَالِق فَلَيْسَ فيهم أحد يَقُول أَنه يظلم أَو يكذب فقد صَحَّ إطباق جَمِيع سكان الأَرْض قَدِيما وحديثاً لَا نحاشي أحدا على أَن الله تَعَالَى لَا يظلم وَلَا يكذب فَلَو لم يَكُونُوا مضطرين إِلَى القَوْل بِهَذَا لوجد فيهم وَلَو وَاحِد يَقُول بِخِلَاف ذَلِك وَمن الْمحَال أَن تَجْتَمِع طبائعهم كلهم على هَذَا إِلَّا لضَرُورَة وَضعهَا الله عز وَجل فِي نُفُوسهم كضرورتهم إِلَى معرفَة مَا أدركوه بحواسهم وبداية عُقُولهمْ وَأَيْضًا فَنَقُول لمن سَأَلَ هَذَا السُّؤَال أيمكن أَن يكون إِنْسَان فِي النَّاس قد توسوس وأوهمته ظنونه الكاذبة وتخيله الْفَاسِد وهوسه أَن الْأَشْيَاء على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِن النَّاس على خلاف مَا هم عَلَيْهِ وَيتَصَوَّر عِنْده هَذَا الظَّن الْفَاسِد أَنه حق لَا يشك فِيهِ أم لَيْسَ يُمكن أَن يكون هَذَا فِي الْعَالم فَإِن قَالُوا لَا يُمكن أَن يكون هَذَا الْعَالم أَتَوا بالمحال البحت وكابروا وَإِن قَالُوا بل هُوَ مُمكن مَوْجُود فِي النَّاس كثير من هَذِه صفته قيل لَهُم فَمَا يؤمنكم من أَن تَكُونُوا بِهَذِهِ الصّفة ونقول لمن يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم مِنْهُم أيقدر الله تَعَالَى على أَن يحِيل حواسك كَمَا فعل بِصَاحِب الصَّفْرَاء الَّذِي يجد الْعَسَل مرا كالعلقم وبصاحب ابْتِدَاء المَاء النَّازِل فِي عَيْنَيْهِ فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لما وَكَمن فِي سَمعه آفَة فَهُوَ يسمع طنيناً لَا حَقِيقَة لَهُ أم لَا يقدر فَإِن قَالُوا يقدر لَهُ فَمَا يُؤمنك من أَنَّك بِهَذِهِ الصّفة فَإِن قَالَ أَن كل من يحضرني يُخْبِرنِي بِأَن لست من أهل هَذِه الصّفة قيل لَهُ وَهَكَذَا يظنّ ذَلِك الموسوس وَلَا فرق فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَقُول إِنِّي أرى أَنِّي بِخِلَاف هَذِه الصّفة ضَرُورَة علما يَقِينا قُلْنَا لَهُ بِمثل هَذَا سَوَاء بِسَوَاء أمنا أَن يكون الله يظلم أَو يكذب أَو يحِيل طبيعة لغير نَبِي يفعل الْمحَال مَعَ قدرته على ذَلِك وَلَا فرق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال لجَمِيع هَذِه الْفرق حاشا من قَالَ بقول عَليّ الأسواري هَل شنعتم عَليّ الأسواري لِأَنَّهُ إِذا وصف الله تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يقدر على غير مَا فعل فقد وَصفه تَعَالَى بِالْعَجزِ وَلَا بُد فَلَا بُد من نعم فَيُقَال لَهُم فَإِن هَذَا نَفسه لَازم لكم فِي قَوْلكُم بِأَنَّهُ لَا يقدر على الظُّلم وَالْكذب وَلَا على الْمحَال وَلَا على نَفسه أَولا أصلح مِمَّا فعل بعباده ضَرُورَة لَا ينفكون من ذَلِك فَإِن قُلْتُمْ إِن هَذَا لَا يلْزمنَا قيل لكم وَلَا يعجز عَليّ الأسواري عَن أَن يَقُول أَيْضا أَن هَذَا لَا يلْزَمنِي وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ وَيُقَال لَهُم إِذا أخبر الله عز وَجل أَنه سيقيم السَّاعَة وسيميت زايدا يَوْم(2/141)
كَذَا يقدر أَن لَا يميته فِي ذَلِك الْيَوْم وعَلى أَن يميته قبل ذَلِك الْيَوْم أم لَا فَإِن قَالُوا لَا لَحِقُوا بقول الأسواري وَإِن قَالُوا نعم أقرُّوا أَنه يقدر على تَكْذِيب قَوْله وَهَذَا هُوَ الْقُدْرَة على الْكَذِب الَّتِي أبطلوا وَنِسَائِهِمْ أَيْضا إِذْ أمرنَا الله تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَمِنْه مَا قد علم أَنه لَا يُجيب الدَّاعِي بِهِ هَل أمرنَا بِالدُّعَاءِ من ذَلِك فِيمَا لَا يَسْتَطِيع وَلَا يقدر عَلَيْهِ أم فِيمَا يقدر عَلَيْهِ فَإِن قَالُوا فِيمَا لَا يقدر عَلَيْهِ لَحِقُوا بالأسواري وأوجبوا على الله تَعَالَى القَوْل بالمحال إِذْ زَعَمُوا أَنه أمرنَا بِأَن نرغب إِلَيْهِ فِي أَن يفعل مَا لَا يقدر عَلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَإِن قَالُوا بل فِيمَا يقدر عَلَيْهِ أقرُّوا أَنه يقدر على إبِْطَال علمه وَالَّذِي يدْخل هَذَا الَّذِي هُوَ الْكفْر الْمُجَرّد من إبِْطَال دَلَائِل التَّوْحِيد وَإِبْطَال حُدُوثه الْعَالم وَخلاف الْإِجْمَاع غير قَلِيل فَإِن قَالَ عَليّ الأسواري لَا يلْزَمنِي إِثْبَات الْعَجز بِنَفْي الْقُدْرَة بل أنفي عَنهُ الْأَمريْنِ جَمِيعًا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُم أَن نفيكم عَنهُ تَعَالَى الْحَرَكَة لَا يلْزمه السّكُون وَنفي السّكُون لَا يلْزمه الْحَرَكَة كَمَا تنفون عَنهُ الضدين جَمِيعًا من الشجَاعَة والجبن وَسَائِر الصِّفَات الَّتِي نفيتموها وأضدادها
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذَا تمويه ضَعِيف لأننا نَحن فِي نفي هَذِه الصِّفَات عَنهُ تَعَالَى جارون على سنَن وَاحِد فِي نفي جَمِيع صِفَات المخلوقين عَنهُ كلهَا وَأَنْتُم قد أثبتم لَهُ قدرَة على أَشْيَاء ونفيتم عَنهُ قدرَة على غَيرهَا فَوَجَبَ ضَرُورَة إِثْبَات الْعَجز عَنهُ فِي الْأَشْيَاء الَّتِي وصفتموه بِعَدَمِ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَأما نَحن فَلَو وصفناه بالشجاعة فِي شَيْء أَو بالحركة فِي وَجه مَا أَو وصفناه بِالْعقلِ فِي شَيْء مَا ثمَّ نَفينَا عَنهُ الصِّفَات فِي وَجه آخر للزمنا حَيْثُ وصفناه بِشَيْء مِنْهَا نفي ضدها وللزمنا حَيْثُ نَفينَا عَنهُ ضدها أَن نثبتها لَهُ وَلَا بُد كَمَا فعلنَا فِي الرَّحْمَة والسخط فإننا إِذا وصفناه بِالرَّحْمَةِ لأبي بكر الصّديق فقد نَفينَا عَنهُ عز وَجل السخط عَلَيْهِ وَإِذا نَفينَا عَنهُ الرَّحْمَة لأبي جهل فقد أثبتنا لَهُ بذلك السخط عَلَيْهِ وَهَذَا برهَان ضَرُورِيّ فَإِن موه مموه فَقَالَ ألستم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى لَا يعلم الْحَيّ مَيتا فَهَل تثبتون لَهُ بِنَفْي الْعلم هَا هُنَا الْجَهْل قُلْنَا لَهُ وَهَذَا أَيْضا تمويه آخر بل أَوجَبْنَا لَهُ بذلك الْعلم حَقًا لأننا إِذا نَفينَا عَنهُ الْعلم مَا الْأَشْيَاء فقد أثبتنا لَهُ تَعَالَى الْعلم بِحَقِيقَة مَا الْأَشْيَاء وَهل هَا هُنَا شَيْء يجهل أصلا وَإِنَّمَا الْجَهْل بِشَيْء حق الْجَاهِل بِهِ فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد قُلْنَا لمن ناظرنا مِنْهُم أَنكُمْ تنسبون لله تَعَالَى علما لم يزل فأخبرونا هَل يقدر الله تَعَالَى على أَن يُمِيت الْيَوْم من علم أَنه لَا يميته إِلَّا غَدا وَهل يقدر ربكُم على أَن يزِيل الْآن بنية عَن مَكَان قد علم أَنَّهَا لَا تَزُول عَنهُ إِلَّا غَدا وعَلى رَحْمَة من مَاتَ مُشْركًا مَعَ قَوْله تَعَالَى إِنَّه لَا يرحمه أصلا أم لَا يقدر على ذَلِك فَقَالَ لنا مِنْهُم قَائِل أَن الله تَعَالَى قَادر على ذَلِك فَقُلْنَا لَهُ قد أقررتم أَنه يقدر على إحاطة علمه الَّذِي لم يزل وعَلى تَكْذِيب كَلَامه وَهَذَا إبِْطَال قَوْلكُم صراحاً وَقَالَ مِنْهُم قَائِلُونَ أَنه تَعَالَى قَادر على ذَلِك وَلَو فعله لَكَانَ قد سبق فِي علمه أَنه سَيكون كَمَا فعل فَقُلْنَا لَهُم لم نسألكم إِلَّا هَل يقدر على ذَلِك مَعَ تقدم علمه أَنه لَا يكون فضجروا هَا هُنَا وانقطعوا ولجأ بَعضهم إِلَى الْقطع بقول على الأسواري فِي أَنه لَا يقدر على ذَلِك فَقُلْنَا لَهُم إِذا كَانَ تَعَالَى لَا يقدر على شَيْء غير مَا فعل وَلَا على نقل بنية عَن موضعهَا فَهُوَ إِذا مُضْطَر مجبر أَو ذُو طبيعة جَارِيَة على سنَن وَاحِد نعم وَيلْزم الأسواري وَمن قَالَ بقوله إِن استطاعة الله لَيست قبل فعله الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ فعله وَلَا بُد لِأَنَّهُ لَو كَانَ مستطيعاً قبل الْفِعْل لَكَانَ قَادِرًا على أَن يفعل فِي الْوَقْت الَّذِي علم أَنه لَا يفعل فِيهِ وَهَذَا خلاف قَوْله نصا وَهُوَ يَقُول إِن الْإِنْسَان(2/142)
مستطيع قبل الْفِعْل فَهُوَ أتم طَاقَة وقدرة من الله تَعَالَى وَيلْزمهُ أَيْضا القَوْل بحدوث قدرَة الله تَعَالَى وَلَا بُد إِذْ لَو كَانَت قدرته لم تزل لَكَانَ قَادِرًا على الْفِعْل قبل أَن يفعل وَلَا بُد وَهَذَا خلاف قَوْله وَهَذَا كفر مُجَرّد إِذْ يَقُول إِن الْإِنْسَان قَادر على غير مَا علم الله تَعَالَى أَن يَفْعَله وَالله تَعَالَى لَا يقدر على ذَلِك فَإِن هَؤُلَاءِ جمعُوا إِلَى تعجيز رَبهم القَوْل بِأَنَّهُم أقوى مِنْهُ وَهَذَا على أَشد مَا يكون من الْكفْر والشرك والحماقة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكلهمْ يَقُول بِهَذَا الْمَعْنى لِأَن جَمِيعهم يَقُول إِن كل مَخْلُوق فَهُوَ قَادر على كل مَا يَفْعَله من اتِّخَاذ ولد وحركة وَسُكُون وَغير ذَلِك وَأَن الْبَارِي لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك وَهَذَا كفر وَحش جدا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسألناهم أَيْضا فَقُلْنَا لَهُم أتقرون أَن الله تَعَالَى لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق أم تَقولُونَ أَنه لم يزل غير قَادر على أَن يخلق ثمَّ قدر فَقَوْل كل من لَقينَا مِنْهُم وَقَول جَمِيع أهل الْإِسْلَام أَن الله عز وَجل لم يزل قَادِرًا على أَن يخلق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وهم وَجَمِيع أهل الْإِسْلَام منكرون على من قَالَ من أهل الْإِلْحَاد أَن الله تَعَالَى لم يزل خَالِقًا قاطعون بِأَن لم يزل يخلق محَال متفاسد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد صدقُوا فِي ذَلِك إِلَّا أَنهم إِذْ أقرُّوا أَن قَول من قَالَ أَنه لم يزل يخلق محَال وأقروا أَنه لم يزل قَادِرًا على ذَلِك فقد أفروا بِصِحَّة قَوْلنَا وَأَنه تَعَالَى قَادر على الْمحَال وَلَا بُد من هَذَا وَالْكفْر وَالْقَوْل بِأَنَّهُ تَعَالَى لم يزل غير قَادر وَالْحَمْد لله على هداه لنا إِلَى الْحق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وسألناهم أَيْضا فَقُلْنَا لَهُم هَل يجوز عنْدكُمْ أَن يَدعِي الله تَعَالَى فِي أَن يفعل مَا لَا يقدر على سواهُ أَو فِي أَن لَا يفعل مَا لَا يقدر على فعله فَإِن قَالُوا نعم أَتَوا بالمحال وَإِن قَالُوا لَا يجوز ذَلِك قيل لَهُم فقد أمرنَا الله تَعَالَى أَن نَدْعُوهُ فَنَقُول رب احكم بِالْحَقِّ وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ وَهُوَ عنْدكُمْ لَا يقدر على الحكم بِغَيْر الْحق وَلَا أَن يحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عجائب الدُّنْيَا أَنهم يسمعُونَ الله تَعَالَى يَقُول {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} و {أَن الله ثَالِث ثَلَاثَة} و {إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} و {إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} و {يَد الله مغلولة} و {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر} وَلَا يشك مُسلم فِي أَن هَذَا كُله كذب فَأَي حَمَاقَة أشنع من قَول من قَالَ إِن الله قَادر على أَن يَقُول كل ذَلِك حاكياً وَلَا يقدر أَن يَقُوله من غير أَن يَقُول مَا قيل هَذِه الْأَقْوَال من إضافتها إِلَى غَيره وَهَذَا قَول يَعْنِي ذكره وسخافته عَن تكلّف الرَّد عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ثمَّ سألناهم فَقُلْنَا لَهُم من أَيْن علمْتُم أَن الله تَعَالَى لَا يقدر على الْكَذِب أَو الْمحَال أَو الظُّلم أَو غير مَا فعل فَلم تكن لَهُم حجَّة أصلا إِلَى أَن قَالُوا لَو قدر على شَيْء من ذَلِك لما أمنا أَن يكون فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَقُلْنَا لَهُم وَمن أَيْن أمنتم أَن يكون قد فعله أَو لَعَلَّه سيفعله فَلم تكن لَهُم حجَّة أصلا إِلَّا أَن قَالُوا لِأَنَّهُ لَا يقدر على فعله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَحصل من هَذَا أَن حجتهم أَنه تَعَالَى لَا يقدر على الظُّلم وَالْكذب والمحال وَغير مَا فعل أَنه لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك فاستدلوا على قَوْلهم بذلك القَوْل نَفسه وَهَذِه سفسطة تَامَّة وحماقة ظَاهِرَة وَجَهل قوي لَا يرضى بِهِ لنَفسِهِ إِلَّا سخيف الْعقل ضَعِيف الدّين فَلَا ضَرُورَة من أَن يرجِعوا إِلَى قَوْلنَا فِي أَنه بِالضَّرُورَةِ علمنَا أَنه تَعَالَى لَا يفعل شَيْئا من ذَلِك كَمَا(2/143)
علمناأن زريعة الْعِنَب لَا يخرج مِنْهَا الْجَوْز وَأَن مَاء الْفرس لَا يتَوَلَّد مِنْهَا جمل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما نَحن فَإِن برهاننا على صِحَة قَوْلنَا أَن الْبُرْهَان قد قَامَ على أَنه تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه فِي شَيْء من الْأَشْيَاء والخلق عاجزون عَن شَيْء كثير من الْأُمُور وَالْعجز من صفة المخلوقين فَهُوَ منفي عَن الله عز وَجل حَملَة وَلَيْسَ فِي الْخلق قَادر بِذَاتِهِ على كل مسئول عَنهُ فَوَجَبَ أَن الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الَّذِي يقدر على كل مسئول عَنهُ وَكَذَلِكَ الْكَذِب وَالظُّلم من صِفَات المخلوقين فَوَجَبَ يَقِينا أَنَّهُمَا منفيان عَن الْبَارِي تَعَالَى فَهَذَا هُوَ الَّذِي أمننا من أَن يظلم أَو يكذب أَو يفعل غير مَا علم أَنه يَفْعَله وَإِن كَانَ تَعَالَى قَادِرًا على ذَلِك وَقُلْنَا لَهُم أَيْضا إِذا كَانَ عز وَجل لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على إبِْطَال علمه فَكَانَ لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على إماتته الْيَوْم من علم أَنه لَا يميته إِلَّا غَدا لِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَلَو كَانَ لَهُ على ذَلِك قدرَة لوصف بهَا فَإِذا جَاءَ غَد فأماته فَلهُ قدرَة على إماتته حينئذٍ فقد حدثت لَهُ قدرَة بعد إِن لم تكن وَهَذَا يُوجب أَن قدرته تَعَالَى حَادِثَة (1) وَهَذَا خلاف قَوْلهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَفِي هَذَا أَيْضا محَال آخر وَهُوَ أَنه إِذا حدثت لَهُ قدرَة بعد إِن لم تكن فَمن أحدثها لَهُ أهوَ أحدثها لنَفسِهِ أم غَيره أحدثها لَهُ أم حدثت بِلَا مُحدث فَإِن قَالُوا هوأحدثها لنَفسِهِ سئلوا بِلَا قدرَة وأحدث لنَفسِهِ الْقُدْرَة أم بقدرة أُخْرَى فَإِن قَالُوا أحدث لنَفسِهِ قدرَة بِلَا قدرَة أَتَوْ بالمحال وَإِن قَالُوا بل بقدرة اثبتوا قدرَة لم تزل بِخِلَاف قَوْلهم وَإِن قَالُوا غَيره أحدثها لَهُ أَو حدثت بِلَا مُحدث لَحِقُوا بقول الدهرية وَكَفرُوا وَفِي قَوْلهم هَذَا من خلاف الْمَعْقُول وَخلاف الْقُرْآن وَخلاف الْبُرْهَان مَا يضيق بِهِ نفوس الْمُؤمنِينَ وَالْحَمْد لله على معافاته لنا مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وَقَالُوا لَو فعل تَعَالَى كل ذَلِك كَيفَ كَانَ يُسمى فَقُلْنَا هَذَا سُؤال سخيف عَمَّا لَا يكون أبدا وَهُوَ كمن سَأَلَ لَو طَار الْإِنْسَان كم ريشة كَانَت تكون لَهُ وماأشبه هَذَا من الحماقة الْمَأْمُون كَونهَا ونسمية الْبَارِي تَعَالَى إِلَيْهِ لَا إِلَيْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل العلاف إِن لما يقدر الله تَعَالَى عَلَيْهِ كلا وآخرا كَمَا لَهُ أول فَلَو خرج آخِره إِلَى الْفِعْل وَلَا يخرج لم يكن الله تَعَالَى قَادِرًا على شَيْء أصلا وَلَا على فعل شيءٍ بِوَجْه من الْوُجُوه وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الكعبي مَا نعلم أحدا يعْتَقد هَذَا الْيَوْم إِلَّا يحي بن بشر الأرجاني وَادّعى أَن أَبَا الْهُذيْل تَابَ عَن هَذَا القَوْل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ لِأَنَّهُ يجوز على ربه تَعَالَى الْكَوْن فِي صفة الجماد أَو الْمَحْذُور المفلوج مَعَ صِحَة الْإِجْمَاع(2/144)
على خلاف هَذَا القَوْل الْفَاسِد مَعَ خِلَافه لِلْقُرْآنِ ولموجب الْعقل وبديهته كَذَا عِنْده وَأَظنهُ لقد شبهه تَعَالَى بالمخلوقين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الأسواري فَجعل ربه تَعَالَى مُضْطَرّا بِمَنْزِلَة الجماد وَلَا فرق لَا قدرَة لَهُ على غير مَا فعل وَهَذِه حَال دون حَال البق والبراغيث وَأما أَبُو الْهُذيْل فَجعل قدرَة ربه تَعَالَى متناهية بِمَنْزِلَة المختارين من خلقه وَهَذَا من التَّشْبِيه حَقًا وَأما النظام والأشعرية فَكَذَلِك أَيْضا وَجعلُوا قدرَة رَبهم تَعَالَى متناهية يقدر على شَيْء وَلَا يقدر على آخر وَهَذِه صفة أهل النَّقْص وَأما سَائِر الْمُعْتَزلَة فوصفوه تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا نِهَايَة لما يقدر عَلَيْهِ من الشَّرّ وَأَن قدرته على الْخَيْر متانهية وَهَذِه صفة شَرّ وطبيعة خبيثة جدا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا إِلَّا بشر بن الْمُعْتَمِر فَقَوله فِي هَذَا كَقَوْل أهل الْحق وَهُوَ أَن لَا تتناهى قدرته أصلا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(2/145)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْكَلَام فِي الرُّؤْيَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهبت الْمُعْتَزلَة وجهم بن صَفْوَان إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا يرى فِي الْآخِرَة وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن مُجَاهِد وعذره فِي ذَلِك أَن الْخَبَر لم يبلغ إِلَيْهِ وروينا هَذَا القَوْل أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة وَقد رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَالْحسن إِيجَاب الرُّؤْيَة لَهُ تَعَالَى وَذَهَبت المجسمة إِلَى أَن الله تَعَالَى يرى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَذهب جُمْهُور أهل السّنة والمرجئة وَضِرَار بن عَمْرو من الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن الله تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة وَلَا يرى فِي الدُّنْيَا أصلا وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد النجار هُوَ جَائِز وَلم يقطع بِهِ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد أما قَول المجسمة ففاسد بِمَا تقدم من كلامنا فِي هَذَا الْكتاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وعمدة من أنكر أَن الرُّؤْيَا الْمَعْهُودَة عندنَا لَا تقع إِلَّا على الألوان لَا على مَا عَداهَا الْبَتَّةَ وَهَذَا مبعد عَن الْبَارِي عز وَجل وَقد احْتج من أنكر الرُّؤْيَة علينا بِهَذِهِ الْحجَّة بِعَينهَا وَهَذَا سوء وضع مِنْهُم لأننا لم نقل قطّ يتجويز هَذِه الرُّؤْيَة على الْبَارِي عز وَجل وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه تَعَالَى يرى فِي الْآخِرَة بِقُوَّة غير هَذِه الْقُوَّة الْمَوْضُوعَة فِي الْعين الْآن لَكِن بِقُوَّة موهوبة من الله تَعَالَى وَقد سَمَّاهَا بعض الْقَائِلين بِهَذَا القَوْل الحاسة السَّادِسَة وَبَيَان ذَلِك أننا نعلم الله عز وَجل بقلوبنا علما صَحِيحا هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ فَيَضَع الله تَعَالَى فِي الْأَبْصَار قُوَّة تشاهد بهَا الله وَترى بهَا كَالَّتِي وضع فِي الدُّنْيَا فِي الْقلب وكالتي وَضعهَا الله عز وَجل فِي أذن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى شَاهد الله وسَمعه مكلماً لَهُ واحتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله عز وَجل {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا نفى الْإِدْرَاك والإدراك عندنَا فِي اللُّغَة معنى زَائِد على النّظر والرؤية وَهُوَ معنى الْإِحَاطَة وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنى فِي النّظر والرؤية فالإدراك منفي عَن الله تَعَالَى على كل حَال فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهدين}
فَفرق الله عز وَجل بَين الْإِدْرَاك والرؤية فرقا جلياً لِأَنَّهُ تَعَالَى أثبت الرُّؤْيَة بقوله {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ} وَأخْبر تَعَالَى أَنه رأى بَعضهم بَعْضًا فَصحت مِنْهُم الرُّؤْيَا لبني إِسْرَائِيل وَنفى الله الْإِدْرَاك بقول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَهُم {كلا إِن معي رَبِّي سيهدين} فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه رأى أَصْحَاب(3/2)
فِرْعَوْن بني إِسْرَائِيل وَلم يدركوهم وَلَا شكّ فِي أَن مَا نَفَاهُ الله تَعَالَى عز وَجل فَهُوَ غير الَّذِي أثْبته فالإدراك غير الرُّؤْيَة وَالْحجّة لقولنا هُوَ قَول الله تَعَالَى {وُجُوه يومئذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} وَاعْترض بعض الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الجبائي فَقَالَ إِن إِلَى هَا هُنَا لَيست حرف جر لَكِنَّهَا اسْم وَهِي وَاحِدَة الآلاء وَهِي النعم فَهِيَ فِي مَوضِع مفعول وَمَعْنَاهُ نعم رَبهَا منتظرة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بعيد لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى أخبر أَن تِلْكَ الْوُجُوه قد حصلت لَهَا النضرة وَهِي النِّعْمَة وَالنعْمَة نعْمَة فَإِذا حصلت لَهَا النِّعْمَة فبعيد أَن ينْتَظر مَا قد حصل لَهَا وَإِنَّمَا ينْتَظر مَا لم يَقع بعد وَالثَّانِي تَوَاتر الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَيَان أَن المُرَاد بِالنّظرِ هُوَ الرُّؤْيَة لَا مَا تَأَوَّلَه المتأولون وَقَالَ بَعضهم إِن مَعْنَاهَا إِلَى ثَوَاب رَبهَا ناظرة أَي منتظرة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا فَاسد جدا لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي اللُّغَة نظرت إِلَى فلَان بِمَعْنى انتظرته
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَحمل الْكَلَام على ظَاهره الَّذِي وضع لَهُ فِي اللُّغَة فرض لَا يجوز تعديه إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع لِأَن من فعل غير ذَلِك أفسد الْحَقَائِق كلهَا والشرائع كلهَا والمعقول كُله فَإِن قَالَ قَائِل إِن حمل اللَّفْظ على الْمَعْهُود أولى من حمله على غير الْمَعْهُود قيل لَهُ الأولى فِي ذَلِك حمل الْأُمُور على معهودها فِي اللُّغَة مَا لم يمْنَع من ذَلِك نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة لم يَأْتِ نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا ضَرُورَة تمنع مَا ذكرنَا فِي معنى النّظر وَقد وافقتنا الْمُعْتَزلَة على أَنه لَا عَالم عندنَا إِلَّا بضمير وَأَنه لَا فعال إِلَّا بمعاناة وَلَا رَحِيم إِلَّا برقة قلب ثمَّ أَجمعُوا على أَن الله تَعَالَى عَالم بِكُل مَا يكون بِلَا ضمير وَأَنه عز وَجل فعال بِلَا معاناة وَرَحِيم بِلَا رقة فَأَي فرق بَين تجويزهم مَا ذكرنَا وَبَين تجويزهم رُؤْيَة ونظراً بِقُوَّة غير الْقُوَّة الْمَعْهُودَة لَوْلَا الخذلان وَمُخَالفَة الْقُرْآن وَالسّنَن نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك وَقد قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة أخبرونا إِذا رُؤِيَ الْبَارِي أكله يرى أم بعضه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال تعلموه من الْمُلْحِدِينَ إِذْ سألونا نَحن والمعتزلة فَقَالُوا إِذا علمْتُم الْبَارِي تَعَالَى أكله تعلمونه أم بعضه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا سُؤال فَاسد مغالط بِهِ لأَنهم أثبتوا كلا وبعضاً حَيْثُ لَا كل وَلَا بعض وَالْكل وَالْبَعْض لَا يقعان إِلَّا فِي ذِي نِهَايَة والباري تَعَالَى خَالق النِّهَايَة والمتناهى فَهُوَ عز وَجل لَا متناه وَلَا نِهَايَة فَلَا كل لَهُ وَلَا بعض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْآيَة الْمَذْكُورَة وَالْأَحَادِيث الصِّحَاح مأثورة فِي رُؤْيَة الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة مُوجبَة الْقبُول لتظاهرها وتباع ديا الناقلين لَهَا ورؤية الله عز وَجل يَوْم الْقِيَامَة كَرَامَة للْمُؤْمِنين لَا أحرمنا الله ذَلِك بفضله ومحال أَن تكون هَذِه الرُّؤْيَة رُؤْيَة الْقلب لِأَن جَمِيع العارفين بِهِ تَعَالَى يرونه فِي الدُّنْيَا بقلوبهم وَكَذَلِكَ الْكفَّار فِي الْآخِرَة بِلَا شكّ فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا أخبر تَعَالَى بِالرُّؤْيَةِ عَن الْوَجْه قيل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق مَعْرُوف فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خوطبنا أَن تنْسب الرُّؤْيَة إِلَى الْوَجْه وَالْمرَاد بهَا الْعين قَالَ بعض الْأَعْرَاب ... أنافس من ناجاك مِقْدَار لَفْظَة ... وتعتاد نَفسِي أَن نأت عَنْك معينها
وَإِن وُجُوهًا يصطحبن بنظرة ... إِلَيْك لمحسود عَلَيْك عيونها ...
