المنظومة الحائية للإمام الحافظ, عبد الله بن الإمام أبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني
التمسك بالكتاب والسنة :
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ……ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ودن بكتاب الله والسنن التي ……أتت عن رسول الله تنج وتربح
القرآن كلام الله :
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ……بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
ولا تك في القرآن بالوقف قائلا ……كما قال أتباع لجهم وأسجحوا
ولا تقل القرآن خلق قرأته ……فإن كلام الله باللفظ يوضح
الرؤية :
وقل يتجلى الله للخلق جهرة ……كما البدر لا يخفى وربك أوضح
وليس بمولود وليس بوالد ……وليس له شبه تعالى المسبح
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ……بمصداق ما قلنا حديث مصرح
رواه جرير عن مقال محمد ……فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح
اليد :
وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ……وكلتا يديه بالفواضل تنفح
النزول :
وقل ينزل الجبار في كل ليلة ……بلا كيف جل الواحد المتمدح
إلى طبق الدنيا يمن بفضله ……فتفرج أبواب السماء وتفتح
يقول ألا مستغفر يلق غافرا ……ومستمنح خيرا ورزقا فيمنح
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ……ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
الصحابة والسلف الصالح :
وقل إن خير الناس بعد محمد ……وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
ورابعهم خير البرية بعدهم ……علي حليف الخير بالخير منجح
وإنهم الرهط لا ريب فيهم ……على نجب الفردوس في الخلد تسرح
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ……وعامر فهر والزبير الممدح
وسبطي رسول الله وابني خديجة ……وفاطمة ذات النقاء تبحبحوا
وعائشة أم المؤمنين وخالنا ……معاوية أكرم به ثم امنح
وأنصاره والمهاجرون ديارهم ……بنصرتهم عن كية النار زحزحوا
ومن بعدهم فالتابعون لحسن مآخذ …وأفعالهم قولا وفعلا فأفلحوا
ومالك والثوري ثم أخوهم …أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح
ومن بعدهم فالشافعي وأحمد …إماما هدى من يتبع الحق ينصح
أولئك قوم قد عفا الله عنهم …فاحببهم فإنك تفرح
وقل خير قول في الصحابة كلهم …ولا تك طعانا تعيب وتجرح(2/1)
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم …وفي الفتح آي للصحابة تمدح
القدر :
وبالقدر المقدور أيقن فإنه …دعامة عقد الدين والدين أفيح
البرزخ وأحوال الآخرة :
ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا …ولا الحوض والميزان إنك تنصح
وقل يخرج الله العظيم بفضله …من النار أجسادا من الفحم تطرح
على النهر في الفردوس تحيى بمائه …كحبة حمل السيل إذا جاء يطفح
وإن رسول الله للخلق شافع …وقل في عذاب القبر حق موضح
الإيمان :
ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا …فكلهم يعصى وذو العرش يصفح
ولا تعتقد رأي الخوارج إنه …مقال لمن يهواه يردي ويفضح
ولاتك مرجيا لعوبا بدينه …ألا إنما المرجي بالدين يمزح
وقل إنما الإيمان قول ونية …وفعل على قول النبي مصبح
وينقص طورا بالمعاصي وتارة …بطاعته ينمى وفي الوزن يرجح
الحديث لا الرأي في الفقه وغيره :
ودع عنك آراء الرجال وقولهم …فقول رسول الله أزكى وأشرح
حب أهل الحديث
ولاتك من قوم تلهو بدينهم …فتطعن في أهل الحديث وتقدح
نصيحة جامعة
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه …فأنت على خير تبيت وتصبح
قال أبو بكر ابن أبي داود - رحمه الله - :
هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل رحمه الله وقول من أدركنا من أهل العلم وقول من لم ندرك ممن بلغنا قوله عنه فمن قال علي غير هذا فقد كذب.(2/2)
تَمَسَّكْ بحَبْلِ الله واتَّبعِ الهُدَى(3/1)
نص المنظومة الحائية
للإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد , عبدالله بن الإمام أبي داود سليمان ابن الأشعث , أبوبكر السجستاني
تمسك بحبلِ الله وأتبعِ الهُدى ... ولا تكُ بدعيا لعلك تُفلحُ
ودنْ بكتابِ الله والسننِ التي ... أتت عنْ رسول الله تنجو وتربحُ
وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء , وأفصحوا
ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتْباعٌ لجهمٍ وأسجحُوا
ولا تقل القرآن خلْقٌ قرأْتُهُ ... فإن كلام اللهِ باللفظ يُوضحُ
وقل يتجلى الله للخلقِ جهرةً ... كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ
وليس بمولودٍ وليس بوالدٍ ... وليس له شِبْهٌ تعالى المُسبحُ
وقد يُنكِر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداقِ ما قلنا حديثٌ مصرحُ
رواه جريرٌ عن مقالِ مُحمدٍ ... فقلُ مِثل ما قد قال ذلك تنْجحُ
وقد ينكرُ الجهمي أيضاً يمينهُ ... وكِلتا يديه بالفواضلِ تنْفحُ
وقل ينزلُ الجبارُ في كلِّ ليلةٍ ... بلا كيفَ جلَّ الواحدُ المُتمَدحُ
إلى طبقِ الدنيا يمُنُّ بفضلهِ ... فتفرجُ أبواب السماءِ وتُفتحُ
يقولُ أَلا مُستغفرٌ يَلقَ غافراً ... ومُستمنحٌ خيراً ورِزْقاً فُيمنحُ
روى ذاك قومٌ لا يردُّ حديثُهم ... ألا خابَ قومٌ كذبوهم وقُبِّحوا
وقل: إنَّ خير النَّاسِ بعد محمَّدٍ ... وزيراهُ قدَماً ثم عثمانُ الارجَحُ
ورابعهُمْ خيرُ البريَّة بعدهُم ... عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ مُنْجِحُ
وإنَّهم للرَّهطُ لا ريبَ فيهمُ ... على نُجبِ الفردوسِ بالنُّور تَسرحُ
سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةُ ... وعامرُ فهرٍ والزبيرُ الممدَّح
وقل خيرقولٍ في الصحابة كلِّهم ... ولا تك طعَّاناً تعيبُ وتجرحُ
فقد نطقَ الوحيُ المبين بفضلِهم ... وفي الفتح آيٌ للصَّحابةِ تمدحُ
وبالقدرِ المقدورِ أيقِن فإنَّه ... دعامةُ عقدِ الدِّين، والدِّينُ أفيحُ
ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومُنكراً ... ولا الحوْضَ والِميزانَ انك تُنصحُ(7/1)
وقُلْ يُخرجُ اللهُ الْعظيمُ بِفَضلِهِ ... مِنَ النارِ أجْساداً مِنَ الفَحْمِ تُطرحُ
عَلى النهرِ في الفِرْدوسِ تَحْيا بِمَائِهِ ... كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
وإن رَسُولَ اللهِ للخَلْقِ شَافِعٌ ... وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقّ موَُضحُ
ولاَ تُكْفِرنْ أَهلَ الصلاةِ وإِنْ عَصَوْا ... فَكُلهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصفَحُ
ولَا تَعتقِدْ رأيَ الْخَوَارجِ إِنهُ ... َمقَالٌ لَمنْ يَهواهُ يُردي ويَفْضَحُ
ولا تكُ مُرْجيًّا لَعُوبا بدينهِ ... ألاَ إِنمَا المُرْجِي بِالدينِ يَمْزحُ
وقلْ : إنمَا الإِيمانُ : قولٌ ونِيةٌ ... وفعلٌ عَلَى قولِ النبِي مُصَرحُ
ويَنْقُصُ طوراً بالمَعَاصِي وتَارةً ... بِطَاعَتِهِ يَمْنَي وفي الوَزْنِ يَرْجَحُ
ودعْ عَنْكَ آراءَ الرجالِ وقَوْلَهُمْ ... فقولُ رسولِ اللهِ أزكَى وأَشْرحُ
ولا تَكُ مِن قوْمٍ تلهوْا بدينِهِمْ ... فَتَطْعَنَ في أهلِ الحَديثِ وتقدحُ
إِذَا مَا اعْتقدْت الدهْرَ ياصَاحِ هذهِ ... فأَنْت عَلَى خَيْرٍ تبيتُ وتُصْبِحُ
أبو عبد الله أخوكم خالد بن محمد الغرباني(7/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقدمة :
الحمد لله رب العالمين , والعاقبة للمتقين , والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .. فهذا شرح مختصر للقصيدة السنية والمنظومة البهية المشهورة بـ ( الحائية ) لناظمها الإمام المحقق والحافظ المتقن شيخ بغداد أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ابن صاحب السنن الإمام المعروف رحمهما الله .
وهي منظومة شائعة الذكر , رفيعة الشأن , عذبة الألفاظ , سهلة الحفظ , لها مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند أهل العلم في قديم الزمان وحديثه , تواتر نقلها عن ابن أبي داود رحمه الله فقد رواها عنه غير واحد من أهل العلك كالآجري , وابن بطة , وابن شاهين وغيرهم , وثلاثتهم من تلاميذ الناظم , وتنازلها غير واحد من أهل العلم بالشرح .
قال الذهبي رحمه الله منوهاً بهذه المنظومة مبيناً لأهميتها ( هذه القصيدة متواترة عن ناظمها رواها الآجري وصنف لها شرحاً , وأبو عبدالله ابن بطة في الإبانة (1) , ومِمن شرحها ابن البناء )(2) , وشروحاتهم لا أعلم لها وجوداً , وممن شرحها أيضا الإمام السفاريني وشرحه لها مطبوع في مجلدين بعنوان ( لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السُّنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية )(1/1)
وقد سميت هذا الشرح ( التحفة السنية شرح قصدية أبي داود الحائية ) وأصله دروس ألقيتها في مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1417هـ كتبه عني أحد طلاب العلم فيها وهو الأخ الفاضل يحيي بن علي بن يحيي , ثم قمت , بمراجعته والإضافة عليه وتنقيحه حسب الاستطاعة , وهو جهد المُقل وبضاعة الضعيف المقصر , فما كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده , وما كان من خطأ ونقص فهو بسبب ضعفي وقصوري وقلة علمي , ولا يفوتني هنا أن أشكر كل من قدم أي نوع من أنواع المساعدة والتعاون في سبيل إحراج هذا الكتاب سواء في صفه وتنضيده , أو مراجعته وتصحيحه , أو طباعته ونشره , وأسأل الله أن يجزي الجميع خير الجزاء , كما أسأله أن ينفع به ويتقبله بقبول حسن ويجعله لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
*ترجمة موجزة للناظم ابن أبي داود (3)
*اسمه ونسبه وكنيته : هو الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد , عبدالله بن الإمام أبي داود سليمان ابن الأشعث , أبوبكر السجستاني .
*ولادته : ولد الإمام أبوبكر بن أبي داود بسجستان في سنة ثلاثين ومائتين (230هـ )
*نشأته وطلبه للعلم : سافر به أبوه وهو صغيرٌ من سجستان يطوف به شرقاً وغرباً بخراسان وأصبهان وبغداد والكوفة ومكة والمدينة والشام ومصر وغيرها يسمع ويكتب , واستوطن بغداد وكان أول شيخٍ سمع منه محمد بن اسلم الطوسي , وسُر أبوه بذلك , لجلالة محمد بن اسلم .
وكان ذا همة عليه منذ صغره في التحصيل والطلب , ومن دلائل هذه الهمة قوله رحمه الله ( دخلت الكوفة ومعي درهم واحد , فأخذت به ثلاثين مد باقلا , فكنت آكل منه , وأكتب عن أبي سعيد الأشج , فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطع ومرسل )(4)(1/2)
وكان حافظا متقنا قال رحمه الله ( حدثت من حفظي في أصبهان بستة وثلاثين ألف حديث , ألزموني فيها سبعة أحاديث فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كتبت حدثتهم به )(5)
ويقول تلميذه أبو حفص ابن شاهين مبيناً قوة حفظه ( أملى علينا بن أبي داود سنتين وما رأيت بيده كتاباً , إنما كان يملي حفظاً فكان يقعد على المنبر بعدما كبر ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو معمر بيده كتاب فيقول حديث كذا فيسرده من حفظه حتى يأتي على المجلس )
*بعض شيوخه : روى عن أبيه , وأحمد بن صالح , ومحمد بن بشار , وعمرو بن عثمان الحمصي , وإسحاق الكوسج , وعمرو بن علي الفلاس , ومحمد بن يحيي الذهلي .
*بعض تلاميذه : حدث عنه خلق كثيرون منهم ابن حبان صاحب الصحيح , وأبوالحسن الدارقطني , وأبوحفص بن شاهين و أبومحمد أحمد الحاكم , وابن بطة , ومحمد بن عم زنبور الوراق , وأبومسلم محمد بن أحمد الكاتب , ونصف بن علي الوزير , وأبوالقاسم بن حبابة .
*مكانته العلمية وثناء العلماء عليه : قال الحافظ أبومحمد الخلال ( كان ابن أبي داود إمام أهل العراق ومن نصب له السلطان المنبر , وقد كان في وقته بالعراق أسند منه , ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو )
وقال الخطيب البغدادي ( كان فقيهاً عالماً حافظاً )(6)
وقال ابن خلكان ( كان أبوبكر ابن لأبي داود من أكابر الحفاظ ببغداد , عالماً متفقهاً عليه إماما )
وقال الذهبي ( وكان من بحور العلم بحيث إن بعضهم فضله على أبيه )
وقال أيضا ( كان أبوبكر من الحافظ المبرزين ما هو بدون أبيه , صنف التصانيف وانتهت إليه رئاسة الحنابة ببغداد )
وقال أيضا ( والرجل من كبار علماء المسلمين ومن أوثق الحفاظ )
*عقيدته : كان رحمه على عقيدة السلف أصحاب الحديث , وليس أدل على ذلك من منظومته الحائية هذه , فإنه قرر فيها – على وجازتها – مجمل الاعتقاد على طريقة أهل السنة والجماعة .(1/3)
وقد ثبت عنه أنه قال عقب هذه المنظومة ( هذا قولي , وقول أبي , وقل شيوخنا , وقل العلماء ممن لم نرهم كما بلغنا عنهم , فمن قال علي غير ذلك فقد كذب )
وهي منظومة عظيمة في تقرير المعتقد الحق الذي كان عليه أهل السنة والجماعة تدل على مكانة ناظمها وسعة باعه , وحسن معتقده وطيب نصحه .
وعلى كلٍّ فإمامة ناظمها ومكانته معروفة بين أهل العلم , فهو من أئمة السلف , وأوعية السنة , وحافظ الحديث , ودعاة الحق والهدى , متفقٌ على إمامته وفضله رحمه الله وغفر له ولجميع أئمة المسلمين .
*مؤلفاته : وصفه الذهبي بأنه صاحب التصانيف , فمن جملة تلك التصانيف : السنن , والبعث , والمصاحف , وشرعة المقارئ , والناسخ والمنسوخ .
*وفاته : توفي رحمه الله ببغداد في شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة 316هـ , عن سبعة وثمانين عاماً , وقيل صلى عليه زهاء ثلاثمائة ألف إنسان وأكثر , وخلف ثلاثة بنين : عبدالأعلى , ومحمداً وأبا معمر عبيد الله , خمس بنات .(1/4)
المنظومة :
1- تمسك بحبلِ الله وأتبعِ الهُدى * * * ولا تكُ بدعيا لعلك تُفلحُ
2- ودنْ بكتابِ الله والسننِ التي *** أتت عنْ رسول الله تنجو وتربحُ
3- وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا *** بذلك دان الأتقياء , وأفصحوا
4- ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً *** كما قال أتْباعٌ لجمٍ وأسححُوا
5- ولا تقل القرآن حلْقٌ قرأْتُهُ **** فإن كلام اللهِ باللفظ يُوضحُ
6- وقل يتجلى الله للخلقِ جهرةً *** كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ
7- وليس بمولدٍ وليس بوالدٍ **** وليس له شِبْهٌ تعالى المُسبحُ
8- وقد يُنكِر الجهمي هذا عندنا *** بمصداقِ ما قلنا حديثٌ مصرحُ
9- رواه جريرٌ عم مقالِ مُحمدٍ --- فقلُ مِثل ما قد قال ذاك تنْجحُ
10- وقد ينكرُ الجهمي أيضاً يمينهُ --- وكِلتا يديه بالفواضلِ تنْفحُ
11- وقل ينزلُ الجبارُ في كلِّ ليلةٍ --- بر كيفَ جلَّ الواحدُ المُتمَدحُ
12- إلى طبقِ الدنيا يمُنُّ بفضلهِ --- فتفرجُ أبواب السماءِ وتُفتحُ
13- يقولُ أَلا مُستغفرٌ يَلقَ غافراً --- ومُستمنحٌ خيراً ورِزْقاً فُمنحُ
14- روى ذاك قومٌ لا يردُّ حديثُهم -- ألا خابَ قومٌ كذبوهم وقُبِّحوا
15- وقل: إنَّ خير النَّاسِ بعد محمَّدٍ -- وزيراهُ قدَماً ثم عثمانُ الارجَحُ
16- ورابعهُمْ خيرُ البريَّة بعدهُم --- عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ مُنْجِحُ
17- وإنَّهم للرَّهطُ لا ريبَ فيهمُ -- على نُجبِ الفردوسِ بالنُّور تَسرحُ
18- سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةُ --- وعامرُ فهرٍ والزبيرُ الممدَّح
19- وقل خيرض قولٍ في الصحابة كلِّهم - ولا تك طعَّاناً تعيبُ وتجرحُ
20- فقد نطقَ الوحيُ المبينث بفضلِهم-- وفي الفتح آيٌ للصَّحابةِ تمدحُ
21- وبالقدرِ المقدورِ أيقِن فإنَّه -- - دعامةُ عقدِ الدِّين ، والدِّينُ أفيحُ
22- ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومُنكراً - ولا الحوْضَ والِميزانَ انك تُنصحُ
23- وقُلْ يُخرجُ اللهُ الْعظيمُ بِفَضلِهِ - مِنَ النارِ أجْساداً مِنَ الفَحْمِ تُطرحُ
24- عَلى النهرِ في الفِرْدوسِ تَحْيَا بِمَائِهِ -كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
25- وإن رَسُولَ اللهِ للخَلْقِ شَافِعٌ --- وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقّ موَُضحُ
26- ولاَ تُكْفِرنْ أَهلَ الصلاةِ وإِنْ عَصَوْا -فَكُلهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصفَحُ
27- ولَا تَعتقِدْ رأيَ الْخَوَارجِ إِنهُ --- مقَالٌ لَمنْ يَهواهُ يُردي ويَفْضَحُ
28- ولا تكُ مُرْجيًّا لَعُوبا بدينهِ --- ألاَ إِنمَا المُرْجِي بِالدينِ يَمْزحُ
29- وقلْ : إنمَا الإِيمانُ : قولٌ ونِيةٌ--- وفعلٌ عَلَى قولِ النبِي مُصَرحُ
30- ويَنْقُصُ طوراً بالمَعَاصِي وتَارةً --- بِطَاعَتِهِ يَمْنَي وفي الوَزْنِ يَرْجَحُ
31- ودعْ عَنْكَ آراءَ الرجالِ وقَوْلَهُمْ - فقولُ رسولِ اللهِ أزكَى وأَشْرحُ
32- ولا تَكُ مِن قوْمٍ تلهوْا بدينِهِمْ --- فَتَطْعَنَ في أهلِ الحَديثِ وتقدحُ
33- إِذَا مَا اعْتقدْت الدهْرَ يا صَاحِ هذهِ -فأَنْت عَلَى خَيْرٍ تبيتُ وتُصْبِحُ
ـــــــــ
1-العلو 2/1223
2-ذكر ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/35
3- يراجع في ترجمته سير أعلام النبلاء 13/221 وما بعدها
4-تاريخ بغداد 9/466-467
5-تاريخ بغداد 9/466
6-تاريخ بغداد 9/464(1/5)
1- تمسك بحبلِ الله وأتبعِ الهُدى ولا تكُ بدعيا لعلك تُفلحُ
بدأ الناظم منظومتَه في الاعتقاد بهذين البيتين العظيمين , وهذان البيتان فيهما الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير من البدع , وقد بدأ بهما قبل بيان الاعتقاد ومسائله على طريقة أهل السنة في كتب الاعتقاد وقد جرت عادتهم في الغالب على البدء بهذا الأمر , وهذا منهم تحديدٌ لمصدر التلقي في أصول الدين وفروعه ليكون بناء المعتقد وقيامه على أسس سليمة وأصول صحيحة قويمة , وعندما يُحدد العبد مصدره في التلقي , ويكون مصدره من المنبع الأساس وهو الكتاب والسنة , فإنه يرى ما سواه من المنابع مدراً , فلا يأخذ منها شيئاً ولا يجعلها مصدراً له في دينه وعقيدته , وإنما يتلقى من المنبع الصافي والمعين النقي الذي لا شائبة فيه ولا كدر , فيسلم له بذلك معتقده ويصح إيمانه .
وأهل السنة مصدرهم في التلقي هو : الكتاب والسنة , بهما يأخذون , وعنهما يتلقون , وعليهما يُعولون , لا يحيدون عنهما قيد اُنملةٍ بل هم كما قال الأوزاعي ( ندور مع الكتاب والسنة حيث دارا ) لا يُحدثون شيئاً من قِبل أنفسهم .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله ( ليس الاعتقاد لي ولا لمن هم أكبر مني , الاعتقاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ) .
فمن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق والتسليم .(1/6)
ولذا نجد كتب أهل السنة تبدأ بتحديد المصدر قبل بسط الاعتقاد , وهذا نستفيده مما كان يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة , فكان دائما يقول في مقدمتها ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ... )(1) الحديث . وتكراره صلى الله عليه وسلم لذلك كل جمعة فيه تأكيد على أهمية العناية بهذا المصدر وضرورة رعايته والمحافظة عليه .
قوله : ( تسمك ) التمسك في اللغة الأخذ بالشيء والاعتصام به , وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )( آل عمران 103)
وقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )( الأعراف 170)
( حبل الله ) للعلماء فيه أقوال وأكثرها عند المفسرين : القرآن كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله , وهو مراد الناظم هنا , لأنه ذكر السنة بعده , والناظم رحمه الله بقوله ( تمسك بحبل الله ) يخاطب السُّنِّيَّ ويقول له : ليكن مرجعك دائماً وأبداً كتاب الله , ومع تسمك به .
( اتبع الهدى ) أي : السنة .
والهدى في الكتاب والسنة يطلق على أمرين :
1- التوفيق والإلهام
2- الدلالة والبيان والإرشاد
ومن خلال السياق يمكن معرفة المراد . فقوله تعالى ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )( القصص56)
وقوله تعالى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )( البقرة272)(1/7)
وقوله تعالى ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )( الأعراف178)
وقوله تعالى ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )( الفاتحة6 )
كل هذه الآيات في هداية التوفيق , وليست لأحد غير الله تعالى وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستهدي ربه فيقول في دعائه ( اللهم إني أسألك الهدى والسداد) (2)
فالذي يشرح الصدر ويوفق ويهدي هو الله ولذلك قال سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )( القصص56)
والأخرى هداية الدلالة والبيان .
قال تعالى ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )( فصلت17 )
ولو كان من باب هداية التوفيق لما استحبوا العمى على الهدى .
وقال تعالى ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )( البلد10 )
وهذه الهداية تكون كذلك للأنبياء والصالحين والعلماء ومن ذلك قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم ( ..وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( الشورى52 )
وقوله تعالى ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة24 )
( اتبع الهدى ) أي ألزم طريق الهدى والرشاد الذي بينه ودل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير هديٍ وأكلمه وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( وخير الهدي هدي محمد )(3) وفي رواية ( وخير الهدي ) الهُدي : الدلالة والإرشاد , والهدي : الطريق , وهديه صلى الله عليه وسلم ما بينه للناس ودلهم عليه مما أوحى إليه ربه , فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى , وهديه صلى الله عليه وسلم خير زاد ليوم المعاد , والوقوف بين يدي رب العباد .(1/8)
وفي حثه رحمه الله على التمسك بالسنة إبطال لقول الطائفة الضالة يتسمون بـ ( القرآنين ) الذين يقولون : نحن لا نأخذ إلا بالقرآن , ومن كان كذلك فهو ليس بآخذٍ حتى بالقرآن , لأن الله قد أمر في كتابه في آيات عديدة بالأخذ بالسنة والتسمك بها, ولذا لا يكون العبد متمسكاً بالقرآن إلا إذا أخذ بالسنة , فلا بد من الأخذ بالأمرين معاً .
قال تعالى آمراً أمهات المؤمنين ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا )( الأحزاب34 )
وقال سبحانه ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ( الحشر7 ) .
الشطر الأول من البيت وهو قوله ( تمسك بحبل الله وأتبع الهدى ) فيه تحديدٌ للمصدر في التلقي , ولما حدده حذر من مخالفته فقال ( ولا تك بدعياً ).
وهو بهذا السياق يشير إلى أصل مهم وهو : أن من تخلى عن حبل الله وتخلى عن السنة فهو آخذ بسبيل بدعة وضلالة , ولذا عرف بعض أهل العلم البدعة :
فالناظم رحمه الله يقول : ولا تك بدعياً بترك الكتاب والسنة , وهو بهذا يشير إلى الهُوة العميقة التي سقط فيها المبتدعة جميعاً , وهي تركهم للكتاب والسنة , وإلا كانوا أهل سنة وجماعة , ولما كانوا أهل أهواء وبدع .
فالبدعي هو : من ترك الكتاب والسنة ولم يتلق عنهما , ولم يأخذ دينه منهما .
ومن نَظَر إلى عامة أهل البدع وجد أن منشأ ضلالهم هو عدم التمسك بالكتاب والسنة إما بالاعتماد على العقول والآراء , أو المنامات , أو الحكايات , أو غير ذلك مما جعله أهل الأهواء مصدراً لهم في الاستدلال .
وقوله ( لعلك تفلح ) هذه نتيجة التمسك بالكتاب والسنة , واجتناب البدع .(1/9)
والفلاح كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة , وقد قيل لا كلمة في اللغة أجمع للخيرات من كلمة الفلاح , والفلاح لا يكون إلا بالتمسك بالكتب والسنة والإبتعاد عن البدع , ومن لم يتمسك بالكتاب والسنة , وذهب إلى شيء من تلك المصادر لم يفلح , ولهذا جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال ( ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ) وعندما ناظر الشافعي بِشراً فتغلب عليه وخرج بشرٌ قال الشافعي ( لا يفلح ) .
وهذا المعنى دل عليه القرآن الكريم كما في أول سورة البقرة في قلوه تعالى ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( البقرة1-5 )
و ( لعل ) عند الناظم هنا ليست للترجي , لأن من اعتصم بالكتاب والسنة ففلاحه متحقق , إلا إن قُصِد فعلُ العبد بتحقيقه لهذا المقام وتتميمه لهذا الاعتصام
ــــــــــــ
1- اخرجه مسلم برقم 867 من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه
2- أخرجه مسلم برقم 2725 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
3-اخرجه مسلم برقم 867 من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه
2- ودنْ بكتابِ الله والسننِ التي** أتت عنْ رسول الله تنجو وتربحُ
( دن ) فعل أمر من الفعل دان يدين ديناً
والمعنى : أقم دينك على الكتاب والسنة وآمن وأطع وامتثل ما جاء فيهما , بتصديق الأخبار وفعل الأوامر وترك النواهي .(1/10)
وقوله ( والسنن التي أتت عن رسول الله ) السُّنن : جمع سنة , والمراد الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه , فقوله ( أتت عن رسول الله ) هذا تقييد وإرشاد إلى أن السنن لا بد أن تصحح حتى يؤخذ بها وتكون مقبولة , فإن صحت سواء بطريق التواتر أو الآحاد فهي حجة وعمدة في أمور الدين كلها العقيدةِ وغيرها .
قوله : ( تنجو ) لم يذكر من أي شيء , ليعم النجاة من كل شر وبلاء في الدنيا والآخرة , وقوله ( وتربح ) هذا زيادة على النجاة , فالنجاة رأس المال وفوقه أرباح متعددة بسحب قوة اعتصام المرء بالكتاب والسنة أرباح دنيوية وأرباح أخروية .
قال الله تعالى ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )( البقرة38 )
وقال تعالى ( ...فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) ( طه123 )
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى هذه الآية ( تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة )
3- وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا *** بذلك دان الأتقياء , وأفصحوا
لعل الناظم بهذه الصفة قبل غيرها من الصفات , لمناسبة السياق , وذلك أنه بدأ في البيتين الأولين بذكر التمسك بالكتاب والسنة , فلما ذكر وجوب التسمك بالقرآن , بدأ بذكر أبيات فيها ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن والرد على الذين خالفوا الحق وباينوه وجانبوا معتقد أهل السنة فيه , فهذه الأبيات فيهابيانٌ موجز لمعتقد أهل السنة في هذه المسألة , وردٌّ على أصناف من أهل البدع , وهم طوائف عديدة , أشار المصنف إلى بعضهم فبدأ رحمه الله بالكلام في هذه المسألى بقوله ( وقل غيرُ مخلوقٍ كلام مليكنا )(1/11)
( قْل ) الخطاب لصاحب السنة المتمسك بالكتاب والسنة , أي : قل معتقداً مؤمناً بهذا الأمر غير شاك فيه ولا متردد ,, لأن القول إذا أُطلق فإنه يشمل قول القلب واللسان , ومن ذلك قوله تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... )( البقرة136 ) أي : قولوا ذلك بقلوبكم إيماناً واعتقاداً وبألسنتكم نطقاً وتلفظا .
( غير مخلوق كلام مليكنا ) وهذا فيه إثبات أمرين يتعلقان بصفة الكلام :
الأمر الأول : أن الكلام صفة الله , فالقرآن كلام الله وليس كلام أحد من المخلوقين , وإضافته إلأى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف , بخلاف المعتزلة الذين قالوا هو من باب إضافة المخلوق إلى الخالق .
والمضافات إلى الله تعالى على نوعين : مضاف إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مثل سمع الله وبصر الله وقدرة الله وكلام الله وعلم الله , وضابطه ما إذا كان المضاف وصفاً لا يقوم إلا بموصوف , ومضاف إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق مثل عبدالله وأمة الله وناقة الله وبيت الله , وضباطه ما إإذا كان المضاف عيناً قائما بنفسه .
وهكذا الشأن فيما يقال فيه ( من الله ) فقد يكون منه وصفاً , وقد يكون منه خلقاً . فقوله تعالى ( ... وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )( السجدة13 ) . القول وصفللرب سبحانه ونعت من نعوته .
وقوله ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ... )( الجاثية13 ) مافي السماوات ومافي الأرض جميعاً هو من الله خقلاً وإيجاداً .
وفي هذا الباب ضل طائفتان : المعتزلة حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة خلق وغيجاد , ليصلوا إلى مبتغاهم وهو القول بأن كلام الله مخلوق , وغلاة الصوفية حيث جعلوا الجميع إضافته إلى الله إضافة وصف , ليصلوا إلى متغاهم وهو القول بالحلول ووحدة الوجود تعالى الله عما يصفون .(1/12)
والحق وسط بين ذلك , والحاصل أن إضافة الكلام إلى الله عزوجل من باب إضافة الصفة إلى الموصوف .
وعندما يقال كلام مليكنا يتضمن الأصل في الصفات , وهو ا، ما يضاف إلى الله من الصفات يثبت له على وجه يليق به , وهذا تضمنه قوله ( كلام مليكنا ) أي هي صفة لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين , فهو سبحانه له الكمال في ذاته وصفاته . ولذا قال بعض السلف ( إذا أردت أن تتعرف الفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين فهو كالفرق بين الخالق والمخلوق )
والقاعدة عند أهل العلم : أن الإضافة تقتضي التخصيص , فعندما يضاف الكلام إلى الله فإنه يخصه ويليق بجلاله وكماله , وعندما يضاف الكلام إلى المخلوق فيخصه ويليق بعجزه ونقصه , ولا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة والمسمة . هذا بين المخلوق والمخلوق , فيكف بين المخلوق والخالق .
الأمر الثاني : قوله ( غير مخلوق ) وهذا فيه رد وإبطال لقول من قال إن كلام الله مخلوق من المخلوقات التي أوجدها الله بقدرته , فالناظم بين بطلان هذا المعتقد بقوله ( غير مخلوق ) والقول بخلق القرآن هو معتقد الجهمية والمعتزلة وغيرهم .
والجهمية يصرحون بهذه ويقولون : القرآن مخلوق والكلام مخلوق ولا يقولون هو كلام الله , ولهذا حاول شيخهم تحريف قوله تعالى ( ...وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ( النساء164 ) إلى نصب لفظ الجلالة فراراً من إضافة الكلام إلى الله .
وأما المعتزلة فيضيفون الكلام إلى الله ولكنهم يجعلونه من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
والاشاعرة والكلابية أيضا يقولون بخلق القرآن , ولكن لا يصرحون بذلك , ويقولون : الكلام نوعان كلام نفسي ليس بحرف ولا صوت وهذا يضيفونه إلى الله , أم الكلام اللفظي الذي يشتمل على الحرق والصوت والذي هو القرآن افهو مخلوق , وهو عبارة أو حكاية عن كلام الله وليس كلام الله بل هو مخلوقٌ من جملة سائر المخلوقات , وبذلك يلتقون مع الجهمية .(1/13)
فالمصنف بقوله ( غير مخلوق ) أبطل جميع هذه المقالات .
فالقرآن كلام الله حقيقة وهو بحرف وصت سمعه جبريل من الله عزوجل وألفاظه ومعانيه كلام الله , ليس كلام الله ألفاظه دون معانيه , ولا معانيه دون ألفاظه .
وقوله ( مليكنا ) فيه إثبات صفة الملك لله . فالله مالك الملك , والملك كله لله .
قال الله تعالة ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران26 ) .
والمخلوق إذا ملك شيئاً فإنما هو بتمليك الله له , فالله مالك الدنيا والآخرة , والملك من معاني الربوبية , لأن الربوبية لها معانٍ منها : االسيد والمطاع والملك .
قوله رحمه الله ( بذلك ) الأشارة هنا إلى ما تقدم في الشطر الأول من بيان المعتقد الحق في كلام الله .
( دان الأتقياء ) أي : آنوا واعتقدوا ذلك , والأتقياء : دانوا بأن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق , فهذا معتقدهم الذي لا يحيدون عنه , والنقول عنهم في ذلك كثيرة , فاللالكائي رحمه الله عقد فصلاً في ( شرح الاعتقاد ) في بيان أن كلام الله غير مخلوق وسكى أكثر من خمسمائة نفس من هؤلاء , وبعضهم يروي عنه بالإسناد , كلهم يقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافرٌ والنقول عنهم في هذا المعني كثيرة جدا .
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني(1/14)
قوله ( الأتقياء ) اختيار هذه الصفة لأهل السنة في غاية الجودة والدقة , فالتقوى : هي الوقاية بأن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقييه , فتقوى الله عزوجل أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضب الله وسخطه وقاية تقيه بفعل الأوامر وترك النواهي , ولهذا أفضل ما فسرت به التقوى قول طلق بن حبيب رحمه الله: { التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله , وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله }
قال ابن القيم رحمه الله ( وهذا من أحسن ما عرفت به التقوى )
وقال الذهبي في ترجمته ( وقد أحسن وأجاد )
وكذلك شيخ الإسلام أشاد بهذا التعريف , وكذا ان رجب .
فهؤلاء الأعلام - أعني أئمة أهل السنة - اتقوا الله بلزوم السنن والطاعات وبترك النواهي والمحدثات , وأعظم ما تركوه وابتعدوا عنه الكفر والبدع والمحدثات والتي منها القول بخلق القرآن وإضافةً إلى ما فيه من كفر وضلال فقد ترتب عليه من المفاسد والأخطار عند من قال به شيء كثيراً ولذلك ترتب على قول الجهمية امتهان لكلام الله , وعدم مبالاة به , لأنه بزعمهم مخلوق من المخلوقات .
( وأفصحوا ) أي : إضافة إلى أنهم دانوا بذلك واعتقدوه بقلوبهم فقد أفصحوا به وصرحوا به وأبانوه وقرروه في المجالس ووضحوه , وانتصورا له , ولا سيما عندما يعلن أهل الباطل باطلهم ويصرحون بضلالهم .
ولهذا يُنقل عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه كان كل جمعة يقف ويقول ( القرآن كلام الله غير مخلوق خرقاً لقول الباقلاني , وذلك حتى لا يظن من يأتي بعدنا أننا علة معتقده ) , وذلك لأنه كان في عصره , نقل ذلك عنه شيخ الإسلام ( شرح العقيدة الأصفهانية )
وهذا أي الإفصاح قد مضى عليه أهل السنة في تآليفهم , فما تجد كتاباً مؤلفاً في الاعتقاد إلا وفيه التصريح بذلك والإفصاح به , بل أفردوا في ذلك كتباً ومصنفات .
4 - ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً*** كما قال أتْباعٌ لجمٍ وأسححُوا(1/15)
بعد أن أنهى الناظم الكلام علىالمسألة الأولى بدأ يرد على طائفة من طوائف الجهمية , وهو الواقفة .
معلوم أن مذهب أهل السنة هو أنهم يفصحون ويصرحون بأن القرآن كلام غير مخلوق , ومذهب الجهمية يصرحون فيه بضد ذلك , وهو أن القرآن مخلوق , ونشأ على إثر عقيدة الجهمية هذه بدعة الواقفة , فنشؤوا متأثرين ببدعة الجهمية الذين قالوا القرآن مخلوق , وبدؤوا ينشرون ذلك بين الناس , وأخذوا يثيرون الشبه , وأهل السنة يردون عليهم , ففي هذه الأجواء نشأ الوافقة الذين تأثروا بالجهمية - وهو قوم شكاك - فقالوا القرآن كلام الله ولا يقال مخلوق ولا غير مخلوق , وإنما قالوا ذلك لتأثرهم ببدعة الجهمية ودخولها في نفوسهم , ولذلك لم يستطيعوا الإفصاح بالمعتقد الحق وهو أن القرآن غير مخلوق , ولذا قال الإمام ( الواقفة جهمية ) والناظم أيضا يقول ذلك فقد وصفهم بأنهم ( اتباع الجهمية ) وبعض أهل العلم قال ( هم شر من الجهمية ) , ووجه : أن معتقد الجهمية مصرح فيه بالباطل , وهو وهو أن القرآن مخلوق , فنقده وبيان فساده للناس بالحجج والبراهين سهل , ولكن لما يأتي الواقفة ويقررون مذهبهم على أنه من باب الورع ويقفون في هذه الصفة , فهذا أخطر ما يكون على العوام , فيظنون أن في قولهم شيئاً من الوسطية والاعتدال , والواجب الإفصاح بالمعتقد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة . وعدم الإيمان به أو التوقف والتردد كله زيغٌ وضلال , والله يقول ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ... )(الحجرات15) والتوقف عن الإيمان بالحق نوعٌ من الشك والريْب .(1/16)
( جهم ) هو ابن صفوان , رأس من رؤوس الجهمية , وقد ذكر أهل العلم منشأ هذا التعطيل : أن الجهم أخذه عن الجعد بن درهم عن ابان بن سمعان عن طالوت ابن أهت لبيد عن لبيد بن الأعصم اليهودي وهو أخذ ذلك عن يهود اليمن , هذه سلسلة هذا الضلال متصلةٌ باليهود , ومن هذا يعلم أن أساس التعطيل هم اليهود كما أنهم هم أساس الرافضة .
( أسجحوا ) أسجح بالشيء أي لانت به نفسه , فأتباع جهم لانت نفوسهم ومالت قلوبهم إلى هذا المعتقد , وفي نسخة ( أسمحوا ) وهو بمعناه أي : سمحت نفوسهم باعتقاد هذا القول وتقريره رغم فساده وبطلانه .
5- ولا تقل القرآن حلْقٌ قرأْتُهُ --- فإن كلام اللهِ باللفظ يُوضحُ
ثم قال ( ولا تقل القرآن خلق قرأته ... ) أي لا تقل قراءتي بالقرآن مخلوقة , وهذا فيه الرد على بدعة أخرى غير بدعة الواقفة , ألا وهي بدعة اللفظية الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق , أو تلاوتي بالقرآن مخلوقة أو قراءتي بالقرآن مخلوقة .
ومنشأ هذه البدعة هي بدعة الجهمية نفسها , وشبهتهم هي شبهة الجهمية , لأن اللفظ والتلاوة والقرءة كلها مصادر تحتمل أحد أمرين : تحتمل الملفوظ والمتلو والمقروء وهو كلام الله وهذا غير مخلوق , وتحتمل حركة اللسان والشافه والحنجرة وصوت الإنسان وهي مخلوقة , فعندما يقال ( لفظي بالقرآن مخلوق ) يحتمل أحد هذين .
فاللفظية هم - كما قرر أهل العلم - جهمية , وإنشاؤهم لهذه البدعة إنما كان لتقرير مذهب الجهم من طريق آخر وشبهة أخرى , للتلبيس على الناس , فهو عندما يقول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن , ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره ( اللفظية جهمية ) . أي : من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو قائل بقول الجهم .(1/17)
قال الإمام أحمد رحمه الله ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي , ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ) لأن قوله ( لفظي بالقرآن مخلوق ) يحتمل أمرين أحدهما مخلوق وهو حركة اللسان والآخر غير مخلوق وهو كلام الله , وباطل أن يقال إن كلامه سبحانه مخلوقٌ .
وعندما يقول ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) يحتمل أمرين أحدهما حركة اللسان وباطل أن يُقال هذا غير مخلوق , والآخر المتلو المقروء وهذا غير مخلوق , ولذا كان الصواب التفصيل , فإن قصد به الملفوظ فهو كلام الله غير مخلوق , وإن أراد حركة اللسان والحنجرة وصوت العبد فهو مخلوق , فالصوت صوت القاري والكلام كلام الباري , الكلام إنما يضاف إلى من قال ابتداءً لا إلى من قال إبلاغاً وأداءً , ولذا قال الإمام أحمد ( القرآن كلام الله حيثما توجه ) أي سواءً حُفظ في الصدور , أو كُتب في السطور , أو تُلي بالألسن , أو سُمع بالآذان .
والعلة في نهي الناظم عن قول اللفظية هي المُبَينة في قوله ( فإن كلام الله باللفظ يوضح ) وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة ( القرآن كلام الله ألفاظه ومعانيه ليس كلام الله دون المعنى ولا المعنى دون اللفظ , واللفظ به يُوضِّح المعنى , ويُبين المراد , ويجلي المقصود ) .
6- وقل يتجلى الله للخلقِ جهرةً -- كما البدر لا يخفى وربك أوضحُ
الرؤية حق دل عليها الكتاب والسنة المتوارتة , وأجمع عليها المسلمون , ولا ينكر الرؤية إلا الجهمية الضُّلال ومَنْ تأثر بهم , وقد قال بعض السلف مثل الشافعي رحمه الله ( من أنكر رؤية الله حري أن يحرم منها )
( وقل ) الخطاب مُوجه لصلحب السنة ومن يريد اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم أمره واقتفاء أثره , وأما صاحب الهوى والآراء والمنطق وغير ذلك فإنه لا يقيم للسنة وزناً ولا يرفع بها رأساً ولا يعبأ بها .(1/18)
ثل يا صاحب السنة غير متردد ولا شاك ( يتجلى ) التجلي هو الظهور والبيان أي يظهر ( الله للخلق ) والمراد بالخلق المؤمنون , فهم الذين ينعم عليهم سبحانه يوم القيامة برؤيته ويكرمهم بالظنر إليه , بل إن رؤيتهم له سبحانه هي أجلُّ مقاصدهم وأعظم غاياتهم وأهدافهم , ومن دعائهم ( اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ) وهو من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه .
أما الكفار فلا يرونه , كما في قوله تعالى ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ( المطففين15 ) ولئن كان حجبُ الكفار عن رؤية الرب العظيم نوعاً من العقوبة , فإن تمكين المؤمنين منها أجلُّ هبة وأعظم عطية.
( جهرة ) أي عياناً جهاراً ليس بينهم وبين الله ما يحجبهم ( كما البدر لا يخفى ) البدر : هو القمر ليلة الرابع عشر عندما يمتلئ نوراً , وعندما لا يكون بيننا وبينه سحاي , فإن المؤمنين يرونه جميعاً ولا يحتاجون إلأى تضام وتزاحم لرؤيته ساأن الأشياء الدقيقة , وكذلك لا يتضارُّون في رؤيته فلا يحصل لأحد ضرر في رؤيته , وكل ذلك يؤكد أن الرؤية تكون حقيقة وبيسر وسهولة , فإن الشمس والقمر يراهما الناس بأبصارهم رؤية حقيقية دون عنت أو مشقة والنبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ... )(2) , والكاف للتشبيه هنا للرب بالقمر أو الشمس - تعالى الله عن ذلك - وإنما التشبيه هنا للرؤية بالرؤية , وليس للمرئي بالمرئي , أي كما أن رؤية القمر تكون للناس حقيقةً عياناً بأبصارهم , فكذلك رؤية الله تكون حقيقةً عياناً بأبصارهم .
( كما ) الكاف للتشبيه , و ( ما ) زائدة , أي كالبدر .(1/19)
( وربك أوضح ) القمر من مخلوقات الله ومع ذلك يراه الناس ليلة البدر عياناً بدون ضيم وضرر ونحو ذلك , فكيف بالرب الخالق تعالى ؟! فإنه أوضح من كل شيء سيراه المؤمنون بأبصارهم هياناً على الحقيقة .
قوله ( وربك ) أي : أيها المخاطًب بهذا النظم , وهو رب الخلائق أجمعين , رباهم بنعمه لا ربًّ لهم سواه ولا خالق لهم غيره .
وربوبيته لخلق نوعان :عامة و خاصة , فأما العامة بالخلق والرزق والإنعام والصحة ونحو ذلك من الأمور التي هي عام في المؤمن والكافر والبر والفاجر , وأما الخاصة فهي التربية على الإيمان والهداية للطاعة والتوفيق للعبادة وهذه مختصة للمؤمنين .
___________
1- أخرجه النسائي في سننه برقم 1305 , وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم 1304
2- أخرجه البخاري برقم 554 , ومسام برقم 633
7- وليس بمولدٍ وليس بوالدٍ --- وليس له شِبْهٌ تعالى المُسبحُ
هذا البيت ذكره الناظم بعد إثبات الرية لله , ليبين به أن إثباتها حقيقةً لا يستلزم تشبيه الله بالمولود أو بالولد , ولا يستلزم التشبيه , لأن أهل السنة يثبتون الصفات على وجه يليق بالله تعالى , والإضافة تقتضي إلى المخلوق , فعندما تضاف الصفة إلى الله فإنها تليق بكمال الله , وإذا أضيفت إلى المخلوق فإنها تليق بضعفه ونقصه.
ومن هنا يعلم أن مقالة التعطيل أساسها التثميل , فالمعطل بلغ درجة التعطيل لما مثل , فلم يفهم من الصفة التي أضيفت إلى الله إلا عين الصفة التي يعلمها من المخلوق , فكل معطل سائر تحت هذا الوهم الفاسد كما قال أحد هؤلاء يصف المتكلمين ( أناس مضوا تحت التوهم يظنون أن الحق معهم ولكن الحق وراءهم ) , هذا ذكره الهبي عن أبي حيان في التوحيدي , ثم قال ( وأنت حامل لوئهم ) .(1/20)
يقولون : لو أثبتنا الرؤية لله حقيقةً , لأثبتنا له الجسمية ولشبهناه بالمخلوق الحادث , لأن الرؤية لا تقع إلا على ذي جسم , وهذا قياس فاسد , حيث قاسوا الله بالمخلوق , ولهذا قال السلف ( ولا يقاس بخلقه ) , فالناظم جاء بهذا البيت ليزيل التوهم الذي قد يأتي , وهذا التوهم جاء بعد مقالة الجهمية , وأما قبلها فلا وهم , فإن الصحابة لم يخطر ببالهم شيء من ذلك .
أي مع أنه يُرى يوم القيامة حقيقةً بالأبصار .
( ليس بمولود وليس بوالد ) أي لم يتفرع عن غيره ولم يتفرع عنه غيره , وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ( الإخلاص 3-4 )
( وليس له شبه ) أي : الله سبحانه وتعالى , والشبه هو المثيل والنظير , والله لا شبيه له ولا مثيل ولا نظير لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله .
قال الله تعالى ( ...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )( الشورى11 )
وقال تعالى ( ... هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )( مريم65 )
وقال ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )( الإخلاص4 )
وقال ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )( البقرة22 )
ويؤخذ من هذا أن إثبات الصفات لا يقتضي التمثيل فإن التمثيل أمر آخر غير إثبات الصفات .
يقول الإمام أحمد رحمه الله ( المشبه يقول يدي كيدي وسمع كسمعي ... والله يقول ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) , فالذي يثبت الصفات لله على الوجه الذي يليق به ليس بمشبهة , وإنما الشمبه الذي يشبه صفات الله بصفات خلقه , وأهل السنة مطبقون على ذم هؤلاء المشبهة , وأن مقالتهم كفر وضلال .
والمعطلة يرمون اهل السنة بالتشبيه , إما لأنهم لم يفهموا مقالتهم , لأو أنهم أصحاب أغراض سيئة وقصد فاسد .(1/21)
( تعالى ) أي عن الشبيه والنظير أي ارتفع قدره وجل شأنه وتعاظم أن يكون له شبيه أو نظير فهو ينزه الله عن ذلك . والتعالي من العول وهو الرفعة , وهو ثابت لله ذاتاً وقدراً وقهراً .
( المسبح ) أي المنزَّه , لأن التسبيح في اللغة التزيه , وهذا التسبيح عبادة مقربة لله ورد الأمر بها في مواطن كثيرة , بل جاء الترغيب والحث على الإكثار من الستبيح في الأوقات المختلفة , ورُتِّب على القيام به في الأجور العظيمة والثواب الجزيل وفي الحديث ( من قال حين يصبح سبحان الله وبجمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )(1) , وهو كلام الحبيب إلى الرحمن كما في الحديث ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله بحمده , سبحان الله العظيم )(2) وفي الحديث ( أحب الكلام إلى الله : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )(3) .
وتسبيح الله يكون عما لا يليق به .
وأما المعطلة فيفهمون من التسبيح تنزيه الله عن الصفات , ولذا يقولون : سبحان الله المنزه عن الصفات , قال أحد أهل العلم ( فانظروا إلى تسبيح الجهمية كيف أدى بهم إلى التعطيل ) , فهذ التسبيح أدى بهم إلى هذا الزيغ والضلال .
ولا يجوز لمسلم أن يسبح الله عما جاءت به المرسلون , وإنما يجب تسبيح الله عما جاء به أعداء الرسل المخالوفن لهم , ولذن قال تعالى ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي : أعداء الرسل ( وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ )( الصافات180-181 ) نزه نفسه عما يصفه به أعداء الرسل لأنه يتضمن الشتبيه والتعطيل , وسلم على المرسلين , لسلامة ما قالوه في حق الله من النقص والعيب .(1/22)
ومن أسماء الله ( القدوس والسلام ) وهما من أسماء التنزيه فيُنزه الله عن أن يوصف بصفات نقص أو أن يوصف بالنقص , ويُنزه سبحانه عن أن يُشبه أحداً من خلقه أو يُشبه أحدٌ من خلقه , يُنزه سبحانه عن أن يوسف بما لا يليق به , أمَّا أوصافه سبحانه اللائقة بجلاله وكماله فليس من الستبيح في شيء نفيها وتعطيلها .
ــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم6405 , ومسلم برقم2691 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه البخاري برقم6406 , ومسلم برقم2694 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) أخرجه مسلم برقم2137 من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه .
8- وقد يُنكِر الجهمي هذا عندنا -- بمصداقِ ما قلنا حديثٌ مصرحُ
وقال: ( وقد ينكر الجهمي ... )
( وقد ) عندما تدخل على المضارع فإن لها أحوالاً بحسب السياق , أحياناً تكون للتقليل , وأحياناً للتكثير , وأحياناً للتحقيق والتأكيد , وهنا المراد التحقيق والتأكيد , فيقول : حقيقة مقال الجهمية إنكار رؤية الله , ولذا يقول الإمام أحمد رحمه الله ( من ينكر الرؤية جهمي )
( والجهمي ) أي المتأثر بالجهم بن صفوان شيخ الطريقة وأستاذ القوم .
( هذا ) أي رؤية الله , ولما ذَكَرَ مقال الجهمي بدأ بالرد عليهم فقال ( وعندنا ) أي نحن معاشر أهل السنة والجماعة ( بمصداق ما قلناه ) أي بتصديق الذي قلناه وهو إثباتنا للرؤية ( حديث مصرح ) ليس بالتخرصات والآراء بل بالنصوص من الكتاب أو السنة.(1/23)
( مصرح ) أي صريح الدلالة على إثبات الرؤية , وفي نسخة أخرى ( حديث مُصَحح ) أي صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , والمعنيان يكمل أحدهما الآخر , فالحديث في الرؤية مُصحح من قبل الأئمة , بل هو متواتر , نص على ذلك غير واحد من أهل العلم , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول المُجْمِع عليها العلماء بالحديث وسائر أهل السنة )(1) . ومُصَرح بإثبات الرؤية لله سبحانه ’ فلم يبق لمبطلٍ متعلق .
ــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى 6/421
9- رواه جريرٌ عم مقالِ مُحمدٍ --- فقلُ مِثل ما قد قال ذاك تنْجحُ
( رواه جرير عم مقال محمد ) أي رواه الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحن وغيرهما من كتب السنة .
روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر , فقال ( أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تُضامون فيرؤيته , فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا )(1) يعني الفجر والعصر .
هذا ما أشار إليه الناظم هنا , وحديث الرؤية حديث متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غري واحد نت الصحابة منهم : أبوهريرة وأبوموسى الاشعري وجارب بن عبدالله وغيرهم رضي الله عنهم , والواجب الوقوف عند الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء منها المتواتر أو الآحاد , لكا أهل التعطيل لا يقيمون لها وزناً ولا يرفعون لها رأساً , بل يشمئزون من ذكرها ويتكلفون في دفعها وردها .
وبعد أن رد الناظم على الجهمية قال ( فقل ) أي يا صاحب السنة ( مثل ما قال ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مثل ما يقوله الجهمية المعلطة النفاة .(1/24)
( في ذاك ) أي في الرؤية , أو في صفات الله عموماً , فكأن الناظم هنا يعطي منهجاً دقيقاً هو سبيل النجاة , أن يقول السني في صفات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا معنى ما قاله الإمام أحمد رحمه الله ( نصف الله بما وصف به نفسه , وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث )
( تنجح ) أي بذلك يكون نجاحك , والنجاح هو الظفر وميل المقصود وهو هنا الظفر بفضل الله , وتحقيق المعتقد الحق , والفوز بسعادة الدنيا والآخرة .
ـــــــــــ
(1)أخرجه البخاري برقم554 ومسلم برقم633
10- وقد ينكرُ الجهمي أيضاً يمينهُ --- وكِلتا يديه بالفواضلِ تنْفحُ
هذا البيت عُقد لإثبات هذه الصفة العظيمة صفة اليدين لله على وجه يليق بجلاله , وأهل السنة يثبتون اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله دون تشبيهٍ بيدي المخلوق , بل يقولون : لله يدان حقيقيتان لا تشبهان يدي المخلوق , وهذا شأنهم في إثبات جميع الصفات , فهم عند الإثبات يحذرون من منزلقين خطيرين هما : التعطيل والتمثيل , فمنهجهم في الصفات يقوم على أصلين هما : الإثبات بلا تمثيل , والتنزيه بلا تعطيل , فأهل السنة يثبتون اليد لله بلا تمثيل لها بصفة المخلوق وينزهون الله عن النقص , ولكن دون تعطيل له عن إثبات اليد الحقيقية اللائقة بجلاله وكماله .
ويضاد هذا المنهج الذي يقوم عليه مسلك أهل السنة في إثبات الصفات منهجان منحرفان :
الأول : إثباتٌ بمتثيلٍ , وهم المشبهة الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه وأهل السنة ليسوا مشبهةً إذ الشتبيه ضلال وكفر , لأن من يقول عن ربه إن يده كيده وسمعه كمسعه وبصره كبصره فهو إنما يعبد صنماً ووثناً من الأوثان .(1/25)
الثاني : تنزيه بتعطيل , وهم المعطلة الذين يجحدون صفات الله وينفونها بحجة تنزيه الله عن مماثلة خلقه , وهم أقسام كثيرة : منهم من يعطل الأسماء والصفات , ومنهم من يعطل الصفات دون الأسماء , ومنهم من يعطل بعض الصفات دون بعض , ومعطِّل الصفات عابد للعدم , ولذا قيل : المشبه بعدا صنماً , والمعطل يعبد عدماً .
وهذان المنهجان وما تفرع عنهما يجمعهما وصف جامع وهو الإلحاد في أسماء الله وصفاته , وقد أمرنا الله تعالى أن نذر هذا المنهج وتوعد أهله باشد الوعيد في قوله ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأعراف180 .
الممثلة يقولون في اليد : كأيدينا فلم يثبتوا لله يده التي تليق به , والمعطلة يقولون : يلزم من إثباتها التمثيل فلا نثبت لله بدا حقيقةً . ولهذا ( فكل معطل ممثل وكل ممثل معطل ) .
( كل معطل ممثل ) لأن تعطيله للصفات إنما قام على ساق التمثيل , فما جحد اليد إلا لأنه توهم أول الأمر أن إثباتها لله حقيقة يلزم منه التشبيه فنفى عن الله اليد , فهو لما يقرأ قوله تعالى ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالين ) ص75 / لا يفهم منه إلا يد المخلوق وهذا يدفعه إلى تنزيه الله , ولا سبيل عنده إلا تنزيه الله إلا بنفي اليد عن الله , وعلى هذا مضى عامة معطلة الصفات يعطلونها , لأنهم لا يفهمون من المضاف إلى الله إلا عين ما يرونه ويشاهدونه في المخلوق .(1/26)
ولهذا يصرح بعضهم بهذا فيقولون ( لا نعقل يداً إلا عين ما نراه في الشاهد ) فهم فرو من شر ووقعوا في شر أخبث منه , ثم إنهم لما عطلوا صفة الله نتيجة للتمثيل الذي هم مرضى به انتقلوا منه إلى تمثيل آخر , فمثلوا الله إما بالمعدومات أو الجمادات أو الممتنعات بحسب نوع تعطيلهم , ويظهر من هذا أن كل معطل ممثل مرتين مرة قبل التعطيل ومره بعده , فكل تعطيل محفوف بتمثيل .
( وكل ممثل معطل ) من يمثل صفة الله بصفة خلقه فهو معطل وليس معطلاً مرة واحدة بل معطل ثلاث مرات , فالذي يقرأ قوله تعالى ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. )ص75 / ثم يفهم منها يد كأيديهم وقع في التعطيل ثلاث مرات :
1- كونه عطل الله عن صفة اليد الحقيقية اللائقة به التي لا تشبه يد المخلوقين .
2- كونه عطل هذا النص وهو قوله تعالى ( ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. )ص75 / عن مدلوله , ومدلوله إثبات يد حقيقة تليق بالله , وصَرَفَه إلى إثبات يد تشبه يد المخلوقين .
3- كونه عطل النصوص الكثيرة في القرآن النافية للشتبيه كقوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى11 .
ولم يسلم من التعطيل والتمثيل أحد من الطوائف برمتها غير أهل السنة والجماعة , ومن سواهم معطلة ممثلة في الوقت نفسه , وإن كان يزعم كل واحد منهم ظاهر قوله أنه غير معطل أو غير ممثل .
والناظم بدأ إثبات صفة اليد بالرد على الجهمية , والجهمية أساس الشر ورأس البلاء في تعطيل الصفات , ولذا فكل معطل جهمي , وكل معطل شيخه الأول الجهم بن صفوان , لأنهم ورثوا منه تركة التعطيل ولكنهم في أخذهم عنه يتفاوتون , فبعضهم أخذ منه بحظ وافر و وبعضهم أخذ منه دون ذلك .
( وقد ينكر الجهمي ) أي يجحد السائر على منهج الجهم والمتأثر بشبهه، و ( قد ) هنا للتأكيد والتحقيق.
( أيضا ) أي مع إنكاره للصفات الأخرى.(1/27)
( يمينه ) أي ثبوت اليمين واليد لله تعالى. وهنا سؤال: كيف أنكر الجهمية اليمين واليد لله مع أن اليد ثابتة في القران والسنة بمئات النصوص، ووصفت بصفات كثيرة لا تجعل من يقرأ تلك الأدلة يتردد في إثباتها لله، بل قد وصفت اليد بصفات تصل إلى مائة صفة، مثل الطي والقبض والبسط والأخذ و الإعطاء وغير ذلك من الصفات، كلها تؤكد إثبات هذه الصفة لله حقيقة على الوجه اللائق به.
و إذا كان الأمر كذلك، فكيف غرس الجهم في نفوس من تأثر به عدم إثبات اليد لله؟ وقبل مقالة الجهم كان كل من يقرأ آيات الصفات في القران لا يفهم منها إلا الصفات الحقيقية اللائقة بالله، ويعلم ذلك بالنظر إلى العوام الذين لم يتلقوا بجهمي أو أي متكلم، فإذا تليت عليهم آية في الصفات لا يفهمون منها إلا الصفة الحقيقية.
فدبر الجهم خطة وبدا بتعقيد القواعد الكليات لجحد الصفات، فهو لا يستطيع أن يأتي إلى الناس رأسا ويقول لهم : ليس لله يد، فجاء بألفاظ مجملة ونزه الله عنها، وجعل تنزيه الله عنها أصولا كلية عند هؤلاء، ثم توصل إلى إنكار الصفات من خلال ذلك، حيث جاء بلفظ الجسم والحيز والجهة، فقال مثلا: هل الله جسم؟ فاحذ يقرر أن الله ليس بجسم ولا يوصف بالجسمية، فلما قرر ذلك ومكنه من نفوسهم اخذ يقرر فيهم ما يريد فقال: لو أثبتنا لله اليد أثبتنا له الجسمية ولو أثبتنا له الجسمية شبهناه بخلقه ومن ثم غرس فيهم تعطي الصفات.
ولكن واجهته مشكلة وهي النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي تصادم تقريره، فدلهم على التحريف، وبهذا توصل الجهم إلى تقرير إنكار صفات الله لدى من استهوتهم شبهته واستفزهم ضلاله و باطله من ذوي الجهل وقلة البصيرة بالدين .(1/28)
( اليمين ) صفة ثابتة لله، فالله له يدان حقيقيتان، وفي رواية لمسلم إثبات يدين لله : يمين وشمال، ومن أهل العلم من صوب أن لفظ الشمال لم يثبت و إنما الثابت ( الأخرى ) بدل الشمال، وعلى كل فهذه الرواية ليست معارضة لقوله صلى الله عليه وسلم ( وكلتا يدي ربي يمين )(1) لان أهل العلم وضحوا أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ( وكلتا يدي ربي يمين ) نفي توهم النقص ؛ لأنه قد تبادر إلى بعض الأذهان أن الشمال أو الأخرى انقص من اليمين.
و اليمين ثابتة لله في القران والسنة، قال تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الزمر67)، وفي هذه الآية رد بين على المعطلة الذين قالوا إن إثبات اليد لله يلزم منه تشبيه الله بالخلق . فيقال لهم: كيف يفهم عاقل تأمل هذه الآية انه يلزم من إثبات اليد لله حقيقة تشبيه الله بالمخلوق وقد وصف يده سبحانه بهذه العظمة والكمال .
ويرد عليهم بأنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في الحقيقة و المسمى، هذا بين المخلوق والمخلوق، فكيف بين الخالق والمخلوق ؟
( وكلتا يديه ) وفيه إثبات اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق به، وهذا التنصيص بأن له يدين جاء في القران والسنة، قال تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ... ) (المائدة 64) .
وفي الحديث ( يمين الله ملآى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار، أ رأيتم ما انفق منذ خلق السماوات والأرض، فانه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض ). رواه البخاري ومسلم(2) .(1/29)
وهذه الآية والحديث من أقوى الأدلة في الرد على من قال يده قدرته، فيقال لهم: هل لله قدرتان؟ و بإجماع أهل الإسلام انه ليس لله قدرتان، وتفسيرها بالنعمة أيضا مردود؛ لأنه لا يقول أحد أن لله نعمتين بل نعمه كثيرة، وماذا يقول هؤلاء في الحديث؟ هل يقولون وبقدرته الأخرى أو بنعمته الأخرى أو ماذا يقولون؟
ولا يعارض ثبوت اليدين لله أن اليد قد جاءت في بعض النصوص بصيغة الجمع كما في قوله تعالى ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) (يس71)
وكذلك جاءت مفردة كما في قوله تعالى ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الملك1).
لأن لغة العرب تتسع للإخبار عن المثنى بالجمع أو المفرد، قد ورد ذلك في القران كما في قوله تعالى ( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (التحريم4)، ومازال العرب يقولون رأيتك بعيني، وسمعتك بأذني، والمراد عيني وأذني، فلا تعارض إذا بين الألفاظ الواردة. ومثله تماما القول في العين .
( وكلتا يديه بالفواضل ) الفواضل جمع فاضلة، وهو الخير والجود والكرم والعطاء، قال الله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (المائدة64) .
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم و أهليهم وما ولوا )(3) .
( تنفح ) والنفح العطاء، وفي بعض النسخ ( تنضح )، و النضح هو الرش والسقي، والمقصود انه يعطي الجزيل ويكرم عباده ويعطيهم العطاء الواسع، كما في الحديث ( يمين الله ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار... )(4)(1/30)
واليد من صفات الله الذاتية، والناظم عندما يذكر إنكار الجهمية لليد يشير بذلك إلى إنكارهم للصفات الذاتية الأخرى كالوجه والقدم والعين والساق ونحوها فمضمون كلامه الرد عليهم في إنكارهم بقية الصفات الذاتية؛ لان القول في الصفات واحد.
وصفات الله نوعان:
ذاتية و ضابطها : هي التي لا تنفك عن الذات، ولا تعلق لها بالمشيئة.
وفعلية : وهي التي تتعلق بالمشيئة.
ولا فرق عند أهل السنة والجماعة بين الصفات من حيث الإثبات فكلها حق تثبت لله كما وردت ويؤمن بها كما جاءت بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
ــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم برقم1827 من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
(2) البخاري برقم7411 ومسلم برقم993 من حديث ابي هريرة رضي الله عنه
(3) بنفس تخريج (1)
(4) بنفس تخريج (2)
__________________
11- وقل ينزلُ الجبارُ في كلِّ ليلةٍ --- بر كيفَ جلَّ الواحدُ المُتمَدحُ
هذه الأبيات في إثبات نزول الله في كل ليله إلى سماء الدنيا، و أهل السنة مذهبهم في النزول هو مذهبهم في بقية الصفات، فكل صفة لله ثبتت في الكتاب والسنة يمرها أهل السنة كما جاءت و يثبونها لله كما أثبتها لنفسه وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أحد من أهل السنة يتقدم بين يدي الله ورسوله معترضا على قوله بان يقول بعد إثبات الله الصفة : هذا لا يليق بك يا الله، أو بعد إثبات الرسول صلى الله عليه وسلم لها هذا لا يليق بالله، فينفي عن الله الصفات تنزيها لله عما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم و كأنه اعلم بالله من نفسه واعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقولون وسبحان الله عما يصفون، ولذا أهل السنة يقولون لا بد من أصول ثلاثة لمن أراد الاشتغال بالأسماء والصفات:
الأول : أن يُقر في نفسه انه لا أحد اعلم بالله من الله. ( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) (البقرة140)(1/31)
الثاني : انه لا أحد اعلم بالله من خلق الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو اعلم الخلق بالله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم 3 / 4)
الثالث: أن الله بالنسبة لنا غيب لم نره، فلا مجال للإنسان أن يخوض فيما هو غائب عنه من وصف إلا بوحي.
وعليه فالطريقة الحقة في باب الصفات: أن نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله لا نتجاوز القران والحديث، كما قال رحمه الله ( ندور مع السنة حيث دارت ) أي نفياً و إثباتاً.
فمن تقررت في قلبه تلك الأصول امتنع أن يخوض في الصفات بما لا يعم، وعلم فساد مذهب أهل الكلام الباطل الذين يتقدمون باراهم وعقولهم الفاسدة بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(1/32)
( النزول ) قد وردت به السنة، وحديثه متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون صحابيا، وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا )(1) غير مرة , ، وهو عليه الصلاة والسلام افصح الناس وابلغهم وانصحهم، وقد بلغ ما انزل إليه أتم البلاغ، وبينه احسن البيان واوضحه، وهو احسن خلق الله تنزيها لله وتعظيما له، فقال في اكثر من مرة ( ينزل ربنا ) و إثباته صلى الله عليه وسلم لربه هذه الصفة لا يتنافى مع تنزيهه له سبحانه، فماذا يقول المعطلون المعترضون على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمتقدمين بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أما الصحابة و التابعون و أئمة السلف فلم ينقل عن أحد منهم انه قال هذا لا يليق بالله و أنها ليست على ظاهرها وهم المعطلة الجهمية ومن لف لفهم فيقولون : الله لا ينزل؛ لانا لو أتثبتنا لله النزول لأثبتنا له الحركة والمكان، وهكذا ينفون عن الله صفة النزول، وهذه التعليلات العقلية لها منشأ فاسد في قلوب هؤلاء انبثق منه إنكارهم للصفات، وهو قياس الخالق بالمخلوق، أو فهم الصفة التي تضاف إلى الخالق كما يفهمون من الصفة التي تضاف إلى المخلوق ، فقالوا : لو أتثبتنا لله النزول لاثبتنا له الحركة والانتقال والمكان، وهذه الأمور من صفات الحوادث والله منزه عن الحوادث، إذاً ما النتيجة؟ نفي هذه الصفة.
يُقال لهم: إذا كانت تعليلاتكم هذه صحيحةً، فلماذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في غير مجلس ( ينزل ربنا؟ ) يجيب هؤلاء المتكلمون : النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بقله هذا نزول الله، و إنما أراد نزول الملك. يقال لهم: إذا كان ذلك كذلك فان هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم اقرب ما يكون إلى الألغاز والتعمية منه إلى الفصاحة والبيان.(1/33)
و إذا كان كلام هؤلاء حقا لكان اللازم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ينزل ملك ربنا صراحةً، ولكنه لم يفعل ولو مرة ، فهو في كل مرة يقول ( ينزل ربنا ) ولو كان كلامهم حقا لقال ولو في مجلس واحد: ينزل ملك ربنا؛ حتى يحمل المطلق على المقيد، ولكنه لم يفعل، وقولهم هذا بلا شك فيه طعن في علم النبي صلى الله عليه وسلم و فصاحته، وطعن في نصحه صلى الله عليه وسلم، لأنه يقال هؤلاء : هذا الذي تقولونه هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه ؟ فان قالوا : لم يعلمه وعلمناه دونه فهو تجهيل للرسول صلى الله عليه وسلم، وان قالوا: هذا أمر علمه النبي صلى الله عليه وسلم يقال لهم: هل هو قادر على الإفصاح عنه وبيانه للامة بوضوح أم ليس بقادر؟ فان قالوا ليس بقادر على الإفصاح عنه وافصح عنه الجهمية فهذا طعن في فصاحته وبيانه، وان قالوا قادر على الإفصاح عنه، يقال لهم: هذا فيه طعن في نصحه، لأنه عالم قادر ومع ذلك لم يفصح لأنه لم يقل ولا مرة واحدة ينزل ملك ربنا، وان قالوا هو نصح الأمة وبين، قيل لهم: أعطونا ولو حديثا واحدا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ينزل ملك ربنا.
وهذه الأمور الثلاثة يمكن أن تقال في شان من ينفي أي صفة من الصفات.
والناظم رحمه الله يثبت نزول الله على وجه يليق بالله، و أهل السنة في النزول يحترزون من أمرين:
1- تعطيل النزول ونفيه.
2- تكييف النزول.
على القاعدة ( إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل ).
( قل ) الخطاب لصاحب السنة والعقيدة السلفية أي قل ذلك غير متردد ولا مرتاب , بل قله مؤمناً موقناً , لأن هذه الكلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم في غير مجلس , فإذا قلت ذلك لم تزد على أن قلت مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم , ولم ترد على أن آمنت بما آمن به النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا البيت اشتمل على على الأصليين , ففي قوله ( ينزل الجبار في كل ليلة ) احتراز من التعطيل .(1/34)
وفي قوله ( بلا كيف جل الواحد .. ) احتراز من التكييف وفي نفيه للتكييف نفي للتمثيل , لأن الممثل مكيف , ولذا ( كل ممثل مكيف وليس كل مكيف ممثلاً ) لأن الممثل يقول ينزل الله كنزول المخلوق , وهو في الوقت نفسه كَّيف صفات الله بكيفية صفات المخلوق , وليس كل مكيف ممثلاً لأن التكييف يكون بتمثيل , وقد يكون بلا تمثيل وإنما بتخيل الذهن .