الْكَلَام فِي الْقُرْآن وَهُوَ القَوْل فِي كَلَام الله تَعَالَى(3/3)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واختلفو فِي كَلَام الله عز وَجل بعد أَن أجمع أهل الْإِسْلَام كلهم أَن لله تَعَالَى كلَاما وعَلى أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَلِكَ سَائِر الْكتب الْمنزلَة كالتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور والصحف فَكل هَذَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ بَين أحد من أهل الْإِسْلَام ثمَّ قَالَت الْمُعْتَزلَة إِن كَلَام الله تَعَالَى صفة فعل مَخْلُوق وَقَالُوا أَن الله عز وَجل كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه فِي الشَّجَرَة وَقَالَ أهل السّنة أَن كَلَام الله عز وَجل هُوَ علمه لم يزل وَأَنه غير مَخْلُوق وَهُوَ قَول الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره رَحِمهم الله وَقَالَت الأشعرية كَلَام الله تَعَالَى صفة ذَات لم تزل غير مخلوقة وَهُوَ غير الله تَعَالَى وَخلاف الله تَعَالَى وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى وَأَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَاحْتج أهل السّنة بحجج مِنْهَا أَن قَالُوا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَو كَانَ غير الله لَكَانَ لَا يخلوا من أَن يكون جسماً أَو عرضا فَلَو كَانَ جسماً لَكَانَ فِي مَكَان وَاحِد وَلَو كَانَ ذَلِك لَكنا لم يبلغ إِلَيْنَا كَلَام الله عز وَجل وَلَا كَانَ يكون مجموعاً عندنَا فِي كل بلد كَذَلِك وَهَذَا كفر وَلَو كَانَ عرضا لاقتضى حَامِلا ولكان كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ عندنَا هُوَ غير كَلَامه الَّذِي عِنْد غَيرنَا وَهَذَا محَال ولكان أَيْضا يغنى بغناء حامله وَهَذَا لَا يَقُولُونَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالُوا وَلَو سمع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلَام الله تَعَالَى من غير الله تَعَالَى لما كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك فضل علينا لأننا نسْمع كَلَام الله عز وَجل من غَيره فصح أَن لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مزية على من سواهُ وهوأنه عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله بِخِلَاف من سواهُ وَأَيْضًا فقد قَامَت الدَّلَائِل على أَن الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء فِي خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا بِمَعْنى من الْمعَانِي فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا وَكَانَ مخلوقاً وَجب ضَرُورَة أَن يكون كَلَام الله تَعَالَى لَيْسَ مخلوقاً وَلَيْسَ غير الله تَعَالَى كَمَا قُلْنَا فِي الْعلم سَوَاء بِسَوَاء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما الأشعرية فيلزمهم فِي قَوْلهم إِن كَلَام الله غير الله مَا ألزمناهم فِي الْعلم وَفِي الْقُدْرَة سواهُ سَوَاء مِمَّا قد تقصيناه قبل هَذَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأما قَوْلهم لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد فخلاف مُجَرّد لله تَعَالَى وَلِجَمِيعِ أهل الْإِسْلَام لِأَن الله عز وَجل يَقُول {قل لَو كَانَ الْبَحْر مداداً لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي} {وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفدت كَلِمَات الله}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَا ضلال أضلّ وَلَا حَيَاء أعدم وَلَا مجاهرة أَطَم وَلَا تَكْذِيب لله أعظم مِمَّن سمع هَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا يشك مُسلم أَنه خبر الله تَعَالَى الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه بِأَن لله كَلِمَات لَا تنفد ثمَّ يَقُول هُوَ من رَأْيه الخسيس أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى إِلَّا كَلَام وَاحِد (1) فَإِن ادعوا أَنهم فروا من أَن يكثروا مَعَ الله أكذبهم قَوْلهم إِن هَا هُنَا خَمْسَة عشر شَيْئا كلهَا مُتَغَايِرَة وَكلهَا غير الله وَخلاف الله وَكلهَا لم تزل مَعَ الله تَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علو كَبِيرا(3/4)
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَت أَيْضا هَذِه الطَّائِفَة المنتمية إِلَى الأشعرية أَن كَلَام الله تَعَالَى عز وَجل لم ينزل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نزل عَلَيْهِ بِشَيْء آخر هُوَ عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى وَأَن الَّذِي نَقْرَأ فِي الْمَصَاحِف وَيكْتب فِيهَا لَيْسَ شَيْء مِنْهَا كَلَام الله وَأَن كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى لَا يزايل الْبَارِي وَلَا يقوم بِغَيْرِهِ وَلَا يحل فِي الْأَمَاكِن وَلَا ينْتَقل وَلَا هُوَ حُرُوف موصلة وَلَا بعضه خير من بعض وَلَا أفضل وَلَا أعظم من بعض وَقَالُوا لم يزل الله تَعَالَى قَائِلا لِجَهَنَّم {هَل امْتَلَأت} وقائلاً للْكفَّار {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَلم يزل تَعَالَى قَائِلا لكل مَا أَرَادَ تكوينه كن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر مُجَرّد بِلَا تَأْوِيل وَذَلِكَ أننا نسألهم عَن الْقُرْآن أهوَ كَلَام الله أم لَا فَإِن قَالَ لَيْسَ هُوَ كَلَام الله كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا بل هُوَ كَلَام الله سألناهم عَن الْقُرْآن أهوَ الَّذِي يُتْلَى فِي الْمَسَاجِد وَيكْتب فِي الْمَصَاحِف ويحفظ فِي الصُّدُور أم لَا فَإِن قَالُوا لَا كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا نعم تركُوا قَوْلهم الْفَاسِد وقروا أَن كَلَام الله تَعَالَى فِي الْمَصَاحِف ومسموع من الْقُرَّاء ومحفوظ فِي الصُّدُور كَمَا يَقُول جَمِيع أهل الْإِسْلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ قوم فِي اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ ونسبوا إِلَى أهل السّنة أَنهم يَقُولُونَ أَن الصَّوْت غير مَخْلُوق والخط غير مَخْلُوق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل وَمَا قَالَ قطّ مُسلم أَن الصَّوْت الَّذِي هُوَ الْهَوَاء غير مَخْلُوق وَأَن الْخط غير مَخْلُوق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي نقُول بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هُوَ مَا قَالَه الله عز وَجل وَنَبِينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نزيد على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أَن قَول الْقَائِل الْقُرْآن وَقَوله كَلَام الله كِلَاهُمَا معنى وَاحِد واللفظان مُخْتَلِفَانِ وَالْقُرْآن هُوَ كَلَام الله عز وَجل على الْحَقِيقَة بِلَا مجَاز ونكفر من لم يقل ذَلِك ونقول أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزل بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَام الله تَعَالَى على الْحَقِيقَة على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ تَعَالَى {نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين} ثمَّ نقُول أَن قَوْلنَا الْقُرْآن وَقَوْلنَا كَلَام الله لفظ مُشْتَرك يعبر بِهِ عَن خَمْسَة أَشْيَاء فنسمي الصَّوْت المسموع الملفوظ بِهِ قُرْآنًا ونقول أَنه كَلَام الله تَعَالَى على الْحَقِيقَة وبرهان ذَلِك هُوَ قَول الله عز وَجل {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَقَوله تَعَالَى {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه} وَقَوله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} وَأنكر على الْكفَّار وَصدق مؤمني الْجِنّ فِي قَوْلهم {إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا يهدي إِلَى الرشد} فصح أَن المسموع وَهُوَ الصَّوْت الملفوظ بِهِ هُوَ الْقُرْآن حَقِيقَة وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة من خَالف هَذَا فقد عاند الْقُرْآن وَيُسمى الْمَفْهُوم من ذَلِك الصَّوْت قُرْآنًا وَكَلَام الله على الْحَقِيقَة فَإِذا فسرنا الزَّكَاة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن وَالصَّلَاة وَالْحج وَغير ذَلِك قُلْنَا فِي كل هَذَا كَلَام الله هُوَ الْقُرْآن ونسمي الْمُصحف كُله قُرْآنًا وَكَلَام الله وبرهاننا على ذَلِك قَول الله عز وَجل {إِنَّه لقرآن كريم فِي كتابٍ مَكْنُون} وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْحَرْب لِئَلَّا يَنَالهُ الْعَدو وَقَوله تَعَالَى {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة رَسُول من الله يَتْلُو صحفاً مطهرة فِيهَا كتب قيمَة} وَكتاب الله تَعَالَى هُوَ الْقُرْآن بِإِجْمَاع الْأمة فقد سمى(3/5)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصحف قُرْآنًا وَالْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى بِإِجْمَاع الْأمة فالمصحف كَلَام الله تَعَالَى برهاننا على ذَلِك قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمر بتعاهد الْقُرْآن وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّه أَشد تفصياً من صُدُور الرِّجَال من النعم من عقلهَا وَقَالَ الله تَعَالَى {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} فَالَّذِي فِي الصُّدُور هُوَ الْقُرْآن وَهُوَ كَلَام الله على الْحَقِيقَة لَا مجَازًا ونقول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن آيَة الْكُرْسِيّ أعظم آيَة فِي الْقُرْآن وَأَن أم الْقُرْآن فَاتِحَة الْكتاب لم ينزل فِي الْقُرْآن وَلَا فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل مثلهَا وَأَن {قل هُوَ الله أحد} تعدل ثلث الْقُرْآن وَقَالَ الله عز وَجل {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَإِن قَالُوا إِنَّمَا يتفاضل الْأجر على قِرَاءَة ذَلِك قُلْنَا لَهُم نعم وَلَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا يكون التَّفَاضُل فِي شَيْء مِمَّا يكون فِيهِ التَّفَاضُل إِلَّا فِي الصِّفَات الَّتِي هِيَ أَعْرَاض فِي الْمَوْصُوف بهَا وَأما فِي الذوات فَلَا ونقول أَيْضا أَن الْقُرْآن هُوَ كَلَام الله تَعَالَى وَهُوَ علمه وَلَيْسَ شَيْئا غير الْبَارِي تَعَالَى برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضي بَينهم} وَقَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} وباليقين يدْرِي كل ذِي فهم أَنه تَعَالَى إِنَّمَا عني سَابق علمه الَّذِي سلف بِمَا ينفذهُ ويقضيه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ خَمْسَة معَان يعبر عَن كل معنى مِنْهَا بِأَنَّهُ قُرْآن وَأَنه كَلَام الله ويخبر عَن كل وَاحِد مِنْهَا إِخْبَارًا صَحِيحا بِأَنَّهُ الْقُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى بِنَصّ الْقُرْآن وَالسّنة للَّذين أجمع عَلَيْهِمَا جَمِيع الْأمة وَأما الصَّوْت فَهُوَ هَوَاء مندفع من الْحلق والصدر والحك وَاللِّسَان والأسنان والشفتين إِلَى آذان السامعين وَهُوَ حُرُوف الهجاء والهواء وحروف الهجاء والهواء كل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا خلاف قَالَ الله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} وَاللِّسَان الْعَرَبِيّ ولسان كل قوم هِيَ لغتهم وَاللِّسَان واللغات كل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ والمعاني الْمعبر عَنْهَا بالْكلَام الْمُؤلف من الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة إِنَّمَا هِيَ الله تَعَالَى وَالْمَلَائِكَة والنبيون وسموات وأرضون وَمَا فيهمَا من الْأَشْيَاء وَصَلَاة وَزَكَاة وَذكر أُمَم خَالِيَة وَالْجنَّة وَالنَّار وَسَائِر الطَّاعَات وَسَائِر أَعمال الدّين وكل ذَلِك مَخْلُوق حاشا لله وَحده لَا شريك لَهُ خَالق كل مَا دونه وَأما الْمُصحف فَإِنَّمَا هُوَ ورق من جُلُود الْحَيَوَان ومركب مِنْهَا من مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وَمَاء وكل ذَلِك مَخْلُوق وَكَذَلِكَ حَرَكَة الْيَد فِي حطه وحركة اللِّسَان فِي قِرَاءَته واستقرار كل ذَلِك فِي النُّفُوس هَذِه كلهَا أَعْرَاض مخلوقة وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ كلمة لله وَهُوَ مَخْلُوق بِلَا شكّ قَالَ الله تَعَالَى {بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمه الْمَسِيح} وَأما علم الله تَعَالَى فَلم يزل وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآن وَهُوَ غير مَخْلُوق لَيْسَ هُوَ غير الله تَعَالَى أصلا وَمن قَالَ أَن شَيْئا غير الله تَعَالَى لم يزل مَعَ الله عز وَجل فقد جعل لله عز وَجل شَرِيكا ونقول أَن لله عز وَجل كلَاما حَقِيقَة وَأَنه تَعَالَى كلم مُوسَى وَمن كلم من الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا يجوز أَن يُقَال الْبَتَّةَ أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم لِأَنَّهُ لم يسم بذلك نَفسه وَمن قَالَ أَن الله تَعَالَى مُكَلم مُوسَى لم يُنكره لِأَنَّهُ يخبر عَن فعله تَعَالَى الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا قُلْنَا إِن لله تَعَالَى كلَاما لنفي الخرس عَنهُ لما ذكرنَا قبل من أَنه إِن كَانَ يَعْنِي الخرس الْمَعْهُود فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بالْكلَام الْمَعْهُود الَّذِي هُوَ حَرَكَة اللِّسَان والشفتين وَإِن كَانَ إِنَّمَا يَنْفِي خرساً غير مَعْهُود فَهَذَا لَا يعقل أصلا وَلَا يفهم(3/6)
وَأَيْضًا فَيلْزمهُ أَن يُسَمِّيه تَعَالَى شماماً لنفي الخشم عَنهُ ومتحركاً لنفي الخدر وَهَذَا كُله إلحاد فِي أَسْمَائِهِ عز وَجل لَكِن لما قَالَ الله تَعَالَى أَن لَهُ كلا مَا قُلْنَاهُ وأقررنا بِهِ وَلَو لم يقلهُ عز وَجل لم يحل لأحد أَن بقوله وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلما كَانَ اسْم الْقُرْآن يَقع على خَمْسَة أَشْيَاء وقوعاً مستوياً صَحِيحا مِنْهَا أَرْبَعَة مخلوقة وَوَاحِد غير مَخْلُوق لم يجز الْبَتَّةَ لأحد أَن يَقُول إِن الْقُرْآن مَخْلُوق وَلَا أَن يُقَال إِن كَلَام الله مَخْلُوق لِأَن قَائِل هَذَا كَاذِب إِذْ أوقع صفة الْخلق على مَا لَا يَقع عَلَيْهِ مِمَّا يَقع عَلَيْهِ اسْم قُرْآن وَاسم كَلَام الله عز وَجل وَوَجَب ضَرُورَة أَن يُقَال أَن الْقُرْآن لَا خَالق لَهُ وَلَا مَخْلُوق وَأَن كَلَام الله تَعَالَى لَا خَالق وَلَا مَخْلُوق لِأَن الْأَرْبَعَة المسميات مِنْهُ لَيست خالقة وَلَا يجوز أَن نطلق على الْقُرْآن وَلَا على كَلَام الله تَعَالَى اسْم خَالق وَلِأَن الْمَعْنى الْخَامِس غير مَخْلُوق وَلَا يجوز أَن تُوضَع صفة الْبَعْض على الْكل الَّذِي لَا تعمه تِلْكَ الصّفة بل وَاجِب أَن يُطلق نفي تِلْكَ الصّفة الَّتِي للْبَعْض على الْكل وكذاك لَو قَالَ قَائِل أَن الْأَشْيَاء كلهَا مخلوقة أَو قَالَ للحق مَخْلُوق أَو قَالَ كل مَوْجُود مَخْلُوق لقَالَ الْبَاطِل لِأَن الله تَعَالَى شَيْء مَوْجُود حق لَيْسَ مخلوقاً لَكِن إِذا قَالَ الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء جَازَ ذَلِك لِأَنَّهُ قد أخرج بِذكر الله تَعَالَى أَن الْمَخْلُوق فِي كَلَامه الأشكال وَمِثَال ذَلِك فِيمَا بَيْننَا أَن ثيابًا خَمْسَة الْأَرْبَعَة مِنْهَا حمر وَالْخَامِس غير أَحْمَر لَكَانَ من قَالَ هَذِه الثِّيَاب حمر كَاذِبًا ولكان من قَالَ هَذِه الثِّيَاب لَيست حمراً صَادِقا وَكَذَلِكَ من قَالَ الْإِنْسَان طَبِيب يَعْنِي كل إِنْسَان لَكَانَ كَاذِبًا وَلَو قَالَ لَيْسَ الْإِنْسَان طَبِيبا يَعْنِي كل إِنْسَان لَكَانَ صَادِقا وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يُطلق أَن الْحق مَخْلُوق وَلَا أَن الْعلم مَخْلُوق لِأَن اسْم الْحق يَقع على الله تَعَالَى وعَلى كل مَوْجُود وَاسم الْعلم يَقع على كل علم وعَلى علم الله عز وَجل وَهُوَ غير مَخْلُوق لَكِن يُقَال الْحق غير مَخْلُوق وَالْعلم غير مَخْلُوق هَكَذَا جملَة وَإِذا بَين فَقيل كل حق دون الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق وكل علم دون الله تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوق فَهُوَ كَلَام صَحِيح وَهَكَذَا أَلا يجوز أَن يُقَال أَن كَلَام الله مَخْلُوق وَلَا أَن الْقُرْآن مَخْلُوق وَلَكِن يُقَال علم الله غير مَخْلُوق وَكَلَام الله غير مَخْلُوق وَالْقُرْآن غير مَخْلُوق وَلَو أَن قَائِلا قَالَ إِن الله مَخْلُوق وَهُوَ يَعْنِي صَوته المسموع أَو الْألف وَاللَّام وَالْهَاء أَو الحبر الَّذِي كتبت هَذِه الْكَلِمَة بِهِ لَكَانَ فِي ظَاهر قَوْله عِنْد جَمِيع الْأمة كَافِرًا مَا لم يبين فَيَقُول صوتي أَو هَذَا الْخط مَخْلُوق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ حَقِيقَة الْبَيَان فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الَّذِي لم نتعهد فِيهِ مَا قَالَه الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأجمعت الْأمة كلهَا على جملَته وأوجبته الضَّرُورَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن سَأَلَ سَائل عَن اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ قُلْنَا لَهُ سؤالك هَذَا يَقْتَضِي أَن اللَّفْظ المسموع هُوَ غير الْقُرْآن وَهَذَا بَاطِل بل اللَّفْظ المسموع هُوَ الْقُرْآن نَفسه وَهُوَ كَلَام الله عز وَجل نَفسه كَمَا قَالَ تَعَالَى {حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَكَلَام الله تَعَالَى غير مَخْلُوق لما ذكرنَا وَأما من أفرد السُّؤَال عَن الصَّوْت وحروف الهجا والحبر فَكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونقول أَن الله تَعَالَى قد قَالَ مَا أخبرنَا أَنه قَالَه وَأَنه تَعَالَى لم يقل بعد مَا أخبرنَا أَنه سَيَقُولُ فِي المستأنف وَلَكِن سيقوله وَمن تعدى هَذَا فقد كذب الله جهلا وَأما من قَالَ أَن الله تَعَالَى لم يزل قَائِلا كن لكل مَا كَونه أَو يُرِيد تكوينه فَإِن هَذَا قَول فَاحش مُوجب أَن الْعَالم لم يزل لِأَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه تَعَالَى {إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون}(3/7)
فصح أَن كل مكون فَهُوَ كَائِن إِثْر قَول الله تَعَالَى لَهُ كن بِلَا مهلة فَلَو كَانَ الله تَعَالَى لم يزل قَائِلا كن لَكَانَ كل مكون لم يزل وَهَذَا قَول من قَالَ إِن الْعَالم لم يزل وَله مُدبر خَالق لم يزل وَهَكَذَا كفر مُجَرّد نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَقَول الله تَعَالَى هُوَ غير تكليمه لِأَن تكليم الله تَعَالَى من كلم فَضِيلَة عَظِيمَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ الله تَعَالَى {مِنْهُم من كلم الله} وَأما قَوْله فقد يكون سخطاً قَالَ تَعَالَى أَنه قَالَ لأهل النَّار {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَقَالَ لإبليس {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} قَالَ اخْرُج مِنْهَا وَلَا يجوز أَن يُقَال إِبْلِيس كليم الله وَلَا أَن أهل النَّار كلماء الله فَقَوْل الله عز وَجل مُحدث بِالنَّصِّ وبرهان ذَلِك أَيْضا قَول الله تَعَالَى {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَإِيمَانهمْ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} ثمَّ قَالَ تَعَالَى أَنه قَالَ لَهُم {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَقَالَ تَعَالَى أَنهم قَالُوا {رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا فآتهم عذَابا ضعفا من النَّار قَالَ لكل ضعف وَلَكِن لَا تعلمُونَ} فنص تَعَالَى على أَنه لَا يكلمهم وَأَنه يَقُول لَهُم فَثَبت يَقِينا أَن قَول الله تَعَالَى هُوَ غير كَلَامه وَغير تكليمه لَكِن يَقُول كل كَلَام وتكليم فهما قَول وَلَيْسَ كل قَول مِنْهُ تَعَالَى كلَاما وَلَا تكليماً بِنَصّ الْقُرْآن ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله تَعَالَى أخبرنَا أَنه كلم مُوسَى وكلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام وَثَبت يَقِينا أَنه كلم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْإِسْرَاء وَقَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله} فَخص تَعَالَى بتكليمه بَعضهم دون بعض كَمَا ترى وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا فيوحى بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} فَفِي هَذِه الْآيَات وَالْحَمْد لله أكبر نَص على تَصْحِيح كل مَا قُلْنَاهُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَمَا توفيقنا إِلَّا بِاللَّه وَأخْبرنَا تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَنه لَا يتَكَلَّم بشر إِلَّا بِأحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة فَقَط فَنَظَرْنَا فِيهَا فوجدناه تَعَالَى قد سمى مَا تَأْتِينَا بِهِ الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً انْتقل مِنْهُ للبشر فصح بذلك أَن الَّذِي أتتنا بِهِ رسله عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ كَلَام الله وَأَنه تَعَالَى قد كلمنا بوحيه الَّذِي أتتنا بِهِ رسله عَلَيْهِم السَّلَام وأننا قد سمعنَا كَلَام الله عز وَجل الَّذِي هُوَ الْقُرْآن الموحى إِلَى النَّبِي بِلَا شكّ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ووجدناه تَعَالَى قد سمى وحيه إِلَى أنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام تكليماً لَهُم ووجدناه عز وَجل قد ذكر وَجها ثَالِثا وَهُوَ التكليم الَّذِي يكون من وَرَاء حجاب وَهُوَ الَّذِي فضل بِهِ بعض النَّبِيين على بعض وَهُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ تكليم الله عز وَجل دون صلَة كَمَا كلم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة} وَأما القسمان الْأَوَّلَانِ فَإِنَّمَا يُطلق عَلَيْهِمَا تكليم الله عز وَجل بصلَة لَا مُجَردا فَنَقُول كلم الله جَمِيع الْأَنْبِيَاء بِالْوَحْي إِلَيْهِم ونقول فِي الْقسم الثَّانِي كلمنا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على لِسَان نبيه عَلَيْهِ السَّلَام بوحيه إِلَيْهِ ونقول قَالَ لنا الله عز وَجل {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ونقول أخبرنَا الله تَعَالَى عَن مُوسَى وَعَن الْجنَّة وَالنَّار فِي الْقُرْآن وَفِيمَا أوحى الله إِلَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ قَائِل حَدثنَا الله تَعَالَى عَن الْأُمَم السالفة وَعَن الْجنَّة وَالنَّار فِي الْقُرْآن على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ قولا صَحِيحا لَا مدفع لَهُ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَمن أصدق من الله حَدِيثا} وَكَذَلِكَ(3/8)
يَقُول قصّ الله علينا أَخْبَار الْأُمَم فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} ونقول سمعنَا كَلَام الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على التَّحْقِيق لَا مجَازًا وَفضل علينا الْمَلَائِكَة والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فِي هَذَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ تكليمهم بِالْوَحْي إِلَيْهِم فِي النّوم واليقظة دون وسيطة وبتوسط الْملك أَيْضا وَفضل جَمِيع الْمَلَائِكَة وَبَعض الرُّسُل على جَمِيعهم عَلَيْهِم السَّلَام بِالْوَجْهِ الثَّالِث الَّذِي هُوَ تكليم فِي الْيَقَظَة من وَرَاء حجاب دون وسيطة ملك لَكِن بِكَلَام مسموع بالآذان مَعْلُوم بِالْقَلْبِ زَائِد على الْوَحْي الَّذِي هُوَ مَعْلُوم بِالْقَلْبِ فَقَط أَو مسموع من الْملك عَن الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي خص بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّجَرَة وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْإِسْرَاء من المستوى الَّذِي سمع فِيهِ صريف الإفلام وَسَائِر من كلم الله تَعَالَى كَذَلِك من النَّبِيين وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل} وَلَا يجوز أَن يكون شَيْء من هَذَا بِصَوْت أصلا لِأَنَّهُ كَانَ يكون حِينَئِذٍ يُفِيد بوسيطة مُكَلم غير الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك الصَّوْت بِمَنْزِلَة الرَّعْد الْحَادِث فِي الجو والقرع الْحَادِث فِي الْأَجْسَام وَالْوَحي أَعلَى من هَذِه منزلَة والتكليم من وَرَاء حجاب أَعلَى من سَائِر الْوَحْي بِنَصّ الْقُرْآن لِأَن الله تَعَالَى سمى ذَلِك تَفْضِيلًا كَمَا تلونا وكل مَا ذكرنَا وَأَن كَانَ يُسمى تكليماً فالتكليم الْمُطلق أَعلَى فِي الْفَضِيلَة من التكليم الْموصل كَمَا أَن كل روح فَهُوَ روح الله تَعَالَى على الْملك لَكِن إِذا قُلْنَا روح الله على الْإِطْلَاق يَعْنِي بذلك جِبْرِيل أَو عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام كَانَ ذَلِك فَضِيلَة عَظِيمَة لَهما
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَإِذا قَرَأنَا الْقُرْآن قُلْنَا كلامنا هَذَا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا مجَازًا وَلَا يحل حِينَئِذٍ لأحد أَن يَقُول لَيْسَ كَلَامي هَذَا كَلَام الله تَعَالَى وَقد أنكر الله عز وَجل هَذَا على من قَالَه إِذْ يَقُول تَعَالَى {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا أَنه فكر وَقدر فَقتل كَيفَ قدر} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر أَن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر سأصليه سقر}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَكَذَلِكَ يَقُول أَحَدنَا ديني دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا عمل عملا أوجبته سنة قَالَ عَمَلي هَذَا عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يحل لأحد من الْمُسلمين أَن يَقُول ديني غير دين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ ذَلِك لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَن يَقُول إِذا عمل عملا جَاءَت بِهِ السّنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا غير عمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَه لأدب ولكان كَاذِبًا وَكَذَلِكَ يَقُول أَحَدنَا ديني هُوَ دين الله عز وَجل يُرِيد الَّذِي أَمر بِهِ عز وَجل وَلَو قَالَ ديني غير دين الله عز وَجل لوَجَبَ قَتله بِالرّدَّةِ وَكَذَلِكَ يَقُول إِذا حدث أَحَدنَا حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحِيحا كَلَام هَذَا هُوَ نفس كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ إِن كَلَامي هَذَا هُوَ غير كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ كَاذِبًا وَهَذِه أَسمَاء وأوجبتها مِلَّة الله عز وَجل وَأجْمع عَلَيْهَا أهل الْإِسْلَام وَلم يخف علينا وَلَا على من سلف من الْمُسلمين أَن حَرَكَة لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير حَرَكَة ألسنتنا وَكَذَلِكَ حَرَكَة أجسامنا فِي الْعَمَل وَكَذَلِكَ مَا تُوصَف بِهِ النُّفُوس من الْعلم وَلَكِن التَّسْمِيَة فِي الشَّرِيعَة لَيست إِلَيْنَا إِنَّمَا هِيَ لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَالف هَذَا كَانَ كمن قَالَ فِرْعَوْن وَأَبُو جهل(3/9)
مُؤْمِنَانِ ومُوسَى وَمُحَمّد كَافِرَانِ فَإِذا قيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ أَو لَيْسَ أَبُو جهل وَفرْعَوْن مُؤمنين بالْكفْر وَمُحَمّد ومُوسَى كَافِرَانِ بالطاغوت فَهَذَا وَإِن كَانَ لكَلَامه مخرج فَهُوَ عِنْد أهل الْإِسْلَام كَافِر لتعديه مَا أوجبته الشَّرِيعَة من التَّسْمِيَة وَقد شهِدت الْعُقُول بِوُجُوب الْوُقُوف عِنْد مَا أوجبه الله تَعَالَى فِي دينه فَمن عد عَن ذَلِك وَزعم أَنه اتبع دَلِيل عقله فِي خلاف ذَلِك فَليعلم أَنه فَارق قَضِيَّة الْعقل الصادقة الْمُوجبَة للوقوف عِنْد حكم الشَّرِيعَة وَخَالف الْمُؤمنِينَ وَاتبع غير سبيلهم قَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ بَعضهم فَإِذا سمعنَا نَحن كَلَام الله تَعَالَى وسَمعه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأَي فرق بَينه وبيننا قُلْنَا أعظم الْفرق وَهُوَ أَن مُوسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام سمعُوا الله تَعَالَى يكلمهم وَنحن سمعنَا كَلَام الله تَعَالَى من غَيره وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإبن مَسْعُود إِذْ أمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَقَالَ لَهُ ابْن مَسْعُود يَا رَسُول الله اقْرَأ عَلَيْك وَعَلَيْك أنزل قَالَ إِنِّي أحب أَن أسمعهُ من غَيْرِي فصح يَقِينا أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى نَفسه فَسَمعهُ من غَيره وَقَالُوا فَكَلَام الله تَعَالَى إِذا يحل فِينَا قُلْنَا هَذَا تهويل بَارِد وَنعم إِذا سمى الله تَعَالَى كلامنا إِذا قَرَأنَا كلَاما لَهُ تَعَالَى فَنحْن نقُول بذلك ونقول أَن كَلَام الله فِي صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر فِي مَصَاحِفنَا ونبرأ مِمَّن أنكر ذَلِك بقوله الْفَاسِد الْمخْرج لَهُ عَن الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
الْكَلَام فِي إعجاز الْقُرْآن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قد ذكرنَا قيام الْبُرْهَان عَن أَن الْقُرْآن معجز قد أعجز الله عَن مثله نظمه جَمِيع الْعَرَب وَغَيرهم من الْإِنْس وَالْجِنّ بتعجيز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل من ذكرنَا عَن أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وتبكيتهم بذلك فِي محافلهم وَهَذَا أَمر لَا يُنكره أحد مُؤمن وَلَا كَافِر وَأجْمع الْمُسلمُونَ على ذَلِك ثمَّ اخْتلف أهل الْكَلَام فِي خَمْسَة أنحاء من هَذِه المسالة فالنحو الأول قَول رُوِيَ عَن الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ أَن المعجز الَّذِي تحدى النَّاس بالمجيء بِمثلِهِ هُوَ الَّذِي لم يزل مَعَ الله تَعَالَى وَلم يُفَارِقهُ قطّ وَلَا نزل إِلَيْنَا وَلَا سمعناه وَهَذَا كَلَام فِي غَايَة النُّقْصَان والبطلان إِذا من الْمحَال أَن يُكَلف أحد أَن يَجِيء بِمثل لما لم يعرفهُ قطّ وَلَا سَمعه وَأَيْضًا فَيلْزمهُ وَلَا بديل هُوَ نفس قَوْله أَنه إِذا لم يكن المعجز إِلَّا ذَلِك فَإِن المسموع المتلو عندنَا لَيْسَ معجزاً بل مَقْدُورًا على مثله وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خلاف فِيهِ لأحد فَإِنَّهُ خلاف لِلْقُرْآنِ لِأَن الله تَعَالَى ألزمهم بِسُورَة أَو عشر سور مِنْهُ وَذَلِكَ الْكَلَام الَّذِي هُوَ عِنْد الْأَشْعَرِيّ هُوَ المعجز لَيْسَ لَهُ سوراً وَلَا كثيرا بل هُوَ وَاحِد فَسقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَله قَول كَقَوْل جَمِيع الْمُسلمين إِن هَذَا المتلو هُوَ المعجز والنحو الثَّانِي هَل الإعجاز متماد أم قد ارْتَفع بِتمَام قيام الْحجَّة بِهِ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بعض أهل الْكَلَام أَن الْحجَّة قد قَامَت بعجز جَمِيع الْعَرَب عَن معارضته وَلَو عورض الْآن لم تبطل بذلك الْحجَّة الَّتِي قد صحت كَمَا أَن عصى مُوسَى إِذْ قَامَت حجَّته بانقلابها حَيَّة لم يضرّهُ وَلَا أسقط حجَّته عودهَا عَصا كَمَا كَانَت وَكَذَلِكَ خُرُوج يَده بَيْضَاء من جيبه ثمَّ عودهَا كَمَا كَانَت وَكَذَلِكَ سَائِر الْآيَات وَقَالَ جُمْهُور أهل الْإِسْلَام أَن الإعجاز بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْآيَة بذلك بَاقِيَة أبدا كَمَا كَانَت
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يحل القَوْل بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَص قَول الله تَعَالَى إِذْ(3/10)
يَقُول {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيراً}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا نَص جرى على أَنه لَا يأْتونَ بِمثلِهِ بِلَفْظ الِاسْتِقْبَال فصح يَقِينا أَن ذَلِك على التأييد وَفِي المستأنف أبدا وَمن ادّعى أَن المُرَاد بذلك الْمَاضِي فقد كذب لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن تحال اللُّغَة فينقل لفظ الْمُسْتَقْبل إِلَى معنى الْمَاضِي إِلَّا بِنَصّ أخر جلي وَارِد بذلك أَو بِإِجْمَاع مُتَيَقن أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره أَو ضَرُورَة وَلَا سَبِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى شَيْء من هَذِه الْوُجُوه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا} عُمُوم لكل إنس وجن أبدا لَا يجوز تَخْصِيص شَيْء من ذَلِك أصلا بِغَيْر ضَرُورَة وَلَا إِجْمَاع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن قَالَ بِالْوَقْفِ وَأَنه لَيْسَ للْعُمُوم صِيغَة وَلَا للظَّاهِر فَلَا حجَّة هَا هُنَا تقوم لَهُ على الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة فصح أَن إعجاز الْقُرْآن بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين والنحو الثَّالِث مَا المعجز مِنْهُ أنظمه أم مَا فِي نَصه من الْإِنْذَار بالغيوب فَقَالَ بعض أهل الْكَلَام أَن نظمه لَيْسَ معجزاً وَإِنَّمَا إعجازه مَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام بل كلا الْأَمريْنِ معجزاً وَإِنَّمَا إعجازه مَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام بل كلا الْأَمريْنِ معجز نظمه وَمَا فِيهِ من الْأَخْبَار بالغيوب وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي مَا خَالفه فَهُوَ ضلال وبرهان ذَلِك قَول الله تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} فنص تَعَالَى على أَنهم لَا يأْتونَ بِمثل سُورَة من سوره واكثر سوره لَيْسَ فِيهَا أَخْبَار بِغَيْب فَكَأَن من جعل المعجز الْأَخْبَار الَّذِي فِيهِ بالغيوب مُخَالفا لما نَص الله تَعَالَى على أَنه معجز من الْقُرْآن فَسَقَطت هَذِه الْأَقَاوِيل الْفَاسِدَة وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين والنحو الرَّابِع مَا وَجه إعجازه فَقَالَت طَائِفَة وَجه إعجازه كَونه فِي أَعلَى مَرَاتِب البلاغة وَقَالَت طوائف إِنَّمَا وَجه إعجازه أَن الله منع الْخلق من الْقُدْرَة على معارضته فَقَط فَأَما الطَّائِفَة الَّتِي قَالَت إِنَّمَا إعجازه لِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة فَإِنَّهُم شغبوا فِي ذَلِك بِأَن ذكرُوا آيَات مِنْهُ مثل قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَنَحْو هَذَا وموه بَعضهم بِأَن قَالَ لَو كَانَ كَمَا تَقولُونَ من أَن الله تَعَالَى منع من معارضته فَقَط لوَجَبَ أَن يكون أغث مَا يُمكن أَن يكون من الْكَلَام فَكَانَت تكون الْحجَّة بذلك أبلغ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد مَا نعلم لَهُم شغباً غير هذَيْن وَكِلَاهُمَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ أما قَوْلهم لَو كَانَ كَمَا قُلْنَا لوَجَبَ أَن يكون أغث مَا يُمكن أَن يكون من الْكَلَام فَكَانَت تكون الْحجَّة أبلغ فَهَذَا هُوَ الْكَلَام الغث حَقًا لوجوه أَحدهَا أَنه قَول بِلَا برهَان لِأَنَّهُ يعكس عَلَيْهِ قَوْله بِنَفسِهِ فَيُقَال لَهُ بل لَو كَانَ إعجازه لكَونه فِي أَعلَى درج البلاغة لَكَانَ لَا حجَّة فِيهِ لِأَن هَذَا يكون فِي كل من كَانَ فِي أَعلَى طبقَة وَأما آيَات الْأَنْبِيَاء فخارجة عَن الْمَعْهُود فَهَذَا أقوى من شغبهم وَثَانِيها أَنه لَا يسْأَل الله تَعَالَى عَمَّا يفعل وَلَا يُقَال لَهُ لم عجزت بِهَذَا النّظم دون غَيره وَلم أرْسلت هَذَا الرَّسُول دون غَيره وَلم قبت عَصا مُوسَى حَيَّة دون أَن تقلبها أسداً وَهَذَا كُله حمق مِمَّن جَاءَ بِهِ لم يُوجِبهُ قطّ عقل وَحسب الْآيَة أَن تكون خَارِجَة عَن الْمَعْهُود فَقَط وَثَالِثهَا أَنهم حِين طردوا سُؤَالهمْ رَبهم بِهَذَا السُّؤَال الْفَاسِد لَزِمَهُم أَن يَقُولُوا هلا كَانَ هَذَا الإعجاز فِي كَلَام بِجمع اللُّغَات فيستوي فِي معرفَة إعجازه الْعَرَب والعجم لِأَن الْعَجم لَا يعْرفُونَ إعجاز الْقُرْآن إِلَّا بأخبار(3/11)
الْعَرَب فَقَط فَبَطل هَذَا الشغب الغث وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما ذكرهم {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} وَمَا كَانَ نَحْوهَا من الْآيَات فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا وَيُقَال لَهُم إِن كَانَ كَمَا تَقولُونَ ومعاذ الله من ذَلِك فَإِنَّمَا المعجز مِنْهُ على قَوْلكُم هَذِه الْآيَات خَاصَّة وَأما سائره فَلَا وَهَذَا كفر لَا يَقُوله مُسلم فَإِن قَالُوا جَمِيع الْقُرْآن مثل هَذَا الْآيَات فِي الإعجاز قيل لَهُم فَلم خصصتم بِالذكر هَذِه الْآيَات دون غَيرهَا إِذا وَهل هَذَا مِنْكُم إِلَّا إِيهَام لأهل الْجَهْل أَن من الْقُرْآن معجزاً وَغير معجز ثمَّ نقُول لَهُم قَول الله تَعَالَى {وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبورا} أمعجزا هُوَ على شروطكم فِي كَونه فِي أَعلَى درج البلاغة أم لَيْسَ معجزاً فَإِن قَالُوا لَيْسَ معجزاً كفرُوا وَإِن قَالُوا أَنه معجز صدقُوا وسئلوا هَل على شروطكم فِي أَعلَى درج البلاغة فَإِن قَالُوا نعم كابروا وَكفوا مؤنتهم لِأَنَّهَا أَسمَاء رجال فَقَط لَيْسَ على شروطهم فِي البلاغة وَأَيْضًا فَلَو كَانَ إعجاز الْقُرْآن لِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة لَكَانَ بِمَنْزِلَة كَلَام الْحسن وَسَهل بن هَارُون والجاحظ وَشعر أمرئ الْقَيْس ومعاذ الله من هَذَا لِأَن كل مَا يسْبق فِي طبقته لم يُؤمن أَن يَأْتِي من يماثله ضَرُورَة فَلَا بُد لَهُم من هَذِه الخطة أَو من الْمصير إِلَى قَوْلنَا أَن الله تَعَالَى منع من معارضته فَقَط وَأَيْضًا فَلَو كَانَ إعجازه من أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة الْمَعْهُودَة لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك الْآيَة وَلما هُوَ أقل من آيَة وَهَذَا ينْقض قَوْلهم أَن المعجز مِنْهُ ثَلَاث آيَات لَا أقل فَإِن قَالُوا فَقولُوا أَنْتُم هَل الْقُرْآن مَوْصُوف بِأَنَّهُ فِي أَعلَى درج البلاغة أم لَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن كُنْتُم تُرِيدُونَ أَن الله قد بلغ بِهِ مَا أَرَادَ فَنعم هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنى فِي الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء أبلغ مِنْهَا وَإِن كُنْتُم تُرِيدُونَ هَل هُوَ فِي أَعلَى درج البلاغة فِي كَلَام المخلوقين فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من نوع كَلَام المخلوقين لَا من أَعْلَاهُ وَلَا من أدناه وَلَا من أوسطه وبرهان هَذَا أَن إنْسَانا لَو أَدخل فِي رِسَالَة لَهُ أَو خطْبَة أَو تأليف أَو موعظة حُرُوف الهجاء الْمُقطعَة لَكَانَ خَارِجا عَن البلاغة الْمَعْهُودَة جملَة بِلَا شكّ فصح أَنه لَيْسَ من نوع بلاغة النَّاس أصلا وَأَن الله تَعَالَى منع الْخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جَمِيع كَلَام الْخلق برهَان ذَلِك أَن الله حكى عَن قوم من أهل النَّار أَنهم يَقُولُونَ إِذا سئلوا عَن سَبَب دُخُولهمْ النَّار {لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} وَحكى تَعَالَى عَن كَافِر قَالَ {إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر أَن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر} وَحكى عَن آخَرين أَنهم قَالُوا {لن نؤمن لَك حَتَّى تفجر لنا من الأَرْض ينبوعاً أَو تكون لَك جنَّة من نخيل وعنب فتفجر الْأَنْهَار خلالها تفجيراً أَو تسْقط السَّمَاء كَمَا زعمت علينا كسفاً أَو تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلاًً أَو يكون لَك بَيت من زخرف أَو ترقي فِي السَّمَاء وَلنْ نؤمن لرقيك حَتَّى تنزل علينا كتابا نقرؤه} فَكَانَ هَذَا كُله إِذْ قَالَه غير الله عز وَجل غير معجز بِلَا خلاف إِذْ لم يقل أحد من أهل الْإِسْلَام أَن كَلَام غير الله تَعَالَى معجز لَكِن لما قَالَه الله تَعَالَى وَجعله كلَاما لَهُ أصاره معجزاً وَمنع من مماثلته وَهَذَا برهَان كافٍ لَا يحْتَاج إِلَى غَيره وَالْحَمْد لله
والنحو الْخَامِس مَا مِقْدَار المعجز مِنْهُ فَقَالَت الأشعرية وَمن وافقهم أَن المعجز إِنَّمَا هُوَ مِقْدَار أقل سُورَة مِنْهُ وَهُوَ إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فَصَاعِدا وَإِن مَا دون ذَلِك لَيْسَ معجزاً وَاحْتَجُّوا فِي(3/12)
ذَلِك بقول الله تَعَالَى {قل فَأتوا بِسُورَة مثله} قَالُوا وَلم يتحد تَعَالَى بِأَقَلّ من ذَلِك وَذهب سَائِر أهل الْإِسْلَام إِلَى أَن الْقُرْآن كُله قَلِيله وَكَثِيره معجز وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي لَا يجوز خِلَافه وَلَا حجَّة لَهُم فِي قَوْله تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يقل إِن مَا دون السُّورَة لَيْسَ معجزاً بل قد قَالَ تَعَالَى على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن كل شَيْء من الْقُرْآن قُرْآن فَكل شَيْء من الْقُرْآن معجز ثمَّ تعارضهم فِي تحديدهم المعجز بِسُورَة فَصَاعِدا فَنَقُول أخبرونا مَاذَا تعنون بقولكم أَن المعجز مِقْدَار سُورَة أسورة كَامِلَة لَا أقل أم مِقْدَار الْكَوْثَر فِي الْآيَات أم مقدارها فِي الْكَلِمَات أم مقدارها فِي الْحُرُوف وَلَا سَبِيل إِلَى وَجه خَامِس فَإِن قَالُوا المعجز سُورَة تَامَّة لَا أقل لَزِمَهُم أَن سُورَة الْبَقَرَة حاشا آيَة وَاحِدَة أَو كلمة وَاحِدَة من آخرهَا أَو من أَولهَا لَيست معْجزَة وَهَكَذَا كل سُورَة وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ إِذْ جعلُوا كل سُورَة فِي الْقُرْآن سوى كلمة من أَولهَا أَو من وَسطهَا أَو من آخرهَا لمقدور على مثلهَا وَإِن قَالُوا بل مقدارها من الْآيَات لَزِمَهُم أَن آيَة الدّين لَيست معْجزَة لِأَنَّهَا لَيست ثَلَاث آيَات ولزمهم مَعَ ذَلِك أَن وَالْفَجْر وليال عشر وَالشَّفْع وَالْوتر معجز كآية الْكُرْسِيّ وآيتان إِلَيْهَا لِأَنَّهَا ثَلَاث آيَات وَهَذَا غير قَوْلهم ومكابرة أَيْضا أَن تكون هَذِه الْكَلِمَات معْجزَة حاشا كلمة غير معْجزَة ولزمهم أَيْضا أَن وَالضُّحَى وَالْفَجْر وَالْعصر هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث فَقَط معجزات لِأَنَّهُنَّ ثَلَاث آيَات فَإِن قَالُوا هن متفرقات غير متصلات لَزِمَهُم إِسْقَاط الإعجاز عَن ألف آيَة مُتَفَرِّقَة وَإِمْكَان الْمَجِيء بِمِثْلِهَا وَمن جعل هَذَا مُمكنا فقد كَابر العيان وَخرج عَن الْإِسْلَام وأبطل الإعجاز عَن الْقُرْآن وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن نصح نَفسه ولزمهم أَيْضا أَن {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} لَيْسَ معجزاً وَهَذَا نقض لقَولهم فِي أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة وَكَذَلِكَ كل ثَلَاث آيَات غير كلمة وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَعَن الْمَعْقُول وَإِن قَالُوا بل فِي عدد الْكَلِمَات أَو قَالُوا عدد الْحُرُوف لَزِمَهُم شَيْئَانِ مسقطان لقَولهم أَحدهمَا إبِْطَال احتجاجهم بقوله تَعَالَى {بِسُورَة من مثله} لأَنهم جعلُوا معجزاً مَا لَيْسَ سُورَة وَلم يقل تَعَالَى بِمِقْدَار فلاح تمويههم وَالثَّانِي أَن سُورَة الْكَوْثَر عشر كَلِمَات اثْنَان وَأَرْبَعُونَ حرفا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان} اثْنَتَا عشرَة كلمة اثْنَان وَسَبْعُونَ حرفا وَإِن اقتصرنا على الْأَسْمَاء فَقَط كَانَت عشرَة كَلِمَات اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ حرفا فَهَذَا أَكثر كَلِمَات وحروفاً من سُورَة الْكَوْثَر فَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا معجزاً عنْدكُمْ وَيكون {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} غير معجز فَإِن قَالُوا إِن هَذَا غير معجز تركُوا قَوْلهم فِي إعجاز مِقْدَار أقل سُورَة فِي عدد الْكَلِمَات وَعدد الْحُرُوف وَإِن قَالُوا بل هُوَ معجز تركُوا قَوْلهم فِي أَنه فِي أَعلَى درج البلاغة ويلزمهم أَيْضا أننا إِن أسقطنا من هَذِه الْأَسْمَاء اسْمَيْنِ وَمن سُورَة الْكَوْثَر كَلِمَات أَن لَا يكون شَيْء من ذَلِك معجزا فَظهر سُقُوط كَلَامهم وتخليطه وفساده وَأَيْضًا فَإِذا كَانَت الْآيَة مِنْهُ أَو الْآيَتَانِ غير معْجزَة وَكَانَت مَقْدُورًا على مثلهَا وَإِذا كَانَ ذَلِك فكله مَقْدُور على مثله وَهَذَا كفر فَإِن قَالُوا إِذا اجْتمعت ثَلَاث آيَات صَارَت غير مَقْدُور عَلَيْهَا قيل لَهُم هَذَا غير قَوْلكُم إِن إعجازه إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق البلاغة لِأَن طَرِيق البلاغة فِي الْآيَة كَهُوَ فِي الثَّلَاث وَلَا فرق وَالْحق من هَذَا هُوَ مَا قَالَه الله تَعَالَى(3/13)
{قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} وَإِن كل كلمة قَائِمَة الْمَعْنى يعلم إِذا تليت أَنَّهَا من الْقُرْآن فَإِنَّهَا معْجزَة لَا يقدر أحد على الْمَجِيء بِمِثْلِهَا أبدا لِأَن الله تَعَالَى حَال بَين النَّاس وَبَين ذَلِك كمن قَالَ إِن آيَة النُّبُوَّة أَن الله تَعَالَى يُطلقنِي على الْمَشْي فِي هَذِه الطَّرِيق الْوَاضِحَة ثمَّ لَا يمشي فِيهَا أحد غَيْرِي أبدا أَو مُدَّة يسميها فَهَذَا أعظم مَا يكون من الْآيَات وَإِن الْكَلِمَة الْمَذْكُورَة أَنَّهَا مَتى ذكرت فِي خبر على أَنَّهَا لَيست قُرْآنًا فَهِيَ غير معْجزَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّص وَالَّذِي عجز عَنهُ أهل الأَرْض مذ أربعماية عَام وَأَرْبَعين عَاما وَنحن نجد فِي الْقُرْآن إِدْخَال معنى بَين مَعْنيين لَيْسَ بَينهمَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا وَمَا بَين ذَلِك} وَلَيْسَ هَذَا من بلاغة النَّاس فِي ورد وَلَا فِي صدر وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْكَلَام فِي الْقُدْرَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْإِنْسَان مجبر على أَفعاله وَأَنه لَا استطاعة لَهُ أصلا وَهُوَ قَول جهم بن صَفْوَان وَطَائِفَة من الْأزَارِقَة وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى أَن الْإِنْسَان لَيْسَ مجبراً وأثبتوا لَهُ قُوَّة واستطاعة بهَا يفعل مَا اخْتَار فعله ثمَّ افْتَرَقت هَذِه الطَّائِفَة على فرْقَتَيْن فَقَالَت إِحْدَاهمَا الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَلَا يتقدمه الْبَتَّةَ وَهَذَا قَول طوائف من أهل الْكَلَام وَمن وافقهم كالنجار والأشعري وَمُحَمّد بن عِيسَى برعوت الْكَاتِب وَبشر بن غياث المريسي وَأبي عبد الرَّحْمَن العطوي وَجَمَاعَة من المرجئة والخوارج وَهِشَام بن الحكم وَسليمَان بن جرير وأصحابهما وَقَالَت الْأُخْرَى أَن الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل هِيَ قبل الْفِعْل مَوْجُودَة فِي الْإِنْسَان وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمرَان وَصَالح فِيهِ وَالنَّاسِي وَجَمَاعَة من الْخَوَارِج والشيعة ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ على فرق فَقَالَت طَائِفَة إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل وَمَعَ الْفِعْل أَيْضا للْفِعْل ولتركه وَهُوَ قَول بشر بن الْمُعْتَمِر الْبَغْدَادِيّ وَضِرَار بن عَمْرو والكوفي وَعبد الله بن غطفان وَمعمر بن عمر والعطار الْبَصْرِيّ وَغَيرهم من الْمُعْتَزلَة وَقَالَ أَبُو الهزيل مُحَمَّد بن الهزيل الْعَبْدي الْبَصْرِيّ العلاف لَا تكون الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل الْبَتَّةَ وَلَا تكون إِلَّا قبله وَلَا بُد وتفنى مَعَ أول وجود الْفِعْل وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن سيار النظام وَعلي الإسواري وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم لَيست الِاسْتِطَاعَة شَيْئا غير نفس المستطيع وَكَذَلِكَ أَيْضا قَالُوا فِي الْعَجز أَنه لَيْسَ شَيْئا غير الْعَاجِز إِلَّا النظام فَإِنَّهُ قَالَ هُوَ آفَة دخلت على المستطيع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما من قَالَ بالإجبار فَإِنَّهُم احْتَجُّوا فَقَالُوا لما كَانَ الله تَعَالَى فعالاً وَكَانَ لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَجب أَن لَا يكون أحد فعالاً غَيره وَقَالُوا أَيْضا معى إِضَافَة الْفِعْل إِلَى الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقول مَاتَ زيد وَإِنَّمَا أَمَاتَهُ الله تَعَالَى وَقَامَ الْبناء وَإِنَّمَا أَقَامَهُ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَخطأ هَذِه الْمقَالة ظَاهر بالحس وَالنَّص وباللغة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَبهَا نتفاهم فَأَما النَّص فَإِن الله عز وَجل قَالَ فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهملوا الصَّالِحَات فنص تَعَالَى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وَأما الْحس فَإِن بالحواس وبضرورة الْعقل وببديهة علمنَا يَقِينا علما لَا يخالج فِيهِ الشَّك أَن(3/14)
بَين الصَّحِيح الْجَوَارِح وَبَين من لَا صِحَة بجوارحه فرقا لائحاً لجوارحه لِأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح يفعل الْقيام وَالْقعُود وَسَائِر الحركات مُخْتَارًا لَهَا دون مَانع وَالَّذِي لَا صِحَة لجوارحه لَو رام ذَلِك جهده لم يَفْعَله أصلا وَلَا بَيَان أبين من هَذَا الْفرق والمجبر فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي يَقع الْفِعْل مِنْهُ بِخِلَاف اخْتِيَاره وقصده فَأَما من وَقع فعله بِاخْتِيَارِهِ وقصده فَلَا يُسمى فِي اللُّغَة مجبراً وَإِجْمَاع الْأمة كلهَا على لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه مُبْطل قَول الْمُجبرَة وَوَجَب أَن لنا حولا وَقُوَّة وَلَكِن لم يكن لنا ذَلِك إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى وَلَو كَانَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْجَهْمِية لَكَانَ القَوْل لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ قَول تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} فنص تَعَالَى على أَن لنا مَشِيئَة إِلَّا أَنَّهَا لَا تكون منا إِلَّا أَن يَشَاء الله كَونهَا وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عرف عناصر الْأَشْيَاء من الْوَاجِب والممتنع والممكن أَيقَن بِالْفرقِ بَين صَحِيح الْجَوَارِح وَغير صَحِيحا لِأَن الْحَرَكَة الاختيارية بِأول الْحس هِيَ غير الاضطرارية وَإِن الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من ذِي الْجَوَارِح المؤوفة مُمْتَنع وَهُوَ من ذِي الْجَوَارِح الصَّحِيحَة مُمكن وإننا بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن المقعد لَو رام الْقيام جهده لما أمكنه ونقطع يَقِينا أَنه لَا يقوم وَأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح لَا نَدْرِي إِذا رَأَيْنَاهُ قَاعِدا أيقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذَلِك مِنْهُ مُمكن وَإِمَّا من طَرِيق اللُّغَة فَإِن الْإِجْبَار وَالْإِكْرَاه والاضطرار وَالْغَلَبَة أَسمَاء مترادفة وَكلهَا وَاقع على معنى وَاحِد لَا يخْتَلف وُقُوع الْفِعْل مِمَّن لَا يؤثره وَلَا يختاره وَلَا يتَوَهَّم مِنْهُ خلَافَة الْبَتَّةَ وَأما من آثر مَا يظْهر مِنْهُ من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إِلَيْهِ هَوَاهُ فَلَا يَقع عَلَيْهِ اسْم إِجْبَار وَلَا اضطرار لكنه مُخْتَار وَالْفِعْل مِنْهُ مُرَاد متعمد مَقْصُود وَنَحْو هَذِه الْعبارَات عَن هَذَا الْمَعْنى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي نتفاهم بهَا فَإِن قَالَ قَائِل فَلم أَبَيْتُم هَا هُنَا من إِطْلَاق لَفْظَة الِاضْطِرَار وأطلقتموها فِي المعارف فقلتم أَنَّهَا باضطرار وكل ذَلِك عنْدكُمْ خلق الله تَعَالَى فِي الْإِنْسَان فَالْجَوَاب أَن بَين الْأَمريْنِ فرقا بَينا وَهُوَ أَن الْفَاعِل متوهم مِنْهُ ترك فعله وممكن ذَلِك مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِك مَا عرفه يَقِينا ببرهان لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم الْبَتَّةَ انْصِرَافه عَنهُ وَلَا يُمكنهُ ذَلِك أصلا فصح أَنه مُضْطَر إِلَيْهَا وَأَيْضًا فقد أثنى الله عز وَجل على قوم دَعوه فَقَالُوا {وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَقد علمنَا أَن الطَّاقَة والاستطاعة وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة أَلْفَاظ مترادفة كلهَا وَاقع على معنى وَاحِد وَهَذِه صفة من يُمكن عَنهُ الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ أَو تَركه بِاخْتِيَارِهِ وَلَا شكّ فِي أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين دعوا هَذَا الدُّعَاء قد كلفوا شيا من الطَّاعَات والأعمال وَاجْتنَاب الْمعاصِي فلولا إِن هَا هُنَا أَشْيَاء لَهُم بهَا طَاقَة لَكَانَ هَذَا الدُّعَاء حمقاً لأَنهم كَانُوا يصيرون داعين الله عز وَجل فِي أَن لَا يكلفهم مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ وهم لَا طَاقَة لَهُم بِشَيْء من الْأَشْيَاء فَيصير دعاؤهم فِي أَن لَا يكلفوا مَا قد كلفوه وَهَذَا محَال من الْكَلَام وَالله تَعَالَى لَا يثني على الْمحَال فصح بِهَذَا إِن هَا هُنَا طَاقَة مَوْجُودَة على الْأَفْعَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
وَأما احتجاجهم بِأَن الله تَعَالَى لما كَانَ فعالاً وَجب أَن لَا يكون فعال غَيره فخطأ من القَوْل لوجوه أَحدهَا أَن النَّص قد ورد بِأَن للْإنْسَان أفعالاً وأعمالاً قَالَ تَعَالَى {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَأثْبت(3/15)