( بلا كيف ) مراد الناظم بهذا القول , أي : بلا كيف معلوم لنا , فهو نفيٌ لعلمنا بالكيفية وليس نفياً للكيفية , لأن ما لا كيفية له لا وجود له , فإن صفات الله لها كيفيةٌ اللهُ أعلم بها , ولذا قال الإمام مالك رحمه الله ( والكيف مجهول ) ولم يقل : الكيف معدوم .
والعلم بكيفية الصفات فرع عن العلم بكيفية الذات , فإذا قال الجهمي كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ؟ قل كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال أنا لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له .
فأهل السنة يقولون ينزل الله إلى السماء الدنيا كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكيفيون , فلا يجعلون لصفة الله كيفيةً ككيفية المخلوق , ولا كيفية يتخيلونها في الذهن , والمعطلة الذين نفوا النزول إنما نفوه بعد تكييفٍ , لأنه قد استقر في أذهانهم النزول الذي في المخلوق , وهذا الذي فهموه في عقولهم ظنوا أن أهل السنة يثبتونه فرموهم بالتشبيه .(1/35)
وبعضهم افترى على شيخ الإسلام أن نزل عن المنبر وقال ( ينزل الله كنزولي هذا ) ذكر ذلك ابن بطوطة في رحلته , وهذا كذب وافتراء عليه رحمه الله , لأنه كان في السجن في الوقت الذي مر فيه ابن بطوطة دمشق , والذي يريد أن يعرف عقيدة الشيخ يقرأ كتاب ( شرح حديث الزول ) وقد قرر فيه إبطال تشبيه نزول الله بنزول المخلوقين في مواضع , والذي دفع هؤلاء إلى هذا الإفتراء على شيخ الإسلام وغيره هو أنهم لم يفهموا من الزول إلا نزول المخلوق , ولما رأوا أهل السنة يثبتون هذا النزول وصفوهم بالتشبيه . وحاشاهم من التشبيه .
( الجبار ) هو الله وهو اسم من أسمائه كما في قوله تعالى ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر23 ) .
والجبر الذي في اسمه الجبار من دلالاته : الإصلاح , يقال : جبر كسره أي أصلحه , وجبر حال الفقير , أي : أصلحه .
ومن مدلولاته العلو والقهر , أي العلي على خلقه والقهر فوق عباده .
( جل ) أي عظم قدره عن التكييف سواء كان مبناه الأوهام , أو القياس بصفات المخلوق , قال الله تعالى ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) ( الرحمن78 ) .
( الواحد ) المنفرد بصفات كماله ونعوت جلاله .
( المتمدح ) المتمدح صفة للواحد , أي الذي يمدحه المؤمنون ويثنون عليه فهو الذي أسبغ على العباد من النعم وأولاهم من العطاء ما يوجب مدحهم له , وحسن الثناء عليه وحمده , وهو جل وعلا لا يُحصي أحدٌ الثناء عليه , وهو سبحانه يُثني عليه ويُمدح على أسمائه الحسنى وصفاته العُلى , وعلى نعمه وعطاياه التي لا تُعد ولا تُحصى .
12- إلى طبقِ الدنيا يمُنُّ بفضلهِ --- فتفرجُ أبواب السماءِ وتُفتحُ(1/36)
هذه الجملة في هذا البيت مكملة للبيت السابق , فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) , فالجار والمجرور في قوله ( إلى طبق الدنيا ) متعلق بقوله ( ينزل الجبار ) .
( طبق ) هو الغطاء , والسماء غطاءٌ للأرض , وكل سماء غطاء للسماء التي دونها , وسماء الدنيا سميت بذلك , لقربها من الأرض .
( يمن بفضله ) المن هو البذل والعطاء فينزل سبحانه ليعطي ويتفضل على العباد بالخيرات وأنواع الهبات .
( فتفرج أبواب السماء وتفتح ) , قوله ( تفرج ) أي تنشق وتنفتح والسماء لها أبواب دل على ذلك نصوص كثيرة , منها قوله تعالى ( ...لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ... ) ( الأعراف 40 ) .
وقد جاء في بعض روايات حديث النزول أن أبواب السماء تفتح وقت النزول الإلهي , ففي المسند للإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله عزوجل إلى السماء الدنيا , ثم تفتح أبواب السماء , ثم يبسط يده فيقول : هل من سائل يعطى سؤله فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر )(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسند رقم 3672
13- يقولُ أَلا مُستغفرٌ يَلقَ غافراً --- ومُستمنحٌ خيراً ورِزْقاً فُمنحُ
( يقول ) أي الله سبحانه عندما ينزل , فالقائل هو الله , لأنه لا يصح أن يقول المَلَك ( من يستغفرني من يسألني من يدعوني ) وهذا يبين بطلان قول الجهمية : إن الذي ينزل هو المَلَك , لأنه لو كان الذي ينزل هو المَلَك لقال : ‘ن الله يغفر الذنوب فمن يستغفره , كما في الحديث الآخر ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني أحبٌّ فلاناً فأحبه فيحبُّه جبريل وينادي أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ... )(1) الحديث .
وجاء في بعض روايات حديث النزول أن الله يقول ( لا أسألُ عن عبادي أحداً غيري )(2) وهي مبطلة لمقالة هؤلاء , لأن هذا لا يمكن أن يقول إلا الله .(1/37)
( أن مستغفرٌ ) , ( ألا ) أداة تخصيص , فهو يخص على الاستغفار والإستمناح , والمستغفر : طالب الغفران .
( يلق غافراً ) هو الله الغفور ذو الرحمة سبحانه وتعالى ( ... وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ... ) ( آل عمران135 ) .
( مستمنح ) من يطلب المنح وهو العطاء , أي يسأل الله الخيرَ والرزقَ , والخيرُ شاملٌ لأمور كثيرة .
( فيمنَح ) أي قيمنحه الله حاجته ويعطيه سؤله , فإن خزائنه ملآى لا يغسضها نفقة , يقول تعالى في الحديث القدسي ( يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني وأعطيت كلَّ واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما يُنقص المخيط إذا غمس في البحر )(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم 6040 ومسلم برقم 2637 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه أحمد برقم 16316
(3) أخرجه مسلم برقم 2577 من حديث أبي ذر رضي الله عنه
14- روى ذاك قومٌ لا يردُّ حديثُهم --- ألا خابَ قومٌ كذبوهم وقُبِّحوا
ثم ذكر الناظم رحمه الله دليل النزول فقال :
( روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ) الإشارة بقوله ( ذاك ) إلى النزول الإلهي الثابت , أي : الذي رووا حديث النزول ثقات أثبات لا يرد حديثهم بل يتلقى بالقبول , والحديث متواترٌ , نص على ذلك غير واحد من الأئمة منهم : شيخ الإسلام في ( شرح حديث النزول ) , وابن القيم في ( الصواعق المرسلة ) والذهبي في ( العلو ) والسيوطي في ( الأزهار المتناثرة ) , والكتاني , وقد ذكر ابن القيم في ( الصواعق ) أن ثمانية وعشرين صحابياً رووه , وذكرهم .
( ألا خاب ) ( ألا ) أداة استفتاح و تنبيه , أي خسر الذين كذبوا هؤلاء الرواة الأثبات نقلوا النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/38)
وهؤلاء الذين كذبوا الصحابة في هذه الأمور قبلوا عنهم أحاديث الأحكام , فَلِم هذا التفريق ؟! قال عباد بن العوام ( قدم علينا شريك فسألته عن الحديث " إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان (1) " قلنا : إن قوماً ينكرون هذه الأحاديث !! قال فما يقولون ؟ قلنا : يطعنون فيها , فقال : إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن وبالصلاة والحج وبالصوم , فما يُعرف الله إلا بهذه الأحاديث ) .
وهذا الضلال مبنيٌّ على القاعدة التي قعدها المعتزلة : أن خبر الآحاد لا يقبل في العقيدة , مع أن حديث النزول متواتر , فما الضابط عندهم ؟ ومن يتأمل يجد أنَّ الضابط عند هؤلاء هو : أنَّ كلَّ حديث خالف مذهبهم ردوه بحجة أنَّه خبر آحاد وإن كان متواتراً , وكل حديث وافق هواهم قبلوه ولو كان مكذوباً , ولذا اعتمدوا على الحديث المكذوب ( أو ما خلق الله العقل ) , فالقوم أصحاب أهواء .
الناظم رحمه الله لم يذكر العلو والاستواء , لكن في ضمن الأبيات التي ذكرها إشارة إلى ذلك فاكتفى به , لأن في إثبات النزول إثباتاً للعلو , ولهذا أورد الإمام الذهبي رحمه الله هذه المنظومة بكاملها في كتابه ( العلو) في سياق ما نقله عن الأئمة من نقول في تقرير علو الله على خلقه , وسيأتي أيضاً قول الناظم ( وذو العرش يصفح ) وفيه إثبات العرش العظيم الذي استوى عليه الربُّ عزوجل .
ـــــــــــ
أخرجه الترمذي (739) وإسناده ضعيف
15- وقل: إنَّ خير النَّاسِ بعد محمَّدٍ --- وزيراهُ قدَماً ثم عثمانُ الارجَحُ
هذا مختصرٌ لمعتقد أهل السنة في الصحابة , ومع اقتضاء المنظومة الإختصار إلا أن الناظم قد أتى منه بالشيء الكثير , وبدأه بذكر التفاضل بينهم رضي الله عنهم أجميعن .
( قل ) أي يا صاحب السنة ويا من يريد لنفسه المعتقدَ الصحيحَ , معتقدَ أهل السنة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية , قل وأنت منشرحُ الصدر وغيرُ شاك ولا مرتاب :(1/39)
( إن خير الناس بعد محمد ) أي أفضل الناس وأزكاهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم , والناظم هنا يقرر من هم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فيقول : إن خير الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم ( وزيراه قدماً ) وهما : أبوبكر وعمر رضي الله عنهما .
و ( الوزير ) في اللغة هو العوين للملك والذي يحتمل عنه أثقاله ويشير عليه ويعينه , ولذا وصف الناظم أبابكر وعمر بأنهما وزيران له صلى الله عليه وسلم .
( قدماً ) اسم زمان من القِدَم , أي هما وزيران له منذ بداية الدعوة , لأن نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كانت قديمةً , وقد جاء في حديث يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من نبي إلا كان له وزيران من أهل الأرض ووزيران من أهل السماء فوزيرا أهل السماء هما جبريل وميكال ووزيرا الأرض أبوبكر وعمر )(1) ولكن الحديث ضعيف وله طريقان آخران ضعيفان , لكن ثبت في فضلهما وخيريتهما أحاديث .
روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . فقلت : من الرجال ؟ قال : أبوهما , فقلت ثم من ؟ فقال عمر بن الخطاب )(2)
وليسا أفضل هذه الأمة فحسب بل هما افضل الناس بعد النبيين والمرسلين كما في الحديث ( أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين )
وهو مروي عن غير واحد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وأنس ابن ماللك وجابر وأبوسعيد وهو حديث صحيح بمجموع طرقه (3)(1/40)
وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما , أنه قال ( كنا زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً , ثم عمر ثم عثمان , ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم )(4) وروى البخاري عن محمد بن الحنيفة قال : قلت لأبي يعن يعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ( أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبوبكر , قلت : ثم من ؟ قال : عمر , قال : وخشيت أن يقول عثمان , قلت ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا واحد من المسلمين )(5) .
وقد تواتر هذا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بل جاء عنه أنه قال ( لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري )(6) , وذلك لأنه افترى الكذب عندما قدَّم عليا على الوزيرين .
والنصوص الواردة في تفضيل أبي بكر وعمر كثيرة جداً , أوردها أهل العلم في الكتب التي تعتني بمناقب الصحابة , وتفضيلُ أبي بكر وعمر على الصحابة كلهم محل اتفاق بين أهل العلم , وقد ذكر القاضي أبويعلى عن الإمام أحمد أن قال ( من فضل عليا على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضي مبتدع فاسق ) .
ــــــــــ
(1) الترمذي برقم3680 والحاكم في المستدرك 2/290 وقال " صحيح الإسناد ولم يخرجاه " وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي برقم3680
(2) البخاري برقم3662 , ومسلم برقم2384
(3) انظر السلسلة الصحيحة برقم 824
(4) البخاري برقم 3655
(5) البخاري برقم 3671
(6) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1219
16- ورابعهُمْ خيرُ البريَّة بعدهُم --- عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ مُنْجِحُ
أي رابع الصحابة في الفضل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه
( خير البرية ) أي خير الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . ( البرية ) من : برأ الله الخلق يبرؤهم أي خلقهم .(1/41)
وعليٌّ هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته وأبو السبطين صاحب المناقب الكثيرة , وقد أشار الناظم إلى بعض فضائله .
( حليف ) أي المحالف للخير الذي حليفه الخير دائماَ يحظى بالخير وينلل الخير ويحصله أي أنه دائماً ملازم للخير .
( بالخير منجح ) من النجاح , وهو تحصيل المقصود والظفر به .
وفي بعض النسخ ( بالخير يمنح ) , وفي نسخة ( بالخير ممنح ) أي أنه يعطي الناس ويمنحهم , ففيه وصفه بالسخاء والجود والكرم .
17- وإنَّهم للرَّهطُ لا ريبَ فيهمُ --- على نُجبِ الفردوسِ بالنُّور تَسرحُ
أي هؤلاء المذكورون من الصحابة الخلفاء الأربعة , وكذلك الذين سرد اسماءهم في البيت الآتي .
( للرهط ) وهو عشيرة الرجل , ويطلق على ما دون العشرة , وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وفي بعض النسخ ( والرهط ) ولعله الأقرب , ويكون الضمير في قوله ( وإنهم ) عائداً على الأربعة والرهط معطوف عليه , والمقصود بهم الستة المذكورون في البيت الذي بعده .
( لا ريب فيهم ) لا تهمة ولا شك فيهم وفيما سينالونه من الله من الفضل ولا شك في منزلتهم عند أهل السنة , ولا ريب في أنهم من أهل الجنة .
( على نجب ) جمع نجيب وهو أكرم المال وأنفسه , والمراد أنهم يسرحون في الجنة على نجب الفردوس وهي النوق الكريمة والخيل الكريمة يروحون عليها ويغدون في الجنة , روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة )(1)(1/42)
وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة بن الحصيب عن أبيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل في الجنة من خيل ؟ قال ( إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت إلا فعلت ) قال : وسأله رجل فقال : يا رسول الله هل في الجنة من إبل ؟ قال : قلم يقل له مثل ما قال لصحابه , قال ( إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك )(2) , وسنده ضعيف , لكنه جاء من طريق أخرى مرسلاً بسند صحيح , وله شاهد من حديث بريدة رضي الله عنه قيرتقي بذلك إلى درجة الحسن , كما في السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله برقم 3001 .
ويقصد الناظم رحمه الله بهذا أن هؤلاء مقطوع لهم بالجنة سهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , سيأتي إن شاء الله ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك .
( الفردوس) اسم من أسماء الجنة , وهو اسم لأعلى الجنة وأوسطها وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله , كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض , فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة )(3)
( بالنور تسرح ) اي بمن عليها من أهل النور والوضاءة والبهاء والحسن .
( تسرح ) أي تذهب حيث شاء راكبها , وفي بعض النسخ ( في الخلد تسرح ) والخلد هي الجنة , لأنها دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول . وفي هذا أن أهل الجنة يتزاورون فيها يغدون ويروحون لتتم لذتهم وليكمل أنسهم وسرورهم , نسأل الله الكريم من فضله .
ـــــــــــــــــ
(1) مسلم 1892
(2)الترمذي برقم 2543
(3) أخرجه البخاري برقم 6987
18- - سعيدٌ وسعدٌ وابن عوفٍ وطلحةُ --- وعامرُ فهرٍ والزبيرُ الممدَّح(1/43)
هذا تفسير وبيان الرهط بذكر أسمائهم , وهؤلاء الستة مع الأربعة الخلفاء هم العشرة المبشرون بالجنة كما بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت الصحيح . فهم الرهط الذين لا ريب في دخولهم الجنة , ولا ريب أنهم على نجب الفردوس في جنة الخلد يسرحون , وقد ورد في بشارتهم بالجنة أحاديث , منها مارواه الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أبوبكر في الجنة , وعمر في الجنة , وعثمان في الجنة , وعلي في الجنة , وطلحة في الجنة , والزبير في الجنة , وعبدالرحمن بن عوف في الجنة , وسعد في الجنة , وسعيد في الجنة , وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة )(1) وفي الترمذي وابن ماجه عن سعيد بن زيد مثله (2) .
قال الناظم :
للمصطفى خير صحب أنهم في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع أبي عبيدة والسعدان والخلفاء
( سعيد ) هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل , ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تعالى , ( وسعد ) هو ابن أبي وقاص ( وابن عوف ) هو عبدالرحمن , ( وطلحة ) هو ابن عبيد الله , ( وعامر فهر) هو أبوعبيدة عامر بن الجراح الفهري القرشي , ( والزبير ) هو ابن العوام ( الممدح ) أي : الذي له المدائح الكثيرة , والمدائح الكثيرة لهؤلاء جميعاً ومن أعظم هذا المدح تبشيرهم بالجنة , وينظر في مناقب هؤلاء على الخصوص كتاب ( الرياض النضرة في مناقب العشرة ) للمحب الطبري .
ــــــــــــــــــــ
(1) الترمذي برقم3474 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 50
(2) الترمذي برقم 3748 وابن ماجه برقم 133
19- وقل خيرض قولٍ في الصحابة كلِّهم --- ولا تك طعَّاناً تعيبُ وتجرحُ
ولما ذكر الناظم هؤلاء تكلم عن الصحابة عموماً فقال ( وقل خير قول في الصحابة كلهم ) أي لا يكن قولك الخير وكلامك الحسن خاصا بهؤلاء الذين ذكروا بل قل في الصحابة جميعهم , فكلهم عدول أهل فضل ونُبل .(1/44)
والصحابي : هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك , فكل من كان بهذه الصفة فهو من الصحابة وقل خير قول , ولما ذكر الله في سورة الحشر المهاجرين والأنصار قال ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )( الحشر10)
فذكر الله لمن جاء بعدهم صفتين هما : سلامة الصدر وسلامة اللسان .
وهكذا يجب أن يكون صاحب السنة تجاه الصحابة فلا يحمل عليهم في قلبه غلاًّ ويكون سليم اللسان فلا يقدح فيهم ولا يخوض فيما شجر بينهم بل يقول عنهم ما يزيد حبهم في القلوب . والناظم رحمه الله أشار إلى تحقيق هاتين الصفتين بقوله ( وقل خير قول ) وقد مر معنا أن القول إذ أطلق يشمل قول القلب وقول اللسان , ويكون المعنى قل فيهم خير قول بقلبك بأن يكون سليماً من الغل والحقد ولا يحمل تجاههم إلا الخير , وبلسانك بأن يكون سليماً من الطعن والقدح ولا تتكلم عنهم إلا بخير .
( ولا تك طعاناً تعيب وتجرح ) لما أمر ورغب صاحب السنة في أن يقول في الصحابة خير قول , حذره من أن يقع في الطعن والتجريح لأي أحد منهم ( طعانا ) أي كثير الطعن , والمقصود النهي عن الطعن في الصحابة , وليس المقصود النهي عن المبالغة في الطعن , فقد يأتي على وزن ] فعال [ ما لا يُراد به المبالغة كقوله تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (فصلت46) . أي : ليس بذي ظلم . وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش والبذيء )(1) أي ليس بذي طعن وليس بذي لعن , هذا مع عموم المسلمين , فكيف بالأمر مع الصحابة المعَدلين .(1/45)
( تجرح ) الجرح هو الكَلمُ , فالخوض فيما شجر بين الصحابة والنيل منهم ليس دأب أهل السنة من منهجهم , بل هو شأن أهل الأهواء وسبيل أهل الضلال .
والناظم هنا يقرر عدالة الصحابة ومكانتهم , الذين شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وسماع الوحي منه غظًّا طريًّا , فهم عدول ثقات , وهم حملة الدين ونقلته للأمة , يقول ابن مسعود رضي الله عليه ( من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً , وأعمقها تكلفاً , وأقومها هدياً , وأحسنها حالاً , اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم , وإقامة دينه , فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) .
ومن هنا يُعلم أن أي طعن في الصحابة فإنما هو طعن في الدين , لأن الطعن في الناقل طعن في المنقول , لأن الصحابة هم الذين نقلوا الدين , ولذا ما من حديث نرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا والواسطة بيننا وبينه أحد الصحابة , فالطعن فيهم طعن في الدين , ولذا يقول أبوزرعة الرازي رحمه الله ( إذا رأيتم الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق , لأن الدين حق , والقرآن حق , وإنما نقل لنا ذلك الصحابة فهؤلاء أرادوا الجرح في شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة وهم بالجرح أولى وهو زنادقة ) .
فتكفير الصحابة وتكذيبهم دسيسة من دسائس اليهود وليس المقصود به الطعن في الصحابة ذاتهم , وإنما المقصود الحيلولة بين الناس وبين الدين , فعندما يروج الروافض أن أبا هريرة رضي الله عنه كذاب أو غيرَه من الصحابة فإن مَنْ انطلت عليه هذه الدعاية ينصرف عن الدين ولا يثق به ولا يطمئن لعدم ثقته بمن نقله , وأي ثقة تبقى في دين يُرمى حملته بالكذب ويُتهمون بالكفر , وبهذا يُعرف مراد القوم .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سب الصحابة أشد التحذير وأمر بالإمساك عن القدح فيهم أو الطعن .(1/46)
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه )(2) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ( إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا )(3) . والمراد : إذا ذكروا بغير الجميل .
فالصحابة رضي الله عنهم لا يُذكرون إلا بالخير والجميل والإحسان مع الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان , خلاف ما يفعله ذوو القلوب المنكوسة والعقول والمعكوسة من خوضٍ في الصحابة أو بعضهم طعناً وتنقصاً وسبًّا وتجريحاً . ففعلوا نقيض ما أمروا به , واقترفوا ضد ما دُعوا إليه .
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة بن الزبير ( يا ابن أخي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم )(4) . نعوذ بالله من الزيغ والبهتان , ونسأله سبحانه ألا يجعل في قلوبنا غِلا لأحد من أهل الإيمان , وأن يغفر للصحابة الأبرار العدول الأخيار ولكل من اتبعه بالخير والإحسان .
ثم إن الناظم لمل بين مكانة الصحابة وحث على قول الخير فيهم وحذر من الطعن فيهم قال مبيناً الدليل على ما ذكر .
ــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم 3839 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 320
(2) البخاري برقم 3673 , ومسلم برقم 2541
(3) أخرجه الطبراني في الكبير برقم 1448 , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم34
(4) مسلم برقم 3022
20- فقد نطقَ الوحيُ المبينث بفضلِهم--- وفي الفتح آيٌ للصَّحابةِ تمدحُ(1/47)
ما سبق هو تقرير لمعتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة , وهذا البيت فيه دليل ذلك المعتقد , ولذا فإن المنظومة على اختصارها ذُكِرت فيها المباحث بأدلتها وقوله ( فقد نطق ... ) منن قوله تعالى ( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )(الجاثية29)
( الوحي ) هو القرآن الكريم كلام الله , الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
( المبين ) الواضح البين الذي لا لبس فيه ولا غموض , والمبين للشرائع والأحكام , والموضح لطريق الحق والهدى من الباطل والضلال .
( بفضلهم ) الجار والمجرور متعلق بالفعل نطق , والقرآن مليء بالأدلة التي تبين فضل الصحابة ومن ذلك ما أشار إليه الناظم رحمه الله بقوله :
( وفي الفتح آي للصحابة تمدح ) وفي نسخة ( وفي الصحابة تمدح ) يشير إلى أن الوحي مليء بالأدلة الدالة على فضل الصحابة , وينبه في الوقت نفسه على كثرة الآيات في سورة الفتح التي تمدح الصحابة وتبين فضائلهم , وعند تأمل هذه السورة نجد مواضع كثيرة فيها مشتملة على مدح الصحابة : ففي أول السورة ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )(الفتح4)
ثم بعدها بآيات ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(الفتح10)(1/48)
ثم ذكر حال المخالفين من الأعراب , ثم قال ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )(الفتح18)
ثم بعدها بآيات قال ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )(الفتح26)
ثم ختم السورة بقوله ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )(29)
فكل هذه الآيات في فضل الصحابة , بل الآية الأخيرة فيهال ذكر فضل الصحابة في القرآن , وبيان فضلهم في التوراة والإنجيل , بذكر مثلهم في التوراة وهو أنهم ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )
ومثلهم في الإنجيل وهو أنهم ( كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ... )(1/49)
وهذه الآية احتج بها بعض السلف منهم الإمام مالك على كفر الروافض , لأن الله يقول ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )
وبهذا أنهى الناظم الكلام في الصحابة , حيث بين مكانتهم وفضلهم , وحذر من الطعن فيهم والجرح لهم , وقرر بإيجاز عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم – رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين .
21- وبالقدرِ المقدورِ أيقِن فإنَّه -- دعامةُ عقدِ الدِّين ، والدِّينُ أفيحُ
هذا البيت في إثبات الركن السادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقضاء بالقدر , كما جاء في حديث جبريل المشهور , قال أخبرني عن الإيمان . قال ( أنْ تؤمن بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , واليوم الآخر , والقدر خيره وشره ) . وهذا جزء من حديث طويل خرجه مسلم عن ابن عمر عن أبيه عمر رضي الله عنهما , والحديث له قصة كما في مسلم , فإن ابن عمر رضي الله عنه جاءه رجلان فقالا له : إن قِبلنا قومٌ يقرؤون القرآن , ويقولون إن الأمر أُنُفٌ ولا قدر . فقال ابن عمر ( إّذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برء مني , والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قُبل منه حتى يؤمن بالقدر , فإني سمعت أبي يقول : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث) (1) .
فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان , وأصل من أصول الدين , وعمود من أعمدته , وإنْ انهدم فلا يبقى إيمان ولا دين , فالدين له فروع كثيرة ولكنه يقوم على ستة أصول لا ينفك بعضها عن بعض منها الإيمان بالقدر , وبزوال شيء منها ينهدم الدين ولا يبقى . ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال (القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وكذب بالقدر فقد نقض تكذيبُه توحيده ) أي أنه إذا لم يكن إيمان بالقدر فليس هناك توحيد . والكفر بالقدر كفر بالله كما قال الإمام أحمد رحمه الله ( القدر قدرة الله ) .(1/50)
وقد جاء في القرآن نصوص كثيرة واضحة الدلالة ليس فيها أدنى إشكال في أن الأمور كلها بقدر , قال تعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )(القمر49)
وقال تعالى ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا )(الأحزاب38)
وقال تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29)
وقال تعالى ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )(الأعلى3,2)
وقال تعالى ( .. ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى )(طه40)
فكل شئ بقدر الأعيان والصفات , فأعيان المخلوقات وكذلك ما يقوم بها من صفات كالحركات والسكنات والكلام والسكوت كلها بقدر , وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري في خلق أفعال العباد(2)( كل شئ بقدر حتى وضعك يدك على خدك )
ولا تسقط ورقة من شجرة إلا بقدر , حتى العجز والكيس بقدر قدره الله وقضاه كما قال صلى الله عليه وسلم ( كل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس ) رواه مسلم(3) . من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
فكل شئ بقدر ولا يمكن أن يكون في الكون شئ لم يرده الله ولم يخلقه إذ الملك ملكه والخلق خلقه , والإيمان بالقدر بأن يؤمن العبد بأن الله سبق في علمه وجود الكائنات وما يعلمه العباد من خير وشر , وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ , وأن وجود أي شيء من ذلك إنما يكون بمشيئته , وأنه سبحانه الخالق لكل شيء .
وعليه فالإيمان بالقدر لا يكون إلا بالإتيان بمراتب القدر , وهي أربع مراتب :
1) الإيمان بعلم الله الأزلي : وأنه أحاط بكل شئ علماً , وأنه علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ )(الأنفال23)(1/51)
يقول تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ )(سبأ2,1)
وقال تعالى ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )(لقمان16)
2) الإيمان بالكتابة : وأن كل شيء كتب ودون في اللوح المحفوظ . قال الله تعالى ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ )(القمر53,52)
وقال تعالى ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )(الحديد22)
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء ) رواه مسلم(4) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ) رواه أحمد والترمذي(5) .
3) الإيمان بالمشيئة : وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يمن . قال الله تعالى ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29)
وقال تعالى ( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )(البقرة من الآية255)(1/52)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك , رُفعت الأقلام وجَفت الصحف )(6)
وللشافعي أربعة أبيات يقول عنها ابن عبدالبر إنها من أثبت ما نسب إليه , ومن أحسن ما قيل في القدر نظماً :
ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمتَ وفي العلم يجرى الفتى والمسن
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن
4) الإيمان بالإيجاد والخلق : وأن الموجد الخالق للأشياء كلها هو الله تعالى كما قال تعالى ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )(الفاتحة1) .
وقال تعالى ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ )(الزمر62)
وقال تعالى ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )(الصافات96)
فهذه مراتب القدر , وليس هناك مخلوق إلا ويمر بهذه المراتب , وهذه المراتب لا إيمان بالقدر إلا بالإيمان بها , وكل مرتبة منها عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة , وجمعها أحدهم في بيت واحد فقال :
علمٌ كتابهُ مولانا مشيئتُه وخلقُه وهو إيجادٌ وتكوينٌ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم برقم 1
(2) برقم 96 مرفوعا
(3) مسلم برقم 2655
(4) مسلم برقم 2653
(5) أحمد في المسند برقم23083 والترمذي برقم2155 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2017
(6) أخرجه الترمذي برقم25106 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم7959
ثم إنه قد نشأ في الأمة فرقتان ضلتا في هذا الباب . فرقة كان ضلالها بنفي القدر , وأخرى بالغلو في إثباته , وكلاهما على طرفي نقيض , وكلا طرفي قصد الأمور ذميم , وخير الأمور الوسط .(1/53)
وغلاة منكري القدر كانوا ينكرون القدر بمراتبه الأربعة , وهؤلاء ذكر غير واحد من أله العلم أنهم انقرضوا , ثم صار أمر خَلَفِهم إلى إثبات العلم والكتابة وإنكار المشيئة والإيجاد , فيقولون ( إن الله علم فعل الإنسان وكتبه ولكنه لم يشأه ولم يوجده وإنما خلقه الإنسان )
وكان أحمد رحمه الله يقول ( ناظروا القدرية بالعلم فإن جحدوه كفروا وإن أقروا به خصموا ) وهؤلاء يسمون القدرية النفاة , وهم المعتزلة وهو الذين ورد فيهم أنهم مجوس هذه الأمة , لقولهم بخالقين , كالمجوس الذين قالوا بإثبات خالقين النور والظلمة , والمعتزلة أثبتوا خالقين : الله وهو خالق الأعيان , والإنسان وهو خالق أفعاله .
ويقابل هؤلاء القدرية المجبرة وهو الجبرية الجهمية , وهؤلاء غلوا في إثبات القدر , قالوا أفعال العباد بقدرة الله ولا قدرة ولا مشيئة للعبد فيها بل هو كالورقة في مهب الريح مجبور على فعل نفسه , والفاعل الحقيقي هو الله والإنسان ليس له مشيئة بل هو مثل الورقة في مهب الريح , ومن هنا سموا جبرية , وهؤلاء لا يطبقون مذهبهم في كل شئ بل يطبقونه في حالات دون حالات , وهذا تناقض , والتناقض دليل فساد المذهب , وهذه عادة أهل البدع الوقوع في التناقض . فإنه لو زنى الجبري وترك الصلاة وارتكب الموبقات فاعترض عليه أحد قال أنا مجبور كالورقة في مهب الريح .(1/54)
بينما هو نفسه لو جاء شخص وضربه أو اعتدى على ماله أو حق من حقوقه وقال أنا كالورقة في مهب الريح لم يقبل منه الجبري ذلك , وهذا هو التناقض , فهو في الأمور التي يحبها يقول أنا مجبور , وإذا فُعل به ما يكره ترك مذهبه . ومن هنا يعلم أن مذهب أهل البدع ليس عن عقيدة وإنما هو عن أهواء وشهوات . ولذا قال بعض أهل العلم لأحدهم ( أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري ) , لأنه إذا فعل الطاعة : أنا الفاعل لها بمشيئتي ولا قدرة لله عليها , وإذا فعل المعاصي قال : أنا مجبور ولا مشيئة لي . وهذا يبين أنهم أهل أهواء ومتبعون لحظوظ النفس .
ويُرد على الفرقتين بقوله تعالى ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29,28) . ففي قوله ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ ... ) رد على الجبرية , وفي قوله ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) رد على القدرية .
( وبالقدر المقدور أيقن ) أي آمن بالقدر المقدور , أي الصادر عن الربِّ سبحانه مقدراً محكماً , وقد عرفنا أنه لا إيمان بالقدر إلا بالإيمان بمراتبه الأربعة .
وقوله ( أَيْقِن ) اليقين ضد الشك والمراد أي لا يكن في قلبك أي شك في ذلك , فاليقين انتفاء الشك , وهو تمام العلم وكماله فإذا وجد شك أو تردد أو ظن ذهب اليقين . ولا يكفي العلم فقط بل لابد من اليقين .
( فإنه دِعامة عقد الدين ) ( الدعامة ) : بكسر الدال : عماد البيت وأساس البناء , و ( العِقْد ) بكسر العين القلادة , فالدين عبارة عن عِقد ينتظم أموراً كثيرةً , وله شعب متنوعة وأجزاء متعددة وأعمال وفيرة وله أعمدة ودعائم يقوم عليها بناؤه , والإيمان بالقدر هو أحد هذه الأعمدة والدعائم التي يقوم عليها هذا البناء , وهذا يؤكد أن زوال هذا الركن يؤدي إلى زوال الدين والإيمان , وانفراط هذا العقد المبارك .(1/55)
( والدين ) أل هنا للعهد وهو إما ذهني أو ذكري , وهو هنا ذهني أي الدين المعهود وهو دين الإسلام ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... )(آل عمران19) وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... )(المائدة3) , ولا يقبل الله من أحدٍ دين سواه ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(آل عمران85)
( أفيح ) أي واسع , فيه أعمال كثيرة , وطاعات عديدة , وعبادات متنوعة وأحكام جليلة , ولكنه يقوم على أعمدة راسخة وأسس متينة , ومن تلك الأعمدة الإيمان بالقدر .
وينبغي أن يعلم أنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر فعل الأسباب بل إن من تمام الإيمان بالقدر فعل الأسباب , ويوضحه حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال له بعض الصحابة : فيما العمل ؟ أفي أمر مستأنف أم في قدر وقضي ؟ ( بل فيما قدر وقضى ) قالوا ففيما العمل ؟ قال ( اعملوا فكل مسير لما خلق له , فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره لعمل أهل الشقاوة )(7) .(1/56)
وهذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها برد اليقين والشفاء . ولذا لما قال لهم ذلك كان منهم أمران : آمنوا بالقدر , وتنافسوا في فعل الأعمال واجتهدوا في الإتيان بالطاعات . وقوله صلى الله عليه وسلم ( اعملوا ) لا يُوجه لمن لا مشيئة له , بل هو موجه لمن لا مشيئة يختار بها ما يريد , وهذا يدل على أن الإنسان عنده مشيئة بها يختار ما يريد وهذا متقرر عند كل الناس في أمر الدنيا . وقوله صلى الله عليه وسلم ( فكل مسير لما خلق له ) أي : أن مشيئة العبد التي يعمل بها تحت مشيئة الله فالعبد له مشيئة بها يختار ويريد وليس مجبراً كالورقة في مهب الريح . فإذا كان الأمر كذلك فإن علينا أن نحرص على ما ينفعنا ونستعين بالله ونطلب منه العون والتوفيق كمال قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبوهريرة ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله )(8) .
ــــــــ
(7) أخرجه البخاري برقم4948 ومسلم برقم2647
(8) أخرجه مسلم برقم2664
22- ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومُنكراً **** ولا الحوْضَ والِميزانَ انك تُنصحُ
هذه الأبيات يتحدث فيها الناظم عن الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة ، وقد مر في الأبيات السابقة بعض هذه الأركان وهذه الأركان الستة مترابطة لا ينفك بعضها عن بعض والإيمان ببعضها يوجب الإيمان ببعضها الآخر والكفر ببعضها كفر بباقيها.
وقد جمع بين هذه الأركان في نصوص كثيرة من القران قال الله تعالى :(1/57)
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )(البقرة177)
وقال تعالى ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )(البقرة285)
وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا )(النساء136)
فالإيمان باليوم الأخر أصل من أصول الدين ، ومن لا يؤمن باليوم الآخر لا يؤمن بالله. والناظم يتحدث هنا عن هذا الركن العظيم . ولأن المنظومة مختصرة لا مجال فيها للبسط والإطناب فانه أشار إلى بعض الأمور الكائنة في اليوم الأخر منبهاً بذلك الأمور الأخرى التي لم يتمكن من ذكرها مراعاة الاختصار . وقد ذكر في هذه الأبيات الأربعة جملة من أمور يوم القيامة فذكر منكرا و نكيرا ، والحوض، والميزان، و إخراج عصاه الموحدين من النار والشفاعة ، وعذاب القبر.(1/58)
والإيمان باليوم الآخر ضابطه : الإيمان بكل ما اخبر الله به وما أخبر به رسوله صلى الله علية وسلم مما يكون بعد الموت . وهذا من اجمع ما يكون في تعريف الإيمان باليوم الآخر ،
لشموله لكل ما يكون بداية من دخول القبر إلى افتراق الناس إلى فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير.
ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأشراط الساعة لأنها أمارات وعلامات على دنوها وقرب مجيئها . قال تعالى ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ )(محمد18)
وفي حديث جبريل قال ( أخبرني عن الساعة , قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل , قال أخبرني عن أماراتها , قال : أن تلد الأمة ربتها , وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )(1) . فالساعة لها علامات كبرى عند قرب قيامها , وعلامات صغرى تكون قبل ذلك .
فالإيمان بهذه العلامات من الإيمان باليوم الآخر .
ثم الإيمان بالقبر وفتنته وعذابه ونعيمه , وأن الناس يفتتنون في القبور . قال صلى الله عليه وسلم ( عذاب القبر حق )(2) وقد كان يتعوذ منه دبر كلا صلاة
( ولا تنكرن ) ( لا ) ناهية , و ( تنكرن ) من الإنكار وهو الجحد وعدم الإثبات
( جهلاً ) مفعول لأجله , أي تنكر وجودهما لأجل جهلك وبسبب قلة علمك. ( نكيراً ومنكراً ) هذان ملكان من ملائكة الله زرق العيون سود الوجوه كما في الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( الحديث )(3)
وسبب هذه التسمية لأنهما يأتيان على صورة منكرة لم يعهدها الإنسان وليس فيها أنسٌ للناظرين , ويُسميان الفتانان , لأنهما يفتنان الناس في قبورهم . فالإيمان بالمنكر والنكير من الإيمان باليوم الآخر . وقد سأل رجل الإمام أحمد : هل نقول المنكر والنكير أو الملكين ؟ قال ( المنكر والنكير هكذا هو ) .(1/59)
فالحديث صح في ذكر هذين الاسمين فيجب الإيمان بهذين الاسمين والمعتزلة الذين يحكمون عقولهم في الشرع يردون هذا ولا يؤمنون به ويقولون ( لا يصح أن يقال عن بعض ملائكة الله أنه منكر ونكير ) فأنكروا هذا بالعقل وهذا من غلبة الجهل وقلة العلم من هؤلاء بالشرع ولذا قال الناظم ( جهلا ) أي لا ينكرن يا صاحب السنة بسبب الجهل هذا الأمر .
وهذه إشارة منه إلى أنه لا ينكر منكر ونكير إلا جاهل , أما العالم بالكتاب والسنة فإنه يؤمن به .
والمعتزلة وإن كانوا أهل كلام فإنهم ليسوا أهل علم . ولذا قال أبويوسف ( العلم بالكلام جهل والجهل بالكلام علم ) . فالعلم قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم . فالمتكلم وإن كان صاحب فصاحة وبيان ومنطق وجدل فإنه جاهل لا علم له .
ثم إن هذين الملكين يأتيان العبد في قبره ويجلسانه ويسألانه من ربك وما دينك ومن نبيك . ولذا من الأمور المهمة نشر هذه الأصول الثلاثة بين الناس وتعليمهم إياها لأنها أول ما يسأل عنها الإنسان في قبره . ولذا كان من نصيحة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله للأمة تأليفه لرسالته الجليلة الأًول الثلاثة وأدلتها . وعلى ضوء جواب الإنسان على هذه الأسئلة وتثبيت الله له من عدم تثبيته يكون الناس على قسمين قسم يعذبون في قبورهم وقسم ينعمون . وعذاب القبر حق , قال الله في حق آل فرعون ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر46) . فهم الآن يعذبون في القبر يومياً إلى قيام الساعة وهذا حال كل كافر بالله , أما أهل التوحيد ممن هم عصاة وأهل كبائر ليس تعذيبهم في القبر كتعذيب الكافر وإنما يعذبون على قدر كبائرهم . وأما المؤمن فإنه مُنعم في قبره .(1/60)
ولا يجوز إنكار عذاب القبر ونعيمه بالعقل والمنطق والتجارب , خاصة تجارب الملاحدة حيث قالوا ( حفرنا القبور فلم نجد جنة ولا نارا ولم نر عذاباً ولا نعيماً) وليكن فإن الله تعالى يقول في صفة المتقين ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة2-3) أي : يؤمنون بكل ما غاب عنهم مِما أخرتهم به .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم برقم 1
(2) أخرجه البخاري برقم1372 , ومسلم برقم584
(3) الترمذي برقم 1071 , وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم1071
ثم إن الناظم قد بدأ كلامه عن الإيمان باليوم الآخر بالكلام عن الملكين منكر ونكير إشارة إلى أن القبر وما فيه هو أول منازل الآخرة وأن من مات قامت قيامته , والمؤمن يؤمن بهذا وبكل ما يكون بعده , فنؤمن بالنفح بالصور وهو قرن يُنفخ فيه والموكول به إسرافيل . والنفخات الثلاث نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام , وبعض العلماء جعلها نفختين , والصحيح أنها ثلاث , وكلها ذكرت في القرآن ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ )(النمل87)
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ )(الزمر68)
فينفخ في الصور النفخة الأولى فيفزع الناس ثم ينفخ فيه فيصعقون ثم ينفخ فيقومون لرب العالمين وفي الحديث أن بينهما أربعين . ولا يُدرى أربعين ماذا ؟ وجاء في وصف قيامهم بأنهم ( يقومون حفاة عراة غرلا )(4)(1/61)
وكذلك الإيمان الحشر أي حشر الناس في عرصات يوم القيامة لله , ويحشرون كلهم من أولهم إلى آخرهم يجمعون على صعيد واحد ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا )(الكهف47)
وكذلك الإيمان بدنو الشمس من الخلائق وتفاوت الناس في العرق ومن يظلهم الله في ظله ومن لا يظلهم .
وكذلك الإيمان بالدواوين ومجيء الرب لفصل القضاء والإيمان بالصراط وكل ما جاء في الكتاب والسنة .
وفي ذكر الناظم للمنكر والنكير وتحذيره من إنكار وجودهما وإنكار ما يقومان به من مهام بأمر الله عز وجل وهما ملكان من الملائكة إشارةٌ إلى وجوب الإيمان بالملائكة عموماً وبأسمائهم ووظائفهم وأوصافهم وأعدادهم الواردة في الكتاب والسنة إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فُصل , بل الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان وأصل من أصوله العظام .
( ولا الحوض والميزان إنك تنصح ) أي ولا تنكرن جهلاً الحوض المورد والذي أعده الله لنبيه ولأمته . وجاء وصف هذا الحوض في السنة أن ( طول شهر وعرضه شهر , وماءه أحلى من العسل , وأطيب من ريح المسك , وعدد كيزانه عدد نجوم السماء , من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً )(5)(1/62)
وأحاديث الحوض متواترة كما ذكر ذلك السيوطي وغيره وذكر أنه مروي عن خمسين صحابيا . وجاء في الحديث ( لكل نبي حوض )(6) . وفي بعض الأحاديث ذكر صلى الله عليه وسلم ( أن بعض الناس يذاد عن هذا الحوض فيقول النبي أصحابي أصحابي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )(7) وهو محمول على من ارتد عن الإسلام ومات مرتدًّا , ومن العجب أن يحمل الروافض هذا الحديث على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم , مع أنهم ومن على شاكلتهم هم المعنيون بهذا الحديث , لأن الصحابة لم يغيروا ولم يحدثوا بعده كما قال تعالى ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )(الأحزاب23) .
وأما الذين بدلوا وحرفوا هم الروافض حتى إنهم حرفوا القرآن وزادوا فيه وأنقصوا . فهم رموا الصحابة بما هم أهله . والشاهد أن الإيمان بالحوض المورود واجب ولا ينكره إلا جاهل بالحديث .(1/63)
( والميزان ) ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالميزان الذي ينصب يوم القيامة ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ )(الأنبياء47) . فتوزن الأعمال والدواوين والأشخاص . وهو ميزان حقيقي له كفتان يوضع على كفه الحسنات ويوضع على كفة السيئات . ومن ذلك حديث البطاقة . والشاهد فيه ذكر الكفتين وهو قوله ( فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة ) وجاء في بعض الآثار ( له لسان وكِفتان ) وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما , ذكره أبوالشيخ من طريق الكلبي , ويروي أيضاً عن الحسن , ولم يأت ذكر اللسان في حديث مرفوع . وأحاديث الميزان متواترة , والقرآن مليء بالآيات عن الميزان , وهي موازين تزن بمثاقيل الذر ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزلزلة 7-8) . ويدخل تحت الإيمان بالدواوين وأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال من وراء الظهر , وما يتبع ذلك من نعيم أو عذاب , ومن انقسام إلى فرقتين فريق في الجنة وفريق في السعير .
ـــــــــــ
(4) أخرجه مسلم برقم2859
(5) أخرجه البخاري 6579 , ومسلم 2292
(6) أخرجه الترمذي برقم2443 , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم1589
(7) أخرجه البخاري برقم 6582 , ومسلم 2304
23- وقُلْ يُخرجُ اللهُ الْعظيمُ بِفَضلِهِ *** مِنَ النارِ أجْساداً مِنَ الفَحْمِ تُطرحُ
هذان البيتان يذكر الناظم رحمه الله فيهما أهل الكبائر من عصاة الموحدين الذين أدخلوا النار بسبب كبائرهم وذنوبهم , وأنهم يخرجون على هذه الهيئة التي ذكر وأنهم يُطرحون على أنهار الجنة فيحيون بمائه وتعود لهم صحتهم وتزدان هيأتهم .(1/64)
وقد أخذ هذا رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون . ولكنْ ناس أًصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتةً حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائرَ ضبائرَ فبثوا على أنهار الجنة , ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم . فينبتون نباتَ الحِبةِ تكون في حميل السيل ) فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبداية . رواه مسلم(1) . وقوله ( ضبائر ) أي جماعات .
وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه ( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار , ثم يقول الله تعالى : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان , فيخرجون منها قد اسودوا فيُلقون في نهر الحياء أو الحياة – شك مالك – فينبتون كما تنبت الحِبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية )(2)
( وقل بخرج الله العظيم بفضله ) أي يخرجهم من النار وإنما هو فضل من الله وحتى إذنه للشافع فضل من الله وتشريف له أي للشافع .
( من النار أجساداً من الفحم ) لأن النار أهلكتهم وأماتتهم وأحرقتهم حتى صاروا فحماً , والفحم هو الجمر الطافي وهو أسود اللون .
( تطرح ) أي يلقون على النهر فالجار والمجرور في قوله (على النهر ) متعلق بالفعل المضارع ( تطرح ) .
ـــــــــــ
(1) مسلم برقم 185
(2) البخاري برقم22 , ومسلم برقم 184
24- عَلى النهرِ في الفِرْدوسِ تَحْيَا بِمَائِهِ *** كَحِبِّ حَمِيلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
( الفردوس ) اسم من أسماء الجنة , ويطلق على أعلى الجنة وفي الحديث , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة وفوقه عرس الرحمن )(1) .(1/65)
( كحِب حميل السيل ) وفي بعض النسخ ( كحِبة حميل السيل ) وهما بمعنى واحد , ( والحِب ) بالكسر هو بزور الصحراء مِما ليس بقوت , وقيل هو نبت صغير ينبت في الحشيش , وأمَّا ( الحَبة ) بفتح الحاء فهي ما يزرعه الناس , وحميل السيل أي : الذي يحمله السيل , لأن السيل إذا جاء حمل معه البذور ثم يلقيها على جنبتيه ثم تحيى هذه البذور وتنبت بماء السيل , وهكذا الشأن يكون في هؤلاء المخرَجين .
( إذا جاء يطفح ) أي : إذ جاء ذلك السيْل يعني وقت مجيئه ( يطفح ) أي يفيض , يُقال طفح الإناء أي : امتلأ وارتفع الماء فيه .
وهؤلاء الذين ضُرب لهم هذا المثل هم من أهل الكبائر والعظائم فيما دون الشرك , وأمَّا المشركين الكفار فهم مخلدون في النار أبد الآبدين , لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفف عنهم من عذابهم , ولا يخرجون منها أبداً كما قال تعالى ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )(فاطر36-37)
فهذا شأن الكفار ومآلهم , وأمَّا مرتكبو الكبائر وعصاة الموحدين فحكمهم عند أهل السنة أنهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم وإن أدخلهم النار فلا يخلدون فيهل بل يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين .
والبيتان (23-24) يتضمنان الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار .
وفي البيتين أيضاً إشارة إلى الجنة ونعيمها والنار وعذابها , والإيمانُ بذلك وبكافة التفاصيل الواردة في الكتاب والسنة المتعلقة بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر .
ـــــــــ(1/66)
(1)البخاري برقم 6987
25- وإن رَسُولَ اللهِ للخَلْقِ شَافِعٌ *** وقُلْ في عَذابِ القَبْرِ حَقّ موَُضحُ
( وإن رسول الله ) فيه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ويجمع خصائصه، والرسول : هو من بعثه الله بوحيه الكريم و ذكره الحكيم مبشرا ونذيرا و داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
والمراد برسول الله هنا ، أي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود الشافع المشفع صلوات الله وسلامه عليه.(1/67)
( للخلق ) إشارة إلى الشفاعة العظمى التي تكون في عرصات يوم القيامة والتي يغبطه عليها الأولون والآخرون ، وهذه الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم تكون لجميع الخلائق بان يبدأ الله في حسابهم ، و حديث الشفاعة حديث متواتر قد ورد من عدة اوجه عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وابن عمر وابن عباس وابوهريرة وانس وحذيفة وغيرهم رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين ، ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان من حديث أبى هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك يجمع الناس الاولين والاخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس الا ترون ما قد بلغكم الا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بادم فياتون ادم عليه السلام فيقولون له انت ابو البشر خلقك الله بيده . ونفخ فيك من روحه، وامر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا الى ربك، الا ترى الى ما نحن فيه الا ترى الى ما قد بلغنا فيقول ادم ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وانه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى نوح، فياتون نوحا فيقولون يا نوح انك انت اول الرسل الى اهل الارض، وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا الى ربك، الا ترى الى ما نحن فيه فيقول ان ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وانه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى ابراهيم، فياتون ابراهيم، فيقولون يا ابراهيم، انت نبي الله وخليله من اهل الارض اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فيقول لهم ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، واني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن(1/68)
ابو حيان في الحديث ـ نفسي نفسي - نفسي، اذهبوا الى غيري اذهبوا الى موسى، فياتون موسى، فيقولون يا موسى انت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فيقول ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، واني قد قتلت نفسا لم اومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري، اذهبوا الى عيسى، فياتون عيسى فيقولون يا عيسى انت رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا اشفع لنا الا ترى الى ما نحن فيه فيقول عيسى ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ـ ولم يذكر ذنبا ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا الى غيري اذهبوا الى محمد صلى الله عليه وسلم فياتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد انت رسول الله وخاتم الانبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر، اشفع لنا الى ربك الا ترى الى ما نحن فيه فانطلق فاتي تحت العرش، فاقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على احد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع راسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فارفع راسي، فاقول امتي يا رب، امتي يا رب فيقال يا محمد ادخل من امتك من لا حساب عليهم من الباب الايمن من ابواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الابواب، ثم قال والذي نفسي بيده ان ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، او كما بين مكة وبصرى )(1) .
ويدخل في عموم قول الناظم : ( للخلق شافع ) الإيمان بجميع أنواع الشفاعات الواردة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل شفاعته بأهل الجنة بدخول الجنة وشفاعته لعمه أبى طالب بان يُخفف عنه العذاب ، وشفاعته لأهل الكبائر ممن استحقوا دخول النار بان لا يدخلوها ومن دخلها منهم بأن يخرج منها، وهذه الشفاعة يشاركه الأنبياء والصالحون والملائكة.(1/69)
( وقل في عذاب القبر حق موضح ) أخي آمن وصدق بعذاب القبر.
و( القبر ) مفرد جمعه قبور واقبر، وهو من نعم الله ومنته على بني آدم هداهم لهذا الأمر تكريما وإحسانا ، قال الله تعالى ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ )(عبس21) , أي : جعل له قبراً يُوارى فيه بدنه إكراماً له وتفضلاً عليه , ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض ويتأذى منه الناس أو تأكله الوحوش والطيور والسباع.
( موضح ) أي موضح في الكتاب والسنه ، ولذا يجب على كل مسلم أن يقول عذاب القبر حق، و الأدلة على أن عذاب القبر حق من الكتاب والسنه كثيرة، قال الله تعالى عن ال فرعون( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر46) .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها إن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسالت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال ( نعم عذاب القبر حق ) قالت عائشة رضى الله عنها : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر . رواه البخاري(2) وفي رواية لأحمد ( أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فان عذاب القبر حق )(3)
وعن آبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ) رواه المسلم ( 4)
ــــــــــ
(1) البخاري برقم 4712 , ومسلم برقم 194
(2) تقدم تخريجه
(3) أحمد في المسند برقم25025
(4) مسلم برقم 588
26- ولاَ تُكْفِرنْ أَهلَ الصلاةِ وإِنْ عَصَوْا *** فَكُلهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصفَحُ(1/70)
هذه الأبيات تشتمل على بيان حكم مرتكب الكبيرة، وهي أول المسائل التي نشبت فيه الخلاف بين فرق الأمة. فنشأت مذاهب الخوارج والمعتزلة والمرجئة ، والناظم في هذه الأبيات بين أولا قول أهل السنه القول الحق ، ثم ذكر قول الخوارج محذرا منه ، ثم ذكر قول المرجئة محذرا منه .
بدا بقول الحق فقال ( ولا تكفرن أهل الصلاة وان عصوا ... ) ( لا ) ناهيه . والمعنى : لا تعتقد كفر أهل الصلاة وان عصوا كما في الحديث ( من صلى صلاتنا واكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا )(1) وفي قوله ( أهل الصلاة ) إشارة إلى كفر تارك الصلاة وأن من لا يصلي فهو كافر ليس بمسلم ، والأدلة على كفر تارك الصلاة في الكتاب والسنة كثيرة جدا ، قال الله تعالى ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (التوبة11)
و قال تعالى مخبرا أن أصحاب الجحيم ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر42-43)
وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله – رضي الله تعالى عنهما – قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة )(2)
و في المسند وغيره عن بريدة – رضي الله تعالى عنه – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )(3)
و في المسند وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله تعالى عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ذكر الصلاة يوما فقال ( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف )(4)
وروى الترمذي عن عبدالله بن شقيق قال ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة )(5)(1/71)
( وان عصوا ) سواء ارتكبوا كبائر أو صغائر ، فلا يجوز تكفيرهم بذلك، فهو رحمه الله يتحدث عن حكم المسلم المصلي إذا ارتكب معاصي دون الكفر فانه لا يكفر ولا يخرج من الدين ، إما إذا وقع في الكفر أو الشرك بأمر آخر ، إما هنا فالناظم يتكلم عن أهل الصلاة إذا وقع من أحدهم ذنوب دون الشرك بالله فانه لا يجوز تكفيره باتفاق أهل السنة و الجماعة
مادام يعلن إسلامه و لم يأتي بأمر مكفر ، أما إذا جاء مكفر فانه يكفر ، وفي عامة كتب الفقه يعقد باب حكم المرتد ، و فيه تبيين الأمور التي من قالها أو فعلها كفر وارتد عن الإسلام ، ولشيخ الإسلام الإمام الجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله رسالة نافعة مختصرة بعنوان ( نواقص الإسلام ) ذكر فيها أمورا عشرة ينتقض بفعل أي واحد منها الإسلام .
ثم في تكفير المعين لا بد من إقامة الحجة علية فإذا أقيمت عليه الحجة فانه حينئذ يكفره أهل العلم ، لأنهم اعلم بأحوال الناس ومن يستحق منهم التكفير ومن لا يستحق ، و إما عامة الناس فشانهم الاستفادة من أهل العلم.
والأدلة على أن أهل الصلاة لا يكفرون وان عصوا كثيرة ، من ذلك قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) (التحريم8) والخطاب للمطيع والعاصي وناداهم جميعا باسم الإيمان ، وفي هذا دليل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر.
وكذلك قوله ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )(الحجرات9) والاقتتال من كبائر الذنوب. ومع ذلك سماهم مؤمنين فدل ذلك على أن ارتكاب الكبائر لا يخرج من الملة .
وكذلك قوله تعالى ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ )(البقرة178) و هذه وردت في شأن القتال ، فسما القاتل أخا لولي المقتول والاخوة هنا اخوة الدين ، فدل ذلك على أن القتل وغيره من كبائر الإثم لا ينتقل به المسلم من الدين.(1/72)
ولما كانت المنظومة مختصرة لا يمكن استيعاب الأدلة فيها اكتفى الناظم بالإشارة إلى قوله صلى الله علية وسلم ( كل بني أدم خطاء وخير الخطائين التوابون )(6) ولهذا قال ( فكلهم يعصي ) فإذا كان تكفير أهل المعاصي سائغا فلا يبقى أحد عندئذ على الإسلام ، فان النبي صلى الله عليه وسلم اخبر في هذا الحديث الذي أشار إليه الناظم أن كل بني أدم خطاء . وفي الحديث الآخر قال ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم )(7)
( وذو العرش يصفح ) كما في قوله تعالى( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحيم ) (الزمر53) وهذا دلالة على عظيم عفو الله ، وجميل صفحة ، وسعة مغفرته ، وكما رحمته ، وانه سبحانه لايتعاظمه ذنب أن يغفره، فمن تاب تاب الله عليه ، والحسنات ماحية للذنوب ، والمصائب كفارات ، والله ذو الفضل العظيم .
( ذو العرش ) ما يقال فيه ( ذو ) شانه شان المضافات إلى الله وهي على نوعين :
1" إضافة الصفة إلى الموصوف كما في قوله تعالى( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)(الرحمن78) . فالجلال والإكرام وصفان لله تعالى
2" إضافة المخلوق إلى الخالق ومنه قوله تعالى( ذْو الْعَرْش )(غافر15) فالعرش مخلوق من مخلوقات الله وهذه الإضافة تقتضي التشريق والتكريم .
والعرش هو أكبر المخلوقات ، وهو سقفها وهو على المخلوقات كالقبة . والعرش الحقيقي وهو في اللغة سرير الملك كما في قوله ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )(النمل23) أي ملكة سبأ .(1/73)
وعرش الرحمن له قوائم كما في الحديث ( فإذا موسى اخذ بقائمه من قوائم العرش )(8) وله حملة و هم من الملائكة وعددهم ثمانية ( وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ )( الحاقة17) و هناك ملائكة حافون من فوق العرش . وصفات العرش كثيرة .
ويجب الإيمان بوجود العرش ولا يجوز الخوض فيه بالتأويلات الفاسدة ، بل نومن بأنه عرش حقيقي عظيم كريم مجيد ، ونومن بجميع صفاته الواردة في القران والسنه ، ونومن بان الله مستو عليه استواء يليق بجلاله كما قال ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5)
أما أهل الكلام فلا يؤمنون بالعرش بل يؤولونه بتأويلات فاسدة . وكذلك يحرفون معنى الاستواء فقوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5) ما من كلمة من هذه الآية إلا وقد حرفها هؤلاء ، ولهم شبه بها يجحدون الاستواء من أعظمها : لو كان الله مستويا على العرش للزم إن يكون محتاجا إليه كما قال تعالى ( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ... )(الزخرف12-13) ولو غرق الفلك لغرق من عليه و لو سقطت الدابة لسقط من عليها ، فدل علي احتياجه إلى الفلك والأنعام والى كل ما يستوي عليه ، ثم جاءوا إلى قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )(طه5) ولم يفهموا من الاستواء المضاف في الآية إلى الله إلا عين استواء المخلوق وقالوا يلزم من إثبات ذلك احتياجه إلى العرش ، فبناء على هذه الشبهة التي في عقولهم ، نفوا استواء الله على العرش ، وبعد ذلك هم إما أحد خيارين : إما أن يقولوا الله ليس فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه ، و إما أن يقولوا الله في كل مكان ، فهم فروا من شر ثم وقعوا شرور اعظم و بلاء اشد .(1/74)
وعوداً على مرتكب الكبيرة فالقول الحق فيه انه لا يكفر ، ولا يقال انه مؤمن كامل الإيمان ، و إنما يقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو يقال مؤمن ثم انتقل الناظم إلى ذكر قولين باطلين في المسألة فقال:
ــــــــــ
(1) البخاري رقم 391
(2) مسلم برقم 82
(3) أحمد في المسند برقم23325 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم4143
(4) أحمد في المسند برقم 6576 قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (بإسناد حسن) مجموع فتاواه 10/278
(5) الترمذي برقم 2622 , وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2622
(6) الترمذي برقم 2499 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2499
(7) الحاكم في المستدرك برقم 7623 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم967
(8) البخاري برقم4638 ومسلم برقم 2374
27- ولَا تَعتقِدْ رأيَ الْخَوَارجِ إِنهُ *** َمقَالٌ لَمنْ يَهواهُ يُردي ويَفْضَحُ
( ولا تعتقد ) لا تؤمن ولا تدن .
( رأي الخوارج ) عبر عنه بأنه رأي , لأنه رأي من نتائج عقولهم ومن نسج أفكارهم لا يقوم على دليل من الكتاب والسنة .
والخوراج إنما سموا بذلك لأمرين :
1+1" أنهم خرجوا على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه , وكفروه وناصبوه العداء .
+2" أنهم خرجوا على السنة ففارقوها سواء فيما يتعلق بولي الأمر أو بالمسائل الأخرى.
فالناظم يحذر من الخوارج وقد صحت الأحاديث في التحذير منهم قال الإمام أحمد : صحت من عشرة أوجه . فهو يحذر من رأي الخوارج عموماً , ومن رأيهم في مرتكب الكبيرة خصوصاً , فإن مذهبهم في مرتكب الكبيرة أنه يكون كافراً خارجاً من الملة وهو يوم القيامة من المخلدين في النار أبد الآبدين .
والمعتزلة قالوا بقول الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة واختلفوا في شيء واحد . فاتفقوا أنه يخرج من الإيمان وأنه يخلد يوم القيامة في النار .(1/75)
وخالفوهم في مسألة التنصيص على أنه كافر فقالت المعتزلة ليس بمؤمن وليس بكافر بل هو في منزلة بين المنزلتين فحقيقة قولهم : ليس عنده شيء من الإيمان ولم يدخل في الكفر . وفي الحقيقة مؤدى المذهبين واحد .
( إنه مقال لمن يهواه ) هذا تعبير دقيق , لأنه هذه الفرق والمذاهب في حقيقة أمرها مجرد أهواء بها يتركون الكتاب والسنة , ولذا جاء في الحديث ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء )(1) فهو يمتلئ قلبه بالهوى فيعمى بصره ولا يهتدي إلى حق ولا يبصر نصا ولا حديثاً بل يمضي في هواه . والذي يهوى مقال الخوارج لا يحصل من ورائه إلا الخسران والخزي والفضيحة ولهذا قال الناظم ( يردي ويفضح ) فمآل من يهوى هوى الخوارج الخسران والردى في الدنيا والآخرة , وكذلك يفضح ويخزي ولا أعظم من هذا الخزي بأن يكفر المسلمين يوترك الملحدين ويتسلط على أهل الإسلام ويسلم منه عبَّاد الأوثان .
ـــــــــــ
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة بهذا اللفظ برقم69 , وقد صححه الألباني في تحقيقه للسنة .
28- ولا تكُ مُرْجيًّا لَعُوبا بدينهِ *** ألاَ إِنمَا المُرْجِي بِالدينِ يَمْزحُ
ثم انتقل إلى قول المرجئة فقال ( ولا تك مرجيَّا ... )
ما وصف به الناظم المرجئة من أحسن ما يوصفون به فإن المرجئة يمزحون بالدين ويلعبون به , وكلما غلا المرء في الإرجاء كان مزحه ولعبه بالدين أكبر فغلاة المرجئة يقولون لا يضر من الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة . والإيمان عندهم المعرفة فقط . فأي مزح ولعب بالدين أعظم من هذا , وأي فتح لباب المعاصي والموبقات أعظم من هذا . ينقل عن أحد المرجئة أنه مر على رجل يشرب الخمر , فشتمه المخمور , فقال المرجي : أهذا جزائي وقد جعلتك مؤمناً كامل الإيمان .
والإرجاء في اللغة التأخير , قال تعالى ( قالوا أَرجِهْ وأَخَاهُ وَاَرْسِلْ في المدائنِ حاشِرينَ) (الأعراف111)(1/76)
وإنما سمي المرجئة بذلك لأنهم أخروا العمل عن الإيمان وقالوا العمل ليس جزءا من الإيمان .
ثم افترق المرجئة إلى فرق :
قسم قالوا : الإيمان المعرفة فقط .
وقسم قالوا : إنه مجرد التصديق .
وقسم قالوا : إنه مجرد النطق .
وقسم قالوا : إنه مجرد النطق والاعتقاد .
وهم متفاوتون في الإرجاء , متفقون على إخراج العمل من مسمى الإيمان . وبقدر حظهم من الإرجاء والغلو فيه يستحقون من الوصف الذي ذكره الناظم .
ووجه اللعب والمزح في الدين على ضوء هذه العقيدة : أن الفاسق إذا قيل له : إيمانك مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فهل يُقبِل على الدين ؟ أم أنه سيقول إذا كان إيماني تاما كاملاً وهذه حالي مثلَ إيمان النبي صلى الله عليه وسلم فما الحاجة إلى الالتزام بالدين , فتكون النتيجة إذاً هي اتخاذ الدين لهواً ولعباً , والغلاة من المرجئة يقولون : كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب . وهذا قول في غاية الخبث والفساد , وهو سبيل لترك الصلوات ومنع الزكاة وترك الصيام والحج وغير ذلك من الطاعات وذريعة لفعل الفواحش والموبقات ولا يرتاب عاقل أنه هذا لعب بالدين , وأي عبث أفضع وأشد من هذا العبث .
وعلى كل فهذه الأبيات الثلاثة اشتملت على بيان أقوال الطوائف في مرتكب الكبيرة , وهي ثلاثة أقوال : قول أهل السنة والجماعة وهو قول عدل وسط , وقولان متناقضان .
29- وقلْ : إنمَا الإِيمانُ : قولٌ ونِيةٌ *** وفعلٌ عَلَى قولِ النبِي مُصَرحُ
قوله ( وقل إنما الإيمان ... ) الخ
ذكر رحمه الله في هذا البيت عقيدة أهل السنة في الإيمان وانه عندهم يقوم على ثلاثة أركان : اعتقاد بالقلب , وقول باللسان ,وعمل بالقلب , والجوارح . وقد دل على دخول هذه الأمور الثلاثة في الإيمان أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي لا تحصى لكثرتها .(1/77)
والناظم رحمه الله كعادته يدعو صاحب السنة إلى العقيدة الصحيحة السالمة من الشوائب فيقول ( قل إنما الإيمان ... )
( قول) وذلك بان يقول المرء بلسانه ما أمره الله به , وهو على قسمين :
+1" اصل : وهو قول ما يقوم عليه الدين و يبني, وهو الشهادتان و في الحديث :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ... )(1)
+2" وفرع : و هو ما يبني على هذا الأصل وينمو عليه , وهو سائر الطاعات التي تؤدى باللسان كالتسبيح و قراءة القران و آمر المعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك .
( ونية ) أي اتقاد الصحيح في القلب يبني عيه عمله قال صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ... )(2) فإذا كان عند الإنسان قول وعمل بلا نية في قلبه فهو المنافق وهو الذي يكون ذا أعمال صالحة في الظاهر وباطنه بخلاف ذلك .
قال الله تعالى في بيان حال المنافقين ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (البقرة14)
وقال تعالى ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ( المنافقون1)
( وفعل ) أي أن العمل داخل في مسمى الإيمان ولا يقول بخروجه إلا المرجئة . وقد سبق الكلام عليهم . والفعل هو العمل , وهو شامل لعمل القلب مثل المحبة والخشية والإنابة والحياء والتوكل وغيرها من أعمال القلوب , وعمل الجوارح مثل الصلاة والصيام والزكاة والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من أعمال الجوارح .(1/78)
ومن الأحاديث الجامعة لهذه الأمور الثلاثة , حديث أبى هريرة المعروف بحديث شعب الإيمان ( الإيمان بضع وسبعون شعبة فاعلاها قول لا اله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء وشعبة من الإيمان )(3) فهذا الحديث الجامع دل على دخول ما يكون باللسان والجوارح والقلب فخي مسمى الإيمان .
إما دلالته على ما يكون باللسان ففي قوله ( أعلاها قول لا اله إلا الله ) والقول يشمل قول القلب وقول اللسان عندها يطلق .
قال تعالى ( الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (فصلت 30)
وقال تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة 136)
فالمراد بقوله ( قولوا ) أي بقلوبكم وألسنتكم . ولذلك لا ينصرف القول إلى القول باللسان فقط إلا عندما يقيد قال تعالى ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) (آل عمران 167) وهي صريحة في أن القول يكون بالقلب واللسان ولذلك أهل السنة عندما يقولون في كتبهم الإيمان قول فهو شامل لامرين قول القلب وقول اللسان .
و أما دلالته على دخول ما يكون بالجوارح في مسمى الإيمان ففي قوله ( أدناها إماطة الأذى عن الطريق ) وهذا يدل على الدخول الأعمال في مسمى الإيمان . فإماطة الأذى عمل يقوم به الإنسان وهو جزء من الإيمان وشعبة ومن شعبه .(1/79)
و أما دلالته على دخول ما يكون بالقلب في مسمى الإيمان ففي قوله ( والحياء شعبة من الإيمان ) والحياء عمل من أعمال القلوب , وهو داخل في مسمى الإيمان , فالخشية والتوكل والرغبة والرهبة وغيرها من الأعمال القلبية المأمور بها كلها داخله في مسمى الإيمان .
( على قول النبي مصرح ) ( مصرح ) مبتدأ مؤخر خبره شبه جمله ( على قول النبي ) وهذه الأمر الثلاثة مصرح بها كما قال الناظم في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة فمن قال بذلك فقوله مبني على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم , ومما يدل دلاله صريحة على دخول الأعمال في مسمى الإيمان حديث وفد عبد القيس وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لوفد عبد القيس ( أمركم بأربع : الإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا اله إلا الله و اقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وان تعطوا من مغانم الخمس )(4) وهو صريح في الدخول العمل فقحي مسمى الإيمان ,والنصوص في هذا المعنى كثيرة
ـــــــــ
(1) البخاري برقم2946 , ومسلم برقم21
(2) البخاري برقم 1 , ومسلم 1907
(3) البخاري برقم 9 , ومسلم 35
(4) البخاري برقم 53 , ومسلم برقم 17
30- ويَنْقُصُ طوراً بالمَعَاصِي وتَارةً *** بِطَاعَتِهِ يَمْنَي وفي الوَزْنِ يَرْجَحُ
( وينقص طورا... ) أي الإيمان ينقص تارة , ففي هذا البيت يقرر الناظم إن الإيمان يزيد وينقص ويقوي ويضعف .
أما الزيادة فمصرح بها القران . قال تعالى ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )(التوبة 124 )
وقال تعالى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا )(مريم 76)(1/80)
وقال تعالى ( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا )(الإسراء 109) والهدى والخشوع من الإيمان .
و أما النقصان فمصرح به في السنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... )(1) وهذا النقص لا تحاسب عليه المرأة , لأنها مأمورة بترك الصلاة والصيام وقت الحيض , وقوله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده , فان لم يستطع فبلسانه , فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان )(2)
وقد جاءت آثار عن الصحابة الصريحة في أن الإيمان يزيد وينقص , فعن عمير بن حبيب الخطمي انه قال : الإيمان يزيد وينقص . قيل وما زيادته ونقصانه ؟ قال إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا و نسينا فذلك نقصانه .
و في هذا الباب ورد عنهم وعن السلف عموما آثار كثيرة , بل هو محل الإجماع و موضع اتفاق
( بطاعته ينمي ) أي أن الإيمان يزيد بطاعة الله , يقال : نم ينمي نميا ونماء , أي: زاد وكثر , وفي نسخة : ( بطاعته ينمو ) وهو بمعناه يقال : نما ينمو نموا , أي : زاد وكثر. قال في اللسان : + نمي : النماء: الزيادة. نمي ينمي نميا ونماء: زاد وكثر,وربما قالوا ينمو نموا "(3) .