الله لَهُم الْفِعْل وَكَذَلِكَ نقُول إِن الْإِنْسَان يصنع لِأَن النَّص قد جَاءَ بذلك وَلَوْلَا النَّص مَا أطلقنا شَيْئا من هَذَا وَكَذَلِكَ لما قَالَ الله تَعَالَى {وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون} علمنَا أَن للْإنْسَان اخْتِيَارا لِأَن أهل الدُّنْيَا وَأهل الْجنَّة سَوَاء فِي أَنه تَعَالَى خَالق أَعمال الْجَمِيع على أَن الله تبَارك وَتَعَالَى قَالَ {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} فَعلمنَا أَن الِاخْتِيَار الَّذِي هُوَ فعل الله تَعَالَى وَهُوَ منفي عَن سواهُ هُوَ غير الِاخْتِيَار الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى خلقه ووصفهم بِهِ وَوجدنَا هَذَا أَيْضا حسا لِأَن الاخنبار الَّذِي توَحد الله تَعَالَى بِهِ هُوَ أَن يفعل مَا يَشَاء كَيفَ شَاءَ وَإِذا شَاءَ وَلَيْسَت هَذِه صفة شَيْء من خلقه وَأما الِاخْتِيَار الَّذِي أَضَافَهُ الله تَعَالَى إِلَى خلقه فَهُوَ مَا خلق فيهم من الْميل إِلَى شَيْء مَا والإيثار لَهُ على غَيره فَقَط وَهنا غَايَة الْبَيَان وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمِنْهَا أَن الِاشْتِرَاك فِي الْأَسْمَاء لَا يَقع من أَجله التشابه أَلا ترى انك تَقول الله الْحَيّ وَالْإِنْسَان حَيّ وَالْإِنْسَان حَلِيم كريم عليم وَالله تَعَالَى حَكِيم كريم عليم فَلَيْسَ هَذَا يُوجب اشتباهاً بِلَا خلاف وَإِنَّمَا يَقع الِاشْتِبَاه بِالصِّفَاتِ الْمَوْجُودَة فِي الموصوفين وَالْفرق بَين الْفِعْل الْوَاقِع من الله عز وَجل وَالْفِعْل الْوَاقِع منا هُوَ أَن الله تَعَالَى اخترعه وَجعله جسماً أَو عرضا أَو حَرَكَة أَو سكوناً أَو معرفَة أَو إِرَادَة أَو كَرَاهِيَة وَفعل عز وَجل كل ذَلِك فِينَا بِغَيْر معاناة مِنْهُ وَفعل تَعَالَى لغيره عِلّة وَأما نَحن فَإِنَّمَا كَانَ فعلا لنا لِأَنَّهُ عز وَجل خلقه فِينَا وَخلق اختيارنا لَهُ وأظهره عز وَجل فِينَا مَحْمُولا لِاكْتِسَابِ مَنْفَعَة أَو لدفع مضرَّة وَلم نخترعه نَحن وَأما من قَالَ بالاستطاعة قبل الْفِعْل فعمدة حجتهم أَن قَالُوا لَا يَخْلُو الْكَافِر من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون مَأْمُورا بِالْإِيمَان أَو لَا يكون مَأْمُورا بِهِ فَإِن قُلْتُمْ أَنه غير مَأْمُور بِالْإِيمَان فَهَذَا كفر مُجَرّد وَخلاف لِلْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاع وَإِن قُلْتُمْ هُوَ مَأْمُور بِإِيمَان وَهَكَذَا تَقولُونَ فَلَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون أَمر وَهُوَ يَسْتَطِيع مَا أَمر بِهِ فَهَذَا قَوْلنَا لَا قَوْلكُم أَو يكون أَمر وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع مَا أَمر بِهِ فقد نسبتم إِلَى الله عز وَجل تَكْلِيف مَا لَا يُسْتَطَاع ولزمكم أَن تجيزوا تَكْلِيف الْأَعْمَى أَن يرى والمقعد أَن يجْرِي أَو يطلع إِلَى السَّمَاء وَهَذَا كُله جور وظلم والجور وَالظُّلم منفيان عَن الله عز وَجل وَقَالُوا إِذْ لَا يفعل الْمَرْء فعلا إِلَّا بإستطاعة موهوبة من الله عز وَجل وَلَا تَخْلُو تِلْكَ الِاسْتِطَاعَة من أَن يكون الْمَرْء أعطيها وَالْفِعْل مَوْجُود أَو أعطيها وَالْفِعْل غير مَوْجُود فَإِن كَانَ أعطيها وَالْفِعْل مَوْجُود فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَيْهَا إِذْ قد وجد الْفِعْل مِنْهُ الَّذِي يحْتَاج إِلَى الِاسْتِطَاعَة ليَكُون ذَلِك الْفِعْل بهَا وَإِن كَانَ أعطيها وَالْفِعْل غير مَوْجُود فَهَذَا قَوْلنَا إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل قَالُوا وَالله تَعَالَى يَقُول {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} قَالُوا فَلَو لم تتقدم الِاسْتِطَاعَة الْفِعْل لَكَانَ الْحَج لَا يلْزم أحدا قبل ان يحجّ وَقَالَ تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} فَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة للصَّوْم لَا تتقدم الصَّوْم مَا لَزِمت أحدا الْكَفَّارَة بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} فصح أَن استطاعة الْخُرُوج مَوْجُودَة مَعَ عدم الْخُرُوج وَقَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَلَهُم أَيْضا فِي خلق الْأَفْعَال اعْتِرَاض نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين(3/16)
بَاب مَا الِاسْتِطَاعَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن الْكَلَام على حكم لَفْظَة قبل تَحْقِيق مَعْنَاهَا وَمَعْرِفَة المُرَاد بهَا وَعَن أَي شَيْء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حَقِيقَتهَا فَيَنْبَغِي أَولا أَن نوقف على معنى الِاسْتِطَاعَة فَإِذا تكلمنا عَلَيْهِ وقررناه بحول الله تَعَالَى وقوته سهل الإشراف على صَوَاب هَذِه الْأَقْوَال من خطئها بعون الله تَعَالَى وتأييده فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إِن من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع قَول فِي غَايَة الْفساد وَلَو كَانَ لقائله أقل علم باللغة الْعَرَبيَّة ثمَّ بحقائق الْأَسْمَاء والمسميات ثمَّ بماهية الْجَوَاهِر والأعراض لم يقل هَذَا السخف أما اللُّغَة فَإِن الِاسْتِطَاعَة إِنَّمَا هِيَ مصدر اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيع استطاعة والمصدر هُوَ فعل الْفَاعِل وَصفته كالضرب الَّذِي هُوَ فعل الضَّارِب والحمرة الَّتِي هِيَ صفة الْأَحْمَر والاحمرار الَّذِي هُوَ صفة المحمر وَمَا أشبه هَذَا وَالصّفة وَالْفِعْل عرضان بِلَا شكّ فِي الْفَاعِل منا وَفِي الْمَوْصُوف والمصادر هِيَ أَحْدَاث المسمين بالأسماء بِإِجْمَاع من أهل كل لِسَان فَإِذا كَانَت الِاسْتِطَاعَة فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتكلم نَحن وهم إِنَّمَا هِيَ صفة فِي المستطيع فبالضرورة نعلم أَن الصّفة هِيَ غير الْمَوْصُوف لِأَن الصِّفَات تتعاقب عَلَيْهِ فتمضي صفة وَتَأْتِي أُخْرَى فَلَو كَانَت الصّفة هِيَ الْمَوْصُوف لَكَانَ الْمَاضِي من هَذِه الصِّفَات هُوَ الْمَوْصُوف الْبَاقِي وَلَا سَبِيل إِلَى غير هَذَا الْبَتَّةَ فَإذْ لَا شكّ فِي أَن الْمَاضِي هُوَ غير الْبَاقِي فالصفات هِيَ غير الْمَوْصُوف بهَا وَمَا عدا هَذَا فَهُوَ من الْمحَال والتخليط فَإِن قَالُوا أَن الِاسْتِطَاعَة لَيست مصدر إستطاعة وَلَا صفة المستطيع كابروا وَأتوا بلغَة جَدِيدَة غير اللُّغَة الَّذِي نزل بهَا الْقُرْآن وَالَّتِي لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِيهَا نتنازع إِنَّمَا هِيَ كلمة من تِلْكَ اللُّغَة وَمن أحَال شَيْئا من الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة عَن وضوعها فِي اللُّغَة بِغَيْر نَص محيل لَهَا وَلَا بِإِجْمَاع من أهل الشَّرِيعَة فقد فَارق حكم أهل الْعُقُول وَالْحيَاء وَصَارَ فِي نِصَاب من لَا يتَكَلَّم مَعَه وَلَا يعجز أحد أَن يَقُول الصَّلَاة لَيست مَا تعنون بهَا وَإِنَّمَا هِيَ أَمر كَذَا وَالْمَاء هُوَ الْخمر وَفِي هَذَا بطلَان الْحَقَائِق كلهَا وَأَيْضًا فإننا نجد الْمَرْء مستطيعاً ثمَّ نرَاهُ غير مستطيع لخدر عرض فِي أَعْضَائِهِ أَو لتكتيف وَضبط أَو لإغماء وَهُوَ بِعَيْنِه قَائِم لم ينتقص مِنْهُ شَيْء فصح بِالضَّرُورَةِ أَن الَّذِي عدم من الِاسْتِطَاعَة هُوَ غير المستطيع الَّذِي كَانَ وَلم يعْدم هَذَا أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ والحس وَبِهَذَا أيقنا أَن الِاسْتِطَاعَة عرض من الْأَعْرَاض تقبل الأشد والأضعف فَنَقُول استطاعة أَشد من استطاعة واستطاعة أَضْعَف من استطاعة وَأَيْضًا فَأن الِاسْتِطَاعَة لَهَا ضد وَهُوَ الْعَجز والأضداد لَا تكون إِلَّا أعراضاً تقتسم طرفِي الْبعد كالخضرة وَالْبَيَاض وَالْعلم وَالْجهل وَالذكر وَالنِّسْيَان وَمَا أشبه هَذَا وَهَذَا كُله أَمر يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا يُنكره إِلَّا أعمى الْقلب والحواس ومعاند مكابر للضَّرُورَة والمستطيع جَوْهَر والجوهر لَا ضد لَهُ فصح بِالضَّرُورَةِ إِن الِاسْتِطَاعَة هِيَ غير المستطيع بِلَا شكّ وَأَيْضًا فَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع لَكَانَ الْعَجز أَيْضا هُوَ الْعَاجِز وَالْعَاجِز هُوَ المستطيع بالْأَمْس فعلى هَذَا يجب أَن الْعَجز هُوَ المستطيع فَإِن تَمَادَوْا على هَذَا لَزِمَهُم أَن الْعَجز عَن الْأَمر هُوَ الِاسْتِطَاعَة عَلَيْهِ وَهَذَا محَال ظَاهر فَإِن قَالُوا إِن الْعَجز غير المستطيع وَهُوَ آفَة دخلت على المستطيع سئلوا عَن الْفرق الَّذِي من أَجله(3/17)
قَالُوا أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ المستطيع وَمنعُوا أَن يكون الْعَجز هُوَ الْعَاجِز وَلَا سَبِيل إِلَى وجود فرق فِي ذَلِك وَبِهَذَا نَفسه يبطل قَول من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة هِيَ بعض المستطيع سَوَاء بِسَوَاء لِأَن الْعرض لَا يكون بَعْضًا للجسم وَأما من قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة كل مَا توصل بِهِ إِلَى الْفِعْل كالإبرة والدلو وَالْحَبل وَمَا أشبه ذَلِك فَقَوْل فَاسد تبطله الْمُشَاهدَة لِأَنَّهُ قد تُوجد هَذِه الْآلَات وتعدم صِحَة الْجَوَارِح لَا يُمكن الْفِعْل فَإِن قَالُوا قد تعدم هَذِه الْآلَات وتوجد صِحَة الْجَوَارِح وَلَا يُمكن الْفِعْل قُلْنَا صَدقْتُمْ وبوجود هَذِه الْآلَات تمّ الْفِعْل إِلَّا أَن لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِي مَعْنَاهَا نتنازع هِيَ لَفْظَة قد وضعت فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتفاهم ونعبر عَن مرادنا على عرض فِي المستطيع فَلَيْسَ لأحد أَن يصرف هَذِه اللَّفْظَة عَن موضوعها فِي اللُّغَة بِرَأْيهِ من غير نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَو جَازَ هَذَا لبطلت الْحَقَائِق وَلم يَصح تفاهم أبدا وَقد علمنَا يَقِينا أَن لَفْظَة الِاسْتِطَاعَة لم تقع قطّ فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا نتفاهم على حَبل وَلَا على مهماز وَلَا على إبرة فَإِن قَالُوا قد صَحَّ عَن أَئِمَّة اللِّسَان كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِن الِاسْتِطَاعَة زَاد وراحلة قيل لَهُم نعم وَقد صَحَّ هَذَا وَلَا خلاف بَين أحد لَهُ فهم باللغة أَنَّهُمَا عنيا بذلك الْقُوَّة على وجود زَاد وراحلة وبرهان ذَلِك أَن الزَّاد والرواحل كثير فِي الْعَالم وَلَيْسَ كَونهمَا عنيا فِي الْعَالم مُوجبا عِنْدهمَا فرض الْحَج على مَا لَا يجدهما فصح ضَرُورَة أَنَّهُمَا عنيا بذلك الْقُوَّة على إِحْضَار زَاد وراحلة وَالْقُوَّة على ذَلِك عرض كَمَا قُلْنَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا القَوْل أَيْضا أَن ذكرُوا قَول الله عز وَجل {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} لِأَن هَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا أَن الْقُوَّة عرض ورباط الْخَيل عرض فَسقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإذْ قد سَقَطت هَذِه الْأَقْوَال كلهَا وَصَحَّ أَن الِاسْتِطَاعَة عرض من الْأَعْرَاض فَوَاجِب علينا معرفَة مَا تِلْكَ الْأَعْرَاض فَنَظَرْنَا ذَلِك بعون الله عز وَجل وتأييده فَوَجَدنَا بِالضَّرُورَةِ الْفِعْل لَا يَقع بِاخْتِيَار إِلَّا من صَحِيح الْجَوَارِح الَّتِي يكون بهَا ذَلِك الْفِعْل فصح يَقِينا أَن سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع استطاعة ثمَّ نَظرنَا سَالم الْجَوَارِح لَا يفعل مُخْتَارًا إِلَّا حَتَّى يستضيف إِلَى ذَلِك إِرَادَة الْفِعْل فَعلمنَا أَن الْإِرَادَة أَيْضا محركة للاستطاعة وَلَا نقُول أَن الْإِرَادَة استطاعة لِأَن كل عَاجز عَن الْحَرَكَة فَهُوَ مُرِيد لَهَا وَهُوَ غير مستطيع وَقد علمنَا ضَرُورَة أَن الْعَاجِز عَن الْفِعْل فَلَيْسَ فِيهِ استطاعة للْفِعْل لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يُمكن أَيْضا أَن تكون الْإِرَادَة بعض الِاسْتِطَاعَة لِأَنَّهُ كَانَ يلْزم من ذَلِك أَن فِي تعاجز المريد استطاعة مَا لِأَن بعض الِاسْتِطَاعَة استطاعة وَبَعض الْعَجز عجز ومحال أَن يكون فِي الْعَاجِز عَن الْفِعْل استطاعة لَهُ الْبَتَّةَ فالاستطاعة لَيست عَجزا فَمن اسْتَطَاعَ على شَيْء وَعجز عَن أَكثر مِنْهُ فَفِيهِ استطاعة على مَا يَسْتَطِيع عَلَيْهِ هِيَ غير الِاسْتِطَاعَة الَّتِي فِيهِ على مَا اسْتَطَاعَ عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ثمَّ نَظرنَا فَوَجَدنَا السَّالِم الْجَوَارِح المريد للْفِعْل قد يَعْتَرِضهُ دون الْفِعْل مَانع لَا يقدر مَعَه على الْفِعْل أصلا فَعلمنَا أَن هَاهُنَا شَيْئا آخر بِهِ تتمّ الإستطاعة وَلَا بُد وَبِه يُوجد الْفِعْل فَعلمنَا ضَرُورَة أَن هَذَا الشَّيْء إِذْ هُوَ تَمام الِاسْتِطَاعَة وَلَا تصح الِاسْتِطَاعَة إِلَّا بِهِ فَهُوَ بِالْيَقِينِ قُوَّة إِذْ الِاسْتِطَاعَة قُوَّة وَأَن ذَلِك الشَّيْء قُوَّة بِلَا شكّ فقد علمنَا أَنه مَا أَتَى بِهِ من عِنْد الله تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى مؤتي القوى إِذْ لَا يُمكن ذَلِك لأحد دونه عز وَجل فصح ضَرُورَة أَن الِاسْتِطَاعَة صِحَة الْجَوَارِح مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع(3/18)
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ قبل الْفِعْل وَقُوَّة أُخْرَى من عِنْد الله عز وَجل وَهَذَا الْوَجْه مَعَ الْفِعْل باجتماعهما يكون الْفِعْل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمن الْبُرْهَان على صِحَة هَذَا القَوْل إِجْمَاع الْأمة كلهَا على سُؤال الله تَعَالَى التَّوْفِيق والاستعاذة بِهِ من الخذلان فالقوة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى على العَبْد فيفعل بهَا الْخَيْر تسمى بِالْإِجْمَاع تَوْفِيقًا وعصمة وتأييداً وَالْقُوَّة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى فيفعل العَبْد بهَا الشَّرّ تسمى بِالْإِجْمَاع خذلاناً وَالْقُوَّة الَّتِي ترد من الله تَعَالَى على العَبْد فيفعل بهَا مَا لَيْسَ طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة تسمى عوناً أَو قُوَّة أَو حولا وَتبين من صِحَة هَذَا صِحَة قَول الْمُسلمين لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَالْقُوَّة لَا تكون لأحد الْبَتَّةَ فعل إِلَّا بهَا فصح أَنه لَا حول وَلَا قُوَّة لأحد إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَكَذَلِكَ يُسمى تيسيراً قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ميسر لما خلق لَهُ وَقد وَافَقنَا جَمِيع الْمُعْتَزلَة على أَن الِاسْتِطَاعَة فعل الله عز وَجل وَأَنه لَا يفعل أحد خيرا وَلَا شرا إِلَّا بِقُوَّة أعطَاهُ الله تَعَالَى إِيَّاهَا إِلَّا أَنهم قَالُوا يصلح بهَا الْخَيْر وَالشَّر مَعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فجملة القَوْل فِي هَذَا بِأَن عناصر الْأَخْبَار ثَلَاثَة وَهُوَ مُمْتَنع أَو وَاجِب أَو مُمكن بَينهمَا هَذَا أمرٌ بضرورة الْحس والتمييز فَإِذا الْأَمر كَذَلِك فَإِن عدمت صِحَة الْجَوَارِح كَانَ لَهُ مَانع إِلَى الْفِعْل وَأما الصَّحِيح الْجَوَارِح الْمُرْتَفع الْمَوَانِع فقد يكون مِنْهُ الْفِعْل وَقد لَا يكون فَهَذِهِ هِيَ الِاسْتِطَاعَة الْمَوْجُودَة قبل الْفِعْل برهَان ذَلِك قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن الْقَائِلين {لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} فأكذبهم الله فِي إنكارهم استطاعة الْخُرُوج قبل الْخُرُوج وَقَوله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} فَلَو لم تكن هُنَا استطاعة قبل فعل الْمَرْء الْحَج لما لزم الْحَج إِلَّا من حج فَقَط وَلما كَانَ أحد عَاصِيا بترك الْحَج لِأَنَّهُ أَن لم يكن مستطيعاً لِلْحَجِّ حَتَّى يحجّ فَلَا حج عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مُخَاطب بِالْحَجِّ وَقَوله تَعَالَى {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل أَن يتماسا فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} فَلَو لم يكن على الْمظَاهر الْعَائِد لقَوْله إستطاعة على الصّيام قبل أَن يَصُوم لما كَانَ مُخَاطبا بِوُجُوب الصَّوْم عَلَيْهِ إِذا لم يجد الرَّقَبَة أصلا ولكان حكمه مَعَ عدم الرَّقَبَة وجوب الْإِطْعَام فَقَط وَهَذَا بَاطِل وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن بَايعه فَمن لم يسْتَطع فقاعداً فَمن لم يسْتَطع فعلى جنب وَهَذَا إِجْمَاع مُتَيَقن لَا شكّ فِيهِ فَلَو لم يكن النَّاس مستطعين للْقِيَام قبل الْقيام لما كَانَ أحد مَأْمُور بِالصَّلَاةِ قبل أَن يُصليهَا كَذَلِك ولكان مَعْذُورًا أَن صلى قَاعِدا وعَلى جنب بِكُل وَجه لِأَنَّهُ إِذا صلى كَذَلِك لم يكن مستطيعاً للْقِيَام وَهَذَا بَاطِل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِشَيْء فأتو بِهِ مَا اسْتَطَعْتُم فَلَو لم يكن هَا هُنَا استطاعة لشَيْء مِمَّا أمرنَا بِهِ أَن نفعله لما لزمنا شَيْء مِمَّا أمرنَا بِهِ مِمَّا لم نفعله وَلَكنَّا غير عصاة بِالتّرْكِ لأننا لم نكلف بِالنَّصِّ إِلَّا مَا استطعنا وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتستطيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن قَالَ فَلَو لم يكن أحد مستطيعاً للصَّوْم إِلَّا حَتَّى يَصُوم لَكَانَ هَذَا السُّؤَال مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام محالا وحاشا لَهُ من ذَلِك وَمِمَّا يتَبَيَّن صِحَة هَذَا وَأَن المُرَاد فِي كل مَا ذكرنَا صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع قَول الله تَعَالَى {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وهم سَالِمُونَ} فنص تَعَالَى على أَن فِي عدم السَّلامَة بطلَان الِاسْتِطَاعَة وَأَن وجود السَّلامَة بِخِلَاف ذَلِك فصح ان سَلامَة الْجَوَارِح استطاعة وَإِذا صَحَّ هَذَا فبيقين نَدْرِي أَن سَلامَة الْجَوَارِح يكون بهَا الْفِعْل وضده وَالْعَمَل وَتَركه وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة لِأَن كل هَذَا يكون بِصِحَّة الْجَوَارِح فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن(3/19)
سَلامَة الْجَوَارِح عرض وَالْعرض لَا يبْقى وَقْتَيْنِ قيل لَهُ هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان والآيات الْمَذْكُورَات مبطلة لهَذِهِ الدَّعْوَى وموجبة أَن هَذِه الِاسْتِطَاعَة من سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع مَوْجُودَة قبل الْفِعْل ثمَّ لَو كَانَ مَا ذكرْتُمْ مَا كَانَ فِيهِ دفع لما قَالَه عز وَجل من ذَلِك ثمَّ وجدنَا الله تَعَالَى قد قَالَ {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} وَقَالَ تَعَالَى حاكيا قَول الْخضر لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} وَقَالَ {ذَلِك تَأْوِيل مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا} وَعلمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض وَلَا يخْتَلف قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فتيقنا أَن الِاسْتِطَاعَة الَّتِي أثبتها الله تَعَالَى قبل الْفِعْل هِيَ غير الِاسْتِطَاعَة الت نفاها مَعَ الْفِعْل وَلَا يجوز غير ذَلِك الْبَتَّةَ فَإذْ ذَلِك كَذَلِك فالاستطاعة كَمَا قُلْنَا شَيْئَانِ أَحدهمَا قبل الْفِعْل وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَالثَّانِي لَا يكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَهُوَ الْقُوَّة الْوَارِدَة من الله تَعَالَى بالعون والخذلان وَهُوَ خلق الله تَعَالَى للْفِعْل فِيمَن ظهر مِنْهُ وَسمي من أجل ذَلِك فَاعِلا لما ظهر مِنْهُ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى وجود معنى غير هَذَا الْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْكَلَام فِي الِاسْتِطَاعَة بِمَا جَاءَت بِهِ نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنَن وَالْإِجْمَاع وضرورة الْحس وبديهة الْعقل فعلى هَذَا التَّقْسِيم دينا الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فَإِذا نَفينَا وجود الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل فَإِنَّمَا نعني بذلك الِاسْتِطَاعَة الَّتِي بهَا يَقع الْفِعْل وَيُوجد وَاجِبا وَلَا بُد وَهِي خلق الله تَعَالَى للْفِعْل فِي فَاعله وَإِذا أثبتنا الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل فَإِنَّمَا نعني بهَا صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع الَّتِي يكون الْفِعْل بهَا مُمكنا مُتَوَهمًا لَا وَاجِبا وَلَا مُمْتَنعا وَبهَا يكون الْمَرْء مُخَاطبا مُكَلّفا مَأْمُورا مَنْهِيّا وَبعد مهما يسْقط عَنهُ الْخطاب والتكليف وبصير الْفِعْل مِنْهُ مُمْتَنعا وَيكون عَاجِزا عَن الْفِعْل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَإذْ قد تبين مَا الِاسْتِطَاعَة فَنَقُول بعون الله عز وَجل فِيمَا اعترضت بِهِ الْمُعْتَزلَة الْمُوجبَة للاستطاعة جملَة قبل الْفِعْل وَلَا بُد فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنهم قَالُوا أخبرونا عَن الْكَافِر الْمَأْمُور بِالْإِيمَان أهوَ مَأْمُور بِمَا لَا يَسْتَطِيع أم بِمَا يَسْتَطِيع فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد إننا قد بَينا آنِفا أَن صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع استطاعة وحامل هَذِه الصّفة مستطيع بِظَاهِر حَاله من هَذَا الْوَجْه وَغير مستطيع مَا لم يفعل الله عز وَجل فِيهِ مَا بِهِ يكون تَمام استطاعته وَوُجُود الْفِعْل فَهُوَ مستطيع من وَجه غير مستطيع من وَجه آخر وَهَذَا مَعَ أَنه نَص الْقُرْآن كَمَا أوردنا فَهُوَ أَيْضا مشَاهد كالبناء الْمجِيد فَهُوَ مستطيع بِظَاهِر حَاله ومعرفته بِالْبِنَاءِ غير مستطيع للآلات الَّتِي لَا يُوجد الْبناء إِلَّا بهَا وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْأَعْمَال وَأَيْضًا فقد يكون الْمَرْء عَاصِيا لله تَعَالَى فِي وَجه مُطيعًا لَهُ فِي آخر مُؤمنا بِاللَّه كَافِرًا بالطاغوت فَإِن قَالُوا فقد نسبتم لله تَكْلِيف مَا لَا يُسْتَطَاع قُلْنَا هَذَا بَاطِل مَا نسبنا إِلَيْهِ تَعَالَى إِلَّا مَا أخبر بِهِ عَن نَفسه أَنه لَا يُكَلف أحدا إِلَّا مَا يَسْتَطِيع بسلامة جوارحه وَقد يكلفه مَا لَا يَسْتَطِيع فِي علم الله تَعَالَى لَان الِاسْتِطَاعَة الَّتِي بهَا يكون الْفِعْل لَيست فِيهِ بعد وَلَا يجوز أَن يُطلق على الله تَعَالَى أحد الْقسمَيْنِ دون الآخر وَأما قَوْلهم أَن هَذَا كتكليف المقعد الجري أَو الْأَعْمَى النّظر وَإِدْرَاك الألوان والارتفاع إِلَى السَّمَاء فَإِن هَذَا بَاطِل لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسَ فيهم شَيْء من قسمى الِاسْتِطَاعَة فَلَا استطاعة لَهُم أصلا وَأما الصَّحِيح الْجَوَارِح فَفِيهِ أحد قسمى الِاسْتِطَاعَة وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وَلَوْلَا أَن الله عز وَجل آمننا بقوله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج}(3/20)
لَكَانَ غير مُنكر أَن يُكَلف الله تَعَالَى الْأَعْمَى إِدْرَاك الألوان والمقعد الجري والطلوع إِلَى السَّمَاء ثمَّ يعذبهم عِنْد عدم ذَلِك مِنْهُم وَللَّه تَعَالَى أَن يعذب من شَاءَ دون ان يكلفه وَأَن ينعم من شَاءَ دون ان يكلفه كَمَا رزق من شَاءَ الْعقل وَحرمه الجماد وَالْحِجَارَة وَسَائِر الْحَيَوَان وَجعل عِيسَى بن مَرْيَم نَبيا فِي المهد حِين وِلَادَته وَشد على قلب فِرْعَوْن فَلم يُؤمن قَالَ تَعَالَى {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَلَيْسَ فِي بداية الْعُقُول حسن وَلَا قَبِيح لعَينه الْبَتَّةَ وَقَالَت الْمُعْتَزلَة مَتى أعطي الْإِنْسَان الِاسْتِطَاعَة أقبل وجود الْفِعْل فَإِن كَانَ قبل وجود الْفِعْل قَالُوا فَهَذَا قَوْلنَا وَإِن كَانَ حِين وجود الْفِعْل فَمَا حاجتنا إِلَيْهَا فجوابنا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِن الِاسْتِطَاعَة قِسْمَانِ كَمَا قُلْنَا فأحدهما قبل الْفِعْل وَهُوَ سَلامَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَالثَّانِي مَعَ الْفِعْل وَهُوَ خلق الله للْفِعْل فِي فَاعله ولولاهما لم يَقع الْفِعْل كَمَا قَالَ الله عز وَجل وَلَو كَانَت الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إِلَّا قبل الْفِعْل وَلَا بُد وَلَا تكون مَعَ الْفِعْل أصلا كَمَا زعم أَبُو الهزيل لَكَانَ الْفَاعِل إِذا فعل عديم الِاسْتِطَاعَة وفاعلاً فعلا لَا استطاعة لَهُ على فعله حِين فعله وَإِذ لَا استطاعة لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاجز عَنهُ فَهُوَ فَاعل عَاجز عَمَّا يفعل مَعًا وَهَذَا تنَاقض ومحال ظَاهر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَهُم الزامات سخيفة هِيَ لَازِمَة لَهُم كَمَا تلْزم غَيرهم سَوَاء بِسَوَاء مِنْهَا قَوْلهم مَتى أحرقت النَّار الْعود أَفِي حَال سَلَامَته أم وَهُوَ غير محترق فَإِن كَانَت أحرقته فِي حَال سَلَامَته فَهُوَ إِذا محرق غير محرق وَإِن كَانَت أحرقته وَهُوَ محرق فَمَا الَّذِي فعلت فِيهِ وكسؤالهم مَتى كسر الْمَرْء الْعود أكسره وَهُوَ صَحِيح فَهُوَ إِذا مكسور صَحِيح أَو كَسره وَهُوَ مكسور فَمَا الَّذِي أحدث فِيهِ وكسؤالهم مَتى أعتق الْمَرْء عَبده فِي حَال رقّه فَهُوَ حر عبد مَعًا أَو فِي حَال عتقه فَأَي معنى لعتقه إِيَّاه وَمَتى طلق الْمَرْء زَوجته أطلقها وَهِي غير مُطلقَة فَهِيَ مُطلقَة لَا مُطلقَة مَعًا أم طَلقهَا وَهِي مُطلقَة فَمَا الَّذِي أثر فِيهَا طَلَاقه وَمَتى مَاتَ الْمَرْء فِي حَيَاته مَاتَ أم وَهُوَ ميت وَمثل هَذَا كثير
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذِه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة وَالْحق فيهاأن تَفْرِيق النَّار إزاء مَا عملت فِيهِ هُوَ الْمُسَمّى إحراقا وَلَيْسَ للإحراق شَيْء غير ذَلِك فَقَوْلهم هَل أحرقت وَهُوَ محرق تَخْلِيط لِأَن فِيهِ أَيهَا مَا أَن الإحراق غير الإحراق وَهَذِه سخافة وَكَذَلِكَ كسر الْعود إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاجه عَن حَال الصِّحَّة وَالْكَسْر نَفسه هُوَ حَال الْعود حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ إِخْرَاج العَبْد من الرّقّ إِلَى عتقه هُوَ عتقه وَلَا مزِيد لَيست لَهُ حَال أُخْرَى وَكَذَلِكَ خُرُوج الْمَرْأَة من الزَّوْجِيَّة إِلَى الطَّلَاق هُوَ تطليقها نَفسه وَكَذَلِكَ فِرَاق الرّوح للجسد وَهُوَ الإماتة وَالْمَوْت نَفسه وَلَا مزِيد وَلَيْسَت هَا هُنَا حَال أُخْرَى وَقع الْفِعْل فِيهَا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي أَن إتْمَام الِاسْتِطَاعَة لَا يكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل لَا قبله
قَالَ أَبُو مُحَمَّد يُقَال لمن قَالَ أَن الِاسْتِطَاعَة كلهَا لَيست إِلَّا قبل الْفِعْل وَأَنَّهَا قبل الْفِعْل بِتَمَامِهَا وَتَكون أَيْضا مَعَ الْفِعْل أخبرونا عَن الْكَافِر هَل يقدر قبل أَن يُؤمن فِي حَال كفره على الْإِيمَان قدرَة تَامَّة أم لَا وَعَن تَارِك الصَّلَاة هَل يقدر قدرَة تَامَّة على الصَّلَاة فِي حَال تَركه وَعَن الزَّانِي هَل يقدر فِي حَال زِنَاهُ على ترك الزِّنَا بِأَن لَا يكون مِنْهُ زنا أصلا أم لَا وَبِالْجُمْلَةِ فإلا وَأمر كلهَا إِنَّمَا هِيَ امْرَهْ بحركة أوَامِر بِسُكُون أوَامِر باعتقاد إِثْبَات شَيْء مَا أَو(3/21)