( و في الوزن يرجح ) أي انه في الميزان يوم القيامة يثقل , لزيادته بالطاعات و البعد عن معاصيه .
وفي هذين البيتين بين الناظم أمرين حول عقيدة أهل السنه في الإيمان هما :
1ـ أن الإيمان قول وعمل .
2ـ انه يزيد وينقص .
فالأول فيه رد على المرجئة , والثاني فيه رد على المرجئة وكذلك على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون أن الإيمان شيء واحد , لا يزيد ولا ينقص , والذي افسد على جميع هؤلاء دينهم هو اعتقادهم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ , إذا ذهب بعضه ذهب كله .(1/81)
ثم أن الإيمان يزيد بأمور ينبغي على المسلم أن يحرص عليها ليزداد إيمانه منها: تدبر القران , و معرفة أسماء الله وصفاته , والتفكر في آيات الله و مخلوقاته , ودراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم , وسير الأخبار من المؤمنين , والاجتهاد في فعل الطاعات , وينقص بأمر ينبغي على المسلم أن يحذرها ليسلم إيمانه منها : اتباع خطوات الشياطين , و طاعة النفس الأمارة بالسوء, والافتتان بالدنيا ومخالطة أهل الشر والفساد , والغفلة والإعراض , والانسياق وراء الشهوات .
والمسلم العاقل ينصح لنفسه في إيمانه لتثقل به موازينه يوم لقاء الله عز وجل ( ...فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(الأعراف 8) .
والناظم رحمه الله يشير إلى. هذا المعنى عندما قال ( وفي الوزن يرجح ) .
ــــــــــــــــــــــ
1- البخاري برقم 304 , ومسلم برقم 79
2- مسلم برقم 49
3- لسان العرب لابن منظور 8/4551
31- ودعْ عَنْكَ آراءَ الرجالِ وقَوْلَهُمْ *** فقولُ رسولِ اللهِ أزكَى وأَشْرحُ
( ودع ) أي : اترك , و احذر, واجتنب .
( آراء الرجال وقولهم ) أي لا تبن دينك وعقيدتك على الآراء المتلفة والأقوال المحدثة بل ابنها على الكتاب و السنة ففيهما السلامة والعصمة , وقد جاء عن السلف رحمه الله نقول كثيرة في التحذير من الآراء و ذم الرأي و أهله , من لك قول عمر - رضي الله عنه - ( إياكم و أصحاب الرأي , فانهم أعداء الدين , أعيتهم السنة أن يحفظوها فاعملوا عقولهم )(1)
وقال علي - رضي الله عنه - ( لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره)(2)(1/82)
والمراد بالرأي هنا أي الرأي المذموم القائم علي الحدس والظن والعقل والمجرد مع التعطيل النصوص وإهمالها والصدود عنها الإعراض , وهو الرأي الذي أحدثت به البدع , وأنشأت به الضلالات , وعطلت به الأسماء والصفات , فمثل هذه الآراء العاطلة والتقريرات الباطنة لا ينبغي لمسلم أن يرعيها باله , بل الواجب أن تطرح وان يحذر منها وان لا يغتر بتزين أهل الباطل لها.
يقول الأوزاعي رحمه الله ( عليك بالأثر وان رفضك الناس وإياك و آراء الرجال وان زخرفوه لك بالقول , فان الأمر ينجلي وأنت علي طريق مستقيم ).
قوله ( آراء الرجال ) ذكر الرجال هنا لا مفهوم له , فالرأي الباطل مذموم سواء كان من الرجال أو النساء , ولكن ذكر الرجال , لأنهم أصحاب الرأي في الغالب .
( فقول رسول الله) أي الصحيح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم .
( أزكى) أي : اطهر و أنقى واخلص , وفي بعض النسخ ( أولى ) أي : بالأخذ والتقدم .
( واشرح ) أي للصدر والفؤاد والقلب وادعي للطمأنينة . والناس يوم القيامة لا يسألون إلا عن ذلك كما قال تعالى ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )(القصص65) فلا يسألون عن آراء الرجال وأقوالهم و إنما يسألون عما جاءتهم به رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه.
ـــــــــــــــــــــ
1- الدارقطني في سننه برقم 12
2- أبوداود برقم 16 , وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم 162
32- ولا تَكُ مِن قوْمٍ تلهوْا بدينِهِمْ *** فَتَطْعَنَ في أهلِ الحَديثِ وتقدحُ
قوله( ولاتك من قوم... ) الخ(1/83)
هذا البيت في غاية التناسق مع الذي قبله حيث أشاد النظم في البيت الأول ضمنا بحملة السنة ونقله الحديث من الصحابة والتابعين و من بعدهم فهؤلاء هم خير الناس و أفضلهم , فليس عندهم آراء منطقية ولا فلسفات عقلية ولا أقوال متكلفة , إنما الذي عندهم تمسك بالنصوص والتزام السنة النبوية , ثم حذر في هذا البيت من طريق أهل اللهو الباطل الذين يطعنون في هذا الأئمة والأفذاذ العلماء والأمجاد فقال :
( ولا تك ) أي احذر أن تكون يا صاحب السنة ويا من هداك الله إلى لزم هدي خير الأمة .
( من قوم تلهوا بدينهم ) أي ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا . وهذا شامل لأهل البد ع والأهواء
و أهل الفسق والفجور , فان الجميع يشتركون في ذلك بين مقل و مستكثر بسبب جهلهم بالسنة , ومن جهل شيئا عاداه .
( فتطعن في أهل الحديث وتقدح ) وهذه نتيجة اتخاذ الدين لهوا ولعبا: السخرية بأهل الحق والتهكم بالمتمسكين بالسنة والواقعية في أهل الخير والفضل والنبل , وهذه هي حيلة المفاليس في كل زمان واوان .
قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ )(المطففين 29-31) .
ولو كان القوم أهل حق وحجة لنافحوا عنه بالبرهان ولقابلوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل,
ولكن لا حيلة لعاطل المفلس إلا التهكم والسخرية والاستهزاء , ومن علامات أهل الأهواء والبدع الوقيعة في أهل الحديث والأثر. وهذا من اعظم العقوق واشد اللوم , إذ أهل الحديث لم يأت منهم إلا الأيادي البيضاء والجميل والإحسان .
قال بعض أهل العلم في بيان أهل الحديث وبيان بعض مآثرهم ومناقبهم .
جزى الله أصحاب الحديث مثوبة ** وبواهم في الخلد أعلى المنازل
فلولا اعتناهم بالحديث وحفظه **** ونفيهم عنه ضروب الأباطل
و إنفاقهم اعمارهم في طلابه ***** وبحبهم عنه بجد مواصل(1/84)
لما كان يدري من غدا متفقها **** صحيح حديث من سقيم وباطل
ولم يستبن ما كان في الذكر مجملا *ولم ندري فرضا من عموم النوافل
لقد بذلوا فيه نفوسا نفيسة ****** وباعوا بالحظ اجل كل عاجل
فحبهم فرض على كل مسلم *****وليس يعاديهم سوى كل جاهل
نسأل الله أن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء, وان يرفع درجاتهم في عليين , وان يجعل لهم لسان صدق في الآخرين , وان يغفر لنا ولهم أجمعين .
33- إِذَا مَا اعْتقدْت الدهْرَ يا صَاحِ هذهِ *** فأَنْت عَلَى خَيْرٍ تبيتُ وتُصْبِحُ
لما أنها الناظم منظومته وقد جمع فيه أهل أصول عقيدة أهل السنة , ختم بهذا البيت , ليؤكد فيه على أهمية هذا المعتقد , وأهمية المحافظة علية.
فقوله ( إذا ما اعتقدت الدهر... الخ ) أي : إذا كنت يا صاحبي على هذه العقيدة المأخوذة من كتاب الله وسنه رسوله صلى الله علية وسلم , ومن أهلها المتمسكين بها , المحافظين عليها فأنت على خير ما بقيت على هذا المعتقد .
( إذا ) أداة لشرط لا يستقبل من الزمان , وما ( ما ) زائدة .
( اعتقدت ) الاعتقاد مأخوذ من العقد , وهو الربط , لان أمور العقيدة لابد من ربط القلب عليها بحيث يكون الإيمان بها جازما بلا شك ولا ارتياب , فان وجد الشك والريب فما ثم عقيدة . قال الله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) (الحجرات 15 ) أي : أيقنوا ولم يشكوا .
( الدهر ) أي مدة حياتك وطول عمرك, وفي هذا أن المعتقد لا ينفع إلا إذا بقي عليه العبد إلى أن يتوفاه الله , كما قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (آل عمران 102 ) وقال صلى الله علية وسلم في الدعاء للميت ( اللهم من أحييته منا فاحيه على الإسلام , ومن توفيته من فتوفه على الإيمان).(1)(1/85)
( يا صاح ) مرخم صاحب , أي: يا صاحبي , وهذا من لطف الناظم رحمه الله وحسن تودده وكريم نصحه رحمه الله وغفر له وجزاه خير الجزاء و أوفره .
( هذه ) الإشارة هنا إلى الأصول العظيمة المذكورة في هذه المنظومة , وهي أصول جليلة مبنية على الكتاب والسنة , من تمسك به ونجا ومن انحرف عنها كان من الهالكين .
( فأنت) أي : كائن. وهو واقع في جواب الشرط .
( على خير تبيت وتصبح ) وفي نسخة ( تمسي وتصبح ) أي ما دمت على هذه الأصول مقيما . وبها متمسكا فصباحك ومساؤك نومك واستيقاظك كله في خير وعلى خير . وفي هذا إشارة إلى أن المعتقد الصحيح يورث السلامة والخير في كل حال, ويثمر العواقب الحميدة والخير المستمر وحسن المآل , ويدعو إلى الطاعات الصالحة والأخلاق الحميدة والآداب الكريمة وخير الأعمال .
وفي هذا أيضا دعوة إلى الثبات على هذا المعتقد الحق والحذر من التلون وتنقل كما هو الحال عند أهل الأهواء . أما أهل السنة فعقيدتهم ثابتة وإيمانهم راسخ ويقينهم مستمر بتوفيق من الله عز وجل . ثبتنا الله جميعا على الإيمان ورزقنا حسن الختام .
وبهذا انهي رحمه الله هذه المنظومة , وهي على وجازتها حوت اصل المعتقد , أسس الإيمان , وما لم يذكر فيها يدل عليه ما ذكر, والله اعلم , وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما مزيدا .
*ملاحظة : هذه بعض التعليقات الأخيرة للشيخ حفظه الله على هذه القصيدة
الخاتمة
وفيها التنبيه على أمرين :
الأول : عدد أبيات هذه المنظومة ثلاثة وثلاثون بيتاً فقط , رواها عنه غير واحد من تلاميذه دون زيادة على ذلك منهم :(1/86)
1- الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين : قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء وفي العلو ( أنشدنا أبو العباس أحمد بن عبدالحميد , قال : أنشدنا الإمام أبو محمد بن قدامة سنة ثمان عشرة وست مائة , أخبرتنا فاطمة بنت علي الوقاياتي أخبرنا علي بن بيان , أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري حدثنا أبو حفص بن شاهين أنشدنا أبوبكر بن أبي داود لنفسه هذه القصيدة وجعلها محنته )(1) وذكر الأبيات .
2- الإمام أبوبكر بن محمد بن الحسين الآجري : قال رحمه الله في كتابه الشريعة ( أملى علينا أبوبكر ابن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة خمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاثمائة ... )(2) وذكر الأبيات
3- عبيد الله الفقيه : قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة ( أنبأنا علي المحدث عن عبيد الله الفقيه قال : أنشدنا أبوبكر ابن أبي داود من حفظه لنفسه )(3) وذكر الأبيات .
4- أبوبكر احمد بن ابراهيم : قال أبوالحسن علي بن محمد المعافري المالقي في كتابه الحدائق الغناء ( قرأت علي أبي الحسين أحمد بن حمزة بن علي بن الحسن بدمشق عن أبي العز أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن كادش السلمي العكبري قال : أخبرنا أبوطالب محمد بن علي بن الفتح االعشاري قال : أنشدنا أبو بكر أحمد بن ابراهيم قال : أنشدنا أبوبكر بن عبدالله بن سليمان بن الأشعث لنفسه في السنة رحمه الله .. )(4) وذكر الأبيات
ولم يزد جميع هؤلاء فيما ذكروه من أبيات هذه المنظومة على ثلاثة وثلاثين بيتاً .
وقد جاء في آخر كتاب السنة لابن شاهين(5) بعد نهاية الكتاب - وهو من لحق بعض النساخ - إيرادٌ لهذه المنظومة مع زيادة سبعة أبيات بعد الأبيات المتعلقة بالعشرة المبشرين بالجنة , فأصبح مجموع أبيات المنظومة بهذه الزيادة أربعين بيتاً .
والأبيات المزيدة هي .
وسبطي رسول الله وابني خديجة *** وفاطمة ذات النقا أمدح
وعائش أم المؤنين وخالنا *** معاوية أكرم به ثم امنح(1/87)
وأنصاره والمهاجرون ديارهم **** بنصرتهم عن كبة النار زحزحوا
ومن بعدهم فالتابعون لحسن ما *** حذوا فعلهم قولاً وفعلاً فأفلحوا
ومالك والثوري ثم أخوهم **** أبوعمرو الأوزاعي ذاك المسبح
ومن بعدهم فالشافعي وأحمد *** إماما هدى من يتبع الحق يفصح
أولئك قوم قد عفا الله عنهم * وأرضاهم فأحبهم فإنك تفلح
ولاشك في أن هذه الأبيات المزيدة ليست لابن أبي داود رحمه الله , إذ جميع من رووا القصيدة من تلاميذه لم يذكروا هذه الزيادة , ومن بينهم ابن شاهين رحمه الله كما تقدم في رواية الذهبي للمنظومة من طريقه ولي س فيها هذه الزيادة , مِما يدل على أنها زيدت في القصيدة بعدُ .
ثم وَجدت أن ثلاثة من هذه الأبيات قد زادها ابن البناء رحمه الله كما نبه على ذلك السفاريني في شرحه لهذه المنظومة . قال رحمه الله في كتابه لوائح الأنوار السنية
( هذه الثلاثة أبيات وأولها قوله : وعائش أم المؤمنين , وثانيها : وأنصاره والمهاجرون ديارهم , وثالثها : ومن بعدهم والتابعون ... ليست من كلام الناظم الذي هو الإمام الحافظ أبوكر ابن أبي داود بل من كلام العلامة المحقق ابن البناء من أئمة علمائنا )(6) .
وعلى هذا فتبقى أربعة أبيات مزيدة على النظم ولا يُدرى من زادها , لكننا نقطع أنها ليست لابن أبي داود رحمه الله تعالى , ولا تصح نسبتها إليه .
أما معاني هذه الأبيات فلا شك في حسنها وأهميتها , على ضعف تراكيبها وأوزانها , حتى أن القارئ لها ليدرك بمجرد قراءتها أنها مقحمة مزيدة .
الثاني : ابن أبي داود صاحب هذا النظم إمام من أئمة السلف وعلم من أعلام الأمة مشهود له بالفضل والعلم , وبل كان رحمه الله من بحور العلم وأوعية السنة وحفاظ الحديث . وقد سبق أن أشرت في صدر هذا الشرح إلى طرف من النقول عن بعض الأئمة في الثناء عليه وبيان إمامته وفضله وحفظه وإتقانه .(1/88)
ورأيت هنا أن من المناسب الإشارة إلى بعض ما قيل فيه بغير حق سواء مِما ثبت عن قائله أو لم يثبت , لتبرئة ساحة هذا الإمام والدفاع عنه , فإن مِما يُتقرب به إلى الله عزوجل الذب عن أعراض علماء المسلمين وتبرئتهم مِما يُنسب إليهم زورا وباطلا أو على وجهه الصحيح , ونسأل الله أن يبارك في جميع علمائنا المتقدمين منهم والمتأخرين وأن يجزيهم خير الجزاء وأوفره .
وأهم ما وقفت عليه منسوباً إلى ابن أبي داود أمران :
أولا : نسبة الكذب إليه , وهي نسبة لا تصح ولا تثبت .
قال ابن عدي ( حدثنا علي بن عبدالله الداهري سمعت أحمد بن محمد ابن عمر بن كركرة سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت أبا داود يقول : ابني عبدالله كذاب . قال ابن صاعد كفانا ما قال أبوه فيه )(7)
وهذا إسناد غير ثابت . قال المعلمي رحمه الله ( الداهري وابن كركرة لم أجد لهما ذكراً في غير هذا الموضع , وقول ابن صاعد + ما قال أبوه فيه " إن أراد هذه الكلمة فإن كانت بلغته بهذا السند فلا تعلمه ثابتاً , وإن كان له مستند آخر فما هو , وإن كان أراد كلمة فما هي )(8) .
قال ابن عدي ( ولولا شرطنا لما ذكرته(9) ... وهو معروف بالطلب , وعامة ما كتبه مع أبيه , وهو مقبول عند أصحاب الحديث , وأما كلام أبيه فما أدري أيش تبين له منه)(10)
هذا إن ثبت , وثبوته محل نظر كما تقدم , وقد شكك الحافظ الذهبي في ثبوت هذا , وأشار إلى بعض المحامل التي يمكن أن يُحمل عليها إن صح .
قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ ( أما قول أبيه فيه فالظاهر أنه إن صح عنه فقد عنى أنه كذاب في كلامه لا في الحديث النبوي , وكأنه قال هذا وعبدالله شاب طري ثم كبر وساد)(11)(1/89)
قال في سير أعلام البنلاء ( قلت : لعل قول أبيه فيه إن صح أراد الكذب في لهجته لا في الحديث فإنه حجة فيما ينقله , أو كان يكذب ويُوُري في كلامه , ومن زعم أنه لا يكذب أبداً فهو أرعن . نسأل الله السلامة من عثرة الشباب , ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى )(12) .
وذكره رحمه الله في كتباه الميزان قال ( إنما ذكرته لأنزهه )(13)
وخلاصة القول : أنه نسبة هذا إليه محل نظر بل ليس عليه مسند صحيح , وإن ثبت فهو محمول على أمور لعلها كانت منه كانت في مرحلة الشباب في حديثه وكلامه الخاص , لا فيما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شأنه أجل وقدره أنبل من ذلك . بل هو معدود عند أهل العلم في كبار الحفاظ ومن الأئمة العدول الثقات . فمن حاول لمزه بهذا فإنه يُزري على نفسه , لا سيما إن كان مبنيا على الهوى والشنآن والباطل , وقد مر معنا قوله رحمه الله في منظومته السنية :
ولا تكُ من قومٍ تلهوا بدينهم *** فتطعن في أهل الحديث وتقدح
ثانيا : نُسب إليه رحمه الله شيءٌُ من النصب
والمراد بالنصاب أي : نصب العداء لآل النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يثبت عنه رحمه الله شيءٌ من ذلك , بل ثبت عنه ضد ذلك ونقيضه , وهو ولاء آل البيت ومحبتهم والثناء عليهم وذكر فضائلهم ومآثرهم . بل لم يتحقق في ترجتمه من الذي نسبه إلى النصب وما حجته على ذلك , إلا أن هذه التهمة أُلتصقت به في حياته رحمه الله وبرأ نفسه منها ولم يجعل من رماه به في حل .
قال أحمد بن يوسف بن الأزرق ( سمعت أبا بكر ابن أبي داود غير مرةٍ يقول : كل من بيني وبينه شيء أو قال : كل من ذكرني بشيء فهو في حِل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب )(14)
وخير شاهد ودليل على سلامته من هذه التهمة قصيدته هذه التي بين أيدينا , والتي أن فيها عقيدة أهل السنة والجماعة , فقد قال بعد أن ذكر الخلفاء الثلاثة :
ورابعهم خير البرية بعدهم *** علي حليف الخير بالخير منجح(1/90)
وقد جاء عنه أنه قال في تمام هذه القصيدة ( هذا قولي , وقول أبي , وقول أحمد بن حنبل رجمه الله , وقول من أدركنا من أهل العلم , وقول من لم ندرك من أهل العلم مِمن بلغنا قوله , فمن قال عليًّ غري ذلك فقد كذب ) .
وعلى كلٍّ فقد أطبق العلماء على إمامة ابن أبي داود وفضله وتوثيقه والاحتجاج به وعده من أئمة السلف الأجلاء ومن العلماء الثقات النبلاء , فلم يبق أي معنى للطعن فيه أو التقليل من شأنه وقدره ونبله , وللإمام المعلميرحمه الله كلام نفيس وتحقيق متين في تبرئة ابن أبي داود مما نُسب إليه من النصب وغيره , أجاد فيه وأفاد , وأحسن الدفاع عن هذا الإمام الجليل والذب عنه(15) , فجزاه الله خيراً على نصحه ودفاعه عنه وعن غيره من أئمة المسلمين , ورحم الله ابن أبي داود وغفر له ولجميع علماء المسلمين وللمسلمين والمسلمات والمؤنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه هو الغفور الرحيم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــ
1- سير أعلام النبلاء 13/223 , والعلو 2/1220
2- الشريعة 5/2563
3- -طبقات الحنابلة 2/53
4- الحدائق الغناء ص176
5- انظر الكتاب اللطيف لشرح مذهب أهل السنة ص255
6- لوائح الأنوار السنية 2/105
7- الكامل في ضعفاء الرجال 4/265-266
8- التنكيل للمعمي 1/298
9- أي لولا شرطه في كتابه من أن يذكر كل من تكلم فيه وإن كان الكلام غير قادح
10- الكامل في ضعفاء الرجال 4/266
11- تذكرة الحافظ 2/772
12- سير أعلام النبلاء 13/231
13- ميزان الاعتدال 4/116
14- تاريخ بغداد 9/468
15- انظر : التنكل للمعلمي 1/297-305
تم تفريغ الشرح بواسطة الاخ الكريم العوضي .
تم تنسيق الشرح بواسطة ابن عبد الوهاب السالمي .
عف الله عنهما وغفر الله لهما ولوالديهم وللمسلمين اجمعين.(1/91)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ثم أما بعد :
منّ الله عليّ بحضور الدورة العلمية للشيخ عبد الكريم الخضير والمقامة في الصيف الماضي والتي تناول فيها الشيخ شرحاً لحائية ابن أبي داود العقدية فأنهاها ومنظومة الزمزمي في التفسير فأنهاها وشرح جزء من ألفية العراقي حوالي مئة وخمسون بيتا وشرح أغلب متن مجمع الأصول لابن عبد الهادي وتناول جزء يسير من المؤطا . وكانت مدة الدورة ثلاثة أسابيع .
بدأ شرح الحائية في السبت 3 / 6 / 1426هـ
وانتهى منها في الثلاثاء 6 / 6 / 1426هـ
والمكان كان بجامع محمد بن عبدالوهاب بحي السلام في الرياض .
وكان عدد الجلسات ( خمس جلسات )
** وأحببت أن أضع بعض الفوائد من شرح هذه الحائية . ليعم بها النفع والله ولي التوفيق .
قال الشيخ عبد الكريم عفا الله عنه :
* المؤلفات في علم العقيدة قد كثرت وتنوعت فمنها المطول ومنها المختصر ومنها ما كتب بأسانيد ومنها ما جرد عن الأسانيد استنباطاً من النصوص ومنها المتون المختصرة ومنها الحواشي والشروح ومنها ما جاء نظماً ومنها ما جاء نثراً .
ومن هذه المنظومات الحائية المباركة : هذه محل عناية منذ تأليفها إلى وقتنا ثتبت بطريق قطعي عن المؤلف بحيث أخذها عنه طلابه وهذه الحائية لأهميتها قرأها الشيوخ وأقرؤوها الطلاب وحفظوها وشرحوها للطلاب بشروح مسموعة ومقروءة وكثير من الشروح لم يصل إلينا ولم يصل إلينا إلى لوائح الأنوار مطبوع بجزئين للسفاريني وشرح عبد الرزاق البدر وهو أسلوب نافع ميسر وشيوخنا لهم عناية بالحائية ومسجلة .
• هذه الحائية 33 بيتاً وزيد عليها أبيات .(8/1)
• هذه الحائية لها نسخ كثيرة وأما طباعتها فقد طبعت في مطبعة الترقي سنة 1350هـ قبل 76 سنة ضمن مجموع يشمل نجاة الخلف في اعتقاد السلف لعثمان النجدي وعقيدة السفاريني والحائية . وطبعت أيضاً ضمن مجموع يضم إضافة إلى الحائية عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني وذم التأويل لابن قدامة وعقيدة أبي الحسن الأشعري وغيرها في مطبعة المنار 1351هـ بمصر .
# صا حب الحائية : هو ابن أبي داود صاحب السنن وذكر من إنصاف المحدثين أن أبي دواد رمى ابنه بالكذب وعلي المديني ضعف أباه والإمام أبي بكر ابن أبي داود بالنسبة للكذب بالحديث فهو منه بريء وإمامته وعلمه وورعه يرد هذه التهمة ولا يمكن صحة قول أبي داود ولكن يحمل انه كذب عليه في كلامه العادي مرة أو مرتين وقد يكون من غير قصد ولا بد أن يقع من الإنسان التعريض أو في الأمور اليسيرة أو الأمور التي تختلف فيها وجهات النظر فمثل هذا يدرؤ عنه الكذب وإلا فهو إمام محدث وسمع الحديث وهو صغير ولد سنة 230هـ وتوفي سنة 316هـ تأخر عن النسائي قليلاً في طبقة ابن خزيمة والطبري ونظرائه .
* هذه المنظومة ماتعة نافعة ومحل عناية ومحط اهتمام .
***** بداية الشرح *******
(( قال الناظم : بسم الله الرحمن الرحيم ))
ابتدأ الناظم منظومته بالبسملة اقتداءً بالقرآن الكريم وخلت عن الحمدلة لشدة اختصارها ولأنها مختصرة جداً
لا يوجد في كتب أهل العلم إلا وفيها البسملة إلا على رأي الشعبي أنه لا ينبغي كتب البسملة في أول الشعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون وجاء في الحديث (( لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً يريه خيراً من أن يمتلأ شعرا )) والمقرر عند أهل العلم أن الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح وهذا من الحسن .
والباقي يأتي لاحقا ،،،
قال الناظم :
1- تمسك بحبل الله واتبع الهدى *** ولا تك بدعياً لعلك تفلح
قال الشيخ وفقه الله :
تمسك : أمر(8/2)
حبل الله : أي المتين الذي هو الكتاب القرآن الذي تركه النبي لأمته وأخبر أنه لن يضلوا إذا اعتصموا به قال تعالى (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ))
الهدى : السنة
* تمسك هذا أمر هل نقول إلزام أم التماس ؟
هذا إلزام من الله جل جلاله وفي خطبه ينبه كما جاء في صحيح مسلم أنه يقول : (( أما بعد : فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد )) فينبه على المصدرين الأساسين للدين ولا ثالث لهما يستقل بنفسه
فائدة : القرآن مستقل والسنة مبينة وموضحة للقرآن على أن فيها أحكام زائدة عن القرآن وكلٌ من القرآن والسنة وحي أما القرآن فواضح أما السنة الدليل على أنها وحي قوله تعالى (( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ))
فائدة : الهدى ينقسم إلى قسمين :
الأول : من الهدى ما يملكه إلا الله تعالى .
الثاني : ومنه ما يملكه النبي ومن تبعه وسار على هديه من دعاة الحق .
فالهداية الخاصة بالله هي هداية التوفيق والقبول وجاء نفيها عن أكمل الخلق (( إنك لا تهدي من أحببت ))
أما الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد قال تعالى (( وإنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) وقوله تعالى (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ))
فالأول خاص بالله والثاني الله يوفق ويجعل النفس تذعن وتقبل .
ولا تك : تحذف النون أصلها ولا تكن .
بدعياً : البدعي المنسوب إلى البدعة
والبدعة في الأصل وفي اللغة : ما عمل على غير مثال سابق
وفي اصطلاح عند أهل العلم : العمل الذي يتدين به مما لم يسبق له شرعية من الكتاب أو السنة .
• من أهل العلم من قسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة .
• ومنهم من قسمها على الأحكام التكليفية فقال (( بدع واجبة ، مكروهة ، محرمة ، مستحبة ، مباحة ))
$ المكروهة والمحرمة لا إشكال فيها .
لكن هل نقول هناك بدع مباحة والنبي يقول : (( وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) فهذا تناقض وجمع للنقيضين .(8/3)
والإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام رد هذا التقسيم وقوض دعائمه وبين أنه أمر مبتدع ومذموم .
. قالوا الرد على المخالفين واجب وهو أمر مبتدع وبناء المدارس مبتدع لكنه مستحب أما المباحة فالتوسع في المأكولات والمشروبات والمكروهة والمحرمة مثلوا لها بأمثلة مقبولة .
ولكن نقول : القرآن الكريم فيه الرد على المخالفين وكذلك السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم والرد على المخالفين من الجهاد وقد قال النبي (( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) .
فكيف يقال الرد على المخالفين بدعة ؟
أما البدع المستحبة كبناء المدارس فنقول هناك قاعدة : (( الوسائل لها أحكام الغايات )) وهي قاعدة شرعية وهي قاعدة مستلة من النصوص وما لا يتم المستحب إلا به فمستحب .
* من أقوى أدلتهم :
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح (( نعمة البدعة هذه والتي ينامون عنها خير من الذي يقومون ))
قالوا : ما دام عمر قال نعمة البدعة فهناك من البدع ما يمدح وضدها بئس اللتي للذم .
شيخ الإسلام يقول في اقتضاء الصراط المستقيم : هذه بدعة لغوية .
والشاطبي يقول هذا مجاز وهو استعمال اللفظ في غير محله .
والذي عندي : أنه لا هذا ولا هذا أما المجاز فكما قررناه سابقاً أنه لا مجاز - يقصد في شرح منظومة الزمزي - أما قول شيخ الإسلام أنه ما عمل على غير مثال سابق لا ينطبق عليه التعريف فقد صلى الرسول صلاة التراويح 3 أيام ثم تركها خشية أن تفرض عليهم في وقت التشريع فلم يخرج عليهم في اليوم الرابع أو الثالث على اختلاف الروايات خشية افتراضها عليهم .
فالمشروعية باقية لها أصل سابق من فعله فليست بدعة لغوية فضلاً عن أن تكون بدعة شرعية .
إذا لم تكن هذه ولا هذه وعمر من أهل اللسان فما نوجه كلامه ؟
نقول في علم البديع ما يسمى (( المشاكلة )) المجانسة في التعبير يطلق اللفظ ولا يراد به إلا جنس لفظ الآخر حقيقة أو تقديراً(8/4)
فقوله تعالى (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) السيئة الأولى سيئة وجناية ومجازاة الثاني حسنة وليست سيئة وأطلق عليها سيئة من باب المشاكلة وهذا موجود في النصوص ولغة العرب :
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه *** قال اطبخوا لي جبة وقميصا
وعلى هذا يحمل قول عمر
ولعله يكون أحد قال له ابتدعت يا عمر فقال (( نعمة البدعة هذه ))
بدعي : نسبة إلى البدعي ومقابله السني المنتسب للسنة
وذم الابتداع جاء ذمه عن أهل الدين وأئمة السلف والمبتدع له معاملة خاصة قال القحطاني في نونيته :
لا تلق مبتدعاً ولا متزندقا **** إلا بعبسة مالك الغضبان
لأن المخالفة في الاتباع أعظم من المخالفة في الشهوات فالشبهة أشد من الشهوة هذا بالنسبة إجمالاً .
البدعة أشد من الذنوب عند أهل العلم لكن يوجد من الذنوب ما هو أشد من بعض البدع وأهل العلم يقولون أن توبة العاصي قريبة وتوبة المبتدع قليلة ولا يعرض نفسه للتوبة لأنه يسول له الشيطان أنه على حق لأن مقالته مبنية على شبهة لوثت تفكيره وأبعدته عن سماع الحق واتباعه .
* بعض الفرق شاع واشتهر أن الأمل فيهم ضعيف وبعضهم فيه الأمل وأنا أرى أن الذي أشاع هذه المقولات هو من شيوخهم المرتزقة والضالين لئلا يدعى أحد من فرقتهم .
لعلك : حرف ترجي .
تفلح : إذا تمسكت بحبل الله واتبعت الهدى ولم تك بدعيا تفلح
والفلاح : كلمة جامعة تجمع بين خيري الدنيا والآخرة ولا يوجد كلمة جامعة في لغة العرب تقوم مقامها . وهذا اللفظ الفلاح مرتب على أوصاف فتطبق هذه الأوصاف كما قالوا في النصيحة لا يوجد كلمة تقوم مقامها .
قال الناظم :
2- ودن بكتاب الله والسنن اللتي * أتت عن رسول الله تنجو وتربح
قال الشيخ وفقه الله :
أعقب بالمصدر الذي نأخذ منه العقائد
دن : أمر من الديانة يعني تدين تعبد بكتاب الله. تعبد على ضوء الكتاب والسنة يعني مثل ما قال تمسك بحل الله واتبع الهدى .(8/5)
وهذه هي المصادر فقط وما يذكر من القياس والإجماع وغيرها فكلها مردها إلى القرآن والسنة فالإجماع لا بد أن يستند إلى دليل من القرآن أو السنة ولا يوجد مصدر ثالث كما يقول المعتزلة لا عقل ولا منطق ولا مقدمات كلامية ومنطقية كما فعل أهل الكلام وغيرهم
العلم قال الله قال رسوله ** قال الصحابة هم أولو العرفان
والسنن اللتي أتت : فلا يتدين بشيء ولو جاء عن الرسول ما لم يكن ثابتاً والثبوت يكون بطرق صحيحة أو حسنة والسنة آحادها ومتواترها كلها يوجب العمل بها في جميع أبواب الدين ويشتمل كل ما ثبت عن الرسول سواءً في الصحيحين أو غيرهما والفئة الذين زعموا أنهم القرآنيين هؤلاء ضالين لأن القرآن جاء بطاعة الرسول وهناك فئة اقتصرت على القرآن والصحيحين وهناك مؤلف اسمه (( تيسير الوحيين في الاقتصار على القرآن والصحيحين )) فالتدين على هذه الطريقة ناقص لأنه قد يكون ما هو خارج الصحيحين ناسخ أو مقيد أو مخصص وغيرها ،،
تنجو : هذا جواب الطلب والأصل في جواب الطلب كونه مجزوماً وما عطف عليه لأنه إما يكون جواب طلب أو جواب شرط مقدر هنا كلها مضومة (( تنجو ، تربحُ )) وهنا يحمل على أنه إشباع .
قال الناظم :
3- وقل غير مخلوق كلام مليكنا * بذلك دان الأنقياء وأفصحوا
ملاحظة : الطبعات
طبعةالدمشقية عام 1350
طبعة المنار محمد رشيد رضا عام 1351 .
طبعة الحديثة في كتاب د. عبد الرزاق البدر .
قال الشيخ وفقه الله :
في نسخة المنار ( الأولياء ) بدل الأتقياء وأشار محمد رشيد رضا وعلق عليها في نسخة الأتقياء مما يدل أن الأصل الذي اعتمده الأولياء .
وقل : هذا أمر والأمر من المخلوق ويقصد امتثال أمر الخالق لا أمر المخلوق لأنه يتحدث بلسان الشرع .
مليكنا : كلام الله غير مخلوق الذي هو القرآن وهذا معتقد أهل السنة والجماعة خلافاً لمن يقول مخلوق كالجهمية والمعتزلة سواءً صراحة او ما يؤول إليه كالأشعرية والماتريدية .(8/6)
كلام مليكنا : إضافة الصفة إلى الموصوف والإضافة تقتضي التشريف
والمعتزلة يقولون كل ما يضاف إلى الله مخلوق سواء كان صفة أو مضاف فيجعلون كلام الله مثل ناقة لأنه من إضافة المخلوق إلى خالقه .
وأهل الحلول والاتحاد يرون العكس فيرون كل صفة مضافة إلى موصوف فهو صفة ليصلوا إلى مرادهم الضال أن الله متصف في كل خلقه فيجعلون الخالق كالمخلوق .
وأهل السنة والجماعة وسط يقولون منها إضافة وصف من الأمور التي لا تستقل بذاتها ومنها ما هو مخلوق ذات تستقل بنفسها .
مليكنا : المليك صيغة مبالغة هل ورد اسم المليك في القرآن ؟
نعم في قوله تعالى (( في مقعد صدق عند مليك مقتدر )) وفي السنة (( رب كل شيء ومليكه ))
دان : تعبدوا ودانوا وردوا على المخالفين ووضعوه في مصنفاتهم .
الأتقياء : جمع تقي والتقي من اتصف بصفة التقوى التي هي فعل المأمورات وترك المحظورات . وفي نسخة الأولياء جمع ولي وهما بمعنى واحد كل تقي ولي .
قال الناظم :
4- ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً * كما قال أتباع لجهم وأسجحوا
قال الشيخ وفقه الله :
في نسخة بدل أسجحوا ( أسمحوا ) وفي نسخة رشيد رضا ( وصححوا )
لما راجت شبهة الجهمية ودعمت بالسلطة وكفّر العلماء الذين قالوا بالخلق لجأ بعض العلماء لشبهة لديهم بالوقف أي لا هو مخلوق ولا هو ليس مخلوق فهنا يقول (( الواقفية جهمية )) جاء عن بعض السلف : من وقف بالقرآن فهو جهمي .
أسجحوا : أي لانت قلوبهم لهذا القول وطابت بها ومثلها في المعنى أسمحوا .
قال النظم :
5- ولا تقل القرآن خلق قرأته *** فإن كلام الله باللفظ يوضح
قال الشيخ وفقه الله :
نسخة رشيد رضا (( قرائه )) ولا يمكن أن يستقيم بهذا المعنى .
وفي الدمشقية (( قراءةً )) وفي نسخة د. عبد الرزاق وهو كثير في النسخ المتأخرة (( قرأته ))
فالاختلاف في (( قرائه ، قرأته ، قراءةً ))
والوزن يستقيم في (( قراءةً ، وقرأته )) والمعنى واحد .(8/7)
والمقصود بهذا البيت : أنه وجد من يقول لفظي بالقرآن مخلوق ووجد من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق والفظ مصدر ويطلق ويراد به التلفظ ويطلق ويراد به الملفوظ فالمصدر يطلق ويراد به اسم المفعول مثل : الحمل ، المحمول .
" فإن كان هو الملفوظ كان هو نفس قول جهم "
" وإذا كان قصده التلفظ فاللفظ من عمل العبد والله خلقكم وما تعملون ولأن هذا اللفظ مجمل يحتاج إلى بيان فإن إطلاقه على الإجمال ممنوع ولهذا نهى عنه الناظم .
وجاء عن بعض الأئمة " من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع "
فهو موافق للمعتزلة في كلا الحالين . وعلى كل الاحتمالين اللفظ ممنوع .
ووقع الخلاف والنزاع بين الإمام البخاري والإمام محمد بن يحيى الذهلي في هذه المسألة .
كلام الله : هو الملفوظ وهو المتلو هو كلام الله سواءً حفظ في الصدور أو تلي بالألسن أو كتب في الصحف والصوت على ما يقول بعض أهل العلم الصوت صوت القاري والكلام كلام الباري .
* ابن حزم له كلام شنيع في هذه المسألة وذكره ابن القيم في النونية فمذهبه في هذه المسألة رديء وفي بعض مسائل الاعتقاد .
قال الناظم :
6- وقل يتجلى الله للخلق جهرة ** كما البدر لا يخفى وربك أوضح
قال الشيخ وفقه الله :
يتجلى : يتكشف بحيث يرى الله الخلق في الجنة يراه المؤمنون ويحجب عنه الكفار بل رؤية الله أعظم ما يتنعم به أهل الجنة .
· في الدنيا لا يرى الله ولا يطيق أحد من مخلوقاته أن يثبت أمام الباري قال تعالى (( ولما تجلى ربه للجبل جعله دكا ... الآية )) والله سبحانه كما في الحديث (( حجابه النور )) والرسول r قال (( نور أنى أراه )) والمسألة خلافية بين الصحابة منهم من يرى أنه رأى ربه ومنهم من ينفي وهو الأكثر وأقوى بالدليل وعائشة رضي الله عنها تقول من حدثكم أن الرسول r رأى ربه فقد كذب وأعظم الفرية والرسول r قال (( نور أنى أراه ))(8/8)
· والمؤمنون يرون ربهم كما يرى البدر ليلة الست بعد ثمان كما يقول ابن القيم ليس دونها سحاب .
· في الحديث الصحيح الذي سوف يشير إليه الناظم حديث جرير بن عبد الله البجلي قال كنا مع النبي r في ليلة القمر كالبدر فقال بعد أن رأوا القمر (( هل تضامون في رؤية القمر )) قالوا لا يا رسول الله فقال (( إنكم سترون ربكم ليلة البدر ... الحديث )) .وهذا متفق عليه وله طرق ونص بعضهم أنه من المتواتر . وهذا التشبيه تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيه المرئي بالمرئي فإن المشبه به لا يشترط ان يوافق المشبه في كل شيء ومن ذلك تشبيه الوحي بالجرس وهذا من وجه دون وجه .
أوضح : أوضح من رؤية البدر .
قال الناظم :
7- وليس بمولود وليس بوالد *** وليس له شبه تعالى المسبح .
قال الشيخ وفقه الله :
ارتباط هذا البيت بالذي قبله والذي بعده ما هو ؟ لأن البيت الذي قبله إثبات للرؤية والذي بعده من ينكر الرؤية .
نقول : في البيت الذي قبله قد يتوهم السامع أن فيه تشبيه فأراد أن ينفي التشبيه من وجه آخر .
المسبح : التسبيح هذا هو تنزيه الله .
قال الناظم :
8- وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا *** بمصداق ما قلنا حديث مصرح
قال الشيخ وفقه الله :
قد : تدخل على الفعل الماضي للتحقيق .
· الجهمية ينكرون رؤية الباري والذي ينكر الرؤية وهذه المسألة كفروا بسببها إضافة إلى القول بخلق القرآن .
· والذي ينفي الصفات على خطر عظيم . والذي ينكر الصفات كيف يعرف ربه عندما ينزل في غير صورته ثم يأتي بصورته فيقول عرفناك يا ربنا . فمن ينكر الصفات كيف يعرفه ؟!!!
· يشترك مع الجهمية في إنكار الرؤية المعتزلة والخوارج فالأباضية يقولون بخلق القرىن ونفي الرؤية وتداخلت المذاهب وتأثر بعضها ببعض .
مصرح : في نسخة الدمشقية (( مصحح )) وفي نسخة رشيد (( مصرِّح ))
وهو فعلاً حديث مصحح ومصرح فهو حديث صحيح صريح فهو في الصحيحين
قال الناظم :(8/9)
9- رواه جرير عن مقال محمد *** فقل مثل ما قال في ذاك تنجح
قال الشيخ وفقه الله :
جرير : صحابي جليل ويوسف هذه الأمة . وسبق الإضارة إلى الحديث .
وهويرفعه إلى النبي r فمن قدوته النبي r فنجاحه وفلاحه مضمون .
فقل : أي مثل ما قاله النبي r .
قال الناظم :
10- وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه *** وكلتا يديه بالفواضل تنفح
قال الشيخ وفقه الله :
في بعض النسخ (( تنضح )) أي الدمشقية
قد : إذا أتى بعدها ماضي تكون للتحقيق وإذا دخلت على المضارع قد تكون للتقليل أو التكثير أو التحقيق فالجهمي ينكر تحقيقاً لا ظناً وهو ليس قليل بل هو معتقده .
الجهمي : نسبة إلى الجهم بن صفوان أخذ التعطيل من الجعد بن درهم وهو إمامهم ولكن الجهم هو الذي نشر ذلك وبثه .
أيضاً : مثل ما انكر الرؤيا ينكر الصفات الذاتية والفعلية من باب أولى ذكر مثال للصفات الذاتية اليمين والمراد بها اليد في جهة اليمين وكلتا يديه يمين وورد بشماله
· وقوله r (( وكلتا يديه يمين )) لئلا يتصور أن في يد الباري الأخرى نقصاً فكلتا يديه يمين من حيث الكمال و لأن النسبة إلى الجهات أمر نسبي فما يكون من جهة اليمين يمين وعن الشمال شمال فيقال لها أخرى ويقال لها شمال فلا مانع من إطلاق الشمال مقابلة لليمين أما من حيث الكمال فكلتا يديه يمين .
· المراد إثبات اليد لله على ما يليق بجلالته وعظمته أما الجهمية والمعتزلة والأشعرية الذين ينفون أكثر الصفات فهم فروا من التشبيه فجعلوا يزعمون تنزيه الله بنفيها فينفون ما ثبت في النصوص القطعية فهم اولاً شبهوا ثم عطلوا وغابوا عن أن المخلوقات تختلف فالإنسان له يد والجمل له يد والثور له يد والكلب له يد وجميع الحيوانات لها أيدي فهذه الأيدي للحيوانات المشتركة في الخلق لا شبه بعضها بعضاً وهل وجه القرد مثل وجه الإنسان ويد الإنسان مثل يد الجمل .(8/10)
· ابن خزيمة رحمه الله يقرر إثبات صفة الوجه لله ويرد على المعطلة ورد عليهم بمثل هذا فيقول المخلوق له وجه وسائر المخلوقات لها وجوه وهل تشابهت فهذا بين المخلوقات فكيف بالتباين الذي بين الخالق والمخلوق .
· فائدة : (( ما وصلوا إلى رتبة التعطيل حتى مروا بقنطرة التشبيه )) .
· هم لا يستطيعون تأويل قوله تعالى (( لما خلقت بيديَّ )) لا يستطيعون قول : بنعمتيَّ أو بقدرتيَّ
بالفواضل : جمع فاضل وهي الأمور المحبوبة
تنفح : النفح هو الإعطاء والنضح كذلك كما في بعض النسخ
قال الناظم :
11- وقل ينزل الجبار في كل ليلة *** بلا كيف جل الواحد المتمدح
قال الشيخ وفقه الله :
· حديث النزول (( إن الله ينزل في ثلث الليل الآخر ... )) . هذا مروي عن حوالي 30 صحابياً وشيخ الإسلام أورد النصوص في جزء وهو جزء شرح حديث النزول وأجاب عن الإشكالات .
· شيخ الإسلام والذهبي قالوا الذي ينزل له صفة علو .
· من ضمن الإشكالات التي أوردوا أن ثلث الليل يختلف من بلد إلى آخر فأثبت شيخ الإسلام أن هناك جزء تتفق فيه جميع البلدان .
بلا كيف : لأنك لو تعرضت للكيفية هلكت .
والمنفي معرفة الكيف وإلا الكيف لابد منه فهو ينزل على كيف لا نعلمه . قال الإمام مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول .
جل الواحد : جل تعالى وعز .
المتمدح : الذي مدح نفسه ولا احد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه.
قال الناظم :
12- إلى طبق الدنيا يمن بفضله *** فتفرج أبواب السماء وتفتح
قال الشيخ وفقه الله :
طبق الدنيا : السماء الدنيا التي مطبقة على الأرض لأنها سقف لها .
يمن بفضله : يجود بفضله والمان هو الذي يعطي قبل السؤل يمن بالنوال قبل السؤال .
تفرج أبواب السماء وتفتح : لتصعد الكلمات الطيبة من المخلوقين وينزل الخير والبركات من الله .
قال الناظم :
13- يقول ألا مستغفر يلق غافرا *** ومستمنح خيراً ورزقاً فيمنح
قال الشيخ وفقه الله :(8/11)
ألا : تحضيض وفي الحديث (( ألا مستغفر فأغفر له ..))
في نسخة الشام (( فأمنح )) .
· ابن بطوطة في رحلته لما وصل إلى دمشق وصلى في الجامع الأموي ذكر انه رأى رجلاً كثير العلم قليل العقل يخطب على المنبر وينزل ويقول الله ينزل كنزولي هذا وهو يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا فرية بل هي عظيمة لأن ابن بطوطة عند دخوله إلى دمشق شيخ الإسلام مسجون في دمشق . ورحلة ابن بطوطة مملؤة بالمخالفات العقدية وينبغي لمن يدرس كتاب التوحيد أن يقرأ هذه الرحلة .
قال الناظم :
14- روى ذاك قوم لا يرد حديثهم *** ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
قال الشيخ وفقه الله :
ذاك : يعني النزول
قوم : من الصحابة والتابعين ومن تبعهم .
لا يرد : بل حديثهم بلغ مبلغ المتواتر الملزم للنفس بتصديقه والمتواتر يلزم التصديق عند كافة الطوائف .
خاب : خسر .
قال الناظم :
15- وقل إن خير الناس بعد محمد *** وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
قال الشيخ وفقه الله :
هذه ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة .
بعده : أي بعد النبي r في أمته وجاء ما يدل على أن هؤلاء العشرة بل الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء .
وزيراه : أبو بكر وعمر والوزير المؤازر الذي يعين الملك هذا الأصل فيه ويتحمل بعض أعباء الملك الملقاة على عاتقه وورد في فضائلهم مجتمعين ومنفردين بما لا يمكن حصرها . وألف فيها المصنفات .
قدما : أي في أول الإسلام .
ثم عثمان الأرجح : أي على غيره سوى أبو بكر وعمر فهو راجح على علي فمن دونه . ورجح بما في قلبه من إيمان .
قال الناظم :
16- ورابعهم خير البرية بعدهم *** علي حليف الخير بالخير منجح
قال الشيخ وفقه الله :
هو الرابع على قول جماهير أهل السنة وهو إجماع لمن يعتد بقوله من أهل القبلة أن أبو بكر وعمر مقدمون أما الجمهور يرجحون تقديم عثمان ومنهم من يرى تقديم علي ومنهم من يقول متساويين
البرية : الخلق .(8/12)
وعلي رضي الله عنه افترق فيه الناس كما قال القحطاني رحمه الله على طائفتين :
.......................... *** فعليه تصلى النار طائفتان
إحداهما لا ترتضيه خليفة *** والأخرى تجعله إلهاً ثاني .
حليف : موافق له ومتصف .
(( في بعض النسخ : للخير يمنح ))
قال الناظم :
17- وإنهم للرهط لا ريب فيهم *** على نجب الفردوس بالنور تسرح
قال الشيخ وفقه الله :
في بعض النسخ (( والرهط )) وكأن الواو أرجح أي وإنهم الأربعة والرهط الستة وإذا قلنا للرهط _ باللام _ خصصناه بالأربعة .
نجب : جمع نجيبة نجب من العقيان وليست من دم ولحم .
الفردوس : أعلى الجنة وسقفها عرش الرحمن .
في بعض النسخ (( بالخلد تسرح )) .
الخلد : الذي لا ينتهي .
تسرح : تذهب وتجي
قال الناظم :
18- سعيد وسعد وابن عوف وطلحة *** وعامر فهر والزبير الممدح
قال الشيخ وفقه الله :
أي هم :
1- سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل
2- سعد بن أبي وقاص .
3- عبد الرحمن بن عوف .
4- أبو عبيدة عامر بن الجراح .
5- طلحة بن عبيد الله .
6- الزبير بن العوام .
هؤلاء يقطع لهم بالجنة وبعض أهل العلم يرى أن من اتفقت الألسن على مدحه يشهد له بالجنة كالأئمة الأربعة والسفيانان لحديث (( مر بجنازة فقال وجبت وجبت ... الخ الحديث )) .
لكن هذا قول مرجوح فلا يشهد لأحد بالجنة إلا لمن شهد له النبي r .
فائدة :
في النسخة المشقية زيد :
1- وعائش أم المؤمنين وخالنا *** معاوية أكرم به ثم امنح .
هذا ترخيم يجوز تقول وعائشة .
أمَّ : منصوبة بأعني ويجوز أمٌّ بالضم على أنها وصف .
خالنا : أي ان معاوية خالنا ما دامت أن أخته أم حبيبة أم المؤمنين فيكون خالنا لأنه أخو أمنا .
2- وأنصاره والهاجرون ديارهم *** بنصرهم عن ظلمة النار زحزحوا
3- من بعدهم فالتابعون لحسن مآخذ ** وأفعالهم قولاً وفعلاً فأفلحوا
هذه الأبيات مزيدة وليست من قول ابن أبي دواد
وهي 33 بيتاً أي أبيات ابن أبي دواد وفي الشامية 36 بيتاً زيد 3 أبيات(8/13)
وزيد غيرها وليست من قول ابن أبي دواد وهي 4 أبيات :
1- وسبطي رسول الله وابني خديجة ** وفاطمة ذات النقاء امدح
2- ومالك والثوري ثم أخوهم ** أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح
3- ومن بعدهم فالشافعي وأحمد *إماما هدى من يتبع الحق ينصح
4- أولئك قوم عفا الله عنهم ** فأحببهم فإنك تفرح
قال الناظم :
19- وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تك طعاناً تعيب وتجرح
قال الشيخ وفقه الله :
أي لا تطعن في واحد منهم ولا تفضل عليهم غيرهم .
· لا يكن همك الطعن في الناس والمسلم وصفه أنه عفيف متعفف
· المزني قال بحضرة الشافعي فلان كذاب فقال له : يا إبراهيم اكس ألفاظك أحسنها .
· الإمام أحمد لما قيل له عن يزيد بن معاوية وذمه ذماً شديداً فقال له ابنه ألا تلعنه فقال : وهل عهدتك أباك لعاناً .
· البخاري يقول لمن كذبه الأئمة سكتوا عنه في حديثه نظر .
· قال ابن دقيق العيد رحمه الله : (( أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها العلماء والحكماء )) .وكلامه هذا على تأويلين : أنه يُتكلم فيهم فيقذفون الناس فيها أو العكس أنهم هم يتكلمون في الآخرين..(8/14)
شرح حائية أبي داود رحمه الله
للشيخ البراك
1-التمسك بالكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى:
تمسّك بحبل الله واتبع الهدى …ولا تك بِدعيّا لعلك تفلح
ودِن بكتاب الله والسنن التي …أتت عن رسول الله تنجو وتربح
إلى هنا. يقول الناظم -رحمه الله- :
تمسك بحبل الله واتبع الهدى …ولا تك بدعيا لعلك تفلح
هذا البيت فيه أربعة أمور -ثلاث وصايا وذكر النتيجة والعاقبة-:
(تمسك بحبل الله) يعني اعتصم بحبل الله، اعتصم به، واشدد يديك به، والتعبير بالتمسك مناسب لذكر الحبل، والحبل المراد به القرآن أو الدين، دين الإسلام، والله تعالى قد أطلق ذلك في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا اعتصموا بحبل الله، والقرآن لو سمي حبلا، فلأن الحبل هو الذي، هو السبب الذي يُتعلق به، حسيُّ، هذا هو الأصل في الحبل، يتمسك به عن الوقوع في الهاوية.
فكتاب الله ودين الله هو حبله الذي من تمسك به، وأهل اللغة يقولون إن مثل هذا أنه من نوع المجاز، هذا على القول يعني بالمجاز وهو المشهور، إن هذا مجاز، فيه تشبيه، تشبيه الإسلام وتشبيه القرآن بالحبل.
وقوله: (تمسك) هذه فيها تأكيد لهذا التشبيه، وقال -سبحانه وتعالى- : وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ فالله ذكر التمسك، والتمسك بحبل الله هو الاستقامة على دين الله، وعدم الإعراض عنه، تمسك به، اشدد يديك بحبل الله.
فهذه وصية جامعة، هذه وصية جامعة عامة، في كل أمر من الأمور تمسك بحبل الله، أي في كل أمر، في العقيدة، في مسائل الاعتقاد، وفي مسائل أحوال القلوب، وفي أعمال الجوارح، وفي جميع الأحوال تمسك بحبل الله في كل الأحوال، في كل زمان، وفي كل مكان، فهي وصية جامعة.(5/1)
ثانيا: قوله ( واتبع الهدى)، اتباع الهدى يكون بمعرفته والعمل به، بمعرفة الهدى والعمل به، والهدى هو ما أنزله -سبحانه وتعالى- على رسله والذي..، وأعظمهم وأهمهم وهو الذي فرضه الله علينا اتباع الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ .
فمنذ أهبط الله آدم وهو -سبحانه وتعالى- قد أنزل على عباده الهدى الذي يهتدون به، وضمن لمن اتبعه النجاة من الضلال والشقاء، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى هذا عام، هذا هو طريق النجاة للبشرية، طريق النجاة للبشرية من أولها منذ أهبط الله آدم؛ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .
فكل الرسل جاءوا بالهدى من عند الله، جاءوا بالدعوة إلى التوحيد، بالدعوة إلى الأعمال الصالحة، والنهي عن الشرك وعن القبائح، فهذا هو دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأكمله وأعظمه وأتمه ما بعث به خاتم النبيين وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(واتَّبِع الهدى) : فاتباع الهدى هو سبيل السعادة، وبه يحصل الاهتداء، فمن اتبع هدى الله فهو من المهتدين، من اتبع هدى الله كان مهتديا، مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .
واتباع الهدى والتمسك بحبل الله، يعني يمكن أن نقول معناهما واحد، أو مؤداهما واحد، لكن كل لفظة لها دلالة، دائما تلاحظون هذا، يعني مثلا الشيء الواحد له أسماء، المسمى واحد ولكن تلك الأسماء لها دلالات. كما في أسماء الرسول، بل وأسماء الرب سبحانه وتعالى، بل وأسماء القرآن، القرآن له أسماء.(5/2)
فالتمسك بحبل الله يتضمن اتباع الهدى، واتباع الهدى يتضمن التمسك بحبل الله، لكن اتباع الهدى فيه معنى النجاة من الضلال، والتمسك بالحبل يتضمن النجاة من الهلاك، وكل إنسان أحوج ما يكون إلى هذين الأمرين: إلى الهدى الذي يعصم من الضلال، وإلى النجاة والفلاح الذي به النجاة من الشقاء، انظروا إلى...، تأملوا قوله تعالى : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة.
فهناك تلازم بين التمسك بحبل الله واتباع الهدى، كل منهما يتضمن الآخر، كل منهما يستلزم الآخر، لكن كل منهما له دلالة، تمسك بحبل الله، فمن تمسك بحبل الله نجا من الهلكة، كما ينجو من تمسك بالحبل الحسي لينجوا من السقوط في الهاوية، واتباع الهدى فيه السلامة من الضلال، فمن تحقق من الأمرين فاز بماذا؟ فاز بالهدى والفلاح. أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
قال الناظم: (ولا تك بدعيا)، لا تك يعني لا تكن، وفعل (الكون) المجزوم أو المبني على السكون يجوز حذف النون منه الفعل المضارع، (ولا تك) فعل مضارع مجزوم (بلا الناهية)، فيجوز في اللغة أن تقول (ولا تكن) ويجوز أن تقول (ولا تك) وقد جاء في القرآن: وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ (ولا تك في ضيق) جائز، والناظم آثر حذف حرف النون للنظم؛ لأنه لا يستقيم معه النظم إلا هكذا، (ولا تك بدعيا).(5/3)
(لا تك بدعيا) نسبة إلى البدعة، يعني لا تكن من أهل البدعة. فتنسب إليها، لا تك بدعيا، لا تكن مبتدعا، والبدعة هي ما أحدث في الدين، أو أدخل في الدين وليس منه، على حد قوله -صلى الله عليه وسلم-: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وقوله -صلى الله عليه وسلم- : وشر الأمور محدثاتها إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة شر الأمور محدثاتها.
وهذه الوصية الثالثة من الناظم فيها تأكيد لما قبل، فإن اتباع الهدى هو اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع الهدى والتمسك بكتاب الله فيه العصمة من الضلال، من البدع، والبدع ضلالات (البدع ضلالات) لكن أيضا كما ذكرت أن هذه الوصية وإن كانت داخلة ضمن ما سبق ففي التنصيص عليها تحذير، والله تعالى يجمع في كتابه بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده.
(ولا تك بدعيا) يعني كن سنيّا، كن متبعا لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لا تكن من أهل البدع، والبدع أنواع:
بدع اعتقادية وبدع عملية. وأخطرها البدع الاعتقادية وهي أسبق في الأمة من البدع العملية، يعني من حيث الوقوع، فالبدع الاعتقادية مثل أصول البدع، بدعة القدر، أي نفي القدر، وبدعة الخوارج، وهي التكفير بالذنوب، بدعة الرافضة وهي الغلو في آل البيت، في علي خصوصا في علي رضي الله عنه، هذه البدع اعتقادية، وبدعة الإرجاء، وهي تأخير الأعمال عن مسمى الإيمان، هذه كلها بدع اعتقادية.(5/4)
ومن البدع الكبيرة المتأخرة: بدعة التعطيل، وهي نفي أسماء الرب وصفاته، فهذه بدعة كبرى من أقبح البدع، فهي أكبر مما قبلها، ولهذا تأخر خروجها، يعني ظهور بدعة التعطيل لم تظهر في الأمة الإسلامية إلا في القرن الثاني، في أوائل القرن الثاني بخلاف البدع الأولى فقد جاءت في النصف الأول بل وقبل النصف الأول من القرن الأول، في عصر الخلافة النبوية، خلافة النبوة، في خلافة علي -رضي الله عنه- ظهرت بدعة الخوارج وبدعة الرافضة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول ما معناه: (إنه يظهر من البدع أولا ما كان أخفى) فالبدع إذا كانت أظهر -يعني فسادا وبطلانا- تأخر خروجها، فلهذا تأخر ظهور بدعة التعطيل.
ولا تك بدعيا بل كن سنيا، ضد البدعي السني. فهما رجلان : هذا بدعي يعني مبتدعا، ينتحل بدعة من البدع، إما قدري، أو مرجئ، أو خارجي من الخوارج أو .. أو .. والسني هو المعتصم بالسنة، ولهذا صار الناس في هذه الأمة افترقت كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- فرقا شتى، فرق كثيرة، وذلك من قوله -عليه الصلاة والسلام-: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي وفي لفظ: وهي الجماعة وهي الجماعة المتجمعة على الحق، على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالناس بين سني وبدعي، فمن سلك طريق السلف الصالح من الصحابة والتابعين فهو من أهل السنة، وأهل السنة... ويتبين هذا بمعرفة مذهب أهل السنة، مذهب أهل السنة في الاعتقاد، جماعة الإيمان بالأصول الستة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، أهل السنة والجماعة) وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر وخيره وشره، هذه أصول اعتقاد أهل السنة. إذن المبتدعة لا بد أن يخالفوا شيئا من هذه الأصول، المبتدعة لا بد أن يخالفوا بعض هذه الأصول.(5/5)
قال الناظم رحمه الله بعد هذه الوصايا الثلاث : (لعلك تفلح)، يعني رجاء أن تفلح، ولعل في مثل هذا كما جاءت في القرآن فسرت بمعنى الرجاء لعل، وفسرت بمعنى التعليل، كما نجد في القرآن لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا أو لتتقوا، للتعليل، وتفسيرها بمعنى التعليل في القرآن لعله أظهر، وإذا فسرت في معنى الرجاء يعني راجين أن تفلحوا أو رجاء أن تفلحوا أو تتقوا.
(لعلك تفلح)، والفلاح هو الفوز والظفر بالمطلوب، ويفسر في اللغة العربية بمعنى الخلود، والخلود في النعيم هو من مقومات الفوز العظيم والفوز الكبير، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ووصف الله المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بالله وكتبه وباليوم الآخر بهذا..: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ولهذا قال الناظم: (لعلك تفلح) إذا فعلت يعني عملت بهذه المعاني، هذه الوصايا، فهي سبيل الفلاح.
ثم قال :
ودن بكتاب الله والسنن التي …أتت عن رسول الله تنجو وتربح
نجد أن هذا البيت أيضا يمكن أن يكون مضمونه داخلا في البيت قبله. (دن بكتاب الله). دن: فعل أمر من (دان - يدين) بمعنى خضع وذل وتعبد، (دن بكتاب الله)، (دن بكتاب الله) يعني تعبد لله بكتاب الله، اخضع لله بالإيمان بكتاب الله والعمل بكتاب الله.(5/6)
(دان) والدين يطلق على معان كثيرة منها: الشريعة، الملة، الجزاء، الجزاء كما في آيات كثيرة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ والدين اسم لما يتدين به الإنسان ويتعبد به، ويخضع به، والدين نوعان (دين حق ودين باطل)، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهما دينان : دين الله الذي هو الإسلام، وهو الحق، وضده: وهو أنواع الكفر، قال الله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ إلى قوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ودين الله هو دين رسله هو الدين الذي بعث به رسله من أولهم إلى آخرهم، هو الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد .
يقول الناظم: (ودن بكتاب الله). كتاب الله هو القرآن، هذا اسم من أسماء القرآن، القرآن له أسماء (الكتاب، والقرآن، والفرقان، والتنزيل، والهدى، والنور) له أسماء كثيرة، وكل اسم -كما سبقت الإشارة إلى هذا آنفا- كل اسم له دلالة، حتى فسر (الصراط) بالقرآن اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فسر بالقرآن، فالقرآن (هو الصراط المستقيم) وهو الذكر الحكيم، وهو النور المبين.(5/7)
والله سمى القرآن (كتابا) في آيات كثيرة جدا. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ كم نجد في القرآن لكن يأتي الكتاب في القرآن بمعنى يعني لفظ الكتاب يأتي مرادا به الكتاب المنزل الذي هو القرآن، ويأتي مرادا به معان أخرى، لكن هذه الآيات والمراد بها القرآن، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ هو القرآن ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هو القرآن. ويطلق كتاب الله على حكم الله، ويطلق على الكتاب الأول، أم الكتاب، وكتاب المقادير وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ذاك هو كتاب القدر وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ .
(ودن بكتاب الله) والدينونة أو التدين أو الدِّين بكتاب الله : الإيمان بكتاب الله، والعلم بكتاب الله، والعمل بكتاب الله، كل ذلك يدخل في التدين بكتاب الله. (دن بكتاب الله) إيمانا وعلما وعملا.
(والسنن التي أتت عن رسول الله) السنن جمع سنة، وهي في اللغة: الطريقة، والمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الطريقة التي جاء بها وسار عليها، وهي هديه، وهي تتناول ثلاثة أمور عند أهل العلم: (أقوال الرسول، وأفعاله التي -نعم أفعاله عموما- وتقريراته ما يقر عليه). فالسنة ثلاث : (قولية - وفعلية - وتقريرية).
وكل حكم من هذه الأحكام في أي مسألة يقال هذه سنة، سنة الرسول يعني في كذا، سنته في الصلاة، سنته في الركوع، في السجود، السنة في كذا، السنة في كذا، سنة الرسول مطلقة، شاملة لأقواله وأفعاله وتقريراته، وإذا أريد شيء معين يقيد، سنة الرسول في كذا، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- بيّن للناس ما نزل الله من وحيه بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .(5/8)
ونقول: ولهذا يقال لكتب الحديث (كتب السنة)، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا اعتبرنا -يعني- متعلقات سنة الرسول المتعددة من الأقوال والأفعال والاعتقادات قلنا السنن، ولهذا بعض من صنف في السنة سماها السنن، سنن فلان، سنن أبي داود، سنن الترمذي، السنن يعني ألف أو هذا المؤلف تضمن ذكر سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، السنن سنن الرسول في سعيه في أمور الدين.
قال المؤلف يعني الناظم (ودن بكتاب الله والسنن) يعني ودن أيضا بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، يعني لا بد من التدين بهما، والإيمان بهما، والعلم بهما والعمل، (والسنن) فلا يجوز الاقتصار على القرآن، بل لا يمكن، يعني هما مصدران لدين الله، هما مصدران للعلم النافع (الكتاب والسنة) وكلاهما وحي، الكتاب والسنة كلاهما وحي منزل من عند الله بنص القرآن، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وقال سبحانه : وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ والحكمة هي السنة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فالحكمة التي هي السنة قرينة القرآن في القرآن، الحكمة اللي هي سنة قرينة القرآن في القرآن، كما أن الزكاة قرينة الصلاة في القرآن وفي السنة، الزكاة قرينة الصلاة.
السنة النص على السنة، وبيان -يعني- أنها حق وأنه يجب الإيمان بها واتباعها، هذا مستفيض في القرآن، فمن أنكر السنة فهو كافر، من أنكر العمل وقال لا نؤمن ولا نعمل، يعني لا نعمل إلا بالقرآن فهو كافر، بل في الحقيقة لا يمكن العمل بالقرآن إلا مع العمل بالسنة، فالسنة شارحة، السنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، السنة، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .(5/9)
فالله فرض الصلاة في آيات وبين بعض أحكامها القليلة ولكن بيان أحكامها تفصيلا إنما علم في السنة، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- بيّن كيفية الصلاة وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي وقل مثل ذلك في الحج، وقل مثل ذلك في سائر أحكام الواجبات، جاءت في القرآن مجملة وجاءت السنة ببيان تفصيلها، وإذا فلا بد من الإيمان بالكتاب والسنة، ولا بد من العلم بهما، ولا بد من العمل بهما.
قوله: (التي أتت عن رسول الله) توضيح، صفة توضيحية، الوصف يا إخوان النعت أحيانا تكون صفة مؤسسة، وهي التي كلها مفهوم، يقصد فيها الاحتراز من شيء آخر، وأحيانا تأتي للتوضيح، لمحض التوضيح. وهكذا قول الناظم هنا : (التي أتت عن رسول الله) توضيح، للتوضيح فقط، لما قال (ودن بكتاب الله والسنن) أو قال (والسنة) يتبادر إلى فهم المسلم أن المراد سنن الرسول، والسنة هي سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكن جاء قوله زيادة توضيح، (التي أتت عن رسول الله).
(جاءت عن رسول الله) جاءت بمعنى، جاءت يعني وثبتت. ما هو مجرد.. بصيغة الجزم التي (جاءت) جزما، لم يقل رويت (السنن التي رويت) لا، في فرق بين (جاءت) و(ثبتت) وبين (رويت) كما تعلمون أن نسبة الحديث إلى الرسول يكون إما بصيغة جزم، بصيغة الجزم (جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام)، لا يجوز أن تقول (جاء أو قال رسول الله) (أو ثبت عن رسول الله) إلا فيما صح. يمكن (جاء) أقل في الجزم لكن (روي) صيغة يسمونها صيغة تمرير، يذكر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- روي عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الناظم يقول : (والسنن التي أتت عن رسول الله)، يريد (أتت) ثابتة. (أتت عن رسول الله).
(الرسول ) هو المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالمناسبة تعلمون مسألة الفرق بين النبي والرسول، والفرق المشهور، أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، هذا التعريف المشهور.(5/10)
ولكن هذا في الحقيقة غير مستقيم. فإن تعريف النبي بما ذكر يقتضي أن النبي لا يعلم ولا يأمر ولا ينهي ولا يبلغ، وهذا غير صحيح، بل الأنبياء أرسلهم الله يحكمون بين الناس ويعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، كما قال الله تعالى في أنبياء بني إسرائيل : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا الآية.
والأنبياء -يعني- لهم حظ من الإرسال، وهو الإرسال الشرعي، الإرسال العام الشرعي، كما قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ فالنبي مرسل، مكلف، مأمور، يعني يعلم ويدعو وينهي، ولهذا التعريف أو الفرق السديد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات : أن الرسول بالمعنى الخاص هو من أرسل إلى قوم مكذبين، والنبي من أرسل إلى قوم مؤمنين يعلمهم ويذكرهم ويحكم بينهم كما في الآيات.
(والسنن التي أتت عن رسول الله) وإذا أطلق رسول الله في عرف المسلمين ينصرف إلى من؟ إلى محمد صلى الله عليه وسلم (أتت عن رسول الله).
قال المصنف (تنجو وتربح) هو الناظم يقول (تنجو وتربح) هذا من جنس قوله (لعلك تفلح) وهذا جواب، جواب (تنجو وتربح) النجاة : السلامة من المهالك والشرور، والربح ضد الخسران، وكلاهما مطلب، أعني النجاة والربح مطلب، بهما السلامة من الشقاء.
وجواب أقول (تنجو وتربح) على جواب الأمر جواب الطلب (دن) هذا طلب (دن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله) هذا طلب وقوله (تنجو) هذا جوابه، وجواب الطلب يقول أهل النحو أي النحويون :إنه يجوز فيه الجزم والرفع، الفعل المضارع إذا جاء جوابا يجوز فيه هذا وهذا؛ (اتق الله تفلحْ) (اتق الله تفلحُ) يصح هذا وهذا، والنظم يقتضي رفع الفعل (تنجو وتربح).
ودن بكتاب الله والسنن التي ……أتت عن رسول الله تنجو وتربح(5/11)
وقلت لكم: إن مضمون البيت الثاني يندرج في البيت الأول لكن فيه تنبيه وتفصيل آخر وهو التنصيص على التمسك بالكتاب والسنة، تنصيص على التمسك والتدين بشريعة الله التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ففيه زيادة بيان وزيادة معنى، وهذان البيتان -كما لا يخفى- تضمنا هذه الوصايا العامة الجامعة، وما بعد ذلك من الوصايا هي وصايا تفصيلية تتعلق بأشياء مخصوصة مندرجة في هذه الوصايا العامة، إذًا فالناظم صدّر هذه المنظومة في هذين البيتين بهذه الوصايا العامة تمهيدا لما ينبه عليه وينص عليه من الوصايا المهمة. نعم يا شيخ.
2-عقيدة السلف في كلام الله عز وجل..
وقل غير مخلوق كلام مليكنا بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
ولا تك في القرآن بالوقف قائلا كما قال أتباعٌ لجهمٍ وأسجحوا
هذه ثلاثة أبيات ضمنها المؤلف للوصية بعقيدة السلف في كلام الله وفي القرآن والتحذير من مناهج المبتدعة، وبدأ -رحمه الله- في هذا الموضوع لأنه أشهر ما وقع فيه الخوض والجدل بين أهل السنة ومخالفيها (موضوع القرآن).
فإن فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، لما حدثت إن القول بخلق القرآن قديم، أول من ابتدع القول بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، هو أول من أظهر هذا المذهب وأخذه عنه (الجهم بن صفوان) وحمل لواء هذه البدعة ونشرها فاشتهر بها واشتهرت به. ولم تزل تتنامى هذه البدعة وتشتهر ويضل بها المفتونون ويتصدى الأئمة لقمعها ومحاربتها والتحذير منها ومن أهلها.(5/12)
حتى جاء عهد الخليفة العباسي (المأمون) فأحاطت به المعتزلة وحملوه على اعتناق مذهبهم في القرآن. فحمل الناس على هذا المذهب الباطل وهو القول بخلق القرآن، فعظمت المحنة، وابتلي العلماء، وتأول من تأول، وافتتن من افتتن، وثبت من ثبت، وأعظم من ثبت في هذا هو الإمام أحمد رحمه الله، فلم يجامل ولم يتأول، بل ثبت على القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ورد عليهم، رد على المبتدعة وناظرهم وبين أن القول بخلق القرآن بدعة منكرة، لم تأت في كتاب ولا سنة، ولم يقل بها أحد ممن مضى، فهي بدعة لا أصل لها في دين الله ولا قائل بها من السلف الصالح. وهي بدعة مبنية، هي باطل مبني على باطل، فالقول بخلق القرآن مبني على باطل، وهو نفي كلام الرب سبحانه وتعالى.
فالناظم -رحمه الله- بدأ بالنص على ما يجب اعتقاده في كلام الله وفي القرآن، وحذر من بدعة الجهمية في ذلك، يقول -قل البيت-.
وقل غير مخلوق كلام مليكنا بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
يقول (وقل غير مخلوق) قل بما قال أهل السنة والجماعة والأئمة، قل غير مخلوق كلام مليكنا، بل هو كلام الله منزل غير مخلوق،
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ..........................
هذه الجملة يمكن.. قوله (كلام مليكنا)، المليك اسم من أسماء الله، فاسمه الملك والمليك فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ..........................
القرآن وكلام الله، ما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما أن كلام الله أعم من القرآن، فالقرآن هو كلام الله، يعني بمعنى أن الله تكلم به، ولكن كلام الله أعم من القرآن، يشمل ما سبق مما أنزله من الكتب فالتوراة والإنجيل والقرآن كلها كلام الله وخطاب الله لموسى وتكليمه لموسى وتكليمه للملائكة وندائه للأبوين كل ذلك داخل في كلام الله؛ فالله تعالى لم يزل يتكلم بما شاء كيف شاء إذا شاء، ومن كلام الله القرآن.(5/13)
فقول الناظم : وقل غير مخلوق كلام مليكنا .........................
يشمل القرآن وغير القرآن، يشمل القرآن وسائر الكتب، يشمل القرآن وسائر ما يتكلم الله به، كلام الله مطلقا غير مخلوق، خلافا للجهمية والمعتزلة القائلين بأن كلام الله مخلوق، ومن يقول: إن كلام الله مخلوق ماذا يقول في القرآن؟ يقول: إنه مخلوق، يقول: القرآن مخلوق.
وخطاب الله لموسى مخلوق، يقول المعتزلة إن الله كلم موسى بكلام مخلوق، خلقه أيضا، خلقه في الشجرة، الله خلق كلاما في الشجرة سمعه موسى هكذا، فالله إذا أراد أن يكلم أحد خلق كلاما، الله تعالى لا يقوم بالكلام، وهذا مع أنه باطل في الشرع فهو مخالف للعقل، فمن الباطل عقلا أن يوصف شيء بكلام لم يقم به، يقال إنه متكلم بكلام قام بغيره، هذا غير مقبول، إنما يضاف الكلام إلى من قام به الكلام. ولا يقال لشيء إنه متكلم إلا بكلام قام به. فلا يوصف شيء بكلام قام بغيره، فعلى مذهب المعتزلة أن الله -تعالى- إذا قالوا إنه متكلم، متكلم بمعنى أنه يخلق كلاما، أو أنه خلق كلاما، خلق كلاما في كذا، فالقرآن مخلوق من هذا المنطلق، وعندهم كلام الله كله مخلوق من جملة المخلوقات.
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ..........................
يعني قل بما قال أهل السنة، إن كلام الله غير مخلوق، وفي القرآن أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن خصوصا أنه كلام الله أي أن الله تكلم به حقيقة ونزل من عنده تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ يقول قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ فابتداء نزول القرآن من الله.
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ..........................
خلافا للجهمية والمعتزلة ومن تبعهم.
.......................... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا(5/14)
أهل السنة يعني، أهل السنة والأئمة بذلك دانوا يعني آمنوا وتدينوا بذلك لله.
......................... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
دانوا بذلك لله، وأفصحوا به وأعلنوه، وصرحوا بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
فهذا سبيل الأتقياء، سبيل المتقين، الذين اقتفوا أثر الصحابة والتابعين هذا سبيل أهل السنة والجماعة، وهذه عقيدتهم في القرآن، وفي كلام الله عموما.
وقد اضطرب الناس في كلام الله على مذاهب، أحدها يعني مذاهب، أحدها مذهب أهل وما سواها فهي مذاهب بدعية، فأهل السنة والجماعة يقولون إن الله تعالى (لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء وكيف شاء) وأن كلام الله قائم به غير مخلوق، قائم به -سبحانه وتعالى- وأنه من صوت وحرف، يسمعه أو يُسمعه من شاء من عباده، وهكذا القرآن هو كلام الله منزل غير مخلوق وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.
هذا تحرير مذهب أهل السنة والجماعة، ويقابلهم طوائف، أولهم الجهمية والمعتزلة، وهم الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، وإنه -تعالى- لا يقوم به الكلام، لا لفظه ولا معناه، لا يقوم به الكلام، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وهذا راجع إلى التأصيل الباطل، أصلهم الباطل وهو نفي صفات الرب مطلقا، فإنهم ينفون عن الله أن تقوم به الصفات، فلا يقوم به علم ولا سمع ولا بصر ولا كذا ولا كذا ولا كلام، لا يقوم به الكلام، ويزعمون أنه لو قامت به شيء، لو قامت به الصفات لكانت قديمة. وإذا كانت قديمة لزم من ذلك تعدد القدماء، فيلزم من ذلك تعدد الآلهة، وهذا تلبيس من الشيطان من إبليس عليهم، فالله تعالى واحد، هو بصفاته إله واحد، فتعدد الصفات لا يلزم منه تعدد الآلهة، فصفة الإله ليست إلها، صفة الإله لا يقال لها إلها، كما أن صفة النبي ليست نبيا.(5/15)
تجدون هذا المعنى وهذا الجواب في القاعدة السادسة من الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه ذكر هذه الشُّبه وأجاب عنها، ومن ذلك بيان أن تعدد الصفات لا يلزم منه تعدد الآلهة؛ لأن صفة الإله ليست إلها، فالله تعالى بصفاته إله واحد، الله بصفاته إله واحد.
من المذاهب قول (الكُلَّابية) إن -وهم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب- وهو أحد المتكلمين من أهل الكلام، لكنه من المنتسبين للسنة ومن الذين ردوا على المعتزلة، وعلى منهجه درج أبو الحسن الأشعري- فيقولون إن كلام الله معنى قائم بذاته، ليس بحرف ولا صوت وأنه قديم لا تتعلق به المشيئة، لكن (ابن كُلَّاب) يقول: إنه أربعة معانٍ: (أمر ونهي وخبر واستخبار وكذا)، وأما الأشعري في المذهب المشهور الموروث عنه فيقول إنه معنى واحد لا تعدد فيه، وهو قديم لا تتعلق به المشيئة، وهو معنى نفسي ليس بصوت ولا حرف، وهذا هو مذهب الأشاعرة والذي يتكلمون به ويقررونه، يقررون أن كلام الله معنى واحد، معنى ليس بحرف ولا صوت، وواحد ليس فيه تعدد، وقديم لا تتعلق به المشيئة.
فهذه ثلاثة مذاهب، مذهب الكلابية والأشاعرة قريبان، ومذهب رابع من المذاهب البدعية، مذهب السالمية، وهما أيضا من جنس الكلابية والأشاعرة ينتمون للسنة لأنهم يخالفون المعتزلة فيثبتون، فيقولون إن كلام الله قائم به وهو بحرف وصوت ولكنها قديمة فكلام الله كله قديم لا تتعلق به المشيئة، لا يحدث منه شيء بعد شيء.
والفرق بين السالمية والأشاعرة، الفرق بينهما أن هؤلاء يقولون...، كلهم يتفقون على أن كلام الله قديم، وأنه لا تتعلق به المشيئة، لكن هؤلاء يقولون إنه حروف وأصوات قديمة، وهؤلاء يقولون إنه معنى فقط، معنى واحد ليس فيه تعدد.(5/16)
ومن المذاهب مذهب الكرَّامية في كلام الله، وهو أنهم يقولون: إن كلام الله قائم بأنه، وأنه بحرف وصوت، وأنه يتكلم إذا شاء بما شاء. وهذا كله زيف تماما، لكن يقولون: إنه صار متكلما بعد أن لم يكن، صار متكلما بعد أن لم يكن. وهذه الطامة، يعني حدث له الكلام، إذن فليس هو جنس الكلام في حق الله ليس بقديم.
وكل هذه الأقاويل مخالفة مناقضة للعقل والشرع ومتضمنة لتنقص رب العالمين، ولها شبهات ومناقشات واستدلالات تجدونها في الكتب المبسوطة مثل (شرح الطحاوية) فيه يعني من هذا قدر كبير، (شرح الطحاوية) ذكر مذاهب عدة أكثر من ذلك، لكن هذه التي ذكرتها هي أهم مذاهب الناس في كلام الله، مذهب الكرَّامية والسالمية والأشاعرة والكلاَّبية ومذهب الجهمية والمعتزلة.
الجهمية والمعتزلة سبيلهم واحد، أما أهل السنة فمذهبهم في كلام الله أنه صفة له قائمة به وأنه بحرف وصوت، بمعنى أن الله تعالى يتكلم بكلام مسموع يسمعه ما شاء الله من عباده، كما سمع موسى كلام الله، وسمع الأبوان نداءه، سبحانه وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا وسمعت الملائكة كلام الله، وهكذا جبريل سمع القرآن من الله وبلغه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله لم يزل يتكلم، وكلمة (لم يزل) تعني أنه ليس لجنس كلام الله بداية، (لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء).
أما تكليمه لموسى آحاد الكلام، تكليم الله لموسى، لو سألنا أهو قديم؟ القديم هو اللي ما له بداية منذ القدم، هل كلام الله لموسى قديم؟ لا. كلام الله لموسى عندما كلمه، عندما جاء موسى لميقات ربه وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فكلام الله قديم النوع حادث الآحاد، آحاده متجددة تبعا لمشيئته وكلام الله لا يحصى، كلمات الله لا تنفد قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا وكذلك الآية في سورة لقمان.(5/17)
فكلام الله قديم النوع حادث الآحاد، آحاده متجددة تبعا لمشيئته، تبعا لمشيئته، وكلام الله لا يحصى، كلمات الله لا تنفد، قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا وكذلك الآية في سورة لقمان، فالله لم يزل ولا يزال يتكلم بما شاء إذا شاء وتمت كلمة ربك صدقا وعدلًا .
وكلام الله يكون خبرًا ويكون طلبًا وإنشاء، وكلام الله منه الكوني ومنه الشرعي، كلمات الله منها كلمات كونية بها يكوِّن الأشياء، وكلمات شرعية تتضمن الأحكام وهي أوامره ونواهيه وأخباره في كتبه المنزلة كالقرآن، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله.
في القرآن تقدم أن مذهب أهل السنة والجماعة في القرآن أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، طيب يبقى معنا: هل كلام الله..، هل القرآن قديم؟ تجدون في كلام السفَّاريني -عندكم لو قرأتم الشرح- تجدون أن كلمة قديم تتكرر في كلامه، وصف القرآن بأنه قديم، وهذا غلط؛ القرآن لا يقال فيه إنه قديم؛ لأنه وصف القرآن بأنه قديم يتفق مع مذهب الأشاعرة ومذهب السالمية، الذين يقولون: إن كلام الله لا تتعلق به المشيئة، وليس فيه تجدد.
نعم القرآن، نوع كلام الله قديم، قديم النوع حادث الآحاد، أما القرآن الذي هو كتاب الله الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا يقال فيه إنه قديم، بل هو منزل غير مخلوق، أنزله الله، وهو مكتوب في أم الكتاب، لكن كونه مكتوب في أم الكتاب ما يستلزم القدم بالمعنى الذي ذكرته لكم، وهو ما لا بداية له؛ القديم في -يعني- في مصطلح المتكلمين وفي مثل هذا المقام هو الذي لا بداية له فهذا لعله مضمون يعني هذا قول الناظم:
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ……بذلك دان الأتقياء وأفصحوا(5/18)
يعني أعلنوا هذا وبينوه بيانا بلسان فصيح، ما فيه مراوغة ولا اشتباه، بل هو بكلام واضح بيِّن، "بذلك دان الأتقياء" وهم أهل السنة والجماعة سلفا وخلقا "وأفصحوا".
ويأتي الكلام عن البيتين الآخرين المتعلقين بموضوع الكلام، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله.
-أحسن الله إليكم وأثابكم!
-بارك الله فيك .
فيه أسئلة يا شيخ.
س: هذا سائل يقول: أحسن الله إليكم! ما هو الأثر العملي في دين المسلم لمن قال كلام الله مخلوق؛ لأن هناك من يهون الكلام في هذا الموضوع؟
ج: أعوذ بالله! الأثر أيش؟
-الأثر العملي.
- وأيش الأثر العملي؟ أثر عملي أثره كبير؛ يعني إما أن تعتقد حق ولا باطل؟ وأيش الأثر العملي في أنك تؤمن بأن لله يدين، وأيش الأثر العملي، هذا السؤال يتطرق كذا. وأيش الأثر العملي أن تؤمن بأن لله يدين.
سبحان الله! نعم الأثر العملي في أن تؤمن بأن كلام الله مخلوق، أنك تؤمن بأن الله يتكلم، تعرف ربك، فالذي يقول إن القرآن مخلوق عنده أن الله لا يتكلم، لا يتكلم، لا يقوم به الكلام، يعني المخلوق أكمل من الخالق، أنت يا هذا تتكلم؟! إذن أنت أكمل من الخالق، تعالى الله عن قولهم؛ الكلام كمال ولا نقص؟ الكلام والتكلم كمال وضده نقص الخرس، فبينهما تضاد كما بين السمع والصمم والبصر والعمى.
فالذي يقول أيش أثر عملي، وأيش الأثر العملي؟ اسحب هذا الكلام على كل المسائل الاعتقادية وأيش الأثر العملي، يريد هو شيء ... -يعني- يمكن أنه هو مثل هذا الذي يقرأ يريد نتيجة عملية، كلام، مادة، يعني نتائج مادية، يعني الإيمان ومعرفة الله ليس بالشيء المهم عند من يطرح مثل هذا السؤال، وللحديث بقية -إن شاء الله- في البيتين، باقي الكلام في الموضوع، نعم.
س: أحسن الله إليكم! هذا يقول: كيف نرد على من ينكر تسمية أهل السنة، ويقول: نحن مسلمون فلماذا تميزون أنفسكم عن بقية المسلمين؟(5/19)
ج: الرسول -عليه الصلاة والسلام قال: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة لا بد منها لا بد؛ لأن كلٌ يدعى، كل يدعي الإسلام، والإسلام له حقيقة، فيعني هذه الدعوة تريد... -يعني- غايتها المداهنة لأهل الباطل من أهل البدع على اختلاف مناهجهم وطرائقهم، لا.
نعم الإسلام يعم -يعمهم- لكن لا بد من التمييز، لا بد من التمييز بين صالح وفاسق، عدل وفاسق، المسلمون يعني المسلمون أيضا فيهم الصالح والفاسق، ما نسمي الفاسق فاسقا ونقول إلا فاسقا، من ظهر فسقه وأظهر المعاصي فهو فاسق، فما الذي يمنع من أن نقول: إن هذا سني يعني على مذهب أهل السنة والجماعة، على مذهب السلف الصالح، وهذا قدري، وهذا جهمي يعني عنده بدعة التعطيل، هذا رافضي يبغض الصحابة ويسبهم، إذا أخذنا بمذهب مسلمين والسكوت عن الفوارق معناه المداهنة وعدم التمييز، فهذه الأسماء تميز بين السني والبدعي، بين الصالح والطالح، هذه أساليب مغالطات، إنما تنطلي على الأغراض، لا أقول إنه غلط، أقول إنه مغالطة. نعم.
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول في بعض الأسئلة التي جاءت من الشبكة يقول: ما هو ضابط التشبه بالمشركين المنهي عنه؟
ج: التشبه بالمشركين هو موافقتهم فيما هو من أمور دينهم المنسوخ أو المبدل أو عوائدهم الخاصة التي يعرف أن من يتعاطاها يعرف أنه متشبه بهم، وإنه مقلد لهم، التشبه تقليد، التشبه تقليد، وهذا أمر بيّن؛ فيعني الاحتفال بمولد الرسول فيه تشبه وابتداع، تشبه بالنصارى وابتداع في الدين، واتخاذ أيامٍ أعيادا لمناسبات، كعيد الاستقلال وعيد النصر واليوم الوطني، هذه من ضروب التشبه، يعني من عوائدهم، من عندهم أخذت، نعم.
س: أحسن الله إليكم! ويقول: وهل التشبه بالفساق وأهل البدع له مثل حكم التشبه بالمشركين؟
ج: لا، بدرجة يمكن، التشبه بالفساق في فسقهم وفي يعني تصرفاتهم قبيح، نعم.(5/20)
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول: فضيلة شيخنا، الرجاء التحدث عن مسألة عدم التكفير إلا بمجرد الاستحلال أو الاعتقاد؛ لأنه كثر الخوض فيها حتى من صغار طلبة العلم، فنرجو البيان الشافي وجزاكم الله خيرا.
ج: على كل حال تأتي لها مناسبة، نعم، هذه المسألة أقول ما عندي حل بكلمتي القصيرة، تأتي له مناسبة إن شاء الله، نعم.
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول: قرأت نصًا مقررًا حفظه على التلاميذ الصغار وفيه: طعامكم من جهدي وخيركم من كدي.
ج: طعامكم من جهدي وخيركم من كدي على لسان الأب، هذا لا شك أنه تعبير قبيح يتضمن الاعتماد على السبب ونسبة الخير إلى السبب: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي وهذا بعلمي وهذا بقوتي وهذا بحولي؛ فهذا التعبير مخالف لما يجب على المسلم من الإيمان بربوبيته -سبحانه وتعالى- وفقر العبد إليه، وأن الخير بيده سبحانه وتعالى، والملك بيده، فهي تحمل الغفلة عن الله، والتعويل على حول الإنسان وقوته؛ والواجب عليه استحضار قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، نعم، المقرر وين هذا المقرر يا شيخ؟ ما بيّن السؤال؟ عليك أن تكتب يعني باستنكاره إلى الجهة المسئولة عن المقررات، مع ما تجد من سوى هذا، نعم.
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول: هل الجهمية والمعتزلة فرقتان موجودتان الآن؟
ج: فرقتان موجودتان، نعم موجودتان، ولكن ما فيه اسم الجهمية. جهمية يمكن أنها... أما نفس المذاهب موجودة، الجهمية يعني هي نسبة إلى جهم بن صفوان، وجهم بن صفوان عنده ثلاث بدع عظمى قبيحة: الإرجاء وهو من غلاة المرجئة، والتعطيل، والجبر.
الجبر ليس له طائفة متعينة يعني تلتزم بهذا المذهب، ولا يمكن لأحد أن يلتزم بمذهب الجبر؛ فالجهمية في باب التعطيل تتمثل في مذهب المعتزلة، والمعتزلة لهم أصول، فيوجد في بعض الناس إنه يصير عنده تخليط كبير الآن موجود.(5/21)
أما مذهب الأشاعرة موجودون باسمهم ومذهبهم، وينتسبون للسنة قديما وحديثا، ولكن نجد أن الشخص الواحد يمكن يكون أشعريا في باب ومعتزليا في باب، يعني أشعري في باب الصفات مثلا ومعتزلي في باب القدر؛ لأنه ينفي القدر. فهم موجودة مذاهبهم، في أشخاص وفي جماعات يعتنقون تلك المذاهب.
وهناك تزاوج وتداخل بين المذاهب؛ تجد الرافضة معتزلة، عندهم أصول المعتزلة في باب الصفات وفي باب الوعيد وفي باب القدر، الرافضة أو بعضهم، طوائف منهم، وتجد مذهب المعتزلة دخل على الزيدية ودخل على الخوارج، تجد الإباضية خوارج في باب الإيمان ومعتزلة أو جهمية في باب الصفات، وهكذا فهناك تداخلات بين هذه المذاهب، نعم.
س: أحسن الله إليكم! يقول: إذا أصيب الإنسان بالشك المؤدي إلى الكفر، فماذا يفعل تجاه هذا الوسواس؟
ج: لا تسميه بالشك، قل الوسواس؛ فرق بين الوسواس والشك، فيه فرق، شك يعني أصبح عندك تردد والعياذ بالله، تقول ما أدري هل الله موجود أو ما هو موجود؟ هل الرسول صادق ولا كاذب؟ أنا ما أدري، هذا شاك.
لكن الذي يشكو منه كثير من المسلمين قديما وحديثا، حتى في حياة الرسول، هو قضية الوسواس؛ يخالج النفس يعني تساؤلات شيطانية، أسئلة يلقيها الشيطان، وأفكار يعرف المؤمن أنها باطلة وأنها خبيثة، ويبغضها وينفر منها وتضيق صدره، ولكنه لا يشك، ليس عنده شك في الحق الذي هو عليه، لكن تأتيه أسئلة يعجز عن الجواب عنها، ويعرف أنها باطلة بعضها ويبغضها: كمن جاء إلى الرسول، وقال: يا رسول الله، إني أجد في نفسي ما لو أخر من السماء ولا أتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة، أو قال: هذا صريح الإيمان وقال: يأتي أحدكم الشيطان ويقول له: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فلسيتعذ بالله، وليقل آمنت بالله ورسوله ولينته .(5/22)
فالفرق بين الشك والوسواس؛ الوسواس يعرفه الكثير من الناس، أما الشك فهو كفر وأعاذنا الله وإياكم من الكفر والشك.
أحسن الله إليكم وأثابكم ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
3- قول الواقفة في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
قال -رحمه الله تعالى-:
ولا تك في القرآن بالوقف قائلا كما قال أتاع لجهم وأسجحوا
ولا تقل القرآن خلق قراءته فإن كلام الله باللفظ يوضح
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا وعلى آله وصحبه:
بعد ما ذكر الناظم -رحمه الله- المذهب الحق في كلام الله وفي القرآن هو أنه غير مخلوق: "وقل غير مخلوق كلام مليكنا" بل هو منزل من عند الله، تكلم الله به، والكلام صفته، وهو يتكلم ويكلم من شاء كيف شاء -سبحانه وتعالى- وأن هذا هو مذهب الأتقياء من عباد الله من السلف الصالح والصحابة والتابعين لهم بإحسان.
قال بعد ذلك: "ولا تك في القرآن بالوقف قائلا": ولا تك: "لا" ناهية و"تك" فعل مضارع مجزوم، وحذفت نونه جوازًا، وتعيّن حذفها للنظم، كما تقدم في البيت الأول: "ولا تك بدعيا" قال هنا: "ولا تك في القرآن" القرآن الذي هو كتاب الله المنزل على قلب عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أحسن الحديث: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا لا تقل أيها المسلم، أيها السني المتبع للسلف الصالح، "لا تك في القرآن بالوقف قائلا" لا تقل بقول الواقفة في القرآن.(5/23)
والوقف هو التوقف عن القول بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هذا مذهب انتحله بعض الجهمية، وربما سلك على طريقهم بعض الجهلة وبعض الغالطين، يقولون: القرآن كلام الله، لكن لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، هذا معنى "توقف"، شك، طيب ماذا تقول في القرآن؟ مخلوق ولّا غير مخلوق؟ يمكن يقول: لا أدري، أنا ما أقول إنه مخلوق ولّا غير مخلوق، أنا أقول كلام الله.
وهذا نفسه يستحسنه بعض القاصرين في هذا الأمر من بعض العلماء وبعض الجهال في هذا الوقت، كما سئل بعضكم أمس، يستحسنه، يظن هذا أنه زين وأنه أحسن، ليش يقول مخلوق ولا ما هو مخلوق؟ القرآن كلام الله وخلاص -ما شاء الله- هذا تستحسنه العقول القاصرة، يعني عقول بعض الناس، يستحسنون هذا، يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، كلام الله.
طيب تقول: القرآن كلام الله، تكلم به ولّا تقول كلام الله وبس؟ يلزم؛ لأن كلمة تكلم الله به توضيح وبيان إلمام، ما جاء أن الله تكلم بالقرآن جاء القرآن كلام الله، وهذا مذهب باطل أعني القول بالوقف، وأنكره الأئمة أهل السنة، ومنهم إمام أهل السنة الإمام أحمد، وقال: إن الواقفة هم الذين يقولون القرآن كلام الله، لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق. وذكر أنهم جهمية، وأنهم أشر وأخبث من الجهمية المصرحين بأن القرآن مخلوق؛ لأن الذي يصرح مذهبه واضح؛ القرآن يقول مخلوق فهذا حدد مذهبه وعرفناه، عرفنا أنه جهمي وأنه ينفي كلام الله، ينفي أن الله يتكلم، وينفي أن يكون القرآن كلام الله بمعنى أنه تكلم به، بل يقول: إنه مخلوق، كلام خلقه الله. وهذا ظاهر البطلان، وهذا هو أصل مذهب المعطلة، الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ومن تبعهم.(5/24)
لكن الواقفة هذا ينخدع الجهال بمسلكهم؛ فسلك هذا الطريق بعض الجهمية مراوَغة وتَقِيَّة مثل التَقِيَّة عند الرافضة، تَقِيَّةً تسترًا؛ لأنه لو قال القرآن مخلوق هاجمه أهل السنة، وأنكروا عليه وأغلظوا عليه، وإن قال القرآن كلام الله غير مخلوق خارج عن مذهبه الذي يستبطنه، مذهبه الذي يخفيه؛ فهو مسلك خداع ومكر خبيث .
وقلت لكم: إن هذا يستسيغه بعض الجهال، يعني بحسن نية، بل بعض العلماء رأوا أن الخوض في هذه المسألة أنه لا طائل تحته ولا موجب له، لا، إذا ظهرت البدعة وتكلم ودعا إليها أهلها وأظهروها، لا بد من تحديد الموقف، لا بد أن تحدد موقفك من هذا الكلام، لا بد أن تحدد موقفك، تقول: لا داعي أن أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟ لا، حَدِّدْ.
وهذا -يعني هذا التوقف- مضمونه الشك، ماذا تقول بقول الجهمية إن القرآن مخلوق؟ حدد موقفك؛ إن قلت إنه مخلوق فأنت صرت منهم. وإن قلت إنه غير مخلوق تحدد موقفك وأنك مخالف لهم، وإن توقفت معناه أنك شاك، يعني يحتمل أن قولهم صحيح ، يحتمل أن مذهبهم صحيح ما دام أنه شك، إذا قلت إنه لا داعي معناه أن مذهبهم ليس بالباطل البيّن الذي يجب إنكاره؛ ولهذا قال إمام أهل السنة: إن الواقفة أخبث، وإنهم شر من الجهمية. فهم جهمية، الواقفة جهمية.
ولهذا قال الناظم:
ولا تك في القرآن بالوقف قائلا ......................
لا تقل بهذا الوقف، "كما قال أتباع لجهم"، يعني كمن قال بالوقف، أتباع بعض...، أتباع جهم قالوا بالوقف، بعض أتباع جهم يعني الطائفة من الجهمية قالوا بالوقف، فهم جهمية، الواقفة جهمية، إذن الواقفة جهمية، الواقفة في القرآن الذين يقولون: إن القرآن كلام الله، ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، هؤلاء طائفة من الجهمية.(5/25)
"كما قال أتباع لجهم" إمام المعطلة في هذه الأمة، رأس المعطلة، يقول هو: "أسجحوا" عندكم "أسجحوا"، والسفاريني في الشرح شرح على و"اسمحوا"، والمعنى واحد أو متقارب أسمحوا وأسجحوا، وكل منهما فسر بجادوا وكرموا؛ أسمح بكذا جاد به، وأسجح أيضا فيه هذا المعنى، الإسجاح الجود.
............................ كما قال أتباع الجهم وأسجحوا
يعني جادوا بهذا المذهب وبهذا القول، جادوا به وبذلوه وتطوعوا به، جود قبيح، ما هو الجود الذي هو الكرم، جادوا به وطابت نفوسهم بالتفوه به، قالوه بسماحة، ما قالوه على مضض وعلى استكراه، قالوه يعني عن طيب نفس وعن قناعة "كما قال أتباع لجهم وأسمحوا".
"ولا تقل..." البيت الخامس يقول أيش ولا تقل القرآن خلق قراءته ...................
عندكم "قراءته" وفي نسخة "قراءةً" وهو الذي مشى عليه الشارح، لا، عندكم قُرانه "ولا تقل القرآن خلق قُرانه" وفيما أثبته المحقق لشرح السفاريني -نعم- "قراءته"، والسفاريني شرح على "قراءةً".
ولا تقل القرآن خلق قراءةً ....................
والأولى عندي "قراءته"، لا تقل القرآن خلق قراءتي، القرآن خلق قراءةً، القرآن مخلوق قراءتي، تلاوتي لفظي بالقرآن مخلوق، وفيما أثبت عندكم "قُرانه" له وجه أن القُران أو القرآن يطلق بمعني القراءة، "قرآن" أو بالتسهيل قُران يطلق ويراد به القرآن الذي هو كلام الله المثبت بين دفتي المصحف، ويطلق بمعنى القرآن، يطلق بمعنى القراءة نفس القراءة، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ يعني قراءته، ومن هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: يجيء القرآن -يعني القراءة، العمل- يجيء القرآن كالرجل الشاحب يُحاج عن صاحبه .
ولا تقل القرآن خلق قُرانه ...................(5/26)
يعني قراءته، لا تقل تلاوتي للقرآن أو قراءتي للقرآن خلق أي مخلوق، يريد الناظم النهي عن أن... نهي المسلم ونهى السني أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، أو تلاوتي للقرآن مخلوقة، تلاوتي أو قراءتي، وهذه أيضا مسألة كبيرة وعظيمة، وكثر فيها الخوض والقيل والقال والافتراء، واشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع، ويسمى القائلون بأن اللفظ بالقرآن مخلوق يسمون اللفظية.
ولا ريب أن من الجهمية من يقول لفظي بالقرآن مخلوق، وهو يريد القرآن الملفوظ به مخلوق، واشتهر كذلك عن الإمام البخاري أنه يقول لفظي بالقرآن مخلوق، لكنه بيّن المراد في كتاب خلق أفعال العباد، بل وفي صحيحه في كتاب التوحيد، ونشأ عن ذلك مشكلة كبيرة، مشكلة بينه وبين شيخه محمد بن يحيى.
يقول والسبب في هذا أن اللفظ مصدر لَفَظ يلفِظ لفظًا، واللفظ في اللغة العربية.. اللفظ إذن هو مصدر، والمصدر في اللغة العربية يطلق يراد به المعنى المصدري، ويطلق ويراد به اسم المفعول، مثل الخلق بمعنى المخلوق والخلق الذي هو الفعل، ومثل الرد بمعنى المردود والرد بالمعنى المصدري، رد يرد ردًا، وهذا كثير.
وقس عليه من جنسه تقول: هذا -تشير إلى بعض الأشياء- تقول: هذا خلق الله، يعني مخلوق لله، وتقول خلق الله، الخلق صفة لله وفعل من أفعاله، هذا بالمعنى المصدري، ومثله الأمر؛ الأمر يأتي بمعنى المأمور ويأتي بالمعنى المصدري الذي هو الفعل أمر يأمر أمرًا، وهكذا.(5/27)
فصار كلمة لفظ لفظٌ مجمل، كلمة لفظ كلمة مجملة -يا ترى- إذا قلت: لفظي بالقرآن مخلوق ولم يحصل البيان ما حصل، يعني الذي يتكلم بهذا قد يكون معروف المذهب وقد يكون غير معروف المذهب، فإذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق نقول: ما تريد؟ أيش لفظي هذا؟ ما معنى لفظي بالقرآن مخلوق؟ أيش تريد؟ إذا قال: إني أريد أن تلفظي ونطقي وصوتي وحركة جوارحي لساني وشفتاي، أن هذا مخلوق، الحركة الفعل الصوت مخلوق، نقول صح؛ الصوت الكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ، وإذا قال: لفظي بالقرآن يعني ما أتلفظ به مخلوق، قلنا هذا باطل، الكلام الذي تتلفظ به وتؤديه بصوتك هذا كلام رب العالمين.
فهي مسألة يعني كثرة فيها الافتراء، وصار فيها إشكال واشتباه؛ فالإمام أحمد أتى بهذا القول اللي فيه هذا بالتفصيل، عندما يقول الإمام أحمد: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي"، فهو يعني الذين يتسترون ويطلقون هذا التعبير المُلْبِس أيضا، فهو يشبه قول الواقفة: لفظي بالقرآن مخلوق هذا فيه لبس. يقول فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع.
- هذا أيضا فيه اشتباه، لفظي بالقرآن غير مخلوق، لو أراد أن لفظي بالقرآن يعني ما أتلفظ به من الكلام عند تلاوة القرآن غير مخلوق، نقول نعم حقا القرآن الذي تؤديه بصوتك غير مخلوق، لكن لفظك الذي هو صوتك وفعلك كيف تقول غير مخلوق؟ هذا باطل، بل مخلوق، صوت الإنسان مخلوق، وفعله مخلوق فعله، والإمام البخاري ألف كتاب اسمه خلق أفعال العباد، فيه رد على القدرية، ورد أيضا على اللفظية، وأن الفعل فعل العبد مخلوق، النطق الصوت الفعل الحركة، حركة اللسان، أدوات النطق، كل ذلك مخلوق.
أما الكلام الملفوظ به، المتكلم به، المؤدَّى بالصوت؛ فذلك كلام الله، وهذا أمر معقول للناس، معقول يعقله الناس، كما قال العلماء في مثل هذه العبارة: الكلام الذي نسمعه من التالي للقرآن الكلام كلام الله، كلام الباري، والصوت؟ صوتك.(5/28)
فالله تكلم القرآن، وسمعه منه جبريل، وبلغه لمحمد الرسول صلى الله عليه وسلم، سمع كلام الله من مَن؟ سمع كلام الله -القرآن أعني- سمع القرآن من مَن؟ جبريل، الصحابة سمعوا القرآن من مَن؟ من الله؟ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا المسلمون سمعوا القرآن، أو سمعوه بعضهم من بعض، وقال -سبحانه وتعالى-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ يسمع كلام الله من مَن؟ يسمعه من الرسول، يسمعه من أحد الصحابة، يسمعه من آحاد المؤمنين، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فالناس لا يسمعون كلام الله من الله، إنما يسمعونه من بعضهم، يؤدونه بأصواتهم وحركاتهم وأفعالهم.
فالحاصل أن لفظ (قراءة وتلاوة ولفظ) كذلك، هذه الكلمات التلاوة والقراءة واللفظ كلها ألفاظ محتملة مجملة؛ فلهذا منع الأئمة من إطلاق القول بلفظي بالقرآن المخلوق، أو تلاوتي القرآن مخلوقة، أو قراءتي؛ لأن القراءة مصدر من اللفظ، يطلق ويراد به الفعل، ويطلق ويراد به المفعول.
ولهذا قال الناظم ابن أبي داود -رحمه الله-: "ولا تقل القرآن" القرآن الذي هو كلام الله، "خلق قُرانه" يعني قراءته، كما في رواية قرآنه ................. فإن كلام الله باللفظ يوضح
كلام الله باللفظ -هنا اللفظ بمعنى التلفظ- باللفظ يوضح بتلفظ القاري يبيّن ويظهر، كيف يبين كلام الله؟ كلام الله كيف تبيّنه لغيرك؟ تبيّنه بأن تقرأه، أن تتلفظ به، أن تسمعه، تقرأ وتُسمع من يريد أن يسمع كلام الله.
"فإن كلام الله باللفظ يوضح" يعني يوضح ويبيّن، وكذلك يوضح بالكتابة أيضا؛ فإن كلام الله يعني يأتي على وجوه: يكون ملفوظًا مقروءًا ومكتوبًا، ويكون لدى السامع مسموعا، ولدى الحافظ محفوظًا، وهو كلام الله في كل هذا؛ فالقرآن كلام الله كيفما تصرف كما قال الإمام أحمد رحمه الله.(5/29)
فهو كلام الله محفوظا في الصدور، ومكتوبًا في المصاحف، ومتلوًّا بالألسن، ومسموعًا بالآذان، هو كلام الله، هو كلام الله كيفما تصرف، تقول المصحف فيه كلام الله؟ نعم فيه كلام الله مكتوبا: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ؛ فهو كتاب مكتوب ومحفوظ في الصدور: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ محفوظ في الصدور، وهو متلو بالألسن: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً نعم ، "فإن كلام الله باللفظ يوضح".
فعلى كل حال -يعني- الحذر من الألفاظ المجملة، لا تتكلم... لا تأتي بألفاظ ملفوظة فيها إجمال؛ لأن هذا مجال يعني من أسباب رد الحق أو قبول الباطل، فالناظم في هذا البيت -رحمه الله- يعني بيّن الواجب في هذا المقام، وأن الواجب هو عدم إطلاق هذا اللفظ نفيا ولا إثباتا إلا مع البيان، لا إله إلا الله، نعم يا شيخ.
4-رؤية الله عز وجل
وقل يتجلى الله للخلق جهرة …كما البدر لا يخفى وربك أوضح
وليس بمولود وليس بوالد وليس له شبه تعالى المسبَّح
يقول الناظم -رحمه الله-: وقل أيها المسلم، أو وقل أيها السني المقتفي لأثر السلف الصالح: وقل غير مخلوق.... وقل يتجلى الله، يعني قل بقلبك معتقدا، وبلسانك مقرًا ومظهرًا، يتجلى الله، يظهر -سبحانه وتعالى- التجلي هو بمعنى الظهور، الظهور يعني بإشراق ونور، التجلي ليس هو مجرد ظهور، ظهور فقط، لا، تجلي بنور إشراق، قال الله -سبحانه وتعالى-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وهو -سبحانه وتعالى- موصوف بالنور: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا .(5/30)
"وقل يتجلى الله للخلق": يتجلى للخلق يعني يظهر للخلق، يعني لجميع الناس، متى؟ ذلك يوم القيامة، ولو لم يقيده المؤلف، لكن هذا بدهي، "وقل يتجلى الله للخلق"، يعني يوم القيامة يتجلى للعباد؛ فيراه الناس، يراه المؤمنون، أو يراه كل الناس، أما المؤمنون فإنهم يرونه، باتفاق أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة، في مواقف القيامة يرون ربهم.
واختلف أهل العلم في رؤية الكفار له على مذاهب؛ قيل لا يراه الكفار بل هم محجوبون عنه مطلقا، وقيل بل يرونه، لكن أي رؤية؟ رؤية السرور؟ لا، رؤية لا تسرهم، رؤية تشتد حسرتهم وخزيهم عند ذلك، فليس لهم فيها حظ، ليس لهم في رؤيتهم حظ من السعادة، ليس لهم في تلك الرؤية حظ من السعادة، يمكن أن يستدل لرؤية الكفار له في مثل قوله -تعالى-: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ وبذكر اللقاء وأن الخلق كلهم ملاقوه: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا .
وقيل يراه المنافقون؛ لأنهم يكونون مع المؤمنين في بعض المواقف فيرون الله تعالى، وهم كذلك لا تسرهم هذه الرؤية ولا يسعدون بها؛ لما يعلمونه من حالهم.
قد يكون الناظم أراد -يعني- بالخلق: خصوصا للمؤمنين، ويكون هذا اللفظ من إطلاق... من اللفظ العام الذي أريد به الخصوص، من العام الذي أريد به الخصوص.
"وقل يتجلى الله للخلق جهرة": يعني الجهر ضد الإسرار، جهر علنا كما طلب بنو إسرائيل قالوا لموسى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ؛ نراه رؤية ظاهرة.
وقل يتجلى الله للخلق جهرة ...........................
شوف السفاريني لما تكلم على الجهرة كلام طويل وقل يتجلى الله الخلق جهرة(5/31)
كما البدر............ كما يعني مثلما يظهر البدر، مثلما يتجلى البدر، والبدر هو القمر في ليالي الإبدار، ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
"وقل يتجلى الله كما البدر" "وما" هذه زائدة، كالبدر، لكن المصنف احتاج إليها من أجل الوزن، ووزن النظم يحتاج إليها، كما البدر لا يخفى، البدر يخفى؟ البدر إذا لم يكن دونه سحاب يخفى؟ لا، والناظم أخذ هذا من تمثيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب ولما قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ هل تضارون في البدر ليس دونه سحاب؟ هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون الله كذلك أو كما قال -صلى الله عليه وسلم- فالناظم أخذ هذا من الحديث.
........................... كما البدر لا يخفى وربك أوضح
الله -تعالى- أظهر إشراقا ونورا، أعظم نورا من الشمس والقمر، وهذا التشبيه، هو تشبيه من قبيل... يعني المشبه هو الرؤية بالرؤية، يعني المشبه والمشبه به في الحديث هو الرؤية، المشبه والمشبه به في الحديث: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب هذا فيه تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي؛ فلا يقال: الله كالبدر.
إذن الناظم في قوله: وقل يتجلى الله للخلق جهرة ..............................
يعني فيراه الناس رؤية لا خفاء فيها كما يرون القمر؛ فالنظم يعني يؤدي إلى اقتراض الكلام، فلا يكون الناظم عنده من سعة التعبير ما يمكنه من بسط الجمل، قال
................................ كما البدر لا يخفى وربك أوضح
الله -تعالى- أظهر وأعظم نورًا وظهورًا من البدر، وربك أوضح.
ثم قال الناظم، ولم ينتهِ موضوع الرؤية، ثم قال الناظم -وهذا كأنه بيت كأنه مقحم بين هذه الأبيات-:(5/32)
وليس بمولودٍ وليس بوالدٍ وليس له شبهٌ تعالى المسبَّح
هذا البيت مضمونه التنزيه، فالله -تعالى- يوصف بالنفي والإثبات؛ من القواعد المقررة أن الله موصوف بالإثبات والنفي، بإثبات صفات الكمال ونفي النقائص والعيوب، ومن ذلك نفي الشبيه والولد والوالد، كما في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فالله -تعالى- ليس بمولود، ليس بمولود كما هو الشأن في المتولدات؛ لأنه -تعالى- لا أول له، هو الأول الذي ليس قبل شيء، المولود محدث بعد أن لم يكن، ومسبوق بغيره، والله -تعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، وليس بوالد، ليس لله ولد، فالولد يكون جزء من والده والله أحد صمد، ويكون نظيرا لوالده والله -تعالى- ليس له نظير ولا شريك، لم يلد ولم يولد.
والناظم أتى بهذا المعنى في قوله: "وليس بمولود"؛ أي وليس الله بمولود، والباء أيضا عند النحويين زائدة، أي وليس الله مولودًا
وليس بمولود وليس بوالد .............................
وليس له شبهٌ" عندك شبهٌ ؟ وليس له شبهٌ، ولو قال وليس له كفؤ كان أولى ليتطابق مع لفظ القرآن، أو قال وليس له مثل ليتطابق مع قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لكن الشبه والمثل والكفؤ كلمات متقاربة.
"تعالى": أي تنزه وتقدس عن هذه النقائص، عن أن يكون له والد أو ولد، عن أن يكون مولودا أو والدًا أو له شبهٌ، تعالى الله -سبحانه وتعالى- فكلمة "سبحانه" وكلمة "تعالى" تستعملان في التنزيه، "تعالى المسبَّح" أي تعالى الله الذي هو المسبَّح المنزَّه عن كل نقص، سبحانه سبحانه: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .(5/33)
"تعالى المسبح": والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، فهو موصوف بالإثبات، بإثبات جميع صفات الكمال، وبالنفي أي نفي جميع النقائص، وكل نفي في صفاته فإنه متضمِّن لإثبات كماله، كل ما ورد من النفي في صفات الله فإنه متضمن لصفات الكمال، فالنفي المحض لا يدخل في صفاته، كما أوضح ذلك الإمام ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومن ذلك القاعدة الأولى في العقيدة التدمرية، تقول القاعدة الأولى: إن الله موصوف بالإثبات والنفي، وبيّن أن النفي المحض ليس فيه مدح ولا كمال، أن النفي المحض -الذي لا يتضمن ثبوتًا- ليس فيه مدح ولا كمال.
فنفي الظلم، نفي الظلم يتضمن إثبات كمال عدله، ونفي الضلال والنسيان يتضمن كمال علمه، ونفي الولد والوالد والكفؤ يتضمن كمال صمديته وأنه الأحد الصمد -سبحانه وتعالى- ونفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، البيت اللي بعده.
5-إنكار الجهمي رؤية العباد لربهم
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا بمصداقِ ما قلنا حديث مصرِّح
رواه جرير عن مقال محمد فقل مثلما قد قال في ذاك تنجح
يقول: "وقد ينكر الجهمي هذا"، و"قد" للتحقيق، ليس للتقليل، "قد" تأتي للتكثير والتقليل والتحقيق، وهذا من النوع... يعني "قد" في هذا السياق للتحقيق، وجاء في القرآن: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ "قد يعلم الله" للتقليل؟ لا، للتحقيق.(5/34)
يقول "وقد ينكر الجهمي"، ينكر ويكذب، الجهمي ينكر ويكذب بأن الله يُرى، فقوله هذا يرجع إلى الأول، هذا هو... أما ليس بمولود وليس بوالد وليس له شبه؛ فهذا ما ينكره. الجهمي يقول... يعني هو أيضا يوافق على أن الله ليس بمولود وليس بوالد وليس له شبه، هذا ماشي، لكن يعني لقائل أن يقول: لماذا الناظم أتى بهذا البيت وأقحمه في وسط الأبيات التي يقرر فيها مسألة الرؤية؟ الذي ظهر لي أنه أتى بها بمناسبة قوله: "كما البدر لا يخفى وربك أوضح" كأنه لما صار... يعني ورد هذا التشبيه جاء بهذا البيت احترازًا، أنه -تعالى- ليس له شبه، وأتى بقول ليس بمولود وليس بوالد -يعني- تكميلًا للمعنى، ولأنها كل هذه الثلاثة جاءت في سورة واحدة وهي سورة الإخلاص.
"قد ينكر الجهمي": يكذب وينكر رؤية العباد لربهم، وفعلا هو الجهمي ينكر هذا، هذه مسألة الرؤية، رؤية العباد أو رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، اختلف فيها الناس؛ فأهل السنة والجماعة -الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الدين- يؤمنون بأن الله يُرى يوم القيامة، يراه المؤمنون رؤية حقيقية عيانا بالأبصار، يرونه بأبصارهم رؤية مثل رؤيتهم للشمس والقمر -لا إله إلا الله- يرونه كما يشاء -سبحانه وتعالى- وأنكر ذلك الجهمية والمعتزلة والرافضة تبعٌ لهم، أنكروا أن الله يرى، يقولون: الله لا يُرى بالأبصار، مستحيل أن يرى، فكما أنه مستحيل عليه الموت والنوم والآفات كذلك يستحيل عليه أن يرى.
والقول الثالث هو قول الأشاعرة، وهو يقوم على التلفيق كما هو قاعدة مذهبهم، مذهب الأشاعرة يقوم على التلفيق والتخليط؛ فيقول: إنه يرى لا في جهة، يعني لا تقول: إنه يرى من فوق ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف، يُرى وبس، وهذا كلام غير معقول، لكنه حملهم على ذلك نفيهم للعلو عن الله، تعالى الله عن قولهم وغيرهم من المبتدعة علوًا كبيرا.(5/35)
والمذهب الحق هو مذهب أهل السنة، أنه -تعالى- يراه المؤمنون عيانا بأبصارهم، لكن من غير إحاطة، يرونه من غير إحاطة، والأدلة على هذا كثيرة كقوله -تعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وقوله -تعالى-: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وجاء تفسير الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، وكذلك قوله -تعالى-: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ وقوله -تعالى- في الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ويستدل بهذا أن المؤمنين بخلاف ذلك، وأنهم لا يحجبون عن الله، بل يرونه سبحانه وتعالى.
واستفاضت السنة في الدلالة على إثبات الرؤية، وجاءت النصوص المستفيضة الكثيرة، ومنها حديث جرير بن عبد الله الذي أشار إليه الناظم، وأما الجهمية فأنكروها وتعلقوا بمثل قوله -تعالى-: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وهي حجة عليهم لا لهم؛ فإن الإدراك المنفي هو الإحاطة، ونفي الإحاطة هو نفي لخاصٍ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام؛ فنفي الرؤية التي معها الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية من غير إحاطة، بل نفي الإحاطة بالله رؤيةً يستلزم أنه يرى لكن من غير إحاطة.(5/36)
واستدلوا بمثل قوله -تعالى- لموسى: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ وقيل في الجواب يعني: إن هذا ليس نفيًا للرؤية مطلقا، بل نفي لرؤية موسى لربه في ذلك المقام "لن تراني"، قال المجيبون عن هذه الحجة: إن هذه الآية تدل على الرؤية؛ فهي أدل على الرؤية من نفيها. الآية هي أدل على الرؤية منها على نفيها؛ لأن الله تعالى لم يقل: إني لا أُرى، بل قال لن تراني، وقال: فإن "استقر مكانه" نعم، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي واستقرار الجبال ممكن، فيلزم من ذلك إمكان الرؤية، إلى وجوه عديدة تضمنتها هذه الآية، ذكرها ابن القيم في الكلام على الرؤية، رؤية أهل الجنة لله -تعالى- في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
يقول الناظم "وقد ينكر الجهمي هذا" إشارة إلى الرؤية، إلى موضوع التجلي وأن الله يتجلى للخلق جهرة، يقول: وعندنا، الناظم يقول: وعندنا حجة على الخصم، على الجهم عندنا، "وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا بمصداق ما قلنا حديث مصرِّح" عندنا بمصداق ما قلنا، عندنا ما يدل على صدق قولنا، وعلى ثبوت مصداق قولنا، وعندنا بمصداق ما قلنا حديث بل أحاديث، حديث مصرِّح بل قرآن؛ فالرؤية قد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع.
............... وعندنا بمصداق ما قلنا حديث مصرِّح
يعني مصرح، فيه التصريح بالرؤية، يعني ما هو لفظ محتمل، لا، لفظ صريح لا يحتمل: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر
يقول الناظم تكميلا: رواه، في بعض... يعني الشارح الظاهر أنه مشى بالنسبة لهذا البيت يقول: "حديث مصحح" يعني حديث صحيح، وهو كذلك هو صريح وصحيح، الحديث في ذلك صحيح وصريح.
يقول رواه جرير عن مقال محمد ............................(5/37)
وهو جرير بن عبد الله البجلي، رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "عن مقال محمد .
رواه جرير عن مقال محمد ............................
نعم، فقل مثل ما قلنا.. البيت.
- فقل مثل ما قد قال.
فقل مثل ما...، فقل أيها السني مثل ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقل مثل ما قد قال، آمن بما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- واعتقد ما قال، واصدع بما قال. "رواه جرير عن مقال محمد فقل مثلما قد قال في ذاك": أي في هذا الموضوع أو في باب الرؤية
............................ فقل مثلما ما قد قال في ذاك تنجح
تنجح يعني تظفر بمطلوبك، النجاح الظفر بالمطلوب، ضد الخيبة والخسران. فقل مثلما قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في رؤية الله، في رؤية المؤمنين لربهم، قل مثلما قد قال في ذاك تنجح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
س: أحسن الله إليكم! هذا سائل يقول: هل تجوز رؤية الله -عز وجل- في المنام؟ وما صحة ما ورد عن الإمام أحمد أنه رأى الله -عز وجل- في المنام تسعا وتسعين مرة؟
ج: الله أعلم، المقرر عند أهل السنة أن رؤية الله في المنام ممكنة، وقد ورد الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر أنه قال: رأيت ربي في المنام على أحسن صورة وهو حديث مشهور، وقد شرحه ابن رجب رحمه الله، فهي ممكنة، ولشيخ الإسلام كلام -كعادته رحمه الله- كلام فيه يعني تفصيل.
ولكن في الحقيقة بالنسبة لي لا أجد ضابطًا يعني يعرف به الرائي أو المعبِّر يعني الضابط الذي يميز به أن هذه الرؤيا هي رؤيا لله، أنها من هذه النوع، لكن على الإجمال أقول نعم المقرر عند أهل السنة أن رؤية الله في المنام ممكنة وواقعة والله أعلم، أما ما يروى أن الإمام أحمد رأى ربه كذا؛ فأنا لا أدري عنه، نعم.(5/38)
س: أحسن الله إليكم! وهذا سؤال جاء في الشبكة يقول: ما السبب الذي دفع الجهمية والمعتزلة إلى القول بخلق القرآن؟ وما الذي يمنعهم من القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؟
ج: الذي أوجب لهم أصلُهم الفاسد، الأصل الباطل الكبير الحقير، وهو نفي صفات الرب -سبحانه وتعالى- فعندهم أنه -تعالى- لا تقوم به أي صفة لا ذاتية ولا فعلية، ونفي جميع الصفات الذاتية والفعلية يستلزم نفي وجود الرب، فلما أصَّلوا هذا الأصل المقبوح الذي فيه أعظم تنقص لرب العالمين؛ تنقص لرب العالمين، يعني مآله العدم، يعني قال بعض العقلاء -للذي وصف الله بأنه كذا وأنه كذا من النفي، حتى قال: إنه لا داخل العالم ولا خارجه- قال: ميِّز بين هذا الرب الذي تثبت وبين المعدوم. فإذا كان الله لا يتكلم، هذا بدهي أن الكلام هذا المضاف لله أنه مخلوق، بدهي ما يحتاج.
فهم يقولون: إنه مخلوق يعني هذا الكلام هذا القرآن لم يتكلم الله به، لمَ؟ لأن الله لا يتكلم؛ ولهذا يرجع الجهمي إلى... يعني لو أمكنه أن يحرف القرآن ويقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا يعني يحرفه ويقول، "وكلم اللهَ موسى" يريد أن موسى كلم ربه، هل أحد منكم يستطيع أن يكلم ربه؟ أنتم ها تستطيعون؟ ما واحد يتكلم؟ يجيب؟ والله كل يوم وأنتم تكلمون ربكم، إذا قام أحدكم من صلاته فإنه يناجي ربه، بل كل من يذكره ويدعوه فإنه يناجي ربه، الداعي يناجي ربه، يا الله يا رحمن يا حي يا قيوم من تكلم يا رجل؟ تكلم ربك، تناجي ربك، تدعو ربك.
لكن خصوصية موسى أيش؟ أنه كلم ربه؟ لا، أن الله كلمه، فالجهمي يريد يحرف ويقول وكلم اللهَ، لو جاءت الآية على هذا التحريف اللي هو "وكلم اللهَ" يصير لموسى خصوصية؟ "وكلم اللهَ موسى" ما فيه خصوصية، نعم.
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول: هل نقول القرآن كلام الله، أو نقول القرآن من كلام الله؟(5/39)
ج: لا، نقول: كلام الله، ما فيه مانع، الله سماه كلام الله نصا، يعني هذا أمر معقول؛ لأن لو سمعت حديث تقول هذا كلام الرسول، لو سمعت نصا لمتكلم تقول هذا كلام فلان، ما هو لازم تقول "مِن" هذا تنطع. لكن مرّ شيء من هذا الكلام لبيان أن القرآن ليس هو كل كلام الله، بمعنى أن الله لم يتكلم إلا بالقرآن، لا، الله لم يزل يتكلم، وكلمات الله لا نفاد لها، نعم.
س: أحسن الله إليكم! يقول: هل يوصف الله عز وجل بالسكوت؟
ج: الله يفعل ما يشاء، نعم.
س: أحسن الله إليكم! وهذا يقول: ما هو حديث جرير المذكور في النظم؟
ج: هو حديث جرير ثابت في الصحيح، أنا ذكرت لفظه بالجملة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: أنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته الحديث.
أحسن الله إليكم وأثاباكم، ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
6- مذهب الجهمية في يدي الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله -تعالى-:
وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه وكلتا يديه بالفواضل تنفح
إلى هنا..
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله وعلى آله وصحبه.
يتابع الناظم ذكر مذهب الجهمية في صفات الله -تعالى-، فذكر مذهبهم في القرآن وذكر مذهبهم في الرؤية، وفي هذا البيت يذكر مذهب الجهمية في يدي الرب -سبحانه وتعالى-، فيقول: "وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه"، أيضًا تأتي بمعنى كذلك، يقول السفاريني عندكم في الشرح: أيضا مصدر آض يئيض بمعنى رجع، ففي معنى الرجوع إلى مثل ما سبق كأنه يقول: وكذلك ومثل ما تقدم.(5/40)
"وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه" أي يمين الرب، يعني ينكر يديه، يقول: إنه -تعالى- ليس له يدان، ثم يبين المؤلف الحق في ذلك فيقول: "وكلتا يديه": وكلتا يدي الرب "بالفواضل" يعني بالعطايا الجزيلة "تنفح" نفحه بكذا يعني أسعده وأسعفه وأعطاه. والسفاريني شرح على رواية أخرى "بالفواضل تنضح" أخذًا من قوله -تعالى-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .
لقد دل الكتاب -القرآن- ودلت سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأجمع أهل السنة على إثبات اليدين لله؛ فالله -تعالى- له يدان يخلق بهما كما خلق آدم بيده، ويأخذ بهما ما شاء كما ثبت في الصحيح: أن الله -تعالى- يأخذ أرضه وسماءه بيديه -يعني يوم القيامة- فيبسطهما ويقبضهما -يعني يبسط يديه ويقبض يديه- سبحانه ويقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون أين المتكبرون؟ وشاهد هذا في قوله -تعالى-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الله -تعالى- له يدان لا تشبه أيدي المخلوقين ولا نعلم كيفيتهما.
فمذهب أهل السنة والجماعة في صفات الرب عمومًا يقوم على ثلاثة أصول: الإثبات إيمانًا بما أخبر الله به ورسوله، ونفي التمثيل، أي نفي مماثلة صفات الله لصفات خلقه، ونفي العلم بالكيفية، فإذا ضمن المسلم ذلك كان مستقيمًا على الحق، إثبات ونفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.(5/41)
فنقول: لله يدان، ونقول: لا تماثل أيدي المخلوقين، وثالثًا لا نعلم كيفيتهما فلا نتخيلهما، ليس لنا أن نتخيل يدي الرب على هيئة أبدًا، كل ما يخطر بالبال من الكيفيات انتبه من الكيفيات؛ فالله -تعالى- بخلاف ذلك لأنه ما يخطر بالبال كيفية صفات الله؛ لا تخطر بالبال، لا نعلم كيفيته فلا يجوز أن نقول: كيف يدي الرب؟ كيف ينزل؟ كيف استوى؟ كما قال ذاك السائل للإمام مالك فأنكر عليه وقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا أراك إلا رجل سوء فأمر به فأُخرج.
فدل على إثبات اليدين لله الكتاب كما في قوله -تعالى-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ قال: ذلك ردًّا على اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في دعاء عليهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ اليهود لما قالوا يد الله مغلولة كان غلطتهم في ماذا؟ في إضافة اليد إلى الله؟ لا، في وصف الله بالبخل، هذا هو المنكر من قولهم.
وعند الجهمية ومن تبعهم نسبة اليد إلى الله هو من الباطل ومن التشبيه الذي عند اليهود، فعند المعطلة أن إثبات اليدين إلى الله تشبيه، وقال -سبحانه وتعالى- لإبليس: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ الآية الأخرى قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟! " فهاتان الآيتان هما أصرح الآيات في الدلالة على إثبات اليدين لله.(5/42)
وجاء ذكر اليدين في مواضع لكن إما بلفظ الإفراد كقوله -تعالى-: " بِيَدِهِ الْمُلْكُ "، أو بلفظ الجمع كما في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ولفظ الإفراد لا يدل على أن اليد واحدة، ولفظ الجمع لا يدل على أن لله أيدي، فإن هذا الأسلوب لا يفيد هذا المعنى، هذا معروف من اللسان العربي ذكر اليد مفردة وذكر اليد مجموعة، بحسب التراكيب؛ فالله -تعالى- له يدان كما صرح بذلك في موضعين من القرآن.
وكما دلت السنة على ذلك، فمنها حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: المقسطون على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ملكوا "وكلتا يديه" هذا هو الشاهد، وكلتا يديه، فله يدان يمين ويده الأخرى، أو يمين وشمال كما في رواية عند مسلم "يدان".
وأما قوله: "وكلتا يديه يمين" فالمقصود كلاهما ذات يمن وخير وبركة في "يمين" في قوله "عن يمين الرحمن" ليس هو معنى "وكلتا يديه يمين" هذه لها دلالة وهذه لها دلالة، "كلتا يديه يمين" يمينه واليد الأخرى كلاهما ذات يمن وخير وبركة، وقد فرق القرآن بينهما في قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وجاء في تفسير هذه الآية من السنة أن الله -تعالى- يطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرض بيده الأخرى، وفي لفظ "بشماله".(5/43)
ومن أدلة إثبات اليدين ما جاء في حديث الشفاعة من أن الناس يقولون لآدم يطلبون منه أن يشفع لهم يقولون: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه هذا هو الشاهد "خلقك الله بيده"، ومن ذلك حديث ابن مسعود في قصة: الحبر اليهودي الذي جاء للرسول -صلى الله عليه وسلم- وذكر له أن الله يجعل المخلوقات على أصابعه: يجعل الماء والشجر على إصبع، والجبال على إصبع، وكذا على إصبع.. وعدّد فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ابن مسعود: ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- تصديقًا لقول الحبر ثم قرأ قوله سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ .
فأهل السنة والجماعة متفقون على إثبات اليدين لله على ما جاء في القرآن وفي السنة، وأنكرت الجهمية ذلك على أصلهم في نفي الصفات كلها عن الله، في نفي الصفات كلها، وكذلك المعتزلة وكذلك الأشاعرة في أكثر الصفات، إذًا اليدان هي من الصفات التي تنفيها الأشاعرة، ينفون يقولون: الله -تعالى- ليس له يدان. ثم يختلفون فمنهم من يفوض النصوص ويقول هذه النصوص الله أعلم بمراده منها، لا نفسرها ولا نفهمها ولا نتدبرها ولا نفكر فيها، ما نفكر في قوله -تعالى-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ولا يمكن لأحد أن يفهم منها شيئا، وهؤلاء هما المفوضة منهم، هم المفوضة من النفاة.
ومنهم من يفسر اليد بالقدرة أو بالنعمة ويقول: إن الله خلق آدم بالقدرة، وهل لآدم مزية على سائر الناس على هذا التقدير؟ ليس لآدم خصوصية؛ فالله خلق كل شيء بقدرته، وإيجاده للإنسان هو من إنعامه عليه، إعطائه ما يحتاج إليه، تفسير اليد بالقدرة أو بالنعمة يذهب بخصوصية آدم وبالفضيلة التي اختص بها ونوّه الله بها في تفضيله حين قال لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .(5/44)
والشبهة العامة عند المعطِّلة هو أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فنفوا كل ما أثبته الله ورسوله من الصفات .
ورد عليهم أهل السنة قالوا: إذًا انفوا كل شيء، إذا كان إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه فانفوا كل شيء حتى الوجود؛ لأن الإنسان موجود، فهل إثبات الوجود لله يستلزم التشبيه؟ بالضرورة لا، فليس وجود الرب كوجود المخلوق إذًا، وكذلك حياته هل إثبات الحياة لله يستلزم التشبيه؟ لا، فليس الحي كالحي، وليست حياة الرب كحياة المخلوق، ولا سمعه كسمعه ولا بصره كبصره، ونقول أيضا خصوصًا للأشعريين: وقل مثل ذلك في وجهه ويديه -سبحانه وتعالى- وغضبه ورضاه ومحبته؛ فليس رضاه كرضا المخلوق ولا محبته كمحبته ولا استوائه كاستوائه، وليست يد الرب كأيدي المخلوقين، ليست يد الرب كأيدي المخلوقين، فهذا هو الواجب، إثبات مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
والمعطلة، يقول العلماء: إن المعطلة جمعوا بين التعطيل والتشبيه؛ فشبهوا أولا حيث توهموا من صفات الرب ما يماثل صفات المخلوقين، وعطلوا ثانية حيث نفوها، وشبهوا ثالثا حيث شبهوا الله بالناقصات والجمادات والمعدومات والله -تعالى- أعلم بنفسه، وهو الذي أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما له من الأسماء والصفات، فأي جهل وأي سفه ما يقوله المعطل! يقول على الله ما لا يعلم ويعارض قول الله ورسوله فيما يزعم أنه معقول.
فالحاصل: أن من صفاته -سبحانه وتعالى- اليدين، فيجب الإيمان به على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، إثباتهم ونفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية، والنصوص الواردة في ذلك على ظاهرها وعلى حقيقتها وهي نصوص مفهومة؛ فالله خاطب عباده بلسان عربي مبين، الله خاطب عباده بلسان عربي والرسول عربي تكلم بكلام مفهوم.(5/45)
ومن العجب أن المفوضة الذين ذكرت قولهم يقولون: إن الرسول لا يعلم، حتى لا يعلم معاني هذه النصوص؛ ولهذا يسميهم أهلُ السنة أهلَ التجهيل؛ لأنهم يُجهِّلون الرسول ويجهلون الصحابة، يجهلونهم بمعاني هذه النصوص، نصوص الصفات، يجهلونهم بمعنى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ "وجه ربك" ومعنى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ "يداه" غير مفهومة المعنى عندهم، فلا الرسول يعلمها ولا الصحابة، وهذا ضلال مبين. كل ذلك ليَسْلم لهم الباطل، باطلهم وهو تعطيل الصفات ونفي الصفات، ومن ذلك نفي اليدين عن الله، تعالى عن قولهم علوا كبيرا.
وقول الناظم : "وكلتا يديه بالفواضل تنفح" أو "تنضح" ذكرت أنه استمد هذا المعنى من قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ والبسط يطلق ويراد به ضد القبض، بسْط اليد وقبْض اليد، والله يقبض يديه ويبسطهما كيف يشاء.
ومن معاني البسط الجود وكثرة العطاء، والله -تعالى- جواد كريم، هو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين؛ فيداه مبسوطتان بكثرة الجود والعطاء، فله يعني فيداه مبسوطتان بالعطاء دائمًا، وهو -تعالى- يبسطهما ويقبضهما كيف شاء كما جاء في حديث أخذه للسماوات والأرض، وأنه يأخذهما فيقبض يديه ويبسطهما، فالله -تعالى- جواد كريم، وفي الحديث الصحيح: يمين الله ملأى سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغِض ما في يمينه أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، نعم هذا ما تيسر في موضوع صفة اليدين لله -تعالى-، نعم.
7- مسألة نزول الله عز وجل
وقل ينزل الجبار في كل ليلة بلا كيف جل الواحد المتمدحُ
إلى طبق الدنيا يمن بفضله فتُفرج أبواب السماء وتفتح
يقول ألا مستغفر يلقى غافرًا ومُستمنِح خيرا ورزقا فيُمنَح
روى ذاك قوم لا يُرد حديثهم ألا خاب قوم كذبوهم وقُبِّحوا(5/46)
هذه أربعة أبيات تضمنها الناظم مسألة النزول، أي النزول الإلهي، نزول الله إلى السماء، "وقل ينزل الجبار" وقل أيها السني المسلم، قل بقلبك ولسانك إقرارًا وإيمانًا قل ينزل الله كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، "وقل ينزل الجبار" والجبار اسم من أسماء الله مذكور في سورة الحشر وقل ينزل الجبار في كل ليلة
...........................
نعم البيت وقل ينزل الجبار في كل ليلة بلا كيفَ جل الواحد المتمدح
"في كل ليلة بلا كيف" يعني بلا كيفية نعلمها، يجب أن ننتبه إلى أن قول الأئمة "بلا كيف" ليس معناه نفي الكيفية، أنه ينزل بلا كيفية وليس لنزوله كيفية، لا، لا يقصدون نفي الكيفية بل نفي العلم بالكيفية.
"بلا كيف" يعني بلا كيفية معلومة لنا، أو بدون أن نقول كيف نؤمن ولا نقول: كيف وقل ينزل الجبار في كل ليلة
بلا كَيْفَ ...
يعني أقر بذلك بلا تقييد ولا سؤال عن الكيفية، لا تقل كيف ينزل، وقل: "ينزل الجبار في كل ليلة، بلا كيف"، "جل" أي تنزه وتعالى -سبحانه وتعالى- عن مماثلة المخلوقات وعن كل نقص وعيب، وهو المتمدح هو الذي يتمدح بذكر محامده وصفات كماله، وفي الحديث الصحيح: لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه الله أثنى على نفسه، يُثني على نفسه في كتابه وفيما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .............................
........... جل الواحد المتمدح إلى طبق الدنيا................
يعني إلى السماء الدنيا، سماها طبقا أخذًا من القرآن، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا "طباقا" طبق فوق طبق، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ طباقا، ولهذا قال "إلى طبق الدنيا" يعني إلى سماء الدنيا، والذي يظهر من إضافة الصفة إلى الموصوف، يعني إلى السماء الدنيا، "طبق الدنيا" يعني إلى الطبق الدنيا، إلى السماء الدنيا.
إلى طبق الدنيا يمن بفضله ..................................(5/47)
يعني ينزل ليمن بفضله -سبحانه وتعالى- على عباده: ... يمن بفضله :
فتفرج أبواب السماء وتفتح
يعني بالعطاء والبذل، فتفرج أبواب السماء وتفتح، وهذا الناظم ينظم معنى ما جاء في الحديث، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، قوله -صلى الله عليه وسلم-: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له .
يقول: يقول الله: "ألا مستغفر"، يعني هل من مستغفر، من يدعوني؟ وقد جاء في بعض الألفاظ "هل من مستغفر" يقول: ألا مستغفر يلقى غافرًا ...............................
"ألا مستغفر يلقى غافرًا"، يجد غافرًا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا . ألا مستغفر يلقى غافرا
ومستمنِح...
والمستمنِح هو الطالب للمنح، والطالب للمنحة والعطية والنعمة: ألا مستغفر يلقى غافرًا
ومستمنح خيرًا ورزقا فيُمنح
أخذًا من الحديث مَن يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له .
وفي هذا ذكر العام وهو الدعاء، عام شامل لدعاء المسألة لدعاء العبادة ودعاء المسألة، ثم الخاص وهو قوله: "من يسألني فأعطيه" وأخص من سؤال المغفرة: "من يستغفرني فأغفر له" فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص.
النزول الإلهي قد تواترت به السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ورواه عنه جمع من الصحابة، وأجمع على الإيمان به أهل السنة والجماعة، فأهل السنة يؤمنون بأنه -تعالى- ينزل حقيقة لا مجازًا، ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء ويقول ما جاء في الحديث، يقول الرب -تعالى- بما أخبر به عنه -صلى الله عليه وسلم-، فيثبتون لله النزول وينفون عنه المماثلة كما تقدم، ينزل لا كنزول الخلق، لا كنزولهم، ولا نعلم كيفيته، إثبات ونفي العلم ونفي التمثيل ونفي العلم بالكيف، أجمع على ذلك أهل السنة لا خلاف بينهم.(5/48)
وأنكرت الجهمية ومن تبعهم المعتزلة والأشاعرة أيضا، كلهم ينكرون حقيقة النزول، وأما موقفهم من الأحاديث فمن ادّعى منهم أنها أحاد يقول: هذه آحاد لا تثبت بها العقائد فيردها من أصلها، وإذا لم يستطع ذلك وأقيمت عليه الحجة بأنها متواترة يفر إلى أحد الطائفتين المتقدمتين، يفر إما إلى التفويض فيقول: هذه نصوص يعني من النوع المتشابه كما تقدم، متشابهة لا يفهم أحد معناها؛ فيجب التفويض والإمساك عن الكلام فيها، لا نتكلم فيها ولا نفهمها ولا نثبت بها شيئًا، هذا معنى التفويض.