أَمر باعتقاد إبِْطَال شَيْء مَا وَهَذَا كُله يجمعه فعل أَو ترك فأخبرونا هَل يقدر السَّاكِن الْمَأْمُور بالحركة على الْحَرَكَة حَال السّكُون أَو يقدر المتحرك الْمَأْمُور بِالسُّكُونِ على السّكُون فِي حَال الْحَرَكَة وَعَن مُعْتَقد إبِْطَال شَيْء مَا وَهُوَ مَأْمُور باعتقاد إثْبَاته هَل يقدر فِي حَال اعْتِقَاده إِبْطَاله على اعْتِقَاد إثْبَاته أم لَا وَعَن مُعْتَقد إِثْبَات شَيْء مَا وَهُوَ مَأْمُور باعتقاد إِبْطَاله هَل يقدر فِي حَال اعْتِقَاده إثْبَاته على اعْتِقَاد إِبْطَاله أم لَا وَعَن الْمَأْمُور بِالتّرْكِ وَهُوَ فَاعل مَا أَمر يتْركهُ أيقدر على تَركه فِي حَال فعله فَيكون فَاعِلا لشَيْء تَارِكًا لذَلِك الشَّيْء مَعًا أم لَا فَإِن قَالُوا نعم هُوَ قَادر على ذَلِك كابروا العيان وخالفوا الْمَعْقُول والحس وأجازوا كل طَاعَة من كَون الْمَرْء قَاعِدا قَائِما مَعًا ومؤمناً بِاللَّه كَافِرًا بِهِ مَعًا وَهَذَا أعظم مَا يكون من الْمحَال الْمُمْتَنع وَإِن قَالُوا أَنه لَا يقدر قدرَة تَامَّة يكون بهَا الْفَاعِل لشَيْء هُوَ فَاعل لخلافه قَالُوا الْحق وَرَجَعُوا إِلَى أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد استطاعة تَامَّة يَقع بهَا الْفِعْل إِلَّا حَتَّى يَفْعَله وكل جَوَاب أجابوا بِهِ هَا هُنَا فَإِنَّمَا هُوَ إِيهَام وَلَو أذو مدافعة بِالروحِ لِأَنَّهُ إِلْزَام ضَرُورِيّ حسي مُتَيَقن لَا محيد عَنهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَإِن قَالُوا لسنا نقُول أَنه يقدر على أَن يجمع بَين الْفِعْلَيْنِ المتضادين مَعًا ولكننا قُلْنَا أَنه قَادر على أَن يتْرك مَا هُوَ فِيهِ وَيفْعل مَا أَمر بِهِ قيل لَهُم هَذَا هُوَ نَفسه الَّذِي أردنَا مِنْكُم وَهُوَ أَنه لَا يقدر قدرَة تَامَّة وَلَا يَسْتَطِيع استطاعة تَامَّة على فعل مَا دَامَ فَاعِلا لما يمانعه فَإِذا ترك كل ذَلِك وَشرع فِيمَا أَمر بِهِ فَحِينَئِذٍ تمت قدرته واستطاعته لَا بُد من ذَلِك وَهَذَا هُوَ نفس مَا موهوا بِهِ فِي سُؤَالهمْ لنا هَل أَمر الله تَعَالَى العَبْد بِمَا يَسْتَطِيع قبل أَن يَفْعَله أم بِمَا لَا يَسْتَطِيع حَتَّى يَفْعَله وَهَذَا لَهُم لَازم لأَنهم شنعوه وعظموه وأنكروه وَنحن لَا ننكره وَلَا نرى ذَلِك إلزاماً صَحِيحا فقبحه عَائِد عَلَيْهِم وَإِنَّمَا يلزمم الشَّيْء من يُصَحِّحهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أجَاب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عبد الله بن أَحْمد الكعبي الْبَلْخِي أحد رُؤَسَاء الْأَصْلَح من العتزلة بِأَن قَالَ إننا لَا نَخْتَلِف فِي أَن الله عز وَجل قَادر على تسكين المتحرك وتحريك السَّاكِن وَلَيْسَ يُوصف بِالْقُدْرَةِ على أَن يَجعله سَاكِنا متحركاً مَعًا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْجَاهِل الملحد فِيمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ بل الله تَعَالَى قَادر على أَن يَجْعَل الشَّيْء سَاكِنا متحركاً مَعًا فِي وَقت وَاحِد من وَجه وَاحِد وَلَكِن كَلَام الْبَلْخِي هَذَا لَازم لمن الْتزم هَذِه الْكَفَرَة الصلعاء (1) من أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على الْمحَال وَيُقَال لَهُم لم لَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك لِأَن لَهُ قدرَة على ذَلِك وَلَا يُوصف بهَا أم لِأَنَّهُ لَا قدرَة لَهُ على ذَلِك وَلَا محيد لَهُم عَن هَذَا وَهَذِه طَائِفَة جعلت قدرَة الله تَعَالَى متناهية بل قطعُوا قطعا بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يقدر على الشَّيْء حَتَّى يَفْعَله وَهَذَا كفر مُجَرّد لَا خَفَاء بِهِ ونعوذ بِاللَّه من الخذلان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيُقَال للمعتزلة أَيْضا أَنْتُم مقرون أَيْضا مَعنا بِأَن الله تَعَالَى لم يزل عليماً بِأَن كل كَائِن فَإِنَّهُ سَيكون على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذا كَانَ وَلم يزل الله تَعَالَى يعلم أَن فلَانا سيطا فُلَانَة فِي وَقت كَذَا فَتحمل مِنْهُ بِولد يخلقه الله تَعَالَى من منيهما الْخَارِج مِنْهُمَا عِنْد جمَاعه إِيَّاهَا وَأَنه يعِيش(3/22)
ثَمَانِينَ سنة وَيملك وَيفْعل ويصنع فَإِذا قُلْتُمْ أَن ذَلِك الفلان يقدر قدرَة تَامَّة على ترك ذَلِك الْوَطْء الَّذِي لم يزل الله تَعَالَى يعلم أَنه سَيكون وَأَنه يخلق ذَلِك الْوَلَد مِنْهُ فقد قطعْتُمْ بِأَنَّهُ قَادر على أَن يمْنَع الله من خلق مَا قد علم أَنه سيخلقه وَأَنه قَادر قدرَة تَامَّة على إبِْطَال علم الله عز وَجل وَهَذَا كفر مِمَّن أجَازه فَإِن قَالَ قَائِل فَإِنَّكُم أَنْتُم تطلقون أَن الْمَرْء مستطيع قبل الْفِعْل لصِحَّة جوارحه فَهَذَا يلزمكم قُلْنَا هَذَا لَا يلْزمنَا لأننا لم نطلق أَن لَهُ قدرَة تَامَّة على ذَلِك أصلا بل قُلْنَا أَنه لَا يقدر على ذَلِك قدرَة تَامَّة الْبَتَّةَ وَمعنى قَوْلنَا أَنه مستطيع بِصِحَّة جوارحه أَي أَنه متوهم مِنْهُ ذَلِك لَو كَانَ وَنحن لم نطلق الِاسْتِطَاعَة إِلَّا على هَذَا الْوَجْه حَيْثُ أطلقها الله عز وَجل فَإِن قَالُوا إِن الله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك وَلَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ على فسخ علمه الَّذِي لم يزل قُلْنَا وَهَذَا أَيْضا مِمَّا تكلمنا فِيهِ آنِفا بل الله تَعَالَى قَادر على كل ذَلِك بِخِلَاف خلقه على مَا قد مضى كلامنا فِيهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد نَص الله تَعَالَى على مَا قُلْنَا بقوله عز وَجل {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} إِلَى قَوْله {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} فأكذبهم الله تَعَالَى فِي نفيهم عَن أنفسهم الِاسْتِطَاعَة الَّتِي هِيَ صِحَة الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع ثمَّ نَص تَعَالَى على أَنه قَالَ اقعدوا مَعَ القاعدين وَهَذَا أَمر تكوين لَا أَمر بالقعود لِأَنَّهُ تَعَالَى ساخط عَلَيْهِم لقعودهم وَقد نَص تَعَالَى على أَنه {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فقد ثَبت يَقِينا أَنهم مستطيعون بِظَاهِر الْأَمر بِالصِّحَّةِ فِي الْجَوَارِح وارتفاع الْمَوَانِع وَإِن الله تَعَالَى كَون فيهم قعودهم فَبَطل أَن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الَّذِي ظهر مِنْهُم وَقَالَ عزو جلّ {من يهد الله فَهُوَ المهتد وَمن يضلل فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً} فَبين عز وَجل بَيَانا جلياً أَن من أعطَاهُ الْهدى اهْتَدَى وَمن أضلّهُ فَلَا يَهْتَدِي فصح يَقِينا أَن بِوُقُوع الْهدى لَهُ من الله تَعَالَى وَهُوَ التَّوْفِيق يفعل العَبْد مَا يكون بِهِ مهتدياً وَأَن بِوُقُوع الأضلال من الله تَعَالَى وَهُوَ الخذلان وَخلق ضلال العَبْد يفعل الْمَرْء مَا يكون بِهِ ضَالًّا فَإِن قَالَ قَائِل معنى هَذَا من سَمَّاهُ الله مهتدياً وَمن سَمَّاهُ ضَالًّا قيل لَهُ هَذَا بَاطِل لِأَن الله تَعَالَى نَص على أَن من أضلّهُ الله فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشداً فَلَو أَرَادَ الله تَسْمِيَته كَمَا زعمتم لَكَانَ هَذَا القَوْل مِنْهُ عز وَجل كذبا لِأَن كل ضال فَلهُ أَوْلِيَاء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا الله من الْكَذِب فَبَطل تأويلهم الْفَاسِد وَصَحَّ قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ الله تَعَالَى مخبرا عَن الْخضر الَّذِي آتَاهُ الله تَعَالَى الْعلم وَالْحكمَة والنبوة حاكياً عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وفتاه {فوجدا عبدا من عبادنَا آتيناه رَحمَه من عندنَا وعلمناه من لدنا علما} وَقَالَ تَعَالَى مخبرا عَنهُ ومصدقاً عَنهُ {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} فصح أَن كل مَا قَالَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام فَمن وَحي الله عز وَجل ثمَّ أخبر عز وَجل بِأَن الْخضر قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} فَلم يُنكر الله تَعَالَى كَلَامه ذَلِك وَلَا أنكرهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَكِن أَجَابَهُ بقوله {ستجدني إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أعصى لَك أمرا} فَلم يقل لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي مستطيع للصبر بل صدق قَوْله فِي ذَلِك إِذْ أقره وَلم يُنكره وَرَجا أَن يجد الله لَهُ استطاعه على الصَّبْر فيصبر وَلم يُوجِبهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَيْضا لنَفسِهِ إِلَّا أَن يَشَاء الله تَعَالَى ثمَّ كرر عَلَيْهِ الْخضر بعد ذَلِك مَرَّات أَنه غير مستطيع للصبر إِذْ لم يصبر فَلم يُنكر ذَلِك مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذِهِ شَهَادَة ثَلَاثَة أَنْبيَاء مُحَمَّد ومُوسَى وَالْخضر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكبر من شَهَادَتهم شَهَادَة الله عز وَجل(3/23)
بتصديقهم فِي ذَلِك إِذْ قد نَصه الله تَعَالَى علينا غير مُنكر لَهُ بل مُصدقا لَهُم وَهَذَا لَا يردهُ إِلَّا مخذول وَقَالَ عز وَجل {وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ للْكَافِرِينَ عرضا الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} فنص تَعَالَى نصا جلياً على أَنهم كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السّمع الَّذِي أمروا بِهِ وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِك كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكر الله عزو جلّ وَمَعَ ذَلِك استحقوا على ذَلِك جَهَنَّم وَكَانُوا فِي ظَاهر الْأَمر مستطيعون بِصِحَّة جوارحهم وَهَذَا نَص قَوْلنَا بِلَا تكلّف وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحوراً انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} فنفى الله عز وَجل عَنْهُم استطاعة شَيْء من السبل غير سَبِيل الضلال وَحده وَفِي هَذَا كِفَايَة لمن عقل وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} فنص تَعَالَى على أَن من لم يَأْذَن لَهُ فِي الْإِيمَان لم يُؤمن وَإِن من أذن لَهُ فِي الْإِيمَان آمن وَهَذَا الْأذن هُوَ التَّوْفِيق الَّذِي ذكرنَا فَيكون بِهِ الْإِيمَان وَلَا بُد وَعدم الْأذن هُوَ الخذلان الَّذِي ذكرنَا نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام ومصدقاً لَهُ إِذْ يَقُول {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن} فنص تَعَالَى على أَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لم يعنه بِصَرْف الكيد عَنهُ صبا وَجَهل وَأَنه تَعَالَى صرف الكيد عَنهُ فَسلم وَهَذَا نَص جلي على أَنه إِذا وَفقه اعْتصمَ واهتدى وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم خَلِيله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومصدقاً لَهُ {لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} فَهَذَا نَص على أَن من أعطَاهُ الله عز وَجل قُوَّة الْإِيمَان آمن واهتدى وَأَن من مَنعه تِلْكَ الْقُوَّة كَانَ من الضَّالّين وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَقَالَ تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} فنص تَعَالَى على أَنه أمره بِالصبرِ ثمَّ اخبره أَنه لَا صَبر لَهُ إِلَّا بعون الله تَعَالَى فَإِذا أَعَانَهُ بِالصبرِ صَبر وَقَالَ تَعَالَى {إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل} وَهَذَا نَص جلي على أَن من أضلّهُ الله تَعَالَى بالخذلان لَهُ فَلَا يكون مهتدياً وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} فَهَذَا نَص لَا إِشْكَال فِيهِ على أَن الله عز وَجل مَنعهم أَن يفقهوه فَإِن قَالَ قَائِل إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى أَنه يفعل ذَلِك بالذين لَا يُؤمنُونَ وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} قيل لَهُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق لَو صَحَّ لَك هَذَا التَّأْوِيل لَكَانَ حجَّة عَلَيْك لِأَنَّهُ تَعَالَى قد مَنعهم للتوفيق وسلط عَلَيْهِم الخذلان وأضلهم وطبع على قُلُوبهم فاجعله كَيفَ شِئْت فَكيف وَلَيْسَ ذَلِك على مَا تأولت وَلَكِن الْآيَات ظواهرها وعَلى مَا يَقْتَضِيهِ لَفظهَا دون تكلّف هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أضلهم صَارُوا ضَالِّينَ فاسقين حِين أضلهم لَا قبل أَن يضلهم وَكَذَلِكَ إِنَّمَا صَارُوا لَا يُؤمنُونَ حِين جعل بَينهم وَبَينه حِجَابا وَحين جعل على قُلُوبهم أكنة وَفِي آذانهم الوقر لَا قبل ذَلِك وَإِنَّمَا صَارا كَافِرين حِين طبع على قُلُوبهم لَا قبل ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا} فنص تَعَالَى على أَنه لَوْلَا أَن ثَبت نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتوفيق لركن إِلَيْهِم فَإِنَّمَا يثبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين ثبته الله عز وَجل لَا قبل ذَلِك وَلَو لم يُعْطه التثبيت وخذله لركن إِلَيْهِم وضل وَاسْتحق الْعَذَاب على ذَلِك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات فتباً لكل مخذول يظنّ فِي نَفسه الخسيسة أَنه مستغن عَمَّا افْتقر إِلَيْهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من توفيق الله وتثبيته وَإنَّهُ قد استوفى من الْهدى مَالا مزِيد عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَيْسَ عِنْد ربه أفضل مِمَّا أعطَاهُ بعد وَلَا أَكثر وَقد(3/24)
أمرنَا عز وَجل أَن نقُول {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} فنص تَعَالَى على أمرنَا بِطَلَب العون مِنْهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَلَو لم يكن هَا هُنَا عون خَاص من آتَاهُ الله إِيَّاه اهْتَدَى وَمن حرمه إِيَّاه اهْتَدَى وَمن حرمه إِيَّاه وخذله ضل لما كَانَ لهَذَا الدُّعَاء معنى لِأَن النَّاس كلهم كَانُوا يكونُونَ معانين منعماً عَلَيْهِم مهديين وَهَذَا بِخِلَاف النَّص الْمَذْكُور وَقَالَ تَعَالَى {ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} فنص تَعَالَى على أَنه ختم على قُلُوب الْكَافرين وَإِن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بَينهم وَبَين قَول الْحق فَمن هُوَ الْجَاعِل هَذِه الغشاوة على سمعهم وعَلى أَبْصَارهم إِلَّا الَّذِي ختم على قُلُوبهم عز وَجل وَهَذَا هُوَ الخذلان الَّذِي ذكرنَا ونعوذ بِاللَّه مِنْهُ وَهَذَا نَص على أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِيمَان مَا دَامَ ذَلِك الْخَتْم على قُلُوبهم والغشاوة على أَبْصَارهم وأسماعهم فَلَو أزالها تَعَالَى لآمنوا أَلا أَن يعْجزُوا رَبهم عز وَجل عَن إِزَالَة ذَلِك فَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا} فنص تَعَالَى كَمَا ترى على أَنه من لم يتفضل عَلَيْهِ وَلم يرحمه اتبع الشَّيْطَان ضَرُورَة فصح ان التَّوْفِيق بِهِ يكون الْإِيمَان وَإِن الخذلان بِهِ يكون الْكفْر والعصيان وَهُوَ اتِّبَاع الشَّيْطَان وَمعنى قَوْله تَعَالَى أَلا قَلِيلا على ظَاهره وَهُوَ اسْتثِْنَاء من الْمُنعم عَلَيْهِم المرحومين الَّذين لم يتبعوا الشَّيْطَان برحمة الله تَعَالَى لَهُم أَي لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشَّيْطَان إِذْ رحمكم أَنْتُم فَلم تَتبعُوهُ وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} وَهَذَا نَص مَا قُلْنَا أَن من أضلّهُ الله تَعَالَى لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْهدى وَأَن الضلال وَقع مَعَ الإضلال من الله تَعَالَى للْكَافِرِ وَالْفَاسِق وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده} فَأخْبر تَعَالَى أَن عِنْده هدى يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده فَيكون مهتدياً وَهَذَا تَخْصِيص ظَاهر كَمَا ترى وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وَإِن الله تَعَالَى قد نَص قَائِلا لنا أَن من أَرَادَ هَذَا شرح صَدره لِلْإِسْلَامِ فَآمن بِلَا شكّ وَإِن من أَرَادَ ضلاله وَلم يرد هداه ضيق صَدره وأحرجه حَتَّى يكون كمريد الصعُود إِلَى السَّمَاء فَهَذَا لَا يُؤمن الْبَتَّةَ وَلَا يَسْتَطِيع وَهُوَ فِي ظَاهره مستطيع بِصِحَّة جوارحه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد إِن الضال لمن ضل بعد مَا ذكرنَا من النُّصُوص الَّتِي لَا تحْتَمل تَأْوِيلا وَمن شَهَادَة خَمْسَة من الْأَنْبِيَاء إِبْرَاهِيم ومُوسَى ويوسف وَالْخضر وَمُحَمّد عَلَيْهِم السَّلَام بِأَنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ فعلا لشَيْء من الْخَيْر إِلَّا بِتَوْفِيق الله تَعَالَى لَهُم وَإِنَّهُم إِن لم يوفقهم ضلوا جَمِيعًا مَعَ مَا أوردنا من الْبَرَاهِين الضرورية الْمَعْرُوفَة بالحس وبديهة الْعقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عرف تراكيب الْأَخْلَاق المحمودة والمذمومة علم أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد غير مَا يفعل مِمَّا خلقه الله عز وَجل فِيهِ فتجد الْحَافِظ لَا يقدر على تَأَخّر الْحِفْظ والبليد لَا يقدر على الْحِفْظ والفهيم لَا يقدر على الغباوة والغبي لَا يَسْتَطِيع ذكاء الْفَهم والحسود لَا يقدر على ترك الْحَسَد والنزيه النَّفس لَا يقدر على الْحَسَد والحريص لَا يقدر على ترك الْحِرْص والبخيل لَا يقدر على الْبَذْل والجبان لَا يقدر على الشجَاعَة والكذاب لَا يقدر على ضبط نَفسه عَن الْكَذِب(3/25)
كَذَلِك يوجدون من طفوليتهم والسيء الْخلق لَا يقدر على الْحلم والحي لَا يقدر على القحة والوقح لَا يقدر على الْحيَاء والعي لَا يقدر على الْبَيَان والطيوش لَا يقدر على الصَّبْر والغضوب لَا يقدر على الْحلم والصبور لَا يقدر على الطيش والحليم لَا يقدر على الْغَضَب والعزيز النَّفس لَا يقدر على المهانة والمهين لَا يقدر على عزة النَّفس وَهَكَذَا فِي كل شَيْء فصح أَنه لَا يقدر أحد إِلَّا على مَا يفعل بِمَا يتم الله تَعَالَى فيهم الْقُوَّة على فعله وَإِن كَانَ خلاف ذَلِك مُتَوَهمًا مِنْهُم بِصِحَّة البنية وَعدم الْمَانِع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْمَلَائِكَة والحور الْعين وَالْجِنّ وَجَمِيع الْحَيَوَان كُله فِي الِاسْتِطَاعَة سَوَاء كَمَا ذكرنَا وَلَا فرق بَين شَيْء فِي ذَلِك كُله وَكلهمْ قد خلق الله عز وَجل فيهم الِاسْتِطَاعَة الظَّاهِرَة بِصِحَّة الْجَوَارِح وَلَا يكون مِنْهُم فعل إِلَّا بعون وَارِد من الله تَعَالَى إِذا ورد كَانَ الْفِعْل مَعَه وَلَا بُد قد خلق الله عز وَجل فيهم اخْتِيَارا وَإِرَادَة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غَيرهَا وَالْمَلَائِكَة وحور الْعين معصومون لم يخلق الله تَعَالَى فيهم مَعْصِيّة أصلا لَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَأما الَّذِي يقدر على كل مَا يفعل ومالا يفعل وَلم يزل قَادِرًا على كل مَا يخْطر بِالْقَلْبِ فَهُوَ وَاحِد لَا شريك لَهُ وَهُوَ الله عز وَجل لَيْسَ كمثله شَيْء وَلم يكن لَهُ كفوا أحد وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْهدى والتوفيق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد احتجت الْمُعْتَزلَة بقول الله عز وَجل {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بَصيرًا إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً إِنَّا اعتدنا للْكَافِرِينَ سلاسل وأغلالاً وسعيراً}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا حق وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين هجى بعض النَّاس لَا كلهم وَقَالَ تَعَالَى {إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل} وَهِي قِرَاءَة مَشْهُورَة عَن عَاصِم بِفَتْح الْيَاء من يهدي وَكسر الدَّال فَأخْبر تَعَالَى أَن فِي النَّاس من لم يهده وَقَالَ تَعَالَى {من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين أضلّ فَلم يهدهم وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجاً كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} فَأخْبر تَعَالَى أَن الَّذين هدى غير الَّذِي أضلّ وَمثل هَذَا كثير وكل ذَلِك كَلَام الله عز وَجل وَكله حق لَا يتعارض وَلَا يبطل بعضه بَعْضًا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فصح يَقِينا أَن كل مَا أوردنا من الْآيَات فَكلهَا مُتَّفق لَا مُخْتَلف فَنَظَرْنَا فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة فَوَجَدْنَاهَا ظَاهِرَة لائحة وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أخبر أَنه هدى ثَمُود فَلم يهتدوا وَهدى النَّاس كلهم السَّبِيل ثمَّ هم بعد إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً وَأخْبر تَعَالَى فِي الْآيَات الْأُخَر أَنه هدى قوما فاهتدوا وَلم يهد آخَرين فَلم يهتدوا فَعلمنَا ضَرُورَة أَن الْهدى الَّذِي أعطَاهُ الله عز وَجل جَمِيع النَّاس هُوَ غير الَّذِي أعطَاهُ بَعضهم وَمنعه بَعضهم فَلم يعطهم إِيَّاه هَذَا(3/26)
أَمر مَعْلُوم بضرورة الْعقل وبديهته فَإذْ لَا شكّ فِي ذَلِك فقد لَاحَ الْأَمر وَهُوَ أَن الْهدى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة وَهِي الَّتِي يَقع الِاسْم مِنْهَا على مسمين مُخْتَلفين بنوعهما فَصَاعِدا فالهدى يكون بِمَعْنى الدّلَالَة تَقول هديت فلَانا الطَّرِيق بِمَعْنى أربته إِيَّاه ووقفته عَلَيْهِ وأعلمته إِيَّاه سَوَاء سلكه أَو تَركه وَتقول فلَان هاد بِالطَّرِيقِ أَي دَلِيل فِيهِ فَهَذَا الْهدى الَّذِي هداه الله ثَمُود وَجَمِيع الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْأنس كافرهم ومؤمنهم لِأَنَّهُ تَعَالَى دلهم على الطَّاعَات والمعاصي وعرفهم مَا يسْخط مِمَّا يُرْضِي فَهَذَا معنى وَيكون الْهدى بِمَعْنى التَّوْفِيق والعون على الْخَيْر والتيسير لَهُ وخلقه لقبُول الْخَيْر فِي النُّفُوس فَهَذَا هُوَ الَّذِي أعطَاهُ الله عز وَجل الْمَلَائِكَة كلهم والمهتدين من الْإِنْس وَالْجِنّ وَمنعه الْكفَّار من الطَّائِفَتَيْنِ والفاسقين فِيمَا فسقوا فِيهِ وَلَو أَعْطَاهُم إِيَّاه تَعَالَى لما كفرُوا وَلَا فسقوا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَمِمَّا يبين هَذَا قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة {إِنَّا هديناه السَّبِيل} فَبين تَعَالَى أَن الَّذِي هدَاهُم لَهُ فَهُوَ الطَّرِيق فَقَط وَكَذَلِكَ أَيْضا قَوْله تَعَالَى {ألم نجْعَل لَهُ عينين وَلِسَانًا وشفتين وهديناه النجدين} فَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَهَذَا بِلَا شكّ غير مَا هدى جَمِيعهم عَلَيْهِ من الدّلَالَة والتبيين للحق من الْبَاطِل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَوله تَعَالَى {أَن الَّذين كفرُوا وظلموا لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذَا نَص جلي على مَا قُلْنَا وَبَيَان أَن الدّلَالَة لَهُم على طَرِيق جَهَنَّم يحملون فِيهِ إِلَيْهَا هدى لَهُم إِلَى تِلْكَ الطَّرِيق وَنفى عَنْهُم تَعَالَى فِي الْآخِرَة كل هدى إِلَى شَيْء من الطّرق إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم ونعوذ بِاللَّه من الضلال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ بعض من يتعسف القَوْل بِلَا علم أَن قَول الله عز وَجل {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل} وَقَوله تَعَالَى {وهديناه النجدين} إِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى بِكُل ذَلِك الْمُؤمنِينَ خَاصَّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا تَخْصِيص الْآيَات بِلَا برهَان وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِل وَالثَّانِي أَن نَص الْآيَات يمْنَع من التَّخْصِيص وَلَا بُد وَهُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} فَرد تَعَالَى الضَّمِير فاستحبوا الْعَمى على الْهدى إِلَى المهديين أنفسهم فصح أَن الَّذين هُدُوا لم يهتدوا وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} وَقَالَ لَهُ تَعَالَى {وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} فصح يَقِينا أَن الْهدى الْوَاجِب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الدّلَالَة وَتَعْلِيم الدّين وَهُوَ غير الْهدى الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ لله تَعَالَى وَحده فَإِن ذكر ذَاكر قَول الله عز وَجل {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَلَيْسَ هَذَا على مَا أَظُنهُ من لَا ينعم النّظر من أَن الله وَحده لَو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظَاهر الْآيَة مُبْطل لهَذَا الظَّن لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فصح يَقِينا أَن من علم الله تَعَالَى فِيهِ خيرا أسمعهُ وَثَبت أَن فِيهِ خيرا ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}(3/27)
فصح يَقِينا أَنه أَرَادَ بِلَا شكّ أَنه لَو أسمعهم لتولوا عَن الْكفْر وهم معرضون عَنهُ لَا يجوز غير هَذَا أصلا لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَن إسماعه لَا يكون إِلَّا لمن علم فِيهِ خيرا وَمن الْمحَال الْبَاطِل أَن يكون من علم الله تَعَالَى فِيهِ خيرا يتَوَلَّى عَن الْخَيْر ويعرض عَنهُ فَبَطل مَا حرفوه بظنونهم من كَلَام الله عز وَجل وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} فَإِنَّهُ تَعَالَى قسم من هدى السَّبِيل قسمَيْنِ كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أَيْضا هدى السَّبِيل فَبَطل مَا توهموه من الْبَاطِل وَللَّه تَعَالَى الْحَمد وَصَحَّ مَا قُلْنَا
الْكَلَام فِي الإضلال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد تلونا من كَلَام الله تَعَالَى فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا وَالْبَاب الَّذِي فبله مُتَّصِلا بِهِ نصوصا كَثِيرَة بِأَن الله تَعَالَى أضلّ من شَاءَ من خلقه وَجعل صُدُورهمْ ضيقَة حرجة فَإِن اعْترضُوا بقول الله تَعَالَى عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه الْوُجُوه أَحدهَا أَنه قَول كفار قد قَالُوا الْكَذِب وَحكى الله تَعَالَى حِينَئِذٍ {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} فَإِن أَبَوا إِلَّا الِاحْتِجَاج بقول الْكفَّار فليجعلوه إِلَى جنب قَول إِبْلِيس {رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض} وَالْوَجْه الثَّانِي أننا لَا ننكر إضلال الْمُجْرمين وإضلال إِبْلِيس لَهُم وَلكنه إضلال آخر لَيْسَ إضلال الله تَعَالَى لَهُم وَالثَّالِث أَنه لَا عذر لأحد فِي أَن الله تَعَالَى أضلّهُ وَلَا لوم على الْخَالِق تَعَالَى فِي ذَلِك وَأما من أضلّ آخر من دون الله تَعَالَى فَهُوَ ملوم وَقد فسر الله تَعَالَى إضلاله لمن يضل كَيفَ هُوَ وَفسّر تَعَالَى ذَلِك الإضلال تَفْسِيرا أغنانا بِهِ عَن تَفْسِير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وَبشر بن الْمُعْتَمِر والجاحظ والناشي وَمَا هُنَالك من الْأَحْزَاب وَمن تَبِعَهُمْ من الْجُهَّال فَبين تَعَالَى فِي نَص الْقُرْآن أَن إضلاله لمن أضلّ من عباده إِنَّمَا هُوَ أَن يضيق صَدره عَن قبُول الْإِيمَان وَأَن يحرجه حَتَّى لَا يرغب فِي تفهمه والجنوح إِلَيْهِ وَلَا يصبر عَلَيْهِ ويوعر عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْحق حَتَّى يكون كَأَنَّهُ يتَكَلَّف فِي ذَلِك الصعُود إِلَى السَّمَاء وَفسّر ذَلِك أَيْضا عز وَجل فِي آيه أُخْرَى قد تلوناها آنِفا بِأَنَّهُ يَجْعَل أكنه على قُلُوب الْكَافرين يحول بَين قُلُوبهم وَبَين تفهم الْقُرْآن والإصاغة لبيانه وهداه وَإِن يفقهوه وَإنَّهُ جعل تَعَالَى بَينهم وَبَين قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِجَابا مَانِعا لَهُم من الْهدى وَفَسرهُ أَيْضا تَعَالَى بِأَنَّهُ ختم على قُلُوبهم وطبع عَلَيْهَا فامتنعوا بذلك من وُصُول الْهدى إِلَيْهَا وَفسّر تَعَالَى إضلال من دونه فَقَالَ تَعَالَى أَنه جعلهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَفسّر تَعَالَى أَيْضا الْقُوَّة الَّتِي أَعْطَاهَا الْمُؤمنِينَ وحرمها الْكَافرين بِأَنَّهَا تثبيت على قبُول الْحق وَأَنه تَعَالَى يشْرَح صُدُورهمْ لفهم الْحق واعتقاده وَالْعَمَل بِهِ وَأَنه صرف لكيد الشَّيْطَان ولفتنته عَنْهُم نسْأَل الله أَن يمدنا بِهَذِهِ الْعَطِيَّة وَأَن يصرف عَنَّا الإضلال بمنه وَإِن لَا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فقد خَابَ وخسر من ظن فِي نَفسه أَنه قد اسْتكْمل القوى حَتَّى اسْتغنى عَن أَن يزِيدهُ الله تَعَالَى تَوْفِيقًا وعصمة وَلم يحْتَج إِلَى خالقه فِي أَن يصرف عَنهُ فتنته وَلَا كَيده لَا سِيمَا من جعل نَفسه أقوى على ذَلِك من خالقه تَعَالَى وَلم يَجْعَل عِنْد خالقه قوه يصرف بهَا عَنهُ كيد الشَّيْطَان نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا امتحنهم بِهِ ونبرأ إِلَى الله خالقنا تَعَالَى من الْحول وَالْقُوَّة كلهَا إِلَّا مَا أَتَانَا مِنْهَا متفضلاً علينا وَأما كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من إضلال الشَّيَاطِين للنَّاس وإنسائهم إيَّاهُم ذكر الله تَعَالَى وتزينهم لَهُم(3/28)