لا نثبت النزول، النزول الذي حقيقته معروفة، وهو قرب من جهة العلو، يعني أحاديث النزول يستدل بها أهل السنة على إثبات النزول، وفي نفس الوقت هي من أدلة العلو؛ لأن النزول إنما يكون من علو من فوق، فمن ينفي علوَّ الله لا يمكن أن يثبت له نزول؛ ولهذا قال بعض الأئمة يعني كيف تقولون في هذه الأحاديث -يعني أحاديث النزول، نزول الرب-؟ فقال: أثبتوا فوق، إذا أنت أثبتّ أن الله فوق فإنه -تعالى- يفعل ما يشاء، فأثبتوا فوق، فمن لا يثبت العلو لا يمكن أن يثبت النزول أبدًا، فأهل السنة يثبتون العلو لله ويثبتون النزول، يثبتون أنه -تعالى- فوق مخلوقاته مستوٍ على عرشه، نعم، على ما يليق به ويناسبه ويختص به لا يماثله في شيء من ذلك صفات المخلوقين.
فالنفاة المعطلة يعني يسوقون طريقين: إما طريق التفويض كما تقدم، أو طريق التأويل، يعني هذا مسلكهم في النصوص، إما التفويض وإما التأويل، وفي هذا المقام أهل التأويل منهم يقولون "ينزل": ينزل ملك من الملائكة أو "تنزل": تنزل رحمته +شيء، منهم من يقولون في مثل قوله -تعالى-: وَجَاءَ رَبُّكَ جاء أمره، لأن عندهم الله ما يجيء ولا ينزل ولا يفعل شيئا، لا يقوم به شيء، لا تقوم به الأفعال، فيتأولون بنحو هذا التأويل.(5/49)
فيقال لهم أولا: إن هذا خلاف الظاهر، وثانيًا: هل يجوز أن يكون الملك يقول: من يدعوني؟ الملك يخاطب العباد يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟! هذا ما لا يجوز في عقل مسلم يعظم الله، هذا لا يكون، أو الرحمة تقول! فهذا التحريف باطل إلى باطل، فجمعوا بين التحريف والتعطيل، فنفوا حقيقة النزول عن الله، وحرفوا النصوص لدفع معارضة أهل أصولهم ومذهبهم، تحريف، فيجمعون بين التحريف والتعطيل؛ حيث يصرفون الكلام عن ظاهره إلى غيره بلا حجة يجب المصير إليه.
فيجب الإيمان بأنه -تعالى- ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل كما أخبر الصادق المصدوق، ونقول آمنا بالله وبما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، والصحابة والتابعين لهم بإحسان، تلقوا ذلك بالقبول ولم يعارضوه بخيالات وأوهام وتقديرات وتساؤلات، ولكن لما ظهرت البدع بدعة التعطيل، الجهمية، بدعة التجهم، جاءت المشكلات وجاءت التساؤلات وجاءت الإشكالات.
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية حديث النزول في كتاب معروف، شرح حديث النزول كتاب مجلد، وتكلم فيه وذكر الأحاديث وذكر الروايات وذكر المذاهب في هذا الباب -يعني في موضوع النزول- وذكر كل ما يتصل بهذه المسألة العظيمة، وطريق النجاة والسلامة الإيمان والتسليم، الإيمان بما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق؛ هو أعلم الناس بربه، فيجب الإيمان بما أخبر به وعدم معارضته بأي معقول.(5/50)
وكل التساؤلات التي تخالج النفوس حول النزول أو يتكلم بها من يتكلم ويسأل فيها هذه كلها منشأها قياس الخالق على المخلوق، فطريق الخلاص هو استشعار أن الله ليس كمثله شيء، فليس نزوله كنزول المخلوق، ينزل كيف شاء، وإذا استحضر المسلم هذا واستقر في نفسه اندفع عنه كل شك؛ "ليس كمثله شيء" إذًا فلا تأتي بأي سؤال بأي استشكال حول النزول، شيخ الإسلام في هذا الكتاب ذكر بعض الأمور التي ترد في عقول بعض الناس ويريدها بعض الناس ويتكلم بها، يعني مثل قضية اختلاف الليل والنهار وثلث الليل، يختلف من مكان إلى مكان.
فسؤال: متى ينزل؟ كيف يكون النزول؟ ولذلك يستلزم دوام النزول، وما أشبه ذلك من من الخلجات والأفكار والوساوس.. نقول الله لا يقاس بالخلق، الله ليس كمثله شيء، الله -سبحانه وتعالى- أعلم بنفسه وبخلقه، فالتخلص من كل التساؤلات والخلجات هو استشعار واستحضار أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يقاس بخلقه؛ إذًا فنزوله ليس كنزول المخلوقين.
فصفة النزول نقول: إنها صفة فعلية بالمناسبة، صفة فعلية يعني تتعلق بالمشيئة، فنقول: إنه -سبحانه وتعالى- ينزل كيف شاء إذا شاء ينزل، إذا شاء كيف شاء، والثابت في السنة المتواترة هو نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، كما تقدم.
وصح أيضا: أنه -سبحانه وتعالى- يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف، يباهي بهم الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا! أشهدكم أني قد غفرت لهم أو كما جاء في الحديث، المهم أنه فيه ذكر الدنو، وأما ما ورد من النزول ليلة النصف من شعبان فالمعروف أنه لم يصح في هذا شيء، النزول في ليلة النصف من شعبان، وإن كان بعض العلماء يورد الأحاديث لكن النزول الثابت المتواتر هو النزول الإلهي في ثلث الليل الآخر.(5/51)
والمهم بالدرجة الأولى الإيمان بأن هذا واقع النزول الإلهي ثابت، فأي حديث يصح ويذكر فيه النزول يجب الإيمان به، فالنزول ليس ممتنعًا على الرب بل هو فعل يفعله إذا شاء، كما يجيء يوم القيامة إذا شاء، والصفات الفعلية هي ما تتعلق به المشيئة، فكل ما تقول فيه: إنه يكون إذا شاء، ينزل إذا شاء، ويغضب إذا شاء، ويرضى إذا شاء، واستوى على العرش حين شاء، ويجيء إذا شاء، ويخلق ما شاء إذا شاء، فهو صفة فعلية.
فالضابط بين المسألتين: أن الذاتية هي التي لا تتعلق بها المشيئة وهي لازمة لذات الرب -تعالى-، والفعلية هي التي تتعلق بها المشيئة ولا تكون لازمة لذاته أزلا وأبدا؛ إذا النزول هو من الصفات الفعلية، ومن القول المأثور عن بعض الأئمة وهو الفضيل بن عياض يقول: إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه. يشير إلى موضوع النزول، يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء، انظروا إلى هذا الرد الموجز البليغ: "أنا أومن برب ما يفعل ما يشاء.
البيت الأخير، نعم، يقول: روى ذاك قوم..............
"روى ذاك"، إشارة إلى ما تقدم من النزول الإلهي، وأنه ينزل في كل ليلة ويقول كذا: "ألا مستغفر" روى ذاك قوم لا يُرَدُّ حديثُهم ....................................
يعني رواه الثقات الذين لا يجوز رد حديثهم.
روى ذاك قوم لا يُرَدُّ حديثُهم ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
إشارة إلى المعطلة الذين أنكروا نزول الرب -سبحانه وتعالى-، وردوا هذه الأحاديث، إما ردوها تكذيبا لها، وإما تأويلا وتحريفا لها، ردوها إما بالتكذيب والتحريف روى ذاك قوم لا يرد حديثهم
ألا خاب قوم كذبوهم...........
خابوا وخسروا وقبحوا، كلمات من المؤلف في ذم أولئك المعطلة نفاة الصفات الذين ردوا السنن الصحيحة، بل ردوا نصوص القرآن وحرفوها تَمَسُّكًا بأصولهم الباطلة، واعتمادا على استدلالاتهم وشبهاتهم وحججهم الداحرة ...........................
ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا(5/52)
خابوا وقبحوا.
قلت: إن هذه الصفة أيضًا مما تتفق فيها الأقوال في الطوائف الثلاثة كلهم أيضا، الجهمية يعني هم أئمة المعطلة ينفون الأسماء والصفات جميعا والمعتزلة يشاركونهم ويشابهونهم في معظم ذلك، إذ أنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات وأما الأشاعرة فإنهم يثبتون الصفات السبع كما هو المشهور عنهم، وينفون سائر الصفات ومن ذلك النزول، وطريقتهم واحدة، طريقة الجميع واحدة، كلهم ينفون حقيقة النزول عن الله -تعالى- لكن يختلف موقفهم من النصوص، يعني منهم من يسوق فيها طريق التفويض، إذا لم يستطيع ردها طريق التفويض، وهو نفي يعني القدرة على فهمها، نفي معرفة، نفي إمكان معرفتها، معرفة معانيها، يعني يقول: إنها لا يفهم منها شيء، وإنما تعبدنا الله بتلاوتها، تلاوة القرآن.
والمذهب الثاني مذهب التأويل الذي حقيقته التحريف، هم يسمونه تأويلا؛ لأن التأويل منه ما هو حق ومنه ما هو باطل، ولكن تأويلاتهم لهذه النصوص هي من التحريف المذموم الذي وصف الله به اليهود، التحريف، تحريف الكلم عن مواضعه، وهو صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة، صرف الكلام أو اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر بغير حجة، يجب المصير إليه، نعم.
8- فضل الصحابة وتفاضلهم ومحبتهم
وقل إن خير الناس بعد محمد …وزيراه قُدْمًا ثم عثمان الأرجح
رابعهم خير البرية بعدهم …علي حليف الخير بالخير منجح
وإنهم لرهط لا ريب فيهمو …على نجب الفردوس بالخلد تسرح(5/53)
نلاحظ من الناظم ذكر بعض المسائل المتعلقة بصفات الرب -سبحانه وتعالى-: ذكر مسألة الكلام، ومسألة الرؤية، ومسألة إثبات اليدين، ومسألة النزول، فذكر في باب الأسماء والصفات أربع مسائل، وهي ترشد إلى ما وقع، فبين فيها مذهب أهل الحق، مذهب أهل السنة والجماعة، وأشار إلى المذاهب المخالفة ونص على الجهمية بالذات لأنهم الأصل في هذا الباب، نص على الجهمية في قوله وقد ينكر الجهمية، الجهمية هم الأصل في هذا الباب، ومن تبعهم يمكن أن يقال ويعبر عنهم أو يدخلون في مسمى أو في اسم جهمية أو جهمي، بحسب المشابهة، فالمعتزلة يقال لهم جهمية أحيانا فيدخلون في مسمى جهمية في باب الصفات؛ لنفيهم سائر الصفات.
والمعتزلة جهمية في المسائل التي وافقوا فيها الجهمية، وإذا كان من مذهبهم نفي أكثر الصفات إذًا فهم جهمية لدرجة، ليسوا جهمية محضة، ليسوا جهمية بإطلاق لا لكنهم وافقوا الجهمية في أكثر مسائل الصفات.
وبعد هذا ينتقل إلى ما يجب اعتقاده في الصحابة، ينتقل الناظم إلى ما يجب اعتقاده في الصحابة، والواجب في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بفضلهم وتفاضلهم ومحبتهم وإنزال كل منهم منزلته، والكف عما شجر بينهم ومعرفة أقدارهم والثناء عليهم، والدعاء لهم -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
وقد دل القرآن على فضلهم، ودلت السُّنة على فضلهم عمومًا وخصوصًا، على فضلهم عمومًا، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: خير الناس قرني هذا فيه تفضيل للصحابة إجمالا، عموما: خير الناس قرني وقوله: لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .(5/54)
ومن أدلة فضل الصحابة في القرآن آيات كثيرة، الآيات التي في شأن المهاجرين والأنصار: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ وقوله -سبحانه وتعالى-: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا إلى قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ .
وهم متفاضلون وقد جاءت النصوص أيضا في تفضيل أعيان منهم وجماعات بخصوصهم؛ فيجب الإيمان بالفضل العام لهم وبالفضائل الخاصة لبعضهم، فأفضلهم على الإطلاق هو أبو بكر -رضي الله عنه-، أبو بكر هو أفضل الصحابة على الإطلاق باتفاق أهل السنة؛ فهو أسبق السابقين إلى الإسلام، وهو الصاحب الأول صاحب النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي نوه الله بصحبته في قوله: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فحظه من الصحبة أوفر حظا فهو أحظاهم وأكملهم حظا من صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر. والأدلة على فضله من السنة كثيرة، من ذلك: أنه -صلى الله عليه وسلم- استخلفه في مرض موته ليصلي بالناس وقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس واتفق الصحابة على تقديمه في الخلافة.(5/55)
ومن بعده عمر في الفضل باتفاق أهل السنة، أفضلهم عمر -رضي الله عنه- بعده، وقد ورد كذلك أحاديث كثيرة في فضله وفي فضل أبي بكر، ومن ذلك أن عليا -رضي الله عنه- يقول: كثيرا ما سمعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ومن ذلك حديث رؤيا النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنه كان على قليب عليها دلو، فنزع منها دلوًا أو دلوين ثم أخذها أبو بكر، فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين، قال: وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها عمر فاستحالت غربا فلم أر عبقريا يفْرِي فريه حتى ضرب الناس بعطن .
ومن ذلك حديث ابن عمر في الصحيح قال: كنا نقول ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي أفضل هذه الأمة، أو خير هذه الأمة، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ومن بعد الخليفتين عثمان -رضي الله عنه- الخليفة الراشد، ومن بعده علي وهو رابع الخلفاء الراشدين، فأما أبو بكر وعمر فاتفق أهل السنة على تقديمهما سلفًا وخلفًا، وأما عثمان وعلي فقد كان هناك خلاف عند السلف بين السلف.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية فقدم قوم عثمان، وسكتوا، قالوا: خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وسكتوا، وقدم قوم عليًّا، وقوم توقفوا، فصار في المفاضلة بين عثمان وعلي ثلاثة مذاهب: تقديم عثمان، وتقديم علي، وقولهم بالتوقف لكن يقول: ثم استقر مذهب أهل السنة على تقديم عثمان، و يدل له حديث ابن عمر الذي ذكرته وهو في صحيح البخاري، القول بالتوقف.
فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الخلفاء الراشدين ترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، وبهذا يعلم الفرق بين تفضيل علي على عثمان وتفضيل علي على أبي بكر وعمر، فتفضيل علي على أبي بكر وعمر هذا مذهب الرافضة المبطلين، والرافضة أو الشيعة عموما، فهذا هو المنكر، وهذا هو البدعة المخالفة للسنن الصحيحة.(5/56)
فهذه المسألة ليست مما يبدع بها، يعني مما يبدع به القائل بها، لكن يقول الذي يُنكَر هو الطعن في خلافة عثمان، فالطعن في خلافة عثمان هذا هو المنكر، فيجب الاعتراف بأن خلافته خلافة راشدة، وأنهم جميعًا هم الخلفاء الراشدون، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدون، وإذا أطلقوا في كلام أهل العلم ينصرف إلى هؤلاء الأربعة.
إذًا فهؤلاء الأربعة هم أفضل الصحابة على الإطلاق، ومن فضائل علي -رضي الله عنه- حديث معروف، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. ثم تبين أنه علي، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ .
نعم قل النظم واحدا واحدا. البيت الأول يا شيخ؟ نعم، البيت الأول.
وقل إن خير الناس بعد محمد وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
يقول: وقل إن خير الناس...............
خير الناس، لأنهم خير هذه الأمة، وإذا كانت هذه الأمة هي خير الأمم فالنتيجة أن أبا بكر وعمر هم خير الناس بعد الأنبياء، وهكذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصحابة إجمالا: إنهم خير الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، "وقل إن خير الناس"، يعني بعد نبيها، بعد الأنبياء إذا قال بعد نبيهم فإنه يتعين أن خير الناس يعني من هذه الأمة، إن خير هذه الأمة بعد نبيها، وهذا أولى لقوله بعد نبيها، لكن إذا قلنا إنهم خير الناس عموما، يعني بعد الأنبياء الصحابة -رضي الله عنها- خير الناس بعد الأنبياء، وخير هذه الأمة بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم-.(5/57)
إن خير الناس بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- وزيراه أبو بكر وعمر، وقال إنهما وزيراه لأنهما العضدان والمعينان له، وكانا ملازمين له ودائمًا هما معه، كما في حديث علي المشار إليه آنفًا، وزيراه ثم عثمان الأرجح، "وزيراه قُدْمًا" يعني أولا، "ثم عثمان الأرجح"، وهذا تقرير من الناظم لما استقر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، أقول لما استقر عليه مذهب أهل السنة والجماعة، "وعثمان الأرجح" يعني على من سواه من الصحابة بعد أبي بكر وعمر، أرجح: هو أفضل ممن سواه، عدا أبي بكر وعمر.
وقل إن خير الناس بعد محمد وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
نعم، وبعده..
ورابعهم خير البرية بعدهم علي حليف الخير بالخير منجح
"ورابعهم" رابع الخلفاء الراشدين، رابعهم في الفضل، "وبعدهم" وبعدهم، "خير البرية بعدهم"، لاحظوا: "ورابعهم -في الفضل- خير البرية بعدهم" خير البرية بعد أبي بكر وعمر وعثمان، وعلي خير البرية بعدهم، هو علي -رضي الله عنه-، علي -رضي الله عنه- حليف الخير بالخير مُنجح، "حليف الخير" يعني ملازم للخير ملازم للعلم، والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله.
ورابعهم خير البرية بعدهم علي حليف الخير بالخير منجح
نعم، بعده..
وإنهم للرهط لا ريب فيهمو علي نُجُبِ الفردوس بالخلد تسرحُ
هذا البيت ينوه فيه الناظم إلى ما أعد الله لهؤلاء الرهط وأمثالهم من النعيم المقيم، "وإنهم" هذا يعود إلى من تقدم ذكرهم من الخلفاء الأربعة، وإنهم للرهط، أو والرهط، أو وإنهم الرهط؛ هذه اختلافات في رواية هذا البيت، وأظن التفعيلة تمشي على اللام
وإنهم للرهط لا ريب فيهمو ..................................
يعني الرهط لفظ يطلق فيقولون من الثلاثة إلى العشرة الرهط
"لا ريب فيهم" لا ريب فيما ذُكر مما أعد الله لهم، وكأنه يشير إلى أنهم مبشرون.(5/58)
وإنه قد يترجح في العطف بالواو، (وإنهم والرهط لا ريب فيهم)، يعني بقية العشرة، "على نجب الفردوس" النُّجب جمع نجيبة، وهي الرواحل القوية الحسنة الجميلة، "على نجب الفردوس -في الخلد أو- بالخلد تسرح"، يشير في هذا البيت إلى أنهم مبشَّرون من المبشرين بالجنة، وقد ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بشراهم بالجنة عموما مع العشرة ومع غيرهم، فهؤلاء مخصوصون في الفضل وهم من المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
وإنهم للرهط لا ريب فيهمو على نجب الفردوس بالخلد تسرح
يعني في جنة الخلد تسرح وتذهب هنا وهناك كما يشاءون وكما هيأ الله لهم من النعيم المقيم، فالجنة فسيحة واسعة ينطلق فيها أهلها ويتمتعون بما أعد الله لهم فيها، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم بِمَنِّهِ وكرمه وصلى الله وسلم وبارك على رسوله.
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، يقول: ما معنى حديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض ؟
يعني من حيث فضل الاستلام والتقبيل يوضح نفس الحديث، نفس الحديث + كمثل يمين الله في الأرض، فمن استلمه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه.(5/59)
المقصود منه الدلالة على فضل استلامه وتقبيله، و لا يفهم منه العاقل الذي يفهم دلالة الكلام، لا يُفهم منه أن الحجر هو يد الله -تعالى-، لا؛ ولهذا قال: "يمن الله في الأرض والله -تعالى- في السماء"، وثانيا أنه قال: فمن استلمه وقبَّله فكأنما، ولم يقل: فمن استلمه وقبله فقد استلم الله وقبَّله، بل قال: "فكأنما صافح الله"، "فمن استلمه وقبله فكأنما صافح الله"، ولم يقل: فمن استلمه وقبله فقد صافح الله. بل قال: "كأنما"، والمشبه غير المشبه به، كما أوضح ذلك الإمام ابن تيمية في العقيدة التدمرية فارجع إليه؛ ذكر الحديث وذكر توجيهه ورد على من يزعم أن ظاهره معنى فاسد، وبين أيضا أنه أثر، يعني لم يثبت مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل المعروف أنه من قول ابن عباس، ولكنه يمكن أن يقال: إن له حكم الرفع، نعم.
أحسن الله إليكم، وهذا يقول: نرجو من فضيلتكم أن توضحوا لنا إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي عندما قال: "إن لله سمعا؛ ووضع يده على أذنه"؟
الثابت: أنه -عليه الصلاة والسلام- لما قرأ قوله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وضع إبهامه على أذنه والسبابة على عينه قال أهل العلم معناه: التنبيه على حقيقة السمع والبصر، أن الله يسمع حقيقة بسمع ويرى ببصر، تنبيه على الحقيقة، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر أن الله يقبض الأرض والسماوات ويبسط يديه جعل الرسول يقبض يديه ويبسطها، الرسول جعل يقبض ويبسط للتنبيه على إرادة الحقيقة.
ولا يؤخذ من هذا أن لله عينًا أو أذنًا، لا، لكن العينين ثبت أو إثباتهما بأدلة سوى هذا، كقوله -تعالى-: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا وقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وما أشبه ذلك، وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أما هذا الحديث لا يستدل به على إثبات العين، كما لا يستدل به على إثبات الأذن، نعم.(5/60)
أحسن الله إليكم، كثر السؤال عن قوله عز وجل: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .
"الأيْدُ" في هذه الآية بمعنى القوة، الأيد بمعنى القوة ليس معناه جمع يد، فلا نقول إن الله بنى السماء بيديه، لا، بل الله -تعالى- بنى السماء بقوة؛ فأيْد مصدر آدَ يئيدُ أيْدًا، كما قال -سبحانه وتعالى-: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ داود ذا الأيد، يعني: له أيدٍ؟ لا، ذا الأيد أي: ذا القوة.
إذًا الآية: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ تدل على أي صفات الرب؟ هل تدل على إثبات اليدين؟ لا، تدل على أي صفة؟ تدل على إثبات القوة، ومن المناسبات أن هذه السورة نفسها بعدها بقليل سورة الذاريات: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فورد ذكر القوة في هذه السورة صفة لله في موضع، والسماء بنيناها بأيد، أي بقوة، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ نعم.
أحسن الله إليكم، يقول: قد يرد علينا المُفوِّض ويقول: الأسلم أن لا نخوض في الصفات لئلا نقع في التشبيه. فما الرد، وجزاكم الله خيرًا؟
هذا السؤال "الأسلم" هذا يرجع إلى عبارة أولئك المفوضة المعطلة، يعني اعلموا أن المفوضة معطلة، ضعوا في أذهانكم أن المفوضة معطلة، لا أنهم مثبتة، لا هم معطلة، فيقولون، يقول بعضهم تلبيسا وتمويها: إن طريقة السلف هي طريقة التفويض وهي أسلم، وطريقة الخَلَف طريقة التأويل وهي أعلم وأحكم. وهو كلام باطل متناقض، فالمعقول أن ما كان أسلم هو أعلم وأحكم، وما كان أعلم وأحكم فهو أسلم، فهل تكون السلامة في الجهل وقلة الحكمة؟ كلا.(5/61)
وكلمة: إن الخوض فيها يؤدي إلى التشبيه. هذا إنما يؤدي التشبيه عند صاحب الذهن الفاسد الجاهل، أو الذهن المتسمم بمذهب التعطيل، وإلا فالكلام في أسماء الله وصفاته في التعريف.. أنت أيها المفوض هل عرفت ربك؟! لا والله، لو قلت له: هل لله وجه؟ يقول: لا أدري، لا، بل المفوض يقول: ليس لله وجه حقيقة موصوف بكذا بالجلال، ليس له يدان يفعل بهما، ينفي كل الصفات، ما تقول في قول: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ؟ يقول: الله أعلم بمراده ما أدري، أيش معنى وجه؟ بَلْ يَدَاهُ ما معنى يداه؟ يقول: ما أدري والله، الله أعلم بمراده، انظروا، جهل وتعطيل.
وماذا يتضمن هذا المسلك، يتضمن أن هذه النصوص لا تفيد علما ولا هدى ولا بيانا ولا شفاء، لا يحصل بها بيان ولا هدى ولا شفاء، فمذهب التفويض أو القول بالتفويض يتضمن أن هذه النصوص خالية عن العلم والبيان والهدى والشفاء، نعم.
أحسن الله إليكم وأثابكم ونفعنا بعلمكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إلى هنا ما وجدنا للسيخ .
أخوكم خالد بن محمد الغرباني(5/62)
غيث العقيدة السلفية
شرح منظومة الحائية
لفضيلة الشيخ خالد بن إبراهيم الصقعبي
جميع حقوق النسخ محفوظة لموقع ريحانة العلم
2007م - 1428هـ
المُقَدِّمَةٌ
الحمد لله القائل { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (1) نحمده ونثني عليه الخير كله ونستهديه ونتوكل عليه ونسأله فضله ورحمته, ونصلي ونسلم على نبينا محمد الذي حدّّّّّّّث بقوله: (وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة, كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية لما سئل من هي ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فقد جاءت عقيدة الإسلام صافية خالية من الشوائب والأكدار, فعاش عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ومن كان معهم من بقية المسلمين حتى كان مقتل عمر ثم عثمان ثم علي حيث قتله الخوارج بعد خروجهم عليه رضي الله عنهم أجمعين, ثم توالى خروج فرقة زائغة كالرافضة والقدرية المرجئة والأشعرية إلى غير ذلك من ضلالات وانحرافات أهل البدع.
ولصد هذه اللوثات الفكرية والإلتواءات العقدية قام الجهابذة من علماء الأمة بحركة الرد, دفاعاً وبياناً وإيضاحاً بالأدلة والبراهين القاطعة, على سبيل النثر أو النظم.
ومنها هذه القصيدة التي بين أيدينا, وهي قصيدة محدودة الأبيات سهلة المباني, وجيزة المعاني, حيث تضمنت تقرير معتقد أهل السنة والجماعة في أهم المسائل على وجه الإجمال, لذا يستفيد منها طالب العلم باختصار الألفاظ وجمع المعاني...حيث يحفظ أبياتها فتثبت معانيها!!!.
ويستفيد الداعية(2) أيضاً من شرح تلك الردود بالتأصيل والحجة والبيان, لنسف قواعد تلك الفرق كالرافضة وغيرهم ممن بقي في هذا العصر من أذناب تلك المذاهب, لإبطال ضلالاتهم.
__________
(1) الأنعام: من الآية90)
(2) وإن كان الأصل أن يكون الداعية طالب علم وطالب العلم داعية.(1/1)
وقد قام الشيخ خالد الصقعبي سدده الله بشرح هذه الأبيات رجوعاً لأدلةٍ شرعية, وتفصيلاً لأقوال سلفية, بزيادات تأصيلية, وإيجاز غير مخل وإسهاب غير ممل, وقد أذن وفقه الله بإخراج ذلك بطباعته بمذكرة بعد أن تفضل بمراجعتها وتنقيحها.
نسأل الله الكريم أن يُعظم لشيخنا الأجر, وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فلقد يسر الله تعالى شرح منظومة الحائية لابن أبي داود ضمن
سلسلة الدروس العلمية المقامة في دار أم المؤمنين خديجة بنت
خويلد, ولرغبة كثير من الإخوة والأخوات طباعتها
قامت بعض طالبات العلم بإخراجها بعد طباعتها.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يجزي خيراً من أعان على نشرها.
والله تعالى أعلم
وكتبه:
خالد بن إبراهيم الصقعبي
المنظومة
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى ... ولا تَكُ بِدْعِيَّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ والسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَن رَسُولِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا ... بِذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُوا
وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلاً ... كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا
ولا تَقُلِ القُرآنُ خَلقاً قرأتَهُ ... فإنَّ كَلامَ اللهِ باللفْظِ يُوضَحُ
وَقُلْ يَتَجلَّى اللهُ للخَلْقِ جَهْرةً ... كَمَا البدْرُ لا يَخْفى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بمْولُودٍ وليسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيسَ لهُ شِبْهٌ تَعَالَى المسَبَّحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْميُّ هَذَا وعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ ما قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
رَوَاهُ جَرِيرٌ عن مَقَالِ مُحمَّدٍ ... فقُلْ مِثْلَ ما قَدْ قَالَ في ذَاكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تَنْفَحُ(1/2)
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ في كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلا كَيْف جَلَّ الواحدُ المتَمَدِّحُ
إلى طَبَقِ الدُّنيا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوابُ السَّماءِ وتُفْتحُ
يَقولُ : ألا مُسْتغفِرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... ومُسْتَمنِحٌ خَيْرًا ورِزقًا فأمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لا يُرَدُّ حَدِيثَهم ... ألا خَابَ قَوْمٌ كذَّبوهُم وقُبِّحُوا
وَقُلْ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيراهُ قُدْمًا , ثُمَّ عُثْمَانُ أرْجَحُ
وَرابِعُهُم خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُم ... عَلِيٌّ حَليفُ الخَيرِ , بالخَيرِ مُنْجِحُ
وإنَّهمُ و الرَّهْطُ لا رَيْبَ فِيْهِمُ ... عَلَى نُجُبِ الفِرْدَوْسِ في الخُلْدِ تَسْرَحُ
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحةٌ ... وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
وَعَائِشُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنا ... مُعَاوِيَة أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصلحُ
وَأَنْصارُه وَالهَاجِرونَ دِيارَهم ... بنصرهُمُ عَنْ ظلمةِ النَّارِ زحزحُوا
وَمَنْ بعدَهُم وَالتابِعُون بِحُسنِ مَا ... حَذو حَذوهم قَولاً وَفِعلاً فَأفْلحوا
وَقُلْ خَيْرَ قولٍ في الصَّحَابةِ كُلِّهِمْ ... ولا تَكُ طَعَّاناً تَعِيْبُ وَتَجْرَحُ
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ المُبينُ بِفَضْلِهِمْ ... وفي الفَتْحِ آيٌ في الصَّحابةِ تَمْدَحُ
وبِالقَدَرِ المقْدُورِ أيْقِنْ فإنَّهُ ... دِعَامَةُ عقْدِ الدِّينِ والدِّينُ أفْيَحُ
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً نَكِيرًا ومُنْكَراً ... وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
وقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظيمُ بِفَضلِهِ ... مِن النارِ أجْسادًا مِن الفَحْمِ تُطْرَحُ
عَلَى النَّهرِ في الفِردوسِ تَحْيا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَميلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
فإنَّ رَسُولَ اللهِ للخَلقِ شَافعٌ ... وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ(1/3)
ولا تُكْفِّرَنَّ أهْلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوا ... فكلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصْفَحُ
ولا تَعتقِدْ رَأيَ الخَوارجِ إنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... ألا إنَّمَا المُرْجيُّ بالدِّينِ يَمْزَحُ
وقُلْ إنَّما الإيمانُ قَوْلٌ ونيَّةٌ ... وِفعْلٌ عَلَى قَولِ النبيِّ مُصَرَّحُ
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً ... بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عنكَ آراءَ الرِّجالِ وَقولَهُم ... فَقْولُ رَسُولِ اللهِ أَزكى وَأَشْرَحُ
وَلا تَكُ مِن قوْمٍ تَلَهَّوْ بِدِينِهِم ... فَتَطْعنَ في أَهَلِ الحَدَيثِ وتَقْدَحُ
إذا مَا اعتقدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هذِه ... فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
ترجمة الناظم:
هو الحافظ المتقن العلامة قدوة المحدثين وعمدة المدققين الحافظ أبو بكر عبدالله بن الحافظ الكبير الإمام سليمان بين الأشعث السجستاني صاحب التصانيف المفيدة والفؤائد المجيدة.
ولد سنة 230هـ وتوفي سنة 316هـ , وهو ابن ست وثمانين سنة وستة أشهر وأيام. نشأ في بيت علم, فوالده هو أبي داود صاحب سنن أبي داود. رحل أبو بكر وسمع وبرع وساد الأقران, رحل به أبوه من سجستان فطوّف به شرقاً وغرباً وأسمعه من علماء ذلك الوقت, فسمع بخراسان والجبال واصبهان, وفارس والبصرة, وبغداد والكوفة, والمدينة ومكة والشام ومصر, والجزيرة. واستوطن بغداد, وصنف المسند, والسنن, والتفسير, والقراءات, والناسخ والمنسوخ وغير ذلك.(1/4)
كان حافظاً عالماً ومن أدلة حفظه ما قاله الأزهري قال: سمعت أحمد بن إبراهيم بن شاذان يقول: خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان في أيام عمرو بن الليث فأجتمع إليه أصحاب الحديث وسألوه أن يحدثهم فأبى وقال: ليس معي كتاب, فقيل له ابن أبي داود وكتاب؟! قال أبو بكر فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي, فلما قدمت بغداد قال البغداديون مضى ابن أبي داود إلى سجستان ولعب بالناس ثم جهزوا فيجاً(1) أكتروه إلى سجستان ليكتب لهم النسخة فكتبت وجيء بها إلى بغداد, وعرضت على الحافظ فخطئوني في ستة أحاديث, منها ثلاثة حدثت بها كما حدثت وثلاثة أحاديث أخطات فيها.
له عدة مؤلفات منها:
هذه المنظومة وهي تقع في ثلاثة وثلاثين بيتاً, وقد تضمن أمهات المسائل في العقيدة وخاصة المسائل التي جرت فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة والمخالفين لهم من أهل البدع وهذه المسائل فيها:
1-التمسك بالقرآن والسنة والتحذير من البدع.
2-مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق.
3-الرؤية.
4-اليدان.
5-النزول.
6-فضائل الصحابة رضي الله عليهم.
7-القدر.
8-عذاب القبر والمسألة.
9-الحوض.
10-الميزان.
11-الشفاعة.
12-الخوارج والتحذير من رأيهم.
13-الإيمان.
14-التمسك بالقرآن والسنة وترك الرأي.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
- 1 -
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى ... ولا تَكُ بِدْعِيّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
لم يصدّر الناظم منظومته بالبسملة, وقد ذكر أهل العلم لذلك أسباباً:
1. أن هذه المنظومة جاءت في ترجمة المؤلف وليس من عادة المترجمين ذكر البسملة في أول المنظومات.
2. هضم لحق نفسه, فكأنه رأى أن هذه المنظومة ليست من المنظومات التي يهتم بها وليست ذا بال عنده.
__________
(1) الفيج الجماعة من الناس. والفيج المسرع في مشيه الذي يحمل الأخبار من بلد إلى بلد.(1/5)
3. لعدم جواز البسملة في أول الشعر كذا قاله بعض أهل العلم, والجمهور على جواز ذلك إن كان الشعر طيباً وليس قبيحاً. والسبب الذي يتوجه هو الأول.
(تمسك) : أي أيها المسلم السني المتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماعة السلف الصالح من أهل الفرقة الناجية.
(بحبل) : أي شرع الله من الكتاب الذي أنزله الله تعالى وما شرعه على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو نظير قوله تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } (1) أي بدين الإسلام أو بكتابه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { القرآن حبل الله المتين } (2) وهنا استعار له بالحبل من حيث أن التمسك به سبب النجاة عند التردي كما أن التمسك بالحبل سبب السلامة عند التردي الموثوق به والاعتماد عليه فهو استعارة مصرحة.
ومما لا شك فيه ولا ريب أن التمسك بالكتاب والسنة سبب للفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة, أما في الدنيا فلما يحصل للإنسان من انشراح الصدر وكثرة الرزق والبركة في العمر, وأما في الآخرة فيكفي من ذلك دخول الجنة وفوق ذلك لذة النظر إلى وجهه الكريم.
(الله) : علم على الباري جلا وعلا, وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى أنه في قوله تعالى)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (3) لا نقول: إن الله صفة, بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعاً, وهو جامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العليا ولذا يضاف إليه جميع الأسماء فيقال مثلاً: الرحمن من أسماء الله ولا يضاف إليه شيء وهو مشتق من أله يأله إذا عُبد فهو إله بمعنى مألوه أي معبود فهو دال على صفة له وهي الإلهية.
__________
(1) آل عمران: من الآية103).
(2) رواه الترمذي.
(3) ابراهيم: من الآية1-2)(1/6)
وأصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم, فحذفت الهمزة وأدغمت اللام باللام فيقيل الله. وعناه ذو الإلوهية والعبودية على خلقه أجمعين, قال بعض العلماء: إنه الاسم الأعظم.
وعندنا (الله, رب) إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. وهنا قيل (الله) فيكون معناها ذو الأولهية والربوبية, وإذا قيل (الحمد لله رب العالمين) فالله أي ذو الإلوهية, ورب أي ذو الربوبية.
(واتبع الهدى) : الهدى لغة الرشاد والدلالة.
اصطلاحاً: المقصود بالهدى أي الذي جاء به النبي.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفؤائد أن الهداية أربعة أنواع:
1) الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(1) } أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره, وأعطى كل عضو شكله وهيئته, وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه لما خلقه من الأعمال.
2) هداية البيان والدالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك كما قال تعالى { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(2) } . وهذه الهداية لا تستلزم الهدي التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينتفي الهدى معها كقوله تعالى { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى(3) } أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله تعالى { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4) } وهذه تنكرها المعتزلة, فعندهم يلزم من الهداية الهدى فلا هداية عندهم إن لم تكن موصلة.
__________
(1) طه: من الآية50)
(2) البلد:10)
(3) فصلت: من الآية17)
(4) الشورى: من الآية52)(1/7)
3) هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتدى فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله تعالى { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (1) وقوله تعالى { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ(2) } .
4) غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة أو النار إذا سيق أهلهما إليهما, قال تعالى في حق أهل النار { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } (3) وقال تعالى في حق أهل النار { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(4) } *(5).
(ولا تك) : لا ناهية. تكُ أصلها تكون دخلت أداة النهي فسكنت النون فالتقى ساكنان النون والواو فحذفت الواو لالتقاء الساكنين فصارت اللفظة (تكن) فحذفت النون تخفيفاً حذفاً جائزاً لا لازماً فصارت(تك). وكان القياس أن لا تحذف هذه النون لكنهم حذفوها تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
(بدعياً) : البدعة طريقة مستحدثة في الدين يراد بها التعبد تخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة, وقد عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث يقول: (والبدعة ما خالف الكتاب والسنة, وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات كأقوال الخوارج, والروافض, والقدرية, والجهمية, وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد, والذين يتعبدون بحلق اللحى, وأكل الحشيشة, وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة, والله أعلم)(6).
__________
(1) فاطر: من الآية8)
(2) النحل: من الآية37)
(3) لأعراف: من الآية43)
(4) الصافات:23)
(5) بتصرف من كتاب الفؤائد.
(6) الفتاوى 18/364.(1/8)
مسألة: البدعة اللغوية والبدعة التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً لسلف الأمة, هذه البدعة إنما سميت بدعة في اللغة, إلا أنها قد لا تكون سيئة بل قد تكون حسنة, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين, وما لم يُعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة, قال الشافعي رحمه الله " البدعة بدعتان, بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً, وأثراً عن بعض (أصحاب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذه بدعة ضلالة, وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: (نعمت البدعة هذه) وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل, ويروى عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال: (إذا قل العلم ظهر الجفا, وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء)](1).
ومثل هذا ما استحدث من وسائل وأساليب في العلم والتعلم والدعوة كالمدارس والجامعات وطبع القرآن, ونشره, وتنظيم الجيوش, والدواوين, وما قد يدخل في المصالح المرسلة, وما لا يتم الواجب إلا به.
مسألة: حد البدعة التي يكون الرجل بها من أهل الأهواء.
لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع إلا إذا جاء أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والبدعة التي يُعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم السنة مخالفتها للكتاب والسنة, كبدعة الخوارج, والروافض, والقدرية, والمرجئة. قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ...الخ)(2).
مسألة: أصول البدع.
أصول البدع القديمة خمسة هي: الرفض, والخروج, والتجهم, وإنكار القدر, والإرجاء, والبدعة طريقة مستحدثة في الدين ولها صور كثيرة متعددة:
* فإما أن تكون بإحداث زيادة في الدين وجعلها منه كما قال - صلى الله عليه وسلم - { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } (3).
__________
(1) الفتاوى20/163.
(2) الفتاوى35/1414-1415.
(3) متفق عليه.(1/9)
* وإما بحذف ما هو وارد من الدين كبدعة من أنكر السنة وقالوا حسبنا كتاب الله وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - { يوشك رجل شبعان على أريكته يقول حسبنا كتاب الله فما وجدنا منه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه حرام حرّمناه, ألا وإنما أُتيت هذا القرآن ومثله معه } (1), فنفاة السنة مبتدعة.
* وإما أن تكون البدعة بتحريف معاني النصوص من آيات وأحاديث, كما هي بدعة المؤولة من الجهمية والمعطلة.
* وأما أن تكون بجهل وتطرف, ومروق من الدين كما هي بدعة الخوارج.
مسألة: تقسيم العز بن عبدالسلام البدعة.
قسم العز بن عبدالسلام البدعة إلى بدعة مكروهة وحسنة, وهذا التقسيم غير صحيح. وقد رد عليه الشاطبي فقال: (فليس في الإسلام بدعة حسنة لما روى في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { وكل بدعة ضلالة } (2).
مسألة: من المباحث ما تشبث به أهل البدع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم { من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها...الخ } (3).
يتشبث بعض أهل البدع في مثل هذا الحديث, وهذا الحديث يجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أن المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { من سن في الإسلام سنة... } أي سنة العمل وليس سنة التشريع, فإذا سن في الإسلام عملاً وله أصل في الشرع فهذه سنة حسنة, كما لو سن التدريس في هذا المسجد أو في هذا البلد, فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة, لأن هذا له أصل في الشرع, ويدل لذلك ما ورد في صحيح مسلم سبب الحديث { أن أناساً من مضر قدموا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليهم فاقة...ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصدقة ثم تقدم بعض الصحابة وتصدقوا... } فقال - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
__________
(1) رواه بن معدي يكرب.
(2) رواه مسلم وابن ماجه والنسائي وأحمد والبيهقي في السنن الكبرى.
(3) رواه مسلم في كتاب الزكاة, باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.(1/10)
الجواب الثاني: إن هذا في الوسائل لا في المقاصد أي الطرق الموصلة إلى العبادات, من سن ذلك كان له أجرها...فهناك كثير من الوسائل للدعوة لم تكن موجودة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتصانيف العلماء قولهم مثلاً شروط الصلاة, واجبات الصلاة...الخ, هذا لم يرد لا في كتاب ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكنها من الوسائل الموصلة للعلم, كذلك وسائل الدعوة تعددت وتنوعت.
مسألة: وأعلم أن الإنسان لا يكون متابعاً إلا بتحقيق ستة أمور.
1. الجنس. 2. القدر. 3. المكان. 4. الكيفية. 5. الكيفية. 6. السبب.
الجنس: كالأضحية لا تكون مشروعة إلا ببهيمة الإنعام, فلو ضحى إنسان بغير الجنس: الذي جاء به الشرع فهو بدعة كالأضحية بدجاج مثلاً.
ومن أمثلة ذلك: صدقة الفطر ورد عن الشارع فيها الإطعام من قوت أهل البلد, فلو أن الإنسان أخرج ثياباً ولم يخرج طعاماً فهنا لم يتابع الشرع, لأنه خالف الجنس.
كذلك القدر: الشارع جاء بتقدير بعض العبادات, مثلاً صلاة العشاء أربع ركعات فلو زاد خامسة متعمداً فهذا بدعة.
كذلك الزمان: العبادات جعل الشارع لها أزمنة, فالصوم في رمضان فلو صام في غير رمضان لغير عذر فهو بدعة.
كذلك المكان: بعض العبادات جعل لها الشارع مكاناً معيناً, كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة فلو تعبد الله بها في غير أماكنها فهو بدعة.
كذلك الكيفية: ككيفية الوضوء والتيمم.
كذلك السبب: فلو جاء بعبادة بخلاف سببها فهو بدعة, مثلاً ككفارة اليمين لو أتى بعبادة الكفارة قبل السبب " أي الحلف " فعبادته مردودة عليه.(1/11)
(لعلك) : أيها الأثري المقتفي لنظمي ونثري إن تمسكت بالشرع القويم من الكتاب العزيز وبما صح عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم والسلف الصالح القويم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعمول عليهم في سائر الأزمان, وجانبت أهل البدع ولم تركن إلى أهوائهم وما انتحلوه وابتدعوه من دعاويهم ودعواهم ومباينة اعتقادهم ومجانبة فسادهم وإفسادهم.
(تفلح) : أي تفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم في عرصات الآخرة وجنات النعيم. والفلاح من الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة, قيل إنه عبارة عن أربعة أشياء بقاء بلا فناء, وغنى بلا فقر, وعز بلا ذل, وعلم بلا جهل.
- 2 -
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ والسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَن رَسُولِ اللهِ تَنْجُ وَتَرْبَحُ
(ودن) : أمر من دان يدين يقال: دِنته بكسر الدال أي جازيته.
والدين في اللغة يطلق على معاني منها:
الجزاء, والإسلام, العادة, المواظب من الأمطار, والطاعة, والذل, والحساب, والقهر, والغلبة, والاستعلاء, والسلطان, والملك, والحكم, والسيرة, والتدبير, والتوحيد, واسم لجميع ما يُتَعبد لله عز وجل به, والملة, وغير ذلك.
ومراد الناظم من قوله (ودن) أي تعبد واهتد بكتاب الله المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو القرآن العظيم والذكر الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فحلل حلاله وحرم حرامه واتبع محكمه وآمن بالمتشابه منه أي اعتقد بذلك وأجزم به جزماً محكماً تكن مؤمناً مسلماً.
(الله) : تقدم الكلام على هذا.
(والسنن) : جمع سنة.
والسنة في اللغة: هي الطريقة والسير والعادة سواء كانت هذه الطريقة محمودة أو غير محمودة.
اصطلاحاً: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية.(1/12)
(التي أتت) : أي جاءت وثبتت عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله على فترة من الرسل وقلة من الدين, وقد أطبق الظلم والجهل فبعثه الله تعالى لينير به الطريق ويرحم به الخلق كما قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (1).
(رسول الله) : الرسول بمعنى المرسل, وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب النبوات(2): (الفرق بين النبي والرسول, أن النبي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله من الله فهو رسول, وأما إذا كان يعمل بشريعة من قبله ولم يُرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول).
(تنجو) : في الدنيا ولآخرة, في الدنيا تنجو من أمراض الشبهات والشهوات ومن البدع والأهواء, وفي الآخرة تسلم من غضب الله وعذابه ودخول دار سخطه وانتقامه, وعقابه.
(وتربح) : أي زائداً على النجاة أنك تربح فتفوز وتفلح في الدنيا والآخرة, وقوله (تنجو وتربح) فيه بيان فائدة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , وأن فيهما النجاة والربح, النجاة والسلامة من المرهوب والربح الفوز بالمطلوب, فهو يسلم من عذاب الله ومن الشقاء في الدنيا والآخرة ويفوز برضى الله وجنته.
والأدلة التي تحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحذر من البدع كثيرة جدا من ذلك:
* قوله تعالى { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (3) وقوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } (4) وقوله { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ(5) } .
ومن السنة:
__________
(1) الانبياء:107)
(2) الأنبياء107.
(3) آل عمران: من الآية31)
(4) الأنعام: من الآية153)
(5) آل عمران: من الآية132)(1/13)
* حديث العرباض بن سارية وفيه قول - صلى الله عليه وسلم - { ...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ...(1) } .
* وحديث أنس في الصحيحين { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من رغب عن سنتي فليس مني } .
* وفي صحيح مسلم وسنن أبن ماجه وغيرهما من حديث جابر - رضي الله عنه - { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته يوم الجمعة: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } .
* وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن أبغض الأمور إلى الله البدع)(2). وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما أوصني فقال: (عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع)(3).
* وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كل بدعة ضلالة وإن رأها الناس حسنة)(4).
إلى غير ذلك من الآثار الواردة عن السلف في التحذير من البدعة.
- 3 -
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا ... بِذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُوا
(وقل) : أي آيها السني المتبع للآثار والسلف الصالح " غير مخلوق" بل هو منزل من عند الله, وكلام الله من الصفات العظيمة كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } (5) وقوله { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ(6) } ولم يزل سبحانه وتعالى متصفاً بها على وجه اللائق بكماله وجلاله ومن كلامه القرآن الكريم.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وبن حبان في صحيحه. وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي وكذا الألباني في تخريج السنة.
(2) أخرجه محمد بن نصر المروزي في السنة صـ24.
(3) رواه الدارمي في سننه 1/50 والهوري في ذم الكلام كما في المنطق صـ39.
(4) رواه اللآلكائي في السنة رقم 129 وابن نصر الرزوي في السنة صـ24.
(5) النساء: من الآية164)
(6) لأعراف: من الآية143)(1/14)
(غير مخلوق) : أي أنه منزل وليس بمخلوق, وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال ابن قدامة المقدسي: (ومن كلام الله سبحانه القرآن الكريم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين, وصراطه المستقيم, وتنزيل رب العالمين, نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين, بلسان عربي مبين, منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وهو سور محكمات, وآيات بينات, وحروف وكلمات, ومن قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات, له أول وآخر, وأجزاء, وأبعاض, متلو بالألسنة, محفوظ في الصدور, مسموع بالآذان, مكتوب في المصاحف, فيه محكم ومتشابه, وناسخ ومنسوخ, وخاص وعام, وأمر ونهي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(1) } وقوله تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(2) } .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود, وهكذا قال غير واحد من السلف, روي عن سفيان عن عمر بن دينار" وكان من التابعين الأعيان" قال: ما زلت اسمع الناس يقولون ذلك).
والدليل على أنه منزل قوله تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (3).
ودليل أنه غير مخلوق قوله تعالى { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (4) فجعل الأمر غير الخلق والقرآن من الأمر لقوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا(5) } وقوله تعالى { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ(6) } ولأن كلام الله صفة من صفاته, وصفاته غير مخلوقة.
__________
(1) فصلت:42)
(2) الاسراء:88)
(3) الفرقان: من الآية1)
(4) لأعراف: من الآية54)
(5) الشورى: من الآية52)
(6) الطلاق: من الآية5)(1/15)
أما الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان يقولون بأن الله لا يتكلم فهم ينفون عنه صفة الكلام ويقولون بأن الله خلق كلاماً في غيره يعبر عنه.
أما المعتزلة: فهم يقولون بأن الله يتكلم ويوصف بصفة الكلام لكن معنى ذلك أنه خلق كلاماً في غيره كسائر المخلوقات, فهم يقولون بأنه يتكلم بصوت وحرف لكنهما مخلوقان.
والأشاعرة: قالوا بأن كلام الله معنى قائم بنفسه لازم لها كلزوم الحياة والعلم فهو لا يتعلق بالمشيئة , لأنهم يرون أن كلام الله لا يتعلق بالمشيئة, لأنهم ينفون قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى, وقالوا لو قلنا بقيام الأفعال الاختيارية للزم من ذلك أن يكون محل الحوادث ومحل الحوادث حادث, وكذلك يقولون ليس بصوت ولا حرف وإنما هو معنى قائم بالنفس والذي يُسمع حروف وأصوات خلقها الله لتعبر عن ذلك المعنى القائم بنفسه.
(بذلك) : أي كلام الله غير مخلوق فالأشارة تعود إلى قوله(غير مخلوق كلام مليكنا).
مسألة: هل يقال بان كلام الله قديماً أم لا؟
علق الشيخ عبدالله بابطين في حاشية لوامع الأنوار(1) للسفاريني على قول الشارح (كلامه سبحانه قديم) ما نصه:
قوله إن مذهب السلف: (إن كلام الله قديم وكذلك القرآن فيه نظر, فإن مذهب السلف كما هو معروف ان كلام الله مما يتعلق بمشيئته فإذا شاء تكلم ويتكلم متى شاء كيف شاء بلا كيف).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب التسعينية(2) ما نصه:
(الوجه الثاني أن أحداً من السلف والأئمة لم يقل أن القرآن قديم وأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته) أ.هـ.
__________
(1) لوامع الأنوار 1/130.
(2) ص 134.(1/16)
وفي تنبيه ابن سحمان في حاشية لوامع الأنوار للسفاريني(1) قال: (مقولة كلامه سبحانه قديم هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها, والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته إذا شاء لا يمتنع عليه شيء أراده وأن الله تعالى متصف بالأفعال الاختيارية القائمة به فهو سبحانه قد تكلم في الأزل بما شاء ويتكلم فيما لم يزل بقدرته ومشيئته بما أراد وهو الفعال لما يريد {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} أ.هـ.
(دان) : أي تعبدوا وأطاعوا وتدينوا بذلك واعتبروه ديناً يدينون الله عز وجل به, وهو أن الله سبحانه وتعالى متكلم حقيقة بحرف وصوت مسموعين, وأن كلام الله متعلق بمشيئة وإرادته, وأن كلامه سبحانه وتعالى قديم النوع حادث الآحاد وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
(الأتقياء) : جمع تقي من الوقاية وهي في الشرع اسم لمن يقي نفسه عما يضره من الآخرة وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (2) .
الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهذا المعنى بقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا(3) } .
الثالثة: أن ينزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بنفسه وهذا هو التقوى على الحقيقة المطلوب بقوله تعالى { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } (4).
(وافصحوا) : أي بينوا معتقدهم في كلام الله وأظهروه في مؤلفاتهم وهذا ظاهر ممن قرأ وتأمل في كتب أهل السنة والجماعة.
- 4 -
وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلاً ... كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ وَأَسْجَحُوا
__________
(1) 1/31
(2) الفتح: من الآية26)
(3) لأعراف: من الآية96)
(4) آل عمران: من الآية102)(1/17)
(ولا) : لا هنا ناهية.
(تك) : أصلها تكون ثم دخلت عليها لا الناهية فسكنت النون فالتقى ساكنان فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ثم حذفت النون تخفيفاً جائزاً, وتك فعل مضارع مجزوم.
(بالوقف) : قال الإمام أحمد رحمه الله: (الواقفة هم الذين يقولون: القرآن كلام الله ولا يقولون غير مخلوق يقول قال وهم من شر الأصناف وأخبثها, أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق.
(كما قال أتباع لجهم) : أي نوع من أتباع الجهم بن صفوان الذي نسبت إليه مقالة الجهمية فهو أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك, فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه, وإن كان الجعد بن درهم سبقه إلى ذلك فهو أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبدالله بواسط يوم النحر وقال: (يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحِ بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليماً, تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم نزل فذبحه.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الرسالة الحموية(1): (أصل مقالة تعطيل الصفات إنما أخذ من تلامذة اليهود والمشركين, وضلال الصابئين, فإنه أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام الجعد بن درهم, وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرهما فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم, وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أ.هـ.
(وأسجحوا) : وفي لفظ (وأسمحوا) أي تسمحوا بالقول في خلق القرآن وتساهلوا فيه.
- 5 -
ولا تَقُلِ القُرآنُ خَلقاً قرأتَهُ ... فإنَّ كَلامَ اللهِ باللفْظِ يُوضَحُ
__________
(1) ص 98.(1/18)
لما ردّ الناظم رحمه الله على الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن رد على طائفة أخرى من طوائفهم وهي الواقفة شرع في الرد على طائفة ثالثة وهم اللفظية.
(ولا تقل) : لا ناهية.
تقل: فعل مضارع مجزوم بالسكون, وحركت اللام بالكسر لالتقاء الساكنين.
(خلق) : أي لا تقل قراءتي للقرآن مخلوقة وفي هذا رد على طائفة من أتباع جهم يقال لهم " اللفظية" قال الإمام أحمد رحمه الله: (اللفظية هم الذين يزعمون أن القرآن كلام الله, ولكن ألفاظنا وقراءتنا مخلوقة, وهم جهمية فساق)(1).
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى(2): (روى في " كتاب السنة" في الكلام على اللفظية عن أبي بكر ابن زنجوية, قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي, ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلم. قال الخلال: وأخبرنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أبا عبدالله يتكلم في " اللفظية" وينكر عليهم, وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر اللفظية وبدعهم) أ.هـ.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة من قسمين:
1- إن أراد اللفظ الذي يلفظ به العبد فهو مخلوق ولا بأس بذلك.
2- إن يريد به الملفوظ فهذا كلام الله وهو ليس مخلوقاً.
(فإن كلام الله) : المقصود بكلام الله هو القرآن.
(باللفظ يوضح) : أي يكشف ويوضح ويبين.
- 6 -
وَقُلْ يَتَجلَّى اللهُ للخَلْقِ جَهْرةً ... كَمَا البدْرُ لا يَخْفى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
(وقل) : أي قل أيها الأثري السلفي المتبع لمذهب أهل السنة والجماعة.
(يتجلى) : أي يظهر.
(جهرة) : أي بلا حجاب.
(كما البدر) : لا يخفى على أحد في إبداره مع الصحو.
(وربك) : أيها المخاطب ورب الخلائق أجمعين.
(أوضح) : أي أظهر وأبين من البدر لأن البدر من مخلوقاته.
__________
(1) السنة للإمام أحمد ص20.
(2) 12/325.(1/19)
قال الحافظ البيهقي والحافظ الجوزي: (التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي لا للمرئي, والمعنى ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك وتنتفي معها المرية, كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون)(1).
وهنا أشار الناظم رحمه الله تعالى إلى إثبات صفة رؤية الله عز وجل.
ورؤية الله عز وجل في الدنيا غير ممكنة كما في سنن أبي داوود { لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك قال: نور أنى أراه } (2). وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها { من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب(3) } .
وعلى هذا نعرف ما عليه الصوفية والخرافية من كذب ودجل حينما زعموا أنهم يرون ربهم في الدنيا والله تعالى قال لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام { لن تراني } لما قال { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } (4), لأن حال البشر في الدنيا لا تمكنه من رؤية الله عز وجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربه بعين رأسه وإنما راه بعين قلبه أي حصل له من الإيمان واليقين كأنه رأى ربه, وأما في الآخرة فالمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه ويكلمهم ويكلمونه قال الله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (5), وقال تعالى { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } (6), فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى, وإلا لم يكن بينهما فرق.
ورؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
من الكتاب:
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي ص130, ومعالم السنن للخطابي 7/117-118, وجامع الأصول10/855.
(2) رواه مسلم والترمذي وأحمد.
(3) رواه البخاري والترمذي واحمد.
(4) لأعراف: من الآية143)
(5) القيامة:22-23)
(6) المطففين:15)(1/20)
قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (1) وقوله { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(2) } , وقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (3), وقوله { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(4) } .
ومن السنة:
حديث بن عبد الله البجلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا } (5), ومعنى قوله " لا تضامون" بتخفيف الميم أي لا يلحقكم ضيم وأما "لا تضامّون" بتشديد الميم يعني لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته, لأن الشيء إذا كان خفياً ينضم الواحد إلى صاحبه ليريه إياه, أما "لا تضارون" أو "تضارّون" فالمعنى لا يلحقكم ضرر لأن كل إنسان يراه سبحانه وتعالى وهو في غاية ما يكون من الطمأنينة والراحة وقد تواترت الأحاديث في دواوين الإسلام عن فضلاء الصحابة وأجلائهم كأبي بكر الصديق وأبي هريرة, وأبي سعيد, وجرير بن عبد الله , وصهيب, وابن مسعود, وعلي بن أبي طالب, وأبي موسى, وأنس, وبريدة بن الحصيب, وابن مسعود, وأنس, وأي رزين, وجابر بن عبدالله, وأبي أمامه, وزيد بن ثابت, وعمار بن ياسر, وعائشة, وعبد الله بن عمر, وعمار بن رويبة, وسلمان الفارسي وغيرهم.
والسلف مجمعون على رؤية الله عز وجل في الآخرة قال سعيد بن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وكعب رحمهم الله تعالى.
__________
(1) سبق.
(2) المطففين:23)
(3) يونس: من الآية26)
(4) قّ:35)
(5) متفق عليه.(1/21)
والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم, وقال طاووس: أصحاب ألمراء والمقاييس حتى يجحدوا الرؤية ويخالفوا أهل السنة, وقال الأعمش وسعيد بن جبير رحمهما الله تعالى: (إن أشرف أهل الجنة من ينظر إلى الله تبارك وتعالى غدوة وعشية) , وكذا قال الأئمة الأربعة وطبقاتهم ومشائخهم, قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (الناس ينظرون إلى ربهم عز وجل يوم القيامة بأعينهم), وسئل رحمه الله تعالى عن قوله عز وجل { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أننظر إلى الله عز وجل؟ قال نعم قال أشهب: فقلت إن أقواماً يقولون تنظر ما عنده, قال: بل تنظر إليه نظراً.
وذكر الطبراني وغيره أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى, فقال مالك: السيف السيف. وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذب بها فهو زنديق, ونحو ذلك من أقوال السلف.
والله عز وجل يتجلى من المسلمين, أما في الموقف فيتجلى للمسلمين عامة حتى منافقي هذه الأمة وعصاتها, قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح(1): (وقد دلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة بل والكفار كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه(قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول, قال فإنكم ترونه يوم القيامة بذلك, يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغي, وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه).
__________
(1) ص280.(1/22)
قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه المسألة ثلاث أقول لأهل السنة:
أحدهما: أن لا يراه إلا المؤمنون.
والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.
والثالث: يراه المنافقون دون الكفار.
والصحيح أنه سبحانه وتعالى يراه المؤمنون في عرصات القيامة وفي الجنة, وأما المنافقون فهم يرونه في عرصات القيامة, وأما الكفار من أهل الكتاب والمشركين فهم لا يرون الله عز وجل.
ولما كان ربما توهم أن من لازم التجلي والانكشاف والرؤية الجسمية بالقياس على ما هو معاين من المخلوقين دفع ذلك الوهم في البيت الذي بعد هذا فقال:
- 7 -
وَلَيْسَ بمْولُودٍ وليسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيسَ لهُ شِبْهٌ تَعَالَى المسَبَّحُ
لمّا الناظم عليه رحمة الله إثبات صفة رؤية الله عز وجل, وأن هذا ثابت بدلالة الكتاب والسنة والإجماع, وبناء على هذا قد يتوهم معنى فاسداً وهو مشابهة الخالق بالمخلوق فأتى بهذا البيت ليدفع به هذا التوهم فقال:
(وليس) : أي تبارك الله تعالى.
(بمولود) : ولده ووالد.
(وليس) : هم تقدس وتعالى (بوالد) لشيء من المولودات ولا الملائكة ولا عيسى بن مريم ولا العزير عليهما السلام ولا غيرهما.
وليس له سبحانه (شبه) : لا في ذاته المقدسة ولا في صفاته المنزهة ولا في أفعاله سبحانه.
(تعالى) : أي ارتفع وتقدس.
(المسبح) : أي المنزه عن أن يكون والد لشيء أو مولوداً في شيء, أو شبيهاً لشيء, فإنه سبحانه وتعالى ليس له شبه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والله سبحانه وتعالى ميزة عن ثلاثة أمور هي:
الأمر الأول: عن صفات النقص فلا تلحقه ولا يوصف بها كالموت والعجز.
الأمر الثاني: النقص في الكمال فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال التي لا يلحقها نقص موصوف بالعلم الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان.(1/23)
الأمر الثالثة: ينزه كذلك عن مشابهة المخلوقين قال تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) } .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح العقيدة الأصفهانية: (الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه, وبما وصف به رسوله- صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل, فإنه قد عُلم بالسمع مع العقل أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وقال تعالى { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون } وقوله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقد عُلم بالعقل أن المثلين, يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه, فلو كان المخلوق مثلاً للخالق وشبيهاً له للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع, والخالق يجب وجوده وقِدَمُهً والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقِدَمُهً بل يجب حدوثه وإمكانه)(2).
- 8 -
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْميُّ هَذَا وعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ ما قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ
(الجهمية) : أي أتباع جهم بن صفوان, وتقدم أنه أخذ مقالة التعطيل ونفي الصفات عن الجعد بن درهم, ولكن الجهم أظهر المقالة فنسبت إليه وأخذها الجهم أيضا عن غيره من أهل الضلالة كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الجلال السيوطي: ( أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد ويعني في هذه الملة الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار أخر ملوك بني أمية فقال: بأن الله لا يتكلم).
__________
(1) الشورى: من الآية11)
(2) شرح العقيدة الأصفهانية ص9/10(1/24)
{ لَنْ تَرَانِي(1) } وقالوا هذا دليل على استحالة الرؤية, لأن (لن) للنفي, والنفي خبر لا يدخله النسخ لأنه لو دخله النسخ لكان هذا تكذيباً لخبر الله, فإذا كان لا يدخله النسخ فإن رؤية الله كما يقولون تكون مستحيلة, لأن الله تعالى قال { لَنْ تَرَانِي } هكذا زعموا.
ولكن نرد عليهم من وجهتين:
الأولى: أن الآية ليس فيها دليل على النفي المؤبد, فليس معناها لن تراني ابداً, بل المعنى لن تراني حال سؤالك الرؤية أي في الدنيا, لأن الإنسان في الدنيا لا يقوى على رؤية الله عز وجل لضعف قوته وبدنه.
(ولن) لا تقتضي التأبيد, فإنها تأتي في اللغة للنفي لكن قد يكون النفي فيها مقيداً, كما في قوله تعالى { وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ(2) } فهذا مؤكدة ومع ذلك يقول عنهم { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } (3) فإنهم تمنوا الموت فصارت (لن) هنا لغير التأبيد فيقال إن كلام ربنا لا يكذب وخبره لابد أن يكون, ولا يمكن لموسى ولا لغير موسى في الدنيا أن يرى الله أبداً, ولهذا كان الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربه ليلة المعراج.
الثانية: نقول في قوله تعالى { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ(4) } دليل ضدكم لا لكم, لأن سؤال موسى الرؤية يدل على أنه يعلم أنها ممكنة وليست مستحيلة, وجه ذلك: لو أنها مستحيلة ما سألها فموسى أعلم بالله منكم بلا شك, فسأل الرؤية ولو كان يعلم أنها مستحيلة ما سألها, لأنك لو سألت الله شيئاً مستحيلاً لكنت معتدياً في الدعاء.
__________
(1) لأعراف: من الآية143)
(2) الجمعة: من الآية7)
(3) الزخرف: من الآية77)
(4) لأعراف: من الآية143)(1/25)
كذلك مما استدل به هؤلا على نفي الرؤية قوله تعالى { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } (1) ولكن استدلالهم هذا ضعيف جداً, لأن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية فيكون هذا الدليل عليهم وليس لهم لأنه لو كان لا يرى أبداً لقال لا تراه الأبصار ولم يقل (لا تدركه) ولهذا استدل بها بعض أهل السنة والجماعة على رؤية الله عز وجل.
(هذا) : المشار إليه هو التجلي.
(عندنا) : أي معشر أهل السنة والجماعة.
(بمصداق) : قال في القاموس مصداق الشيء ما يصدقه.
(حديث مصرح) : في بعض النسخ حديث مصحح, والمراد به حديث جرير الذي رواه الشيخان والدار قطني { قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } (2) وهاتان الصلاتان هما العصر والفجر.
- 9 -
رَوَاهُ جَرِيرٌعن مَقَالِ مُحمَّدٍ ... فقُلْ مِثْلَ ما قَدْ قَالَ في ذَاكَ تَنْجَحُ
__________
(1) الأنعام: من الآية103)
(2) أخرجه البخاري في كتاب المواقيت, وفي باب فضل صلاة الفجر, وفي كتاب التوحيد. ومسلم في المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما.(1/26)
أي روى ذلك الحديث الصحيح جرير وهو أبو عمر وقيل أبو عبدالله جرير بن عبدالله جابر البجلي الأحمسي رضي الله عنه أسلم في السنة التي توفي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جرير: أسلمت قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يوماً فيما يقال والصحيح أنه أسلم قبل ذلك, نزل الكوفة وسكنها زماناً طويلاً ثم أنتقل إلى قرقيسيا, ومات بها سنة احدى وخمسين وقيل سنة سنة أربع وخمسين, روى عنه أنس بن مالك وقيس بن أبي حازم, والشعبي وبنوه: عبيد الله, والمنذر, وإبراهيم. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جرير - رضي الله عنه - قال { ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي(1) } .
(عن مقال محمد) : أي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(فقل) : أي أيها السني السلفي الأثري.
(ذاك) : الإشارة ترجع إلى رؤية الله عز وجل.
(تنجح) : أي تصيب الحق فتنجح.
- 10 -
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تَنْفَحُ
(وقد ينكر الجهمي) : أي المعتقد اعتقاد الجهم بن صفوان, ومن وافقه من المعطلة والقرامطة والباطنية والفلاسفة وذويهم.
(أيضا) : مصدر آض يئيض أيضاً إذا رجع, أي مع إنكاره لرؤيته تعالى وتجليه لعباده المؤمنين في دار كرامته بتكريمه تعالى وتقدس.
__________
(1) رواه البخاري في فضائل اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب ذكر جرير - رضي الله عنه -. ومسلم في فضائل الصحابة, باب فضائل جرير- رضي الله عنه -. ورواه الترمذي في المناقب, باب مناقب جرير - رضي الله عنه -.(1/27)
(يمينه) : خالف أهل السنة والجماعة قوم في إثبات صفة اليدين لله عز وجل وهم أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم, وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية بل المراد باليد أمر معنوي لا أمر حقيقي, فأهل التعطيل ينكرون سائر الصفات الخبرية من الوجه والعين واليد ونحوها مما أضيف إلى الله تعالى, لأن صفات الله عز وجل على قسمين:
القسم الأول: صفات ذاتية وهي على قسمين
1- صفات معنوية وهي التي لم يزل ولا يزال الله متصفاً بها كالعلم والحياة ونحو ذلك.
2- صفات خبرية هي التي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء كالإصبع والوجه والقدم ونحو ذلك.
القسم الثاني: صفات فعلية وهي التي يفعلها الله عز وجل تبعاً لحكمته, كالكلام والغضب والضحك ونحو ذلك.
فأهل البدع ينفون عن الله عز وجل الصفات الخبرية, وهم يزعمون أن إثبات الصفات الخبرية لله يستلزم التشبيه والتجسيم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ومن هذه الصفات صفة اليد لله عز وجل وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية بل المراد باليد أمر معنوي لا أمر حقيقي, ولذلك قالوا المراد باليد القوة أو أن المراد باليد النعمة, لأن اليد تطلق في اللغة العربية على القوة وعلى النعمة ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل { أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يَدًانِ لأحدٍ بقتالهم } , وفي رواية { لا يَدًيْ لأحدٍ بقتالهم(1) } والمعنى لا قوة لأحد بقتالهم وهم يأجوج ومأجوج.
وأما اليد بمعنى النعمة فكثير ومنه قول رسول قريش لأبي بكر { لولا يدٌ لق عندي لم أجْزُكَ لأجبتك } (2) يعني نعمة.
وقالوا لو أثبتنا لله يداً حقيقية لزم من ذلك التجسيم أي يكون لله تعالى جسماً, والأجسام متماثلة وحينئذٍ تقع فيما نهى الله عنه في قوله { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ(3) } .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن, باب ذكر الدجال وصفته وما معه.
(2) رواه البخاري كتاب الشروط.
(3) النحل: من الآية74)(1/28)
ولكن يقال: بأن إثبات صفة اليد لا يقتضي المماثلة والتشبيه, فإن الله تعالى مخالف لجميع الحوادث فذاته جل وعلا لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات, فلا يشبهه شيء من خلقه ولا يشبه هو شيئاَ من خلقه تعالى وتقدس, بل هو منفرد عن جميع المخلوقات ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.
ثم أن قولهم إن إثبات صفة اليد يستلزم التشبيه يجاب عنه من عدة وجوه:
أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ فهو مردود إلا بدليل.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف, حيث أنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد (اليد الحقيقية) ولو قال قائل: لم يروَ عن هؤلا ما يفيد أن المراد باليد هي اليد الحقيقية قلنا لو كان عندهم معنى مخالف لظاهر اللفظ لقالوا به, فلما لم يقولوا به عُلم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.
ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعمة أو القوة في مثل قوله تعالى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) ووجهه أنه يمتنع غاية الامتناع, لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط, ونعم الله لا تحصى ويستلزم أن تكون القوة قوتان, والقوة بمعنى واحد لا يتعدد, فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.
رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة ما كان لآدم فضل على إبليس, بل ولا على الحمير والكلاب لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله.
خامساً: أن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة, أو القوة, فجاء فيها ذكر الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة, لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف, وقد أبطل ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القول من عشرين وجهاً كما في كتابه الصواعق المرسلة(2) .
وصفة اليد ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع:
__________
(1) صّ: من الآية75)
(2) ص. 370-379.(1/29)
* أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1) وقوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ(2) } وقوله { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ(3) } وقوله { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا(4) } والنصوص الواردة في اليد على ثلاثة أوجه:
1. الإفراد.
2. التثنية.
3. الجمع.
أما التثنية فهو معتقد أهل السنة والجماعة وهو إثبات يدين حقيقتين لله تعالى توصفان بالأخذ والقبض والخلق والرفع والخفض والإنفاق, فالله تعالى غرس جنة عدن بيده وكتب الكتاب بيده وخلق آدم بيده والبسط الخلق كما قال تعالى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (5), والطي كما في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول { يطوي الله تعالى السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى } , والقبض والإنفاق والخفض والرفع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار } إلى قوله { بيده الأخرى بالقسط يرفع ويخفض } (6) والبسط لقوله تعالى { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (7) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل } (8) الحديث.
وأما ورد لفظ اليد بالإفراد فكما في قول الله تعالى { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (9) والجمع كما في قوله تعالى { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (10).
والجمع بينهما أن يقال فأما على لفظ الإفراد فإنه يقال: أن المفرد المضاف يعم فهو يعم اليدين جميعاً.
أما الجمع فإنه يجاب عنه بجوابين:
1) أنه على قول من قال أن أقل الجمع اثنان فلا إشكال في ذلك.
2) أما إذا قلنا إن أقل الجمع ثلاثة فالجمع هنا للتعظيم.
__________
(1) الفتح: من الآية10)
(2) صّ: من الآية75)
(3) المائدة: من الآية64)
(4) يّس: من الآية71)
(5) سبق.
(6) رواه البخاري ومسلم والترمذي وبن ماجه وأحمد كلهم من حديث أبي هريرة.
(7) سبق.
(8) رواه أحمد.
(9) سبق.
(10) سبق.(1/30)
وكلتا يدي الله عز وجل يمين, ولفظ الشمال: أجاب البيهقي عنها بأنها لفظة شاذة هذا جواب, والجواب الثاني على فرض إثبات هذه اللفظة فليس معنى ذلك أنها أنقص من الأخرى كما ثبت ذلك عن المخلوق فهو سبحانه وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) } .
* وإثبات صفة اليدين ثابتة بالسنة كذلك من ذلك ما ورد في الصحيحين وغيرهما { يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض.. } وكذلك ما ورد في مسلم { يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى } (2).
* والإجماع منعقد على ذلك:فقد أجمع السلف على لإثبات اليدين لله عز وجل, فيجب إثباتهما له سبحانه وتعالى بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل, وهما يدان حقيقيتان لله تعالى يليقان به.
(بالفواضل) : المراد تنعم وتعطي القليل والكثير, كما قال تعالى { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (3). فيد الله تعالى مبسوطة واسعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { يد الله ملأى سحّاء كثيرة العطاء في الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغضِ ما فيه يمينه } (4) , ولذا لأحد يُحصي ما أنفقه الله منذ خلق السماوات والأرض.
- 11 -
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ في كُلّ ِلَيْلَة ... بِلا كَيْف جَلَّ الواحدُ المتَمَدِّحُ
(وقل) : أي اعتقد أيها السلفي الأثري ودن أيها السني بالنزول الإلهي على حسب ما يليق بذاته العلية وصفاته الخبرية, كما ثبتت بذلك الأخبار وصحت به الآثار.
__________
(1) الشورى: من الآية11)
(2) رواه مسلم وغيره من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) سبق.
(4) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/31)
(ينزل) : في ذلك إثبات صفة النزول لله عز وجل نزولاً يليق بذاته, بلا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف, والنزول من الصفات الفعلية التي يفعلها الله تعالى حسب مشيئته ونزوله قديم النوع حادث الآحاد ككلام الله عز وجل.
(الجبار) : اسم من أسمائه الحسنى عز وجل, قيل: أن الجبار هو الذي جبر الخلائق على ما أراده من أمره سبحانه وتعالى, وقيل: بأن الجبار هو الذي مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق. وقيل: الجبار هو العالي فوق خلقه مأخوذ من قولهم تجبر النبات إذا طال وعلا.
والأختلاف هنا في معنى الجبار ليس اختلاف تضاد وإنما هو من تفسير بالمثل وهذه المعاني لا تضاد فيها.
والجبار في صفة الله صفة مدح وفي الخلق صفة ذم, لأنهم تحت القهر والمشيئة, فعلى العبد أن لا يتجبر على غيره من عباد الله تعالى.
(كل ليلة) : أي من الليالي فلا يختص بليلة دون أخرى.
(بلا كيف) : معتقد أهل السنة والجماعة إثبات الصفات بلا تكييف..., وليس المعنى أن النزول ليس له كيفية فهو له كيفية لكننا لا نعلمها, والإمام مالك سئل عن الاستواء, فقال: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة).
فلا يسأل بكيف لأن طريقة الغيب وما كان طريقة الغيب فلا يمكن معرفته إلا عن طريق الكتاب وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد روى أبو بكر الاثرم عن الفضيل بن عياض رحمهما الله تعالى قال: (ليس أن نتوهم في الله كيف وكيف, لأن الله تعالى وصف فأبلغ فقال { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه).
(جل) : أي عظم سبحانه وتعالى في وحدانيته وفي الحديث { ألظوا بياذا الجلال والإكرام } (1).
__________
(1) رواه الترمذي عن أنس بن مالك وقال حديث غريب, رواه عن ربيعة بن عامر كل من أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.(1/32)
(الواحد) : الواحد من أسماء الله عز وجل وهو الفرد الذي لم يزل وحده, والفرق بين الواحد والأحد أن الواحد هو المنفرد بالذات والأحد هو المنفرد بالمعنى لا يشاركه فيها أحد, فالله عز وجل واحد في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته.
(المتمدح) : أي الذي يحب المدح, ولذا ورد في الحديث عن أبي وأئل عن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت أنت سمعت هذا من عبدالله؟ قال نعم ورفعه قال { لا أحد أغير من الله فلذلك ذم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه(1) } .
وأشار الناظم في هذا البيت إلى إثبات صفة النزول لله عز وجل, وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله تعالى يفعلها الله تعالى تبعاً لحكمته ومشيئته وقد ورد ذلك في الحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له } (2).
ونزول الله تعالى حقيقي لأن كل شيء الضمير يعود فيه إلى الله فهو ينسب إليه حقيقة.
قال أبو عثمان النيسابوري: (فلما صح خبر النزول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر به أهل السنة وقبلوا الحديث, واثبتوا النزول على ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه, وعلموا وعرفوا, واعتقدوا وتحققوا أن صفات الرب تعالى لا تشبه صفات الخلق, كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق سبحانه وتعالى عما تقول المشبهة والمعطلة علوا كبيراً) (3).
والمراد بالنزول هو نزول الله نفسه ولا نحتاج إلى ان نقول بذاته ما دام الفعل أضيف إليه فهو له.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد.
(3) أنظر عقيدة السلف.(1/33)
لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته, لأنهم لجأوا إلى ذلك اضطروا إليه لأن هناك من حرفوا الحديث وقالوا: أن المراد بالنزول هو نزول أمر الله.
وقال أخرون: الذي ينزل رحمة الله.
وقال آخرون: بل الذي ينزل ملك من الملائكة.
وهذا كله باطل, فإن أمر الله دائماً وأبداً ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل قال تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ(1) } وقوله { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْر } (2).
وأما قولهم:
المقصود نزول الرحمة فيقال ليس بصحيح إن الرحمة لا تنزل إلا في الثلث الأخير من الليل قال تعالى { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ(3) } , فكل النعم هي من آثار رحمة الله جل وعلا, ثم يقال ما الفائدة من نزول رحمة الله إلى السماء الدنيا.
أما قول من قال: أن المراد نزول ملك من ملائكته فيقال: هل من المعقول أن الملك من ملائكة الله يقول: من يدعوني فاستجيب له...الخ, فتبين من هذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث.
وهم يقولون أيضاً: أنتم تقولون إن الله ينزل, إذا نزل أين العلو؟ وأين استواءه على العرش؟ وإذا نزل فالنزول حركة وانتقال, فإذا نزل فالنزول حادث والحوادث لا تقوم إلا يحادث. ولكننا نقول لهم هذا كله جدل بالباطل وبناء عليه نقول:
نزوله لا ينافي علوه, لأنه ليس معنى النزول أن السماء تقله وأن السماوات الأخرى تظله إذا أنه لا يحيط به سبحانه شيء من مخلوقاته فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه, أما الأستواء على العرش فهو فعل ليس من صفات الذات, وليس لنا حق أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو كما سكت عن ذلك الصحابة, وعلماء السنة لهم في ذلك ثلاثة أقوال, قول بأنه يخلو, وقول بأنه لا يخلو, وقول بالتوقف.
__________
(1) السجدة: من الآية5)
(2) هود: من الآية123)
(3) النحل: من الآية53)(1/34)
وشيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة العرشية(1) يقول: (بأنه لا يخلوا منه العرش لأن أدلة استواءه على عرشه محكمة والحديث في نزول الله محكم, والله عز وجل لا تقاس صفاته بصفات الخلق, فيجب علينا أن نبقي نصوص الأستواء على إحكامه ونأخذها هكذا فنقول:
هو مستو على عرشه نازل إلى السماء الدنيا, والله أعلم بكيفية ذلك, وعقولنا أقصر وأدني وأحقر من أن تحيط بالله عز وجل. والله أعلم.
- 12 -
إلى طَبَقِ الدُّنيا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوابُ السَّماءِ وتُفْتحُ
(إلى طبق الدنيا) : طبق الدنيا أي سماء الدنيا فإن الطبق غطاء كل شيء وفي الحديث { لله مائة رحمة كل رحمة منها كطباق الأرض } (2) أي كغشائها.
والسماء الدنيا هي القريبة إلى الأرض فهي أقرب السماوات إلى الأرض, والسماوات سبع. وإنما سميت بالدنيا لقربها من الأرض ولذا سميت بذلك.
(يمن) : أي يعطي ويحسن بفضله ومن أسمائه سبحانه وتعالى المنان وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء لا من المنة وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ما أحد أمن علينا من ابن أبي قحافة)(3), أي ما أحد أجود بماله وذات يده.
(بفضله) : الفضل ضد النقص.
(فتفرج) : أي تكشف وتنشق وتتصدع.
(أبواب) : جمع باب وهو فرجة في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج ومن خارج إلى داخل.
(السماء وتفتح) : أي تفتح أبواب السماء, وذلك لنزول المنح منها والرحمة والمغفرة وصعود العمل والدعاء وإجابته.
- 13 -
يَقولُ: ألا مُسْتغفِرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... ومُسْتَمنِحٌ خَيْرًا ورِزقًا فأمْنَحُ
__________
(1) ص 21
(2) رواه مسلم عن سلمان - رضي الله عنه -.
(3) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/35)
(يقول) : أي الرب تبارك وتعالى في نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في حديث أبي هريرة السابق الذي في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...(1) } .
(ألا) : أداة استفتاح للعرض والتخصيص ومعناهما الطلب لكن العرض طلب بلين كقوله تعالى { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } (2) وكذا هو هنا.
(مستغفر) : أي يطلب غفران ذنوبه فهو طالب للمغفرة.
(غافراً) : مأخوذ من الغفر وهو الستر والتجاوز, كذلك المغفرة والرحمة إذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر, وإذا اجتمعا افترقا فيكون المراد بالرحمة الفوز بالمطلوب, النجاة من المرهوب.
(ومستمنح خيراً) : أي طالب للخير والخير هو اسم جامع لكل ما ينتفع به من الصحة والمال والعلم والزوجة... ونحو ذلك وجمعه خيور.
(ورزقاً) : الرزق هو ما ينتفع به المرتزق من حلال وحرام. والمعتزلة قالوا الحرام ليس برزق وفسروه تارة بمملوك يأكله مالكه وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به وذلك لا يكون إلا حلالاً, والصواب الأول.
ولابن تيمية رحمه الله تفصيل نفيس قال ما نصه: (والرزق يراد به شيئان, أحدهما ما ينتفع به العبد, والثاني ما يملكه العبد فالثاني هو المذكور في قوله تعالى { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } , { وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه. وأما الأول فهو المذكور في قوله تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ } وقوله - صلى الله عليه وسلم - { وإن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها } والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق باعتبار الأول لا الثاني) أ.ه.(3).
(فيمنح) : أي يعطى.
- 14 -
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لا يُرَدُّ حَدِيثَهم ... ألا خَابَ قَوْمٌ كذَّبوهُم وقُبِّحُوا
(روى) : أي نزول الله عز وجل.
__________
(1) سبق.
(2) النور: من الآية22)
(3) الفتاوى8/541.(1/36)
(ذاك) : اسم الإشارة في محل نصب مفعول به والمشار إليه هو النزول المفهوم من قول الناظم رحمه الله: وقل ينزل الجبار كل ليلة... كما تقدم بيان ذلك.
(قوم) : هم الجماعة من الرجال والنساء معاً أو الرجال خاصة أو يدخله النساء على التبعية كذا في القاموس وقال في النهاية القوم في الأصل مصدر قام فوصف به الإنسان ثم غلب على الرجال دون النساء ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم ولتصفق النساء } (1) فقابلهن بهم وسموا بذلك لأنهم قوامون على النساء بلأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها.
(لا يرد حديثهم) : ثم وصف الذين رووا أحاديث النزول بأنهم لا يرد حديثهم أي إنهم ثقات ضابطون عدول حديثهم لا يرد لحفظهم وعدالتهم وضبطهم.
(ألا) : حرف تنبيه.
(خاب) : أي خسر وحُرم.
(كذبوهم) : أي كذبوا أولئك القوم الذين لا يرد حديثهم أي نسبوهم إلى الكذب, والكذب هو الأخبار بما يخالف الواقع.
(وقبحوا) : أي نسبوهم إلى القبح وهو ضد الحسن.
- 15 -
وَقُلْ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيراهُ قُدْمًا , ثُمَّ عُثْمَانُ أرْجَحُ
لمّا تكلم المؤلف عن الصفات الخبرية والصفات الفعلية انتقل إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالصحابة.
(وقل) : أي قل بلسانك معتقداً بجنانك.
(إن خير الناس) : أي أفضلهم من هذه الأمة التي هي خير الأمم وأفضل الأمم بشاهد قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(2) } فخير الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وبعده - صلى الله عليه وسلم - (وزيراه) : اثنية وزير والضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال في القاموس " الوزير حباء الملك الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه " (3).
__________
(1) رواه أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) آل عمران: من الآية110)
(3) القاموس 2/159 (وزر).(1/37)
وفي نهاية ابن الأثير " في حديث السقيفة نحن الأمراء وأنتم الوزراء جمع وزير وهو الذي بوزارة فيحمل عنه ما حمله من الأثقال, والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره, فهو ملجأ له ومفزع " أ.هـ(1).
(قدما) : أي في ابتداء الأمر والنبوة فهو مفعول فيه, والمراد بهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. والإشارة في ذلك إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ما من نبي إلا وله وزيران, وزيران من أهل السماء, ووزيران من أهل الأرض, فأما ويراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل, وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر } (2).
ودليل خيريتهما وأفضليتهما على سائر أمة محمد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - { أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الناس أحب إليك؟ , قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. فقلت ثم من؟ فقال: عمر بن الخطاب } (3).
وفي رواية { لست أسالك عن أهلك وإنما أسألك عن أصحابك } .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما { كنا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم } .
وفي رواية عند أبي داود كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي { أفضل أمته بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان } .
ورواه كذلك الطبراني وزاد { فيبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره } .
__________
(1) النهاية5/180.
(2) رواه البخاري في التاريخ الكبير, والترمذي في الجامع, وابن عدي في الكامل كلهم عن أبي سعيد مرفوعاً, وقال الترمذي حسن غريب. قال الألباني رحمه الله في تخريج المشكاة سنده ضعيف.
(3) رواه البخاري في فضائل الصحابة, ومسلم في فضائل الصحابة أيضاً.(1/38)
أبو بكر: اعلم أن أفضل هذه الأمة بالتحقيق أمير المؤمنين خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله أبو بكر الصديق بن عثمان أبو قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ين تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب, يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب.
ولقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعتيق, قيل لجمال وجهه, وقيل لأنه عتيق الله من النار, وأمه أم الخير سلمى بنت صخر ابن عمرو بن كعب بنت عن أبيه, ماتت هي وأبوه مسلمين رضوان الله عليهما, وكانت وفاة أبي قحافة في خلافة عمر رضي الله عنهما.
وهو أول الناس إيماناً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قول جموع من أهل العلم.
وفي سنن الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه - ألست أول من أسلم, ألست صاحب كذا, ألست صاحب كذا } (1).
والخلاف قائم في من أول من أسلم, ويروى عن أبي حنيفة أنه قال: (الأورع أن يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر, ومن الصبيان علي, ومن النساء خديجة, ومن الموالي زيد, ومن العبيد بلال. وهذا من أحسن ما قيل لجمعه الأقوال).
فهو - رضي الله عنه - من أفضل الصحابة وخيرهم بإجماع أهل السنة, فقد أجمع الصحابة وأهل السنة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر - رضي الله عنه -, ولي الخلافة بإجماع الصحابة واتفاقهم عليه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفى وهو ابن ثلاثة وستين سنة, وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر تعجز عشر ليال, وصلى عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ودفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وغسلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية منه - رضي الله عنه - .
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث غريب.(1/39)
وقد ورد في فضل أبي بكر خاصة جملة من الأحاديث منها ما رواه البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال { أتت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن لم أجدك " كأنها تقول الموت " قال إن لم تجديني فأتي أبا بكر } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر وقد وقع بينه وبين أبي بكر خلاف { إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت, وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله, فهل أنتم تاركوا لي صاحبي.. " مرتين " فما أوذي بعدها(1) } .
وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
وقال فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - { أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله } (2).
عمر: هو عمر بن الخطاب الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاروق - رضي الله عنه - فهو أمير المؤمنين بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قُرْط ابن رزَاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي, وأمه حَنْتَمة بنت هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم أخت أبي جهل واسمه عمرو بن هشام فهو خال عمر - رضي الله عنه - .
وكنيته أبو حفص كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر والحفص ولد الأسد, ولقبه بالفاروق, لأنه فرّق بين الحق والباطل لعبادة الله جهراً بسبب إسلامه, ولم يعبد جهراً منذ بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك.
من مناقبه ما ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك(3) } .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر } (4) أي ملهمون.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري في صحيحه.(1/40)
وعمر بعد الصديق أفضل هذه الأمة بلا شك ولا مراء بالنص والإجماع, نقل الإجماع على ذلك ابن بطة في الإبانة, والإبانة للأشعري, وعقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني, ومجموع الفتاوى, خلافاً للشيعة في زعمهم أن أفضل هذه الأمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخلافاً للراوندية وهي من فرق الرافضة الذين في زعمهم أن أفضل الصحابة رضي الله عنهم العباس بن عبد المطلب, فهم زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على العباس بن عبد المطلب, ونصبه إماماً ثم نص العباس على إمامة ابنه عبدالله... ثم ساقوا الإمامة حتى انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور.
وفي سنة ثلاث وعشرين لما نفر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من منى أناخ بالأبطح ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال { اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط } , فما أنسلخ ذو الحجة حتى قتل شهيداً - رضي الله عنه -. وكان قد قال في خطبته { رأيت كأن ديكاً نقرني نقرة أو نقرتين وإني لأراه حضور أجلي } . فأصيب - رضي الله عنه - يوم الأربعاء لأربع بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ضربه أبو لؤلؤة فيروز عبد المغيرة بن شعبة وكان مجوسياً, وكان قد جاء عمر يشتكي كثرة ما جعل عليه المغيرة من الخراج فقال ما خراجك؟ قال مائة درهم كل شهر, فقال ما هو عليك بكثير, لكثرة صنائعه, ثم إنه حقد عليه فطعنه بخنجر ذي رأسين ونصابه في وسطه ثلاث طعنات, لما خرج عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر, وطعن معه اثني عشر رجلاً مات منهم ستة فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوباً فلما اغتم فيه قتل نفسه.(1/41)
(ثم) : أي بعد أبي بكر الصديق وعمر الفاروق اللذين هما وزيرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخليفتان من بعده, فلأفضل بعدهما وخير الناس عقبهما عثمان بن عفان بن أبي العاص واسمه الحارث بن أميه بن عبد شمس بن مناف يلتقي نسبه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف بن قصي.
(الأرجح) : إشارة إلى الصحيح المعتمد من أن عثمان - رضي الله عنه - يلي وزيري النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضيلة, فأفضل هذه الأمة نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ذو النورين رضي الله عنهم.
فتفضيل الصديق ثم عمر مجمع عليه بين أهل الحق, ومن فضل عليا عليهما في الفضل والخلافة فهو رافضي مبتدع فاسق, قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ومن فضل علياً على أبي بكر وعمر أو قدمه عليهما في الفضيلة والإمامة دون النسب فهو رافضي مبتدع فاسق) ذكره القاضي أبو يعلى.
أما المفاضلة بين عثمان وعلي فمحل خلاف فالأكثرون ومنهم الإمام أحمد والأمام الشافعي وهو المشهور عن الأمام مالك أن الأفضل بعد أبي بكر وعمر, عثمان ثم علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما. وقيل بالوقف على التفضيل بينهما وهو رواية عن مالك فقد حكى أبو بكر المازري من المالكية عن المدونة أن مالكاً سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم فقال: أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ثم قال أوفي ذلك شك؟ فقيل له علي وعثمان رضي الله عنهما؟ فقال: ما أدركت أحداً ممن اقتدي به يفضل أحدهما على الآخر.(1/42)
ولد عثمان - رضي الله عنه - سادس سنة الفيل, وأسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم, وهاجر الهجرتين إلى الحبشة, وتزوج رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل العقبة فماتت عنده في الثانية من الهجرة عند رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة بدر العظمى, فلم يشهد عثمان - رضي الله عنه - بدراً لتخلفه بإذن رسول الله ليمرض رقية, فجاء البشير بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دفنها وضرب له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره ثم زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أختها أم كلثوم وماتت عنده أيضا سنة تسع من الهجرة.
قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره, ولذلك سمي بذي النورين, فهو - رضي الله عنه - من السابقين الأولين, وأول المهاجرين و وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة, وأحد الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض, وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن في المصحف, وأحد الخلفاء الراشدين, وكان جميلاً صواماً قواماً, وكثير التلاوة للقرآن العظيم.
- 16 -
وَرابِعُهُم خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُم ... عَلِيٌّ حَليفُ الخَيرِ , بالخَيرِ مُنْجِحُ
(ورابعهم) : أي رابع الخلفاء الراشدين المتقدم ذكرهم وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
(خير البرية) : أي الخلق.
(بعدهم) : أي بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.(1/43)
(علي) : الأنزع البطين " الأنزع هو الذي ينحسر شعر مقدم رأسه مما فوق الجبين, والبطين أي العظيم البطن " فهو علي بن أبي طالب, واسم أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب جد إمام المرسلين وخاتم النبيين. يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده عبد المطلب فعلي - رضي الله عنه - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأم علي - صلى الله عليه وسلم - هي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً في الإسلام, وقد أسلمت وهاجرت.
(حليف الخير) : بالحاء المهملة المفتوحة وكسر اللام كأمير أصله المحالف والمراد هنا الملازم للخير المواخي له, الذي إذا وجد, وجد معه ويفقد بفقدانه, ومنه قول أخت الوليد بن طريف الشاري الخارجي فيه " واسمها الفارعة وقيل فاطمة " وكانت تجيد الشعر وتسلك طريق الخنساء في مراثيها لأخيها صخر, فقالت في أخيها من قصيدة:
حليف الندي ما عاش يرضى به الندى فإن مات لا يرضى الندى بحليف
وزيد حليف اللسان حديده
(بالخير) : وهو ضد الشر, والمال الكثير منه, واسم جامع لكل مُنتفع به, والكثير الخير يقال له خير.
(منجح) : اسم فاعل من نجحت الحاجة وأنجحت وأنجحها الله, والنجَاح بالفتح هو الظفر, والنُجح بالضم الظفر بالشيء, والجمع مناجيح ومناجح, والنجيح هو الصواب من الرأي وهذا إشارة إلى ما كان عليه من الظفر بالأقران وموالاة أهل الإيمان, والاعتناء بمكارم الأخلاق ومزيد الكرم بالأرزاق, وتيسر أموره والإنجاح, وأنه لكل مغلق من الخير مفتاح, فرضي الله عنه وأرضاه وبوأه غرف الجنان, وأولاه من أهل الحق, وقمع من عاداه, وإذ قد عرفت أنه أقرب الخلفاء الراشدين من الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسباً وأمسهم رحماً أماً وأباً.
وقد ورد في علي - رضي الله عنه - فضائل كثيرة منها:
ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: ( ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي رضي الله عنه وأرضاه).(1/44)
قال بعض المحقيين: (سبب ذلك " والله أعلم " أن الله اطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما سيكون بعده مما ابتلى به أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وما وقع له من الاختلاف لما آل إليه أمر الخلافة فاقتضى ذلك نصح الأمة بإشهار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتلك الفضائل لتحصل النجاة لمن تمسك به ممن بلغته, ثم لما وقع الاختلاف والخروج عليه نشر من سمع من الصحابة رضي الله عنهم تلك الفضائل, وبثها نصحاً للأمة ثم لما اشتد الخطب واشتغلت طائفة من بني أمية بتنقيصه وسبه حتى على المنابر ووافقهم على ذلك الخوارج, اشتغلت جهابذة العلماء والحفاظ من أهل السنة ببث فضائله حتى كثرت نصحاً للأمة ونصرة للحق)(1).
__________
(1) أنظر فتح الباري 7/89 ولوامع الأنوار للسفاريني.(1/45)
توفي - رضي الله عنه - ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين, وعمره ثلاثة وستون سنة. وقد قتل - رضي الله عنه - حينما كمن له عبدالرحمن بن ملجم ألمرادي هو وشبيب بن شجرة الأشجعي بسيفيهما قبالة السدة التي يخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهرج لصلاة الصبح فبدر شبيب فأخطأه وضربه ابن ملجم على رأسه وقال: الحكم لله يا علي لا لق ولا لأصحابك, فقال علي - رضي الله عنه - فزت ورب الكعبة لا يفر منكم الكلب, وشد الناس عليه من كل جانب فحمل عليهم ابن ملجم فأفرجوا له فتلقاه المغيرة بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب فرمى عليه قطيفة كانت عنده واحتمله وضرب به الأرض وقعد على صدره, وقيل الذي فعل ذلك رجل من همدان, وجيء بابن ملجم إلى علي - رضي الله عنه - فنظر إليه وقال: النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني وإن سلمت رأيت فيه رأي, فمات - رضي الله عنه - وأرضاه فقُتل ابن ملجم بعدما قطعت يداه ورجلاه وكحلت عينيه بمسامير الحديد محماة ثم قطع لسانه, ولما أرادوا قطع لسانه تمانع تمانعاً شديداً مع أنه قطعت أعضاؤه ولم يتأوه فقيل له في ذلك فقال لئلا يفوتني من تلاوة القرآن شيء وأنا حي فشقوا شدقه وأخرجوا لسانه فقطعوه.
وكان بن ملجم لعنة الله قبل ذلك من العباد المعدودين حتى إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن يوسع دار عبدالرحمن بن ملجم ليعلم الناس الفقه والقرآن.
ثم كان من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشهد معه صفين ثم آل أمره إلى ما ترى فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة في عافية.(1/46)
وعند الخوارج أن ابن ملجم أفضل الأمة وكذلك النصيرية يعظمونه. وعند الروافض أنه أشقى الخلق في الآخرة, ولا شك أنه أشقى الخلق بنص سيد المرسلين, فقد أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أن النبي - رضي الله عنه - قال لعلي { أشقى الناس رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه يعني قرنه حتى يبل منه هذه يعني لحيته } (1), وقد ورد ذلك أيضا من حديث علي وصهيب وجابر بن سمرة وغيرهم رضي الله عنهم(2).
- 17 -
وإنَّهمُ و الرَّهْطُ لا رَيْبَ فِيْهِمُ ... عَلَى نُجُبِ الفِرْدَوْس ِفي الخُلْد تَسْرَحُ
(إنهم) : الضمير يعود على من سبق الكلام عنهم وهم الخلفاء الأربعة.
(الرهط) : الرهط قوم الرجل وقبيلته, من ثلاثة إلى عشرة.
(لا ريب) : أي لا شك ولا تهمة, والريب يطلق ويراد به صرف الدهر, والحاجة والظنة والتهمة والأخير هو المراد هنا.
(فيهم) : أي في الخلفاء الراشدين, والجار والمجرور متعلق بلا ريب أي بلا تهمة ولا ريب ولا شك ولا مظنة أنهم كائنون وصائرون.
(على نجب) : جمع نجيب وهو الكريم الحسيب.
(الفردوس) : في الأصل هو البستان الذي فيه الكرم ذو الأشجار والجمع فراديس, ومنه جنة الفردوس وهو المراد هنا فمن أسماء الجنة الفردوس كما في قوله تعالى { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } , { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(3) } .
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة(4) } .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.
(2) أنظر مجمع الزوائد للهيثمي.
(3) المؤمنون11:10).
(4) رواه مسلم.(1/47)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح إلى منازل الأفراح: (الفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنان).
وقال الضحاك: (الفردوس الجنة الملتفة الأشجار).
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وإن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يُخلد
وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال { أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه فقالت يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة صبرت وإن يكن غير ذلك ترى ما أصنع, فقال: إنها ليست بجنة واحدة بل جنان كثيرة وإنه في الفردوس الأعلى(1) } .
(تسرح) : أي ترسل حيث شاء راكبها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح إلى منازل الأفراح: (أهل الجنة يتزاورون فيها ويستزيد بعضهم بعضا وبذلك تتم لذتهم وسرورهم, ولهذا قال حارثة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقا. قال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها, وإلى أهل النار يعذبون, وفي لفظ (يتعاوون) قال - صلى الله عليه وسلم - عبد نور الله قلبه عرفت فألزم)(2).
- 18 -
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحةٌ ... وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ
__________
(1) رواه البخاري في المغازي, في باب فضل من شهد بدراً.
(2) حادي الأرواح 254 والحديث أخرجه الطبراني في الكبير عن الحارث بن مالك, قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى كشف . ورواه البزار كما في كشف الأستار عن أنس بن مالك وقال الهيثمي في المجمع: رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به.(1/48)
(سعيد) : هو أبو الأعور وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي, وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أسلم سعيد قديماً قبل أن يدخل النبي دار الأرقم, وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر, فإنه كان هو وطلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش, وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه في المغنم والأجر. وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة.
(وسعد) : أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص, وأسم أبي وقاص أسمه مالك بن وهيب ويقال أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب, يجتمع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب, القرشي الزهري. أسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق وهو ابن سبع عشرة سنة, قال: كنت ثالث الإسلام, وأنا أول من رمى بسهم في سبيل الله.
مات بالعقيق ودفن بالبقيع سنة 55هـ , ولاه عمر وعثمان رضي الله عنهم على الكوفة, روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتان وسبعون حديثاً منها في الصحيحين ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر.
(وابن عوف) : هو أبو محمد عبدالرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الزهري, يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب بن مرة, كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن و أسلم قديما على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - , وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وثبت يوم أحد, وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه في غزوة تبوك وأتم ما فاته.(1/49)
مات سنة اثنين وثلاثين ودفن بالبقيع, وله ثنتان وسبعون سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثا منها في الصحيحين سبعة أحاديث المتفق عليها منها حديثاً وباقيها للبخاري.
(وطلحة) : هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي, يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصديق في مرة بن كعب, أسلم طلحة قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, وشهد المشاهد كلها غير بدر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنفذه هو سعيد بن زيد كما تقدم في ترجمة سعيد, ثبت يوم أحد وأصيب في أصابعه وشلت أصابعه.
استشهد في وقعة الجمل في الحرب بين علي وعائشة رضي الله عنهما يوم الخميس لعشر بقين من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين, يقال أن الذي قتله مروان بن الحكم وقيل أصابه سهم في حلقه, دفن بالبصرة وله أربع وستون سنة.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً منها في الصحيحين سبعة المتفق عليها حديثان, وانفرد البخاري بحديثين, ومسلم بثلاثة.
(وعامر فهر) : هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة (عامر) بن عبدالله بن الجراح بن هلال بن أهيب ابن ضبة بن الحارث بن(فهر) بن مالك بن النظر بن كنانة القرشي الهذلي, يلتقي نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فهر بن مالك, أسلم هو عثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -, وثبت معه يوم أحد, ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
مات في طاعون عمواس بالأردن سنة عشرة ودفن بغوربيسان وصلى عليه معاذ بن جبل وهو ابن ثمان وخمسين سنة, روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثاً لم يخرّج له البخاري في صحيحه شيئاً.(1/50)
ولا أخرج له مسلم إلا في حديث العنبر من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - وهو قوله يعني قول أبي عبيد - رضي الله عنه - { نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - } وهو معنى تام فسموه حديثاً(1) .
(والزبير الممدوح) : هو أبو عبيد الله الزبير فراء بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي الأسدي. أسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو ابن ستة عشر سنة.
هاجر إلى الحبشة الهجرتين وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها وهو أول من سل سيفاً في سبيل الله من هذه الأمة, ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.
قتله عمير بن جرموز سنة ست وثلاثين وله أربع وستون سنة, ودفن بوادي السباع ثم حُوّل إلى البصرة وقبره مشهور بها.
يلتقي نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي, روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثاً منها في الصحيحين تسعة المتفق عليها منها حديثان وباقيها للبخاري.
(الممدوح) : أي المتصف بالخصال التي يُمدح بها ويُحمد عليها وفي هذا إشارة إلى كثرة مناقبه وغزير مزاياه من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير بن العوام } (2), روي عن سفيان بن عيينة أنه قال الحواري الناصر.
وهؤلا الستة: أفضل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بعد الخلفاء الراشدين .
__________
(1) وحديث قصة العنبر: أخرجه مالك في الموطأ, وأحمد في المسند, والبخاري ومسلم.
(2) رواه الترمذي من حديث علي - رضي الله عنه -, قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, ورواه البخاري ومسلم والترمذي أيضاً من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.(1/51)
والخلفاء الراشدون وهؤلا الستة هم المبشرون بالجنة كما ورد ذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان في الجمعة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعد بن أبي وقاص في الجنة, وسعيد بن زيد في الجنة, وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة } (1).
- 19 -
وَعَائِشُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنا ... مُعَاوِيَة أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصلحُ
- 20 -
وَأَنْصارُه وَالهَاجِرونَ دِيارَهم ... بنصرهُمُ عَنْ ظلمةِ النَّارِ زحزحُوا
- 21 -
وَمَنْ بعدَهُم وَالتابِعُون بِحُسنِ مَا ... حَذو حَذوهم قَولاً وَفِعلاً فَأفْلحوا
- 22 -
وَقُلْ خَيْرَ قولٍ في الصَّحَابةِ كُلِّهِمْ ... ولا تَكُ طَعَّاناً تَعِيْبُ وَتَجْرَحُ
(وقل) : أيها السلفي الأثري بلسانك معتقداً بجنانك.
(خير قول) : أي من الثناء عليهم بذكر محاسنهم وصدق جهادهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم لأنفسهم وأموالهم و ونقلهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - , وبالجملة بذلهم لكل غالٍ ونفيس في مرضاة الله ورسوله لإعلاء كلمة, فيجب على كل مؤمن نشر محاسنهم والكف عما فيه شائبة تنقيصهم والترضي عنهم وهذا لا يختص بأحد منهم دون أحد بل هو عام في الصحابة كلهم من السابقين واللاحقين من المهاجرين والأنصار وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(الصحابة) : جمع صاحب والصحابي هو كل من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإيمان, وهذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن لقيه ولو لحظة واحد' مؤمناً به ومات على ذلك فهو صحابي وأما غيره فلا يعتبر صحابياً إلا بطول الصحبة.
والصحابة كلهم عدول مقبولوا الرواية فلا يُسأل عن عدالة أحد منهم بالكتاب والسنة وإجماع المعتبرين من الأمة.
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب وهو حديث صحيح.(1/52)
قال تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة وإن رجّح كثير عمومها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم أولى بالدخول في العموم, وكذلك قوله تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(2) } , ولذا فمذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة ذكر محاسنهم والترضي عنهم والمحبة لهم وترك التحامل على أحد منهم وكف الألسنة عما شجر بينهم من الخلاف, وهم معذورون فيما حصل بينهم وإنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفراً ولا فسقاً بل يثابون على ذلك لاجتهادهم, فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد, قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: (خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما شجر بينهم هو سلامة قلوبهم وألسنتهم ومحبتهم إياهم والترضي عنهم جميعاً وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم أي إخفاء مساوئ من نُسب إليه شيء من ذلك, والإمساك عما شجر بينهم واعتقاد أنهم في ذلك بين أمرين إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون, فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور, وإذا قدر لبعضهم سيئات وقعت عن غير اجتهاد فلهم من الحسنات ما يغمرها ويمحوها وليس في بيان خطأ من أخطأ منهم في حكم من الأحكام شيء من إظهار المساوئ بل ذلك مما يفرضه الواجب ويوجبه النصح للأمة) أ.هـ.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة: (وأما الصحابة فجمهور أفاضلهم لم يدخلوا في فتنة).
وقال ابن سيرين: (كانت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون عشرة آلاف ولم يحضرها منهم مائة).
قال شيخ الإسلام: (وهذا أصح إسناد على وجه الأرض).
أما ما ورد في ذكر مساوئ الصحابة فلا يخلوا من ثلاث أمور:
1- مكذوبة روجها الرافضة قبحهم الله.
__________
(1) آل عمران: من الآية110)
(2) البقرة: من الآية143)(1/53)
2- آثار زيد فيها وغُيّر من وجهها.
3- صحيح كما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد حسان بن ثابت لما طعن في عائشة وحمنة بنت جحش لما وقعت في عائشة, ومن ذلك ما حصل من الصحابة من خلاف وهذا تقدم الكلام عليه والله تعالى أعلم.
ولذلك الطعن في الصحابة سمة أهل البدعة كالرافضة ولذا قال الناظم رحمه الله تعالى:
(ولا تك طعاناً) : صيغة مبالغة والطعن هو الذم والتنقيص والقدح في أعراض الناس وفي الحديث { لا يكون المؤمن طعاناً(1) } أي وقاعاً في أعراض الناس بالذم والغيبة والتنقيص والمسبة ونحو ذلك.
(تعيب وتجرح) : أي تسب وتشتم وفي هذا يشير إلى من خالف أهل السنة والجماعة في موقفهم من الصحابة رضي الله عليهم, فأهل السنة والجماعة وسط بين النواصب والروافض, سمو روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي, أما النواصب فسموا كذلك لأنهم ينصبون العداء لآل البيت ويقدحون فيهم ويسبونهم فهم على النقيض من الروافض.
فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن, ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم إلا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلو فيهم وهم آل البيت, وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون أنهم ظلمة ويقولون أنهم أرتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.
أما النواصب فهم قابلوا البدعة ببدعة أخرى فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت قالوا إذاً نبغض آل البيت ونسبهم مقابلة لهؤلا في الغلو في محبتهم والثناء عليهم.
ودائماً يكون الوسط هو خير الأمور ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلا قوة وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الروافض على ثلاثة أقسام:
1. المؤلهة: وهم الذين يقولون بألوهية على - رضي الله عنه -.
__________
(1) رواه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في اللعن والطعن.(1/54)
2. المفضلة: الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
3. السبابة: وهم الذين يسبون الصحابة رضي الله عنهم ويقدحون فيهم إلا بضعة عشر منهم.
ومما لا شك فيه: أن سب الصحابة ليس قدحاً في الصحابة فقط بل هو قدح في الصحابة وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل.
* أما كونه قدحاً في الصحابة فواضح.
* وأما كونه قدحاً في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففيه أن أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق وفيه قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.
* وأما كونه قدحاً في شريعة الله فلأنهم الواسطة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة فإذا سقطت عدالتهم لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.
* قدحاً في الله سبحانه وتعالى, ففيه أن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - في شرار الخلق واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته...
فانظروا ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم, ونحن نتبرأ من طريقة هؤلا الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم ونعتقد أن محبتهم فرض, وأن الكف عن مساوئهم وقلوبنا ولله الحمد مملؤه من محبتهم لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مسألة: هل سب الصحابة كفر أم لا؟
هذه المسألة تحتها أقسام:
1) أن يسبهم كلهم بالكفر أو الفسق أو يسب معظمهم بالكفر أو الفسق أو يقال أن يسبهم كلهم أو معظمهم سباً يطعن في ذمتهم وعدالتهم فهذا كفر, لأن هذا طعن في القرآن الكريم والسنة لأنهم نقلته.
2) أن يسب من تواترت النصوص على فضله طعناً يقدح في دينهم وعدالتهم, قال بعض العلماء كالشيخين, فهذا كفر على الراجح.(1/55)
3) أن يسب من لم تتواتر النصوص بفضله في دينه أو عدالته, فهذا العلماء على قولين في كفره منهم من قال: أن لا يكفر إلا إذا سبه من حيث الصحبة وهذا قول كثير من أهل العلم, والقول الثاني قول من قال بكفره.
4) أن يسب بعضهم سباً لا يطعن في الدين والعدالة وإنما يرجع إلى الفهم والعلم كأن يصف بعضهم بقلة الزهد أو قلة الفهم والبخل, فهذا فسق يستحق فاعله التعزير.
5) أن يقذف عائشة أو يسبها مما برأها القرآن منه, فهذا كفر لأنه تكذيب للقرآن.
6) أن يسب أمهات المؤمنين مما برأ الله منه عائشة رضي الله عنها فهذا كفر.
- 23 -
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ المُبينُ بِفَضْلِهِمْ ... وفي الفَتْحِ آيٌ في الصَّحابةِ تَمْدَحُ
(الوحي المبين) : يشمل القرآن والسنة فالقرآن نطق بفضلهم والسنة كذلك والآيات في ذلك والأحاديث كثيرة من ذلك:
* قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1).
* وقوله تعالى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ*وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2).
* كما ثبت في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه } (3).
__________
(1) التوبة: من الآية100).
(2) الحشر:8-9).
(3) أخرجه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة رضي الله عنهم.(1/56)
والأحاديث كثيرة سواء كانت في عموم الصحابة أو أفرادهم بالنسبة لأفرادهم:
* قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما { أن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا } (1).
ويقول - صلى الله عليه وسلم - { اقتدوا بالدَّيَنِ من بعدي أبي بكر وعمر(2) } .
* وقال عليه الصلاة لعمر { ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك } (3).
* من ذلك حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ } (4).
(وفي الفتح) : أي في سورة الفتح, وسورة الفتح نزلت في السنة السادسة من الهجرة بعد انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية وفيها بيعة الرضوان وكانوا أربعة عشر مائة على المشهور.
(آي) : جمع آية , والآية في اللغة العلامة.
اصطلاحاً: هي جملة من كلام الله عز وجل لها بدء ولها انتهاء, وفي النهاية معنى الآي "جماعة حروف وكلمات, من قولهم: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا ورائهم شيئاً, قال والآية في غير هذه العلامة ".
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد, وأحمد في المسند.
(2) رواه الترمذي في المناقب, وابن ماجه , وأحمد في المسند.
(3) رواه البخاري في فضائل الصحابة, باب مناقب عمر - رضي الله عنه - , رواه مسلم في فضائل الصحابة , فضل عمر - رضي الله عنه -.
(4) رواه أبو داود والترمذي وأحمد, وقال الترمذي : حسن صحيح.(1/57)
(تمدح) : أي في سورة الفتح آيات من كتاب الله تثني على الصحابة بتعداد محاسنهم, والمدح هو الثناء باللسان على الجميل مطلقاً أي سواء كان اختيارياً كالعلم والكرم, أو كان اضطرارياً كالحسن والجمال ولابد أن يكون على جهة التبجيل هذا معنى المدح لغة, ومعناه عرفاً اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل والإشارة بذلك لقوله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (1).
فائدة:
(قال السفاريني رحمه الله تعالى في كتاب {لوائح الأنوار السَّنِيَّة ولوقح الأفكار السُّنَّيَّة} شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية(2):
__________
(1) الفتح:29).
(2) ص 100-101-102.(1/58)
(إنما خص الناظم رحمه الله تعالى ورضي عنه آيات الفتح بالذكر في مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين دون قوله تعالى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (1) وقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } (2) وقوله { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ(3) } وقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ(4) } مع أنها في الفتح فيحتمل إرادته لها أيضا. وقوله { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (5) وقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (6) إلى غير ذلك من الآيات.
إنما خص الناظم هذه الآيات لما اشتملت عليه من المعاني البديعة والمآثر الرفيعة والمزايا العظيمة والمناقب الجسيمة, فإن قوله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ(7) } جملة مبنية المشهود به في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ(8) } إلى قوله { شهيدا } ففيها ثناء عظيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ثنى بالثناء على الصحابة بقوله { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } .
__________
(1) آل عمران: من الآية110).
(2) البقرة: من الآية143).
(3) التحريم: من الآية8).
(4) الفتح: من الآية18).
(5) التوبة: من الآية100).
(6) لأنفال:64).
(7) الفتح: من الآية29).
(8) الفتح: من الآية28)(1/59)
كما قال تعالى في الآية الآخرى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(1) } .
فوصفهم سبحانه بالشدة والغلظة على الكفار وبالرحمة والبر والعطف على المؤمنين والذلة والخضوع لهم ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام وسعة الرجاء في فضل الله ورحمته وبابتغائهم فضله ورضوانه وبان آثار ذلك الإخلاص وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت على وجوهم حتى أن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم) أ.هـ.
- 24 -
وبِالقَدَرِ المقْدُورِ أيْقِنْ فإنَّهُ ... دِعَامَةُ عقْدِ الدِّينِ والدِّينُ أفْيَحُ
لمّا انتهى المؤلف رحمه الله من عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة شرع رحمه الله في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في القدر فقال:
(وبالقدر) : القدر لغة مصدر قدرت الشيء إذا أحطت بمقداره وهو بمعنى التقدير قال تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (2) وقال تعالى { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(3) } .
اصطلاحاً هو تعلق علم الله بالكائنات أزلاً قبل وجودها, والقدر هو الأمر الذي قضاه الله وحكم به من الأمور.
(المقدور) : أي الصادر عن المعبود تعالى مقدراً محكماً.
(أيقن) : أي اعلم علماً جازماً لا ريب فيه ولا شك يعتريه.
(فإنه) : أي الإيقان بالقدر المقدور والإيمان به.
(دعامة) : أي عمود.
(عقد الدين) : الذي ينبني عليه, وشرطه الذي يعول عليه والجمع دعم ودعائم, و(أل) في الدين للعهد أي دين الله الذي بعث الله به رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه.
__________
(1) المائدة: من الآية54).
(2) القمر:49)
(3) المرسلات:23)(1/60)
(أفيح) : أي واسع لا حرج فيه, وفي حديث أم زرع في البخاري ومسلم { وبيتها فياح } أي واسع. قال في النهاية: (كل موضع واسع يقال له أفيح, وروضة فيحاء).
وهذا البيت أشار الناظم فيه إلى وجوب الإيمان بالقضاء والقدر, والإيمان بالقدر هو مذهب أهل السنة والجماعة.
والإيمان بالقدر واجب, ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حين قال { ما لإيمان؟ قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره(1) } .
مسألة:أدلة وجوب الإيمان بالقدر:
من خلال تأمل كتاب الله عز وجل هناك بعض الآيات التي حكى الله فيها عن الأنبياء أو غيرهم الإيمان بالقدر وبأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون من ذلك:
1 .قوله تعالى في قصة نوح { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(2) } .
2. في قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تعالى عن الشيخ { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(3) } فهو قيد ذلك بمشيئة الله تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته, ونحو ذلك من الآيات.
3. ومن الأدلة كذلك قوله تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (4).
4. وقوله تعالى { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } (5).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) هود33:32).
(3) القصص:27).
(4) القمر:49).
(5) القمر:50)(1/61)
6. وقوله تعالى { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } (1).
* ومن السنة حديث جبريل المشهور الذي رواه عبدالله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيه { قال: فأخبرني عن الإيمان, قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره, قال: صدقت... } (2) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (علم الله السابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ولا محو فيه ولا تغير, ولا زيادة ولا نقص فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون).
قال طاووس رحمه الله: (أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون كل شيء بقدر).
مسألة: فؤائد الإيمان بالقدر, للإيمان بالقدر فؤائد منها:
1- أنه من تمام الإيمان ولا يتم الإيمان بذلك.
2- أنه من تمام الإيمان بالربوبية لأن قدر الله من أفعاله.
3- رجوع الإنسان إلى ربه لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها, ويضيف السراء إلى الله ويعرف أنها من فضل الله.
4- أن الإنسان يعرف قدر نفسه ولا يفخر إذا فعل الخير.
5- أن المصائب تهون على العبد لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله هانت عليه المصائب كما قال تعالى { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ(3) } قال علقمة رحمه الله: (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضي ويسلم).
__________
(1) طه: من الآية40)
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان.
(3) التغابن: من الآية11).(1/62)
6- إضافة النعم إلى مسديها لأنك إذا لم تؤمن بالقدر أضفت النعم إلى من باشر الإنعام وهذا يوجد كثيراً في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء وهذا لا يعني عدم شكر الناس إذ صنعوا معروفاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { من صنع إليكم معروفاً فكافئوه } (1).
7- أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغييرات باهرة عرف بهذا حكم و الله عز وجل بخلاف من نسي القضاء والقدر فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.
وخالف أهل السنة والجماعة في القدر المعتزلة والقدرية فهم يقولون بأن الله لم يقدر أفعال العباد, فالعبد هو الذي شاء فعل نفسه وخلقه, ولذا سمو بمجوس هذه الأمة لأنهم أثبتوا خالقاً مع الله والقدرية خرجوا في أواخر عهد صغار الصحابة, كمعبد الجهني وقد كفرهم الصحابة رضوان الله عليهم.
مسألة: مراتب القدر
1. المرتبة الأولى العلم: فيجب الإيمان بعلم الله عز وجل المحيط بكل شيء وأنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وحركاتهم وسكناتهم وأعمالهم ومن منهم من أهل الجنة ومن منهم من أهل النار وانه يعلم كل شيء سبحانه وتعالى بعلمه القديم المتصف به أزلاً وأبداً.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة منها:
* قوله تعالى { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(2) } .
* وقوله { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } (3).
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح وصححه الألباني وهو جزء من حديث ابن عمر مرفوعاً.
(2) الأنعام:59).
(3) الطلاق: من الآية12)(1/63)
ومن السنة:
* حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه - قال { قال رجل يا رسول أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم قال ففيم يعمل العاملون؟ قال ميسر لما خلق له(1) } .
2.المرتبة الثانية الكتابة: وهي أن الله تعالى كتب مقادير المخلوقات والمقصود بهذه الكتابة, الكتابة في اللوح المحفوظ وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله تعالى من شيء فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله.
وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها:
* قوله تعالى { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء(2) } .
* وقوله في أوضح آية على هذه المرتبة { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (3) فهذه الآية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة .
ودليل هذه المرتبة من السنة:
* ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } (4).
وهاتان المرتبتان ينكرهما غلاة القدرية. ويتعلق بهاتين المرتبتين عدة تقارير وهي بإيجاز:
أ. التقدير الأول كتابة ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق الله القلم ويدل لهذا حديث عبدالله بن عمر السابق, ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة { جف القلم بما أنت لاق } (5).
ب. التقدير حين أخذ الميثاق على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم, ودليله حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين سئل عن هذه الآية { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى(6) } .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) الأنعام: من الآية38).
(3) الحج:70)
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري.
(6) لأعراف: من الآية172).(1/64)
ج. التقدير العمري عند أول تخليق النطفة وهذا دليله حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال { حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات, بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح } (1).
د. التقدير الحولي في ليلة القدر بدليل قوله تعالى { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(2) } . أي يقضي فيها أمر السنة كلها من معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة الأخرى.
هـ. التقدير اليومي بدليل قوله تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ(3) } قال - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية { من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين(4) } .
3.المرتبة الثالثة مرتبة الإرادة والمشيئة: أي أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يخرج عن إرادته شيء.
وأدلة هذه المرتبة ما يلي:
من الكتاب:
* قوله تعالى { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ(5) } .
* وقول نوح لقومه لما قالوا { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين*قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } (6).
ومن السنة:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الدخان:4).
(3) الرحمن: من الآية29).
(4) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
(5) المائدة: من الآية48)
(6) هود33:32).(1/65)
* إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين أجابه بعد سؤاله هو وفاطمة بقوله { إلا تصليان } فأجابه بقوله { أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا } قال علي - رضي الله عنه - فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } (1).
4.المرتبة الرابعة مرتبة الخلق: أي أن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد, فلا يقع شيء في هذا الكون إلا وهو خالقه, وهذه المرتبة هي محل النزاع الطويل بين أهل السنة ومن خالفهم من المعتزلة والقدرية والجبرية.
وأدلة هذه المرتبة:
من الكتاب:
قوله تعالى { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(2) } .
وقوله تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3) } .
ومن السنة:
حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول, كان يقول { اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها... } (4) الشاهد قوله { اللهم آت نفسي تقواها } فالفاعل هو الله تعالى.
وعامة القدرية يثبتون مرتبة العلم والكتابة وينكرون مرتبة الخلق والمشيئة, وأهل السنة والجماعة يثبتون الأربع, فالجهمية مجبرة ينكرون فهم ينكرون مشيئة العيد ويقولون هو كالريشة في مهب الريح, والمعتزلة يقولون الله لا مشيئة له في أفعال العباد فالله عندهم لا مشيئة لا ولا إرادة, أهل السنة والجماعة وسط في ذلك فهم يثبتون لله مشيئة وإرادة, والعبد كذلك ومشيئة العبد وإرادته تبع الله لمشيئة وإرادته.
- 22 -
__________
(1) متفق عليه.
(2) الصافات:95)
(3) غافر:62)
(4) رواه مسلم.(1/66)
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً نَكِيرًا ومُنْكَراً ... وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
(ولا تك) : ناهية.
(تنكرون) : فعل مضارع مبني على الفتح لأنه مؤكد بالنون الخفيفة في محل جزم بلا الناهية.
(جهلاً) : مفعول لأجله أي لأجل الجهل وقلة العلم والفضل.
والملكين المسميين ب(نكيراً ومنكراً) وهما الملكان اللذان ينزلان على الميت في قبره يسألانه عن ربه ومعتقده , وفي ذلك إثبات فتنة القبر فالإيمان بذلك واجب شرعاً لثبوته عن المعصوم عليه الصلاة والسلام في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ التواتر.
الأدلة على فتنة القبر ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع:
* ومن ذلك قوله تعالى { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(1) } .
وأخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(في قوله تعالى { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } نزلت في عذاب القبر).
* وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولون ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار وقد أبدلك الله مقعداً من الجنة ... } الحديث.
* والإجماع منعقد على ذلك.
وقول الناظم: (منكر ونكير) استدلالاً بحديث أبي هريرة قال { يأتيه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير } روي ذلك الترمذي وابن حبان ولكن هذا الحديث ضعيف وعلى هذا كما ورد في الصحيحين { يأتيه ملكان } أما تسميتهما فهذا لم يثبت.
واستثنى العلماء أصنافاً لا يفتنون في قبورهم وهم:
__________
(1) ابراهيم:27)(1/67)
1) الأنبياء والرسل, فالأنبياء يُسأل الناس عنهم فيقال من نبيك؟ فهم مسئول عنهم وليسوا مسؤلين عن غيرهم, ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { أنه أوحي إلي أنكم تفتنون } (1), والخطاب للأمة المرسل إليهم فلا يكون الرسول داخلاً فيهم.
2) المرابطون, ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتَان(2) } .
3) الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فإنهم لا يفتنون لظهور صدق إيمانهم بجهادهم لما ورد { كفى ببارقة السيوف على رؤوسهم فتنة(3) } ولأنهم يشفعون في غيرهم.
4) الصديقون, لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء فإذا كان الشهداء لا يسألون فالصديقون من باب أولى.
5) غير المكلفين من المجانين والصغار, فهؤلا لا يفتنون كذلك.
وأما الكفار فهل يفتنون أم لا؟
على خلاف والصواب أنهم يفتنون في قبورهم. وكذلك غير هذه الأمة الصحيح أنهم يفتنون لأنه إذا كانت هذه الأمة وهي أشرف الأمم تسأل فمن دونها من باب أولى.
(ولا الحوض) : أي حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحوض في اللغة مجمع الماء.
واصطلاحاً: هو الحوض الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة, فهو ثابت بإجماع أهل الحق وإثبات الحوض هو مذهب أهل السنة والجماعة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث أسماء رضي الله عنها.
(2) رواه مسلم من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -.
(3) رواه النسائي, وقال الألباني كما في أحكام الجنائز سنده صحيح.(1/68)
وقد ورد إثبات الحوض من رواية أربع وخمسين صحابياً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا عدّ بعض العلماء الأحاديث الواردة في الحوض من الأحاديث المتواترة, قال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه البدور السافرة: (ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابياً منهم الخلفاء الراشدون الأربعة وحفاظ الصحابة المكثرون وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين)(1).
وذكر ابن القيم: أن أحاديث الحوض رواها أربعين صحابياً.
ومن أدلة ذلك:
قوله تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } (2).
وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ ابداً(3) } .
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { منبري على حوضي } .
والكلام على الحوض من عدة وجوه هي:
أولاً: هل الحوض موجود الآن أم لا؟
الصحيح أنه موجود الآن, لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم في أصحابه وقال { إني لأنظر إلى حوضي الآن } (4).
ثانياً: هذا الحوض فيه ماء مَوْرُود فمن أين هذا الماء؟
الجواب: يصب فيه ميزابان من الكوثر وهو النهر العظيم الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ينزلان إلى هذا الحوض.
ثالثاً: هل زمن الحوض قبل العبور على الصراط أم هو بعده؟
__________
(1) أسمه الكامل: البدور السافرة عن أمور الآخرة ص 164.
(2) الكوثر:1)
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري من حديث عقبة بن عامر .(1/69)
الجواب: الحوض قبل العبور على الصراط لأن المقام يقتضي ذلك حيث أن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط, قال القرطبي رحمه الله: (والمعنى يقتضي تقديم الحوض على الصراط فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً فناسب تقديمه لحاجة الناس إليه).
رابعاً: الذي يرد الحوض, هم المؤمنون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتبعون لشريعته وأما من استنكف واستكبر عن إتباع الشريعة فإنه يطرد منه.
خامساً: صفة الحوض, أما ماؤه فهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك كما ثبت ذلك في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي تقدم ذكره, وأما آنيته فعدد نجوم السماء كما ورد هذا في بعض ألفاظ الحديث وفي بعضها { آنيته كنجوم السماء } وهذا اللفظ أشمل, لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة.
سادساَ: آثار هذا الحوض, من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص السابق.
سابعاً: وأما مساحة هذا الحوض, فقد اختلفت الروايات في تحديده وتوضيحه ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أنه مسيرة شهر وزواياه سواء, وفي رواية عند الإمام أحمد أنه كما بين عدن وعمان, وفي رواية في الصحيحين ما بين صنعاء والمدينة, وفي رواية لهما أيضاً ما بين المدينة وعمان, وفي رواية في لهما أخرى أنه ما بين إيلة وصنعاء, قال بعض العلماء: (وهذا الاختلاف لا يوجب الضعف, لأنه من اختلاف التقدير والتحديد لا من اختلاف في الرواية, لأن ذلك لم يقع في حديث واحد فيعدّ اضطراباً وإنما جاء في أحاديث مختلفة من غير واحد من الصحابة وقد سمعوه في مواطن متعددة, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثل لكل قوم الحوض بحسب ما يعلم المتكلم ويفهم السائل وبحسب ما يسنح له - صلى الله عليه وسلم - من العبارة, ويحدد الحوض بحسب ما يفهم الحاضرون من الإشارة). قال بذلك القاضي عياض, وابن حجر, والقرطبي.(1/70)
ثامناً: هل لكل نبي حوض أم لا؟
ورد في سنن الترمذي أن لكل نبي حوضاً ففي حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً } (1).
وهذا الحديث وان كان فيه مقال لكن يؤيده المعنى وهو أن الله عز وجل بحكمته وعدله كما جعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حوضاً يرده المؤمنون من أمته كذلك يجعل لكل نبي حوضاً حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء والسابقين.
تاسعاً: خالفت المعتزلة فلم تقل بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة الصحيحة كما تقدم.
ونرد على المعتزلة بأمرين:
أ- الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم أن أحاديث الحوض تبلغ حد التواتر.
ب- إجماع أهل السنة على ذلك.
(والميزان) : الميزان هو ما يضعه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد وهو حق ثابت, دل عليه الكتاب والسنة والإجماع:
من الكتاب:
قوله تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(2) } .
وقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ*فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } (3) وقوله { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ(4) } .
ومن السنة الأدلة على ذلك كثيرة منها:
__________
(1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبدالملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح.
(2) الانبياء:47).
(3) القارعة8:7).
(4) لأعراف:9).(1/71)
*حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } .
*وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال, قال رسول - صلى الله عليه وسلم - { ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن } (1).
بالنسبة للإجماع :
إجماع السلف منعقد على ذلك, فلإيمان به هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وهو ميزان حقيقي له كفتان لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب البطاقة قال { فتوضع السجلات في كفه والبطاقة في كفه(2) } .
وهو كذلك ميزان حسي, وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود والمعروف إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك, والمعهود المعروف عند النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي وأن هناك راجح ومرجوح, وخالف في ذلك المعتزلة وقالوا ليس هناك ميزان حسي بل هو معنوي فلا حاجة للميزان الحسي على قولهم قالوا لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها, وقالوا أن الميزان ميزاناً معنوياً وهو العدل, ولكن لا شك في بطلان هذا القول, لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ولو قيل أن المراد بالميزان العدل فلا حاجة إلى التعبير بالميزان بل نعبر بالعدل لأنه أحب إلى النفس من كلمة ميزان, ولهذا قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ(3) } .
وهل الميزان واحد أم متعدد؟
__________
(1) وفي سنن أبي داود والترمذي وصححه ابن حبان.
(2) رواه الترمذي وابن ماجة قال الألباني إسناده صحيح.
(3) النحل: من الآية90)(1/72)
الصحيح أنه ميزان واحد لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث { ثقيلتان في الميزان } , ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في ساق ابن مسعود { أنها أثقل من جبل أحد في الميزان(1) } .
ولكن كيف الجواب عن صيغة الجمع في قوله تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } (2)؟
الجواب عن هذا سهل فيقال الجمع لتعدد ما يوزن فيها.
واختلف العلماء في الذي يوزن ما هو؟
الذي يوزن هو العمل الظاهر الآيات السابقة, وقيل بأن الذي يوزن صحائف العمل لحديث صاحب البطاقة, وقيل أن الذي يوزن هو العامل نفسه لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه, ثم قرأ { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } )(3).
وجمع بعض العلماء من هذه النصوص بأن الجميع يوزن وأن الوزن حقيقة للصحائف, وحيث أنها تثقل وتخف حسب الأعمال المكتوبة صار الوزن كأنه للأعمال, وأما وزن صاحب العمل فالمراد به قدره وحرمته وهذا جمع حسن, والله تعالى أعلم.
- 26 -
وقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظيمُ بِفَضلِهِ ... مِن النارِ أجْسادًا مِن الفَحْمِ تُطْرَحُ
(وقل) : أيها المؤمن بالقرآن وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الشريعة الواضحة البرهان الفاضحة لأهل الإفك والزيغ والبهتان من سائر الملل والأديان, مفصحاً بلسانك ومعتقداً بجنانك منقاداً بسائر جوارحك وأركانك. (العظيم) : اسم من أسماء الله تعالى فهو عظيم سبحانه في أسمائه وصفاته وفي ذاته وأفعاله.
(بفضله) : أي بفضله العظيم وكرمه الجسيم.
__________
(1) رواه أحمد وقال الهيثمي " في مجمع الزوائد " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه, وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح.
(2) الانبياء: من الآية47).
(3) الكهف: من الآية105).(1/73)
(النار) : هي النار المعهودة التي هي نار جهنم الموقودة.
(أجساداً) : بعد دخولها فيها وإصابتها من عذابها ما تستحقه منها.
(من الفحم) : الفحم هو الجمر الطافي.
والدليل على ذلك:
* ما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يدخل قوم النار من هذه الأمة فتحرقهم النار إلا دارت وجوههم ثم يخرجون منها } (1).
* وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشافعة فجئ بهم ضبائر ضبائر } , أي جماعات.
* وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه { ...فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين, فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل } (2), وقوله { لم يعملوا خيراً قط } المراد لم يعملوا ما زاد على الأركان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة أما الخوارج والمعتزلة فهم منكرون ذلك لأنهم يرون أن أصحاب الكبائر مخلدون في النار.
(تطرح) : أي ترمى وتلقى.
- 27 -
عَلَى النَّهرِ في الفِردوسِ تَحْيا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَميلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
(على النهر) : متعلق بتطرح.
(في) : أي في الجنة.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب (ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وفي تفسير سورة النساء باب (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) , وفي تفسير سورة القلم ومسلم في الإيمان باب معرفة طرق الرؤية.(1/74)
(الفردوس) : بدليل حديث أبي سعيد السابق { فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة فقيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في حميل السيل } وهو المراد بقول الناظم:
(تحيا) : تلك الأجساد بعدما صارت فحماً وطرحت على النهر الذي هو في جنة الفردوس بإصابة(مائة) , ماء ذلك النهر لتلك الأجساد وتنبت تلك الأجساد بسيلان ماء أنهار الجنة عليها كما تنبت (حبة حميل السيل) أي الحبة التي يحملها السيل.
(إذا جاء) : ذلك السيل أي وقت مجيئه.
(يطفح) : أي يفيض.
وقوله(حميل السيل) هو الزبد وما يقبله على شاطئه ومثله الغثاء, قال في النهاية: (الغثاء بالضم والمد ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره).
وهذا أتى به المؤلف لأن هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة.
- 28 -
وإنَّ رَسُولَ اللهِ للخَلقِ شَافعٌ ... وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ
لمّا ذكر الناظم رحمه الله تعالى أن من الواجب اعتقاد خروج من يدخل النار من عصاة الموحدين منها ناسب ذكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصاة أمته وأهل الكبائر منهم فقال:
(و) : أي قل بلسانك معتقداً بجنانك.
(للخلق) : جميعاً .
(شافع) : أي الشفاعة العامة التي هي فصل القضاء.
والشفاعة في اللغة جعل الوتر شفعاً.
اصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. والشفاعة تنقسم إلى قسمين:
1) شفاعة باطلة: وهي ما يتعلق به المشركون في أصنامهم حيث يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1) ويتخذونهم شفعاء لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع.
2) شفاعة صحيحة: وهي ما جمعت شروطاً ثلاث':
أ. رضى الله عن الشافع.
ب. رضاه عن المشفوع له.
__________
(1) الزمر: من الآية3)(1/75)
ج. أذنه في الشفاعة, والأذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له ودليل ذلك قوله تعالى { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (1).
والشفاعة الصحيحة على قسمين:
1- شفاعات خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. 2- شفاعة عامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره.
أما الشفاعة الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهي على أقسام:
أ) شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف وهذا مجمع عليها بين المسلمين.
وهذه دل عليها الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب:
فلقوله تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } (2).
ومن السنة:
حديث أبي هريرة الطويل وفيه { ...حتى تنتهي إليه " أي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - " فيقول أنا لها ثم يقوم فيستأذن الله عز وجل فيأذن له ويسجد تحت العرش, ويفتح الله عليه من المحامد والثناء على الله عز وجل ما لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد أرفع رأسك سل تعه. اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي.. } الحديث.
ب) شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في دخول أهل الجنة الجنة وهل هي خاصة أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قال به النووي والقاضي عياض والسيوطي.
القول الثاني: أنها ليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وهذا قال به ابن حجر.
ودليل هذا القسم:
حديث أبي هريرة وفيه { ..يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه.. } (3) الحديث.
ج) شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب:
__________
(1) لنجم:26).
(2) الإسراء:79).
(3) رواه مسلم.(1/76)
لما ورد في حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال { يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كأن يحوطك ويغضب لك, قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار } (1), وهذه الشفاعة مستثناة من قوله تعالى { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (2).
د) شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأقوام من أمته أن يدخلوا الجنة بغير حساب ولا عذاب, بدليل حديث عكاشة(3).
هـ) شفاعته لأقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم, وهذا ورد فيه أثر ابن عباس وهو ضعيف.
أما القسم الثاني وهو الشفاعة العامة فله أقسام:
أ- الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخل النار, وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وأما الخوارج والمعتزلة فهم ينكرون ذلك لأنهم يرون أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار.
وقد ذكر هذا القسم شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض والنووي.
ودليل هذا القسم:
* ما أورده مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً } (4).
ت) الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها, وهذا يثبتها أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون أن هؤلا مخلدون.
بدليل حديث جابر يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { أن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة } (5).
ج) الشفاعة في رفع درجات المؤمنين في الجنة.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) المدثر:48).
(3) رواه البخاري في كتاب الرقائق, باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب, ومسلم في كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
(4) رواه مسلم.
(5) أخرجه البخاري في الرقائق , باب صفة الجنة والنار , ومسلم في الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.(1/77)
وهذه دل لها حديث أم سلمة: لما مات أبو سلمة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأخلفه في عقبه في الغابرين(1) } .
ومما يجب أن يعلم أن الناس في الشفاعة طرفان ووسط:
1. من غلو بإثبات الشفاعة حتى أثبتوا الشفاعة الباطلة وهم عامة الصوفية والقبورية, فهم أثبتوا الشفاعة للأولياء وأصحاب القبور والكفار أثبتوا الشفاعة لأصنامهم.
2. من جفوا بإثبات الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة فأنكروا الشفاعة لمن يستحق النار ألا يدخلها, ولمن دخلها أن يخرج منها فهم يرون أن صاحب الكبيرة مخلد في النار.
الوسط هم أهل السنة والجماعة فهم يثبتون ما أثبته الله ورسوله وينكرون ما أنكره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ:
(قل) : بلسانك معتقداً بجنانك.
(أن عذاب القبر) : القبر واحد القبور ويقال لمدفن الموتى مقبر قال الشاعر:
لكل أناس مقبر في فنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
(حق) : الحق هو الذي يرادف الصدق.
(موضح) : أي يظهر ويكشف ويُبان بياناً لا خفاء فيه ولا شك يعتريه. والإيمان بعذاب القبر ونعيمه وهو معتقد أهل السنة والجماعة, وهو حق ثابت بظاهر القرآن وصريح السنة وإجماع أهل السنة.
من القرآن:
قال تعالى { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } إلى قوله { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ(2) } .
*ومن ذلك قوله تعالى { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } (3) فهم قد شحوا بأنفسهم فلا يريدونها أن تخرج لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة فنجد أن الروح تأبى الخروج.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجنائز, باب إغماض الميت.
(2) الواقعة من الآية83-89).
(3) الأنعام: من الآية93).(1/78)
*ومن ذلك قوله تعالى { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (1) فهو تعالى قال { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } وهذا إنما يكون قبل قيام الساعة بدليل قوله { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } .
ومن السنة:
* حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن { اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر...(2) } الحديث.
* ومن ذلك حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر قال { وافتحو له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره } وقال في الكافر { فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له باباً من النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه } (3) قال الحافظ في الفتح(وهو أتم الأحاديث سياقاً).
* وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائشة أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إن أهل القبور يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم } .
والإجماع :
منعقد على ذلك فكل المسلمين يقولون في صلاتهم { أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر.. } ولو أن عذاب القبر غير ثابت ما صح أن يتعوذوا منه إ لا تعوذ من أمر ليس موجوداً, وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.
وعذاب القبر ونعيمه أنكره الخوارج والمعتزلة والأدلة دالة كما تقدم على بطلان قولهم.
وعذاب أهل القبور لا نسمعه لحكمٍ عظيمة:
__________
(1) غافر:46) .
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد, باب استحباب التعوذ من عذاب القبر.
(3) رواه أحمد وأبو داود.(1/79)
1- ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله { لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر(1) } .
2- أن في إخفاءه ذلك ستراً على الميت.
3- أن في ذلك عدم إزعاج لأهله لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب أحزنهم ذلك.
4- عدم تخجيل أهله لتناقل الناس مثلاً تعذيب ولد فلان.
5- أننا قد نهلك لأنها صيحة ليست هينة بل صيحة توجب أن تسقط القلوب من معاليقها فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
6- لو سمع الناس صراخ هؤلا المعذبين لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة لا من باب الإيمان بالغيب وحينئذٍ تفوت مصلحة الامتحان.