ووسوستهم وَفعل بعض النَّاس ذَلِك بِبَعْض فَصَحِيح كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن دون تكلّف وَهَذَا كُله إِلْقَاء لما ذكرنَا فِي قُلُوب النَّاس وَهُوَ من الله تَعَالَى خلق لكل ذَلِك فِي الْقُلُوب وخالق لأفعال هَؤُلَاءِ المضلين من الْجِنّ وَالْإِنْس وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {حسداً من عِنْد أنفسهم} لِأَنَّهُ فعل أضيف إِلَى النَّفس لظُهُوره مِنْهَا وَهُوَ خلق الله تَعَالَى فِيهَا فَإِن ذكرُوا قَول الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} فَهُوَ كَمَا قَالَ الله عز وَجل وَهُوَ حجَّة على الْمُعْتَزلَة لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَنه لَا يضل قوما حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ وَمَا يلْزمهُم وَصدق الله عز وَجل لِأَن الْمَرْء قبل أَن يَأْتِيهِ خبر الرَّسُول غير ضال بِشَيْء مِمَّا يفعل اصلاً فَإِنَّمَا سمي الله تَعَالَى فعله فِي العَبْد إضلالاً بعد بُلُوغ الْبَيَان إِلَيْهِ لَا قبل ذَلِك وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق فصح بِهَذِهِ الْآيَة أَنه تَعَالَى يضلهم بعد ان يبين لَهُم وَقد فسر بَعضهم الإضلال بِأَنَّهُ منع اللطف الَّذِي يَقع بِهِ الْإِيمَان فَقَط
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونصوص الْقُرْآن تزيد على هَذَا الْمَعْنى زِيَادَة لَا شكّ فِيهَا وتوجب أَن الإضلال معنى زَائِد أعطَاهُ الله للْكفَّار والعصاة وَهُوَ مَا ذكرنَا من تضييق الصُّدُور وتحريجها والختم على الْقُلُوب والطبع عَلَيْهَا وأكنانها عَن أَن يفقهوا الْحق فَإِن قَالُوا إِن هَذَا فعل النُّفُوس كلهَا إِن لم يمدها الله تَعَالَى بِتَوْفِيق قُلْنَا لَهُم من خلقهَا هَذِه الْخلقَة الْمفْسدَة فَإِن لم يؤيدها بالتوفيق فَإِن قَالُوا الله تَعَالَى هُوَ خلقهَا كَذَلِك أقرُّوا بِأَن الله تَعَالَى أَعْطَاهَا هَذِه البلية وَركب فِيهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة فَإِن فروا إِلَى قَول معمر والجاحظ أَن هَذَا كُله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وَقُلْنَا لَهُم فَمن خلق النَّفس وَخلق فِيهَا هَذِه الطبيعة الْمُوجبَة لهَذِهِ الأفاعيل فَإِن قَالُوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقرُّوا بِأَن الله أَعْطَاهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة لَهَا إِن لم يمدها بلطف وتوفيق وَكَذَلِكَ إِن قَالُوا إِن النَّفس هِيَ فعلت الطبيعة الْمُوجبَة لهَذِهِ المهالك كَانُوا مَعَ خُرُوجهمْ من الْإِسْلَام بِهَذَا القَوْل محيلين أَيْضا محالاً ظَاهرا لِأَن النَّفس لَو فعلت هِيَ طبيعتها لكَانَتْ إِمَّا مختارة لفعلها وَإِمَّا مضطرة إِلَى فعلهَا على مَا هِيَ عَلَيْهَا فَإِن كَانَت مختارة فقد يجب أَن تقع طبيعتها مرَارًا بِخِلَاف مَا لَا تُوجد إِلَّا عَلَيْهِ وَإِن كَانَت مضطرة فَمن خلقهَا مضطرة إِلَى هَذَا الْفِعْل فَلَا بُد من أَنه الله تَعَالَى فَرَجَعُوا ضَرُورَة إِلَى أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِه الصّفة الْمهْلكَة الَّتِي بهَا كَانَت الْمعْصِيَة مَعَ أَنه لم يقل أحد من الْمُسلمين أَن النَّفس أحدثت طبيعتها مَعَ أَنه أَيْضا قَول يُبطلهُ الْحس والمشاهدة وضرورة الْعقل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما القائلو بالأصلح من الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم انْقَطَعُوا هَا هُنَا وَقَالُوا لَا نَدْرِي مَا معنى الإضلال وَلَا معنى الْخَتْم على قُلُوبهم وَلَا الطَّبْع عَلَيْهَا وَقَالَ بَعضهم معنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى سماهم ضَالِّينَ وَحكم انهم ضالون وَقَالَ بَعضهم معنى أضلهم أتلفهم كَمَا تَقول ضللت بَعِيري وَهَذِه كلهَا دعاوي بِلَا برهَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم نجد لَهُم تَأْوِيلا أصلا فِي قَول الله عز وَجل حِكَايَة عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا هُوَ الضلال حَقًا وَهُوَ أَن يحملهم اللجاج والعمى فِي لُزُوم أصل قد ظهر فَسَاده وتقليد من لَا خير فِيهِ من أسلافهم على أَن يدعوا أَنهم لَا يعْرفُونَ مَا معنى الإضلال والختم(3/29)
والطبع والأكنة على الْقُلُوب وَقد فسر الله كل ذَلِك تَفْسِيرا جلياً وَأَيْضًا فَإِنَّهَا أَلْفَاظ عَرَبِيَّة مَعْرُوفَة الْمعَانِي فِي اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن فَلَا يحل لأحد صرف لَفْظَة مَعْرُوفَة الْمَعْنى فِي اللُّغَة عَن مَعْنَاهَا الَّذِي وضعت لَهُ فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن إِلَى معنى غير مَا وضعت لَهُ إِلَّا أَن يَأْتِي نَص قُرْآن أَو كَلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو إِجْمَاع من عُلَمَاء الْأمة كلهَا على أَنَّهَا مصروفة عَن ذَلِك الْمَعْنى إِلَى غَيره أَو يُوجب صرفهَا ضَرُورَة حس أَو بديهة عقل فَيُوقف حِينَئِذٍ عِنْدَمَا جَاءَ من ذَلِك وَلم يَأْتِ فِي هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي أضلهم الله تَعَالَى فِيهَا وَخَيرهمْ الشَّيْطَان عَن فهمها نَص وَلَا إِجْمَاع وَلَا ضَرُورَة بِأَنَّهَا مصروفة عَن موضعهَا فِي اللُّغَة بل قد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ميسر لما خلق لَهُ فَبين عَلَيْهِ السَّلَام أَن الْهدى والتوفيق هُوَ تيسير الله تَعَالَى للخير الَّذِي لَهُ خلقه وَأَن الخذلان تيسيره الْفَاسِق للشر الَّذِي لَهُ خلقه وَهَذَا مُوَافق للغة وَالْقُرْآن والبراهين الضرورية الْعَقْلِيَّة وَلما عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة المحدثون من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ وَعَامة الْمُسلمين حاشا من أضلّهُ الله على علم من أَتبَاع العيارين الْخُلَفَاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ونبين هَذَا أَيْضا بَيَانا طبيعياً ضَرُورِيًّا لَا خَفَاء بِهِ بعون الله تَعَالَى وتأييده على من لَهُ أدنى بصر بِالنَّفسِ وأخلاقها وقدرة الله تَعَالَى فِي اختراعها فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الله عز وَجل خلق نفس الْإِنْسَان مُمَيزَة عَاقِلَة عارفة بالأشياء على مَا هِيَ عَلَيْهِ فهمه بِمَا تخاطب بِهِ وَجعلهَا مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وَخلق فِيهَا قوتين متعاديتين متضادتين فِي التَّأْثِير وهما التَّمْيِيز والهوى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تُرِيدُ الْغَلَبَة على آثَار النَّفس فالتمييز هُوَ الَّذِي خص نفس الْإِنْسَان وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة دون الْحَيَوَان الَّذِي لَا يُكَلف وَالَّذِي لَيْسَ ناطقاً والهوى هُوَ الَّذِي يشاركها فِيهِ نفوس الْجِنّ وَالْحَيَوَان الَّذِي لَيْسَ ناطقاً من حب اللَّذَّات وَالْغَلَبَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذِه الْقُوَّة فِي كل الْحَيَوَان حاشا الْمَلَائِكَة فَإِنَّمَا فِيهَا قُوَّة التَّمْيِيز فَقَط وَلذَلِك لم يَقع مِنْهَا مَعْصِيّة أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِذا عصم الله النَّفس غلب التَّمْيِيز بِقُوَّة من عِنْده هِيَ لَهُ مدد وَعون فجرت أَفعَال النَّفس على مَا رتب الله عز وَجل فِي تمييزها من فعل الطَّاعَات وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسمى الْعقل وَإِذا خذل جلّ وَعز النَّفس أمد الْهوى بِقُوَّة هِيَ الإضلال فجرت أَفعَال النَّفس على مَا رتب الله عز وَجل فِي هَواهَا من الشَّهَوَات وَحب الْغَلَبَة والحرص وَالْبَغي والحسد وَسَائِر الْأَخْلَاق الرذلة والمعاصي وَقد قَامَت الْبَرَاهِين على أَن النَّفس مخلوقة وَكَذَلِكَ جَمِيع قواها المنتجة عو قوتيها الأولتين التَّمْيِيز والهوى كل ذَلِك مَخْلُوق مركب فِي النَّفس مُرَتّب على مَا هُوَ عَلَيْهِ فِيهَا كل جَار على طَبِيعَته الْمَخْلُوق لجري كيفياته بهَا على مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِذا قد صَحَّ أَن كل ذَلِك خلق الله تَعَالَى فَلَا مغلب لبَعض ذَلِك على بعض إِلَّا خَالق الْكل وَحده لَا شريك لَهُ وَقد نَص الله تَعَالَى على ذمّ النَّفس جملَة إِلَّا من رَحمهَا الله تَعَالَى وعصمها قَالَ جلّ وَعز {أَن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي} فَأخْبر عز وَجل بِنَصّ مَا قُلْنَا فصح أَن المرحومة المستثناة لَا تَأمر بِسوء وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق قَالَ الله تَعَالَى {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} وذم الله تَعَالَى الْهوى فِي غير مَا مَوضِع من كِتَابه وَهَذَا نَص مَا قُلْنَا وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل(3/30)
الْكَلَام فِي الْقَضَاء وَالْقدر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد ذهب بعض النَّاس لِكَثْرَة اسْتِعْمَال الْمُسلمين هَاتين اللفظتين إِلَى أَن ظنُّوا أَن فيهمَا معنى الْإِكْرَاه والإجبار وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا وَإِنَّمَا معنى الْقَضَاء فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبهَا نتخاطب ونتفاهم مرادنا أَنه الحكم فَقَط وَلذَلِك يَقُولُونَ القَاضِي بِمَعْنى الْحَاكِم وَقضى الله عز وَجل بِكَذَا أَي حكم بِهِ وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَمر قَالَ تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِنَّمَا مَعْنَاهُ بِلَا خلاف أَنه تَعَالَى أَمر أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أخبر قَالَ الله تَعَالَى {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر إِن دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مصبحين} بِمَعْنى أخبرناه أَن دابرهم مَقْطُوع بالصباح وَقَالَ تَعَالَى {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} أَي أخبرناهم بذلك وَيكون أَيْضا بِمَعْنى أَرَادَ وَهُوَ قريب من معنى حكم قَالَ الله تَعَالَى {إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَمعنى ذَلِك حكم بِكَوْنِهِ فكونه وَمعنى الْقدر فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة التَّرْتِيب وَالْحَد الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الشَّيْء تَقول قدرت الْبناء تَقْديرا إِذا رتبته وحددته قَالَ تَعَالَى {وَقدر فِيهَا أقواتها} بِمَعْنى رتب أقواتها وحددها وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} يُرِيد تَعَالَى برتية وحد فَمَعْنَى قضى وَقدر حكم ورتب وَمعنى الْقَضَاء وَالْقدر حكم الله تَعَالَى فِي شَيْء بِحَمْدِهِ أَو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كَذَا وَإِلَى وَقت كَذَا فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
الْكَلَام فِي الْبَدَل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد قَالَ بعض الْقَائِلين بالاستطاعة مَعَ الْفِعْل إِذا سُئِلَ هَل يَسْتَطِيع الْكَافِر مَا أَمر بِهِ من الْإِيمَان أم لَا يستطيعه فَأجَاب أَن الْكَافِر مستطيع للْإيمَان على الْبَدَل بِمَعْنى أَن لَا يتمادى فِي الْكفْر لَكِن يقطعهُ ويبدل مِنْهُ الْإِيمَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالَّذِي يجب أَن يُجيب بِهِ هُوَ الْجَواب الَّذِي بَينا صِحَّته بحول الله تَعَالَى وقوته فِي كلامنا فِي الِاسْتِطَاعَة وَهُوَ ان تَقول هُوَ مستطيع فِي ظَاهر الْأَمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للْجمع بَين الْإِيمَان وَالْكفْر مَا دَامَ كَافِرًا وَمَا دَامَ لَا يؤتيه الله جلّ وَعز العون فَإِذا آتَاهُ إِيَّاه تمت الإستطاعة وَفعل وَلَا بُد فَإِن قيل فَهُوَ مُكَلّف مَأْمُور قُلْنَا نعم فَإِن قيل أهوَ عَاجز عَمَّا هُوَ مَأْمُور بِهِ ومكلف أَن يَفْعَله قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هُوَ غير عَاجز بِظَاهِر بنيته لِسَلَامَةِ جوارحه وارتفاع الْمَوَانِع وَهُوَ عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده مَا لم ينزل الله تَعَالَى لَهُ العون فَيتم ارْتِفَاع الْعَجز عَنهُ وَيُوجد الْفِعْل وَلَا بُد وَتقول أَن الْعَجز فِي اللُّغَة إِنَّمَا يَقع على الْمَمْنُوع بِآفَة على الْجَوَارِح أَو بمانع ظَاهر إِلَى الْحَواس والمأمور بِالْفِعْلِ لَيْسَ فِي ظَاهر أمره عَاجِزا إِذْ لَا آفَة فِي جوارحه وَلَا مَانع لَهُ ظَاهرا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عَاجز عَن الْجمع بَين الْفِعْل وضده وَبَين الْفِعْل وَتَركه وَعَن فعل مَا لم يؤته الله عوناً عَلَيْهِ وَعَن تَكْذِيب علم الله تَعَالَى الَّذِي لم يزل بِأَنَّهُ لم يفعل إِلَّا مَا سبق علمه تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْحَقِيقَة الْجَواب فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قيل فَهُوَ ختار لما يفعل قُلْنَا نعم اخْتِيَارا صَحِيحا لَا مجَازًا لِأَنَّهُ مُرِيد لكَونه مِنْهُ محب لَهُ مُؤثر على تَركه وَهَذَا معنى لَفْظَة الِاخْتِيَار على الْحَقِيقَة وَلَيْسَ مُضْطَرّا وَلَا مجبراً وَلَا مكْرها لِأَن هَذِه أَلْفَاظ فِي اللُّغَة لَا تقع إِلَّا على الكاره لما يكون مِنْهُ فِي هَذِه الْحَال وَقد يكون الْمَرْء مُضْطَرّا مُخْتَارًا مكْرها فِي حَالَة وَاحِدَة كإنسان فِي رجله أَكلَة لَا دَوَاء لَهُ إِلَّا بقطعها(3/31)
فيأمر أعوانه مُخْتَارًا لأَمره إيَّاهُم بقطعها وبحسمها بالنَّار بعد الْقطع وَيَأْمُرهُمْ بإمساكه وَضَبطه وَأَن لَا يلتفتوا إِلَى صياحه وَلَا إِلَى أمره لَهُم بِتَرْكِهِ إِذا أحس الْأَلَم ويتوعدهم على التَّقْصِير فِي ذَلِك بِالضَّرْبِ والنكال الشَّديد فيفعلون بِهِ ذَلِك فَهُوَ مُخْتَار لقطع رجله إِذْ لَو كره ذَلِك كَرَاهَة تَامَّة لم يكرههُ أحد على ذَلِك وَهُوَ بِلَا شكّ كَارِه لقطعها مُضْطَر إِلَيْهِ إِذْ لَو وجد سَبِيلا بِوَجْه من الْوُجُوه دون الْمَوْت إِلَى ترك قطعهَا وَلم يقطعهَا وَهُوَ مجبر مكره بالضبط من أعوانه حَتَّى يتم الْقطع والحسم إِذْ لَو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يُمكن من قطعهَا الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يُنكر الجاهلون أَن يكون أحد يُوجد مُخْتَارًا من وَجه مكْرها من وَجه آخر عَاجِزا من وَجه مستطيعا من آخر قَادِرًا من وَجه مَمْنُوعًا من آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
الْكَلَام فِي خلق الله عز وَجل لأفعال خلقه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلفُوا فِي خلق الله تَعَالَى لأفعال عباده فَذهب أهل السّنة كلهم وكل من قَالَ بالاستطاعة مَعَ الْفِعْل كالمريسي وَابْن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وَطَوَائِف من الْخَوَارِج والمرجئة والشيعة إِلَى ان جَمِيع أَفعَال الْعباد مخلوقة خلقهَا الله عز وَجل فِي الفاعلين لَهَا وَوَافَقَهُمْ على هَذَا مُوَافقَة صَحِيحَة من الْمُعْتَزلَة ضرار بن عَمْرو وَصَاحبه أَبُو يحيى حَفْص الْفَرد وَذهب سَائِر الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم على ذَلِك من المرجئة والخوارج والشيعة إِلَى أَن أَفعَال الْعباد محدثة فعلهَا فاعلوها وَلم يخلقها الله عز وَجل على تَخْلِيط مِنْهُم فِي مائية أَفعَال النَّفس إِلَّا بشر بن الْمُعْتَمِر عطف فَقَالَ إِلَّا أَنه لَيْسَ شَيْء من أَفعَال الْعباد إِلَّا وَللَّه تَعَالَى فِيهِ فعل من طَرِيق الِاسْم وَالْحكم يُرِيد بذلك أَنه لَيْسَ للنَّاس فعل إِلَّا وَللَّه تَعَالَى فِيهِ حكم بِأَنَّهُ صَوَاب أَو خطأ ونسميه بِأَنَّهُ حسن أَو قَبِيح طَاعَة أَو مَعْصِيّة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد أدّى هَذَا القَوْل الْفَاحِش الملعون رجلا من كبار الْمُعْتَزلَة وَهُوَ عباد بن سلمَان تلميذ هِشَام بن عَمْرو الفوطي إِلَى أَن قَالَ أَن الله تَعَالَى لم يخلق الْكفَّار لأَنهم نَاس وَكفر مَعًا لَكِن خلق أجسامهم دون كفرهم
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَيلْزمهُ مثل هَذَا نَفسه فِي الْمُؤمنِينَ وَفِي جَمِيع الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مُؤمن وَكَافِر وَالْمُؤمن إِنْسَان وإيمانه أَو ملك وإيمانه أَو جني وإيمانه وكفره فعلى قَول هَذَا البائس السخيف لَا يجوز أَن يُقَال إِن لله تَعَالَى خلق من النَّاس وَلَا الْجِنّ وَلَا الْمَلَائِكَة سعيد بل يكون القَوْل بِهَذَا كذبا وحسبك بِهَذَا القَوْل خلافًا لِلْقُرْآنِ وللمسلمين وَقَالَ معمر والجاحظ أَن أَفعَال الْعباد كلهَا لَا فعل لَهُم فِيهَا وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِم مجَازًا لظهورها مِنْهُم وَإِنَّهَا فعل الطبيعة حاشا الْإِرَادَة فَقَط فَإِنَّهُ لَا فعل للْإنْسَان غَيرهَا الْبَتَّةَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن تدبر هَذَا القَوْل علم أَنه أقبح من قَول جهم وَجَمِيع الْمُجبرَة لأَنهم جعلُوا أَفعَال الْعباد طبيعة اضطرارية كَفعل النَّار للإحراق بطبعها وَفعل الثَّلج للتبريد بطبعه وَفعل السقمونيا فِي إحدارها الصَّفْرَاء بطبعها وَهَذِه صفة الْأَمْوَات لَا صفة الْأَحْيَاء المختارين وَإِذا لم يبْق على قَول هذَيْن الرجلَيْن للْإنْسَان فعل إِلَّا الْإِرَادَة فقد وجدنَا الْإِرَادَة لَا يقدر الْإِنْسَان على صرفهَا وَلَا إحالتها وَلَا على تبديلها بِوَجْه من الْوُجُوه وَإِنَّمَا يظْهر من الْمَرْء تَبْدِيل حركاته وسكونه وَأما إِرَادَته فَلَا حِيلَة لَهُ فِيهَا وَنحن نجد كل قوي الْآلَة من الرِّجَال(3/32)
يحب وَطْء كل جميلَة يسْتَمْتع بهَا لَوْلَا التَّقْوَى وَيُحب النّوم عَن الصَّلَاة فِي اللَّيَالِي الْقَاهِرَة والهواجر الحارة وَيُحب الْأكل فِي أَيَّام الصَّوْم وَيُحب إمْسَاك مَاله عَن الزَّكَاة وَإِنَّمَا يَأْتِي خلاف مَا يُرِيد مغالبة لإرادته وقهراً لَهَا وَأما صرفا لَهَا فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ فقد تمّ الْإِخْبَار صَحِيحا على قَول هذَيْن الرجلَيْن وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
قَالَ أَبُو مُحَمَّد والبرهان على صِحَة قَول من قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق أَعمال الْعباد كلهَا نُصُوص من الْقُرْآن وبراهين ضَرُورِيَّة منتجة من بديهة الْعقل والحس لَا يغيب عَنْهَا إِلَّا جَاهِل وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق فَمن النُّصُوص قَول الله عز وَجل {هَل من خَالق غير الله}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كَاف لمن عقل وَاتَّقَى الله وَقد قَالَ لي بَعضهم إِنَّمَا أنكر الله تَعَالَى أَن يكون هَاهُنَا خَالق غَيره يرزقنا كَمَا فِي نَص الْآيَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَجَوَاب هَذَا أَنه لَيْسَ كَمَا ظن هَذَا الْقَائِل بل الْقَضِيَّة قد تمت فِي قَوْله غير الله ثمَّ ابْتَدَأَ عز وَجل بتعديد نعمه علينا فَأخْبرنَا أَنه يرزقنا من السَّمَاء وَالْأَرْض وَقَالَ تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم} وَهَذَا برهَان جلي على أَن الدّين مَخْلُوق لله عز وَجل وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضراً وَلَا نفعا وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمِنْهُم من يعبد الْمَسِيح وَقَالَت الْمَلَائِكَة وَصَدقُوا بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ فصح أَن كل مَا عبدوه وَمِنْهُم الْمَسِيح وَالْجِنّ لَا يخلقون شَيْئا وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضراً وَلَا نفعا فَثَبت يَقِينا أَنهم مصرفون مدبرون وَأَن أفعالهم مخلوقة لغَيرهم وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا نَص جلي على إبِْطَال أَن يخلق أحد دون الله تَعَالَى شَيْئا لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَاهُنَا أحد غَيره تَعَالَى يخلق لَكَانَ من يخلق مَوْجُودا جِنْسا فِي حيّز وَمن لَا يخلق جِنْسا آخر وَكَانَ الشّبَه بَين من يخلق مَوْجُودا وَكَانَ من لَا يخلق لَا يشبه من يخلق وَهَذَا إلحاد عَظِيم فصح بِنَصّ هَذِه الْآيَة أَن الله تَعَالَى هُوَ يخلق وَحده وكل من عداهُ لَا يخلق شَيْئا فَلَيْسَ أحد مثله تَعَالَى فَلَيْسَ من يخلق وَهُوَ الله تَعَالَى كمن لَا يخلق وَهُوَ كل من سواهُ وَقَالَ تَعَالَى {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} وَهَذَا نَص جلي من كذبه كفر وَقد علمنَا أَنه تَعَالَى لم يَأْمر بِتِلْكَ الوجهات كلهَا بل فِيهَا كفر قد نهى الله عز وَجل عَنهُ فَلم يبْق إِذْ هُوَ مولي كل وجهة إِلَّا أَنه خَالق كل وجهة لَا أحدا من النَّاس وَهَذَا كَاف لمن عقل ونصح نَفسه وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} وَهَذَا إِيجَاب لِأَن الله تَعَالَى خلق كل مَا فِي الْعَالم وَإِن كل من دونه لَا يخلق شَيْئا أصلا وَلَو كَانَ هَهُنَا خَالق لشَيْء من الْأَشْيَاء غير الله تَعَالَى لَكَانَ جَوَاب هَؤُلَاءِ المقررين جَوَابا قَاطعا ولقالوا لَهُ نعم نريك أفعالنا خلقهَا من دُونك وَنعم هَاهُنَا خالقون كثير وهم نَحن لأفعالنا وَقَوله عز وَجل {أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء} وَهَذَا بَيَان وَاضح لَا خَفَاء بِهِ لِأَن الْخلق كُله جَوَاهِر وإعراض وَلَا شكّ فِي أَنه لَا يفعل الْجَوَاهِر أحد دون الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يَفْعَله الله عز وَجل وَحده فَلم تبْق إِلَّا الْأَعْرَاض فَلَو كَانَ الله عز وَجل خَالِقًا لبَعض الْأَعْرَاض وَيكون النَّاس خالقين(3/33)
لبعضها لكانوا شُرَكَاء فِي الْخلق ولكانوا قد خلقُوا كخلقة خلق إعْرَاضًا وخلقوا إعْرَاضًا وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى ورد لِلْقُرْآنِ مُجَردا فصح أَنه لَا يخلق شَيْئا غير الله عز وَجل وَحده والخلق هُوَ الاختراع فَالله مخترع أفعالنا كَسَائِر الْأَعْرَاض وَلَا فرق فَإِن نفورا خلق الله تَعَالَى لجَمِيع الْأَعْرَاض لَزِمَهُم أَن يَقُولُوا أَنَّهَا أَفعَال لغير فَاعل أَو أَنَّهَا فعل لمن ظَهرت مِنْهُ من الأجرام الجمادية وَغَيرهَا فَإِن قَالُوا هِيَ أَفعَال لغير فَاعل فَهَذَا قَول أهل الدَّهْر نصا ويكلمون حِينَئِذٍ بِمَا يكلم بِهِ أهل الدَّهْر وَإِن قَالُوا إِنَّهَا أَفعَال الإجرام كَانُوا قد جعلُوا الجمادات فاعلة مخترعة وَهَذَا بَاطِل محَال وَهُوَ أَيْضا غير قَوْلهم فالطبيعة لَا تفعل شَيْئا مخترعة لَهُ وَإِنَّمَا الْفَاعِل لما ظهر مِنْهَا خَالق الطبيعة الْمظهر مِنْهَا مَا ظهر فَهُوَ خَالق الْكل وَلَا بُد وَللَّه الْحَمد وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} أَنه خلقنَا وَخلق العيدان والمعادن الَّتِي تعْمل وَهَذَا نَص جلي على أَنه تَعَالَى خلق أَعمالنَا وَقد فسر بَعضهم قَوْله تَعَالَى وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ مِنْهَا الْأَوْثَان
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كَلَام سخيف دلّ على جهل قَائِله وعناده وانقطاعه لِأَنَّهُ لَا يَقُول أحد فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خوطبنا فِي الْقُرْآن وَبهَا نتفاهم فِيمَا بَيْننَا أَن الْإِنْسَان يعْمل الْعود أَو الْحجر هَذَا مَا لَا يجوز فِي اللُّغَة أصلا وَلَا فِي الْمَعْقُول وَإِنَّمَا يسْتَعْمل ذَلِك مَوْصُولا فَنَقُول عملت هَذَا الْعود صنماً وَهَذَا الْحجر وثناً فَإِنَّمَا بَين تَعَالَى خلقه الصنمية الَّتِي هِيَ شكل الصَّنَم وَنَصّ تَعَالَى على ذَلِك بقوله تَعَالَى {أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} فَإِنَّمَا عَملنَا النحت بِنَصّ الْآيَة وبضرورة الْمُشَاهدَة فَهِيَ الَّتِي عَملنَا وَهِي الَّتِي أخبرنَا تَعَالَى أَنه خلقهَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد ذكر عَن كَبِير مِنْهُم وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله الإسكافي أَنه كَانَ يَقُول أَن الله تَعَالَى لم يخلق العيدان وَلَا الطنابير وَلَا المزامير وَلَقَد يلْزم الْمُعْتَزلَة أَن توافقه على هَذَا لِأَن الْخَشَبَة لَا تسمى عودا وَلَا طنبورا وَلَو حلف إِنْسَان لَا يَشْتَرِي طنبوراً فَاشْترى خشباً لم يَحْنَث وَكَذَلِكَ لَو حلف أَن لَا يَشْتَرِي خشباً فَاشْترى طنبوراً لم يَحْنَث وَلَا يَقع فِي اللُّغَة على الطنبور اسْم خَشَبَة وَقَالَ تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَهِيَ مخلوقة بِنَصّ الْقُرْآن وَقد قَالَ بَعضهم إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} فَكَانَت أَعمال النَّاس مخلوقة فِي تِلْكَ الْأَيَّام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد لم ينف الله عز وَجل ان يخلق شَيْئا بعد السِّتَّة أَيَّام بل قد قَالَ عز وَجل {يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَكَانَ هَذَا كُله فِي غير تِلْكَ السِّتَّة الْأَيَّام فَإذْ قد جَاءَ النَّص بِأَن الله تَعَالَى يخلق بعد تِلْكَ الْأَيَّام أبدا وَلَا يزَال يخلق بعد ناشئة الدُّنْيَا ثمَّ لَا يزَال يخلق نعيم أهل الْجنَّة وَعَذَاب أهل النَّار أبدا بِلَا نِهَايَة إِلَّا أَن عُمُوم خلقه تَعَالَى لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاقٍ على كل مَوْجُود وَقَالَ بَعضهم لَا نقُول أَن أَعمالنَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لِأَنَّهَا غير مماسة للسماء وَالْأَرْض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا عين التَّخْلِيط لِأَن الله تَعَالَى لم يشْتَرط المماسة فِي ذَلِك وَقد قَالَ تَعَالَى {والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} فصح ان السَّحَاب لَيست مماسة للسماء(3/34)
وَلَا للْأَرْض فَهِيَ إِذا على قَول هَذَا الْجَاهِل غير مخلوقة وَيلْزمهُ أَيْضا أَن يَقُول بقول معمر والجاحظ فِي أَن الله تَعَالَى لم يخلق الألوان وَلَا الطعوم وَلَا الروائح وَلَا الْمَوْت وَلَا الْحَيَاة لَان كل هَذَا غير مماس للسماء وَلَا للْأَرْض