مسألة: هل النعيم والعذاب على البدن أو على الروح أم عليهما معاً؟
نقول المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح والبدن تابع له كما أن العذاب في الدنيا على البدن والروح تابعة له, كما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر وفي الآخرة بالعكس ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً وليس على سبيل الاستقلال, وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه لكن هذا لا يقع إلا نادراً, إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبعٌ والنعيم كذلك.
أما رأي الفلاسفة وكثير من المعتزلة الذين أثبتوا عذاب القبر ونعيمه قالوا: العذاب على الروح فقط وأما البدن فإنه لا ينعم ولا يعذب, وآخرون منهم قالوا أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن, وهذا من أبطل الباطل.
وطائفة ثالثة قول من قال: ليس في البرزخ نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقوله بعض المعتزلة.
ومذهب أهل الحق أحق وهو مذهب أهل السلف وسائر الأمة.
مسألة: هل العذاب والنعيم دائم أو ينقطع؟
__________
(1) رواه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.(1/80)
نقول أما العذاب للكفار فإنه دائم ولا يمكن أن يزول هذا العذاب لأنهم مستحقون له, ولأنه لو زال العذاب عنهم لكان راحة لهم وهم ليسوا أهلا لذلك فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة ولو طالت المدة. أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب فهؤلا عذابهم قد يدوم وقد لا يدوم وقد يطول وقد لا يطول حسب الذنوب وحسب عفو الله عز وجل.
مسألة: أما قول من قال إن الإنسان يموت في برية ولا يدفن فكيف يجري عليه عذاب القبر, وكذا قول من قال أن الميت يدفن في قبر ضيق فكيف يوسع له مد البصر, وكذا قول من قال لو حفرنا قبر الميت الكافر بعد مدة وجدناه على حاله ولم تختلف وتتداخل أضلاعه من الضيق.. ونحو ذلك من الاعتراضات الباطلة نقول:
بأن ذلك كله من علم الغيب, وعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم ولا يمكن القياس فيه أبداً على أحوال الدنيا, والله تعالى أعلم.
- 29 -
ولا تُكْفِّرَنَّ أهْلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوا ... فكلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصْفَحُ
(ولا تكفرن) : أي لا تعتقد تكفير..
(أهل الصلاة) : المقصود بها الصلاة المعروفة المعهودة التي هي أحد أركان الإسلام ومباني الدين. والكفر ضد الإيمان, وفي الحديث { من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما... } (1).
(وإن عصوا) : بارتكاب الذنوب الصغائر منها والكبائر ما لم تكن الذنوب مكفرة.
(فكلهم) : أي العباد إلا من عصمه الله من المرسلين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(يعصي) : من العصيان خلاف الطاعة, والمعصية تشمل الكبائر والصغائر مما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة.
وزاد شيخ الإسلام : (أو ورد في ارتكاب المعصية وعيد ينفي إيمان أو لعن).
(وذو) : أي صاحب العرش, أي العرش العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب.
(يصفح) : من الصفح وهو الإعراض عن المؤاخذة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.(1/81)
وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة خالد مخلد في النار, قال شيخ الإسلام رحمه الله: (أول خلاف حدث في الملة هو في الفاسق الملي هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج أنه كافر, وقالت الجماعة أنه مؤمن, وقالت طائفة من المعتزلة هو لا مؤمن ولا كافر بل هو بمنزلة بين المنزلتين وخلدوه في النار واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه فسموا معتزلة).
وأما أهل السنة فلم يخرجوا أي فاعل كبيرة من الإسلام ولم يحكموا عليه بالخلود في النار, وإنما هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته وهو في مشيئة الله تعالى, والخوارج يكفرون كل مرتكب لذنب ولو صغيره لأن عندهم كل ذنب كبيره لعظمة من عصى, فالخوارج والمعتزلة يرون أن فاعل الكبيرة خالد مخلد في النار.
وأما في الدنيا فعند الخوارج هو كافر وعند المعتزلة هو بمنزلة بين المنزلتين وأما أهل السنة والجماعة فهم يقولون أنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته والدليل على ذلك:
*قوله تعالى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ(1) } هذه الآية في القتل وهو كبيرة ومع ذلك أثبت له أخوة الإيمان.
*وقوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا * إِنَّمَا الْمُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ } (2).
ومن السنة:
*حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... } الحديث أي لا يبلغ حقيقة الإيمان ونهايته.
وأخرجه مسلم في صحيحه عند أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { يقول الله تعالى: من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً, ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً, ومن أتاني يمشي أتيته هرولة, ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة } ونحو ذلك من الأدلة.
__________
(1) البقرة: من الآية178).
(2) الحجرات: من الآية9-10).(1/82)
أما الخوارج والمعتزلة فهم استدلوا على مذهبهم الباطل بآيات الوعيد:
*كقوله تعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا(1) } .
*وقوله تعالى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } (2).
*وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } (3).
*وكذا ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يتوجأ بها خالداً مخلداً في نار جهنم } (4).
فالخوارج أخذوا بأدلة الوعيد.
وأما المرجئة أخذوا بأدلة الوعد, فهم يرون أن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان ويستدلون بأدلة منها:
*حديث صاحب البطاقة وفيه { أن رجلاً يؤتى به يوم القيامة وتنشر له سجلات مثل مد البصر وتوضع هذه السجلات في كفة ثم يؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فترجح فيها هذه البطاقة } (5).
*ومن ذلك حديث عثمان - رضي الله عنه - قال, قال رسول الله { من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة } (6).
__________
(1) النساء: من الآية93)
(2) الجن: من الآية23)
(3) النساء:10)
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه أحمد في المسند, والترمذي في الإيمان باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله, وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والغوي في شرح السنة, وحسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(6) رواه مسلم في كتاب الإيمان.(1/83)
وكذلك حديث عبادة بن الصامت قال - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها وروح منه, وأن الجنة حق وأن النار حق, أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء } (1).
فالخوارج والمرجئة كلا منهما نظر إلى النصوص بعين الأعور, وأما أهل السنة والجماعة فهم جمعوا بين هذه النصوص أي نصوص الوعد والوعيد.
فائدة وإيضاح
حتى لا يغتر أهل المعاصي والكبائر أو من دونهم فإن النصوص:
الوعد: كحديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { إن الله حرم النار على من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله(2) } .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - { من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة(3) } وغيرهما من الأحاديث الواردة في ذلك.
إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه, لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً, فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله, وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم } فهؤلا كانو يصلون ويسجدون لله (4) فورود مثل تلك النصوص والتي تؤكد دخول العصاة النار مع أنهم كانوا , فمع أنهم كانوا كذلك دخلوا النار...كيف بمن دونهم...؟
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم , واللفظ لمسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) تيسير العزيز الحميد ص66-(بتصرف).(1/84)
بل وُجد في عهده - صلى الله عليه وسلم - من مات في سبيل الله وقال عنه بعض الصحابة فلان شهيد فقال عنه - صلى الله عليه وسلم - { إني رأيته في النار في بردة غلها , أو عباءة } (1) فهذا في أفضل القرون وفي أفضل الأعمال من أجل ذنب ربما كان قليلاً في نظر البعض مع ذلك قال عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه في النار.
وقد جاء الحديث في تقرير مثل ذلك كما ورد في الصحيحين { ... وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها... } , مما يدل أنه قد يفتن قبل الموت حتى من يعمل الصالحات فكيف بمن دونهم؟
نعم قد تواترت أحاديث بأنه يدخل الجنة وأحاديث أخرى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله... لكن:
وكما جاء كتاب تيسير العزيز الحميد: (أنها مقيدة بالقيود الثقال' وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين, ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها, وأكثر من يقولها تقليداً أو عادة, ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه... فإذا قالها بإخلاص ويقين تام, لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً, فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر, وهذا هو الذي يحرم من النار, وإن كانت له ذنوب قبل ذلك, فإن هذا الإيمان, وهذه التوبة, وهذا الإخلاص, وهذه المحبة وهذا اليقين, لا يتركون له ذنباً إلا محي كما يمحو الليل بالنهار, فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر, فهذا غير مصر على ذنب أصلاً , فيغفر له ويحرم على النار.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.(1/85)
وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصراً على ذلك, وإن كان حال قولها مخلصاً, لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته, وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك, بخلاف المخلص المستيقن, فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته, ولا يكون مصراً على سيئة, فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يُخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة تضعف إيمانه, فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات, ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر, فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر, فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك, فيرجح جانب السيئات, فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين, فيضعف بذلك قول " لا إله إلا الله فيمتنع الإخلاص في القلب " أ.هـ(1).
فتبين من ذلك أن تحريم النار ليس لكل أحد وليس على الإطلاق وقد وجد في عهده - صلى الله عليه وسلم - من دخل النار كما في قصة الذي غل البردة, وقد يكون يستحق النار من وجه ويستحق الجنة من وجه آخر, فيكون عنده ذنب يمنعه دخول الجنة كما ورد في المرأة التي كانت تؤذي جيرانها... حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - { قال رجل يا رسول الله إن فلانه يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها, قال: هي في النار, قال: إن فلانه يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وأنها تصدق بالأتوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها, قال: هي في الجنة(2) } .
وما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - { من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة } قال { شيئا } نكرة في سياق النفي تفيد العموم, فلا يشرك مشركاً أكبر ولا شرك أصغر.
وكيف يُؤْمَن الشرك الأكبر...؟ وهذا إبراهيم عليه السلام يقول في دعائه { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (3) قال إبراهيم التيمي: (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد صـ66-67 بتصرف.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(3) ابراهيم: من الآية35)(1/86)
وكيف يأمن مسلم على نفسه الشرك الأصغر...؟ الذي خافه - صلى الله عليه وسلم - على أمته أكثر من المسيح الدجال وهو الرياء(1), والذي ما سلم منه الصالحون العُبّاد.. فكيف بمن دونهم؟
ومن يفضل هواه على أمر الله ورسوله كالمسبل والحليق وسامع الغناء ومن تبرجت من النساء وخالفت في لباسها, وسائر من يقارف المنكرات هل سلم له انقياد وتوحيد ؟(2).
والله تعالى يقول { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ(3) } , ويقول - صلى الله عليه وسلم - { تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة(4) } .
حتى من يرتكب الصغائر مصر عليها لا يضمن سلامة توحيده ولو كانت صغيره واحدة, لأن الإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة كما ذكر ذلك بعض أهل العلم, لقلة داعي مراقبة الله لديه.
بل الاعتداء على الحيوان قد يكون سبب من أسباب دخول النار, كما في المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً(5) .
وما لابد من ملاحظته هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتاج للتنبيه على فضل لا إله إلا الله, فيعبر عن ذلك بعبارات تُبين فضل لا إله إلا الله وليُرى أثر ذلك مكانته وعظمتها, فيُظن أن ذلك على الإطلاق ومن كل وجه لكل أحد, وليس كذلك وغنما الأمر له ضوابط وقيود لا يستقيم بدونها, والله أعلم.
وقد يقول قائل:
ماذا عن نصوص الوعيد؟
أما الإجابة عن نصوص الوعيد وتخليد العاصي في النار أو عدم دخول الجنة لأنواع من أصحاب الكبائر:
__________
(1) كما في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه وأخرجه الحاكم وصححه.
(2) يقول الشيخ محمد العثيمين رحمه الله تعالى (المعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك).
(3) الجاثية: من الآية23).
(4) رواه البخاري كتاب الجهاد, باب الحراسة والغزو.
(5) كما في البخاري في كتاب الآذان, ومسلم في كتاب البر.(1/87)
كقوله تعالى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً(1) } . وكحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يدخل الجنة قاطع رحم(2) } وغيره من الأحاديث الواردة في ذلك.
فالإجابة عن ذلك بما يلي:
أحسن ما قيل في ذلك ما ذكره النووي وأيده ابن كثير وابن حجر " رحمهم الله تعالى " قال النووي: (وأما قوله تعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } (3) فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم وقد يُجازى به وقد يُجزى بغيره, وقد لا يجازى بل يُعفى عنه, فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع.
وأن كان غير مستحل, بل معتقداً تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاءه جهنم خالداً فيها, لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها, فلا يخلد, ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً, وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار, فهذا هو الصواب في معنى الآية) أ.هـ(4).
أما حديث { لا يدخل الجنة قاطع رحم } ونظائره فيتأول بتأويلين:
أحدهما: حمله على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها, فهذا كافر يخلد في النار, ولا يدخل الجنة أبداً.
والثاني: معناه ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين, بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى(5).
__________
(1) الجن: من الآية23)
(2) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في المسند.
(3) النساء: من الآية93)
(4) نقلاً عن كتاب(لوائح الأنوار السنية) في هامش (2/287).
(5) صحيح مسلم بشرح النووي(16/89,88).(1/88)
فهو لا يدخل الجنة وهو على حاله حتى يُظهّر, فدخوله النار ليس على التأبيد(1) ولكنه تطهيرا له من ذنبه وتمحيصاً وتأهيلاً لدخول الجنة, وقد يكون التمحيص والتطهير بغير دخول النار كعذاب القبر, أو عقوبة في الدنيا, أو إقامة حد عليه استحقه, أو بتوبة منه, أو يتفضل الله عليه بمنته وفضله, أو عمل عملاً استحق معه مغفرة الله ورحمته... إلى غير ذلك.
وعلى كل حال القول بخلود أهل التوحيد في النار يعد من المحن والوبال, وهو من شعار أهل البدع والضلال, والصواب اجتناب اعتقاده وعدم الالتفات إلى من تمادى في جهله وعناده والتعويل على مذهب أهل الحق ووجوب اعتقاده وبالله التوفيق.
- 30 -
ولا تَعتقِدْ رَأيَ الخَوارجِ إنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
(ولا تعتقد) : بجنانك.
(الخوارج) : الخوارج سمو بذلك لخروجهم على علي - رضي الله عنه - واتفق الصحابة على قتالهم وصاروا مع علي في أول الأمر ثم لما صار إلى التحكيم خرجوا عليه.
قال شيخ الإسلام: (اتفق الصحابة على قتالهم, وقال وهم أول من كفّر بالذنوب).
وقال الإمام أحمد: (صح الحديث فيهم من عشرة أوجه).
من قواعدهم يرون استحلال الخروج على الإمام الفاسق, وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق(2) } , فقتلهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وطائفته.
__________
(1) ومن له طاقة لحظة في النار إذا كان أهون أهلها تعذيباً منتعل يغلي منها دماغه( كما جاء ذلك في صحيح مسلم في كتاب الإيمان, باب أهون أهل النار عذاباً) فكيف بمن يلبث بما يقدره الله ليأخذ جزاءه...فتأمل.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/89)
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق الخوارج المارقين { يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم, وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية, أينما لقيتموهم, فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } (1).
وقد روى مسلم أحاديثهم في صحيحه من عشرة أوجه. واتفق الصحابة - رضي الله عنه - على قتالهم وفرح علي بقتالهم وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره به. ولما قيل له - رضي الله عنه - الحمد لله الذي أراح منهم العباد قال: (كلا والذي نفسي بيده إن منهم لفي أصلاب الرجال, وان منهم لمن يكون مع الدجال), ذكره ابن كثير في البداية.
ولقبح سيرتهم وخبث سريرتهم قال الناظم:
(إنه) : أي رأي الخوارج الذي هو اعتقادهم الخارج.
(مقال) : شنيع ورأي فظيع.
(لمن) : أي لكل إنسان.
(لمن يهواه) : أي لمن يعتقده ويحبه ويريده.
(يردي) : أي يلحقه بالردى, وذلك لمخالفته مذهب أهل السنة والجماعة واعتقاد البدعة.
وهؤلا الخوارج تشعبوا إلى سبع فرق مارقة, وهم أشد إلحاداً من الزنادقة وهي:
1) المحكَمة: الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - عند التحكيم وكفروه وهم اثنا عشر ألفاً, ومن رأيهم أنه من نصب من قريش وغيرهم وعدل فهو إمام, ولم يوجبوا نصب الإمام, واعتقدوا كفر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين واعتقدوا كفر كل مرتكب معصية.
2) البهيسية: وهم أتباع أبي بهيس وأسمه الهيعم, زعموا أن الإيمان هو العلم بالله تعالى وما جاء به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن وقع فيما لا يعرفه أهو حلال أم حرام فهو كافر لوجوب الفحص عنه.
وقيل حتى لا يرجع إلى الإمام فيحده وما لا حد فيه فمعفو, وقيل إذا كفر الإمام كفرت الرعية حاضراً كان أو غائباً والأطفال كآبائهم إيماناً وكفراً.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/90)
3) الأزارقه: وهم أتباع نافع عن عبد الله الأزرق الخارجي اللعين, وقد خرج معه قوم من البصرة والأهواز وغيرهما من بلدان فارس وغيرها وعظمت شوكتهم وتملكوا الأمصار.
وكانت له آراء ومذاهب دانوا بها معه منها:
* أنه كفر علياً - رضي الله عنه - بسبب التحكيم وزعم أن قوله تعالى { ...وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... } (1) في حق علي - رضي الله عنه - وزعم أنه نزل في حق عبدالرحمن بن ملجم قبحه الله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (2).
* ومنها: أنه كفر من لم يقل برأيه واستحل دمه. وكفر القَعَدَة عن القتال وتبرأ ممن قعد عنه.
* ومنها: أن من أرتكب كبيرة خرج من الإسلام وكان مخلداً في النار مع سائر الكفار, واستدل لذلك بكفر إبليس, وقال ما ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى. وحرم التقيه وجوز قتل أولاد المخالفين ونسائهم, وقال لا حد للقذف ولا للزنا.
4) النجدية: أتباع نجدة بن عامر(الحنفي) ومن رأيهم أنه لا حاجة إلى الإمام ويجوز نصبه ووافقوا الأزارقة على التكفير.
5) الأصفرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر خالفوا الأزارقة في تكفير القَعَدَة , وفي منع الحد للزنا وفي قتل أولاد الكفار, وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يدعى صاحبها إلا بها, وما لا حد فيه (لعظمه) كترك الصوم كفر, ويزوجون المؤمنة من الكافر في دار التقية دون العلانية.
6) الأباضية: وهم أتباع عبدالله بن أباض , قالوا مخالفونا كفار غير مشركين تجوز مناكحتهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم, ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن, والاستطاعة قبل الفعل ومخلوق العبد مخلوق لله تعالى, ومرتكب الكبائر كافر كفر نعمة لا كفر ملة, وكفروا علياً وأكثر الصحابة ثم افترقوا أربع فرق:
__________
(1) البقرة: من الآية204)
(2) البقرة:207)(1/91)
أ. الحفصية: أتباع ابن حفص أبي المقدام, زادوا أن بين الإيمان والشرك معرفة الله فمن كفر بأمر سوى الشرك أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك.
ب. اليزيدية: زعموا أن سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب من السماء, وتترك شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ملة الصائبة, وعندهم كل ذنب شرك.
ج. الحارثية: أتباع أبي الحارث الأباضي, خالفوا في العذر والاستطاعة قبل الفعل.
د. طائفة رابعة: منهم قالوا بطاعة لا يراد بها الله.
7) العجاردة: أتباع عبدالرحمن بن عجرد, وقد زاد هؤلا على النجدية وجوب دعوة الطفل إلى الإسلام إذا بلغ وأطفال المشركين في النار, وتتشعب هذه الفرقة إلى إحدى عشرة فرقة وجميع فرق الخوارج مارقة وللدين القويم مفارقة إلا من تبع هداه وصادم هواه.
والله تعالى أعلم.
- 31 -
ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... ألا إنَّمَا المُرْجيُّ بالدِّينِ يَمْزَحُ
(ولا تك) : تقدم بيان معناها.
(مرجياً) : المرجئة هم الذين يرجئون الأعمال عن النية والاعتقاد أي يؤخرونها فلذلك سموا المرجئة من الإرجاء وهو التأخير, أو لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية, كما لا ينفع مع الكفر طاعة, لأن الإيمان عندهم هو القول والتصديق وعند الجهمية مجرد التصديق, وعند الكرامية مجرد قول اللسان فقط كما مر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله المرجئة ثلاثة أصناف:
أ/ الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب, ثم من هؤلا من يدخل في أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما ذكر أبو الحسن الأشعري, ومنهم من لا يدخلها كالجهم بن صفوان ومن تبعه.
ب/ من يقول هو مجرد قول اللسان, وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية.
ج/ تصديق القلب وقول اللسان, وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله وهؤلا غلطوا من وجوه:(1/92)
أ- ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد وعليهم وأن ما وجب على شخص يجب مثله على كل شخص وليس الأمر وكذلك بل يتفاوت ويتفاضل أشد تفاوت وتفاضل.
ب/ من غلط المرجئة ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة.
ج/ ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال, ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلون لازمة له.
والتحقيق: أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر.
ثم يقول شيخ الإسلام: ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل قولهم: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان فيزعمون أن هذا مؤمن تام الإيمان, فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار ويعدون مثل هذا أنه يلعب بدينه ويهزأ بإيمانه, ولهذا قال الناظم رحمه الله:
(ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ) : أي كثير اللعب, واللعب ضد الجد.
وقد تبرأ علماء الإسلام من مذهب المرجئة, ومن تبرأ منهم ميمون بن مهران, ونافع, والزهري.
ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم " يعني المرجئة " أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقه " يعني الخوارج الذين تقدم ذكرهم, ولهذا الناظم قرن الطائفتين وعطف المرجئة على الخوارج.
وقال شريك القاضي: (المرجئة أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثاً ولكن المرجئة يكذبون على الله).(1/93)
وقال سفيان الثوري: " تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري " ومعنى ذلك الثياب السابرية وهي ثياب رقيقة جداً منسوبة إلى سابور من ملوك الفرس, والمعنى أنهم أي المرجئة, لما أخرجوا الأعمال من الأيمان أضعفوه حتى صار كالثوب الرقيق الذي يستشف ما وراءه, ولهذا قال الناظم:
(ألا) : أداة استفتاح وتفيد التحقيق لما بعدها لتركيبها من الهمزة ولا, وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق كما في القاموس وغيره.
(إنما) : أداة حصر.
(المرجي) : بياء النسبة إلى طائفة من المرجئة وترك الهمز للوزن أو لغة والحق الثاني.
(بالدين) : القديم والإيمان المستقيم.
(يمزح) : وذلك لأنه حاصل قول غلاة المرجئة, أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية, وهذا قول خبيث ينقض عرى الإسلام, وهو سُلم لترك الصلاة ومنع الزكاة والحج وترك الصيام وذريعة لمعاطاة الزنا واللواطة وسائر الآثام, ولا يرتاب ذو لب أن هذا مزاح بالدين ولعبٌ, ومن نهج هذا المنهج فهو على شفا جرف هار وهو لسيرة أهل الكفر والإلحاد أقرب منه لسيرة الأبرار.
- 32 -
وقُلْ إنَّما الإيمانُ قَوْلٌ ونيَّةٌ ... وِفعْلٌ عَلَى قَولِ النبيِّ مُصَرَّحُ
(وقل) : بلسانك معتقداً بجنانك مذعناً بأركانك.
(إنما) : أداة حصر.
(الإيمان) : لغة التصديق.
(اصطلاحاً) : تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن ربه.
(قول) : أي باللسان فمن لم يقر وينطق بلسانه مع القدرة لا يسمى مصدقاً, فليس هو إذاً بمؤمن كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.(1/94)
(ونية) : أي قصد إذ النية هي القصد أي عقد بالجنان, فمن تكلم بكلمة التوحيد غير جازم بها بقلبه إما مع الشك والتردد وإما مع اعتقاده خلاف ما شهد به فهو منافق, وليس بمؤمن خلافاً للكرامية الزاعمين بأن الإيمان هو القول الظاهر فعندهم الإيمان مجرد الكلمة, وإن لم يكن معتقداً لها بقلبه, وإذا كان مصدقاً بقلبه غير ناطق بلسانه مع القدرة فهو غير مؤمن أيضاً عند سلف الأمة خلافاً للجهمية ومن وافقهم من المتكلمة.
قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } (1).
فنفى تعالى الإيمان عن المنافقين وهذا يرد مذهب الكرامية فإن المنافق ليس بمؤمن وقد ضل من سماه مؤمناً, كذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به ويعاديه كاليهود وغيرهم ممن سماه الله كافراً ولم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان فهم كفار, خلافاً للجهمية ومن وافقهم في زعمهم أنهم إذا كان العلم في قلوبهم فهم مؤمنون كاملوا الإيمان حتى زعموا للجهمية أن إيمانهم كإيمان النبيين والصديقين.
وفي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يقطع دابر هذا الضلال ويقمع رؤوس هذا الوبال ممن اتبع هواه وخالف مولاه كقوله تعالى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً(2) } .
(وفعل) : أي بالأركان وهذا هو اللفظ الوارد عن السلف, ولذا قال رحمه الله تعالى على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(مصرّح) : أي مصرح به بالرفع صفة لفعل وما قبله من القول والنية.
قال البخاري في صحيحه { الإيمان قول وعمل } (3).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح البخاري: (هذا هو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك).
__________
(1) البقرة:8)
(2) النمل: من الآية14)
(3) البخاري كتاب الإيمان, باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإسلام على خمس ".(1/95)
وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين وغيره: (المشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية, وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان).
وفي كتاب الأم للإمام الشافعي في باب النية: (كأن الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالأخر).
وقال الثوري: (هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره).
وقال الأوزاعي: (كان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل, فمن استكملها أستكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان).
وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان:
قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } (1).
* وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لوفد عبد القيس { آمركم بأربع: الإيمان بالله, وهل تدرون ما لإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس(2) } .
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة, فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان(3) } .
- 33 -
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً ... بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
(وينقص) : أي الإيمان.
(طوراً) : أي حالاً ومرة, ويجمع الطور على أطوار.
__________
(1) لأنفال الآية:3,2و من الآية4)
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري في الإيمان ومسلم في الإيمان أيضاً, واللفظ لمسلم.(1/96)
(بالمعاصي) : جمع معصية وهي مخالفة الأمر وفعل المنهي عنه.
(ينمي) : أي يزيد.
(الوزن) : أي الميزان.
(يرجح) : أي يثقل بزيادة الطاعات ويرجح في الميزان, وفي هذا البيت يشير الناظم رحمه الله تعالى إلى مذهب أهل السنة في باب الإيمان ونقصانه وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وأدلة ذلك ما يلي:
* قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(1) } .
* وقوله { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً } (2).
وهذا صريح في ثبوت الزيادة.
وأما النقص:
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ النساء وقال لهن { ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن(3) } .
فاثبت نقص الدين, ثم على فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص فنقول: (كل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه متضمن للدلالة على نقصه).
وأسباب الزيادة في الأيمان أربعة:
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته, فإنه كلما زاد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته ازداد إيمانه.
2- النظر في آيات الله الكونية قال تعالى { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(4) } .. الآيات, فكلما ازداد الإنسان علماً بما أودع الله في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات ازداد إيماناً بالله عز وجل. وكذلك النظر في آيات الله الشرعية وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل يجد الإنسان فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة فيزداد الإنسان إيماناً.
3- كثرة الطاعات لأن الأعمال داخلة في الإيمان, وإذا كانت داخلة فيه لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها.
__________
(1) التوبة: من الآية124)
(2) المدثر: من الآية31)
(3) رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) الغاشية:17)(1/97)
4- حسن العمل فإن حسن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة يزيد في الإيمان, وكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان أكثر.
6- ترك المعصية تقرباً إلى الله عز وجل, فإن الإنسان يزداد بذلك إيماناً بالله عز وجل.
وأما أسباب نقص الإيمان فهي:
1) الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
2) الإعراض عن النظر في الآيات الكونية الشرعية, فهذا يوجب الغفلة وقسوة القلب.
3) قلة العمل ويدل لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء { ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قالوا يا رسول الله كيف نقصان دينها؟ قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم } (1)
4) سوء العمل فلا يأتي به الإنسان على الوجه الأكمل.
مسألة: خالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان:
الطائفة الأولى المرجئة.
والطائفة الثانية الخوارج والمعتزلة.
فالمرجئة قالوا: الإيمان يزيد ولا ينقص, لأنهم أي المرجئة يخرجون الأعمال والأقوال من الإيمان ويقولون الإيمان هو اعتراف بالقلب, والاعتراف لا يزيد ولا ينقص, ويرد على هؤلا من جهتين:
أولاً: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح فإن الأعمال داخلة في الإيمان.
ثانياً: القول بأن الإقرار بالقلب لا يختلف زيادة ولا نقصاً هذا ليس بصحيح أيضاً, بل الإيمان بالقلب يتفاضل فلا يمكن لأحد أن يقول أن إيماني كإيمان أبي بكر بل ويتعدى ويقول إيماني كإيمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يمكن , ثم إن العلم القائم بالقلب يقبل التفاضل, فعلمي بخبر زيد أقل من علمي بخبر زيد وعمر وألم تسمعوا إلى قول إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (2) فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص أي يقبل التفاضل.
__________
(2) البقرة: من الآية260)(1/98)
الطائفة الثانية: هم طائفة الوعيدية وهم الخوارج والمعتزلة وسموا وعيدية لأنهم يقولون بأحكام الوعيد دون أحكام الوعد, أي يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد, لكن الخوارج يقولون فاعل الكبيرة ليس ناقص الإيمان بل إيمانه منتفي فهو كافر, والمعتزلة يقولون أن فاعل الكبيرة لا يدخل في الكفر ولكنه خارج من الإيمان فهو منزلة بين المنزلتين, فهاتان الطائفتان خالفتا أهل السنة والجماعة.
وأما أهل السنة والجماعة: فهم يقولون إن الإيمان يزيد وينقص مع بقاء أصله.
- 34 -
وَدَعْ عنكَ آراءَ الرِّجالِ وَقولَهُم ... فَقْولُ رَسُولِ اللهِ أَزكى وَأَشْرَحُ
(ودع) : أي اترك وذر.
(عنك) : غير محتفل به ولا مكترث له, ولا مهتم به.
(آراء) : جمع رأي, وهو التفكر في مبادئ الأمور, ونظر عواقبها وعلم ما يؤول إليه من الخطأ والصواب.
(الرجال) : جمع رجل والمراد آراء مطلق الناس من ذكر بالغ أو غير بالغ أو آراء النساء, ولكن لما كان الغالب أن يكون أصحاب الرأي رجالاً خصهم بالذكر.
(وقولهم) : أي ودع عنك كذلك قولهم لا تهتم به ولا تجعله لق مذهباً, لأنه عرضة للخطأ وغير مضمون لأصحابه الصواب, ولكن إن كنت تبتغي النجاة والفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم فاتبع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم من الزلل والخطأ والمضمون الإصابة في كل ما بلغه, لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
(أولى) : لما سبق لأنه أسلم وأضمن ولأن الإنسان متعبد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/99)
(وأشرح) : أي أبين وأوضح وأسع وأفسح من مقالات المتحذلقين وأراء المتعمقين, وتأويلات المتنطعين حرفوا النصوص عن مواطنها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار وعصارة الأوهام ووساوس الصدور وحوادس الخواطر فملئوا به الأوراق سواداً والقلوب شكوكاً والعلم فساداً, فكل من له مسكة من علم ودراية وفهم يعلم أن فساد العالم وخرابه غنما نشأ من تقديم الآراء على الوحي والهوى عن النقل, وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (رأي فلان ورأى فلان ورأى فلان عندي سواء وأنما الحجة في الآثار).
وقال الآوزاعي: (عليك بالأثر وأن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لق بالقول, فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم).
وقد روى الناظم ابن أبي داود رحمهما الله تعالى قال: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي رحمه الله يقول: لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا في قلبه دغل).
وهنا لابد من التنبيه على أن المذموم من الرأي هو الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي, أو كان قياساً ولو جلياً في مقابلة نص مذموم.
- 35 -
وَلا تَكُ مِن قوْمٍ تَلَهَّوْ بِدِينِهِم ... فَتَطْعنَ في أَهَلِ الحَدَيثِ وتَقْدَحُ
(ولا تك من قوم) : القوم يشمل أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج والأشعرية والرافضة ونحوهم من أهل البدع.
(تلهوا) : أي تلاعبوا وتلاعب مثل هؤلا بدينهم أن يحدثوا له أصولا ويرتبوا له أبوباً وفصولاً معتمدين على قواعد قعدوها واراء اعتمدوها, زاعمين أنهم يهتدوا إلى الصواب بالعقول لا بالمنقول, وبابتداع الأصول لا بقول الرسول.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : (أن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا بالدين برأيهم فضلوا وأضلوا).(1/100)
وقال - رضي الله عنه - (أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي فاجتهد ولا آلو وذلك يوم أبي جندل) يعني في قصة الحديبية.
(بدينهم) : الدين في اللغة هو الذل.
اصطلاحاً: ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل الأوامر واجتناب النواهي.
(فتطعن) : أي تقدح وتعيب.
(في أهل الحديث) : أي رواة الأسانيد وناقليه بالأسانيد, والذين عنوا بالعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس المراد بهم هم أهل الحديث في الاصطلاح الذين يشتغلون برواية الحديث وصحته وإنما المراد بهم أهل السنة والجماعة الذين اشتغلوا بالعقيدة أو الحديث أو الفقه ونحو ذلك.
(وتقدح) : أي في عدالتهم وصدقهم وتنسبهم إلى ما هم بريئون منه من الغلط وعدم الضبط والكذب والتخليط وعدم الحفظ مع كونهم حفاظاً عدولاً مقبولي الرواية معلومي العدالة.
وقد روى من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر بن العاص وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم مرسلاً ومرفوعاً وفي لفظهما(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(1).
قال الفضل بن أحمد: (سمعت الإمام أحمد وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأومأ إليها وقال: هذه سرج الإسلام, يعني المحابر.
وقال الحافظ الجوزي: (قال الإمام الشافعي لولا المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر).
- 36 -
إذا مَا اعتقدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هذِه ... فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ
(إذا) : ظرف لما يستقبل من الزمان.
(ما) : زائدة لمزيد إثبات ما بعدها.
(اعتقدت) : الاعتقاد هم حكم الذهن الجازم فإن وافق الواقع فهو صحيح وإن خالف فهو فاسد.
(الدهر) : أي مد الزمان الطويل.
(هذه) : أي ما ذكره المؤلف في هذه المنظومة.
__________
(1) أنظر التخريج الكامل لهذا الحديث في كتاب (لوائح الأنوار السنية) في هامش 2/349.(1/101)
(فأئت) : الفاء جواب إذا.
(على خير) : وذلك لتمسكك بكتابة الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم.
(تبيت وتصبح) : أي إذا اعتقدت ما ذكره الناظم رحمه الله تعالى فأنت على خير في كل حياتك وفي هذا ترغيب من الناظم رحمه الله تعالى على تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة لأن من اعتقد ذلك فهو على خير في الدنيا والآخرة.
والله تعالى أعلم .
تم بحمد الله
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(1/102)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وأتمم بخير يا كريم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فهذا تعليق مختصر مفيد على قصيدة الإمام الحافظ أبي بكر ابن الإمام الحافظ أبي داود صاحب السنن ، اختصرته وهذّبته من كتاب " لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية " للإمام العلامة محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى .
مع بعض التعليقات والنقولات التي يقتضيها المقام وقد سميته ( فتح الودود في التعليق على حائية ابن أبي داود ) سائلا المولى عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه وأن يجعله متقبلاً عنده نافعاً به أهل الإسلام معيناً طلاب العلم على حفظها .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال الحافظ العلامة قدوة المحدثين أبو بكر عبد الله ابن الحافظ الكبير أبي داود سليمان بن الأشعث ابن اسحاق الأزدي السجستاني رحمه الله تعالى :
( 1 ) تَمَسَّكْ بحَبْلِ الله واتَّبعِ الهُدَى……ولا تَكُ بدْعيًّا لعلّكَ تُفْلِحُ
التعليق :
( تمسك ) أيها المسلم السني المتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماعة السلف الصالح أهل الفرقة الناجية .
( بحبل الله ) أي شرع الله من الكتاب المنزل وما شرعه الله تعالى على لسان نبيه المرسل - صلى الله عليه وسلم - .
( واتبع الهدى ) أي الذي جاء به النبي المصطفى والرسول المقتدى - صلى الله عليه وسلم - .
والهدى : أي الرشاد والدلالة . فمن تمسك بالدين القويم واتبع الهدى الذي جاء به النبي الكريم هُدي إلى الصراط المستقيم وإلى جنات الخلود والنعيم المقيم .
( ولا تك بدعياً ) أي لا تكن صاحب بدعة أي متبعاً غير سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المقتدى بأقوالهم وأفعالهم .(3/1)
والبدعة : الحدث في الدين بعد الإكمال وهو ما لم يكن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما فعله أو أقرّ عليه ، أو عُلم من قواعد شريعته الإذن فيه وعدم النكير عليه . وفي معنى ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً .
ومراده أي لا تكن ممن اعتقد اعتقاد أهل البدع في أصول الدين من الثنتين والسبعين فرقة فإنها في النار كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة والجهمية والمعتزلة وهذه الفرق تتشعب منها الثنتان والسبعون والله تعالى أعلم .
( لعلك ) أيها الأثري المقتفي لنظمي ونثري إن تمسكت بالشرع القويم من الكتاب العزيز وبما صحّ عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وما عليه منهج السلف الصالح القويم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين المعوّل عليهم في سائر الأزمان ، وجانبت أهل البدع ولم تركن إلى أهوائهم وما انتحلوه وابتدعوه من دعاويهم ودعواهم ، ومباينة اعتقادهم ومجانبة فسادهم وإفسادهم .
( تفلح ) أي تفوز بالدرجات العالية والنعيم المقيم في عرصات الآخرة وجنات النعيم .
والفلاح : من الكلمات الجامعة لخيري الدنيا والآخرة .
قالوا : فلا كلمة في اللغة أجمع للخيرات من كلمة الفلاح .
( 2 ) ودِنْ بكتابِ اللهِ والسُّنَنِ التي……أَتَتْ عن رسولِ اللهِ تنجُو وَتَرْبَحُ
التعليق :
( ودن بكتاب الله ) أي تعبد واهتد بكتاب الله المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو القرآن العظيم والذكر الحكيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
فحلل حلاله وحرم حرامه واتبع محكمه وآمن بالمتشابه منه أي اعتقد ذلك واجزم به جزماً محكماً تكن مؤمناً مسلماً .(3/2)
( والسنن التي أتت عن رسول الله ) أي جاءت وثبتت عن سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله على حين فترة من الرسل وقلة من الدين وقد طبق الظلم والجهل والكفر الأرض برحبتها والأمم بجملتها والفرق على اختلاف دعواتها ، فأرسله رحمة للعالمين وحجة على الظالمين وقطع معذرة المتعنتين وهداية للغافلين ومنجاة للمتقين . فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة وأغنى به بعد القلة وأعز به بعد الذلة ففتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّا وقلوباً غلفا وجعل العزة والفلاح لمن والاه والذلة والصغار والخيبة على من عاداه وحصل النجاة في اتباع سبيله والربح في اقتفاء دليله .
ومن ثم قال : إذا أنت دنت لله وسرت إليه متبعاً لكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ( تنجو ) من جميع الآفات وتسلم من الهلكات وتتنزه عن البدع والأهواء فتسلم من غضب الله وعذابه ودخول دار سخطه وانتقامه وعقابه .
( وتربح ) بالفوز والفلاح والخلود في دار النعيم وجوار الكريم .
والربح بالكسر والتحريك ، اسم لما يربحه الإنسان . وأصله الفاضل عن رأس المال فكان هذا المتبع لكتاب الله المستن بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس ماله النجاة من عذاب الله ، وربحه الخلود في دار القرار في قصور وحور وأزهار وأنهار في أمن وأمان ونعيم ورضوان ورب غير غضبان .
( 3 ) وَقُل غيرُ مخلوقٍ كَلامُ مليكِنا……بذلكَ دان الأتقياءُ وأفْصَحُوا
التعليق :
( وقل ) أيها السني المتبع للآثار والسلف الصالح .
( غير مخلوق كلام مليكنا ) القرآن الكريم ، كلام الله تعالى مالكنا ومالك الخلق أجمعين ، منزل غير مخلوق .
( بذلك ) أي كون كلام الله غير مخلوق . ( دان ) أي تعبد وأطاع .
( الأتقياء ) من جهابذة الأمة وأئمة السنة أعلام الهدى ومصابيح الدُجى من السابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين وأعلام المسلمين السالكين طريق السلف الصالحين .(3/3)
( وأفصحوا ) بقولهم القرآن كلام الله منزل غير مخلوق .
قال الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله تعالى ( ت 360 هـ ) في كتابه الشريعة : " اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق ، ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ، لأن القرآن من علم الله تعالى ، وعلم الله عز وجل لا يكون مخلوقاً ، تعالى الله عز وجل عن ذلك . دل على ذلك القرآن والسنة ، وقول الصحابة رضي الله عنهم وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم. لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث " .
( 4 ) ولا تَكُ في القرآنِ بالوقفِ قائِلاً……كَما قالَ أتباعٌ لجهمٍ وأسْجَحُوا
التعليق :
( ولا تك في القرآن بالوقف قائلاً ) الواقفة هم الذين يقولون القرآن كلام الله ولا يقولون غير مخلوق . وهم من شر الأصناف وأخبثها .
قال الآجري رحمه الله تعالى في الشريعة : " وأما الذين قالوا القرآن كلام الله عز وجل ووقفوا ، وقالوا : لا نقول غير مخلوق فهؤلاء عند كثير من العلماء ممن رد على من قال بخلق القرآن ، قالوا : هؤلاء الواقفة مثل من قال القرآن مخلوق وأشر لأنهم شكّوا في دينهم ، ونعوذ بالله ممن يشك في كلام الله عز وجل أنه غير مخلوق " .
( كما قال أتباع لجهم ) فالواقفة فرقة من الجهمية .
( وأسجحوا ) وفي نسخة ( وأسمحوا ) ، أي جادوا بالقول بخلق القرآن ولانوا .
( 5 ) ولا تقلِ القرآنُ خَلْقُ قراءته……فإن كَلامَ اللهِ باللفظِ يُوضَحُ
التعليق :
( ولا تقل القرآن خلق قراءته) أي لا تقل قراءتي مخلوقة ، كما قال اللفظية من الجهمية .
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : " اللفظية هم الذين يزعمون أن القرآن كلام الله ، ولكن ـ أي يدّعون ـ ألفاظنا وقراءتنا مخلوقة ، وهم جهمية فساق " .(3/4)
والسلف لا يرون إيراد مثل هذه الألفاظ الموهمة . ولهذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : " من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع ) .ولهذا قال الناظم ( فإن كلام الله ) الذي هو القرآن .
( باللفظ يوضح ) أي يكشف ويظهر ويبين .
( 6 ) وقل يتجلى اللهُ للخلقِ جَهْرةً……كما البدرُ لا يخفى وربُّك أوضَحُ
التعليق :
وفي هذا البيت إثبات عقيدة أهل السنة والجماعة لرؤية المؤمنين لربهم رؤيا عين ، كما دلت عليه الأدلة من القرآن والسنة .
( وقل ) أيها الأثري السلفي .
( يتجلى الله للخلق ) فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله فيخرون له سجدا.
( جهرة ) أي يرونه جهرة لا يضامون في رؤيته ولا يحجزهم عن رؤيته شيء .
( كما البدر لا يخفى ) أي كالبدر لا يخفى على أحد في إبداره مع الصحو .
( وربك أوضح ) أي أظهر وأبين من البدر ، لأن البدر من مخلوقاته .
والتشبيه هنا للرؤية لا للمرئي فإن الله ليس كمثله شيء .
والمعنى ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون .
( 7 ) وليس بمولود وليس بوالدٍ……وليس له شِبْهٌ تعالى المسبَّحُ
التعليق :
( وليس ) الله تبارك وتعالى .
( بمولود ) ولده والد .
( وليس ) هو تقدس وتعالى .
( بوالد ) لشيء من المخلوقات ولا الملائكة ولا عيسى بن مريم ولا العزير عليهما السلام ولا غيرهم .
( وليس له ) سبحانه .
( شبه ) لا في ذاته المقدسة ولا في صفاته المنزهة ، ولا في أفعاله سبحانه .
( تعالى ) ارتفع قدره وتقدس .
( المسبح ) المنزه عن أن يكون ولد الشيء أو مولوداً في شيء أو شبيهاً لشيء ، فإنه سبحانه وتعالى ليس له شبيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .(3/5)
( 8 ) وقد ينكر الجهميُّ هذا وعندنا……بمصداق ما قلنا حديثٌ مُصَرِّحُ
( 9 ) رواه جرير عن مقالِ محمدٍ……فقل مثل ما قد قال في ذاك تَنْجَحُ
التعليق :
( وقد ينكر الجهمي ) أي أتباع جهم بن صفوان ، وقد أخذ مقالة التعطيل عن الجهد بن درهم ، لكن الجهم أظهر المقالة فنسبت إليه .
والجعد أخذها عن أبان بن سمعان وأخذها ابن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( هذا ) أي التجلي ، وهو رؤية المؤمنين لربهم .
( وعندنا ) معشر أهل السنة والجماعة .
( بمصداق ما قلنا حديث مصرَّحُ ) أي حديث صحيح صريح بما قلنا .
( رواه جرير ) أي روى ذلك الحديث الصحيح جرير بن عبد الله البجلي .
( عن مقال محمد ) أي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى .
وفي هذا إشارة إلى أن أهل السنة عقيدتهم يأخذونها من الوحي مما جاء في الكتاب والسنة .
وأهل البدع يأخذونها من عقول وآراء الرجال وأهواء المضلين ، والحديث المذكور أخرجه البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : [ أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ] .
( فقل ) أيها المسترشد طالب النجاة ومتبع السنة وأهل الحق .
( مثل ما قد قال ) أي مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( في ذاك ) أي في التجلي ورؤية المؤمنين لرب العالمين في جنات النعيم .
( تنجح ) تظفر بموافقة الصواب ومتابعة السنة والكتاب .
فتكون بذلك مع تمسكك بسائر معتقد أهل السنة والجماعة من الفرقة الناجية المنصورة التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : [ وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ] .
( 10 ) وقد ينكرُ الجَهْمِيُّ أيضاً يمينَه……وكلتا يَدَيْهِ بالفواضِلِ تنضح
التعليق :(3/6)
( وقد ينكر الجهمي ) أي المعتقد اعتقاد جهم بن صفوان ومن وافقهم من المعطلة .
( أيضاً يمينه ) أي مع إنكاره لرؤيته تعالى وتجليه لعباده المؤمنين في دار كرامته ينكر يمينه تعالى وتقدس .
( وكلتا يديه بالفواضل تنضح ) كلتا يديه تبارك وتعالى تنفح وتنعم وتعطي الكثير والقليل من النعم الجسيمة والأيادي الجميلة ، وفي نسخة ( تنفح ) .
والجهمية تنفي صفات الله كلها الفعلية والذاتية ، وأشار باليدين للصفات الذاتية ، وأشار بالبيت الذي بعده بصفة النزول للصفات الفعلية .
وفي هذا البيت إثبات أن لله يدين يميناً وشمالاً وكلا يديه يمين أي لا تفضل اليمنى على الشمال كبني آدم .
( 11 ) وقل ينزل الجَبَّارُ في كل ليلةٍ……بلا كَيْفَ جَلَّ الواحدُ المتمدِّحُ
( 12 ) إلى طبق الدنيا يمن بفضله……فتفرجُ أبوابُ السماء وتُفتحُ
( 13 ) يقول ألا مستغفرٌ يلق غافراً……ومستمنحٌ خيراً ورزقاً فيمنَحُ
( 14 ) روى ذاك قومٌ لا يرد حديثُهُم……ألا خاب قومٌ كذبوهم وقُبِّحُوا
التعليق :
( وقل ) أي اعتقد أيها الأثري ودن أيها السني بالنزول الإلهي على حسب ما يليق بذاته العلية وصفاته الخبرية كما ثبتت بذلك الأخبار وصحت به الآثار .
( ينزل الجبار ) نزولاً يليق بذاته بلا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف .
( في كل ليلة ) من الليالي فلا يختص بليلة دون أخرى .
( بلا كيف ) فلا يتوهم أن لنزوله كيفية .
(جل الواحد ) أي عظم في وحدانيته ، وفي الحديث : [ ألظوا بياذا الجلال والإكرام ] .
( المتمدح ) الله الواحد الذي أسبغ على عباده من النعم ما يوجب المدح .
( إلى طبق الدنيا ) متعلق بينزل الجبار تعالى . وطبق الدنيا أي سماء الدنيا .
( يمن بفضله ) أي يعطي ويمن .(3/7)
ومن أسمائه تعالى المنان وهو المنعم المعطي من المن وهو العطاء ، لا من المِنّة ، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ما أحد أمنُّ عليَّ من ابن أبي قحافة ] يعني الصديق رضي الله عنه ، أي ما أحد أجود بماله وذات يده .
( فتفرج ) أي تنكشف وتنشق وتنصدع .
( أبواب السماء وتفتح ) تلك الأبواب لنزول المنح منها والرحمة والمغفرة وصعود العمل والدعاء وإجابته .
( يقول ) الملك الجبار في نزوله إلى سماء الدنيا .
( ألا ) أداة استفتاح أي للعرض والتحضيض .
( مستغفر ) أي طالب غفران ذنوبه .
( يلق غافراً ) يجد مغفرة من الله الغفور الرحيم .
( ومستمنح خيرا ورزقا فيمنح ) أي مستعط أي ما سأل العبد ربه من خيري الدنيا والآخرة أو سأله رزقاً إلا أعطاه الله إياه .
( روى ذاك قوم ) أي روى ذلك الخبر قوم ثقات عدول وأئمة جهابذة في الصحاح والسنن والمسانيد .
( لا يرد حديثهم ) أي لا يطعن في خبرهم لثقتهم وعدالتهم وحفظهم وضبطهم .
( ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ) أي خسر وحُرِم قوم كذبوا أولئك القوم الذين لا يرد حديثهم .
ونسبوهم إلى القبح وهو ضد الحسن .
وهذا الحديث جاء بروايات متعددة عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وأحمد .
ونص الحديث كما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، ومن يسألني فأعطيه ، ومن يستغفرني فأغفر له ] .
( 15 ) وقل إن خيرَ الناسِ بعد محمدٍ……وزيراه قدْماً ثم عثمانُ الأرجَحُ
( 16 ) ورابعهم خيرُ البريةِ بعدَهُم……عليٌّ حليفُ الخيرِ بالخيرِ منجِحُ
التعليق :
( وقل ) بلسانك معتقداً بجنانك .(3/8)
( إن خير الناس بعد محمد وزيراه ) وأفضلهم من هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وخيرها بعد نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - وزيراه وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
( قدما ) أي في ابتداء الأمر والنبوة .
ودليل خيريتهما وأفضليتهما على سائر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة . فقلت : من الرجال ؟ قال : أبوها . فقلت ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب .
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري " .
( ثم عثمان الأرجح ) أي بعد الشيخين أبي بكر وعمر فالأفضل هو عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فهو أرجح من غيره في الفضيلة بعدهما .
وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع ثيابه حين دخل عثمان وقال : [ ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ] .
وأخرج البخاري في صحيحه أن عثمان بن عفان حين حصر أشرف عليهم وقال : " أناشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتهم ، ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها ، فصدقوه بما قال ] .
( ورابعهم خير البرية بعدهم علي ) أي رابع الخلفاء الراشدين وخير البرية بعدهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
( حليف الخير ) الملازم للخير المواخي له .(3/9)
( بالخير منجح ) أنجح أمره تيسر وسهل ، وهذا إشارة إلى ما كان عليه من الظفر بالأقران وموالاة أهل الإيمان ، والاعتناء بمكارم الأخلاق ، ومزيد الكرم بالأرزاق ، وتيسير أموره من الظفر والإنجاح ، وأنه لكل مغلق من الخير مفتاح ، فرضي الله عنه وأرضاه .
وقد جاء في فضائله ومناقبه أحاديث كثيرة ، ولهذا قال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري : " لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي - رضي الله عنه - " .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : " ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي - رضي الله عنه - وأرضاه " .
(17) وإنهمُ للرهطُ لا ريبَ فيهم……على نُجُب الفردوس بالنورِ تَسْرحُ
(18) سعيد وسعد وابنُ عوفٍ وطلحةٌ……وعامِرُ فِهْرٍ والزبيرُ الممدَّحُ
التعليق :
( وإنهم ) يعني الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو السبطين رضي الله عنهم أجمعين .
( للرهط ) والرهط من ثلاثة إلى عشرة أو من سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة .( لا ريب ) لا شك فيهم ولا تهمه . ( فيهم ) أي في الخلفاء الراشدين .
لا تهمة ولا ريبة ولا شك ولا مظنة أنهم كائنون وصائرون على نجب الفردوس ، وهو في الأصل البستان الذي فيه الكرم والأشجار .
قال ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى منازل الأفراح : " الفردوس اسم يقال على جميع الجنة ، ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنان " .وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ إن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومن فوقها يكون العرش ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، فإذا سألتم الله فاسئلوه الفردوس ] صححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة ( 2/628 ـ 622 ) .(3/10)
( شرح ) وقيل ( تسرح ) والمراد أن هؤلاء العشرة مقطوع لهم بالجنة يتزاورون على النجب في جنة الفردوس .
( سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدح ) فسر الناظم رحمه الله الرهط وهم :
1ـ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل . 2ـ سعد بن أبي وقاص . 3ـ عبد الرحمن بن عوف .
4ـ طلحة بن عبيد الله . 5ـ أبو عبيدة عامر بن الجراح . 6ـ الزبير بن العوام .
فهؤلاء الستة أفضل الصحابة بعد الخلفاء الراشدين وهم المبشرون بالجنة .
روى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد في الجنة ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ] .
وأخرج أبو داود والترمذي عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة . . . . ] الحديث . وسكت عن العاشر ، فقالوا : ومن هو العاشر ؟ قال : سعيد بن زيد ـ يعني نفسه ـ ثم قال سعيد بن زيد - رضي الله عنه - : لمشهد رجل منهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمّر عُمر نوح ثم قال : فالشقي من أبغضهم والسعيد من أحبهم .
( 19 ) وقُلْ خيرَ قولٍ في الصحابة كُلِّهم……ولا تكُ طَعَّاناً تعيبُ وتَجْرحُ
( 20 ) فقد نطق الوحيُ المبينُ بفضلِهِم……وفي الفتحِ آيٌ للصحابةِ تَمْدَحُ
التعليق :
( وقل ) بلسانك معتقداً بجنانك .
( خير قول ) من الثناء عليهم بذكر محاسنهم وصدق جهادهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذل نفوسهم النفيسة في مرضاة الله ورسوله لإعلاء كلمة الله تعالى .(3/11)
فالواجب على كل مؤمن نشر محاسنهم والكف عما فيه شائبة تنقيصهم والترضي عنهم وهذا لا يختص بأحد منهم دون أحد بل عام .( في الصحابة كلهم ) من السابقين واللاحقين من المهاجرين والأنصار ـ وغيرهم ـ من سائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والصحابي هو كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك .
والصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) .
( ولا تك طعاناً تعيب وتجرح ) أي وقّاعاً في أعراضهم ، تعيبهم وتستنقصهم وتجرح في عدالتهم .
وهذا إشارة إلى رد مقالة أهل الضلال والزيغ والوبال من أهل الرفض ومن نهج نهجهم من أهل الجفاء والبغض.
وكيف يكون ذلك وهم أهل الجد والاجتهاد والنصح والرأفة وبذل المعروف لإعلاء كلمة الله وإظهار ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين المتين والحق المبين .
ومع هذا ( فقد نطق الوحي ) أي القرآن المنزل على النبي المرسل .
( المبين ) الواضح الكاشف والمظهر لسائر الأحكام والنصايح والمناقب والمثالب والمآثر والفضائح فنطق .
( بفضلهم ) وبرهن عن حسن قصدهم واستقامة فعلهم .
( وفي ) سورة .
( الفتح ) الشريفة النازلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة من الهجرة بعد انصرافه من الحديبية وفيها كانت بيعة الرضوان ، وكانوا أربعة عشر مائة على المشهور .
( آي ) جمع آية .
( للصحابة ) الكرام رضوان الله عليهم .
( تمدح ) تثني عليهم بتعداد محاسنهم .(3/12)
والإشارة بذلك لقوله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما ) [ الفتح ـ 29 ] .
روى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : " من كان متأسياً فليتأسى بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم " .
وقال الإمام أبو زرعة الرازي : " إذا رأيت الرجل يتنقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلم أنه زنديق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة ، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والكذب والعناد أقوم وأحق " .
( 21 ) وبالقدَرِ المقدورِ أيْقِن فإِنَّه……دعامةُ عَقْدِ الدِّينِ والدينُ أفْيَحُ
التعليق :
( وبالقدر ) وهو الأمر الذي قضاه الله وحكم به من الأمور .
( المقدور ) أي الصادر عن رب العالمين مقدراً محكماً .
( أيقن ) أي اعلم علماً جازماً لا ريب فيه ولا شك يعتريه .
( فإنه ) أي الإيقان بالقدر المقدور والإيمان به .
( دعامة عقد الدين ) أي عماد الدين الذي ينبني عليه ، وركن من أركان الدين .
( والدين أفيح ) والدين الذي هو الإسلام واسع لا حرج فيه .
والقدر عند السلف ما سبق به العلم وجرى به القلم ما هو كائن إلى الأبد وأنه عز وجل قدّر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام .
ولا تُنْكِرَنْ جَهْلاً نكيراً ومُنْكَراً(3/13)
وعلم تعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده ، وعلى صفات مخصوصة ، فهي تقع حسب ما قدرها .
والإيمان بالقدر على درجتين :
احداهما : الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعلمه العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم ، ومن هو منهم من أهل الجنة ومن أهل النار ، والإيمان بأن الله تعالى كتب ذلك وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه .
الثانية : الإيمان بأن الله تعالى خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان . والإيمان بأن الله شاءها منهم .
( 22 ) ولا تُنْكِرَنْ جَهْلاً نكيراً ومُنْكَراً……ولا الحَوْضَ والميزانَ إِنَّكَ تُنصَحُ
التعليق :
( ولا تنكرن جهلاً ) وقلة علم الملكين المسميين نكيراً ومنكراً ، وهما الملكان اللذان ينزلان على الميت في قبره يسألانه عن ربه ومعتقده .
فالإيمان بذلك واجب شرعاً لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ المتواتر .(3/14)
وقد استنبط ذلك واستدل عليه بقوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما شاء ) وأخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى : (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ... ) الآية ، نزلت في عذاب القبر ، وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولون ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار فقد أبدلك الله مقعداً من الجنة ، قال فيراها جميعاً يعني المقعدين ... ]الحديث ، وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه : [ أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر ـ أي قرونهما ـ وأصواتهما مثل الرعد القاصف ] .
( ولا ) تنكرن أيضاً جهلاً وعنادا وسفهاً وإلحادا .(3/15)
( الحوض ) أي حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه حق ثابت بإجماع أهل الحق ، قال تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر ) ، وفي السنة ما هو مشهور بل متواتر ، وقد ورد ذكر الحوض من رواية بضعة وخمسين صحابياً منهم الخلفاء الراشدون وحفاظ الصحابة المكثرون وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين .وجاءت أوصافه في السنة بأنه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك وأكوابه أكثر من عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً وأنه حوض عظيم متسع كبير جداً كما بين صنعاء والمدينة أو كما بين أيلة ومكة .وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدا ] .
وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ بينا أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ، قال فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر ] .
ولا تنكرن جهلاً وعناداً ( الميزان ) الذي توزن به الحسنات والسيئات لأنه حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) .
والميزان له لسان وكفتان توزن به صحائف الأعمال ، وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ] ثم قرأ ( فلا نقيم لهم يقوم القيامة وزنا ) .
( إنك تنصح ) أيها المستمع لنظمي ، والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له سواء نصح المرء نفسه أو غيره .(3/16)
( 23 ) وقل يخرجُ اللهُ العظيمُ بفضله……من النار أجساداً من الفحم تُطْرَحُ
التعليق :
( وقل ) أيها المؤمن بالقرآن وبالنبي المصطفى مفصحاً بلسانك ومعتقداً بجنانك منقاداً بسائر أركانك وجوارحك.
( يخرج الله العظيم بفضله ) العميم وكرمه الجسيم وعفوه الفخيم .
( من النار ) المعهودة التي هي نار جهنم الموقودة .
( أجساداً ) بعد دخولها فيها وإصابتها من عذابها ما تستحقه منها .
( من الفحم ) أي بعد ما صاروا فحماً .
( تطرح ) أي ترمى وتلقى .
( 24 ) على النَّهْرِ في الفردوسِ تحيا بمائِهِ……كَحَبِّ حَميلِ السَّيل إِذ جاءَ يَطْفَحُ
التعليق :
( على النهر في الفردوس ) أي ترمي على النهر في جنة الفردوس .
( تحيا ) تلك الأجساد بعد ما صارت فحماً وطرحت على النهر الذي هو في جنة الفردوس بإصابة .
( بمائه ) أي ماء ذلك النهر لتلك الأجساد ، وتنبت تلك الأجساد بسيلان ماء أنهار الجنة عليها كما تنبت .
( حب حميل السيل ) أي الحبة التي يحملها السيل .
( إذ جاء ) أي ذلك السيل وقت مجيئه .
( يطفح ) أي يفيض .
أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ثم يقول الله عز وجل أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياء أو الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ] وفي لفظ لمسلم [ فيخرجون منها حمما قد امتحشوا ] أي احترقوا ، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم .
( 25 ) وإِنَّ رسولَ اللهِ للخَلقِ شافِعٌ……وقُلْ في عذاب القبر حَقٌ مُوَضَّحُ
التعليق :
( و ) قل بلسانك معتقداً بجنانك .
( إن رسول الله ) - صلى الله عليه وسلم - .
( للخلق شافع ) والشفاعة لغة الوسيلة والطلب . وشرعاً سؤال الخير للغير .(3/17)
وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - لعموم الخلق هي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتدافعها الأنبياء أصحاب الشرائع آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام .
وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ إن ربي خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة ـ وفي لفظ ـ ثلثي أمتي الجنة بغير حساب ولا عذاب وبين الشفاعة لأمتي فاخترت الشفاعة . قال : وهي لكل مسلم ] .
وأخرج أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] .
ويشفع يوم القيامة سائر الرسل والأنبياء والملائكة عليهم السلام والصحابة والشهداء والصديقون وهم العلماء والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون .
( وقل ) بلسانك معتقداً بجنانك .
( في عذاب القبر حق موضح ) أي أن عذاب القبر حق واضح لا يعتريه شك .
وفي هذا بيان لعقيدة أهل السنة أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه .
(26) ولا تُكْفِرَنْ أهلَ الصَّلاةَ وإِن عصوا……فَكُلُّهُم يَعْصي وذو العرش يصفَحُ
التعليق :
( ولا تكفرن ) أي لا تعتقد تكفير أهل الصلاة .
( وإن عصوا ) بارتكاب الذنوب كبيرها وصغيرها .
وفي هذا بيان لمعتقد السلف الصالح في أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج من دائرة الإسلام .
وهو تحت مشيئة الله إن تاب عليه أو عذبه ، ولا يخلد في النار .
( فكلهم ) أي العباد إلا من عصمه الله من المرسلين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
( يعصي ) من العصيان خلاف الطاعة ، والمعصية تشمل الكبائر والصغائر .
( وذو العرش يصفح ) أي أن الله تعالى يصفح ويعفوا ويتجاوز عن ذنوب عباده تكرماً منه وتفضلاً لأن الله من صفاته أنه غفّار وأنه غفور وأنه تواب رحيم ويحب العفو .(3/18)
( 27 ) ولا تعتقِدْ رأْيَ الخوارِجِ إنَّهُ……مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويفضَحُ
التعليق :
( ولا تعتقد ) بجنانك .
( رأي الخوارج ) جمع خارج ، وأصلهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفارقوه .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق ] فقتلهم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق الخوارج المارقين : [ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنه في قتلهم أجر عند الله تعالى لن قتلهم يوم القيامة ] .
واتفق الصحابة على قتالهم وخرج علي لقتالهم وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره به .
ولما قيل له - رضي الله عنه - الحمد لله الذي أراح منهم العباد قال : ( كلا والذي نفسي بيده إن منهم لفي أصلاب الرجال ، وأن منهم لمن يكون مع الدجال ) ولقبح سيرتهم وخبث سريرتهم قال الناظم رحمه الله :
( إنه مقال لمن يهواه يردي ويفضح ) أي أنه مقال شنيع ورأي فضيع لمن يهواه ويميل إلى صريحه وفحواه وينحو منحاه يرديه في مهاوي هواه ويفضحه في الآخرة عند مولاه .
( 28 ) ولا تَكُ مرجِيًّا لَعُوباً بدينهِ……ألا إنما المرجيُّ بالدينِ يَمْزَحُ
التعليق :
والمرجئة هم الذين يرجؤون الأعمال عن الإيمان والنية والاعتقاد ، أي يؤخرونها فلذلك سموا المرجئة من الإرجاء وهو التأخير ، وهم الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة لأن الإيمان عندهم هو التصديق والقول .
ولأجل هذا كان السلف يعدون مثل هذا أنه يلعب بدينه ويهزأ بإيمانه ، ولهذا قال الناظم : ( ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ) .(3/19)
ثم قال : ( ألا إنما المرجي بالدين يمزح ) لأن حاصل قول المرجئة أنه كما لا ينفع مع الكفر طاعة لا يضر مع الإيمان معصية ، وهذا قول خبيث ينقض عرى الإسلام وهو سلم ترك الصلاة ومنع الزكاة والحج وترك الصيام وذريعة لمعاطاة الزنا واللواط وسائر الآثام ، ولا يرتاب ذو لب أن هذا مزاح بالدين ولعب ومن نهج هذا المنهج فهو على شفى جرف هار وهو لسيرة أهل الكفر والإلحاد أقرب منه لسيرة الأبرار ، ولهذا اشتد نكير السلف على المرجئة ومذهبهم .
قال ابراهيم النخعي لفتنتهم ـ يعني المرجئة ـ أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ، يعني الخوارج .
وقال الزهري : ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أصله من الإرجاء .
وقال الأوزاعي : كان ابن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.
وقال شريك بن عبد الله القاضي : المرجئة أخبث قوم ، وحسبك بالرافضة خبثاً ، ولكن المرجئة يكذبون على الله.
وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري ، والثياب السابرية ثياب رقيقة جداً منسوبة إلى سابور من ملوك الفرس ، والمعنى أنهم ـ المرجئة ـ لما أخرجوا الأعمال من الإيمان أضعفوه حتى صار كالثوب الرقيق الذي يستشف ما وراءه .
( 29 ) وقل إنما الإيمان قولٌ ونِيَّةٌ……وفِعلٌ على قَوْلِ النَّبِيِّ مُصَرِّحُ
( 30 ) وينقص طوراً بالمعاصي وتارة……بطاعته يَنْمى وفي الوزن يَرْجَحُ
التعليق :
في هذين البيتين بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان ، وأنه قول واعتقاد وعمل ، ينقص بالمعصية ويزيد بالطاعة ، ويزداد حتى يرجح في الميزان ، وكل هذا عليه أدلته من القرآن والسنة .
( 31 ) ودع عنك آراء الرجال وقولهم……فقول رسول الله أزكى وأشرح
التعليق :
يوجه الناظم هنا إلى وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أخذ السنة والاعتقاد ، فإن في هذا سلامة الدين والفلاح وأشرح للصدور والقلوب ، وأزكى للنفوس والعقول .(3/20)
ونتيجة اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الهداية إلى الصراط المستقيم في الدنيا والنجاة من الشقاء في الآخرة .
قال تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) كما يوجه إلى الحذر من آراء الرجال وأقوالهم فإن الدين لا يؤخذ من عقول الرجال وآرائهم .
ولهذا يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا .
ويقول الأوزاعي رحمه الله : عليك بالأثر وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول فإن الأمر ينجلي ، وأنت على طريق مستقيم .
( 32 ) ولا تك من قوم تَلَهَّوا بدينِهم……فَتَطْعَنُ في أهل الحديث وتقدَحُ
التعليق :
( ولا تك من قوم ) يعم أهل الإعتزال وأهل الرفض والوبال وأهل الكلام المحدث وعموم أهل البدع فمن ترك سبيل أهل السنة السلف الصالح ، وجميع من قدم المعقول على المنقول والهوى على السنة وآراء الرجال على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
( تلهو ) أي تلاعبوا بدينهم الثابت في القرآن وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وتلاعب مثل هؤلاء بدينهم أن يحدثوا له أصولاً ويرتبوا له أبواباً وفصولاً ، معتمدين على قواعد قعدوها وآراء اعتمدوها زاعمين أنهم يهتدون إلى الصواب بالعقول لا بالمنقول ، وبابتداع الأصول لا بقول الرسول .
( فتطعن ) أي تقع وتخوض .
( في أهل الحديث ) سواءاً رواته وناقليه بالأسانيد المقبولة والروايات المنقولة أو المراد بهم أهل السنة حملة عقيدة السلف الصالح السلفيون أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة والفرقة الناجية الذابون عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - النافون عنه تحريف الجاهلين وابطال المبطلين وتأويل الغالين .(3/21)
( وتقدح ) في عدالتهم وصدقهم وتنسبهم إلى ما هم بريئون منه من الغلط وعدم الضبط والكذب أو وصفهم بألقاب السوء التي يحملها عليهم أهل الأهواء والبدع حنقاً منهم على ما يحملونه من حق مبين وهدى مستقيم.
يقول الفضل بن أحمد الزبيدي : سمعت أحمد بن حنبل وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأومأ إليها وقال : هذه سرج الإسلام ـ يعني المحابر ـ .
وقد نص الإمام أحمد على أن أصحاب الحديث هم الطائفة الواردة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ] ونص أيضاً على أنهم الفرقة الناجية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : [ وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال : [ ما أنا عليه اليوم وأصحابي ٍ] وفي رواية : [ الجماعة ] .
وقال أحمد عنهم أيضا : إن لم يكونوا هؤلاء الناس ـ يعني أهل الحديث ـ فلا أدري من الناس .
ونقل نعيم بن طريف - رضي الله عنه - أنه قال في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ لا يزال الله تعالى يغرس غرساً يشغلهم في طاعته ] قال هم أصحاب الحديث .
وقال الإمام الشافعي : عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً .وروى ابن عبد البر بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه - رضي الله عنه - :
دين النبي محمد آثار …………نعم المطية للفتى الأخبار
لا تعدو عن علم الحديث وأهله…………فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى طرق الهدى…………والشمس طالعة لها أنوار
قال أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي رحمه الله تعالى :
عليك بأصحاب الحديث فإنهم………على منهج للدين ما زال معلما
وما النور إلا في الحديث وأهله………إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما
وأعلى البرايا من إلى السنن اعتزا………وأغوى البرايا من إلى البدع انتمى
ومن ترك الآثار قد ضل سعيه ……وهل يترك الآثار من كان مسلما
وقال غيره :
أحب الحديث وأصحابه ………وللفوز نفسي لهم راجية(3/22)
وسجاياهم عذبة المجتنى… وعيشتهم رغدة راضية
فإن ما دجت ليلة في الظلام……فهم أنجم الليلة الداجية
وإن ما نجت فرقة بالمعاد…… فما هم سوى الفرقة الناجية
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن الفرقة الناجية الواردة في الحديث من هي ؟
فقال :
هذه هي الفرقة الناجية الذين اجتمعوا على الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستقاموا عليه وساروا على نهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهج أصحابه وهم أهل السنة والجماعة وهم أهل الحديث الشريف السلفيون الذين تابعوا السلف الصالح وساروا على نهجهم في العمل بالقرآن والسنة ، وكل فرقة تخالفهم فهي متوعدة في النار . ( فتاوى نور على الدرب 1/15 ) .
( 33 ) إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه……فأنت على خير تبيت وتصبح
التعليق :
ختم الناظم هذه القصيدة الفريدة والخريدة التليدة والدرة اليتيمة ببيان فضل وثمرة التمسك بهذه العقيدة السنية السلفية والتي ضمنها أبيات قصيدته والتي خالفها كثير من أهل البدع والأهواء .
فإذا ما اعتقدت أيها المسلم هذه العقيدة طول دهرك وحياتك .
( فأنت على خير ) ومستمر على هدى لتمسكك بالمأثور واعتقادك ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة الدين المعول عليهم دون رأي فلان ونظر فلان .
( تبيت ) في خير وأمن مطمئن القلب سالم من شكوك المتكلمة وظنون المتحذلقة ، قد اتبعت المأثور واقتفيت الرعيل الأول .