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَأما قَول معمر والجاحظ أَن كل هَذَا فعل الطبيعة فغباوه شَدِيد وَجَهل بالطبيعة وَمعنى لفظ الطبيعة إِنَّمَا هِيَ قُوَّة الشَّيْء تجْرِي بهَا كيفياته على مَا هِيَ عَلَيْهِ وبالضرورة نعلم أَن تِلْكَ الْقُوَّة عرض لَا يعقل وكل مَا كَانَ مِمَّا لَا اخْتِيَار لَهُ من جسم أَو عرض كالحجارة وَسَائِر الجمادات فَمن نسب إِلَى مَا يظْهر مِنْهَا أَنَّهَا أفعالها مخترعه لَهَا فَهُوَ فِي غَايَة الْجَهْل وبالضرورة نعلم أَن تِلْكَ الْأَفْعَال خلق غَيرهَا فِيهَا وَلَا خَالق هَاهُنَا إِلَّا خَالق الْكل وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن بلغ هَهُنَا فقد كفانا الله تَعَالَى شَأْنه لمجاهرته بِالْجَهْلِ الْعَظِيم وَالْكفْر الْمُجَرّد فِي مُوَافَقَته أهل الدَّهْر وتكذيبه الْقُرْآن إِذْ يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَقَوله تَعَالَى {يسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل} فَأخْبر تَعَالَى أَن تفاضلها فِي الطعوم من فعله عز وَجل نَعُوذ بِاللَّه مِمَّا ابْتَلَاهُم بِهِ وأقحمهم فِيهِ وَقَالَ معمر معنى قَوْله تَعَالَى {خلق الْمَوْت والحياة} إِنَّمَا مَعْنَاهُ الإماتة والإحياء
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَمَا زَاد على أَنه أبدى تَمام جَهله بِوَجْهَيْنِ بينين أَحدهمَا إحالته النَّص من كَلَام ربه تَعَالَى بِلَا دَلِيل وَالثَّانِي أَنه لم يزل عَمَّا لزمَه لِأَن الْمَوْت والحياة هما الأمانه والإحياء بِلَا شكّ لِأَن الْحَيَاة والإحياء هُوَ جمع النَّفس مَعَ الْجَسَد الْمركب الأرضي وَالْمَوْت والإماتة شَيْء وَاحِد وَهُوَ التَّفْرِيق بَين النَّفس والجسد الْمَذْكُور فَقَط فَإِذا كَانَ جمع النَّفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تَعَالَى فقد صَحَّ أَن الْمَوْت والحياة مخلوقان لَهُ تَعَالَى يَقِينا وَبَطل تمويه هَذَا الْمَجْنُون
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن النُّصُوص القاطعة فِي هَذَا قَول الله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} فلجأ بَعضهم إِلَى دَعْوَى الْخُصُوص وَذكروا قَول الله تَعَالَى {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا فاصبحوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} وَقَوله تَعَالَى {وَأُوتِيت من كل شَيْء} وَقَوله {فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وكل هَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن قَوْله تَعَالَى {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} بَيَان جلي على أَنَّهَا إِنَّمَا دمرت كل شَيْء أمرهَا الله تَعَالَى بتدميره لَا مَا لم يأمرها فَهُوَ عُمُوم لكل شَيْء أمرهَا بِهِ وَقَوله تَعَالَى {وَأُوتِيت من كل شَيْء} فَمن للتَّبْعِيض فَمن آتَاهُ الله شَيْئا من الْأَشْيَاء فقد آتَاهُ من كل شَيْء لِأَنَّهُ قد آتَاهُ بعض الْأَشْيَاء وَأما قَوْله تَعَالَى ففتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء فَحق وَنحن لاندري كَيْفيَّة ذَلِك الْفَتْح إِلَّا أننا نَدْرِي أَن الله تَعَالَى صدق فِيمَا قَالَ وَأَنه تَعَالَى إِنَّمَا آتَاهُم بعض الْأَشْيَاء الَّتِي فتح عَلَيْهِم أَبْوَابهَا ثمَّ لَو صَحَّ برهَان فِي بعض هَذَا الْعُمُوم أَنه لَيْسَ على ظَاهره وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لما وَجب من ذَلِك أَن يحمل كل عُمُوم على خلاف ظَاهره بل كل عُمُوم فعلى ظَاهره حَتَّى يقوم برهَان بِأَنَّهُ مَخْصُوص أَو أَنه مَنْسُوخ فَيُوقف عِنْده وَلَا يتَعَدَّى بالتخصيص وبالنسخ إِلَى مَا لم يقم برهَان بِأَنَّهُ مَنْسُوخ أَو مَخْصُوص وَلَو كَانَ غير هَذَا لما صحت(3/35)
حَقِيقَة فِي شَيْء من أَخْبَار الله تَعَالَى وَلَا صحت شَرِيعَة أبدا لِأَنَّهُ لَا يعجز أحد فِي أَمر من أوَامِر الله تَعَالَى وَفِي كل خبر من أخباره عز وَجل أَن يحملهُ على غير ظَاهره وعَلى بعض مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومه وَهَذَا عين السفسطة وَالْكفْر والحماقة ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَلم يقم برهَان على تَخْصِيص قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم}
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فنص الله على أَنه برأَ المصائب كلهَا فَهُوَ باريء لَهَا والباريء هُوَ الْخَالِق نَفسه بِلَا شكّ فصح يَقِينا أَن الله تَعَالَى خَالق كل شَيْء إِذْ هُوَ خَالق كل مَا أصَاب فِي الأَرْض وَفِي النُّفُوس ثمَّ زَاد تَعَالَى بَيَانا بِرَفْع الأشكال جملَة بقوله تَعَالَى {لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} فَبين تَعَالَى أَن مَا أصَاب الْأَمْوَال والنفوس من المصائب فَهُوَ خَالِقهَا وَقد تكون تِلْكَ المصائب أَفعَال الظَّالِمين بِإِتْلَاف الْأَمْوَال وأذى النُّفُوس فنص تَعَالَى على أَن كل ذَلِك خلق لَهُ تَعَالَى وَبِه عز وَجل التَّوْفِيق وَإِمَّا من طَرِيق النّظر فَإِن الْحَرَكَة نوع وَاحِد وَكلما يُقَال على جملَة النَّوْع فَهُوَ يُقَال مقول على أشخاص ذَلِك النَّوْع وَلَا بُد فَإِن كَانَ النَّوْع لمخلوقا فأشاصه مخلوقة وَأَيْضًا فَلَو كَانَ فِي الْعَالم شَيْء غير مَخْلُوق لله عز وَجل لَكَانَ من قَالَ الْعَالم مَخْلُوق والأشياء مخلوقة وَمَا دون الله تَعَالَى مَخْلُوق كَاذِب لِأَن فِي كل ذَلِك عِنْدهم مَا لَيْسَ بمخلوق ولكان من قَالَ الْعَالم غير مَخْلُوق وَلم يخلق الله تَعَالَى الْأَشْيَاء صَادِقا ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى من كل قَول أدّى إِلَى هَذَا ونسألهم هَل لله تَعَالَى إِلَه الْعَالم وَرب كل شَيْء أم لَا فَإِن قَالُوا نعم سئلوا أعموماً أم خُصُوصا فَإِن قَالُوا بل عُمُوما صدقُوا ولزمهم ترك قَوْلهم إِذْ من الْمحَال أَن يكون تَعَالَى إِلَهًا لما لم يخلق وَإِن قَالُوا بل خُصُوصا قيل لَهُم فَفِي الْعَالم إِذا مَا لَيْسَ الله إِلَهًا لَهُ ومالا رب لَهُ وَإِن كَانَ هَذَا فَإِن من قَالَ أَن الله تَعَالَى رب الْعَالمين كَاذِب وَكَانَ من قَالَ لَيْسَ الله إِلَهًا للْعَالمين وَلَا بِرَبّ للْعَالمين صَادِقا وَهَذَا خُرُوج عَن الْإِسْلَام وَتَكْذيب لله تَعَالَى فِي قَوْله أَنه رب الْعَالمين وخالق كل شَيْء وَقد وافقونا على أَن الله تَعَالَى خَالق حركات المختارين من سَائِر الْحَيَوَان غير الْمَلَائِكَة وَالْإِنْس وَالْجِنّ وبالضرورة نَدْرِي الحركات الاختيارية كلهَا نوع وَاحِد فَمن الْمحَال الْبَاطِل أَن يكون بعض النَّوْع مخلوقاً وَبَعضه غير مَخْلُوق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد واعترضوا بأَشْيَاء من الْقُرْآن وَهِي أَنهم قَالُوا قَالَ الله عز وَجل {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا} وَقَالَ تَعَالَى {لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} وَقَالَ تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} وَقَوله تَعَالَى {وتخلقون إفكاً} وَقَوله تَعَالَى {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} وَقَوله {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} وَقَوله {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} واعترضوا بأَشْيَاء من طَرِيق النّظر وَهِي أَن قَالُوا إِن كَانَ الله تَعَالَى خلق أَعمال الْعباد فَهُوَ إِذا يغْضب مِمَّا خلق وَيكرهُ مَا فعل ويسخط فعله وَلَا يرضى مَا فعل وَلَا مَا دبر وَقَالُوا أَيْضا كل من فعل شَيْئا فَهُوَ مُسَمّى بِهِ ومنسوب إِلَيْهِ لَا يعقل غير ذَلِك فَلَو خلق الله الخطاء وَالْكذب وَالظُّلم وَالْكفْر لنسب كل ذَلِك إِلَيْهِ تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَقَالُوا أَيْضا لَا يعقل فعل وَاحِد من فاعلين(3/36)
هَذَا فعله كُله أَو هَذَا فعله كُله وَقَالُوا أَيْضا أَنْتُم تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى خلق الْفِعْل وَإِن العَبْد اكْتَسبهُ فأخبرونا عَن هَذَا الِاكْتِسَاب الَّذِي انْفَرد بِهِ العَبْد أهوَ خلق أم هُوَ غَيره فَإِن قُلْتُمْ هُوَ خلق الله لزمكم أَنه تَعَالَى اكْتَسبهُ وَأَنه مكتسب لَهُ إِذا لكسب هُوَ الْخلق وَإِن قُلْتُمْ أَن الْكسْب هُوَ غير الْخلق وَلَيْسَ خلقا لله تَعَالَى تركْتُم قَوْلكُم وَرَجَعْتُمْ إِلَى قَوْلنَا وَقَالُوا أَيْضا إِذا كَانَت أفعالكم مخلوقه لله تَعَالَى وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنكُمْ مستطيعون على فعلهَا وعَلى تَركهَا فقد أوجبتم أَنكُمْ مستطيعون على أَن لَا يخلق الله تَعَالَى بعض خلقه وَقَالُوا أَيْضا إِذا كَانَ فعلكم خلقا لله تَعَالَى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على مَا خلق وَقَالُوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرِّضَا بِمَا خلق فَإِن كَانَ الظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب مِمَّا خلق فَفرض علينا الرِّضَا بالْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذِه عُمْدَة اعتراضاتهم الَّتِي لَا يشذ عَنْهَا شَيْء من تفريعاتهم وكل مَا ذكرُوا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ على مَا نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى بعونه وتأييده وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى نستعين أما قَول الله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا لِأَن أول الْآيَة فِي قوم كتبُوا كتابا وَقَالُوا هَذَا من عِنْد الله فأكذبهم الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَاخْبَرْ أَنه لَيْسَ منزلا من عِنْده وَلَا مِمَّا أَمر بِهِ عز وَجل وَلم يقل هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِن هَذَا الْكتاب مَخْلُوق فأكذبهم الله تَعَالَى فِي ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى إِن ذَلِك الْكتاب لَيْسَ مخلوقاً لله تَعَالَى فَبَطل تعلقهم بِهَذِهِ الْآيَة جملَة وَلَا شكّ عِنْد الْمُعْتَزلَة وَعِنْدنَا فِي أَن ذَلِك الْكتاب مَخْلُوق لله تَعَالَى لِأَنَّهُ قرطاس أَو أَدِيم ومداد وكل ذَلِك مَخْلُوق بِلَا شكّ وَأما قَوْله تبَارك وَتَعَالَى الله أحسن الْخَالِقِينَ فقد علمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يتعارض وَلَا يتدانع وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَإِذا لَا شكّ فِي هَذَا فقد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى أنكر على الْكَافرين فَقَالَ تَعَالَى {أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ الْوَاحِد القهار} فَهَذِهِ الْآيَة بيّنت مَا تعلق بِهِ الْمُعْتَزلَة وَذَلِكَ أَن قوما جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فجعلوهم خالقين فَأنْكر الله تَعَالَى ذَلِك فعلى هَذَا خرج قَوْله تَعَالَى {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى {يكيدون كيداً وأكيد كيداً} وَقَالَ {ومكروا ومكر الله} وَيبين بطلَان ظنون الْمُعْتَزلَة فِي هَذِه الْآيَة قَول الله تَعَالَى {وَيَوْم يناديهم أَيْن شركائي قَالُوا آذناك مَا منا من شَهِيد} أفيكون مُسلما من أوجب لله تَعَالَى شُرَكَاء من أجل قَول الله تَعَالَى للْكفَّار الَّذين جعلُوا لَهُ شُرَكَاء أَيْن شركائي وَلَا شكّ فِي أَن هَذَا الْخطاب إِنَّمَا خرج جَوَابا عَن إيجابهم لَهُ الشُّرَكَاء تَعَالَى الله عَن ذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَقد علمنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى كُله هُوَ على حكم ذَلِك المعذب لنَفسِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّه الْعَزِيز الْكَرِيم وَقد علمنَا بضرورة الْعقل وَالنَّص أَنه لَيْسَ لله تَعَالَى شُرَكَاء وَأَنه لَا خَالق غَيره عز وَجل وَأَنه خَالق كل شَيْء فِي الْعَالم من عرض أَو جَوْهَر وَبِهَذَا خرج قَوْله تَعَالَى {أحسن الْخَالِقِينَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} فَلَو أمكن أَن يكون فِي الْعَالم خَالق غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا لما أنكر ذَلِك عز وَجل إِذْ هُوَ عز وَجل لَا يُنكر وجود الموجودات وَإِنَّمَا يُنكر الْبَاطِل فصح ضَرُورَة لَا شكّ فِيهَا أَنه لَا خَالق غير الله تَعَالَى فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَلَيْسَ فِي قَول الله تَعَالَى {أحسن الْخَالِقِينَ} إِثْبَات لِأَن فِي الْعَالم خَالِقًا غير الله تَعَالَى يخلق شَيْئا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَأما قَوْله {وتخلقون إفكاً} وَقَوله تَعَالَى عَن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام(3/37)
أَنه قَالَ {إِنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير} وَقَول زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ وأراك تخلق مَا فريت وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري فقد قُلْنَا أَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يخْتَلف وَقد قَالَ تَعَالَى {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} وبيقين علم كل ذِي عقل أَن من جملَة أُولَئِكَ الْآلهَة الَّذين اتخذهم الْكفَّار الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ والمسيح عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تَعَالَى {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَقَالَ الله تَعَالَى حاكياً عَن الْمَلَائِكَة أَنهم قَالُوا عَن الْكفَّار {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} فقد صَحَّ يَقِينا بِنَصّ هَذِه الْآيَة أَن الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ والمسيح عَلَيْهِ السَّلَام لَا يخلقون شَيْئا أصلا وَلَا يخْتَلف اثْنَان فِي أَن جَمِيع الْإِنْس فِي فعلهم كمن ذكرنَا أَن كاوا هَؤُلَاءِ يخلفون أفعالهم فسائر النَّاس يخلقون أفعالهم وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يخلقون شَيْئا من أفعالهم فسائر النَّاس لَا يخلقون شَيْئا من أفعالهم فَإِن ذَلِك وَكَلَام الله عزوجل لَا يخْتَلف فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإذْ الْخلق الَّذِي أثْبته الله عز وَجل للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي الطير وللكفار فِي الْإِفْك هُوَ غير الْخلق الَّذِي نَفَاهُ عَنْهُم وَعَن جَمِيع الْخلق لَا يجوز الْبَتَّةَ غير هَذَا فَإذْ هَذَا هُوَ الْحق بِيَقِين فالخلق الَّذِي أوجبه الله تَعَالَى لنَفسِهِ ونفاه عَن غَيره هُوَ الاختراع والإبداع وإحداث الشَّيْء من لَا شَيْء بِمَعْنى من عدم إِلَى وجود وَأما الْخلق الَّذِي أوجبه الله تَعَالَى فَإِنَّمَا هُوَ ظُهُور الْفِعْل مِنْهُم فَقَط وانفرادهم بِهِ وَالله تَعَالَى خالقه فيهم وبرهان ذَلِك أَن الْعَرَب تسمي الْكَذِب اختلاقاً وَالْقَوْل الْكَاذِب مُخْتَلفا وَذَلِكَ القَوْل بِلَا شكّ إِنَّمَا هُوَ لفظ وَمعنى وَاللَّفْظ مركب من حُرُوف الهجاء وَقد كَانَ كل ذَلِك مَوْجُود النَّوْع قبل وجود أشخاص هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين وَهَذَا كَقَوْلِه عز وَجل {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} فبيقين يدْرِي كل ذِي حس يُؤمن بِاللَّه تَعَالَى وَبِالْقُرْآنِ إِن الزَّرْع وَالْقَتْل وَالرَّمْي الَّذِي نَفَاهُ عَن النَّاس وَعَن الْمُؤمنِينَ وَعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ غير الزَّرْع وَالْقَتْل وَالرَّمْي الَّذِي أَضَافَهُ إِلَيْهِم لَا يُمكنهُ الْبَتَّةَ غير ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقُول إِلَّا الْحق فَإذْ ذَلِك قَالَ الَّذِي نَفَاهُ عَمَّن ذكرنَا هُوَ خلق كل شَيْء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إِلَى وجود وَالَّذِي أوجب لَهُم مِنْهُ ظُهُوره فيهم وَنسبَة ذَلِك كُله إِلَيْهِم كَذَلِك فَقَط وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَقَول زُهَيْر وأراك تخلق مَا فريت لَا يشك من لَهُ أقل فهم بِالْعَرَبِيَّةِ أَنه لم يعن الإبداع وَلَا إِخْرَاج الْخلق من عدم إِلَى وجود وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّفاذ فِي الْأُمُور فَقَط فقد وضح أَن لَفْظَة الْخلق مُشْتَركَة تقع على مَعْنيين أَحدهمَا لله تَعَالَى لَا لأحد دونه وَهُوَ الإبداع من عدم إِلَى وجود وَالثَّانِي الْكَذِب فِيمَا لم يكن أَو ظُهُور فعل لم يتَقَدَّم لغيره أَو نَفاذ فِيمَا حاول وَهَذَا كُله مَوْجُود من الْحَيَوَان وَللَّه تَعَالَى خَالق كل ذَلِك وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَبِهَذَا تتألف النُّصُوص كلهَا وَأما قَوْله تَعَالَى {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} فَهُوَ عَلَيْهِم لَا لَهُم لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَن بصنعه أتقن كل شَيْء وَهَذَا على عُمُومه وَظَاهره فَالله تَعَالَى صانع كل شَيْء وإتقانه لَهُ أَن خلقه جوهراً أَو عرضا جاريين على رُتْبَة وَاحِدَة أبدا وَهَذَا عين الإتقان وَأما قَوْله تَعَالَى {أحسن كل شَيْء خلقه} فَإِنَّهُمَا قراءتان مشهورتان من قراآت الْمُسلمين إِحْدَاهمَا {احسن كل شَيْء خلقه} بِإِسْكَان اللَّام فَيكون(3/38)
خلقه بَدَلا من كل شَيْء بدل الْبَيَان فَهَذِهِ الْقِرَاءَة حجَّة عَلَيْهِم لِأَن مَعْنَاهَا أَن الله تَعَالَى أحسن خلقه لكل شَيْء وَصدق الله عزو جلّ وَهَكَذَا نقُول أَن خلق الله تَعَالَى لكل شَيْء حسن وَالله تَعَالَى محسن فِي كل شَيْء وَالْقِرَاءَة الْأُخْرَى خلقه بفته اللَّام وَهَذَا أَيْضا لَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِيجَاب لِأَن هَا هُنَا شَيْئا لم يخلق الله عز وَجل وَمن ادّعى أَن هَذَا فِي اقْتِضَاء الْآيَة فقد كذب وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظَة الْآيَة أَن كل شَيْء فَالله خلقه كَمَا فِي سَائِر الْآيَات وَالله تَعَالَى أحْسنه إِذْ خلقه وَهَذَا قَوْلنَا وَكَذَا نقُول أَن لإِنْسَان لَا يفعل شَيْئا إِلَّا الْحَرَكَة أَو السّكُون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هَذِه كيفيات وأعراض حسن خلقهَا من الله عز وَجل قد حسن رتبتها وإيقاعها فِي النُّفُوس والأجساد وَإِنَّمَا قبح مَا قبح من ذَلِك من الْإِنْسَان لِأَن الله تَعَالَى سمى وُقُوع ذَلِك أَو بَعْضهَا مِمَّن وَقعت مِنْهُ قبيحاً وسمى بعض ذَلِك حسنا كَمَا كَانَت الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس حَرَكَة حَسَنَة إِيمَانًا ثمَّ سَمَّاهَا تَعَالَى قبيحة كفرا وَهَذِه تِلْكَ الْحَرَكَة نَفسهَا فصح أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء حسن لعَينه وَلَا شَيْء قَبِيح لعَينه لَكِن مَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى حسنا فَهُوَ حسن وفاعله محسن قَالَ الله تَعَالَى {أَن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم} وَقَالَ تَعَالَى {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} وَمَا سَمَّاهُ الله تَعَالَى قبيحاً فَهُوَ حَرَكَة قبيحة وَقد سمى الله تَعَالَى خلقه لكل شَيْء فِي الْعَالم حسنا فَهُوَ كُله من الله تَعَالَى حسن وسمى مَا وَقع من ذَلِك من عباده كَمَا شَاءَ فبعض ذَلِك قبحه فَهُوَ قَبِيح وَبَعض ذَلِك حسنه فَهُوَ حسن وَبعد ذَلِك قبحه ثمَّ حسنه فَكَانَ قبيحاً ثمَّ حسنا وَبَعض ذَلِك حسنه ثمَّ قبحه فَكَانَ حسنا ثمَّ قبح كَمَا صَارَت الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة حَسَنَة بعد ان كَانَت قبيحة كَذَلِك جَمِيع أَفعَال النَّاس الَّتِي خلقهَا الله تَعَالَى فيهم كَالْوَطْءِ قبل النِّكَاح وَبعده وكسبي من نقض الذِّمَّة وَسَائِر الشَّرِيعَة كلهَا وَقد اتّفقت الْمُعْتَزلَة مَعنا على أَن خلق الله تَعَالَى للخمر والخنازير وَالْحِجَارَة المعبودة من دونه حسن بِلَا شكّ وَهُوَ سَمَّاهُ قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وَهَكَذَا القَوْل فِي خلقه للأعراض فِي عباده وَلَا فرق وَكَذَلِكَ وَافَقنَا أَكْثَرهم على أَنه تَعَالَى خلق فَسَاد الدِّمَاغ وَالْجُنُون الْمُتَوَلد مِنْهُ والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة وكل هَذَا من خلق الله تَعَالَى لَهُ حسن وَكله فِيمَا بَيْننَا قَبِيح رَدِيء جدا يستعاذ بِاللَّه مِنْهُ وَقد نَص الله تَعَالَى على أَنه خلق المصائب كلهَا فَقَالَ عزو جلّ {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير} فنص تَعَالَى على أَنه برأَ المصائب كلهَا وبرأ هُوَ خلق بِلَا خلاف من أحد وَلَا فرق بَين إلزامهم إيانا أَن الله تَعَالَى أحسن الْكفْر وَالظُّلم والجور وَالْكذب والقبائح إِذْ خلق كل ذَلِك وَبَين إقرارهم مَعنا أَن الله تَعَالَى قد أحسن الْخمر والخنازير وَالدَّم وَالْميتَة والعذرة وإبليس وكل مَا قَالَ إِنَّا إِلَه من دون الله تَعَالَى والأوثان المعبودة من دون الله تَعَالَى والمصايب كلهَا والأمراض والعاهات إِذْ خلق كل ذَلِك فَأَي شَيْء قَالُوهُ فِي هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ قَوْلنَا فِي خلق الله تَعَالَى للكفر بِهِ ولشتمه وَالظُّلم وَالْكذب وَلَا فرق كل ذَلِك قد أحسن الله خلقه إِذْ حَرَكَة أَو سكوناً أَو ضميراً فِي النَّفس وسمى ظُهُوره من العَبْد قبيحاً مَوْصُوفا بِهِ الْإِنْسَان وَأما قَوْله تَعَالَى {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} فَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا أَيْضا لِأَن التَّفَاوُت الْمَعْهُود هُوَ مانافر النُّفُوس أَو خرج عَن الْمَعْهُود فَنحْن نسمي الصُّورَة المضطربة بِأَن فِيهَا تَفَاوتا فَلَيْسَ ذَا التَّفَاوُت الَّذِي نَفَاهُ الله تَعَالَى عَن خلقه فَإذْ لَيْسَ هُوَ هَذَا(3/39)
الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس تَفَاوتا فَلم يبْق إِلَّا أَن التَّفَاوُت الَّذِي نَفَاهُ الله تَعَالَى عَمَّا خلق هُوَ شَيْء غير مَوْجُود فِيهِ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَو وجد فِي خلق الله تَعَالَى تَفَاوتا لكذب قَول الله عزو جلّ {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} وَلَا يكذب الله تَعَالَى إِلَّا كَافِر فَبَطل ظن الْمُعْتَزلَة إِن الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب والجور تفَاوت لِأَن كل ذَلِك مَوْجُود فِي خلق الله عز وَجل مرئي فِيهِ مشَاهد بالعيان فِيهِ فَبَطل احتجاجهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا هَذَا التَّفَاوُت الَّذِي أخبر الله عز وَجل أَنه لَا يرى فِي خلقه قيل لَهُم نعم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق هُوَ اسْم لَا يَقع على مُسَمّى مَوْجُود فِي الْعَالم أصلا بل هُوَ مَعْدُوم جملَة إِذْ لَو كَانَ شَيْئا مَوْجُودا فِي الْعَالم لوجد التَّفَاوُت فِي خلق الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى قد أكذب هَذَا وَأخْبر أَنه لَا يرى فِي خلقه ثمَّ نقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَن الْعَالم كُله مَا دون الله تَعَالَى وَهُوَ كُله مَخْلُوق لله تَعَالَى أجسامه وأعراضه كلهَا لَا تحاشي شَيْئا مِنْهَا ثمَّ إِذا نظر النَّاظر فِي تَقْسِيم أَنْوَاع أعراضه وأنواع أجسامه جرت الْقِسْمَة جَريا مستوياً فِي تَفْصِيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لَهَا وفصولها المفرقة بَينهَا على رُتْبَة وَاحِدَة وهيئة وَاحِدَة إِلَى أَن يبلغ إِلَى الْأَشْخَاص الَّتِي تلِي أَنْوَاع الْأَنْوَاع لَا تفَاوت فِي شَيْء من ذَلِك الْبَتَّةَ بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا تخَالف فِي شَيْء مِنْهُ أصلا وَمن وقف على هَذَا علم أَن الصُّورَة المستقبحة عندنَا وَالصُّورَة المستحسنة عندنَا وَاقِعَتَانِ مَعًا تَحت نوع الشكل والتخطيط ثمَّ تَحت نوع الْكَيْفِيَّة ثمَّ تَحت اسْم الْعرض وقوعاً مستوياً لَا تفاضل فِيهِ وَلَا تفَاوت فِي هَذَا بِوَجْه من التَّقْسِيم وَكَذَلِكَ أَيْضا نعلم أَن الْكفْر وَالْإِيمَان بِالْقَلْبِ واقعان تَحت نوع الِاعْتِقَاد ثمَّ تَحت فعل النَّفس ثمَّ تَحت الْكَيْفِيَّة وَالْعرض وقوعاً مستوياً لَا تفاضل فِيهِ وَلَا تفَاوت من هَذَا الْوَجْه من التَّقْسِيم وَكَذَلِكَ أَيْضا نعلم أَن الْإِيمَان وَالْكفْر بِاللِّسَانِ واقعان تَحت نوع فرع الْهَوَاء بآلات الْكَلَام ثمَّ تَحت نوع الْحَرَكَة وَتَحْت نوع الْكَيْفِيَّة وَتَحْت اسْم الْعرض وقوعاً حَقًا مستوياً لَا تفَاوت فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف وَهَكَذَا القَوْل فِي الظُّلم والإنصاف وَفِي الْعدْل والجور وَفِي الصدْق وَالْكذب وَفِي الزِّنَا وَالْوَطْء الْحَلَال وَكَذَلِكَ كل مَا فِي الْعَالم حَتَّى يرجع جَمِيع الموجودات إِلَى الرؤس الأول الَّتِي لَيْسَ فَوْقهَا رَأس يجمعها إِلَّا كَونهَا مخلوقة لله تَعَالَى وَهِي الْجَوْهَر والكم والكيف وَالْإِضَافَة على مَا بَينا فِي كتاب التَّقْرِيب وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فانتقى التَّفَاوُت عَن كل مَا خلق الله تَعَالَى وعادت الْآيَة الْمَذْكُورَة حجَّة على الْمُعْتَزلَة ضَرُورَة لَا منفك لَهُم عَنْهَا وَهِي أَنه لَو كَانَ وجود الْكفْر وَالْكذب وَالظُّلم تَفَاوتا كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ التَّفَاوُت مَوْجُودا فِي خلق الرَّحْمَن وَقد كذب الله تَعَالَى ذَلِك وَنفى أَن يرى فِي خلقه تفَاوت وَأما اعتراضهم من طَرِيق النّظر بِأَن قَالُوا أَنه تَعَالَى إِن كَانَ خلق الْكفْر والمعاصي فَهُوَ إِذا يغْضب مِمَّا فعل ويغضب مِمَّا خلق وَلَا يرضى مَا صنع ويسخط مَا فعل وَيكرهُ مَا يفعل وَإنَّهُ يغْضب ويسخط من تَدْبيره وَتَقْدِيره فَهَذَا تمويه ضَعِيف وَنحن لَا ننكر ذَلِك إِذْ أخبرنَا الله عز وَجل بذلك وَهُوَ تَعَالَى قد أخبرنَا أَنه يسْخط الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وَلَا يرضاه وَأَنه يكره كل ذَلِك ويغضب مِنْهُ فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيم لقَوْل الله تَعَالَى نعم نعكس عَلَيْهِم هَذَا السُّؤَال نَفسه فَنَقُول لَهُم أَلَيْسَ الله خلق إِبْلِيس وَفرْعَوْن وَالْخمر وَالْكفَّار فَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم أيرضى عز وَجل عَن هَؤُلَاءِ كلهم أم ساخط لَهُم فَلَا بُد من نعم فَنَقُول لَهُم أيرضى عز وَجل عَن هَؤُلَاءِ كلهم أم هُوَ ساخط لَهُم فَلَا بُد من أَنه ساخط لَهُم كَارِه لَهُم غَضْبَان عَلَيْهِم غير رَاض(3/40)
عَنْهُم فَنَقُول لَهُم هَذَا نفس ماأنكرتم من أَنه تَعَالَى سخط تَدْبيره وَغَضب من فعله وَكره مَا خلق ولعنه فَإِن قَالُوا لم يكره عين الْكَافِر وَلَا سخط شخص إِبْلِيس وَلَا كره عين الْخمر لم نسلم لَهُم ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى قد نَص على أَنه تَعَالَى لعن إِبْلِيس وَالْكفَّار وَإِنَّهُم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تَعَالَى مغضوب عَلَيْهِم وَكَذَا الْخمر والأوثان وَقَالَ {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} وَقد سمى الله تَعَالَى كل ذَلِك رجسا ثمَّ أَمر بعد ذَلِك باجتنابه وأضاف كل ذَلِك إِلَى عمل الشَّيْطَان وَلَا خلاف فِي أَنه عز وَجل خَالق كل ذَلِك فَهُوَ خلق الرجس بِالنَّصِّ وَلَا فرق فِي الْمَعْقُول بَين خلق الرجس وَخلق الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وَقَوله تَعَالَى {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} فعلى قَول هَؤُلَاءِ المخاذيل أَنه تَعَالَى يغْضب مِمَّا ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بِلَا شكّ ضَرُورَة فقد صَحَّ عَلَيْهِم مَا شنعوا بِهِ من أَنه يغْضب من فعله أَيْضا فَيُقَال لَهُم هَل الله تَعَالَى قَادر على منع الظَّالِم من الْمَظْلُوم وعَلى منع الَّذين قتلوا رسل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أَن يحول بَين الْكَافِر وكفره وَأَن يميته قبل أَن يبلغ وَبَين الزَّانِي وزناه بإضعاف جارحته أَو بِشَيْء يشْغلهُ بِهِ أَو تيسير إِنْسَان يطلّ عَلَيْهِمَا أم هُوَ عَاجز عَن ذَلِك كُله قَادر على شَيْء مِنْهُ وَلَا سَبِيل إِلَى قسم ثَالِث فَإِن قَالُوا هُوَ غير قَادر على شَيْء من ذَلِك عجزوا رَبهم وَكَفرُوا وَبَطلَت أداتهم على إِحْدَاث الْعَالم إِذا أضعفوا قدرته عَن هَذَا الْيَسِير السهل وَإِن قَالُوا بل هُوَ قَادر على ذَلِك كُله فقد أقرُّوا أَيْضا على أَنه تَعَالَى رأى الْمُنكر وَالْكفْر وَالزِّنَا وَالظُّلم فأقره وَلم يُغَيِّرهُ وَأطلق أَيدي الْكفَّار على قتل رسله وضربهم وَمَعَ إِقْرَاره لكل ذَلِك فَلم يَكْتَفِي بِكُل ذَلِك إِلَّا حَتَّى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مَانع وَهَذَا على قَوْلهم أَنه رضَا مِنْهُ تَعَالَى بالْكفْر واختياراً مِنْهُ تَعَالَى لكل ذَلِك وَهَذَا كفر مُجَرّد وَأما أَنه يغْضب مِمَّا أقرّ ويسخط مِمَّا أعَان عَلَيْهِ وَيكرهُ مَا فعل من إقرارهم على كل ذَلِك وَهَذَا هُوَ الَّذِي شنعوا بِهِ لَا بُد من أحد الْوَجْهَيْنِ ضَرُورَة وَكِلَاهُمَا خلاف قَوْلهم إِلَّا أَن هَذَا لَازم لَهُم على أصولهم وَلَا يلْزمنَا نَحن شَيْء مِنْهُ لأننا لَا نقبح إِلَّا مَا قبح الله تَعَالَى وَلَا نحسن إِلَّا مَا حسن الله تَعَالَى فَإِن قَالُوا إِنَّمَا أقره لينتقم مِنْهُ وَإِنَّمَا يكون سفهاً وعبثا لواقره أبدا قيل لَهُم أَي فرق بَين إِقْرَاره تَعَالَى الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب سَاعَة وَبَين إبقائه إِيَّاه سَاعَة بعد سَاعَة وَهَكَذَا أبدا بِلَا نِهَايَة أَو بنهاية فِي الْحسن والقبح وَإِلَّا فعرفونا الأمد الَّذِي يكون إِقْرَار الْكفْر وَالْكذب وَالظُّلم إِلَيْهِ حِكْمَة وحسناً وَإِذا تجاوزه صَار عَبَثا وعيباً وسفهاً فَإِن تكلفوا أَن يحدوا فِي ذَلِك حدا أَتَوا بالجنون والسخف وَالْكذب وَالدَّعْوَى الَّتِي لَا يعجز عَنْهَا أحد وَإِن قَالُوا لَا نَدْرِي وردوا الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى الله عزو جلّ صدقُوا وَهَذَا هُوَ قَوْلنَا أَن كل مَا فعله الله تَعَالَى من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وتعذيبه عَلَيْهَا وخلقه الْكفْر وَالظُّلم فِي الْكَافِر والظالم وَإِقْرَاره كل ذَلِك ثمَّ تعذيبهما عَلَيْهِ وخلقه الْكفْر وغضبه مِنْهُ وَسخطه إِيَّاه كل ذَلِك من الله تَعَالَى حِكْمَة وَعدل وَحقّ وَمِمَّنْ دونه تَعَالَى سفه وظلم وباطل لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وَأما قَوْلهم أَن من فعل شَيْئا وَجب أَن ينْسب إِلَيْهِ ويسمي بِهِ نَفسه وَأَنه لَا يعقل وَلَا يُوجد غير هَذَا وإيجابهم بِهَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يُسمى الله تَعَالَى ظَالِما لِأَنَّهُ خلق الظُّلم وَكَذَلِكَ من الْكفْر وَالْكذب فَهَذَا ينْتَقض عَلَيْهِم من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن هَذَا تَشْبِيه مَحْض لأَنهم يُرِيدُونَ أَن يحكموا على الْبَارِي تَعَالَى بالحكم الْمَوْجُود الْجَارِي على(3/41)
خلقه وَيُقَال لَهُم إِذْ لم تَجدوا فَاعِلا فِي الشَّاهِد إِلَّا جسماً وَلَا عَالما إِلَّا بِعلم هُوَ غَيره وَلَا حَيا إِلَّا بحياة هِيَ عرض فِيهِ وَلَا مخبرا عَنهُ إِلَّا جسماً أَو عرضا وَمَا لم يكن كَذَلِك فَهُوَ مَعْدُوم وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يعقل ثمَّ رَأَيْتُمْ الْبَارِي تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك كُله وَلم تحكموا عَلَيْهِ بالحكم فِيمَا وجدْتُم فقد وَجب ضَرُورَة أَن لَا يحكم عَلَيْهِ تَعَالَى بالحكم علينا فِي أَن يُسمى من أَفعاله وَلَا فِي أَن ينْسب إِلَيْهِ كَمَا ينْسب إِلَيْنَا بِلَا خلاف ذَلِك بالبرهان الضَّرُورِيّ وَهُوَ أَن الله عز وَجل خلق كل مَا خلق من ذَلِك مخترعاً لَهُ كَيْفيَّة مركبة فِي غَيره فَهَكَذَا هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيمَا خلق وَأما فعل عباده لما فعلوا فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه ظهر ذَلِك الْفِعْل عرضا مَحْمُولا فِي فَاعله لِأَنَّهُ إِمَّا حَرَكَة فِي متحرك وَأما سُكُون فِي سَاكن أَو اعْتِقَاد فِي مُعْتَقد أَو فكر فِي متفكر أَو إِرَادَة فِي مُرِيد وَلَا مزِيد فَبين الْأَمريْنِ بون بَائِن لَا يخفى على من لَهُ أقل فهم وَأما الْمَدْح والذم واشتقاق اسْم الْفَاعِل من فعله فَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا لَكِن الْحق هُوَ أَنه لَا يسْتَحق أحد مدحاً وَلَا ذماً إِلَّا من مدحه الله تَعَالَى أَو ذمه وَقد أمرنَا الله تَعَالَى بِحَمْدِهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ فَهُوَ عز وَجل مَحْمُود على كل مَا فعله مَحْبُوب لذَلِك وَأما من دونه تَعَالَى فَمن حمد الله تَعَالَى فعله الَّذِي أظهره فِيهِ فَهُوَ ممدوح مَحْمُود وَمن ذمّ عز وَجل فعله الَّذِي أظهره فِيهِ فَهُوَ مَذْمُوم وَلَا مزِيد وبرهان هَذَا إِجْمَاع أهل الْإِسْلَام على أَنه لَا يسْتَحق الْحَمد والمدح إِلَّا من أطَاع الله عز وَجل وَلَا يسْتَحق الذَّم إِلَّا من عَصَاهُ وَقد يكون الْمَرْء مُطيعًا مَحْمُودًا الْيَوْم ممدوحاً بِفِعْلِهِ إِن فعله الْيَوْم وكافراً مذموماً بِهِ إِن فعله غَدا كَالْحَجِّ فِي أشهر الْحَج وَفِي غير أشهر الْحَج ولصوم يَوْم الْفطر والأضحى وَصَوْم رَمَضَان وكالصلاة فِي الْوَقْت وَقبل الْوَقْت وَبعد الْوَقْت وكسائر الشَّرَائِع كلهَا وَقد وجدنَا فَاعِلا للكذب قَائِلا لَهُ وفاعلاً للكفر قَائِلا بِهِ وهما غير مذمومين وَلَا يُسمى وَاحِد مِنْهُمَا كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وهما الحاكي وَالْمكْره فَبَطل مَا ظنت الْمُعْتَزلَة من انه كل من فعل الْكَذِب فَهُوَ كَاذِب وَمن فعل الْكفْر فَهُوَ كَافِر وَمن فعل الظُّلم فَهُوَ ظَالِم وَصَحَّ أَنه لَا يكون كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا ظَالِما إِلَّا من سَمَّاهُ الله تَعَالَى كَافِرًا وكاذباً وظالماً وَإنَّهُ لَا كفر وَلَا ظلم وَلَا كذب إِلَّا مَا سَمَّاهُ الله كفرا وكذباً وظلماً وَصَحَّ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي لَا محيد عَنْهَا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم شَيْء مَحْمُود ممدوح لعَينه وَلَا مَذْمُوم لعَينه وَلَا كفر لعَينه وَلَا ظلم لعَينه وَأما مَا لَا يَقع عَلَيْهِ اسْم طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة وَلَا حكمهَا وَهُوَ الله تَعَالَى فَلَا يجوز أَن يُوقع عَلَيْهِ مدح وَلَا حمد وَلَا ذمّ إِلَّا بِنَصّ من قبله فنحمده كَمَا امرنا أَن نقُول الْحَمد لله رب الْعَالمين وَأما من دونه مِمَّن لَا طَاعَة تلْزمهُ وَلَا مَعْصِيّة كالحيوان من غير الْمَلَائِكَة وكالحور الْعين وَالْإِنْس وَالْجِنّ وكالجمادات فَلَا يسْتَحق حمداً وَلَا ذماً لِأَن الله لم يَأْمر بذلك فِيهَا فَإِن وجد لَهُ تَعَالَى أَمر بمدح شَيْء مِنْهَا أَو ذمه وَجب الْوُقُوف عِنْد أمره تَعَالَى كأمره تَعَالَى بمدح الْكَعْبَة وَالْمَدينَة وَالْحجر الْأسود وَشهر رَمَضَان وَالصَّلَاة وَغير ذَلِك وكأمره تَعَالَى بذم الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْميتَة والكنيسة وَالْكفْر وَالْكذب وَمَا أشبه ذَلِك وَأما مَا عدا هذَيْن الْقسمَيْنِ فَلَا حمد وَلَا ذمّ واما اشتقاق اسْم الْفَاعِل من فعله فَكَذَلِك أَيْضا وَلَا فرق وَلَيْسَ لأحد أَن يُسَمِّي شَيْئا إِلَّا بِمَا أَبَاحَهُ الله تَعَالَى فِي الشَّرِيعَة أَو فِي اللُّغَة الَّتِي أمرنَا بالتخاطب بهَا وَقد وَجَدْنَاهُ تَعَالَى أخبرنَا بِأَن لَهُ كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نَسيَه وَهَذَا لَا تَدْفَعهُ الْمُعْتَزلَة وَلَو دَفعته لكفرت لردها نَص الْقُرْآن وهم مجمعون مَعنا على أَنه لَا يُسمى باسم مُشْتَقّ(3/42)
من ذَلِك فَلَا يُقَال ماكر من أجل أَن لَهُ مكرا ولاأنه كياد من أجل أَنه يكيد وَأَن لَهُ كيداً وَلَا يُسمى مستهزئاً من أجل أَنه يستهزئ بهم فقد أبطل مَا أصلوه من أَن كل فعل فَإِنَّهُ يُسمى مِنْهُ وينسب إِلَيْهِ وَلَا يشغب هَا هُنَا مشغب مَعَ من لَا يحسن المناظرة فَيَقُول إِنَّمَا قُلْنَا أَنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على الْمُعَارضَة بذلك فَإنَّا نقُول لَهُ صدقت وَلم نخالفك فِي هَذَا لَكِن ألزمناك أَن تسميه تَعَالَى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى الْمُعَارضَة كَمَا تَقول فَإِن أَبى من ذَلِك وَقَالَ أَن الله تَعَالَى لم يسم بِشَيْء من ذَلِك نَفسه فقد رَجَعَ إِلَى الْحق ووافقنا فِي أَن الله تَعَالَى لَا يُسمى ظَالِما وَلَا كَافِرًا وَلَا كَاذِبًا من أجل خلقه الظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يسم بذلك نَفسه وَإِن أنكر ذَلِك تنَاقض وَظهر بطلَان مذْهبه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَقد وافقونا على أَن الله تَعَالَى خلق الْخمر وحبل النِّسَاء وَلَا يجوز أَن يُسمى خماراً وَلَا محبلاً وَأَنه تَعَالَى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وَسَائِر الألوان وَلَا يُسمى صباغاً وَأَنه تَعَالَى بنى السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَا يُسمى بِنَاء وَأَنه تَعَالَى سقانا الْغَيْث ومياه الأَرْض وَلَا يُسمى سقاء وَلَا ساقياً وَأَنه تَعَالَى خلق الْخمر والخنازير وإبليس ومردة الشَّيَاطِين وَكَذَلِكَ كل سوء وسيء وخبيث ورجس وَشر وَلَا يُسمى من أجل ذَلِك مسيئاً وَلَا شريراً فَأَي فرق بَين هَذَا كُله وَبَين أَن يخلق الشَّرّ وَالظُّلم وَالْكفْر وَالْكذب ومعاصي عباده وَلَا يُسمى بذلك مسيئاً وَلَا ظَالِما ولاكافرا وَلَا كَاذِبًا وَلَا شريراً وَلَا فَاحِشا وَالْحَمْد لله على مَا من بِهِ من الْهدى والتوفيق وَهُوَ المستزاد من فَضله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَيُقَال لَهُم أَيْضا أَنْتُم تقرون بِأَنَّهُ خلق الْقُوَّة الَّتِي بهَا يكون الْكفْر وَالظُّلم وَالْكذب وهيأها لِعِبَادِهِ وَلَا يسمونه من أجل ذَلِك يغريا على الْكفْر وَلَا معينا للْكَافِرِ فِي كفره وَلَا مسبباً للكفر وَلَا واهباً للكفر وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ الَّذِي عبتم وأنكرتم يُقَال لَهُم أَيْضا أخبر عَن تعذيبه أهل جَهَنَّم فِي النيرَان أمحسن هُوَ بذلك إِلَيْهِم أم مسيء فَإِن قَالُوا بل محسن إِلَيْهِم قَالُوا الْبَاطِل وخالفوا أصلهم وسألناهم أَن يسْأَلُوا الله عز وَجل لأَنْفُسِهِمْ ذَلِك الْإِحْسَان نَفسه وَإِن قَالُوا أَنه مسيء إِلَيْهِم كفرُوا بِهِ وَإِن قَالُوا لَيْسَ مسيئا إِلَيْهِم قُلْنَا لَهُم فهم فِي إساءة أَو فِي إِحْسَان فَإِن قَالُوا لَيْسُوا فِي إساءة كابروا العيان وَإِن قَالُوا بل هم فِي إساءة قُلْنَا لَهُم هَذَا الَّذِي أنكرتم أَن يكون مِنْهُ تَعَالَى إِلَيْهِم حَال هِيَ غَايَة الْإِسَاءَة وَلَا يُسمى بذلك مسيئاً وَأما نَحن فَنَقُول لَهُم إِنَّهُم فِي غَايَة المساءة والإساءة والسخط إِلَيْهِم وَعَلَيْهِم وَلَيْسَ السخط إحساناً إِلَى المسخوط عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ اللَّعْنَة للملعون وَإنَّهُ تَعَالَى محسن على الْإِطْلَاق وَلَا نقُول أَنه مسيء أصلا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا قُلْنَاهُ من انه لَا يجوز أَنه يُسمى الله تَعَالَى إِلَّا بِمَا سمى بِهِ نَفسه وَلَا يخبر عَنهُ إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ عَن نَفسه وَلَا مزِيد فَإِن قَالُوا إِذا جوزتم أَن يفعل الله تَعَالَى فعلا مَا هُوَ ظلم بَيْننَا وَلَا يكون بذلك ظَالِما فجوزنا أَن نخبر بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ وَلَا يكون بذلك كَاذِبًا وَإِن لَا يعلم مَا يكون وَلَا يكون بذلك جَاهِلا وَإِن لَا يقدر على الشَّيْء وَلَا يكون بذلك عَاجِزا قيل لَهُم وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق هَذَا محَال من وَجْهَيْن أَحدهمَا أننا قد أوصحنا أَنه لَيْسَ فِي الْعَالم ظلم لعَينه وَلَا بِذَاتِهِ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الظُّلم بِالْإِضَافَة فَيكون قتل زيد إِذا نهي الله عَنهُ ظلما وَقَتله إِذا أَمر الله بقتْله عدلا وَأما الْكَذِب فَهُوَ كذب لعَينه وبذاته فَكل من اخبر بِخَبَر بِخِلَاف مَا هُوَ فَهُوَ كَاذِب إِلَّا أَنه لَا يكون ذَلِك إِثْمًا وَلَا مذموماً إِلَّا حَيْثُ أوجب الله تَعَالَى فِيهِ الْإِثْم والذم فَقَط(3/43)
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْجَهْل وَالْعجز أَنَّهُمَا جعل لعَينه وَعجز لعَينه فَكل من لم يعلم شَيْئا فَهُوَ جَاهِل بِهِ وَلَا بُد وكل من لم يقدر على شَيْء فَهُوَ عَاجز عَنهُ وَلَا بُد وَالْوَجْه الثَّانِي ان بِالضَّرُورَةِ الَّتِي بهَا علمنَا من نواة التَّمْر لَا يخرج مِنْهَا زيتونة وَإِن الْفرس لَا ينْتج جملا بهَا عرفنَا ان الله تَعَالَى لَا يكذب وَلَا يعجز وَلَا يجهل لِأَن كل هَذِه من صِفَات المخلوقين عَنهُ تَعَالَى منفية إِلَّا مَا جَاءَ نَص بِأَن يُطلق الِاسْم خَاصَّة من أسمائها عَلَيْهِ تَعَالَى فيقف عِنْده وَأَيْضًا فَإِن أَكثر الْمُعْتَزلَة يُحَقّق قدرَة الْبَارِي تَعَالَى على الظُّلم وَالْكذب وَلَا يجيزون وقوعهما مِنْهُ تَعَالَى وَلَيْسَ وَصفهم إِيَّاه عز وَجل بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك بِمُوجب إِمْكَان وُقُوعه مِنْهُ تَعَالَى فَلَا ينكروا علينا أَن نقُول إِن الله عز وَجل فعل أفعالاً هِيَ مِنْهُ تَعَالَى عدل وَحِكْمَة وَهِي منا ظلم وعبث وَلَيْسَ يلْزمنَا مَعَ ذَلِك أَن نقُول انه يَقُول الْكَذِب ويجهل فَبَطل هَذَا الْإِلْزَام وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَأَيْضًا فإننا لم نقل أَنه تَعَالَى يظلم وَلَا يكون ظَالِما وَلَا قُلْنَا أَنه يكفر وَلَا يُسمى كَافِرًا وَلَا قُلْنَا أَنه يكذب وَيُسمى كَاذِبًا فيلزمنا مَا أَرَادوا وإلزامنا إِيَّاه وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه خلق الظُّلم وَالْكذب وَالْكفْر وَالشَّر وَالْحَرَكَة والطول وَالْعرض والسكون إعْرَاضًا فِي خلقه فَوَجَبَ أَن يُسمى خَالِقًا لكل ذَلِك كَمَا خلق الْجُوع والعطش والشبع والري وَالسمن والهزال واللغات وَلم يجر أَن يُسمى ظَالِما وَلَا كَاذِبًا وَلَا كَافِرًا وَلَا شريراً كَمَا لم يجز عندنَا وَعِنْدهم أَن يُسمى من أجل خلقه لكل مَا ذَكرْنَاهُ متحركاً وَلَا سَاكِنا وَلَا طَويلا وَلَا عريضاً وَلَا عطشان وَلَا رَيَّان وَلَا جائعاً وَلَا شابعاً وَلَا سميناً وَلَا هزيلاً وَلَا لغوياً وَهَكَذَا كل مَا خلق الله تبَارك وَتَعَالَى فَإِنَّمَا يخبر عَنهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى خَالق لَهُ فَقَط وَلَا يُوصف بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا إِلَّا من خلقه الله تَعَالَى عرضا فِيهِ واما قَوْلهم لَا يفعل فعل من فاعلين هَذَا فعله كُله وَهَذَا فعله فَإِن هَذَا تحكم ونقصان من الْقِسْمَة أوقعهم فِيهَا جهلهم وتناقضهم وَقَوْلهمْ إِنَّمَا يسْتَدلّ بِالشَّاهِدِ على الغايب وَهَذَا قَول قد أفسدناه فِي كتَابنَا فِي الْأَحْكَام فِي أصُول الْأَحْكَام بِحَمْد الله تَعَالَى ونبين هَا هُنَا فَسَاده بإيجاز فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه لَيْسَ عَن الْعقل الَّذِي هُوَ التَّمْيِيز شَيْء غَائِب أصلا وَإِنَّمَا يغيب بعض الْأَشْيَاء من الْحَواس وكل مَا فِي الْعَالم فَهُوَ مشاهده فِي الْعقل الْمَذْكُور لِأَن الْعَالم كُله جَوْهَر حَامِل وَعرض مَحْمُول فِيهِ وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي خَالِقًا أَو لَا وَاحِدًا لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه فِي وَجه من الْوُجُوه فَإِن كَانُوا يعنون بالغائب الْبَارِي عز وَجل فقد لزمَه تشبيهه بخلقه إِذْ حكمُوا بتشبيه الْغَائِب بالحاضر وَفِي هَذَا كِفَايَة بل مَا دلّ الشَّاهِد كُله إِلَّا أَن الله تَعَالَى بِخِلَاف كل من خلق من جَمِيع الْوُجُوه وحاشا الله أَن يكون جلّ وَعز غَائِبا بل هُوَ شَاهد بِالْعقلِ كَمَا نشاهد بالحواس كل حَاضر وَلَا فرق بَين صِحَة معرفتنا عز وَجل بِالْمُشَاهَدَةِ بضرورة الْعقل وَبَين صِحَة معرفتنا لسَائِر مَا نشاهده ثمَّ نرْجِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى إنكارهم فعلا وَاحِدًا من فاعلين فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق إِنَّمَا امْتنع ذَلِك فِيمَا بَيْننَا فِي الْأَكْثَر لَا على الْعُمُوم لما شَاهَدْنَاهُ من أَنه لَا تكون حَرَكَة وَاحِدَة فِي الْأَغْلَب لمتحركين وَلَا اعْتِقَاد وَاحِد لمعتقدين وَلَا إِرَادَة وَاحِدَة لمريدين وَلَا فكرة وَاحِدَة لمفتكرين وَلَكِن لَو أَخذ اثْنَان سَيْفا وَاحِدًا أَو رمحاً وَاحِدًا فضربا بِهِ إنْسَانا فقطعاه أَو طعناه بِهِ لكَانَتْ حَرَكَة وَاحِدَة غير منقسمة لمتحركين بهَا وفعلاً وَاحِدًا غير منقسم لفاعلين هَذَا أَمر يُشَاهد بالحس والضرورة وَهَذَا مَنْصُوص فِي الْقُرْآن من أنكرهُ كفر وَهُوَ أَن الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة عِنْد الْمُسلمين {إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا} وليهب لَك غُلَاما زكيا كلا الْقِرَاءَتَيْن(3/44)
بِنَقْل الكواف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قُرِئت بِالْهَمْز فَهُوَ إِخْبَار جِبْرِيل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرّوح الْأمين إِنَّه هُوَ الْوَاهِب لَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا قُرِئت بِالْيَاءِ فَهُوَ من إِخْبَار جِبْرِيل عَن الله عز وَجل بِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْوَاهِب لَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذَا فعل من فاعلين نسب إِلَى الله عز وَجل الْهِبَة لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِق لتِلْك الْهِبَة ونسبت الْهِبَة أَيْضا إِلَى جِبْرِيل لِأَنَّهُ مِنْهُ ظَهرت إِذْ أَتَى بهَا وَكَذَلِكَ قَوْله عز وَجل {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} فَأخْبر تَعَالَى أَنه رمى وَأَن نبيه رمى فَأثْبت تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّمْي ونفاه عَنهُ مَعًا وبالضرورة نَدْرِي أَن كَلَام الله عز وَجل لَا يتناقض فَعلمنَا أَن الرَّمْي الَّذِي نَفَاهُ الله عز وَجل عَن نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ غير الرَّمْي الَّذِي أثْبته لَهُ لَا يظنّ غير هَذَا مُسلم الْبَتَّةَ فصح ضَرُورَة أَن نِسْبَة الرَّمْي إِلَى الله عز وَجل لِأَنَّهُ خلقه وَهُوَ تَعَالَى خَالق الْحَرَكَة الَّتِي هِيَ الرَّمْي وممض الرَّمية وخالق مسير الرَّمْي وَهَذَا هُوَ الْمَنْفِيّ عَن الرَّامِي وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحَّ أَن الرَّمْي للَّذي أثْبته الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ظُهُور حَرَكَة الرَّمْي مِنْهُ فَقَط وَهَذَا هُوَ نَص قَوْلنَا دون تكلّف وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} وَالْقَوْل فِي هَذَا كالقول فِي الرَّمْي وَلَا فرق وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {زينا لكل أمة عَمَلهم} وَقَوله تَعَالَى {وزين لَهُم الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ} ضررة أَن تَزْيِين الله لكل أمة عَملهَا إِنَّمَا هُوَ خلقه لمحبة أَعْمَالهم فِي نُفُوسهم وَأَن تَزْيِين الشَّيْطَان لَهُم أَعْمَالهم إِنَّمَا هُوَ بِظُهُور الدُّعَاء إِلَيْهَا وبوسوسة وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {إِنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيراً بِإِذن الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله} أفليس هَذَا فعلا من فاعلين من الله تَعَالَى وَمن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بِنَصّ الْآيَة وَهل خَالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إِلَّا الله وَقد أخبر عِيسَى إِذْ يخلق وَيُبرئ فَهُوَ فعل من فاعلين بِلَا شكّ وَقَالَ عز وَجل مخبرا عَن نَفسه أَنه يحيي وَيُمِيت وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَن نَفسه وأحي الْمَوْتَى بِإِذن الله فبالضرورة نعلم أَن الْمَيِّت الَّذِي أَحْيَاهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالطير الَّذِي خلق ينص الْقُرْآن فَإِن الله تَعَالَى أَحْيَاهُ وخلقه وَعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَحْيَاهُ وخلقه بِنَصّ الْقُرْآن فَهَذَا كُله فعل من فاعلين بِلَا شكّ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَكَذَا القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم} وَقد علمنَا يَقِينا أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أحلّهُم فِيهَا بِلَا شكّ لَكِن لما ظهر مِنْهُم السَّبَب الَّذِي حلوا بِهِ دَار الْبَوَار أضيف ذَلِك إِلَيْهِم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن إِبْلِيس {كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة} وَقد علمنَا أَن الله تَعَالَى هُوَ أخرجهُمَا وَأخرج إِبْلِيس مَعَهُمَا وَلَكِن لما ظهر من إِبْلِيس السَّبَب فِي خروجهما أضيف ذَلِك إِلَيْهِ وكما قَالَ تَعَالَى {لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} فَنَقُول أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجنَا من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَقد علمنَا أَن الْمخْرج لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَلنَا هُوَ الله تَعَالَى لَكِن لما ظهر السَّبَب فِي ذَلِك مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أضيف الْفِعْل إِلَيْهِ فَهَذَا كُله لَا يُوجب الشّركَة بَينهم وَبَين الله تَعَالَى كَمَا تموه الْمُعْتَزلَة وكل هَذَا فعل من فاعلين وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَفْعَال الظَّاهِرَة من النَّاس وَلَا فرق وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} وَقَالَ تَعَالَى {وأملي لَهُم أَن كيدي متين} وَقَالَ تَعَالَى {الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملى لَهُم} فَعلمنَا ضَرُورَة أَن إملاء الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ تَركه إيَّاهُم دون تَعْجِيل عِقَاب بل بسط لَهُم من الدُّنْيَا وَمد لَهُم من الْعُمر(3/45)
مَا كَانَ لَهُم عوناً على الْكفْر والمعاصي وَعلمنَا أَن إملاء الشَّيْطَان إِنَّمَا هُوَ بالوسوسة وإنساء الْعقَاب والحض لَهُم على الْمعاصِي وَقَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} فَهَذَا فعل من فاعلين ضَرُورَة نسب إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ اخترعه وخلقه وَإِنَّمَا نسب إِلَيْنَا لأننا تحركنا فِي زرعه فظهرت الْحَرَكَة المخلوقة فِينَا فَهَذِهِ كلهَا أَفعَال خلقهَا الله تَعَالَى وأظهرها فِي عباده فَقَط وَبِاللَّهِ تَعَالَى نتأيد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَتَحْقِيق هَذَا القَوْل فِي الْأَفْعَال هُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق كل مَا خلق قسمَيْنِ فَقَط جوهراً حَامِلا وعرضاً مَحْمُولا ناطقاً وَغير نَاطِق فَغير الْحَيّ هُوَ الجماد كُله والناطق هُوَ الْمَلَائِكَة وحور الْعين وَالْجِنّ وَالْإِنْس فَقَط غير النَّاطِق هُوَ كل مَا عدا ذَلِك من الْحَيَوَان ثمَّ خلق تَعَالَى فِي الجمادات وَفِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَفِي الْحَيّ النَّاطِق حَرَكَة وسكوناً وتأثيراً قد ذَكرْنَاهُ آنِفا فالفلك يَتَحَرَّك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن وَالنَّار تحرق والثلج يبرد وَهَكَذَا فِي كل شَيْء بِهَذَا جَاءَ الْقُرْآن وَجَمِيع اللُّغَات قَالَ تَعَالَى {تلفح وُجُوههم النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبداً رابياً} وَقَالَ تَعَالَى {فإمَّا الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره} {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس} وَمثل هَذَا كثير جدا وَبِهَذَا جَاءَت اللُّغَات فِي نِسْبَة الْأَفْعَال الظَّاهِرَة فِي الجمادات إِلَيْهَا لظهورها فِيهَا فَقَط لَا يخْتَلف لُغَة فِي ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى حاكياً عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ {واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام رب أَنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} فَأخْبر أَن الْأَصْنَام تضل وَقَالَ تَعَالَى {تَذْرُوهُ الرِّيَاح} وَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى والأعراض أَيْضا تفعل كَمَا ذكرنَا قَالَ عز وَجل {وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} فالظن يردى وَالْعَمَل يرفع وَلم تخْتَلف أمة فِي صِحَة القَوْل أعجبني عمل فلَان وسرني خلق فلَان وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد وجدنَا الْحر يحلل ويصعد وَالْبرد يجمد وَمثل هَذَا كثير جدا وَقد بَيناهُ وَالْكل خلق الله عز وَجل وَأما حَرَكَة الْحَيّ غير النَّاطِق والحي النَّاطِق وسكونهما وتأثيرهما فَظَاهر أَيْضا ثمَّ خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَفِي الْحَيّ النَّاطِق قصدا ومشيئة لم يخلق ذَلِك فِي الجماد كإرادة الْحَيَوَان الرَّعْي وَتَركه وَالْمَشْي وَتَركه وَالْأكل وَتَركه وَمَا أشبه هَذَا ثمَّ خلق تَعَالَى فِي الْحَيّ النَّاطِق تمييزاً لم يخلقه فِي الْحَيّ غير النَّاطِق وَلَا فِي الجماد وَهُوَ التَّصَرُّف فِي الْعُلُوم والمعارف هَذَا كُله أَمر مشَاهد وكل ذَلِك خلق الله تَعَالَى فِيمَا خلقه فِيهِ وَنسب الْفِعْل فِي كل ذَلِك إِلَى من أظهره الله تَعَالَى مِنْهُ فَقَط فخلق تَعَالَى كَمَا ذكرنَا فِي الْحَيّ النَّاطِق الْفِعْل وَالِاخْتِيَار والتمييز وَخلق فِي الْحَيّ غيرالناطق الْفِعْل وَالِاخْتِيَار فَقَط وَخلق فِي الجماد الْفِعْل فَقَط وَهُوَ الْحَرَكَة والسكون والتأثير كَمَا ذكرنَا وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا فرق بَين من كَابر وجاهر فَأنْكر فعل المطبوع بطبعه وَقَالَ لَيْسَ هُوَ فعله بل هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيهِ فَقَط وَبَين آخر جاهر وكابر فَأنْكر فعل الْمُخْتَار بِاخْتِيَارِهِ وَقَالَ لَيْسَ هُوَ فعله بل هُوَ فعل الله تَعَالَى فِيهِ فَقَط وكلا الْأَمريْنِ محسوس بالحس مَعْلُوم بِأول الْعقل وضرورته أَنه فعل لما ظهر مِنْهُ وَمَعْلُوم كل ذَلِك بالبرهان الضَّرُورِيّ أَنه خلق الله تَعَالَى فِي المطبوع وَفِي الْمُخْتَار فَإِن فروا إِلَى القَوْل بِأَن الله تَعَالَى لم يخلق فعل الْمُخْتَار وَأَنه فعل الْمُخْتَار فَقَط قُلْنَا قد بَينا بطلَان هَذَا قبل وَلَكِن نعارضكم هَا هُنَا بِأَن مِنْكُم من يَقُول بِأَن الله تَعَالَى أَيْضا لم يخلق فعل المطبوع وَأَنه فعل المطبوع(3/46)