( وتصبح ) في أمن وأمان وطمأيننة صدر قد ألجأت ظهرك وأسندته إلى ركن وثيق وأدخلت قلبك في حصن حصين ، سالم من الدخل والضيق وجعلت معولك على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان من أهل العلم والتحقيق ، واعتقدت أن النجاة كل النجاة في اقتفاء آثارهم والتعويل على أخبارهم ، فإن لم يسلّم لم يسلم ، ومن لم يقتف السلف لم يربح ولم يغنم والله سبحانه وتعالى أعلم .(3/23)
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحيينا على هذه العقيدة السنية ، وأن يختم لنا حياتنا عليها وأن يجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلئك رفيقا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكان الإنتهاء من هذا المختصر
عصر يوم الإثنين لست وعشرين خلت من شهر ربيع الثاني لعام خمس وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي - صلى الله عليه وسلم - .
أخوكم خالد بن محمد الغرباني(3/24)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (5)
المَنظُومَةُ الحَائِيَّة في السُّنَّة
لِأَبِي بَكْر بْنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ
(230 ـ 316 هـ )
قرأها وقدم لها وعلّق عليها
هانئ بن عبد الله بن جبير
قام بنشرها
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
[ المُقَدِّمَةٌ ]
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه , وبعد :
فإنّ علم التوحيد أشرف العلوم وأجلّها قدراً , وأوجبها مطلباً , لأنه العلم بالله تعالى , وأسمائه , وصفاته , وحقوقه على عباده , ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه , قال تعالى : ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ? [ الأنبياء : 25] ولما كان هذا شأن التوحيد (1) فقد حرص أهل العلم على توضيحه وتيسيره بشتّى السُّبُل , ومنها جعله في شكل منظومات , فهو أدعى للحفظ , وكما قال السفاريني :
وصارَ مِن عادَةِ أهلِ العِلمِ
أنْ يَعتَنوا فِي سَبْرِ ذَا بِالنَّظْمِ
لأنَّهُ يَسْهُلُ للحِفظِ كَما
يَرُوقُ لِلْسَّمعِ وَيشفِي مَن ظَما
ومن هذه المنظومات , المنظومة التي بين يديك , والتي تعرف بالحائية لأبي بكر بن أبي داود السجستاني ـ رحمهما الله ـ والتي ستراها هنا محققة مضبوطة أسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها إنه ولي ذلك والقادر عليه , وصلى الله على محمد وآله وصحبه .
ترجمة الناظم (2) ـ رحمه الله ـ :
اسمه وكنيته :
هو : أبو بكر , عبد الله بن أبي داود , سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني .
الحافظ ابن الحافظ .
ولادته ونشأته :
وُلِدَ بسجستان , سنة ثلاثين ومائتين , ونشأ بنيسابور وغيرها , ثم استوطن بغداد .
طلبه للعلم وشيوخه :
رحل به والده فطوّف به شرقاً وغرباً , وأسمعه من علماء ذلك الوقت . فأول شيخ سمع منه : محمد بن أسلم الطّوسي , وسرّ أبوه بذلك , لجلالة محمد بن أسلم .
____________________________
(1)مقتبس من مقدمة " شرح أصول الإيمان " لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله .
(2) مراجع هذه الترجمة :
1. طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى : (2/51) , مطبعة السنة المحمدية , سنة (1372هـ).
2. المنتظم لابن الجوزي : (13/275) , دار الكتب العلمية , الطبعة الأولى (1412هـ) .
3. سير أعلام النبلاء للذهبي : (13/221) , مؤسسة الرسالة, الطبعة الرابعة (1406 هـ) .
4. لسان الميزان لابن حجر : (3/364) , دار الفكر .
5. المنهج الأحمد للعليمي : (2/15) , دار عالم الكتب الطبعة الثانية (1404 هـ ) .
6. شذرات الذهب لابن العماد : (2/273) , المكتب التجاري للطباعة بيروت .
7. مختصر طبقا الحنابلة لابن الشطّي : ( ص 28 ) , دار الكتاب العربي الطبعة الأولى ( 1406 هـ ) ...(1/1)
وروى عن أبيه , وأحمد بن صالح , وعلي بن خشرم , وأبي سعيد الأشج , وعَمْرو بن علي الفلاّس والحسن بن عرفه , ومحمد بن يحيى الذهلي , ومحمد بن عبد الرحيم , وخلق كثير بخراسان والحجاز والعراق ومصر والشام وأصبهان وفارس .
وكان له جلد على طلب الحديث فقد قال : " دخلت الكوفة ومعي درهم واحد , فاشتريت به ثلاثين مُدّاً باقِلاّ , فكنت آكل منه مداً , واكتب عن أبي سعيد الأشج ألف حديث , فلّما كان الشهر حصل معي ثلاثون ألف حديث " أ.هـ .
تلاميذه ومصنفاته :
صنف المسند , والسنن , والمصاحف , والناسخ والمنسوخ , والبعث , وأشياء .
وحدث عنه خلق منهم : ابن حبّان , وأبو أحمد الحاكم , وأبو الحسن الدارقطني , وابن المقرئ , وأبو حفص بن شاهين , وابن بَطّة .
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه :
قال عنه الذهبي : " كان من بحور العلم ؛ بحيث إن بعضهم فضّله على أبيه " . أ.هـ .
وقال أبو بكر بن شاذان : " قدم أبو بكر بن أبي داود سجستان فسألوه أن يحدثهم , فقال : ما معي أصل . فقالوا : ابن أبي داود وأصل ؟! قال : فأثاروني , فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث فلمّا قدمتُ بغداد , قال البغداديّون : مضى إلى سجستان ولعب بهم , ثم فيّجوا فيجاً اكنزوه بستة دنانير إلى سجستان , ليكتب لهم النسخة , فكُتبت وجيء بها وعرضت على الحُفَّاظ فخطّئوني في ستة أحاديث , منها ثلاثة أحاديث حدثت بها كما حُدِّثت , وثلاثة أخطأت فيها " أ.هـ .
هذا , وقد أُخذت عليه أمور أوذي بسببها تناولها الذهبي في السيّر .
وفاته :
توفي سنة ستّ عشرة وثلاث مئة , وهو ابن ست وثمانين سنة وستة أشهر وأيام , وقد صُلّي عليه مراراً . وقد قيل : صُلّ عليه ثمانون مَرّة .
ودفن يوم الأحد لإثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثلاث مئة .
وقد خلَّف ثمانية أولاد , عبدالأعلى , ومحمداً , وأبا معمرٍ عبيد لله , وخمس بنات . رحمه الله وغفر له .
تحقيق نسبتها لابن أبي داود :....(1/2)
اشتهرت نسبة هذه المنظومة لناظمها قديماً وحديثاً , حتى قال الذهبي : " هذه القصيدة متواترة عن ناظمها " (3) أ.هـ . وقد شرحها الآجري , محمد بن الحسين بن عبد الله , المتوفّى سنة ستين وثلاث مئة (4) .
وشرحها أيضاً السفاريني , محمد بن أحمد بن سالم , المتوفى سنة ثمان وثمانين ومائة وألف للهجرة , بشرح سماه " لوَائحُ الأَنْوَار السَّنِيَّة وَلوَاقِحُ الأفْكار السُّنِّيَّة شرْح قَصيْدة بْنِ أبيْ دَاودْ الحائيّة " (5).
ونسبها إليه جمع من المؤرخين , والمترجمين لحياته , كالذهبي في السيّر , والعلو .
وقد رواها عنه ابن أبي يعلى فقال : " أنبأنا علي المحدّث عن عبيد الله الفقيه قال : أنشدنا أبو بكر بن أبي داود من حفظه لنفسه ثم ساقها " (6) .
ورواها عنه تلميذه أبو حفص بن شاهين , وأوردها في كتابه " شرح مذاهب أهل السنة" (7) .
ورواها عنه الذهبي (8) فقال أخبرنا أحمد بن عبد الحميد , أنبأ محمد محمد بن قدامة سنة ثماني عشرة وست مئة , أخبرتنا فاطمة بنت علي الوقاياتي أنبأ علي بن بيان أنبأ الحسين بن علي الطناجيري أنبأ أبو حفص بن شاهين , قال أنشدنا أبو بكر عبد الله بن سليمان لنفسه هذه القصيدة ... ثم ساقها إلى نهايتها .
__________________________________
(3) العلو : (ص 127) , مطبعة أنصار السنّة سنة (1357هـ) .
(4) قاله الذهبي في العلو ص : 127 .
(5) طُبع بتحقيق عبد الله البصيري دار الرشد .
(6) طبقات الحنابلة : (2/53).
(7) (ص321) , مؤسسة قرطبة . الطبعة الأولى (1415 هـ) .
(8) سير أعلام النبلاء : (13/233) , العلو : (ص 126) , وبينهما تفاوت في صيغ الأداء ...(1/3)
وقد وقع في آخر شرح المنظومة للسّفاريني أن قال ناسخها عيسى القدومي (9) : " فائدة في ذكر سند شيخنا الشيخ محمد السّفاريني لمنظومة الإمام العلامة أبي بكر بن أبي داود , هذه التي شرحها قال : أنبأني كل واحد من مشايخي الثلاثة : الشيخ عبد القادر الثعلبي مفتي السادة الحنابلة وقدوتهم في عصره ومصره , وفي سائر بلاد الإسلام , والشيخ عبد الغني العارف ابن الشيخ إسماعيل الشهير بالنابلسي , والشيخ عبد الرحمن المجلد المعمر كلهم عن الشيخ الإمام عبد الباقي الحنبلي الأثري مفتي السادة الحنابلة بدمشق المحميّة , قال : أنا الشيخ حجازي الواعظ . عن ابن أركماس عن الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح البخاري عن أبي إسحاق إبراهيم البعلي عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجّار اخبرنا ابن عمر الأموي أخبرنا أبو الفتوح الهمذاني أخبرنا أبو محمد السمعاني قال : أخبرني والدي عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني لنفسه :
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى
ولا تَكُ بِدْعِيّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
إلى آخر القصيدة ... " أ.هـ .
الأصول المعتمدة :
وقفت على هذه المنظومة في عدة مواضع فقد أوردها ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة , وأوردها ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة , وأوردها الذهبي في السيّر , وفي العلو , كما أوردها العليمي في " المنهج الأحمد " في تراجم أصحاب الإمام أحمد , وأوردها الشّطي في مختصر طبقات الحنابلة .
كما وقفت على شرحها " لوَائحُ الأَنْوَار السَّنِيَّة "
وقد انتسخها ثم قارنت بينها , واتبعت طريقة النصّ المختار , لأنه وإن كان ابن شاهين أقربهم للناظم , إلا أنّ النسخة المطبوعة مليئة بالأخطاء لذا حرصت على إثبات ما رأيته صواباً , مشيراً إلى ما عداه , إلا ان يكون من أخطاء الطباعة فإني لا أشير إليه غالباً , وإليك المنظومة .
نصّ المنظومة
[عدد أبياتها : 36]
تَمسَّكْ بحَبْلِ اللهِ واتَّبِع الهُدَى
(1)..
_____________________________
(9) لوائح الأنور السنية : (2/369) .........(1/4)
ولا تَكُ بِدْعِيَّاً لَعلَّكَ تُفْلِحُ
وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ والسُّنَنِ التِي
(2)
أَتَتْ عَن رَسُولِ اللهِ تَنْجُ(10) وَتَرْبَحُ
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلِوقٍ كَلامُ مَليكِنا
(3)
بِذَلكَ دَانَ الأتْقِياءُ وأَفْصحُوا
وَلا تَكُ فِي القُرْآنِ بالوَقْفِ قَائِلاً
(4)
كَمَا قَالَ أتْبَاعٌ لِجَهْمٍ(11) وَأَسْجَحُوا(12)
ج
ولا تَقُلِ القُرآنُ خَلقاً(13) قرأتَهُ
(5)
فإنَّ كَلامَ اللهِ باللفْظِ يُوضَحُ(14)
وَقُلْ يَتَجلَّى اللهُ للخَلْقِ جَهْرةً
(6)
كَمَا البدْرُ لا يَخْفى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
وَلَيْسَ بمْولُودٍ وليسَ بِوَالِدٍ
(7)
وَلَيسَ لهُ شِبْهٌ تَعَالَى المسَبَّحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْميُّ هَذَا وعِنْدَنَا
(8)
بِمِصْدَاقِ ما قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَرِّحُ(15)
رَوَاهُ جَرِيرٌ(16) عن مَقَالِ مُحمَّدٍ
(9)
فقُلْ مِثْلَ ما قَدْ قَالَ في ذَاكَ تَنْجَحُ
وَقَدْ يُنكِرُ الجَهْمِيُّ أَيضًا يَمِيْنَهُ
(10)
وَكِلْتَا يَدَيْهِ بالفواضِلِ(17) تَنْفَحُ(18)
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ في كُلِّ لَيْلَةٍ
________________________________
(10) كذا في العلو , وفي غيره : (تنجو) . وهو خطأ , إذ الفعل مجزم , قال في القطر : " فإن سقطت الفاء بعد الطلب وقصد الجزاء , جزم , نحو قوله تعالى ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ? [ الأنعام : 151] أ.هـ . وعلامة جزمه حذف آخره وهو الواو ...
(11) هو أبو محرز جهم بن صفوان السمرقندي , الضال المبتدع , رأس الجهمية . قتل سنة ثمان وعشرين ومئة لسان الميزان : (2/179) . قال حافظ حكمي في " معارج القبول " (1/280) : " قضى السلف الصالح رحمهم الله على الطائفة الواقفة وهم القائلون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق , بأن من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي , ومن لم يحن الكلام منهم , بل علم أنه كان جاهلاً جهلاً بسيطاً فهذا تقام عليه الحجة والبيان والبرهان فإن تاب وآمن أنه كلام الله تعالى , وإلا فهو شر من الجهمية " أ.هـ. وانظر مجموع الفتاوى : (12/359 ,395) , وما بعدها.
(12)هكذا في عامة المراجع قال في القاموس : " سَجَح لَه بكلامٍ : عَرّض" , أي قالوا وعرضوا . وفي لوائح الأنوار : (1/231) , قال [ واسمحوا ] بالميم بعدها حاء مهملة , ثم شرحها بقوله : " أي جادوا بالقول بخلق القرآن و لانوا , يقال سمح ككره ... جاد وكرم " أ.هـ. وهذا البيت لم يرد في العلو .
(13)في شرح مذاهب أهل السنة : (خلق قراءته) , وفي العلو : (خلق قرانه) , وفي مختصر الشطّي : (خلق قرائه) وفي لوائح الأنوار السنية : (خلق قراءة) وقال في شرحها : " القرآن مبتدأ وخلق بمعنى مخلوق خبره , وقراءة منصوب على الحال , أو بنزع الخافض أي في القراءة ... يعني لا تقل قراءتي مخلوقة " (1/232) أ.هـ.
(14) قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله : " اشتهر عن السلف أن اللفظية جهمية وهم من قال لفظي بالقرآن مخلوق وقالوا : ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع , يعنون غير بدعة الجهمية , وذلك لأن اللفظ يطلق على معنيين أحدهما الملفوظ به , وهو القرآن وهو كلام الله ليس فعلاً للعبد , ولا مقدوراً له .......
والثاني : التلفظ وهو فعل العبد , فإذا أطلق لفظ الخلق على المعنى الثاني شمل الأول , وهو قول الجهمية وإذا عكس الأمر بأن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق شمل المعنى الثاني , وهي بدعة أخرى من بدع الإتحادية , إذ اللفظ معنى مشترك بين التلفظ الذي هو فعل العبد وبين الملفوظ به الذي هو كلام الله عز وجل , وهذا بخلاف ما ذكر السلف بقولهم : الصوت صوت القارئ , والكلام كلام الباري , فإن الصوت معنى خاص بفعل العبد لا يتناول المتلو المؤدى بالصّوت " أ.هـ . باختصار (1/292) .
(15) في المنهج الأحمد ومختصر الشطي : (مُصَحّح).
(16) وردت أحاديث الرؤية عن جمع من الصحابة تبلغ حد التواتر , أما حديث جرير فقد رواه البخاري في صحيحه " كتاب التوحيد " باب قول الله تعالى : ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ? [ القيامة : 22] . (فتح 13/429) برقم (7434) ؛ و رواه مسلم في صحيحه " كتاب المساجد " , باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظه عليهما : (1/439) برقم (633) , ولفظه : "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا " .
(17) في شرح مذاهب أهل السنة : (بالنواضل) .
(18) في شرح مذاهب أهل السنة : (ينفح) , وفي المنهج الأحمد : (تفتح) , وفي لوائح الأنوار : (تنضح) , وتنفح : أي تعطي وتمنح , يقال نفح فلاناً بشيء أي أعطاه .........(1/5)
(11)
بِلا كَيْف(19) جَلَّ الواحدُ المتَمَدِّحُ(20)
إلى طَبَقِ الدُّنيا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ
(12)
فَتُفْرَجُ أَبْوابُ السَّماءِ وتُفْتحُ
يَقولُ : ألا مُسْتغفِرٌ يَلْقَ(21) غَافِرًا
(13)
ومُسْتَمنِحٌ خَيْرًا ورِزقًا فأمْنَحُ(22)
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لا يُرَدُّ حَدِيثَهم(23)
(14)
ألا خَابَ قَوْمٌ كذَّبوهُم وقُبِّحُوا
وَقُلْ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
(15)
وَزِيراهُ قُدْمًا , ثُمَّ عُثْمَانُ أرْجَحُ(24)
وَرابِعُهُم خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُم
(16)
عَلِيٌّ حَليفُ الخَيرِ , بالخَيرِ مُنْجِحُ(25)
وإنَّهمُ و الرَّهْطُ(26) لا رَيْبَ فِيْهِمُ
(17)
عَلَى نُجُبِ الفِرْدَوْسِ في الخُلْدِ(27) تَسْرَحُ
سَعِيدٌ وسَعْدٌ وابنُ عَوْفٍ وطَلْحةٌ
(18)
وعَامِرُ فِهْرٍ والزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ(28)....
______________________________
(19) مراد السلف بقولهم عن الصفات نؤمن بها بلا كيف : أي لا نكيّف هذه الصفات ؛ لأن تكييفها ممتنع ؛ إذ لا تعرف كيفية الشيء إلا بواحد من ثلاثة أمور : إما بمشاهدته , أو بمشاهده نظيره , أو الخبر الصادق عنه , ولمّا لم يحصل شيء من ذلك امتنع على الخلق معرفة كيفية صفات الله وكنهها , وليس مرادهم من قولهم بلا كيف أن لاكيفيّة لصفاته , لأن صفاته ثابته حقاً , وكل شيء ثابت فلا بدّ له من كيفية , لكن كيفية صفات الله غير معلومة لنا . انظر شرح التدمرية لابن مهدي (ص110) و شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين : (ص20) .
(20) في شرح مذاهب أهل السنة : (الُمَدَّح) .
(21) في مختصر الشطي : (أنا غافر).
(22) في شرح مذاهب أهل السنة : (والسيّر والعلو فيُمنح) .
(23) وردت صفة النزول للرب عز وجل في أحاديث صحيحة عن كثير من الصحابة , وممّن استقصاها الدارقطني في كتاب " النزول " وابن خزيمة في كتاب " التوحيد " والآجريّ في " الشريعة " وانظر لزاماً شرح الحديث لشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/321) إلى آخر المجلد ؛ ومعارج القبول (1/294 ـ 301 ) .
(24) كذا في شرح مذاهب أهل السنة , وفي عامة المصادر : (الأرجح) .
(25) المنجح من الناس كالناجح , والنجاح : هو الظفر بالشيء وفي العلو : (ممنح) .
(26)في السير والمنهج الأحمد : (للرهط) , وجاء في شرح مذاهب أهل السنة حاشية عن الأصل المخطوط , أن الصواب : (الرهط) بلا واوٍ .
(27) في السِّير والعلو : (بالنور) .
(28) في نسخة عندي بعد هذا البيت :
وَسِبْطي رَسول الله وابْني خديجةٍ
وَفَاطمة ذات النقاء تَبحبحوا
أبو مهند النجدي .(/)
(وَعَائِشُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالُنا(29)
(19)
مُعَاوِيَة أَكْرِمْ بِهِ فَهْوَ مُصلحُ
وَأَنْصارُه وَالهَاجِرونَ دِيارَهم
(20)
بنصرهُمُ(30) عَنْ ظلمةِ(31) النَّارِ زحزحُوا
وَمَنْ بعدَهُم وَالتابِعُون بِحُسنِ مَا
(21)
حَذو حَذوهم قَولاً وَفِعلاً فَأفْلحوا ) (32)
وَقُلْ خَيْرَ قولٍ في الصَّحَابةِ كُلِّهِمْ
(22)
ولا تَكُ طَعَّاناً تَعِيْبُ وَتَجْرَحُ
فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ المُبينُ بِفَضْلِهِمْ
(23)
وفي الفَتْحِ(33) آيٌ في الصَّحابةِ(34) تَمْدَحُ
وبِالقَدَرِ المقْدُورِ أيْقِنْ فإنَّهُ
(24)
دِعَامَةُ(35) عقْدِ الدِّينِ والدِّينُ أفْيَحُ(36)
وَلا تُنْكِرَنْ جَهلاً(37) نَكِيرًا ومُنْكَراً(38)
(25)
وَلا الحْوضَ والِميزانَ إنَّكَ تُنْصَحُ
وقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظيمُ بِفَضلِهِ
(26)
مِن النارِ أجْسادًا مِن الفَحْمِ(39) تُطْرَحُ
عَلَى النَّهرِ في الفِردوسِ تَحْيا بِمَائِهِ
____________________________
(29) سماه خال المؤمنين : لأنه أخو أم حبيبة إحدى أمهات المؤمنين , وإنما ذكره للرد على الروافض الذين يسبونه , وقد ذكر شيخ الإسلام نزاعاً بين العلماء هل يقال لإخوة أمهات المؤمنين أخوال المؤمنين أم لا ؟! منهاج السنة : (2/199) , وانظر شرح لمعة الإعتقاد : (ص 107) ...................
(30) في شرح مذاهب أهل السنة : (بنصرتهم) .
(31)في شرح مذاهب أهل السنة : (عن كَيّة) .
(32) هذه الأبيات الثلاثة انفردت بزيادتها شرح مذاهب أهل السنَّة , ولوائح الأنوار : (2/68) ؛ ومختصر الطبقات للشطي .
وقد جاءت في شرح مذاهب أهل السنَّة زيادة أخرى انفرد بها وهي :
و مالكُ والثويُّ ثم أخوهم
أبو عَمْروٍ الأوزاعي ذاكَ المسبِّحُ
وَمَنْ بعدهم فالشافعي وأحمد
إماماً هدى من يتبع الحقَّ يفصحُ
أولئكَ قومٌ قَدْ عفا الله عَنْهُم
وَأَرْضاهم فأجابهم فإنَّكَ تَفرحُ(؟)
(33)قوله تعالى ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا? [ سورة الفتح : 29].
(34) في شرح مذاهب أهل السُّنَّة والسِّير : (للصحابة).
(35) الدِعامة بالكسر : عماد البيت .
(36) الأفيح : الواسع .
(37) في مختصر الشطي : (جهراً) .
(38) سمعت الشيخ عبد الرحمن البراك في شرحه لهذا البيت يقول " اسمان للملكان الذين يأتون في القبور يسألونه وجاء اسمهما في حديث رواه الترمذي والمشهور أنه ضعيف وما ثبت من أسماء الملائكة أربعة فقط جبريل وميكائيل و إسرافيل ومالك .أ.هـ من شرح الحائية (نقله أبو مهند النجدي) .
(39)في مختصر الشطي : (من اللحم).........(1/6)
(27)
كَحَبِّ(40) حَميلِ السَّيْلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ
فإنَّ رَسُولَ اللهِ للخَلقِ شَافعٌ(41)
(28)
وقُلْ فِي عَذابِ القَبرِ حقٌّ مُوَضَّحُ
ولا تُكْفِّرَنَّ أهْلَ الصَّلاةِ وإِنْ عَصَوا
(29)
فكلُّهُمُ يَعْصِي وذُو العَرشِ يَصْفَحُ
(ولا تَعتقِدْ رَأيَ الخَوارجِ إنَّهُ
(30)
مَقَالٌ لِمَنْ يهواهُ يُرْدِي ويَفْضَحُ
ولا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ
(31)
ألا إنَّمَا المُرْجيُّ بالدِّينِ يَمْزَحُ(42))
وقُلْ إنَّما الإيمانُ قَوْلٌ ونيَّةٌ
(32)
وِفعْلٌ عَلَى قَولِ النبيِّ مُصَرَّحُ
ويَنْقُصُ طَوْرًا بالمعَاصِي وَتَارةً
(33)
بطَاعَتِهِ يَنْمِي وفي الوَزنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عنكَ آراءَ الرِّجالِ وَقولَهُم
(34)
فَقْولُ رَسُولِ اللهِ أَزكى وَأَشْرَحُ
وَلا تَكُ مِن قوْمٍ تَلَهَّوْ بِدِينِهِم
(35)
فَتَطْعنَ في أَهَلِ الحَدَيثِ وتَقْدَحُ
إذا مَا اعتقدْتَ الدَّهْرَ يا صَاحِ هذِه
(36)
فَأَنْتَ عَلى خَيْرٍ تَبِيتُ وتُصْبِحُ....
_______________________________
(40) الحَبِّ : ومفردها حِبّه بالكسر , بزور الصحراء مما ليس بقوت , وفي الحديث : (وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) أخرجه البخاري في صحيحه " كتاب التوحيد " باب قول الله تعالى : ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ? [ القيامة : 22] الفتح : (13/430 , 431) برقم (7437) ومسلم في صحيحه " كتاب الإيمان " باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار : (1/172) برقم (185) , واللفظ له عن أبي سعيد الخدري . والضبائر : الجماعات , هذا وللحديث طرق وروايات.
(41) مراده أن إخراج هؤلاء العصاة من أهل التوحيد من النار كان بشفاعة رسول الله ( .
واعلم أن الشفاعة التي ورد إثباتها في الكتاب والسنة : هي التي تطلب من الله بإذنه لمن يرضى قوله وعمله , والله لا يرضى إلا التوحيد فأما المنفية فهي التي تطلب من غير الله , أو بغير إذنه , أو لأهل الشرك به , قال تعالى : ?وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ? [سبأ : 22] وقال : ? وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ? [الأنبياء : 28] أما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه , فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة .
(42) في الطبقات , ومختصر الشطّي : (يمرح) بالراء , وقع في مختصر الشطّي تأخير البيتين إلى ما بعد البيتين الذين تليانهما وهو أولى إلا أن أكثر النسخ على ما أثبتناه .
??
??
??
??..........(/)
قال أبو بكر بن أبي داود : هذا قولي , وقول أبي , وقول أحمد بن حنبل , وقول من أدركنا من أهل العلم , ومن لم ندرك ممّن بلغنا عنه , فمن قال غير هذا فقد كذب ..
وهنا تمت هذه المنظومة مع التعليق عليها بما تيسر , والحمد لله أولاً وآخراً , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .................(1/7)
قصيدة الأشعث..........(1/1)
قال ابن بطة وابن شاهين وابن شاذان
قال 3 أنشدنا ابو بكر ابن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث شيخنا هذه القصيدة 3 من حفظه 1 لنفسه في السنة رحمه الله 4 وجعلها محنته 3
التمسك بالكتاب والسنة ... 1 تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح ...
... ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح ...
القرآن كلام الله ... 3 وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ...
... 4 ولا تك في القرآن بالوقف قائلا ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا ...
... 5 ولا تقل القرآن خلق قرانه ... فإن كلام الله باللفظ يوضح ...
الرؤية ... 6 وقل يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح ... 7 وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبح ...
... 8 وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح(1/17)
9 - رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح ...
اليد ... 10 وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح ...
النزول ... 11 وقل ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح ...
... 12 الى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح ...
... 13 يقول ألا مستغفر يلق غافرا ... ومستمنح خيرا ورزقا فيمنح ...
... 14 روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ...
الصحابة والسلف الصالح ... 15 وقل إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح ...
... 16 ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح ...
... 17 وإنهم الرهط لا ريب فيهم ... على نجب الفردوس في الخلد تسرح ...
... 18 سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح (1/18)
19 - وسبطي رسول الله وابني خديجة ... وفاطمة ذات النقاء تبحبحوا ...
... 20 وعائشة أم المؤمنين وخالنا ... معاوية أكرم به ثم امنح ...
... 21 وأنصاره والمهاجرون ديارهم ... بنصرتهم عن كية النار زحزحوا ...
... 22 ومن بعدهم فالتابعون لحسن مآخذ ... وأفعالهم قولا وفعلا فأفلحوا ...
... 23 ومالك والثوري ثم أخوهم ... أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح ...
... 24 ومن بعدهم فالشافعي وأحمد ... إماما هدى من يتبع الحق ينصح ...
... 25 أولئك قوم قد عفا الله عنهم ... فاحببهم فإنك تفرح ...
... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
... 27 فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آي للصحابة تمدح ...
القدر ... 28 وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح ...
البرزخ وأحوال الآخرة ... 29 ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح (1/19)
30 - وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
... 31 على النهر في الفردوس تحيى بمائه ... كحبة حمل السيل إذا جاء يطفح ...
... 32 وإن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح ...
الإيمان ... 33 ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصى وذو العرش يصفح ...
... 34 ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ...
... 35 ولاتك مرجيا لعوبا بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزح ...
... 36 وقل إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصبح ...
... 37 وينقص طورا بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمى وفي الوزن يرجح ...
الحديث لا الرأي في الفقه وغيره ... 38 ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ...
حب أهل الحديث ... 39 ولاتك من قوم تلهو بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح (1/20)
نصيحة جامعة ... 40 إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح ...
قال ابن بطة وإبن شاهين وإبن شاذان
قال لنا 4 ابو بكر ابن أبي داود رحمه الله 3 4
هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل رحمه الله 3 وقول من أدركنا من أهل العلم وقول 3 4 من لم ندرك ممن بلغنا قوله 3 عنه فمن قال علي 3 غير هذا فقد كذب (1/21)
اختلافات النسخ
البيت الصحيح المرجوح الرمز 4 وتأخر البيت عنده إلى ما بعد النزول 5 باللفظ للفظ 12 تفتح تفلح 4 13 فيمنح فأمنح 1 15 الأرجح أرجح 1 2 3 للرهط 17 الرهط والرهط في الخلد بالنور 2 وحاشية 3 18 25 سقطت هذه الأبيات 1 2 4 20 أمنح أرجح أمدح حاشية 3 27 المبين المتين 1 للصحابة في الصحابة 31 على النهر على أنهر 4 كحبة حمل كحب حميل 2 32 وإن فإن 1 للخلق في الخلق 4 38 فقول وقول 4 أزكى أولى 2 40 على خير تبيت على الخير تمسي 4 (1/22)
أبواب السنة
لإبن أبي داود رحمهما الله تعالى
من قصيدته وسيرته (1/23)
الباب الأول
أصل السنة
التمسك بالكتاب والسنة
ونبذ البدع وأهلها (1/25)
1 - تمسك بحبل الله وإتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح ...
... 2 ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح ...
... 38 ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ...
... 39 ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح ...
... 14 روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ...
1 - فيه إشارة الى آيات وأحاديث منها والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين الأعراف 170 واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا آل عمران 103
وحبل الله كتابه ذكر ذلك من حديث جماعة من الصحابة ومما يناسب البيت حديث زيد بن أرقم هو حبل الله من أتبعه كان على الهدى رواه الطبراني وغيره
والهدى سنة نبيه صلى الله عليه و سلم التي تهدي إلى الله جل وعلا ولا يهتدي امرؤ إلا بها ومن تركها ظنا أنه إن عمل بالقرآن وحده نجا فقد هلك أو ربح فقد خسر قال جل وعلا وإن تطيعوه تهتدوا النور 54
والبدعي هو المنسوب إلى البدعة وهي المحدثة وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
2 - دن أي اجعل دينك وإنقيادك وطاعتك والنجاة والربح إنما هما بإتباع الكتاب والسنة (1/26)
38 - وكما لا ينبغي معارضة الكتاب والسنة بالبدع فلا ينبغي لمؤمن أن يعارض السنة التي هي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالآراء التي هي عن الرجال إذ طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم مقدمة على طاعة من سواه من جميع الخلق قال جل وعلا يا آيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وإتقوا الله إن الله سميع عليم يا آيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون الحجرات 1 و 2
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الآية من سورة الأحزاب 36
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا سورة النساء 59
فقوله صلى الله عليه و سلم أزكى للنفوس وأطهر وأشرح للصدور به تطمئن القلوب التي آمنت كما قال صلى الله عليه و سلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ونفسه التي بين جنبيه الحديث
39 - ومن علامات حب رسول الله صلى الله عليه و سلم وحب ماجاء به حب أهل الحديث الذين حفظ الله بهم سنة نبيه رواية ونشرا ومن علامات النفاق والشقاق والزندقة بغض أهل الحديث والطعن فيهم وقد صنف أبو بكر الخطيب رحمه الله كتابا في شرف أصحاب الحديث
14 - وأصل العمل بالسنة إنما هو بما ثبت منها على طريقة أهل الحديث لا أهل البدع فما ثبت إسناده ونقله الثقات العدول فلا يجوز رده وتكذيب أهل الصدق ضلال وخيبة
ولما كان أصل السنة التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ونبذ بدع أهل الأهواء وكان الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في زمنه وما بعده داعيا إلى ذلك فقد أحبه أهل السنة
قال الخطيب في الجامع 2 39 باب ذكر الحكم في من روى من حفظه أخبرنا (1/27)
علي بن أبي علي أنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال سمعت أبا بكر عبد الله بن سليمان هو ابن أبي داود يقول وكان ربما غلطه أبو محمد يحيى ابن صاعد فيخرج أبو بكر أصله فيطرحه إلى الحاضرين ويقول والأبيات له ... على الكذاب لعنة من تعالى ... وخزي دائم أبدا يزيد ...
... فإن قال المزور ما كذبنا ... فهات الأصل رما لا جديد ...
... ففيه إن أتيت به بيان ... وإلا أنت كذاب عميد ...
... وقلت لصاحبي اهجره مليا ... فعن رسم ابن حنبل لا محيد ...
... إذا ما كان سلكك حنبليا ... فبورك نظم سلكك يا سعيد ...
فالعداء الذي كان بين ابن صاعد وابن أبي داود هو بسبب الاعتقاد لا كما ظنه الذهبي حسد الأقران فانتبه
فهذان أصلان من أكبر أصول السنة
التمسك بالسنة
نبذ أهل البدع وهجرتهم
وكذلك كل من عرف ببدعة في الدين لا يسلم دين المرء حتى ينبذه وينبذ بدعته
وقد كان لأهل الرأي زلل في الدين
في مسألة الإيمان فكانوا أئمة المرجئة
في مسألة الصفات فوقع منهم من وقع في الجهمية ومسألة القرآن
في مسألة تقديم القياس على قوله صلى الله عليه و سلم ثم قول الصحابة
قال ابن عدي في الضعفاء 7 2476 سمعت ابن أبي داود يقول الوقيعة في أبي فلان إجماع من العلماء لأن
إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلم فيه
وإمام الكوفة الثوري وقد تكلم فيه
وإمام مصر الليث بن سعد وقد تكلم فيه
وإمام الشام الأوزاعي وقد تكلم فيه
وإمام خراسان عبد الله بن المبارك وقد تكلم فيه
فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق أو كما قال (1/28)
الباب الثاني
الأسماء والصفات
مسألة الاسم والمسمى
مسألة القرآن
مسألة الرؤية
مسألة اليد
مسألة النزول
مسألة القدر (1/29)
مسألة الاسم والمسمى
قال اللالكائي في شرح السنة 2 212
أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران عن أبي بكر ابن أبي داود السجستاني قال من زعم أن الاسم غير المسمى فقد زعم أن الله غير الله وأبطل في ذلك لأن الاسم غير المسمى في المخلوقين لأن الرجل يسمى محمود وهو مذموم ويسمى قاسم ولم يقسم شيئا قط
وإنما الله جل ثناؤه واسمه منه ولا نقول اسمه هو بل نقول اسمه منه
فإن قال قائل إن اسمه ليس منه فإنه قال إن الله مجهول
فإن قال إن له اسما وليس به فإنه قال إن مع الله غيره
قلت إسناده ضعيف أحمد ذكره الخطيب في التاريخ 5 77 78 وقال كان يضعف في روايته روايته ويطعن عليه في مذهبه قال العتيقي وكان يرمى بالتشيع وكانت له أصول حسان وذكره الذهبي في الميزان 1 وزاد عن الخطيب قال لي الأزهري ليس بشيء وزاد في اللسان 1 288 أورد ابن الجوزي في الموضوعات في فضل علي حديثا بسند رجاله ثقات إلا هذا وقال موضوع ولا يتعداه واقتصر الذهبي في المغني 1 56 ضعيف عندهم
2 - مسألة القرآن ... 3 وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ...
... 4 ولاتك في القرآن بالوقف قائلا ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا ...
... 5 ولا تقل القرآن خلق قرانه ... فإن كلام الله باللفظ يوضح ...
ذكر رحمه الله في القرآن ثلاثة مذاهب
الأول مذهب أهل السنة القرآن كلام الله غير مخلوق وهذا دين الأتقياء يفصحون عنه ويظهرونه بفصاحة ووضوح وهذا ما ينبغي أن يدين (1/30)
بالحق ويدعو إليه لا كطائفة من أهل زماننا يزعمون أنهم على الحق في أنفسهم ولا يدعون إليه خشية تفريق المسلمين ولا أظنهم صادقين في زعمهم
الثاني مذهب الواقفية وهو قول القرآن كلام الله يقولون لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وهؤلاء صنفان
صنف من العوام لكنهم جهلة وكم أضر الجهل بأهله قالوا لا نقول هذا ولا هذا لأنه ليس لدينا نص في إثبات ولا نفي وهذا جهل عظيم فالنصوص كلها مصرحة بذلك كما هو مبسوط في شرح السنة للالكائي وغيره وهب أنه ليس لديك نص صريح أما كفاك سيرة السلف الصالح فقد ثبت عنهم تواتر الجماعة التصريح بأنه غير مخلوق فالحمد لله على العلم وقوله أسجحوا أي تساهلوا فيه وهو عند الله عظيم وهذه عاقبة التساهل في أمر الاعتقاد
وصنف هم المنافقون لما وجدوا نفرة الناس من قولهم بخلق القرآن توسلوا إلى مذهبهم بالوقف وهم شر من الجهمية فالجهمية كفار يصرحون بالكفر وهؤلاء قلوبهم كفر وقولهم نفاق
الثالث مذهب اللفظية وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق لكن اللفظ بالقرآن مخلوق وذلك حقيقته خطوة إلى الجهمية يقولون لفظي بالقرآن مخلوق ثم يقولون بعد ذلك القرآن بلفظي مخلوق ثم الكفر الصراح
وقد بينت طرفا من ذلك في مقدمة فهرس الفهارس 3 وانظر له بيان البخاري رحمه الله في كتابه خلق أفعال العباد وابن تيمية في فتاويه 12 167 173 وقوله قرانه أي قراءته
ولم يذكر المذهب الرابع وهو مذهب الجهمية بخلق القرآن وهو كفر صراح أجمع على ذلك أهل السنة جميعهم
وقد ابتلينا في هذا الزمان بفرقة من فرق المسلمين مثل الواقفة يتساهلون في أمور (1/31)
الدين بدعوى يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه من الاعتقاد فتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى منهم من يظن نفسه سنيا ومنهم الصوفي والخوارج والجهمية وشتى صنوف البدع ذلك أنهم أغلقوا باب الشرع ليفتحوا باب الجمع غثاء السيل وحطب ليل والاعتقاد لا يجوز الاختلاف فيه وإنما الاعتصام بالكتاب والسنة وإلا فالواحد جماعة ولهذا بسطه
تنبيه زعيم فتنة القرآن القاضي الجهمي أحمد بن دؤاد ويختصر فيقال ابن أبي دؤاد فانتبه لا يتصحف عليك لفظا وظنا
وسبق في أصول السنة قول ابن أبي داود في أهل الرأي ومما طعن به عليهم القول بالجهمية في مسألة القرآن كما هو مفصل في السنة لعبد الله بن أحمد والضعفاء لابن عدي والتاريخ للخطيب وغيرها في ترجمة أئمتهم
3 - مسألة الرؤية
رؤية المؤمنين الله تعالى يوم القيامة وفي الجنة ... 6 وقل يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح ...
... 7 وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبح ...
... 8 وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح ...
... 9 رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح ...
حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في الرؤية رواه البخاري ومسلم وله شواهد كثيرة وقد صنف جمع من العلماء في ذلك تصانيف مفردة أو مجموعة في كتب السنة ومن المفرد في الرؤية ما صنفه الدارقطني وابن النحاس وإنكار الجهمية (1/32)
له مشهور في فتنة خلق القرآن وغيرها وتفسير آية وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة القيامة 23
وحديث جرير إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر يعني ليلة البدر هذا عمدة في بابه والتشبيه هو في الرؤية ووضوحها لافي المرئي لذلك قال ابن أبي داود رحمهما الله وليس له شبه
4 - مسألة اليد ... 10 وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح ...
النفح العطية وعجز البيت فيه إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في قصة خلق آدم قال آدم اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة وقوله صلى الله عليه و سلم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الله عز و جل وكلتا يديه يمين وقول الله عز وعلا والسماوات مطويات بيمينه ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
وقد أفاض ابن خزيمة في كتاب التوحيد وابن تيمية في كتابه الرسالة المدنية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي في كتابيه الرد على الجهمية والنقض على المريسي في إثبات صفة اليد والرد على اعتراض الجهمية
فرحم الله أهل السنة كم من حديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم اتبعوه ونشروه وأوذوا فيه
مسألة النزول ... 11 وقل ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح ...
... 12 إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح (1/33)
13 - يقول ألا مستغفر يلق غافرا ... ومستمنح خيرا ورزقا فيمنح ...
... 14 روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ...
حديث النزول صحيح رواه البخاري ومسلم وهو متواتر صنف فيه الدارقطني وابن تيمية رحمهما الله مفردا وهو في كتب السنة كلها
وفيه صفتات لله عز و جل العلو إذ لا يكون النزول إلا من أعلى فهو العلي المتعالي الأعلى استوى فوق عرشه جل وعلا بلا كيف نعلمه كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه أي عن الكيف بدعة
والنزول في الثلث الأخير من كل ليلة وفي يوم عرفة وليلة النصف إلى السماء الدنيا وكلاهما ينكره الجهمية
ومن ألفاظ الحديث قوله صلى الله عليه و سلم ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيبسط يديه فيقول
من ذا الذي يدعوني فأستجيب له
ومن ذا الذي يسألني فأعطيه
ومن ذا الذي يستغفرني فأغفر له
في رواية فيقول
هل من سائل يعطى
هل من داع يستجاب له
هل من مستغفر يغفر له
هل من تائب
فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر وينصرف القارىء من صلاة الصبح
قال الزهري فلذلك كانوا يفضلون آخر صلاة الليل
وقوله روى ذاك قوم لا يرد حديثهم البيت فيه إشارة إلى أن الحديث إذا ثبت فهو حجة بنفسه يجب العمل به بمفرده دون انصمام شيء من القرآن إليه إذ قد قال الله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله النساء 80 (1/34)
ولذلك تفصيل في رسالتي الألباني حفظه الله في منزلة السنة والحديث حجة بنفسه
مسألة القدر ... وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح ...
أخر ابن أبي داود رحمهما الله تعالى هذا البيت بعد فضائل السلف الصالح وحقه التقديم ليتصل بمسائل الأسماء والصفات
وقد صنف أهل الحديث في القدر مجموعا في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ومفردا لأبي داود والفريابي وغيرهما
وقوله دعامة عقد الدين فيه إشارة إلى حديثين
الأول قوله صلى الله عليه و سلم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر
والثاني ما روي عنه صلى الله عليه و سلم الإيمان بالقدر نظام التوحيد
وكلاهما مخرج في القدر عندي
وقوله والدين أفيح أي واسع كثير الشعب والإيمان بالقدر منه في رأس هذه الشعب (1/35)
الباب الثالث
الأسماء والأحكام
الإيمان (1/37)
1 - الإيمان وفرق المسلمين فيه ... 33 ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ...
... 34 ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ...
... 35 ولاتك مرجيا لعوبا بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزح ...
... 36 وقل إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصبح ...
... 37 وينقص طورا بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمى وفي الوزن يرجح ...
بين أبن أبي داود رحمهما الله تعالى فرق المسلمين في الإيمان ولكل فرقة من البيان بيتان وسبق في أصول السنة قوله في أهل الرأي وقد قال إمامهم بالخروج والإرجاء
الأولى وهم الخوارج وهم متفقون على أصل تكفير المسلمين بفعل المعصية واختلفوا في تعريف هذه المعصية بين الكبائر والصغائر وغير ذلك وخرجوا على المسلمين يقتلونهم وهم شرار خلق الله كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومثلهم في ذلك مثل المعتزلة جعلوا الفاسق في المنزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر ويخلد في النار مع أنه لا يخلد في النار إلا كافر
الثانية وهم المرجئة الذين أرجئوا أخروا العمل عن الإيمان فقالوا الإيمان قول فقط وليس العمل صلاة أو صياما أو زكاة أو حجا من الإيمان واستباح المرء منهم أن يقول أنا مؤمن حقا وأنا مؤمن كامل الإيمان وإيماني كإيمان جبريل وذلك قول أهل الرأي وعليه اقتصر الطحاوي في عقيدته المشهورة وكفروا من يقول أنا مؤمن إن شاء الله (1/38)
ويخطىء من يقول مرجئة أهل السنة إذ ليس في أهل السنة مرجئة وإذا ثبتت صفة الإرجاء ارتفعت صفة السنة
الثالثة وهم أهل السنة وقولهم في الإيمان 1 قول وعمل ونية خلافا للمرجئة والجهمية 2 يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية 3 يستثنى فيه إن شاء الله إذ لا يعلم العاقبة وما يؤول إليه حاله القبول فهل قبل الله منه وتجاوز عنه أولا وذلك مع نقص عمله وضعفه ولم يذكر ابن ابي داود رحمهما الله الاستثناء وذكر رجحان الوزن لتأكيد مسألة الزيادة والنقصان وهذا دليل قوي في ذلك
1 - اختلاف الوزن يؤكد زيادة ونقصان الإيمان 2 حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في رؤيا رآها أنه وزن بأمته فرجحها ثم وزن أبو بكر رضي الله عنه بالأمة ليس فيها نبي الله صلى الله عليه و سلم فرجحها الحديث
وللتكفير شروط وحدود وموانع عندهم
ويأتي مزيد بيان في الفرق ها هنا ولأهل الحديث تصانيف مجموعة في الإيمان أو مفردة لأبي عبيد وابن أبي شيبة وابن منده وابن تيمية رحمهم الله تعالى كلها منشورة
خروج قوم من النار ... وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
... على النهر في الفردوس تحيى بمائه ... كحبة حمل السيل إذا جاء يطفح ...
هذا يدل على رد قول الخوارج والمعتزلة من جهة أنه لا يخرج من النار ويدخل الجنة إلا من لم يكن كافرا ويرد على قول المرجئة والجهمية من جهة أنه لا يدخل النار فيعذب (1/39)
بذنوبه ثم يخرج إلا من كان من أهل الإيمان
فدل الخروج على نقض قول الخوارج والمعتزلة ودل الدخول على نقض قول المرجئة والجهمية
ويأتي بيان الحديث الذي أشار إليه في أحوال البرزخ والآخرة إن شاء الله تعالى
الشفاعة
30 - وقل
32 - وإن رسول الله للخلق شافع
والاحتجاج بالشفاعة على صحة مذهب أهل السنة في الإيمان واضح لقوله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ولو كانوا كفارا لم تخرجهم شفاعته من النار أبدا فقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48 و 116
وقال جل وعلا في الكفار وما هم بخارجين من النار البقرة 167
وقال نبي الله عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة المائدة 72
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (1/40)
الباب الرابع
فضائل الصحابة والسلف
الصالح (1/41)
1 - فضائل العشرة المبشرين بالجنة ... 15 وقل إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح ...
... 16 ورابعهم خير البرية بعدهم ... على حليف الخير بالخير منجح ...
... 17 وإنهم الرهط لا ريب فيهم ... على نجب الفردوس في الخلد تسرح ...
... 18 سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح ...
فيه مسائل
الأولى خير الناس محمد صلى الله عليه و سلم لقوله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر ولأدلة كثيرة ولا ينبغي لأحد أن يتسمى بسيد الناس أو خير الناس مطلقا غيره صلى الله عليه و سلم
الثانية خير الناس بعده صلى الله عليه و سلم الناس هنا ليس بمعنى بني آدم جميعهم إذ الأنبياء والرسل أفضل من الصحابة بالإجماع جماعة وفرادى وإنما هي بمعنى الأمة فيكون مطابقا لقوله صلى الله عليه و سلم خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث
ولا شك أن أمته صلى الله عليه و سلم خير الأمم لقوله جل وعلا كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية 110 من آل عمران
ولأدلة كثيرة من القرآن والسنة
فيكون الصحابة خير الناس بعد الأنبياء
الثالثة وزيراه قدما أي في التقديم للخير والفضل والوزيران أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
وتفضيل أبي بكر وعمر على الصحابة متواتر لم يخالف فيه إلا الروافض (1/42)
وأشباههم وروي مرفوعا خير أمتي بعدي أبو بكر وعمر رواه ابن عساكر من حديث على والزبير وإنما سقته لمناسبة اللفظ ها هنا
وتسميتهما بالوزيرين روي من حديث ابن عباس وأبي سعيد وأبي ذر وابن عمر وأبي أمامة وغيرهم بألفاظ منها
لكل نبي وزيران إن لي وزيرين وزيراي إن الله أيدني بوزيرين أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى وانظر الكنز 11 566
وتفضيلهما على الناس من المسلمين وغيرهم بعد الأنبياء والرسل صح به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين
الرابعة تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما هو السنة وهدي السلف الصالح ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه و سلم حي أبو بكر ثم عمر ثم عثمان
بل ثبت عن علي رضي الله عنه نفسه أنه قال خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث وفي رواية أنه قال عثمان
الخامسة إثبات فضل علي رضي الله عنه دون غلو الشيعة في المدح وغلو الخوارج في القدح فهو رضي الله عنه فيه مثل من نبي الله عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم مدحه قوم فجعلوه إلها مع الله وهم النصارى وذمه قوم فجعلوه فاسقا ينبغي صلبه وهم اليهود
قول ابن أبي داود رحمهما الله تعالى في علي ... ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح ...
وقوله في آخر قصيدته
هذا قولي فمن قال علي غير هذا فقد كذب يدحض ما نسبه إليه أعداؤه من بغض علي رضي الله عنه وحجتهم في ذلك (1/43)
رده حديث الطير الذي رواه الترمذي والحاكم وفيه أن عليا أحب الخلق إلى الله والحديث لا يصح السير 13 232 233 وقد ضعفه كثير من أهل العلم فكان ماذا ثم إنه لم يرده لقصة على بل لأمر غيره 2 قيل لابن جرير الطبري ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل على رضي الله عنه فقال ابن جرير تكبيرة من حارس قال الذهبي 13 230 السير لا يسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين
3 - ما رواه ابن عدي عن ابن منده محمد بن يحيى عنه في رواية باطلة في شأن علي رضي الله عنه بإسناد مجهول مرسل ولم يصح عن ابن أبي داود بل ادعاها قوم عليه فنجاه الله منها فدعا عليهم فاستجيب له فيهم السير 13 229
وقد رأيت
1 - قوله رحمه الله في قصيدته في فضل علي رضي الله عنه وفاطمة والحسن والحسين وقوله بعدهما
2 - وقال بغداد 9 468 والسير 13 229 كل الناس مني في حل إلا من رماني ببغض علي رضي الله عنه
3 - وروى في كتاب المصاحف له ص 30 من حديث علي أنه قال في شأن عثمان رضي الله عنهما وتحريق المصاحف يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرا وإنما عامة من يبغض عليا أبغض الله عز و جل من يبغضه بسبب أمرعثمان رضي الله عنهما
وكان يروي فضائل علي رضي الله عنه في مجالسه كما سبق بل كان يملي مجلسا خاصا في ذلك من حفظه أمالي الطوسي 2 217
السادسة قوله في فضائل العشرة وأسمائهم
سعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة عامر بن الجراح والزبير بن العوام (1/44)
وقوله على نجب الفردوس النجيبة من الإبل الدابة الحسنة وإنما أرواح المؤمنين والشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
2 - . - . . 19 وسبطي رسول الله وابني خديجة ... وفاطمة ذات النقا تبحبحوا ...
... 20 وعائشة أم المؤمنين وخالنا ... معاوية أكرم به ثم امنح ...
... وأنصاره والمهاجرون ديارهم ... بنصرتهم عن كية النار زحزحوا ...
فيه مسائل
19 - فضائل أولاده صلى الله عليه و سلم سبطاه الحسن والحسين وابناه من خديجة رضي الله عنها القاسم والطاهر وفاطمة رضي الله عنها بنقائها وتقواها فهؤلاء يتوسع في ذكر فضائلهم
ولم يذكر من أسباطه أمامة بنت زينب ومن أبنائه إبراهيم بن مارية ومن بناته زينب ورقية وأم كلثوم
وإنما خص بالذكر من خص للاختلاف بين فرق المسلمين فيهم الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم فالشيعة تغالي فيهم والخوارج وأشباههم مع غلاة أهل الشام يبالغون في الحط عليهم
20 - فضائل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وإنما خص منهن عائشة رضي الله عنها لما غالى الشيعة والمنافقون فيه من شأنها
وفضائل الصحابة الذي كانوا على علي رضي الله عنهم مع أهل الشام وخص منهم رأسهم معاوية وللشيعة والمعتزلة فيهم قول رديء وسمى معاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وفي هذه التسمية نظر (1/45)
21 - فضائل المهاجرين والأنصار وهي مما لا ينبغي أن يغفل عنه مسلم ففضل الهجرة إلى الله ورسوله عظيم وفضل نصرة الله ورسوله عظيم ولما انقطع الأمران من حياة المسلمين اليوم صاروا إلى ما صاروا إليه يتخطفهم الناس أذلة للكافرين أعزة على بعضهم فإلى الله المشتكى وقد جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم فانظر لنفسك مع ماذا تكون مع الإيمان أو النفاق
فإن لم تهاجر إلى الله ورسوله فانصر الله ورسوله وهل بعد دينك الأمرين من شيء إن كنت تريد أن تزحزح عن النار
فضائل الصحابة جميعهم
رضي الله عنهم ... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
... 27 فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح أي للصحابة تمدح ...
... 25 أولئك قوم قد عفا الله عنهم ... فأحببهم فإنك تفرح ...
26 - قل الخير في ما كانوا عليه من خير فهم الأئمة خير الأمة فما كان من زلل فلا تطعن فربما لم يكن زللا أو كانت له سبق مغفرة من الله باجتهادهم أو بحسن أعمالهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكر الله فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا
فإذا بعض أهل النفاق والشقاق يقولون دعكم من آيات الصفات والاعتقاد إلى الجهاد ويستدلون بمثل ذلك الحديث وهل الإمساك إلا عن الشر فإذا ذكر الله فلا تذكروه وأنسوه أو فأمسكوا عن الكيف كما قال مالك رحمه الله الكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وكما قال الله تعالى في شأن الشيطان (1/46)
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون فمن قال على الله جل وعلا ما قاله الله على نفسه ورسوله صلى الله عليه و سلم عليه فهو الإيمان والإمساك عن الصحابة ليس عن ذكرهم بخير إنما عن ذكرهم بشر
ولولا خشية التطويل وأن هذا ليس بمحله لكان البسط أولى والله المستعان
28 - والآيات في فضائل الصحابة كثيرة جدا ساقها أهل الحديث في كتبهم المجموعة والمفردة منها لأحمد بن حنبل وغيره بل جعلوا من علوم الحديث علم الصحابة وأفردوهم عن بقية طبقات الأمة بأدلة الآيات والأحاديث والآثار بصفة العدالة المطلقة دون بحث ولا تنقير ولا شهادة أحد
واختار ابن أبي داود رحمهما الله تعالى من هذه الآيات في فضائلم آيات سورة الفتح هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود الآية وإنما اختار آيات سورة الفتح عن غيرها لكثرتها وكثرة ما فيها من فضائل الصحابة عامة والذين معه وخاصة الذين بايعوه بيعة الرضوان
25 - اخترت هذا البيت في هذا الموضع وأخرته إليه لأنه هو أولى به فقد ذكر في صدر البيت الأول وقل خير قول في الصحابة كلهم وهذا يناسبه البيت الثاني برمته وقال في عجز البيت الأول ولاتك طعانا تعيب وتجرح وهذا يناسبه ذلك البيت 25
فالقوم رضي الله عنهم بين فضل وعفو ومن أحبهم فرح بمحبتهم في الدنيا إذ اطمأن قبله إلى الدين واليقين وفرح بمحبتهم في الآخرة فإن المرء مع من أحب كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أولى بالحب في الله ولله منهم الذين صحبوه صلى الله عليه و سلم ونصروه واتبعوه (1/47)
ومن أولى بالبغض في الله ولله ممن يعاديهم ويسبهم ويبغضهم لنفاق وزندقة في قلبه فالحمد لله على الإسلام والسنة فإنك لا تجد قوما من أهل الفرق يحبون كل الصحابة كأهل السنة
وقوله قد عفا الله عنهم فأحببهم فيه أمران
الأول عفو الله عنهم وهذا ثابت بآيات وأحاديث منها لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه الآية 117 كم سورة التوبة وقبلها بآيات والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه 100
ومنها قوله صلى الله عليه و سلم في أهل بدر إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي أهل بيعة الرضوان لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة وفي العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم ممن بشرهم بالجنة كعبد الله بن سلام وعكاشة بن محصن وغيرهما
الثاني وجوب محبتهم إذ عفا الله عنهم فلا شيء يبغضون عليه فإن سيئاتهم قد عفا الله عنها
4 - فضائل التابعين لهم بإحسان رحمهم الله تعالى ... 22 ومن بعدهم فالتابعون لحسن مآخذ ... وأفعالهم قولا وفعلا فأفلحوا ...
... ومالك والثوري ثم أخوهم ... أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح ...
... 24 ومن بعدهم فالشافعي وأحمد ... إماما هدى من يتبع الحق ينصح ...
ثم ذكر رحمه الله طبقات أهل السنة بعد الصحابة التابعون الذين تبعوا الصحابة بإحسان أتباع التابعين مثل مالك والثوري والأوزاعي تبع الأتباع منهم الشافعي وأحمد (1/48)
وإنما خص هذه القرون الثلاثة بعد الصحابة لقوله صلى الله عليه و سلم خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وفي رواية ثم الذين يلونهم
وإنما خص هؤلاء من بين طبقاتهم لأنهم الأئمة عند أهل السنة خلافا لأئمة أهل الرأي وذكر بعد هذا أولئك قوم قد عفا الله عنهم وهذا بالصحابة أليق كما سبق وإن كان هؤلاء الأئمة قد شهد لهم أهل السنة جميعهم بالخير وهم شهداء الله في أرضه فوجبت لهم كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/49)
الباب الخامس
البرزخ
وأحوال الآخرة
القبر فتنته وعذابه
القيامة الشفاعة والحوض والميزان
النار خروج قوم من النار (1/51)
1 - فتنة القبر وعذابه ... ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ... وقل في عذاب القبر حق موضح 32 ...
هكذا ينبغي أن يكون صدر هذا البيت مع عجز ذاك ويكون صدر البيت الثاني مع عجز البيت الأول وهكذا ... وإن رسول الله للخلق شافع ... له الحوض والميزان إنك تنصح ...
له بدل ولا لتناسب وضعها الجديد
وفتنة القبر امتحان الملكين للميت بالمسائل الثلاثة من ربك وما دينك ومن نبيك وعذابه لا يخلو منها كتاب في السنة وقد أفرد لها البيهقي كتابا في عذاب القبر وقد أنكرهما بعض فرق المسلمين والأحاديث بذلك متواترة
فأما الفتنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا وضع البعد في قبره وتولوا عنه أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيقعدانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ما تقول في هذا الرجل محمد فأما المؤمن فيقول ما كان يقول الله ربي والإسلام ديني أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقولان له إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ويفسح له في قبره وينور له فيه وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري قد كنت أقول ما يقوله الناس فيقال له لا دريت ولا تليت ثم يضرب ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها خلق الله كلهم إلا الثقلين الإنس والجن فيلتئم عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك الحديث
وقد اختلف أهل العلم في صحة الحديث الوارد في اسمي الملكين حتى قال بعضهم لا يثبت والتحقيق ثبوته من طرق في صحيح ابن حبان والسنة لابن أبي عاصم والشريعة (1/52)
للآجري وغيرها وإليه ذهب ابن أبي داود رحمهما الله تعالى كما ترى في هذا الحديث الصدر وفي كتابه البعث الذي ساق فيه هذا الحديث وغيره
وأما عذاب القبر فهو حق موضح ليس فيه لبس وبه آيات وأحاديث وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصلي صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ويقول إن هذه ستبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر فتعوذوا بالله من عذاب القبر
وقد صنف ابن أبي داود رحمهما الله كتاب البعث وفيه أبواب عن عذاب القبر وفتنته
2 - القيامة
الشفاعة والحوض والميزان ... 32 وإن رسول الله للخلق شافع ... له ا لحوض والميزان إنك تنصح 29 ...
فأما الشفاعة العظمى للخلق جميعا المقام المحمود في تخفيف موقف القيامة حتى يلجأ الناس إلى آدم ومن بعده من أنبياء الله وكلهم يعتذر بنفسه وعمله حتى يكون لها رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم وثمة شفاعات أخرى شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وغير ذلك مما فصله ابن كثير في النهاية وأبواب الشفاعة في كتب السنة وقال رحمه الله ... 29 ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح ...
فقد كذب قوم من الجهمية والمعتزلة الحوض والميزان وقال أبو برزة من كذب بالحوض فلا سقاه الله منه وحوضه صلى الله عليه و سلم متسع كثير الآنية سبقنا إليه فهو فرطنا عليه يأتيه أقوام فيمنعون دونه لأنهم أحدثوا في الدين وابتدعوا فيه وهو غير الكوثر فذاك نهر في الجنة وذلك حوض قبلها وبما سبق من وصف الحوض تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/53)
وأما الميزان فقد ورد في القرآن والسنة كثيرا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين الأنبياء 47
وهو بيد الرحمن جل وعلا يرفع قوما ويخفض آخرين له كفتان يثقل فيه العمل الصالح والخلق الحسن ويرجح قول لا إله إلا الله كل الخطايا فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهيه نار حامية وقد صنف ابن أبي داود رحمهما الله كتاب البعث وفيه أحاديث الشفاعة والحوض والكوثر وفيه الحساب حساب العباد واختصامهم وحساب الحيوانات حتى يقتص لبعضها من بعض وقبل ذلك قيام الساعة والنفخ في الصور والحشر والختم على الأفواه حتى تتكلم الأيدي والأرجل وبعد ذلك من الصراط وأحواله
وهذا كله بالأحاديث ولم أجد له عليها كلاما لكن سياقته إياها يدل على اعتقاده بها شأن أهل السنة جميعا
3 - النار
خروج قوم من النار إلى الجنة ... وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
... 31 على النهر في الفردوس تحيى بمائه ... كحبة حمل السيل إذا جاء يطفح ...
وخروج قوم من النار إنماهم من المسلمين غير المشركين إذ المشرك لا يخرج من النار أبدا وما هم بخارجين من النار البقرة 167
ولا يدخل الجنة أبدا إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة المائدة 72
يخرجون من النار
1 - بشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم والصالحين من أمته وقد سبق بيانه 2 بفضل الله وبرحمته دون شفاعة من أحد (1/54)
والبيتان هما معنى ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وكذلك رواه ابن أبي داود في كتابه البعث من حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار جل وعلا بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا يعني احترقوا فيلقون على نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل يقال لهم الجهنميون فيدعون الله أن يذهب عنهم هذا الاسم فيسمون عتقاء الله الحديث
وقد كذبت بعض فرق المسلمين ذلك اعتمادا منهم على بدعتين
الأولى الاعتماد على القرآن وحده دون السنة ونصوص القرآن تذكر في الكفار أنهم لا يخرجون من النار وليس هؤلاء بكفار ثم إن السنة بينت حال من يدخلها من المسلمين
الثانية تكفير أهل المعاصي وأن من يدخل النار لا يخرج منها أبدا وأنه لا يدخلها إلا الكافرون وهذا الاعتقاد ضلال مبين
وهؤلاء هم الخوارج والمعتزلة
وأما المرجئة فهم كذلك ممن يكذب بذلك لأن المرء عندهم إيمانه كإيمان جبريل لا ينقص ولا تضر معه معصية فلا يدخل النار أبدا
ومن هنا فهم لماذا ذكر ابن أبي داود رحمهما الله تعالى هذا في قصيدته في السنة ردا على فرق المبتدعين (1/55)
الباب السادس
الفقه
ذم التقليد ومدح اتباع الحديث (1/57)
ذم الرأي وأهله
ومدح الحديث وأهله ... 38 ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ...
... 39 ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح ...
فالقوم في الفقه فريقان وكذلك هم في الاعتقاد أهل الحديث وأهل الرأي وأهل الحديث يقدمون سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأهل العلم على الرأي ولذلك تجد كتبهم في الفقه كلها أحاديث وآثار كالجامع للبخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرها
وأهل الرأي يقدمون الرأي على النص ويبتدعون قواعد وأصولا ما أنزل الله بها من سلطان وما عرفها السلف الصالح لرد النصوص الشرعية الثابتة منها التفرقة بين الآحاد والمتواتر ورواية الفقيه وغير الفقيه وغير ذلك وكتبهم في الفقه تطول بقولهم أرأيت أرأيت حتى يخلو كبيرها من السنن
وذلك حديث يطول وله ذيول وليس هذا المحل للتعليل والتفصيل وحسبك بالسنة وأتباعها في التفضيل
ذم الرأي ... 38 ودع عنك آراء الرجال وقولهم ...
مدح السنة ... 38 فقول رسول الله أزكى وأشرح (1/58)
ذم أهل الرأي ومدح أهل الحديث ... 39 ولاتك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح ...
وقد ذكر رحمه الله أئمة أهل الحديث بخير وسكت عن أئمة أهل الرأي وكذلك فليكن صنعك فبعد أن ذكر الصحابة والتابعين قال ... ومالك والثوري ثم أخوهم ... أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح ...
... 24 ومن بعدهم فالشافعي وأحمد ... إماما هدى من يتبع الحق ينصح ...
وإنما اقتصر على هؤلاء مع وجود أئمة في أهل الحديث غيرهم كالليث بن سعد وغيره لأن هؤلاء الأئمة المشهورون عند أهل الحديث بالفقه في بلادهم المدينة والعراق والشام ومصر
وسبق في أصول السنة قوله في أهل الرأي
واتباع السنة في الفقه هو تقديم النص على القياس بل قول الصحابي والتابعي في فهم النص أو في غيبتنا عن النص على قول غيره وهذا هو نهج أحمد رحمه الله والفقه والاعتقاد أمر واحد فمن قدم السنة في الاعتقاد فكيف لا يقدمها في الفقه وقال ابن أبي داود 2 39 الجامع للخطيب ... وقلت لصاحبي اهجره مليا ... فعن رسم ابن حنبل لا محيد ...
... إذا ما كان سلكك حنبليا ... فبورك نظم سلكك يا سعيد ...
أما التقليد فلا يفعله أحد من أهل السنة بل ولا عاقل من غيرهم وكذلك العصبية المذهبية العمياء إنما السبيل هو السنة ولا يرضى أحمد رحمه الله ولا غيره من (1/59)
أهل السنة التقليد بدون حجة فكيف بالتقليد المخالف للحجة
ولأحمد رحمه الله أقوال وروايات في مسائل الفقه تختلف باختلاف ما بلغه من العلم والاجتهاد والحجة في السنة ثم السلف الصالح ثم هذا الإمام الرباني وأقرانه وهكذا فلا يختلف عليك الميزان فتهلك فلا يرضى عنك ربك ولا من انتسبت إليه بنافعك بل ما هو براض عنك (1/60)
الباب السابع
الفرق
ذم الفرق جملة والأمر بهجرتهم
ذم كل فرقة (1/61)
ذم الفرق جملة والأمر بهجرتهم
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة ما أنا عليه وأصحابي
وهذا الحديث أصل كبير من أصول السنة بل هو أكبر أصولها مطلقا والدين النصيحة لله ورسوله وللمسلمين ومن أحب لله وأبغض لله فهو الإيمان ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها
وليست الفرق تاريخا انتهى بل ما تزال كل فرق المسلمين ولكن يتسمون بغير أسمائهم التي عرفهم عليها السلف الصالح
وقد بين ابن أبي داود رحمهما الله تعالى ما بين من عوار الفرق وذمها في قصيدته مع أنه ينبغي بيان أن الفرق تتوافق في أمور وتنفرد في أمور تشابهت قلوبهم
ذم أهل البدع والرأي والأهواء كلهم وفرق النار من المسلمين كلهم أهل بدع إذ الحق واحد لا يتعدد
البدع طريق الخسران والخيبة 1 ... وتك بدعيا لعلك تفلح ...
... 14 روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ...
مدح أهل السنة وتقبيح أهل البدع ... 23 ومالك والثوري ثم أخوهم ... أبو عمرو الأوزاعي ذاك المسبح ...
... 24 ومن بعدهم فالشافعي وأحمد ... إماما هدى من يتبع الحق ينصح (1/62)
أصل السنة نبذ الرأي ... 38 ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ...
وسبق في أصول السنة قوله في أهل الرأي
الطعن في أهل الحديث علامة أهل البدع ... 39 ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح ...
وقد ذم ابن أبي داود رحمهما الله جميع الفرق المبتدعة فقال فيما رواه الخطيب في الجامع 2 39 ... وقلت لصاحبي اهجره مليا ... فعن رسم ابن حنبل لا محيد ...
... إذا ما كان سلكك حنبليا ... فبورك نظم سلكك يا سعيد ...
هي سعادة ا لدنيا والآخرة أن يحيا المرء ويموت على السنة وهذا فيه
ذم للفرق المبتدعة كلها
الأمر بهجرتهم حتى يتوبوا
وقد قال ابن أبي داود رحمهما ا لله في أهل الرأي قولا صريحا ذكرته في أصول السنة ها هنا وأهل الرأي تعبير عن جماعة من الفرق
الجهمية
المعتزلة
المرجئة
الخوارج (1/63)
ذم الجهمية والمعتزلة ومن مال
إلى بعض قولهم من الأشاعرة وغيرهم
ذم قولهم في القرآن ... 3 وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ...
يعني من قال بغير ذلك فهو غير تقي ... 4 ولاتك في القرآن بالوقف قائلا ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا ...
... 5 ولا تقل القرآن خلق قرانه ... فإن كلام الله باللفظ موضح ...
ذم تأويلهم للصفات ... 14 روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا ...
... 6 وقد يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح ...
... 7 وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح ...
... 10 وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح ...
... 11 وقل ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح
ذم القدرية الذين ينفون القدر عن الله ويثبتونه لأنفسهم ... 28 وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح (1/64)
ذم قولهم في الإيمان الذي وافقوا به الخوارج ... 32 وإن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح ...
... 33 ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ...
... 34 وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
ذم قولهم في الصحابة الذين وافقوا به الشيعة ... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
ذم قولهم في أحوال الآخرة ... 29 ولا تنكرن جهلا نكيرا ومنكرا ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح ...
... 30 وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
... 32 وإن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح ...
ذم الخوارج في مقالتهم في الإيمان ... 30 وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادا من الفحم تطرح ...
... 32 وإن رسول الله للخلق شافع ... وقل في عذاب القبر حق موضح ...
... 33 ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح (1/65)
34 - ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ...
ذم مقالتهم في علي رضي الله عنه والصحابة ... 16 ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح ...
... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
ذم الناصبة
الذين يبغضون أهل البيت ومن تبعهم من الصحابة وغيرهم ... 16 ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح ...
... 19 وسبطي رسول الله وابني خديجة ... وفاطمة ذات النقا تبحبحوا ...
... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
ذم الشيعة ... 15 وقل إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح ...
... 16 ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح ...
... 18 سعيد ومسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح (1/66)
20 - وعائشة أم المؤمنين وخالنا ... معاوية أكرم به ثم امنح ...
... 26 وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولاتك طعانا تعيب وتجرح ...
ذم المرجئة ... 35 ولاتك مرجيا لعوبا بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزح (1/67)
نصيحة جامعة نافعة وهي إجماع أهل السنة ... 40 إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح ...
قال ابن بطة وابن شاهين وابن شاذان قال لنا أبو بكر ابن أبي داود رحمه الله هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل رحمه الله وقول من أدركنا من أهل العلم وقول من لم ندرك ممن بلغنا قوله عنه فمن قال علي غير هذا فقد كذب
وقال ابن أبي داود رحمهما الله في إجماع أهل السنة على الوقيعة في أهل الرأي وسبق نص قوله في أصول السنة ها هنا
والحمد لله على الإسلام والسنة (1/68)